القدس والأقصى والمشروع الصهيوأمريكي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد؛
فمَنْ حَفِظَ الْأَعْدَاءَ يَوْمًا ضَاعَا
إن الأمة الحية والواعية لا تختلط عليها الأولوياتُ، ولا يمكن خداعُها عن قضاياها الكبرى، ولا يمكن تغييبُها عن إدراك الأخطار المحدقة بها، ولذلك فهي تلبس لكل حال لَبُوسَها، وتعد لكل معركة سلاحها، فإذا اغتصب عدوُّها أرضها ودنس مقدساتها، وعمل على تغيير هويتها، وطرد أهلها وارتكب فيها آلاف الجرائم ضد الإنسانية، فلا جدوى من محاولة التفاهم معه، ولا معنى لاستجداء الصلح الذليل منه، وقديماً قال العربي لمن استعلى عليه:
ليس بيني وبين قيسٍ عتاب
- غير طعن الكُلى وضرب الرقاب
وذلك هو ما ينبغي على أمتنا وعلى قادتها أن تدركَه تمام الإدراك وهي تنازل عدوًّا أثيمًا، انتهك كلَّ الأعراف والمواثيق الإنسانية والدولية، وأخرج لسانه لكل القرارات الدولية، وعدَّها مجرد حبر على ورق، وأذن لجنوده - بل أمرهم - أن يقتلوا النساء والأطفال والشيوخ، وارتكب جرائم الحرب أمام بصر العالم وسمعه، عبر الشاشات والإذاعات التي وثقت بعض جرائمه، ونقلت للدنيا بعض الشهادات الواقعية العينية على فظائعه، الأمر الذي استفز كثيرين من أصحاب الضمائر الحية، وهزَّ بقوةٍ مشاعرَ الإنسانية عند كثير من الشرفاء في هذا العالم، فتنادوا لإدانة هذا العدوان الأثيم، ومحاسبة المجرمين على هذه الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، وبعد جهاد كبير ودأب رائع ومثابرة عجيبة، استطاعوا أن يجمعوا بعض أدلة الإدانة لهذا الإجرام الصهيوني الفاحش، وكادوا يقدمون قادة الإجرام لمحاكمة دولية كان أقلُّ نتائجها فضحَ هذا الكيان المجرم، وتعريتَه أمام الرأي العام العالمي، وكشفَ حقيقته أمام الدنيا بأسرها، وإبطالَ الزيف والزور الذي خدع به كثيرا من الناس، لولا أن فئةً ممن استأمنتهم الأمة على قضيتها رأت أن تقدم للمجرمين هدية على طبق من ذهب، فطلبت تأجيل أو سحب التقرير الدولي من المناقشة والعرض على مجلس الأمن؛ على أمل أن تُكَافَأَ بسلامٍ موهومٍ وتسليمٍ صهيونيٍّ بشيءٍ من الحقوق، وهو ما لن يكون أبدا، فالحدأة التي اختطفت الكتكوت لا يعقل أن تلقيه طوعا أو بالاستجداء، بل لا سبيل لاستنقاذه منها إلا بالقوة، ويرحم الله أمير الشعراء حين قال: "مَنْ حَفِظَ الْأَعْدَاءَ يَوْمًا ضَاعَا".
أين الأمة من أقصاها وقضيتها الكبرى؟
لقد استغل المجرمون الصهاينة هذا الاستخذاء العربي الفلسطيني، فراحوا يسارعون الخطى في الوصول لغاياتهم الدنيئة، بإنهاء الوجود الفلسطيني العربي الإسلامي في القدس الشريفة، وإنهاء قضية المسجد الأقصى، لولا أن تصدى لهم رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، رابطوا في الأقصى، وصدوا بأجسادهم هجمة قطعان الصهاينة المجرمين، وأفشلوا كل محاولاتهم لدخول الأقصى وإخراج أهله منه، مما اضطر الصهاينة للانسحاب المؤقت، وتأجيل الفصل الأخير من المؤامرة إلى حين.
ومن غريب وعجيب ما تناقلته الأخبار أن ذات الفئة التي طلبت سحب تقرير جرائم الحرب الإنسانية لم تَرَ فيما حدث ويحدث للأقصى أمرا يستوجب دعوة القمة العربية للانعقاد، ولا سببا للشكوى في المحافل العربية أو الإقليمية أو الدولية، وكأن محاولات هدم المسجد الأقصى المبارك، وحفر عشرات الأنفاق تحته، وعمليات طرد أصحاب الأرض المقدسة وهدم منازلهم أمر لا يستحق عناء الطلب لعقد قمة عربية أو إسلامية؛ للنظر فيما يمكن فعله لمواجهة الخطر الداهم على مقدسات الأمة.
المشروع الصهيو أمريكي يستهدف الأمة بأسرها
لا يقل الموقف الرسمي العربي والإسلامي استغرابا عن موقف السلطة الفلسطينية، فهم يحاولون تسويق قضية الأقصى والقدس وفلسطين على أنها قضية فلسطينية محلية، لا داعي للتدخل (أو التورط) فيها، وذلك هو الخلل الكبير الذي ننبه عليه ونحذر منه، فإن القضية قضية العرب والمسلمين جميعا، ومسؤولية الأنظمة والشعوب مجتمعة، وإذا كان الفلسطينيون هم حائطَ الصدِّ الأمامي في مواجهة المشروع الصهيوأمريكي العنصرى الاستعماري، فإن الخطر لا يستهدفهم وحدهم، بل يستهدف الأمة بأسرها تاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا، ويستهدف دينَها وعقيدتَها، وقيمَها وأخلاقَها وحضارتَها، ويستهدف كرامتَها وأمنَها واستقرارَها، ويستهدف أنظمتهَا وشعوبَها، وليس الكيان الصهيوني المجرم إلا إحدى الحراب التي تُرْمَى بها الأمة، وإذا سقط الأقصى والقدس وسقطت قلعة النضال في فلسطين - لا قدَّر الله - فسوف تسقط من ورائها - لا سمح الله - عواصمُ العرب والمسلمين؛ لأن المشروع الاستعماري الغربي لا يستهدف فلسطين وحدها، وإن كانت فلسطينُ هي قلبَ الصراع ولُبَّه، وإنما يستهدف الأمة بأسرها، وعلى الأمة أن تقف خلف الجهاد الفلسطيني داعمة ومساندة، لتدافع عن نفسها ووجودها، قبل أن تصل نار الاستعمار إلى عواصمها ومدنها وقراها، فلا يزال حلم إسرائيل الكبرى يداعب خيال ساسة الصهاينة، ويتجدد كلما رأوا ترددا وتخاذلا وضعفا في الأمة، فهل ينتظر العقلاء ولا يطفئون النار، ولا يتحركون، إلى أن تصل النار إلى بيوتهم، فيعجزوا عن إطفائها، ويندموا حين لا ينفع الندم!
يذكر لنا التاريخ أن أحد المخلصين حين رأى بوادر التمرد على الدولة الأموية؛ بادر وكتب إلى مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين يقول:
أرى تحت الرمادِ وميضَ نار
- فيُوشك أن يكون لها ضِرامُ
فإن النارَ بالعِيدَان تُذْكَى
- وإن الحربَ أولُّها كلامُ
فإنْ لم يُطْفِئْهَا عقلاءُ قومٍ
- يكون وَقُودَهَا جثثٌ وهَامُ
أقول من التعجب: ليت شعري
- أَأَيْقَاظٌ أميةُ أم نيامُ؟
فإنْ كانوا لِحَيْنِهمُوا نِيامًا
- فقُل: قوموا؛ فقد حان القيامُ
ومع أن التحذير وصل لرأس الدولة فقد دفعه الاستبدادُ بالرأي وسوءُ التقدير للعواقب إلى إهمال التحذير، حتى سقطت دولتُه، وغربت شمسُ خلافته، ولما سُئل: ما الذي أضعف مُلْكَك بعد قوة السلطان وثبات الأركان؟ قال: "الاستبدادُ برأيي".
فهل تعي الأنظمة العربية والإسلامية هذا الدرسَ، وتلقي بالاً لهذا التحذير المخلص، أم تكرر ذات الخطأ وتواجه ذات المصير؟
وهل تدرك الأنظمة العربية والإسلامية مدى تعلق وارتباط جماهير الأمة بالقدس والأقصى، وأن بقاءها مرهون باتخاذ الموقف الصحيح من قضايا الأمة، وعلى رأسها قضية الأقصى وفلسطين، وأنه لن تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تحمي هذه الأنظمة من غضبة الشعوب التي لن تقبل مطلقا بسقوط القدس والأقصى، والتي لا يعلم إلا الله كيف سيكون ردُّها على مَنْ فرَّط في مقدساتها وخان قضيتها.
ولا أظن أنه يخفى على كل العقلاء في الأمة من النخبة والمثقفين وقادة الرأي أن ثمة رابطا واضحا بين ما يجري في فلسطين وما يجري في أنحاء العالم العربي والإسلامي، سواء ما يحصل من غزو أمريكي غربي كما هو الحاصل في العراق وأفغانستان، أو ما يجري من تأجيج للصراعات الداخلية كما هو الحال في السودان والصومال واليمن وباكستان وغيرها، أو ما يحاك من مؤامرات للإيقاع بإيران، أو ما يتم من ملاحقات وتضييق على الوطنيين والإسلاميين ودعاة الإصلاح في مصر وتونس وغيرها، أو ما يجري من غض الطرف عن تزوير لإرادة الأمة وتزييف للانتخابات هنا وهناك؛ حتى لا يتسلم أمرَ الأمة المخلصون لقضاياها، والمدافعون عن حرماتها ومقدساتها. أو ما يحصل من تدمير لقيم الأمة وأخلاقها وثقافتها وهويتها، وفرض للقيم الغربية والأخلاق الإباحية على المجتمعات الإسلامية، فذلك كله يتم في إطار تنفيذ المشروع الصهيوأمريكي الاستعماري.
المشروع الصهيوني خطر على الدنيا بأسرها
يدرك العقلاء في هذا العالم أن المشروع الصهيوني هو مشروع عنصري استعماري، وأن ما يرتكبه يوميا من جرائم في فلسطين عار على البشرية كلها، وطعن لكل المواثيق والأعراف الإنسانية، ومناقضة لكل القيم النبيلة التي يؤمن بها العالم الحر، وأن بقاء هذا النظام العنصري الذي لا يعرف غير لغة القتل يهدد الأمن والسلام الدوليين، ولهذا فإن الأحرار في هذا العالم مطالبون بالوقوف صفا واحدا أمام سفاكي الدماء والسفاحين الذين يقودون هذا الكيان الغاصب، ومطالبون بمناصرة الحق الفلسطيني الواضح، والمساعدة في إنقاذ الشعب الفلسطيني المظلوم، ومطالبون بتجاوز الإدانات اللفظية إلى اتخاذ مواقف عملية لإقرار الحقوق، ونشر ثقافة العدل والحرية والإنسانية في أرجاء المعمورة، وعلى الشعوب الغربية أن تمارس دورها في الضغط على الحكومات الغربية لتتوقف عن مساندة الكيان الصهيوني في عدوانه، وممالأته على ظلمه وطغيانه، وتدليله واعتباره كيانا فوق القانون.
تحية ورجاء
نحن ندرك أن كثيرا من الأحرار والشرفاء في العالم الغربي يدركون هذا، وكثير منهم كان له دور كبير وجهد مشكور في جمع الحقائق التي تدين الكيان الظالم فيما فعله بأهل غزة الصابرين، ونحن نتوجه بالتحية إلى كل الهيئات والأفراد الذين تحركوا لنصرة الحق، ونشد على أيديهم، وندعوهم إلى الثبات على مبادئهم الإنسانية السامية، وعدم اليأس أو الإحساس بالفشل أمام ما حصل وما قد يحصل من اختراق صهيو أمريكي للصف العربي وال[فلسطين]ي، فإن هؤلاء الذين يمالئون العدو الصهيوني لا يمثلون الأمة، وإنما يمثلون أنفسهم والجهات التي تحمي كراسيهم وتدفع أجورهم؛ لتبتزهم وترتهن مواقفهم لغير صالح أمتهم وشعبهم. أما الفلسطينيون المؤمنون بقضيتهم والمخلصون لشعبهم وأمتهم؛ فإنهم مع سائر شعوبنا العربية والإسلامية يقدِّرون الجهود التي بذلها ويبذلها الشرفاء لإقرار الحق ورد الظلم ومحاسبة المعتدي.
وإنا لعلى يقين أن النصر في النهاية للحق والخير والعدل والنور، كما وعد الله تبارك وتعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51).
والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة في: 26 من شوال 143هـ الموافق 15 من أكتوبر 2009م.
المصدر:
رسالة الإخوان 16 أكتوبر 2009م - 27 شوال 1430 هـ العدد 612 الرسالة الأسبوعية لفضيلة المرشد