عبد الحكيم عابدين
بقلم: المستشار عبد الله العقيل
عبد الحكيم عابدين في سطور
- أنهى تعليمه الابتدائي والثانوي في المدارس المصرية والتحق بكلية الآداب.
- اتصل بجماعة الإخوان المسلمين، وصار من أعضائها البارزين وهو لا يزال طالبًا.
- تفجرت مواهبه الأدبية وهو لا يزال في الجامعة، الأمر الذي هيأ له الاتصال بكبار المسئولين في الجامعة والارتباط بهم.
- أخرج وهو في مقتبل شبابه ديوانه (بواكير) الذي حمل أسمى المعاني الإسلامية.
- تولى "عبد الحكيم عابدين" مسئوليات كبيرة في جماعة الإخوان، وتولى منصب السكرتير العام حتى صدر قرار بحل الجماعة سنة 1948م.
- تعرض للاعتقال في العهد الملكي وفي عهد الحكومة العسكرية.
- لم يتعرض للاعتقال بعد صِدام حركة الجيش مع جماعة الإخوان سنة 1954م إذ كان خارج البلاد.
- وبعد هجرته عمل مع الحاج "أمين الحسيني" مفتي فلسطين، ثم عمل مستشارًا في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
- عاد "عبد الحكيم عابدين" إلى القاهرة سنة 1975م بعد غياب أكثر من عشرين عامًا، وعمل مع المرشد الثالث "عمر التلمساني".
توطئة
".. ولما قُضيت الصلاة ماج الناس، إذ انبعث فيهم جماعة من الشباب يصيحون بهم ويستوقفونهم ليخطبوا فيهم، ثم قام أحدهم فخطب، فذكر فلسطين وما نزل بها، وتغيُّر أحوال أهلها ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم، ثم استنجدوا واستعان، ودعا الموسِر والمخف إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى، وتقدم أصحابه بصناديق مختومة فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي في هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرها..
وأخرج القروي كيسه فعزل منه دراهم وقال: هذه لطعام أتبلّغ به ولأوبتي إلى البلد، ثم أفرغ الباقي في صناديق الجماعة، واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت في صناديقهم كل ما معي، ولقد حسبت أنه لو بقي لي درهم واحد لمضى يسبني ما دام معي إلى أن يخرج عني، قال أحد الشيوخ في المسجد للشاب: ممن أنت يا بني؟ قال: أنا من جماعة الإخوان المسلمين".
هذه السطور البليغة من مقالٍ لأديب العربية الكبير "مصطفى صادق الرافعي"، كتبه بعد أن شاهد نفرًا من شباب الإخوان المسلمين في المسجد الأحمدي بمدينة طنطا، يعرفون الناس ب قضية فلسطين، ويجمعون التبرعات لها، ولم يكن الشاب الخطيب الذي استنجد واستعان ونبّه الغافلين، وأثار الشجن في نفوس المصلين، وحمل الناس على التبرع والبذل سوى الأستاذ "عبد الحكيم عابدين" الذي قصده "الرافعي" هو ورفاقه بمقالة رائعة بعنوان (قصة الأيدي المتوضئة).
المولد والنشأة
وُلد "عبد الحكيم عابدين" في قرية "فيدمين" التابعة لمركز طامية بمحافظة الفيوم سنة "1396هـ 1914م"، وبعد أن أنهى تعليميه الثانوي التحق بكلية الآداب، وتخصص في دراسة الأدب العربي.
وفي هذه الأثناء كان "حسن البنا" قد انتقل بجماعته إلى القاهرة، وبدأت تخطو خطوات وئيدة بين الناس، وتجد استجابة لدى الطلبة، ومن أبرز من انضم إلى جماعة الإخوان من طلبة الجامعة ثلاثة من كلية الآداب يدرسون اللغة العربية، وهم "عبد الحكيم عابدين"، و"محمد عبد الحميد أحمد"، و"عبد المحسن الحسيني".
ويعتبر عبد الحكيم عابدين والشيخ الباقوري من شعراء الإخوان المسلمين الأوائل. وقد تخرج في كلية الآداب بالجامعة المصرية بالقاهرة، وكان وثيق الصلة بالطلاب والأساتذة محبوباً من الجميع، عمل أميناً لمكتبة جامعة القاهرة، وقد اختاره الإمام الشهيد حسن البنا ليكون زوجاً لشقيقته باعتباره أوَّل من تخرَّج في الجامعة وبايع على أن يجعل مستقبله رهناً بمطالب الدعوة الإسلامية.
وكان الإمام "البنا" حريصًا كل الحرص على الاتصال بطلبة الجامعة بكل الوسائل الممكنة، وكان يعتبر إقناع طالب واحد في كلية من الكليات أنفع للبلاد من دخول بلد بأسرها فيها؛ تقديرًا منه لأهمية الجامعة، وتأثير انضمام طلبتها إلى جماعته.
اتصاله بـ"طه حسين" و"أحمد لطفي السيد"
وفي الكلية تفتحت مواهب "عبد الحكيم عابدين" ولفتت الأنظار إليه، فقد كان شاعرًا موهوبًا، متأجج الشعور والأحاسيس، وكانت تلك الموهبة طريقه إلى معرفة كبار أساتذته، ومن بينهم الدكتور "طه حسين" عميد كلية الآداب، وكان يأنس بالجلوس معه، وفي أحد الأيام جمعت جلسة بين الطالب "عبد الحكيم عابدين" والدكتور "طه حسين"، والأستاذ "أحمد لطفي السيد" مدير الجامعة، الذي سأل "عبد الحكيم" عن دعوة الإخوان، فشرح له الفكرة ووسائلها وأهدافها، ولاحظ الدكتور "طه حسين" أن الأمر لم يتضح لـ"لطفي السيد" كما ينبغي؛
فقال له: هل تريد أن تعرف كل شيء عن الإخوان المسلمين، قال: نعم، قال: سأختصر لك ذلك في جملة واحدة، إنهم يريدون أن يستردوا الأندلس، فكان هذا فهمًا من "طه حسين" استوعب فيه من أهداف دعوة الإخوان ما لم يستوعبه بعض المنتسبين إليها.
في خدمة قضية فلسطين
كان السيد "أمين الحسيني" مفتي فلسطين ومعه مساعده الشيخ "صبري عابدين" يترددان على المركز العام لجماعة الإخوان القديم في شارع الناصرية بالسيدة زينب، يطلبان العون والنصرة من الإمام "البنا"، وكان يعطي أهميةً كبيرة لقضية فلسطين، ولم يكن ممن يكتفون بالعون الأدبي بل يقرنه بالعمل والتنفيذ، فكان يرسل إلى كل مسجد اثنين على الأقل، أحدهما يخطب بعد الصلاة ويشرح للناس ما يقترفه الإنجليز من مظالم وجرائم في فلسطين، ويوضح للناس أن فلسطين هي البلد الذي به بيت المقدس ثالث الحرمين وأولى القبلتين، وأن الإنجليز يريدون أن يسلموا هذا الحرم المقدس إلى اليهود، ويقوم الأخ الآخر بتلقي التبرعات في صندوق معه.
وكان "عبد الحكيم عابدين" من هؤلاء الخطباء الذين وُكلت إليهم مهمة التعريف بقضية فلسطين، وكانت إحدى جولاته في المسجد الأحمدي بطنطا،فقد كان لخطبته في هذا المسجد وقد نهض بما أوكله إليه الإمام "البنا"، وهو لا يزال طالبًا بكلية الآداب ومعه جماعة من الإخوان.
لقد كان الأستاذ عبدالحكيم عابدين، صاحب سجية أدبية، وسليقة عربية، وقلب شاعر يفيض بالعواطف الدفاقة والأحاسيس المرهفة، وكان له دور بارز منذ كان طالباً في دعم المجاهدين بفلسطين، حيث قام مع مجموعة من إخوانه الشباب بالخطب في مساجد القاهرة والأقاليم، لحثِّ الناس على التبرع لإخوانهم أهل فلسطين، الذين يعانون من ظلم المستعمرين الإنجليز واليهود الغاصبين، وكانت خطبه في مساجد مصر وبخاصة خطبته في مسجد البدوي بطنطا، ذات أثر كبير في نفوس الجماهير، وهي التي أشار إليها أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي في مقاله الرائع بمجلة "الرسالة" بعنوان: "قصة الأيدي المتوضئة"
بقوله:
- "... ولما قضيت الصلاة ماج الناس، إذ انبعث فيهم جماعة من الشباب يصيحون بهم ويستوقفونهم ليخطبوهم ثم قام أحدهم فخطب، فذكر فلسطين وما نزل بها، وتغير أحوال أهلها ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم، ثم استنجد واستعان، ودعا الموسر والمخف إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى، وتقدم أصحابه بصناديق مختومة، فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي في هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرهم....
- وأخرج القروي كيسه فعزل منه دراهم وقال: هذه لطعام أتبلغ به ولأَوبتي إلى البلد، ثم أفرغ الباقي في صناديق الجماعة، واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت في صناديقهم كل ما معي، ولقد حسبت أنه لو بقي لي درهم واحد لمضى يسبني مادام معي إلى أن يخرج عني. قال أحد الشيوخ في المسجد للشاب: ممن أنت يا بني؟ قال: أنا من جماعة الإخوان المسلمين.." انتهى.
وقد نجحت هذه الطريقة التي سلكتها جماعة الإخوان المسلمين في التعريف بقضية فلسطين، وإيقاظ الروح الإسلامية في نفوس الجماهير، وإعانة المجاهدين في فلسطين.
هذا النبوغ المبكر والحيوية الدافقة التي تميّز بها الشاب الطالب عبدالحكيم عابدين، كانت هي السمت العام، الذي ينتظم شباب الإخوان المسلمين في كل مكان، فقد كانوا الشامة في جبين مصر، والطليعة في أرض الكنانة التي انتصبت تدافع عن دين الله، وتنشر دعوته وتبلِّغ رسالة الإسلام إلى الناس جميعاً؛
وتعود بالأمة إلى منهج الإسلام الأصيل المستقى من الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، وبهذه الطلائع المؤمنة خطتْ الدعوة الإسلامية المعاصرة خطواتها المباركة، وجاهدت في سبيل الله ومن أجل المستضعفين في الأرض وبخاصة المسلمين في فلسطين فكانت كتائب الجهاد وقوافل الشهداء تتوالى كتيبة إثر كتيبة وقافلة إثر قافلة.
في خدمة الدعوة الإسلامية
يُعد "عبد الحكيم عابدين" أول عضو في جماعة الإخوان تخرج في الجامعة، وبايع على أن يجعل مستقبله رهنًا بمطالب الدعوة، وبعد التخرج عمل أمينًا لمكتبة جامعة القاهرة.
وقد أصقلت الحياة مواهب "عبد الحكيم عابدين" وكشفت عن قدراته...، الأمر الذي جعله قريبًا من المرشد العام، الذي كان يشركه معه في التصدي لأعقد المشكلات وأخطر القضايا، وكانت الدعوة تجد كل يومًا أنصارًا، وتفتح لها أبوابًا مغلقة، وتنشئ لها فروعًا جديدة في أماكن مختلفة، وارتبط "عابدين" بصداقات كثيرة مع أصحاب الشأن في مصر من الكبار والأطباء وأساتذة الجامعات، وعن طريقه عرف هؤلاء دعوة الإخوان المسلمين، وكان "عابدين" لبقًا في حديثه يأخذ بالألباب، جيدًا في عرضه يقنع المخالف والمجادل.
وكان "عابدين" موضع تقدير المرشد العام وثقته، فحين تقدم لمصاهرته والزواج من شقيقته الكبرى فوافق على هذا الزواج، ولم يكن يملك "عابدين" من المؤهلات إلا مواهبه وشاعريته الفياضة، لكن المرشد آثره على غيره من المتقدمين وكانوا جميعًا من ذوي المكانة والخلق والعلم تقديرًا لسابقته في الدعوة وجهاده الدائب.
وفي إحدى زياراته لبلاد الشام التقى بالملك "عبد الله" ملك الأردن، فأبدى إعجابه بدعوة الإخوان وبقيادتهم، وأنه ينتظر الخير على أيديهم، وأنه شخصيًا في حاجة إلى جهودهم، وعرض عليه أن يُعيَّن وزيرًا في حكومة الأردن، غير أن "عابدين" شكر الملك واعتذر بلطفٍ عن قبول هذا العرض المغري، وقد تولى الأستاذ "عبد الحكيم عابدين" منصب السكرتير العام لجماعة الإخوان حتى اعتقل مع إخوانه حين حُلت جماعة الإخوان في "6 من صفر 1368 هـ 8 من ديسمبر سنة 1948م".
وبعد إلغاء حكومة الوفد لقرار الحل سنة "1370هـ 1950م" عاود "عابدين" نشاطه، وطاف مع إخوانه أنحاء مصر يستنهض الهمم للقيام بنصرة دين الله والتصدي للظلم والطغيان.
وحين نزل "أبو الحسن علي الندوي" القاهرة سنة "1371هـ 1951م"، وشاءت الأقدار ألا يلتقي بمؤسس جماعة الإخوان الذي اغتالته يد الغدر والخسة، وأن يلتقي بتلاميذه، وكان في مقدمتهم "عبد الحكيم عابدين" الذي أعجب به "أبو الحسن الندوي" وبذكائه ونباهته وبلاغة تعبيره وقوة حجته، وقدرته الفائقة على الخطابة في سلاسة وعذوبة.
هجرته من مصر
قطعت الدعوة الإسلامية أشواطاً بعيدة في تنبيه الأمة من غفلتها وإعداد الشباب لمنازلة الإنجليز في قناة السويس بعد أن نازلوا اليهود في فلسطين، وكانت معارك ضارية وانتصارات عظيمة وشهداء لقوا ربهم دفاعاً عن دينهم وأمتهم؛
وكان لذلك أثره أن تململ الناس من الظلم والطغيان، وأصبحت الأوضاع على وشك الانفجار وانطلق الناس يجاهرون بالعداء للمستعمر وأعوانه ويتحدون رموزه وزبانيته، فحدث الانقلاب العسكري في يوليو 1952م الذي قادته مجموعة من الضباط كان فيهم بعض الصالحين، فأمَّل الناس منهم الخير؛
ولكن البعض الآخر من الذين يرتبطون بالمخابرات الأمريكية كانت لهم الغلبة، فقلبوا ظهر المجن لمن آزرهم وساندهم وحوَّلوا البلاد إلى سجن كبير عمَّت فيه الفوضى والبطش والتنكيل بكل من يخالفهم الرأي أو يبدي لهم النصح وذاق الشعب المصري بكل فئاته مرارة الخيبة من هذا الانقلاب وكان نصيب الإخوان المسلمين من البلاء عظيماً فكانت محنة في يناير 1954م حيث قبض على مجموعات كبيرة منهم وفي مقدمتهم القادة ومنهم الأستاذ عبدالحكيم عابدين ثم أفرج عنهم في مارس سنة 1954م.
ووبعد خروجه من المعتقل غادر القاهرة لأداء فريضة الحج، ثم لحق بالأستاذ المرشد "حسن الهضيبي" في سورية ورافقه في رحلته إلى لبنان والأردن، ولم يعد بعدها إلى مصر مع المرشد، فنجا من المذبحة التي أعدتها الحكومة العسكرية التي عصفت بجماعة الإخوان فأعدمت عددًا من خيرة الرجال، حسبُك أن يكون من بينهم القاضي الفقيه "عبد القادر عودة"، والشيخ المجاهد "محمد فرغلي"، وامتلأت السجون بآلاف من شباب الإخوان وشيوخها، حيث لقوا من صنوف العذاب أهوالاً وفظائع.
وفي تلك الأثناء كان الأستاذ عابدين ومن بقي من إخوانه في الخارج مثل د. سعيد رمضان والأستاذ كامل الشريف وغيرهم من الإخوان المصريين يبذلون جهودهم مع إخوانهم في سورية ولبنان والأردن والعراق والسودان والمغرب لنصرة إخوانهم بمصر واستمرار نشاط الدعوة في الأقطار العربية والإسلامية والأوروبية، ولقد بقي الأستاذ عابدين يتنقل من بلد إلى بلد وبخاصة سورية ولبنان والسعودية والأردن والعراق وغيرها، ويبذل قصارى جهده لنصرة دين الله وإعزاز كلمة الإسلام وجمع الدعاة المسلمين على كلمة سواء.
وظل "عبد الحكيم" ينتقل من بلد إلى بلد حتى اختاره الحاج "أمين الحسيني" مفتي فلسطين؛ ليكون مستشارًا للهيئة العربية العليا في بيروت التي يرأسها، ثم اختارته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ليكون مستشارًا لها.
وقد بقي خارج مصر إلى سنة 1975م.
عبد الحكيم عابدين شاعر الإخوان
وكان "عبد الحكيم عابدين" شاعرًا موهوبًا، ولو تفرغ للأدب لكان له شأن، وقد أخرج في شبابه ديوانه (بواكير)، استقبلته الأوساط الأدبية استقبالاً جيدًا ملأه بالقصائد التي تحمل أسمى المعاني الإسلامية وتفيض بالمشاعر النبيلة، وجعل من شعره وسيلةً للدعوة ونشر أفكارها، ومن أشهر ما نظمه نشيد الكتائب، كتبه حين رأى شبابَ الإخوان يتدرَّبون في كتائبهم سنة "1356 هـ 1937م"، فانفعل بهذا المشهد الجهادي، وقال:
- ويعـتدّ للمـوقـف الفـاصـل
فصفــوا الكتـائب أسـاده
- ودكُّـوا بـه دولـة البـاطـل
نبي الهدى قـد جفـونا الكـرى
- وعفـنا الشهـي مـن المطعـم
نهضـنا إلى الله نجلـو السـرى
- بـروعـة قـرآنه المحكــم
ونُشهِـد مـن دَبَّ فـوق الثرى
- وتحـت السمـا عـزة المسلـم
وفاته
ظل "عبد الحكيم عابدين" خارج مصر أكثر من عشرين عامًا، حتى عاد في عهد الرئيس "أنور السادات" سنة "1393هـ 1975م"، حيث عاد إليها ومارس العمل الدعوي مع إخوانه بقيادة المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني ولم يطل به المقام، حيث انتقل إلى جوار ربه سنة 1977م بعد عمر حافل بالنشاط الإسلامي داخل مصر وخارجها منذ شبابه حتى آخر مراحل شيخوخته.
رحم الله أستاذنا الكبير المجاهد الداعية عبدالحكيم عابدين شاعر الدعوة الإسلامية وخطيبها المفوَّه وسفيرها المتجول الذي ترك آثاراً كبيرة في كل مكان تشهد له بالخير والوفاء والالتزام لدعوة الحق والقوة والحرية، والذي أحبه كل من عرفه أو التقاه لدماثة خلقه وتواضعه وبشاشة وجهه ورقَّة حديثه وإخوَّته الصادقة وتفانيه في خدمة إخوانه المسلمين في كل مكان.
لقد كان الأستاذ عابدين خريج مدرسة الإمام الشهيد حسن البنا التي تبني الرجال وتخرِّج الأبطال، وكان جهاده صورة مشرقة من جهود الدعاة الذين تربوا في هذه المدرسة المباركة. نسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يغفر لنا وله ويجمعنا وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً .
معرفتي بالداعية الكبير الأديب الشاعر عبدالحكيم عابدين
كانت في الأربعينيات الميلادية، من خلال ما كانت تنشره مجلة الإخوان المسلمين من خطب وقصائد وأناشيد ومحاضرات وجولات وندوات، ولست أنسى" قصيدته العصماء في ذكرى المولد النبوي الشريف التي ألقيت في أكثر مدن القطر المصري ونشرتها مجلة الإخوان المسلمين.
وكان الإخوان في الزبير، يكررون إلقاءها في الدرس الأسبوعي يوم الجمعة بمدرسة "الدويحس الدينية" والتي كان مطلعها: تدلى" النجمُ في أوج السماءِ ومال الطودُ في صدق احتفاء يزفُّ بكل إكبار وحبٍ إلى" ذكرى" نبي الأنبياء كما كانت الأناشيد الإسلامية التي نظمها الأستاذ عابدين، يرددها الشباب المسلم في أنحاء الوطن العربي وفي مقدمتها "نشيد الكتائب" الذي اختارته جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي والإسلامي ليكون النشيد المقرر لكتائب الدعوة الإسلامية وفيه يقول:
- ويعتد للموقف الفاصل
فصفوا الكتائب آساده
- ودكوا به دولة الباطل
نبي الهدى قد جفونا الكرى
- وعفنا الشهي من المطعم
نهضنا إلى الله نجلو السرى
- بروعة قرآنه المحكم
ونشهد من دب فوق الثرى
- وتحت السما عزة المسلم
دعاة إلى الحق لسنا نرى
- له فدية دون بذل الدم
وحين سافرتُ إلى مصر سنة 1949م للدراسة الجامعية، كان الأستاذ عابدين من أوائل من التقيتهم من قادة الإخوان المسلمين في مصر. ولقد صحبت أستاذنا الشيخ الندوي سنة 1951م حين زار مصر، بزيارة الأستاذ عبدالحكيم عابدين أكثر من مرة في منزله وفي دور الإخوان، وكان الشيخ الندوي معجباً غاية الإعجاب بالأستاذ عابدين وبذكائه ونباهته وقوة حجته وبلاغة تعبيره وجزالة ألفاظه وعمق معانيه وسلاسة أحاديثه وعذوبة كلامه وحضور بديهته.
وحين ألقى كلمته وسط الإخوان وكان عنوانها "أريد أن أتحدث إلى الإخوان" كان الأستاذ عابدين هو الذي عقَّب على كلمة الندوي بقوله: "لقد وجدتُ في كلمة الأستاذ الندوي صورة صادقة لفكرة الأستاذ الإمام الشهيد حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين، ونفحة من نفحات تفكيره رحمه الله تعالى، وإنني وإخواني لمغتبطون جداً بهذا التوجيه الأخوي ومقدرون له ونرجو منه الإذن بنشرها وسط الإخوان".
يقول الأستاذ الكبير محمود عبدالحليم في كتابه القيم: "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ" في حديثه عن الأستاذ عبدالحكيم عابدين ما نصه:
- ".... إن ذكر الباقوري يقتضي ذكر عبدالحكيم عابدين، لأنهما فرسا رهان، ورضيعا لبان، نهلا من منبع واحد، وصدرا بعد ارتواء، تجمعهما سجية أدبية وسليقة عربية، وقلب شاعر يفيض بالعواطف الدفاقة والأحاسيس المرهفة، وكانت كلية الآداب تقوم على الثلاثي الإخواني من الطلاب: محمد عبد الحميد أحمد، وعبدالمحسن الحسيني، وعبدالحكيم عابدين، حيث كان الثلاثة عُمُد الدعوة وركائزها؛
- وكانوا في صف دراسي واحد وفي قسم اللغة العربية وفي مقدمة صفهم، وكان مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، وعميد كلية الآداب طه حسين، وكلاهما يأنس للطالب عبدالحكيم عابدين بحكم نضوجه الأدبي وسرعة بديهته ونزعته الشعرية الأصيلة؛
- حتى أن طه حسين كان يطارحه الشعر، وكان أحمد لطفي السيد يسأل الطالب عبدالحكيم عابدين عن دعوة الإخوان المسلمين، وعابدين يشرح له، ثم تدّخل طه حسين وقال لمدير الجامعة، إن الإخوان المسلمين يريدون أن يستردوا الأندلس.
- السنوات التي مرت على الأستاذ عبدالحكيم عابدين بعد تخرّجه في الجامعة، قد جلَّتْ مواهبه، وصقلت قريحته، وكشفت عن قدراته، مما جعله أهلاً لأن يُشركه الأستاذ المرشد العام حسن البنا معه في التصدي لأعقد المشاكل وأخطر الأمور، التي تضاعفت بتشعب الدعوة واتساع رقعتها واقتحامها ميادين جديدة؛
- وقد كان الأستاذ عابدين شخصاً مقبولاً ومحبباً إلى نفوس الكثيرين من الناس وبخاصة الأطباء وأساتذة الجامعة وعلية القوم والوجهاء الذين لم يعرفوا دعوة الإخوان المسلمين إلا عن طريق عبدالحكيم عابدين، وسرّ الأستاذ المرشد والإخوان لهذه الجهود المباركة التي يبذلها الأستاذ عابدين، وهذا العبء الذي يشارك في حمله مع الأستاذ المرشد العام" انتهى.
ولقد لقيت من كرم الأستاذ عابدين أنا وزملائي طلبة البعوث الإسلامية الشيء الكثير، حيث كان يهتم بأمورنا ويقدم لنا ما نحتاج إليه من مساعدة أو عون في مجال الخدمات وغيرها.
ولن أنسى له التوصية التي أعطاني إياها لأحد الأطباء الكبار ذوي الاختصاص لعلاج ما كنت أشكوه في المعدة والأمعاء من مرض طال أمده، فكان اهتمام الطبيب بي كبيراً لأنه يحترم الأستاذ عابدين ويقدره ويقول عنه إن الأستاذ عابدين من الدعاة الذين تفخر بهم مصر. يقول الأستاذان حسني جرار وأحمد الجدع في كتابهما: "أناشيد الدعوة الإسلامية":
- "....وممن أعجب بدعوة الإمام البنا وانضم إليها الشاعر عبدالحكيم عابدين، وعندما شاهد شاعرنا شباب الإخوان المسلمين وهم يتدربون في كتائبهم على العلم والعمل، أعجب بهم وأنشأ لهم سنة 1937م نشيداً حماسياً بعنوان "نشيد الكتائب"، وقد بيَّن الشاعر أن هؤلاء الشباب المجاهدين العاملين، هم جنود الحق الذين احتشدوا لنصرته، وأنهم في انتظار المعركة الفاصلة حتى يدكوا بعزائم الإيمان دولة الباطل والبهتان.
- وهؤلاء الشباب هم كما وصفهم ربهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وهم كما وصفهم رسولهم صلى الله عليه وسلم "كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وهم كما وصفهم قادتهم رهبان في الليل فرسان في النهار"، هؤلاء الشباب الذين اتصفوا بهذه الصفات لن يثنيهم عن هدفهم العظيم، أمر مهما عظم، وظالم مهما تجبَّر، وظلام مهما ادلهم، إن هؤلاء الشباب الذين ربَّـاهم الإمام الشهيد على حب الإسلام ودعوته، وعلى نصرة الحق وشريعته، سوف ينتصرون، وسوف يبنون صرح الدولة الإسلامية، فإنه وعد الله ولن يخلف الله وعده" انتهى.
كان عبد الحكيم عابدين من القادة الذين يعتمد عليهم في المهمات الجسام، فحين قامت الثورة في اليمن في 15-1-1948م ونودي بالقاضي عبدالله بن الوزير إماماً لليمن، تلقى الأستاذ عابدين دعوة رسمية من حكومة الثورة اليمنية لزيارة اليمن، وقد سبقه لزيارتها الزعيم الجزائري الكبير الفضيل الورتلاني.
كما تولى الأستاذ عابدين منصب السكرتير العام للإخوان المسلمين، وقد اعتقل مع إخوانه حين حلت الجماعة في 8-12-1948م بأمر من الإنجليز سارع النقراشي لتنفيذه، فحل الجماعة واعتقل قادتها باستثناء الأستاذ البنا ليدبروا أمر اغتياله فيما بعد وقد كان.
وحين ألغت حكومة الوفد سنة 1950م الأحكام العرفية وسقط قرار الحل خرج الإخوان من السجون وعادوا إلى نشاطهم، انطلق الأستاذ عابدين مع إخوانه في همة ونشاط يجوبون القطر المصري، يذكرون الناس بدعوةالإسلام ويستنهضون الهمم للقيام بنصرة دين الله ومساندة رجال الدعوة والتصدي للظلم والطغيان والاهتمام بتربية الشباب على منهج الإسلام الحق المستقى من الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة.
المراجع
- عبد الله العقيل: من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة مكتبة المنار الإسلامية الكويت .
- محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ دار الدعوة الإسكندرية مصر.
- حسني جراد وأحمد الجدع: أناشيد الدعوة الإسلامية مؤسسة الرسالة بيروت.
- مصطفى صادق الرافعي: وحي القلم دار المعارف القاهرة.
ألبوم صور
عبد الحكيم عابدين
الجلوس-من-اليمين-مصطفي-الزرقا--أحمد-الخطيب--الدواليبي--عبدالحكيم-عابدين-–أبو-اليسر-عابدين-–-عبداللطيف-أبو-قورة
إقرأ أيضاً
روابط داخلية
. |
روابط خارجية
|