حماس بعد عشرين عاماً على الانطلاقة
مؤخراً أكملت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عشريتها الثانية، هي التي انطلقت يوم 14/12/1987. والحال أن الحركة لم تنطلق في التاريخ المذكور، بل قبل ذلك بعقود، فهي لم تتأسس كما هو حال حركة فتح من مجموعة من الأشخاص، بل ورثت تنظيماً كاملاً كان قد تبلور خلال سنوات طويلة تحت لافتة الإخوان المسلمين في قطاع غزة والضفة الغربية، وإن لم تكن اللافتة معلنة بالكامل بسبب الخوف من بطش عبد الناصر خلال الستينيات، ولتجنب إثارة الاحتلال، وكذلك القوى الوطنية واليسارية في مراحل النمو الأولى.
كان الشهيد أحمد ياسين قد بدأ المسيرة مبكراً، ومعه آخرون، وبالطبع في مجتمع لم تغب عنه الحركة الإسلامية فقط، بل التدين بشكل عام، أعني خلال الستينيات وحتى منتصف السبعينيات. وكان عليه أن يستهلك ردحاً طويلاً من الزمن، ويبذل الكثير من الجهد قبل أن يؤسس لنفسه إطاراً معقولاً يوفر له فرصة الانطلاق نحو آفاق جديدة.
مطلع الثمانينيات شعر الشيخ أن شجرته قد نضجت وأينعت، وآن أوان الانطلاق نحو برنامج مقاومة الاحتلال، فكانت نواة التنظيم المسلح عام 82 والتي ما لبثت أن وقعت في قبضة الاحتلال، وصولاً إلى اعتقال الشيخ والحكم عليه بالسجن ثلاثة عشر عاماً، قبل أن يخرج بعد ذلك بثلاث سنوات في عملية تبادل الأسرى مع الجبهة الشعبية عام 86.
عاد الشيخ يجهز البناء ويرعاه، إلى أن جاءت لحظة الانطلاقة مع اندلاع الانتفاضة الأولى التي خرجت من المساجد في مخيم جباليا وعلى رأسها رجاله ومريدوه. حدث ذلك فيما كانت الحركة الوطنية الفلسطينية في وضع سيئ بعد الخروج من بيروت، بينما كانت أطر الداخل التابعة لها عاجزة عن مباشرة فعل نضالي مكلف للاحتلال.
منذ بداية الانتفاضة الأولى، برزت حماس كرقم صعب يوازي جميع القوى الوطنية بما فيها حركة فتح، وكانت للحركة بياناتها الخاصة وإضراباتها وفعالياتها، وعلى هذه الخلفية بدأ مسلسل المطاردة الإسرائيلية للحركة والذي صار أكثر شراسة بكثير بعد تغيير الحركة برنامجها النضالي إثر إدراكها حقيقة أن الحجارة وحدها لم تعد مؤثرة ولا مكلفة للمحتل، حيث تم استيعابها عملياً على نحو حولها عن طريق جيش العملاء، إلى جانب الزعران المتلفعين بثوب النضال، إلى عبء على الفلسطينيين.
مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، جرى تأسيس الجهاز العسكري في الحركة (كتائب الشهيد عز الدين القسام) وليبدأ الفعل العسكري في القطاع وصولاً إلى الضفة الغربية، وهو واقع سرّع، إضافة إلى عوامل أخرى، في عقد اتفاق أوسلو بعد أن أدرك الإسرائيليون خطورة حرب الاستنزاف الجديدة، فيما وفرت لهم وقائع ما بعد الحرب الباردة وحرب الخليج، ولهاث منظمة التحرير خلف الاعتراف الدولي، فرصة عقد اتفاق بائس يخدم برنامجها للتسوية وأحلامها بالسيطرة على المنطقة.
مع عملية الإبعاد الكبرى عام 92، وانطلاق مسلسل العمليات الاستشهادية كانت حماس قد أصبحت الرقم الصعب في المعادلة الفلسطينية، لكن الواقع العربي والدولي ظل على انحيازه إلى فتح ومنظمة التحرير، فكان اتفاق أوسلو الذي طارد خلاياها المسلحة، بل وبنيتها التحتية أيضاً، لكن تجذّر الحركة في الواقع الفلسطيني كان أكبر من قدرة أي حرب على تحجيمها، بل إن شعبيتها كانت في تصاعد تبعاً لمعاناتها من قمع الاحتلال وسلطة أوسلو الفاسدة في آن معا. وقد كان قرار الحركة بمقاطعة الانتخابات عام 96 صائباً كما أثبتت الوقائع بعد ذلك، إذ كانت المشاركة فيها تعني التأمين على مسار أوسلو ومفرداته.
إثر وصول مشروع أوسلو إلى الجدار المسدود في قمة كامب ديفد صيف العام 2000، اندلعت انتفاضة الأقصى نهاية سبتمبر/ أيلول من ذات العام، وفيها استعادت حماس، وهذه المرة ضمن وحدة وطنية مميزة، زخمها الجهادي، فكانت المرحلة الأكثر أهمية وروعة في تاريخ النضال الفلسطيني برمته.
وفيما شعر العدو بثقل التهديد الوجودي الذي مثلته الانتفاضة بزخمها الاستشهادي وما ترتب عليها من خسائر سياسية وتدهور لمكانة دولته في أوساط الرأي العام الدولي، فقد قرر الرد في اتجاهين: الأول إعادة الاحتلال المباشر لمدن الضفة الغربية من جديد ربيع العام 2002، ومن ثم حصار ياسر عرفات في المقاطعة.
أما الثاني فإعلان قرار الانسحاب الأحادي من قطاع غزة عام 2003، وتهيئة الأجواء لتنفيذه باغتيال قادة حماس الكبار واحداً إثر الآخر، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، وليتبعهم بعد ذلك بياسر عرفات مهيئاً الأجواء في ظل أجواء احتلال العراق وتراجع الوضع العربي لمرحلة سياسية جديدة يتصدرها من رفضوا المقاومة المسلحة (العسكرة بتعبيرهم) خلال انتفاضة الأقصى.
أجريت الانتخابات الرئاسية لمنح الوضع الجديد شرعيته، وحصل الرئيس على تهدئة لإطلاق المفاوضات مطلع العام 2005، ثم كانت الانتخابات التشريعية مطلع العام 2006 بهدف الحصول على تفويض شعبي لبرنامج التفاوض، فكانت النتيجة المفاجئة التي أربكت الوضع برمته.
منذ البداية كان رأينا أن قرار المشاركة في الانتخابات لم يكن صائباً بحال، فهنا ثمة انتخابات تحت سقف اتفاق أوسلو الذي وضع السلطة وقيادتها رهائن بيد المحتل ومن يقدمون لها المساعدات (الأميركان والأوروبيون) فيما يعلم الجميع أن معادلة الجمع بين السلطة والمقاومة هي أقرب إلى المستحيل منها إلى الحقيقة.
الآن، وبعد هذه التجربة المريرة ووجود 42 من نواب الحركة بالضفة الغربية في السجون، إلى جانب مئات المعتقلين لدى السلطة، وما جرى منذ الفوز بالانتخابات ومن ضمنه الحسم العسكري في القطاع، وما ترتب عليه من خسائر سياسية، يمكن القول إنه آن أوان الاعتراف بخطأ التقدير السياسي الذي قاد هذه المرحلة التي عكست في جوهرها روحية التعاطي مع واقع قطاع غزة تبعاً لوهم تحرره من الاحتلال، وليس عموم القضية الفلسطينية. مع العلم أن القطاع لم يكن يوماً أسّ الصراع، ولطالما تمنى الإسرائيليون أن يبتلعه البحر.
أياً يكن الأمر فما جرى منذ مطلع العام 2006 لا يضرب حركة كبيرة ورائعة بحجم حماس (مهرجان الانطلاقة في غزة يوم السبت 15/12 شاهد على استمرار الشعبية). وقد تكون له حسنة تعطيل مشروع الدولة المؤقتة الذي رسمه شارون (إلى الآن على الأقل) وهو مشروع كارثي يؤبّد النزاع على أساس فاسد يتمثل في دولة منزوعة السيادة على قطاع غزة وما يتركه الجدار من الضفة الغربية (ثمة هراء ينشره بعضهم حول موافقة حماس على الدولة المؤقتة بناء على وثيقة قيل إن أحمد يوسف قد توافق عليها مع جهات أوروبية، مع العلم أن الرجل ليس مخولاً بالحديث باسم حماس، فيما أعلنت الحركة مراراً وتكراراً تنصلها من هذا الأمر، ورفضها الفكرة برمتها، مع العلم أن هجاء القوم للموقف لا يتم حرصاً على القضية وإنما خوفاً من المنافسة في ذات المربع التفاوضي).
نعم، ما جرى منذ الانتخابات كان ينطوي على بعض الأخطاء التي أساءت للحركة وتراثها، لكن ذلك لا يقال إلا لأن الحركة بتراثها الرائع من الدم والشهداء والبطولة والتضحيات قد حظيت بمكانة في ضمير الأمة لم تحظ بها أية حركة أخرى على الإطلاق، كما شكلت رافعة مهمة للظاهرة الإسلامية برمتها.
إن حركة لها كل هذا التراث الرائع لا يمكن أن تتراجع مكانتها بين الفلسطينيين، وفي الوعي الجمعي للأمة، لمجرد ارتكابها بعض الأخطاء التي جاء أكثرها في سياق ردود الفعل على الاستهداف المبرمج.
وفي العموم فإن حركة يستهدفها الكيان الصهيوني ومعه الولايات المتحدة إلى جانب العديد من الدوائر العربية، لا يمكن أن تتراجع مكانتها، لاسيما أن عنوان بوصلة وعي الجمعي للأمة هو الوقوف في المعسكر المقابل للمعسكر الأميركي الصهيوني، فكيف حين يكون الطرف المنافس لها في الساحة الفلسطينية مقيماً على عبثيته السياسية، فيما يطارَدُ مجاهدو الحركة ومؤسساتها لحساب الاحتلال في الضفة الغربية (تنفيذ البند الأول من خريطة الطريق).
في المقابل ينبغي الاعتراف بأن جذر الأخطاء التي ارتكبت من طرف حماس إنما يتمثل في وهم السلطة الذي سيطر على البعض في قطاع غزة، في تجاهل لحقيقة أن الضفة الغربية ما تزال بالكامل تحت الاحتلال، مع العلم أن القطاع ليس سوى واحد ونصف في المائة من مساحة فلسطين، وستة في المائة من الأراضي المحتلة عام 67، وليس هو لب الصراع، ولا يغير ذلك بالطبع في حقيقة أن تحريره قد وقع بالفعل بقوة المقاومة والصمود والتضحيات وليس التفاوض.
الصراع بين الأمة وبين مشروع الاحتلال الصهيوني ما يزال في ذروته، ومن يعتقد بأن الانسحاب من القطاع قد غيّر الكثير في أسس الصراع فهو واهم، ولما كان الأمر على هذا النحو فإن المقاومة هي السبيل الوحيد، وأقله الأساسي في التعامل مع ذلك الاحتلال.
لقد آن أوان الاعتراف بأن مشروع السلطة هو مشروع مصمم لخدمة الاحتلال، وقد كان المحللون الإسرائيليون يسمون سيناريو حل السلطة بأنه "السيناريو الكابوس"، وحماس لن تتمكن من حرف مشروع السلطة عن وجهته التي صيغ من أجلها. أما الديمقراطية تحت الاحتلال فهي وهم آخر أريد من خلاله استدراج حماس بعيداً عن ميدان المقاومة.
خلال ما يقرب من عامين من دخولها الانتخابات وقع تراجع في خطاب حماس السياسي، وبدأنا نتابع أدبيات لا تنتمي إلى تراث الحركة. صحيح أن حماس لم تعترف بشرعية الاحتلال، لكن مضمون الكلام في عدد من الوثائق، وعلى رأسها وثيقة حكومة الوحدة الوطنية كانت تفعل ذلك على نحو من الأنحاء.
لا يعيب حماس أن تراجع مسيرة العامين الماضيين، لكن ذلك لن يحدث من دون الاعتراف بوجود الخطأ، ومن ثم العمل على إعادة الصراع والمسيرة برمتها إلى سكتها الصحيحة، فتراث أحمد ياسين والرنتيسي هو أمانة بيد قيادتها في الداخل والخارج، وهم لن يحافظوا على ذلك التراث إلا بالخروج من وهم السلطة، والعودة إلى ميدان المقاومة بما تيسر، هي التي لم تغادره رغم كل شيء، وفي العموم فإن مسيرة المقاومة تتقدم وتتراجع بحسب الظروف.
المهم أن تبقى الراية مرفوعة، وقد فعلت الحركة ذلك من قبل عندما قاطعت الانتخابات عام 1996، واستمرت في برنامج المقاومة في الحد الأدنى إلى أن اصطدم أوسلو بالجدار المسدود صيف العام 2000.
من إشكالات السلوك السياسي لحركة حماس منذ عامين، بخاصة بعض رموزها والمتحدثين باسمها، ما يمكن القول إنه تجريب المجرّب، ولو كانت سياسة التفاوض والتنازلات والتقرب من الغرب تأتي بنتيجة لحصل عليها ياسر عرفات، بل لحصل عليها محمود عباس الذي يبدي قابلية غير مسبوقة للتنازل في تاريخ النضال الفلسطيني.
بعد عشرين عاماً على انطلاقتها تقف حماس أمام مفترق طرق صعب، فهي من جهة تقبض على تراث رائع من البطولة والتضحية جعلها الحركة الأكثر شعبية في العالم الإسلامي، فيما تعيش أزمة بدأت تطرح الكثير من الأسئلة حول دورها وحضورها، لأن الجماهير لا تمنح أحداً شيكاً على بياض، بل تبايع على أساس خطاب معين، وتسحب بيعتها إذا تغير.
كلنا ثقة في أن هذا التراث الرائع لن يضيع، وأن قيادة الحركة ستعيد ترتيب أوراقها من جديد على نحو لا يستعيد فحسب مكانتها الأصيلة التي لم تتراجع سوى على نحو هامشي، خلافاً لما يروج مناهضو برنامجها، بل يضيف إليها مزيداً من المكانة والحضور، لأن الخطاب الإسلامي المقاوم هو وحده القادر على تحرير فلسطين واستعادة الكرامة. وما يزيدنا ثقة في ذلك هو المصير المحتوم لبرنامج التفاوض، بل لعموم المشاريع الأميركية الإسرائيلية في المنطقة.
حماس رأس حربة الأمة في مواجهة المشروع الصهيوني الأميركي، وهي في حاجة إلى دعم رموز الأمة وجماهيرها وحركاتها، تماماً كما هي بحاجة إلى النصح والتصويب إذا أصاب مسيرتها بعض الخلل.
موضوعات ذات صلة
- حماس بين المقاومة والسلطة.. عام بعد التفرد بحكم غزة
- حماس في القاهرة بين المطرقة والسندان
- حماس و إسرائيل أفاق التهدئة أم التصعيد
- حماس وإسرائيل.. الضربة وليس الصفقة
- حماس والخيارات الصعبة
- حماس والهدنة في النقاش الداخلي الصهيوني
- حماس وخطى منظمة التحرير
- حماس وموسم القرارات الجريئة
- حماس.. النشأة والتكوين والمسيرة..
- حماس.. بين الخيارات الصعبة والقرار الأصعب
- حماس.. مراجعات سياسية وعسكرية