الفصائل الفلسطينية بين الورقة المصرية والتخلي عن المقاومة
رغم كل ما أصاب لبنان واللبنانيين خلال السنوات الماضية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الا أن الصراع الداخلي لم يتحول الى حرب أهلية ولا الى اقتتال داخلي، وأمكن في النهاية اجراء انتخابات نيابية كانت نموذجية في حياد السلطة المشرفة، بصرف النظر عن ضخ المال السياسي وحدّة الاصطفاف الطائفي والمذهبي. واذا نظر المراقب الى طبيعة الصراع في عدد من أقطار العالم التي تحوّلت الصراعات داخلها من تعدد عرقي أو قومي أو طائفي أو سياسي الى حروب دموية وعبوات ومتفجرات متنقلة، من المؤسسات الحكومية الى المساجد والجامعات.. يمكن للبنانيين أن يحمدوا الله على السلامة، وأن عملية ادارة الصراع في لبنان بقيت عقلانية ومتحضرة، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.. والأمل كبير في أن يفلح المعنيون - غداً أو بعد غد - بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية الموعودة، بعد أطول فترة زمنية أمضاها «رئيس مكلف» من أجل إنجاز مهمته التي تجاوزت أربعة أشهر
القضية الأكثر حدة، التي يتطاير شررها من القاهرة هي المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، وبعبارة أخرى بين أصحاب الأكثرية النيابية في المجلس التشريعي (حماس)، وبين رأس السلطة الفلسطينية الذي انتهت ولايته (عباس). وقد زاد الأمر حدة وقسوة بعد العدوان الاسرائيلي الدموي على قطاع غزة، الذي استهدفته قوات الاحتلال بكل أشكال القصف والتدمير، براً وبحراً وجواً.. وبعد ثلاثة أسابيع من محاولات التقدم لم تستطع القوات الغازية تسجيل أي اختراق داخل القطاع المحاصر، رغم تواطؤ الجارة الكبرى «مصر» في إحكام الحصار وحرمان المحاصرين من أي دعم حتى لو كان اغاثياً أو انسانياً. وبعد تسعة أشهر من ذلك، وعقد مؤتمر شرم الشيخ من أجل اعادة اعمار غزة، وتخصيص مليارات الدولارات لتحقيق هذا الانجاز.. لكن الانقسام الوطني بين غزة والضفة، والسياسي بين فتح وحماس، ما زال يحول دون أي عملية انقاذ أو اعادة اعمار، بانتظار «المصالحة الوطنية» التي ترعاها الشقيقة الكبرى مصر، التي اكتسبت حقاً حصرياً في هذا المجال، من خلال تحكمها بالمعابر العربية بين غزة وسيناء، لأن أي عبور آخر يتحكم به العدوّ الصهيوني.
خلال الأشهر الماضية جرت عدة جولات للمفاوضات في القاهرة، حيث يتحكم الوسيط المصري عمر سليمان رئيس المخابرات العامة بهذا الملف، وبعد جولات قام بها الوسيط المصري الى رام الله ودمشق، وزيارة قام بها نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الى القاهرة، أعلنت مصر أنها تقدمت بمشروع للمصالحة، وأنها تنتظر موافقة الأطراف الفلسطينية عليه. في هذا الوقت برزت أزمة اقدام رئيس السلطة (محمود عباس) على سحب تقرير رئيس لجنة التحقيق التي شكلها مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة (ريتشارد غولدستون) قبيل التصويت عليه، مما جعل العدو الصهيوني يفلت من ادانة نادرة لممارسته الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، لا سيما ممارساته مطلع هذا العام في محاولات تدمير قطاع غزة وحمل أهله على الاستسلام.. مما حمل كل الفصائل الفلسطينية (ومعها بعض رموز حركة فتح) على ادانة هذا التصرف، كما أن هذه الفصائل ناقشت بنود الورقة المصرية التي تقدمت بها القاهرة، وسجلت ملاحظاتها على ما جاء فيها. وإمعاناً من محمود عباس في الانتقام ممن أدانوه وطالبوه بالاعتذار او الاستقالة، فقد أعلن أن حركة فتح وافقت على الورقة المصرية، وفي حال رفضت حماس التوقيع فإنه سوف يعلن عن موعد اجراء الانتخابات النيابية والرئاسية القادمة في 25 من شهر كانون الثاني القادم، بمعنى أن تجري في الضفة الغربية وحدها دون قطاع غزة، مما سوف يعمق الانقسام الفلسطيني، ويمنح عباس فرصة للايغال في مفاوضات التسوية العقيمة والتنازلات المتوالية عن الحقوق الفلسطينية، كحق العودة ومشروعية المقاومة.
هنا لا بدّ من التوقف ملياً عند الورقة التي وزعتها القاهرة على الفصائل الفلسطينية وتلقفتها حركة فتح ورحب بها عباس. فهي أولاً لا تعطي حكومة اسماعيل هنية (المقالة) أي دور في ادارة العملية الانتخابية، مع أنها هي الحكومة الشرعية التي حازت ثقة المجلس التشريعي الذي تتناوب سلطات الاحتلال مع السلطة الفلسطينية أمر اعتقال أعضائه، وقد منعت هذه الأخيرة رئيسه المنتخب د. عزيز دويك من دخول مكتبه في رام الله. وتتحدث الورقة عن تشكيل لجنة برئاسة عباس (المنتهية ولايته) للاشراف على الانتخابات، بالشراكة مع اشراف مصري وعربي، لتأتي شبيهة بالانتخابات التي تجرى في العالم العربي. أما فيما يتعلق بالمقاومة ومشروعيتها، فإن الورقة تحصر حق امتلاك السلاح وحمله بالأجهزة الأمنية، وتحدثت عن ثلاثة آلاف منهم يعودون الى قطاع غزة، دون أية اشارة الى أحد عشر ألف رجل أمن هم أعضاء المؤسسة الأمنية في قطاع غزة. أما في الضفة الغربية فليست هناك أية اشارة الى اعادة تشكيل الأجهزة، وتنص الورقة على: 1) احترام الأجهزة لحق الشعب الفلسطيني في المقاومة، 2) حظر اقامة أي تشكيلات عسكرية خارج اطار الهيكلية المقررة للأجهزة الأمنية، 3) تجريم استخدام السلاح وتحريمه خارج المهمات الوظيفية.. فأين هي المقاومة وأين حقها وميدان عملها؟! سوف يكون الأمر منوطاً بمجموعات الضفة الغربية، التي تنسق مع قوات الاحتلال، للقيام بأعباء المقاومة.
يشير مقال للاستاذ فهمي هويدي نشره في «السفير» يوم 20/10 الى ما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت لرئيس جهاز الموساد السابق (25/5/2009)، ذكر فيه أن اسرائيل تقوم بإجراء فحص أمني لجميع المنتسبين للأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي يشرف على تدريبها الجنرال الأميركي المقيم في تل أبيب كيت دايتون، لتكون نموذجاً للفلسطيني الجديد كما تريده اسرائيل!!
اذا كان هذا ما تريده السلطة الفلسطينية ومصر من ورقة المصالحة الوطنية، فإن من الأجدى بحركة حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة ان ترفض هذه الورقة، أو أن تتخلى حركة حماس عن دورها في السلطة الذي منحتها اياه نتائج الانتخابات الحرة التي جرت مطلع عام 2006، وان تعود الى المقاومة والى صفوف الشعب الفلسطيني. ولعل هذا ما تريده مصر وسلطة محمود عباس، ومن ورائهما النظام العربي والمؤسسات الدولية، الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
روابط ذات صلة :
المصدر:
مجلة الأمان 23 تشرين الأول 2009م الجمعة 4 ذي القعدة 1430هـ السنة 17 العدد 879 بقلم رئيس التحرير ابراهيم المصري