موقف الإخوان من المفاوضات مع الإنجليز
مقدمة
كان لبريطانيا دورها الكبير في تثبيت الأقدام اليهودية على الأراضي الفلسطينية، سواء من خلال المساعدات المستمرة لليهود بالأسلحة والتدريب والأموال، أو من خلال المؤتمرات والمعاهدات من خلال المفاوضات مع بعض رجال الدول العربية الذين نجحوا في استمالتهم؛ ولم تكن"إنجلترا" تسعى إلى حل المشكلة الفلسطينية- قضية العرب الكبرى- بقدر ما كانت تريد تخديرهم، حتى يتثنى لها الوصول إلى مخططاتها التي تهدف إلى إقامة وطن قومي لليهود على الأراضي الفلسطينية، وتثبيت أقدامها في البلاد العربية التي تقع تحت سيطرتها، لذلك فسرعان ما نقضت عهودها للدول العربية ووعودها لها بالحرية بعد أن تنتصر في "الحرب العالمية الأولى"، ثم كانت الطامة الكبرى بوعد "بلفور" الجائر سنة (1336هـ = 1917 م)؛ ولذلك فقد رأى "الإخوان المسلمون" أن الإنجليز وغيرهم من الدول الاستعمارية العدو الأول للعرب والمسلمين، وأنهم رأس البلاء والشقاء، وأنه لن يعود للإسلام مجده ولن تقوم للعرب قائمة إلا إذا تحررت الشعوب الإسلامية، وأن المفاوضات مع العدو البريطاني لا تجدي وأنه لابد من مقاومة البريطانيين حتى يتم الجلاء عن جميع الأراضي العربية، وأنه لابد من تهديد أمنهم وضرب مصالحهم والقيام بالأعمال الفدائية ضدهم وضد أعوانهم في كل مكان، سواء كان ذلك على أرض مصر أو خارجها، وأن مثل هذه الأعمال هي التي سيكون لها التأثير المباشر في تغيير الإنجليز لسياستهم، وزعزعة أمنهم واستقرارهم في مصر.
فقد جرب المفاوضون المصريون هذه المفاوضات، ومن أشهرها اتفاقية (1355 هـ= 1936 م) التي عقدها معهم "مصطفى النحاس باشا"، إلا أنه ما لبث أن ألغى هذه الاتفاقية؛ حينما وجد أنها لا تنفع مصر ولا مصالحها، بل تقدم الدعم للإنجليز وأعوانهم.
مفاوضات "محمود فهمي النقراشي"
وكان "محمود فهمي النقراشي" قد تولى رئاسة الوزراء الأولى له في مصر في شهر (ربيع الآخر 1364هـ= مارس 1945 م)، وتقدم إلى الحكومة البريطانية بمذكرة هزيلة؛ أطمع من خلالها الإنجليز، مما جعلهم لا يردون عليه بالقبول أو بالرفض، مما أثار عليه الشعب المصري وعلى رأسهم (الإخوان المسلمون)، فوقت العديد من المصادمات بين طلاب الجامعات المصرية وبين البوليس المصري في "القاهرة" و"الإسكندرية"، وكان من أشهر هذه الصدامات ما حدث في (7 من ربيع الأول 1365هـ= 9 من فبراير1946 م) عندما احتشد الطلاب في مظاهرة ضخمة وعند مرورهم على كوبري "عباس" قام البوليس المصري بأمر من "عبدالرحمن عمار بك" واللواء "سليم زكي باشا" بإطلاق النار على الطلاب وضربهم بالهراوات، مما دفع بعض الطلاب إلى إلقاء أنفسهم في النيل من شدة الضرب، وإطلاق الرصاص، وأُصيب (160) طالبًا إصابات بالغة الخطورة، لكن ذلك لم يثنِ الشعب المصري عن المقاومة؛ مما اضطر"محمود فهمي النقراشي باشا "إلى تقديم استقالته في (12 من ربيع الأول 1365هـ= 14 من فبراير 1946 م).
مفاوضات "صدقي"- "بيفن":
خارج القدس
وعندما تولى "صدقي" باشا رئاسة الوزراء خلفًا للنقراشي باشا في سنة (1365هـ=1946 م)، كان العالم العربي والإسلامي في ذلك الوقت في شدة الغضب من الممارسات البريطانية في فلسطين وما تقدمه "بريطانيا" لليهود في فلسطين من سلاح ومساعدات، ولكن حكومة "صدقي باشا" الذي كان لها موقف مريب في التفاوض مع الإنجليز، فقد سعت من خلال المفاوضات مع الإنجليز أن تحقق لهم أكبر قدر من الاستقرار والحرية في مصر، وتضمن لهم الحفاظ على مصالحهم في البلاد، وخرج ذلك في شكل اتفاقية أرمها كلٌّ من الطرفين أطلق عليها اتفاقية "صدقي"-"بيفن"، وقد أثارت هذه الاتفاقية سخط وثورة الشعب المصري بكل طوائفه، وكان (الإخوان المسلمون) أول من أدركوا ما وراء تلك الاتفاقية، ونبهوا إلى خطورتها والآثار المترتبة عليها، فقابلوها بالرفض والثورة على هذه الوزارة التي قدمت أكبر دعم للإنجليز بقيامهم بهذه الاتفاقية، مما دفع سبعة من أعضاء لجنة المفاوضات المصرية إلى الاستقالة من اللجنة احتجاجًا على أن مشروع المفاوضات لا يحقق الأماني الشعبية المصرية، فلما أصر "صدقي باشا" على السير في إبرام هذه الاتفاقية رغم المعارضة المصرية الواضحة له، تصدى له (الإخوان المسلمون)، ولم تهدأ ثورتهم حتى اضطر الملك إلى إقالته في (المحرم 1366هـ= ديسمبر 1946 م)، مما أنقذ مصر من هذا المشروع المضيع لحقوقها.
وزارة "النقراشي باشا" الثانية
أبناء فلسطين
وعندما تولى "النقراشي باشا" الوزارة للمرة الثانية سلك أسلوبًا جديدًا في معاملة الإنجليز، إذ رأى أن تعاونه معهم لن يجديه نفعًا أمام مقاومة وثورة الشعب المصري، فكان أسلوبه الجديد سببًا في تأييد (الإخوان المسلمين) له والوقوف بجانبه عندما بعث "مصطفى النحاس باشا" برقية إلى (مجلس الأمن) يندد فيها بحكومة "النقراشي باشا"، ويزعم أنها غير ديمقراطية، وأنها حكومة ديكتاتورية، مما دفع الشيخ "حسن البنا" المرشد العام للإخوان، أن يرسل برقية باسم "الإخوان المسلمين" يقول فيها:
"إلى جناب رئيس مجلس الأمن وسكرتير هيئة الأمم المتحدة...
يستنكر شعب وادي النيل البرقية التي بعث بها إلى المجلس وإلى هيئة الأمم المتحدة رئيس حزب الوفد المصري، ويراها مناورة حزبية لا أثر للحرص على الاعتبارات القومية فيها، وسواء كانت حكومة مصر ديمقراطية أو ديكتاتورية، فإن الشعب المصري يُعلن على الملأ أمام هيئة الأمم المتحدة أن ذلك أمر يعنيه وحده، وأنه لا يسمح لأي دولة أجنبية بالتدخل فيه ، فله وحده الحق في أن يختار نوع الحكم الذي يريده، طبقًا لميثاق الأطلنطي ومبادئ هيئة الأمم، وله وحده الحق في أن يعرض على حكومته ما يريد، وأن يؤاخذها على كل تقصير يراه".
وكان لوقوف (الإخوان المسلمين) بجانب "النقراشي باشا" أثر كبير في قيامه بإعلان قطع المفاوضات مع الإنجليز، وقطع صلته بهم في "هيئة الأمم المتحدة"، بل إنه شجع دعوة الإخوان للدفاع عن فلسطين ومساعدة إخوانهم في فلسطين، من خلال شراء الأسلحة أو جمع التبرعات.
وسمح لهم بجمع بقايا الأسلحة التي خلفتها الحرب العالمية من الصحراء الغربية، وفتح لهم أماكن للتدريب في "الهايكستب"، وفي الأقاليم المصرية، وسمح لهم بحشد المتطوعين والمجاهدين من كل مكان في مصر.
ولكنه ما لبث أن انقلب عليهم في أعقاب الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية في حرب (1367هـ= 1948 م) والتي شارك فيها (الإخوان المسلمون) بجانب الجيش المصري، ولمسوا كيف لعبت العمالة والخيانة دورًا خطيرًا في التخطيط لتلك النكبة، وحدوث تلك المأساة التي انتهت بتسليم فلسطين لليهود.
وأعلن "النقراشي" الحرب على (الإخوان المسلمين)، وأمر أن يجردوا من أسلحتهم، وأن يرسلوا من أرض المعركة إلى المعتقلات في مصر، وأمر بحل (جماعة الإخوان)، ومصادرة أموالها وممتلكاتها، وفي ثورة تلك الأحداث. وتصاعدت الأحداث حتى انتهت باغتيال الإمام "حسن البنا" على نحو غامض في مساء يوم السبت (14 من ربيع الآخر 1368هـ= 12 من فبراير 1949 م) وهو يغادر (جمعية الشبان المسلمين) بشارع رمسيس بالقاهرة.