عبد البديع صقر
إعداد:أ. نسيبة حسين
عبد البديع صقر... الداعية المهاجر
هو أحد المهاجرين على طريق الدعوة، الذين استفادوا من فترة إبعادهم عن مصر وكان إمامه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ومن هاجر إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" فصدق الله فصدقه الله.. استثمر فترة إبعاده ليكون دعوة متحركة في كل مكان مقتديًا بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان قرآنًا يمشي على الأرض.. فكان كالغيث أينما حل نفع.. نلقي على شخصيته الضوء ليقتدي به العلماء في كل مكانٍ يحلون به للعمل لدين الله والتغلب على الصعاب والعقبات.
هو أحد الدعاة الذين عاصروا الإمام حسن البنا وتعلموا منه الكثير علي مدار اثني عشر عامًا, فهو أحد أعضاء الهيئة التأسيسية للجماعة، وُلد بمصر عام 1915، وتُوفي عام 1407هـ، الموافق 1986م، عاش للإسلام، فعاش في قلوب الناس، وتجرد لله فأحبه الناس من أعماق قلوبهم حبًّا مجردًا عن الأغراض الدنيوية، عمل لله ولمصلحة المسلمين، وفي خدمة الدين الحنيف، فبارك الله عمله، وأتت أعماله الصالحة أُكلها ضعفين.. وما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.
إنه لهذا رجل عظيم؛ لأنه لا يشتري صفات العظمة، إنه يصد عنها لنفسه بيده، إنها تنبع من قوة شخصيته ومن عظمة إيمانه.
إنَّ الداعية "عبد البديع صقر" عَلَمٌ من أعلامِ الحركة الإسلامية المعاصرة، شاع ذكره في العالم العربي والإسلامي، وأحبه كل مَن عرفه؛ لصفائه، ونقائه، وصدقه، ووضوحه، وإخلاصه، وعمله وجهاده، وتضحيته.
وكانت آثاره واضحة جَلِيَّة في منطقة الخليج عامة، وفي قَطَر خاصةً منذ أنْ قدم إليها من مصر عام 1954م.
تعرفه على الإخوان
التحق ب الإخوان المسلمين عام 1936م, يصف التحاقه بالإخوان المسلمين فيقول:
- "لقد نشأتُ في قرية "بني عياض" مركز أبو كبير بالشرقية، وفي سنة 1935م حصلتُ على شهادة "البكالوريا"، ولم أجد وظيفةً، فاشتغلت عاملاً في أحدِ المحال التجارية.
كنا نشتري البُنَّ المطحون من محل الشيخ "سيد أحمد عبد الكريم"، ونشأتْ بيني وبينه مودةٌ خاصة؛ إذ كان كل منا يفرح بلقاءِ الآخر دون سببٍ ظاهر.
ذات يوم أعطاني رسالة "نحو النور"، وقال: اقرأها، وارجع إليَّ غدًا، فلمَّا رجعتُ إليه أمسكها بيدي، قال: هل تؤاخيني في الله؟ قلت: نعم، قال: إن كان أعجبك هذا، فاتصل بجماعة الإخوان المسلمين، ومقرهم بالقاهرة بعمارة الأوقاف، بميدان العتبة الخضراء، وعاد ينشغل بالزبائن".
تركتُ العمل بفاقوس، وذهبت بعد شهور أبحث عن عمل بالقاهرة، وكان ذلك في سنة 1936م، وانتهيت إلى ميدان العتبة، ووقعت عيني على اللافتة، وحين دخلت دار الإخوان المسلمين بميدان العتبة بالقاهرة سنة 1936م، وجدتُ الإمام "البنا" يخطب في الحاضرين قائلاً: "لقد نجح المستعمرون في تثبيت الفصل بين الدين والدنيا؛ وهو أمر إذا صحَّ في دينهم، فلا يصح في ديننا".
فلماذا يكون رجل الدين بعيدًا عن السياسة، ورجل السياسة بعيدًا عن الدين؟! ثم ما هي السياسة؟ أليست هي التعليم، والتربية، وتوزيع الأرزاق، وتوفير الأمن، والعدل للأمة في الداخل والخارج؟ وإذا كانت الوزارات تُمثل السياسة فقد نجد اختصاص ست وزارات داخلاً في قوله تعالي: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: من الآية90)..
فإن كانت السياسة هي ما تقدَّم فهي جزءٌ من دين الإسلام وإن كانت السياسة هي الحزبية وما تجره على الأمة من صراعٍ وتفرقةٍ فهي ليست من الإسلام في شيء لقوله تعالي {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (الأنعام: من الآية 159)..
ولأول مرةٍ وجدتُ جماعة لا يعبرون عن إعجابهم بالتصفيق وإنما يقولون جميعًا (الله أكبر ولله الحمد)، وانتهى الاجتماع وانصرف بعضُ الحاضرين وأُقيمت الصلاة وصليتُ معهم فأحسستُ أنَّ هذا الشيخ يقرأُ القرآن بطريقةٍ عجيبةٍ.. إنَّ الوقفاتِ التي يقفُ عليها تُعتبر تفسيرًا للقرآنِ الكريم أثناء التلاوةِ كقوله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} (الإنسان: من الآية 2) فتشعر أنَّ كلمة {نَبْتَلِيهِ} هي سر الوجود.
وبعد ذلك عُقدت جلسة خاصة للتعارف أدخلتُ نفسي فيها، فقد نسيتُ نفسي وعنوان منزل صديقي وأصبحتُ في القاهرة (ضائعًا تقريبًا) إنني قصير القامة وكنت خفيف الجسم قلما تقع عليَّ العين.. لكنَّ الشيخ أدار عينه في الجالسين, ثم قال: "يا أخ صالح خل الأخ الجديد الذي بجوارك يحضر ويجلس عندي" وفجاةً وجدتُ نفسي في صدر المجلسِ وكلفني بالتحدثِ إلى الإخوان وقصصتُ عليهم القصة وشعرت أنهم بلغ بهم التأثر..
وقال المرشد معقبًا "انظروا كيف يعيش الأخ بدعوته في تجارته ونومه ويقظته؟" ثم ضرب مثالاً بسيدنا يوسف الذي رافقته دعوته في السجن ثم أصبح خلاصًا لمصر كلها من الضلال والجوع.. ثم قال مَن يضيف هذا الأخ؟" فارتفعت أيدٍ كثيرة فقال: اذهب مع حسن صادق وإخوانه.. ذهبتُ مع ثلاثةٍ من الطلبة الجامعيين؛
ودخلنا بيتًا نظيفًا في المنيرة قدموا طعامًا فأكلنا ونمتُ نومًا متقطعًا بعد ساعةٍ لاحظتُ أحدهم قام في الليلِ فتوضأ وشرع يُصلي ثم عاد إلى فراشه, وقام غيره يُصلي وسمعته يبكي في الصلاةِ.. وعندما حانت صلاة الصبح قام أحدهم فأذَّن بصوتٍ هادئ وصلينا ثم جلسنا نقرأ ورد الاستغفار إلى أن أشرقت الشمس فأعادني أحدهم لدار الإخوان قائلاً: نحن ذاهبون إلى أعمالنا الآن.. وقد تأخينا معك في الله فلا تقطعنا" وأعطاني العنوان.
جلستُ أفكر في هذا النوعِ الجديد من شبابِ مصر لأول مرة أرى أساتذةً وطلبةً جامعيين يبكون من تلاوةِ القران ويتطوعون بمواخاةِ مثلي وأنا في أشدِ الحاجة للمواساة.. أخذتُ مجموعةً من رسائل الإخوان المسلمين ورجعتُ إلى الريف إذْ لم أجد عملاً في بالقاهرة.
من هذا الوقت توثقت صلة الأستاذ "عبدالبديع صقر" بالإخوان المسلمين، وصار من دعاتهم البارزين، وعضوًا في الهيئة التأسيسية، وقد صاحب "البنا" لمدة اثني عشر عامًا تعلم فيها من الإمام الكثير الذي أثَّر على حياته وسلوكه.
في السجون
يحكي كثيرٌ من الإخوان المسلمين عن مواقفه الكريمة مع إخوانه المعتقلين في معتقل (الطور) سنة 1948م؛ حيث كان يتولى حلاقة رءوسهم، والقيام بخدمة كبار السن والمرضى، بل يقوم بالكثيرِ من مهماتِ التنظيف التي يأنف منها البعض؛ وهذا لفرط تواضعه، وحرصه على الأجر والثواب.
ويُروى عنه رحمه الله أنَّ أحدَ ضباط المباحث الذين مَنّ الله عليهم بالهداية قال للإخوان:
- "كنا نُرسل بعض المخبرين للتجسسِ على الإخوان، إلا أننا لا نلبث، حتى نفقد الثقة فيمن نُرسلهم؛ لإحساسنا بتحولهم وتبدلهم لاحتكاكهم بالإخوان المسلمين، حتى تعبنا، وأعيانا الأمر؛ فاخترنا رجلاً شريرًا، وقلنا هذا سهمٌ نضربُ به الإخوان يستعصي على الكسر، ومضت الأيام، وبعد أسبوع واحد فقط، وإذا بهذا المخبر يدخل عليَّ مكتبي، وطلب نقله من عند الإخوان قائلاً: "(ودوني) عند الشيوعيين، عند اليهود، عند الكفرة، أما أولاد..... دول (لأ)"، فعجبتُ من أمره، وسألته: لماذا؟ قال: "كل ليلة (يقوموا يصلوا)، وشيخهم يقرأ القرآن لهم، الركعة (تيجي) ساعة.. (معدتش) قادر (أصلب طولي)".
الهجرة والإنجازات
الرجال بآثارهم لا بأسمائهم وأعمارهم، وكلما كان للإنسان أثر في الحياة أو البيئة التي يعيش فيها مهما كانت هذه البيئة صغيرة أو كبيرة.. هكذا كان الشيخ عبد البديع رحمه الله تعالى.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في مذكراته:
- وكان الوجيه قاسم درويش في عهد الشيخ علي بن عبد الله الحاكم السابق لقطر، ووالد الحاكم الحالي الذي تنازل له عن الحكمِ قبل مجيئي إلى قطر بسنة واحدة هو المسئول عن المعارف قبل الشيخ قاسم بن حمد، وكان له صلة بالعلامة السيد محب الدين الخطيب صاحب مجلتي (الفتح) و(الزهراء)..
فأرسل إليه يطلب منه ترشيح شخصية إسلامية قوية تتولى إدارة المعارف. فرشَّح له في أول الأمر: الكاتب الإسلامي الصاعد محمد فتحي عثمان، ولكن ظروفًا خاصة حالت دون استجابة الأستاذ فتحي، فطلب من الإخوان أن يرشحوا له شخصًا للقيامِ بالمهمة المطلوبة فرشحوا له الأستاذ عبد البديع.
وسافر الشيخ عبد البديع إلى قطر مبكرًا سنة 1954، وعُيِّن مديرًا للمعارف مع الشيخ قاسم بن درويش، وكانت المعارف في ذلك الوقت محدودة جدًّا.
تعليم المرأة والإصرار عليه
هكذا هو المسلم أينما كان نفع لا ينتظر أن يصل إلى منصبٍ معين أو مستوى معين.. هكذا كان رحمة الله عليه، فما إنَّ حط رحالة في قطر إلا ونظر إلى أساسِ النشء والجيل وهو بناء الأمة وإعدادها، فما إن وضع قدمه إلا وجد أنَّ عدةَ مدارس ابتدائية للبنين، محدودة العدد، ولا توجد مدرسة إعدادية بعد، وكان تعليم البنات محدودًا جدًّا..
فقد قامت معركة جدلية بين المشايخ في تعليمِ البنات، وإلى أي حدٍّ يجوز لها أن تتعلم؟ فكان بعضهم يحبِّذ أن تتعلم البنت كما يتعلم شقيقها الابن.. فطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.. وبعضهم يقول: يكفيها التعليم الابتدائي، ولا حاجةَ إلى ما بعد ذلك، وقد قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (الأحزاب: 33).
وظلَّت هذه المعركة محتدمة، ولم تُحسم إلا قبيل قدومي إلى قطر، وقد حسمت في صالح التوسع في تعليم المرأة، ومن الغريب أن الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، صاحب الفتاوى الجريئة في الحج وغيره، كان من أنصار التضييق والتشديد في تعليم المرأة، وكان الشيخان: ابن تركي والأنصاري من القائلين بإتاحةِ الفرصة لتتعلم كل علم نافع تريده وتقدر عليه.
وقد عشتُ في قطر حتى رأيت الشيخ عبد الله بن زيد يكتب إلى مدير جامعة قطر د.إبراهيم كاظم رحمه الله يستغرب منه كيف توضع الشروط والعقبات في سبيل تعليم الفتاة، ويطالب بأن تفتح الجامعة أبوابها على مصاريعها لكل فتاةٍ ترغب في استكمالِ تعليمها.. سبحان الله أليس كل مَن سنَّ سنةً حسنةً له أجرها وأجر من عمل بها ...إلخ الحديث.
سنة حسنة
يقول الأستاذ حيدر قفة:
- عندما جئتُ إلى العمل في قطر وجدتُ في وزارةِ المعارف سنة حسنة، لا أعلم أنَّ لها مثيلاً في بلد آخر أو في وزارة أخرى وهي من الأمور التي تفرَّدت بها وزارة المعارف، ودولة قطر ، وهي من الحسناتِ الكبار التي تتوج للعاملين بوزارة المعارف هذه السنة الحسنة هي ما يفعله الموظفون عندما يموت لهم زميل في الوزارة سواء من المدرسين أو الإداريين
- فيتبرع كل منهم بما يُعادل راتب يوم واحد من معاشه، تدفع هذه المبالغ مجتمعة لورثة زميلهم، وكم أحيا هذه النظام أو هذه السنة أُسرًا، وكم ستر على عائلات، وكم حافظ على أيتام وأرامل من الضياع والتشرد، ولا تزال هذه السنة قائمة إلى وقت كتابة هذا الكتاب، والتي يدعو كل العاملين في الوزارة لمَن كان السبب فيها، ولمن أوجدها ودلَّ عليها، وما أحسبها إلا حسنة من حسنات عبد البديع وأثرًا من آثاره يوم أن كان مديرًا لمعارف قطر.
كتب ومكتبات
شعر عبد البديع رحمه الله بخبرته الطويلة في مجالِ الدعوة أنَّ الناسَ في حاجةٍ إلى كتابٍ صغير الحجم كبير النفع يشرح الإسلام بإيجاز ويضع الإجابات السليمة الموفقة السديدة لكل تساؤلاتِ الناس لا سيما الشباب منهم لأن لا صبرَ لهم على المطولات فقدَّم رحمه الله مشروع كتاب الجيب وهو كتاب تتضافر جهود العلماء في أكثر من بلدٍ لكتابةِ هذا الكتاب، ففي العمل الجماعي تنتفي مظنة الخطأ أو الحجر على الناس على حسبِ مفهوم الكاتب الواحد لا سيما كتاب سيعمم على بلادِ العالم.. ولكن هذه الفكرة ماتت في مهدها؛ حيث إنَّ فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود تصدي لها.
وقد بذل الشيخ عبد البديع قصارى جهده لنشر التراث الإسلامي ، وأمهات الكتب الفقهية وغيرها؛ حيث كان يشير على حاكم قطر السابق "علي بن عبدالله آل ثاني"، ثم من بعده ابنه "أحمد بن علي آل ثاني"، بطباعةِ تلك الكتب القديمة التي عزَّ وجودها بين أيدي الناس؛ فيستجيب الحاكم لطباعتها على نفقته؛ حسبةً لله تعالى.
كتب الإمام الشهيد "حسن البنا" عن كتاب الأستاذ "عبدالبديع صقر":
- "كيف ندعو الناس؟"، قائلاً: "كنت وضعتُ ملاحظاتٍ للإخوة، وعزمتُ على العودةِ إليها؛ لتكميلها وتنقيحها ونشرها، وقد طالعتُ هذه الرسالة للأخ "عبدالبديع صقر"، فرأيتُ فيها ما كفى وأغنى؛ فسُررت وفرحت، وسألت الله له دوام التوفيق، وأن يُحسن عن الدعوةِ مثوبته، وأُوصِي الإخوةَ بها، وأن يسيروا على ضوئها".
له عدة مؤلفات منها الأخلاق للبنات, التجويد، وعلوم القرآن, رحلة الحج، الوصايا الخالدة، شاعرات العرب، مختارات الحسن والصحيح من الحديث الشريف، رسالة الإيمان، نقد البردة، نساء فاضلات، التربية الأساسية للفرد المسلم, حديث إلى دعاة الإسلام.
اهتمامه بالأطفال
ومن إيمانه الراسخ بجدوى الدعوة إلى الله أن تبدأ هذه الدعوة مع الأطفال بأن ينشأوا تنشئة إسلامية في محاضن إسلامية تحت إشراف المخلصين.
ولما كانت علاقته بحكامِ الإمارات حسنة بحكم صلته بحاكم قطر، عرض مشروع إنشاء (روضات إسلامية) على حكام الإمارات سنة 1969م فرحبوا بالفكرة ومنهم من وعده بأرضٍ للبناء ومنهم من سهل له الإنشاء.
ولكن إمكانيات الشيخ عبد البديع رحمه الله كانت ضعيفة لا تمكنه من بناءِ عمارة إلا أنه أخذ بمبدأ (ما لا يُدرك كله لا يترك جله) فاستأجر بناءً في عجمان وأنشأ فيها روضة صغيرة من صف وحضانة واحدة، ويذكر أنَّ مقاعد الدراسة لم تتجاوز العشرة ولا يتعدى ثمنها ألفي ريال (قطر ودبي) آنذاك والمراجيح ولعب الأطفال في حدود ألف ريال أي أنَّ روضةَ عجمان لم تكلف ثلاثة آلالف ريال.
وتبع ذلك إنشاء روضة أطفال في دبي وأشرف عليها الشيخ كاظم حبيب، ثم روضة الشارقة وتبع ذلك في أبي ظبي والعين ورأس الخيمة.
العمل في الخليج
لقد عمل الأستاذ "عبدالبديع صقر" فترةً طويلةً في قطر والإمارات، فكان مديرًا للمعارف بقطر، ثم مديرًا لدار الكتب القطرية، ثم مستشارًا ثقافيًّا لحاكم قطر.
يذكر بعض العارفين لأحواله أنه حين كان مديرًا للمعارف في قطر، كان يؤشر على طلبِ الإجازة للوفاة بعبارة: "مع الموافقة على منحه ثلاثة أيام، وعظَّم الله أجره، وأحسن عزاءه، وغفر لميته"، ويُؤشر على طلبِ الإجازة للزواج بعبارة: "مع الموافقة، بارك الله في عروسه، وبارك لها فيه، وجمع بينهما في خير".
وكان أمراء الخليج يُجلُّون الأستاذ "عبد البديع صقر"، ويُقدرونه، ويحترمونه، فضلاً عن محبة العامة وجماهير الناس له؛ لحسنِ خلقه، وتواضعه، وخدماته الكثيرة، وقد عرفوه متحدثًا، ومحاضرًا، وخطيبًا، وواعظًا، وكاتبًا، ومفكرًا ومصلحًا، وداعيةً.
وفاء نادر
كان الأستاذ "عبدالبديع صقر" من الأوفياء لإخوانه، البارِّين بزملائه، وكان يتفقدهم ويتعهدهم بالزيارة، والسؤال عنهم، أو مراسلتهم مهما تشتت بهم الأقطار.
ومن هؤلاء الدكتور "سعيد رمضان" رحمه الله زوج ابنة الشهيد "حسن البنا"، الذي كان يقيم في جنيف؛ مطارَدًا من الرئيس "جمال عبدالناصر"، الذي أسقط عنه الجنسية، وحُكم عليه بالإعدام غيابيًّا، فكان الأستاذ "صقر" يتعهده بالزيارة، والسؤال عنه.
يروي الأستاذ "حيدر" عن وفائه لزملائه أن الأستاذ "زهير الشاويش" صاحب المكتب الإسلامي بدمشق وبيروت دخل مرةً على الشيخ "عبد البديع" في منزله في الدوحة بعد العشاء، وبعد إلقاء السلام على الحاضرين بالمجلس قال: "يا أبا إبراهيم، أقرضني مائة ريال، فقد خلا الجيب؛ فما قام "عبدالبديع" من مكانه، ولكنه قال لزهير ببساطته المتناهية: "الدرج بجوارك، خذ منه ما تشاء"، فأخذها "زهير"، وخرج دون أن يجلس.
شهادات
كتب الأستاذ "زهير الشاويش" في مجلة "المجتمع" الكويتية، عدد ديسمبر 1987م، بعد وفاة "عبد البديع صقر" يقول:
- "أرى لزامًا عليَّ أن أؤدي الشهادة فيما تيقنته عنه بعد خبرة وتجربة، فقد عرفت في الأخ "عبد البديع" نزاهة اليد والتعفف عن جرِّ المنفعة لنفسه، أو أخذ قرشٍ مما كان يُوكل إليه إنفاقه على طبعِ الكتب، بل زهدَ في أموالِ الأغنياء؛ فعوَّضه الله عن ذلك بالحلالِ الطيب، وأشهد أنه طالما أنفقَ من ماله الخاص على قلته كلما رأى حاجةً للإنفاق في موطنٍ شحَّت عن البذل فيه أيدي الأغنياء".
يذكر المستشار "عبدالله العقيل"
- أنه حين كان في الكويت دُعي إلى الإمارات لإلقاء محاضرة في (جمعية الإصلاح) بدبي، وعقب المحاضرة أمطره الجمهور بسيل من الأسئلة الكثيرة، قاربت مدتها مدة المحاضرة، وحين توقف عند أحد الأسئلة بادر رحمه الله بالجواب عنه.
ويحكي المستشار "العقيل" عنه أيضًا:
- "كان من أوائل من التقيت بهم في مصر أواخر عام 1949م؛ حيث اجتمعت معه في منزل أحد الإخوان، ولما حان وقت الصلاة قدموه للإمامة، ولفت نظره وجود صورة على الحائط، فما كان منه رحمه الله إلا أن سترها، ثم أدينا الصلاة؛ فأدركتُ من وقتها أن الأستاذ "عبدالبديع صقر" ذو نزعة سلفية، يحرص على الالتزام بما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سار عليه السلف الصالح".
وكان عبد البديع صقر شخصية مرحة متميزة، كان يزور الشخص ولا يطيل، ويقول: أعتقد أننا شرفنا! ثم يستأذن وينصرف.
وكان يعزم الناس على الغداء عنده، ثم ينسى أن يخبر أهل بيته، فيفاجأ بالناس وقت الغداء يدقون عليه الباب، فيرحِّب بهم، ويأكلون ما حضر، ويقول لهم: نسيتُ أن أبلغ وزارة الداخلية!
وأحيانًا يقول لأهله: اصنعوا لنا ثريدًا، ويقول: إنَّ قصعة الثريد تقبل القسمة على أيِّ عدد!
وقد بقي مديرًا للمعارف حتى تغيَّر الوضع، وأُعفي الوجيه قاسم درويش، وجيء بالشيخ قاسم بن حمد، واحتضن الشيخ علي ثم الشيخ أحمد الشيخ عبد البديع، ليشرف على مكتبته الخاصة، وعلى المكتبات العامة في قطر.
وفاته
كان رحمة الله عليه قُبيل وفاته بفترةٍ يقول: أنا لم يبقَ لي في الدنيا شيء لقد فرغت من الدنيا وقبل سفره من دبي إلى مصر أقام وليمة كبيرة لجمع كبير من الناس وتكلَّم فيهم وكان مما قال: "لعلنا لا نلتقي بعد اليوم".
ولما وصل إلى مصر أقام وليمةً كبيرةً في بيته دعا إليها جمعًا كبيرًا من الأقاربِ والأرحارم كأنما يودع الناس، ثم زار قبر زوجته رحمها الله تعالي.
وقد انتقل رحمه الله إلى جوار ربه مساء السبت (12 من ربيع الأول 1407هـ، الموافق 13/12/1986م) في مصر؛ حيث توجَّه إلى مدينة (بلبيس) بالقربِ من مدينة الزقازيق لإلقاءِ محاضرة، وبعد المحاضرة ركب سيارته قاصدًا الزقازيق، فمات وهو يقود السيارة، فانحرفت به إلى جانب الطريق، وسقط في مجرى مائي، ولم يدركه الناس إلا في وقتٍ متأخر؛ حيث حُمل إلى المستشفى، وغُسِّل، ودُفن إلى جوار زوجته "أم إبراهيم"، التي سبقته إلى الدار الآخرة قبل أكثر من عام.
نسأل المولى الكريم أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يغفر لنا وله، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته.
المراجع
- من أعلام الحركة الإسلامية للمستشار "عبدالله العقيل".
- وسائل التربية عند الإخوان المسلمين للدكتور "علي عبد الحليم محمود".
- حكايات عن الإخوان للأستاذ "عباس السيسي".
إقرأ أيضا
كتب متعلقة
أبحاث ومقالات متعلقة
|
تابع أبحاث ومقالات متعلقة
روابط خارجية
|