صورةالمقاومة في الرواية الفلسطينية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

"- غادرتُ إلى دول البترول منذ خمس سنوات، بعد الاحتلال بثلاثة أشهر، كنّا نسكن طولكرم، ومات الوالد فانتقلت أمي إلى نابلس :

  • ـ ولماذا انتقلت أمّك إلى شخيم؟
    • ـ تُعجبها نابلس.
  • ـ ولماذا تعجبها شخيم؟
    • ـ نابلس تعجبها لأنها مليئة بالأقارب.
  • ـ ولماذا عدتَ من دول البترول إلى شخيم؟
    • ـ عدت إلى نابلس لأن الوالد مات"(1)

_______________________________________________________________________________________

ينتمي هذا الحوار إلى رواية "الصبار" للروائية الفلسطينية سحر خليفة، وهو يدور بين شخصيتي العربي والصهيوني، وقد صدّرته الدراسةُ لأنه يجسد إلى حد كبير رؤيتين متناقضتين تماماً لجوهر الصراع العربي الصهيوني، إذ يَبرز على مستوى المفردة اللغوية التي يحاول الطرف القامع للأحلام فرضها على الطرف الأعزل إلا من الإيمان بعروبة الأرض الفلسطينية الأسيرة، وهذا التقابل بين المفردتين (نابلس وشخيم) هو في حقيقته مواجهة ضارية يجهد الصهاينة خلالها من أجل فرض أمر واقع على العرب، ويسعون إلى جعلنا جميعاً نتحدث بالعبرية الفصحى.


يقف الطرفان المتقابلان على مسرح التاريخ المعاصر: طرفٌ يبتكر عاماً بعد عام أساليب مختلفة من الإبادة والقمع والتهجير، وطرفٌ يبدع أشكالاً نضالية توازي بل تتفوق أحياناً على تلك الأساليب.


لقد قدم التاريخ العربي المعاصر أنصع الأمثلة التي تجسد روح المقاومة لدى الشعب العربي في مواجهة الهجمة الاستعمارية الشرسة التي حاصرت طموحاته. وقد أثبت الشعب العربي الفلسطيني على مدى صراعه الطويل والمرير مع الصهاينة ومناصريهم وعملائهم أن إرادة المقاومة قادرة على افتراع أشكال جديدة تناسب مرحلة المواجهة وشكلها ومكانها.


  • * * *
لقد تجسدت أشكال المقاومة كافة في الأدب العربي الفلسطيني، فصورت الرواية مختلف تلك الأشكال النضالية، وهنا نشير إلى أن سلاح الذاكرة كان وسيبقى من أهم الأسلحة التي تستطيع الشعوب المقهورة إشهارها في وجه المغتصبين، ويخيل إلي أن ترسيخ الذاكرة العربية في فلسطين هو أحد الواجبات التي تلقى على كاهل المثقفين في مقبل الأيام، لأن العدو الصهيوني يخاف الذاكرة أكثر مما يخاف الجنود، وهو إذا استطاع من خلال تحالفاته أن يخلق وضعاً على الأرض فإنه ينبغي ألا يخلق وضعاً مشابهاً في الضمير، وهو حين يتخلى عن مساحة من الأرض يحاول أن نتخلى عن ميثاقنا الوطني وثقافتنا وتربيتنا، ومن هنا حملت الرواية الفلسطينية المقاوِمةُ الذاكرةَ الوطنيةَ بين سطورها، ورسخت نموذج الشخصية المناضلة، وأعطت اللغة بعدها الاجتماعي الوطني من خلال الأغاني والأمثال الشعبية وغيرها، وثمة أمر جدير بالملاحظة وهو حضور المكان في عناوين الروايات الفلسطينية بشكل كثيف، إذ إن المرء يستطيع أن يطالع أسماء مدنٍ وقرى، ويستطيع أن يجد محددات مكانية كالشوارع والحارات والغرف والسفن والأرض... الخ، وتمكين الإشارة هنا إلى العناوين التالية: (عائد إلى حيفا) و(الطريق إلى بير زيت) و(باريس) و(الغرف الأخرى) و(حارة النصارى) و(السفينة) و(شارع الغاردنز) و(الشوارع) و(الأرض الحرام)... الخ مما يرسخ دعوة إلى الالتزام بالمكان الذي يشكل إيقاعاً مميزاً في الرواية الفلسطينية.


كما يمكن أن نلاحظ اهتمام الفضاء الروائي الفلسطيني باستعادة صورة الوطن، فالتجربة الفلسطينية في النفي، بما تعنيه من تهجير شعب، وقيام دولة مستعمرة استيطانية على بقايا أشلائه، فريدةٌ في التاريخ الحديث الذي عرف أنواعاً مختلفةً من الاستعمار،وتبعاً لهذا التفرد في الوضع الفلسطيني قام الخطاب الروائي الفلسطيني برمته على الإحساس المؤلم بالفضاء ونهض مفهوم الفضاء على أساس التناقض بين ماكان، وما هو كائن: بين حلم الوطن وحقيقة المنفى، وإذا كان بعض الروائيين وما ينسجونه من شخصيات روائية يعللون حبهم للأرض بالمعايشة، فإن بعضهم الآخر يقاوم بالذاكرة المتوارثة، كما نرى عند الراوي في رواية (وقت) لجمال ناجي إذ يحبّ جغرافية فلسطين: مدناً وقرىً وبيوتاً، دون أن يعرف طبيعة هذا الحبّ، فيبدو مربوطاً إلى تلك الذكريات الجغرافية غير المعيشة بحبل سري متين:

________________________________________________________________

"لا أعرف تلك القرية التي يتحدث أبي عنها، ولا ذلك البيت المحاط بأشجار البرتقال والليمون، أعرف برتقال الصناديق والبسطات، لكنني لم أرَ حبّة برتقال تتدلّى من غصن شجرة (كحبّة ندى) مثلما قال أبي! ولكن لماذا أحببتُ تلك القرية؟ لماذا تحوّلت إلى أمنية غالية؟»(2) [i]

________________________________________________________________

إنه حنين للمنزل الأول الذي لم يعش في ذاكرة الفلسطينيين الذين ولدوا لاجئين إلا من خلال أحاديث الآخرين، إذ إنّ الذين رأوا فلسطين وعايشوها لم يستطيعوا أن يخرجوها منهم، فكانوا كالسلحفاة التي تحمل بيتها معها أينما تسير، ولكن بيتها لم يكن جدراناً، وسقوفاً، بل كان أحلاماً وشعراً وأحاديث.


إنّ البيت الفلسطيني الذي اختزنته ذاكرة الأدب يبدو مثل عشّ من أعشاش باشلار، إذ إنه (المأوى الطبيعي لوظيفة السكنى. إننا لا نعود إليه فقط، بل نحلم بالعودة إليه"(3) .ولكن البيت الفلسطيني المستلب، إلاّ من ذاكرة الفلسطينيين، هو في حقيقته الصورية كالعش تماماً (هشٌّ ولكنه يدفعنا إلى أحلام يقظة الأمان)(4) .
  • * * *


ويلجأ الروائي العربي الفلسطيني إلى نوع من تحصين الذات من خلال ترسيخ نموذج الفلسطيني في مواجهته مع العدو، ومع العاجز والمتواطئ، ويرصد شخصيته السياسية والاجتماعية في برهة النضال والاستناد إلى مرتكزات الانتصار القادم، ولعل نموذجَيْ المناضل والأم أن يكونا أكثر نماذج الشخصيات الروائية الفلسطينية تعبيراً عن إرادة المقاومة، ويعدّ هذا النموذج أكثر نماذج الشخصية جاذبيةً، وتنال هذه الشخصية عادةً إعجاب الشخصيات الأخرى لصفة النّضال التي تختصُّ بها. وقد درس حسن بحراوي شخصية المناضل في الرواية المغربية ضمن نموذج الشخصية الجاذبة(5). ولا يعود سبب انجذاب الشخصيات الأخرى لشخصية المناضل إلى صفات جسدية فيه، ولكنه يعود بشكل جوهري إلى أفعاله. فالصفات الجسدية له تأتي سريعةً، ويبدو فيها نمطياً فهو قوي البنية. أو طويلٌ أو مشرق الوجه، أو حادّ النظر، في عينيه تصميم لا يُحدُّ، حتى وإن أتى الوصف من حبيبة المناضل ذاتها. لذلك فليس غريباً أن فاديا لا ترى في حبيبها عامر في رواية (الأرض المغتصبة) لمحمود شاهين شخصاً جميلاً أو جذاباً، ولكنها تحب صفاته النضالية التي تغني عن كل شيء، بل تشعر بالدونية لأنها لا تمتلك مثل هذه الصفات:

___________________________________________________________________

"يؤسفني أن أكون متخلفةً عنك إلى هذا الحدّ‍ أعدك أنني سألحق بك يوماً. وأقتنع بما تقتنع به فأنت أستاذي وحبيبي ولا تزال كذلك. وإن كنت لا أفهمك الآن سأفهمك غداً حتماً»(6).

__________________________________________________________________

أما شخصية الأم فتكاد تكون متشابهة تماماً في جميع الروايات الفلسطينية، إذ إن بناء هذه الشخصية يعتمد أساساً على صفاتها المعنوية من حبّ للأبناء وإخلاصٍ للقضية الوطنية، ودعمٍ لأشكال النضال، ومباركةٍ لخطوات الأبناء الذين يسلكون طريق الآباء، بكل ما تعني من الشرف والفداء.


غير أن غسان كنفاني أضاف إلى شخصية الأم كثيراً، إذ حولها في (أم سعد) من أم تضحي بابنها من أجل فسطين، إلى أم تحقق ذاتها من خلال هذه التضحية، وهذا الأمر هو الذي دفع رفيقة البحوري إلى إعطاء سمة الملحمية لأم سعد، إذ قالت:


"إن الشخصية الملحمية تنشأ من توازن التأثير المتبادل بين الجزء والكلّ، وليس من التفكير في الذات المنعزلة (...) إن صورة أم سعد تختلف جوهرياً عن صورة الأم المتألمة التي تضحي بابنها، لأن نضال سعد ليس تضحيةً، بل تحقيقاً لذاتها"(7).
  • * * *
كما خاضت لغة الرواية معركة النضال الوطني والقومي من خلال بعدها الاجتماعي، وقد تجلى ذلك من خلال الأغنية الشعبية والمثل وغير ذلك من الحكي الشعبي الذي يمجد أشكال المقاومة ضد الاحتلال، فالأغنية الشعبية تبدو جزءاً من نسيج الرواية، وكذلك الأمثال والحكايات التي تعبّر عن وجدان الشعب و تطلعاته إلى العدل و الاستقرار، كما نلحظ اللهجة العامية في كثير من الحوارات التي تجري بين الشخصيات، وفي الأساطير و الخرافات الشائعة المعبّرة عن المنظومة الفكرية للمجتمع الفلسطيني .


وتبدو أغنيات السجن جزءاً مهمّاً من الأغنيات التي تصوّر المجتمع الفلسطيني في مواجهة القمع الإسرائيلي، فأم أمين في رواية (الأرض الحرام)لمحمود شاهين، تردد أغنية تقول :


ياريت السجن ينهد على أصحابه

لأنه على الغالي سكّر بوابه

يا ريت السجن ينهد على السجّان

لأنه سكر بوابه على الخلاّن»(8)


وإذا خرج السجين من السجن كان ذلك مدعاة لفرح يعمّ المجتمع الفلسطيني الصغير : الأسرة وأهل الحارة والأصدقاء، فحين يخرج محمود من السجن، في رواية (العشاق) لرشاد أبو شاور يستمع لغناء بنات الحارة السعيدات بالإفراج عنه:


« وأصغى محمود للنقر و الغناء

ليلة أنيسة و القمر بيلالي

شرفت الديرة يا محمود يا غالي »(9).

  • * * *
وفي إطار الأدب المقاوم رصد الروائيون الفلسطينيون صور القمع المختلفة التي تعرض لها الفلسطينيون من سجن وتعذيب، إلى اعتقال وتشريد، وهدمِ منازل، إلى آخر ما يحفل به القاموس الإسرائيلي من مفردات القمع.
وتمكن الإشارة إلى موضوع استقبال العائدين إلى فلسطين من قبل قوات الاحتلال بوصفه موضوعاً متكرّراً، إذ يكون التعذيب الجسدي والإذلال النفسي الذي لا حدود لهما. ولعل تعذيب المرأة يبدو أشدّ قسوة من تعذيب الرجل، خاصة حين يأخذ القمع منحىً ذا طابع جنسيّ. وثمة روائيتان تعرضان الصورة نفسها: امرأة فلسطينية عائدة إلى الأرض المحتلة، في مواجهة قوات الاحتلال التي ترحّب بالعائدين على طريقتها.
في رواية (الصّبار)لسحر خليفة تعرّي المجنداتُ النساء الفلسطينيات وتذلهنّ، ويمكن أن نقرأ ذلك في السياق التالي:
«وارتفع صوت الصراخ ثانيةً، وبدأت الفتاة تشهق والجندية الإسرائيلية تصيح:
افتخ رجليك، افتخ رجليك، لازم أشوف جوّة، افتخ رجليك»(10).
وفي رواية محمود شاهين (الأرض المغتصبة ـ عودة العاشق ) تواجه أم عائد الموقف ذاته خلال عودتها من الأردن إلى قرية المنطار التي تقع شرقي القدس.
  • ـ يلّه اشلحي!
  • ـ أشلح؟
  • ـ اشلح كلّه لا تخلّي شي يلّه!(....)

تشرع المجنّدة في تفتيش الملابس بشكل دقيق. تنتهي، تشير إلى أم عائد أن تدنو منها وتفتح رجليها:

  • ـ يلّه (.....) إيش مخبيّة هون؟(11) .
  • * * *
وقد رافقت الرواية العربية عامة، والفلسطينية بشكل خاص تطورات القضية الفلسطينية بدءاً من التنبيه على خطر الهجرة الجماعية اليهودية إلى فلسطين ووصولاً إلى خطر الاستلاب الذي تتعرض له فلسطين وعروبتها على يد تجار السياسة، واشتغل هذا الأدب شعراً ونثراً على ترسيخ دور المقاومة ، وهنا أشير إلى بعض أشكال المقاومة التي كانت الانتفاضة الشعبية التي شهدتها الأرض المحتلة ذروة من ذراها الخالدة، مشيراً إلى كيفية تقديمها في الرواية الفلسطينية.


إذ يستطيع المرء أن يشهد في هذه الرواية مظاهر المقاومة المختلفة، وتمكن الإشارة هنا إلى وجود عدد من الروايات التسجيلية التي حفلت برصد رد الفعل الشعبي على الهجرة اليهودية. فقد نشر كامل عاشور في نهاية السبعينيات رواية بعنوان (من جانبي الطريق) أشار فيها إلى هذا النموذج الذي يتجلى في شخصية ساراي التي أغوت درويش حمزة لتنشر بذور الفساد في أرض المقدسات:

______________________________________________

"وجاء الخادم يستأذن سيده في الخروج فأذنه، وانصرف وأصبح البيت خالياً إلا من درويش حمزة والصبية اليهودية ساراي حاييم التي كانت قد وفدت من المغرب، وجاءت إلى هذه البلاد لا لتكسب لقمة العيش بالكدّ والعرق كما تزعم ويزعم قومها، وإنما لتنشر بذور الفساد، والخطيئة في أرض المقدسات والسلام"(12).

_____________________________________________

غير أن الذي يؤخذ على هذا المقتبس، وعلى الرواية برمتها، هو تلك الوعظية التي يتدخل بها الروائي ليدلي برأيه دون أن يتيح للشخصيات صياغة رؤيتها بحرية.
كما تناولت الرواية الفلسطينية وعد بلفور المشؤوم ، وانخراط الشعب العربي الفلسطيني بالنضال الوطني في ثوراته المتلاحقة، التي بلغت ذروتها قبل النكبة في الثورة الفلسطينية الكبرى التي امتدت بين عامَيْ ( 1936_ 1939 ) ، ويمكن أن نمثل لذلك برواية (خبز وبارود) لعبد الله الدنان التي ترصد في أحد سياقاتها جانباً من الإضراب الكبير الذي شهدته فلسطين عام 1936:
  • «بدت صفد في أول يوم للإضراب، وكأنّها مهجورة، الدكاكين مغلقة، والطرقات خالية تماماً من المارّة ، وقد اشتد عنف الريح في ذلك اليوم»(13).
وعلى الرغم من أن الدنان لا يفيد من الإمكانيات المحتملة لترتيب الحدث، تقديماً وتأخيراً، ولا يبني شخصياته من الداخل، فإنه يبقى داخل الإطار الفكري الفلسطيني العام حين يرصد تاريخ هذه الثورة الكبرى.
كما رصدت الرواية الفلسطينية الانهيارات والتداعيات التي شهدتها القضية الفلسطينية قبل الخروج الكبير، ويمكن هنا أن نشير بشكل خاص إلى رواية يوسف جاد الحق "قبل الرحيل" (14)التي قدمت كثيراً من تفاصيل الفعل المقاوم وصورت محاولة الفلسطينيين وإخوتهم العرب إيقاف المأساة ، وإسقِاط المؤامرة ، على الرغم من قلة السلاح وقلة الأموال، وافتقاد القيادة القادرة على الإفادة من أشكال النضال الشعبي و استثمارها ، فكثيراً ما كانت الجنازات تتحول إلى مظاهرات تندد بالإنكليز وتطالب بالاستقلال وسقوط وعد بلفور ، وقد تعرّضت الرواية الآنفة الذكر إلى فعاليات النضال اليومي ضد المستعمرين :( الثوار يهاجمون محطة رخبوت القريبة من المستعمَرة /تدمير عدد من الأكواخ في مستعمرة "غان يبنا" بُعَيْدَ البدء ببنائها في محاولة لمنع إتمام هذا البناء /منع التعامل التجاري مع اليهود ومهاجمة القوافل التجارية التي تتعامل معهم /قتل العملاء الذين يشترون الأرض من الفلسطينيين ويبيعونها لليهود /بيع حلي النساء لشراء الأسلحة والذخيرة / حفر الخنادق ، وإقامة المتاريس ونقاط المراقبة ، والقيام بنوبات الحراسة / قيام المعلمين بتثقيف الطلاب ثقافة وطنية وقومية…إلخ .


كذلك فقد رافقت الرواية الفلسطينية النكبة الكبرى التي حاقت بالأمة العربية عام 1948 وراحت تشير إلى خيمة التدريب والمقاومة، في مواجهة خيمة الذل والتشرد خاصة بعد أن صرّحت "أم سعد" ببيانها الشهير: خيمة عن خيمة تفرق، إذ راحت الرواية على يد الكاتب الشهيد غسان كنفاني تصور أشكال المقاومة، حتى إن توفيق فياض قدّم في رواية (المجموعة 778)(15) مثالاً جيداً للفعاليات النضالية التي وسمت تلك المرحلة وبلورت الوعي الثوري لدى البطل فوزي النمر ورفاقه: إن البطل، على الرغم من أنه يشكل مع رفاقه مجموعة فدائية من شباب عكا، لا يتمتع بأي وعي ثوري، وقد أتيح له أن يتطور على مدى الرواية إثر فشل أول عملية فدائية، وانتقل إلى مرحلة الوعي الذي يقوده إلى الفعل الثوري، وتشكيل مجموعة فدائية قامت بأول عمل مسلح ناجح داخل الأراضي المحتلة.


وقد لجأ الروائيون إلى تناول المفاصل المهمة في النضال الوطني والتعرض لكل فصل من فصولها، وتمكن الإشارة إلى رواية (حبيبتي ميليشيا)، التي ترصد تطورات القضية الفلسطينية من الخامس من حزيران عام 1967 ، حتى أيلول الأسود عام 1970 ، حيث المجازر التي ارتُكبت ضدّ الفلسطينيين في الأردن، دون أن تنسى الفعل النضالي الذي أنتجته المقاومة في معركة الكرامة: وها هو ذا الروائي يقيم حواراً بين دهرية وعزّ الدين، ينقل فيه خبر «النَّصر العظيم»:

_____________________________________

  • ـ ما هذه الفرحة يا عزّ الدين؟
  • ابتسم . رسم في الهواء علامة النصر.
  • ـ نصر عظيم.
  • تمطّت.
  • ـ على السويس؟
  • ـ غرب النهر . إنهم الثوّار الفلسطينيون»(16).

________________________________________

كما خاضت الرواية الفلسطينية، بكل ما تعنيه كلمة الخوض، تفاصيل الحرب الأهلية في لبنان، وصورت التصدي للاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ، كما في رواية (نشيد الحياة)(17) ليحيى يخلف الذي يجسد هذه الحرب تجسيداً حيّاً غنياً بالتفاصيل.
  • ** *
لقد أرادت هذه المقدمات الطويلة أن تشير إلى أن الانتفاضة الفلسطينية لم تكن شكل المقاومة الوحيد الذي خاضه العرب الفلسطينيون ضد الاحتلال، غير أنها قد كانت ذروة من ذرى النضال الوطني ومثالاً يحاذى في التدليل على قدرة الشعوب الحية على إبداع أشكال نضالية عصية على القمع والإجهاض، مهما بلغت آلة حقد المحتل من التطور.


وقد تابعت الرواية الفلسطينية تلك الانتفاضة الباسلة التي اندلعت في الأراضي المحتلة منذ أواخر عام 1987 ، وقدّمت من خلال روايات عديدة تفاصيلها من خلال زوايا نظر مختلفة، ترصد بعضها الحركة الجماهيرية بين مختلف فئات الشعب، فيما يكتفي بعضها الآخر بطرح أبطالٍ ذوي تصنيف معين (مثقفين ـ نخبويين) وفقاً لموقفهم الإيديولوجي. ولعلّ أهم روايتين كُتبتا حتى كتابة هذه السطور عن الانتفاضة الفلسطينية هما روايتا (باب الساحة)(18). لسحر خليفة، و (وجوه في الماء الساخن)(19) لعبد الله تايه، وتكمن أهمية هاتين الروايتين في أنهما تمتلكان لغةً تلامس الحدث ملامسةً فنيّة، ولا تقتصران على قول ما هو محضُ تاريخيٍّ، فقد مارست سحر خليفة الواقعية الفنية في رسم صورة الانتفاضة، وهذا يبدو من خلال حواريتها التالية التي تواجه فيها الإيديولوجيةُ الشعبيةُ البسيطةُ الإيديولوجيةَ الوطنيةَ المثقفة:

___________________________________________ «صاحت سمر ضاحكة:

  • ـ لأ، وين ناوية تهربي، استنّي، جاوبي هذا: ما التغيرات التي طرأت على المرأة خلال الانتفاضة؟
    • فكّرت الست زكية لحظة وهمست:
  • ـ بدّك الحقّ؟
    • ـ ولا شيء غير الحقّ .
ـ بصراحة ما تغيّر عليها غير الهمّ، همها زاد، وقلبها انحرق، قولي الله يكون لها النسوان معين(...)
حَبَل وميلاد ونفاس ورضاعة وغسيل وقشّ ومسح وطبيخ ونفيخ ونكد الجوز وهم الولاد، وهمّ الشباب المشردين بين الصخر والوعر»(20).

________________________________________________

ويجدر التنويه هنا بأن سحر خليفة حين تقدم هذه الشخصيات النسائية تنطلق من مشروعها النسوي الواعي الذي تمكن متابعته في جميع رواياتها، حتى في رواية (باب الساحة) التي تتخذ من الانتفاضة موضوعاً يبدو رئيساً للوهلة الأولى، فإنّ هذا الموضوع ذاته يبدو بالتدقيق ثانوياً، إذ إنّ الانتفاضة مجرد خلفية لمناقشة وضع المرأة في ظلها. وقد تنبه فيصل دراج إلى هذا الأمر، ورأى فيها إضافة جديدة إلى رصيد سحر خليفة الذي يصور المرأة في أزماتها المختلفة، يقول دراج:


"قد تبدو رواية (باب الساحة) للوهلة الأولى نصّاً عن الانتفاضة، وقراءة الرواية تقول بشيء آخر، فهي نصّ عن وضع المرأة في الوعي المنتفض، فقد كتبت سحر عن قهر المرأة في لحظات زمنية مختلفة، ورأت في الانتفاضة لحظة زمنية جديدة، وعاينت فيها وضع المرأة من جديد"(21).


أما رواية (وجوه في الماء الساخن) لعبد الله تايه فقد تناولت الظروف التي مهدت للانتفاضة، والمعاناة اليومية للعمال الذين أشعلوا أوارها، وانخرطوا مع جميع فئات الشعب في فعالياتها النضالية، وتمتاز هذه الرواية بمقدرتها على التأثيث، وملاحقة تفاصيل المكان، فالرواية تصف الحافلات التي تقلّ العمال، والسرد يدخل إلى المقهى ويلاحق النارجيلة، كما يصف الشوارع ويوميات الانتفاضة فيها:

__________________________

  • "يتساءل خميس الحداد:
  • - هذا دخان؟!
  • - حرق إطارات مطاطية.
أصوات طلقات آتية من جهة شارع عمر المختار.. تكتظّ حركة العربات الخارجة من الشارع يهرول المارة خارجين منه إلى حي الشجاعية والمحطة والمقبرة المواجهة لبريد غزة المركزي…"(22).

__________________________________

وتطرح هذه الرواية الصراع العربي الصهيوني على مستوى اللغة والثقافة والتقاليد، فيوم السبت "هو العطلة الأسبوعية لليهود، وعليه فهو يوم العطلة الإجباري للعمال العرب"(23) ،والمشكلة في عسقلان أنها "في وعي عزرا كوهين أشكلون وفي وعي أبو علي جاد الله عسقلان" (24)، ولا يستطيع الإسرائيلي أن يقيم سلامه مع العرب إلا إذا كانوا من جماعة أشكلون ، وثمة رؤية إسرائيلية للسلام تطرحها رواية صافي صافي (الحلم المسروق) وهي رواية مشغولة بتفاصيل الانتفاضة من اعتقالات وإضرابات وغيرها ، ومشغولة كذلك بالسلام الذي يحاول الإسرائيليون فرضه على العرب:

"نقطة الانطلاق عندهم هي أن نعترف بـ (الطابو) الذي حصلوا عليه من الرب، السلام عندهم أن نكون سقائين وحطابين في خدمتهم، السلام معهم هو أن نقبل بالعيش تحت سيطرتهم دون إبداء أية ملاحظة تخدش حياء امرأة أو طفل أو محارب أو مستوطن صادر الأرض، أو حتى جندي قتل مئات الفلسطينيين والعرب…" (25) ومثل هذا الارتفاع لصوت الذهنية في الرواية يكاد يكون أمراً طبيعياً، في رواية معدّة للمواجهة، وإن كانت هذه الذهنية تصل في بعض الأحيان حداً يربك اللغة الروائية، كما يمكن أن نجد في رواية ( الطريق إلى بير زيت)(26) لإدمون شحادة ، إذ إنه يضمّنها جلسة مفاوضات بين بعض ممثلي اليمين الإسرائيلي، وبعض أنصار منظمة التحرير الفلسطينية، ليجعل من هذه الواقعية حجراً يخدش زجاج اللغة الروائية.

وقد ركزت بعض روايات الانتفاضة إلى حد كبير على تفاصيل القمع الصهيوني للشعب المنتفض وتفاصيل الفعل الانتفاضي، وتمكن الإشارة إلى رواية (صرخات) (27) لمحمد نصار التي تقدّم يوميات الانتفاضة بشكل فني لا يرقى باللغة كثيراً عن وظيفتها الإبلاغية، وإلى رواية (الخروج من القمقم) (28) التي يرصد فيها عمر حَمَّش سياسة القبضة الحديدية للمحتل الصهيوني، والتي تتجلى في أقسى تجلياتها في الإبعاد القسري عن الوطن، غير أن حمّش راح يرصد في المقابل الرد الشعبي الذي يواجه المحتل بالحجارة والمنشورات والمظاهرات وإشعال الإطارات المطاطية، مما يجعل القبضة الحديدية الإسرائيلية في قبضة الشعب، كما تمكن الإشارة إلى رواية "أنشودة فرح" لربحي الشويكي التي تقدّم أبشع صور القمع الإسرائيلي المتمثلة في ضرب الأطفال من قبل الجنود الخائفين الذين يجدون في ضرب هؤلاء مهرباً من جبنهم المخبوء، وهذا المقطع الحواري العامي يقدم إحدى صور القمع:

__________________________

  • -اجتكو حالات غيرها؟
  • - اجت ثلاث حالات ضرب..
  • - وكيف كانت حالاتهم؟..
  • - لو ما كانوش في حالة خطرة كان ما تحولوش للعلاج.
  • - (…)
  • -يبدو إني بعرفهمش…
  • -أولاد صغار.. ضربوهم في بيوتهم.. سمير وعدنان أولاد أبو زيدان" (29)

____________________________________

ولابد ونحن بصدد دراسة رواية الانتفاضة من الإشارة إلى تلك الروايات التي تناولت الوضع الجديد الذي فرضه تجار السياسة على فلسطين ، ونقصد بذلك تلك الروايات التي رصدت الفلسطينيين تحت الحكم الإداري الذاتي، وتمكن الإشارة هنا إلى أربع روايات صدرت بعد توقيع اتفاقيات أوسلو وهي:

_________________________________________

  • - "الميراث" لسحر خليفة.(30)
  • - "نهر يستحم في البحيرة" ليحيى يخلف.(31)
  • - "رأيت رام الله" لمريد البرغوثي.(32)
  • - "رائحة التمر حنة" لرشاد أبو شاور.(33)

__________________________________________

وإذا كانت هذه الروايات تتفاوت لغة وبناءً وتقنيات سردية فإنها تتفق في كونها تعبـّر عن الانكسار الذي صدع نفوس العائدين الذين انتظروا تلك العودة سنوات طويلة ثم اكتشفوا فجأة أن فلسطين قد غادرت فلسطينها، وأن الصدمة والفجيعة كانتا في واجهة المخيلة.


ففي رواية (الميراث) تقدم لنا سحر بطلتها زينب التي عاشت في الولايات المتحدة الأميركية، ثم تصل إلى فلسطين لرؤية والدها الذي ينتظر الموت، وإذ تصل تجد صراع الورثة على أشده: ورثة المال والهم والوطن، وتصطدم بحمّى المشاريع الفاشلة التي تنفذ في الأراضي المحررة المحتلة(!) وبحمّى الهزائم الفردية والجماعية التي يعانيها الفلسطينيون، فتتخذ قرارها: أن تترك الوِرثة السقيمة، وتعود إلى الولايات المتحدة، وفي عينيها دمعتان على وطن لا يجد من يرث أحزانه.


وفي رواية ( رأيت رام الله ) يطرح مريد البرغوثي قضية الاغتراب المزدوج الذي يعانيه الفلسطيني العائد: الاغتراب عن الأرض التي قضى حياته يحلم بالعودة إليها وعن الناس الذين يؤرخون لانتصار وهمي يمجد الأرض المحررة التي لا يستطيع أن يحررها من المستوطنات، والسماء المحررة التي يرفرف فيها العلم الإسرائيلي.


وفي رواية (نهر يستحم في البحيرة) ، ينتقد يحيى يخلف، على استحياء، المندفعين نحو السلام الإسرائيلي، ويؤكد من خلال لعبة زمنية ذكية استحالة التقاء الزمن الفلسطيني بالزمن الإسرائيلي في ظل الاشتراك في المكان.


أما رشاد أبو شاور فقد كان أكثر جرأة في انتقاد الواقع الجديد الذي سارع صانعوه إلى استثماره، فهو ينتقد الحالة التي آلت إليها المخيمات الفلسطينية، بعد أن قضم أرضَها ضباطُ الحكم الإداري الذاتي، وبنوا عليها أبنية حديثة دون أن يعبؤوا بدفء البيوت الطينية، مما يجعل ذلك العائد غريباً في وطنه.


إن الروايات الأربع السابقة تنتمي إلى الأدب المقاوم لأنها ترفض، أو تنتقد على الأقل، الوضع الجديد الناجم عن اتفاقيات أوسلو وما بعدها، ولأنها ترى أن هذه الاتفاقيات لم تنجح بإقناع الفلسطينيين العائدين بهذا الاستقلال الوهمي، ولم تمنحهم شعوراً بالكرامة الوطنية.
  • * * *
من هنا نجد أن الرواية الفلسطينية خاضت النضال الوطني والقومي على أكثر من مستوى، إذ حملت سلاح الذاكرة والحنين في وجه الأعداء، وركزت على النماذج الشخصية الجاذبة كالمناضل والأم، وفضحت قوى القمع الاستعماري الصهيوني، ورصدت تطورات القضية الفلسطينية، وصورت في ذروة من ذرى النضال الخالد المشرّف تفاصيلَ الانتفاضة الباسلة، ورافقت برهة الانكسار التي ضربت الذل والمسكنة على العائدين إلى فلسطين تحت الحراب الإسرائيلية، فكانت هذه الرواية جزءاً من الكتابة التي تستحق جدارة الانتماء إلى الأدب المقاوم.


الهوامش والإحالات:

(1) سحر خليفة : الصبّار ، دار ابن رشد، بيروت ، ط2، 1978 ،ص 14.

(2) جمال ناجي: وقت، دار ابن رشد، عمان، ط1، 1984 ، ص153.

(3) غاستون باشلار: جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1984 ، ص106.

(4) المرجع نفسه، ص109.

(5) حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ( الفضاء ـ الزمن ـ الشخصية )، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، ط1، 1990 ، ص ص 272-275.

(6) محمود شاهين: الأرض المغتصبة (عودة العاشق)، دار الشيخ للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، ط1، 1989 ، ص276.

(7) رفيقة البحوري: الأدب الروائي عند غسان كنفاني، ط1، دار التقدم، تونس، 1982 ، ص ص 91-92.

(8) محمود شاهين: الأرض الحرام، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، ص 301.

(9) رشاد أبو شاور: العشّاق، دائرة الإعلام والثقافة في م. ت. ف، ط1، 1977 ، ص 49.

(10)سحر خليفة: الصبار، ص 14.

(11) محمود شاهين: الأرض المغتصبة (عودة العاشق)، ص 311.

(12) كامل عاشور: من جانبي الطريق، مكتبة الثقافة العربية،ط1،1969 ، ص27.

(13) عبد الله الدّنان: خبز وبارود، دار القلم، الكويت، 1974 ، طـ1، ص 27.

(14) يوسف جاد الحق: قبل الرحيل، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،1997 .

(15) توفيق فياض: المجموعة 778، دار القدس ، بيروت، ط2.

(16) توفيق فياض: حبيبتي ميليشيا، المؤسسة العربي للدراسات والنشر، بيروت، ط2،1979 ، ص 23.

(17) يحيى يخلف: نشيد الحياة، دار الحقائق، [بيروت] ، ط1، 1985 .

(18) سحر خليفة: باب الساحة ، دار الآداب، بيروت ، طـ1 ، 1990 .

(19) عبد الله تايه: وجوه في الماء الساخن، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، القدس ـ غزة ، 1996 .

(20) سحر خليفة : باب الساحة، ص 20.

(21) د. فيصل دراج: دلالات العلاقة الروائية، دار كنعان، دمشق، ط1، 1992 ، ص250.

(22) عبد الله تايه: وجوه في الماء الساخن، ص146.

(23) المصدر نفسه، ص 148.

(24) نفسه، ص 148.

(25) صافي صافي: الحلم المسروق، دار الكاتب، القدس ، 1992 ، الفصل الرابع، ص2.

(26) إدمون شحادة: الطريق إلى بيرزيت، مؤسسة بيسان، نيقوسيا، طـ2، 1989 .

(27) محمد نصار: صرخات، مطبعة خيري أبو شرف غزة ، 1994 .

(28) عمر حمّش: الخروج من القمقم، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، القدس، ط1، 1992 .

(29) ربحي الشويكي: أنشودة الفرح،اتحاد الكتاب الفلسطينيين، القدس ، ط1، 1990 .

(30) سحر خليفة: الميراث، بيروت،1997 .

(31) يحيى يخلف: نهر يستحم في البحيرة، ، بيروت، 1997 .

(32) مريد البرغوثي: رأيت رام الله، بيروت، 1997 .

(33) رشاد أبو شاور: رائحة التمر حنة، بيروت، 1997 .

  • د. يوسف حطيني