حماس وإسرائيل.. الضربة وليس الصفقة
حماس وإسرائيل.. الضربة وليس الصفقة
الكثير من الأحاديث والنقاشات تدور في هذه الأيام بين الأوساط السياسية والإعلامية، الفلسطينية والإسرائيلية، حول مستقبل العلاقة بين قوى المقاومة الفلسطينية، لا سيما حركة حماس، والدولة العبرية وعلى رأسها الجيش الإسرائيلي الذي يستعد في الأسابيع القليلة القادمة لإجراء أكبر تدريبات ومناورات عسكرية منذ 60 عاما.
والحقيقة أن شكل العلاقة بين الجانبين ليس مرتبطا بهما وحدهما فقط، بل إن هناك ملفات شائكة ومعقدة أقرب ما تكون للانفجار في هذه المنطقة المشتعلة دائما، وبالتالي ستؤثر بالسلب حتما -على الأرجح-على طبيعة العلاقة إياها وشكلها.
ضرورات الضربة
الرأي السائد في إسرائيل اليوم، وعلى مختلف المستويات، لاسيما الأمنية والعسكرية، يجمع على أنه لا مفر من توجيه ضربة عسكرية قاصمة لحركة حماس في قطاع غزة، لاعتبارات كثيرة، سياسية وعسكرية وأمنية، وإن شئتم إستراتيجية، وهي على النحو التالي:
أولا: في ظل التحدي الذي يعلنه الجناح العسكري للحركة -كتائب القسام- صباح مساء للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وما تتفتق عنه قرائح المقاومين من تصنيع وتطوير متسارعين لما بين أيديهم من وسائل عسكرية وأدوات قتالية، وكان آخرها إجبار مروحية إسرائيلية على الهبوط الاضطراري في سماء غزة، هي وسائل بدائية نعم، لكنها ليست عبثية بحال من الأحوال.
ولذلك لم يكن غريبا أن تبدأ التحذيرات الإسرائيلية، لاسيما تلك الصادرة عن الأجهزة الأمنية، جهازي الشاباك وأمان تحديدا، بأن حركة حماس – شئنا أم أبينا- في طريقها لما وصفه بـ"الحزبلة"، أي أن تكون نموذجا لحزب الله، تدريبا وتأهيلا وتطويرا وإعدادا.
ثانيا: "الحماس" الإسرائيلي لضرب حماس يأتي من اعتبارات سياسية، فضلا عن العامل العسكري الذي ذكر آنفا، ويتعلق بضرورة القضاء على نموذج "حماس السلطة"، وهذا بالمناسبة ليس قناعة مني بأن حماس في السلطة قد وصلت مبتغاها بقدر ما يكون قد "تورطت" في مستنقعها.
لأن بقاء الحركة على رأس مشروع سياسي أريد من إنشائه قبل 15 عاما أن يكون وكيلا أمنيا للاحتلال، معناه أن الحركة استطاعت في قلب السحر على الساحر، وهو ما يعلنه قادتها بأنهم سيكونون إلى جانب المقاومة، يحمونها، يساندونها، الأمر الذي وجد ترجمته في "الأريحية" الميدانية التي تجدها الأجنحة العسكرية في قطاع غزة.
ويقارن الإسرائيليون نموذج سلطة حماس في غزة بما هو عليه الحال في سلطة الضفة الغربية التي تشهد ملاحقات متواصلة لنشطاء المقاومة، وتجريدا لأسلحتها، واعتقالا -بل ومحاكمات- لمنفذي العمليات الفدائية فيها، ترى أي النموذجين المفضل إسرائيليا!
ثالثا: وهنا مربط الفرس -كما يقولون- بات الحديث الإسرائيلي مؤخرا، ولعل المتابع لما تصدره دوائر البحث والتخطيط، ومراكز الاستشارات الإستراتيجية في الدولة العبرية، يرى أن التقدير الإسرائيلي لحركة حماس لم يعد محليا جغرافيا، أو آنيا زمنيا.
بمعنى أن التحذيرات باتت تتجاوز الخطر المؤقت في بضعة صواريخ أو مجموعة من المقاتلين المدربين التابعين لحماس، إسرائيل اليوم تتحدث عن حماس كونها خطرا إستراتيجيا على الدولة، أكثر من ذلك صدرت بعض التحذيرات التي ترى في الحركة خطرا وجوديا عليها.
رابعا: وهنا الضرورة السياسية التي يفرضها ويدفع باتجاهها الإقليم العربي المجاور لحماس -دول الطوق هل تذكرون؟- والأمر الذي لم يعد سرا أن الرغبة الجامحة المتصاعدة التي تحيط بزعماء وقادة بعض هذا الإقليم ربما تتجاوز الرغبة الإسرائيلية بإزالة حكم حماس وإسقاطها، بل ومحوها عن الوجود!
وإلا ما الذي يفسر ذلك الصمت الذي يرقى في بعض مراحله لحد التواطؤ عن المحرقة التي ضربت غزة قبل أسابيع؟ ولماذا جاءت النخوة العربية متأخرة للحديث عن التهدئة حين ضربت المقاومة في العمق الإسرائيلي؟
ربما تبدو مفارقة تساوق بعض الرغبات العربية مع المطلب الإسرائيلي في ضرورة توجيه الضربة الكبرى لحركة حماس، حتى لو كان ذلك ضمن مطالبة الإسرائيليين بـ"تجنيب" المدنيين آثار العدوان، يعني لو أن الضربة الإسرائيلية استهدفت القضاء على المقاومين، مقاوما تلو الآخر، وهدمت المنازل على رؤوسهم، ودفنتهم أحياء، فلا بأس!
معوقات الصفقة
السؤال الذي يطرح نفسه على صناع القرار في الدولة العبرية، ما الذي يجبرهم على خوض مواجهة قد لا تبدو مضمونة أمام حماس في هذه المرحلة بالذات، ولماذا لا يستبدلون هذه المواجهة باتفاق ما، أيا كان شكله وطبيعته وبنوده، مباشرا كان أم غير مباشر؟
الإجابة على هذا السؤال "الملغوم" ليس بسيطا إلى هذا الحد، ولكن بالإمكان تفكيكه والخروج منه بهذه الأسباب الافتراضية:
1- تنظر دوائر صنع القرار في تل أبيب أن الإقدام على التفاوض مع حماس على أي تهدئة أو هدنة، من شأنه أن يمنح الحركة فرصة لالتقاط الأنفاس، وإعادة تنظيم الصفوف، ومراجعة الخطط، والتهيؤ لجولات قادمة.
2- سيعني ذلك عمليا ودون أدنى شك إدارة الظهر للشريك السياسي في رام الله الذي فاجأ إسرائيل كثيرا بمرونته وقدرته الغريبة على إطلاق التهديد والتراجع عنه في آن واحد، وبالتالي فأي منطق سيسمح باستبدال الذي هو أضعف من الذي هو أقوى؟
3- بمعنى أو بآخر فإن لجوء إسرائيل للحوار مع حماس، سيسجل نقاطا إضافية لمشروع المقاومة والممانعة، وسيصل المقاومون لقناعة مفادها أن إصرارهم على مبادئهم وعدم التراجع عنها -رغم الأثمان الباهظة التي يدفعونها حاليا- سيعود عليهم بنتائج كبيرة على المدى البعيد.
الأمر لا يحتاج سوى مقارنة بسيطة بين مشروعي المقاومة والمساومة، وبماذا عاد كلا المشروعين على أصحابهما بنتائج! وهذه الخلاصة ستجد أصداءها في عواصم تئن حاليا تحت ضربات الاحتلال في بيروت وبغداد وكابل!
علما بأن الدعوات القليلة -المنخفضة الخجولة- الصادرة عن بعض النخب السياسية والحزبية في إسرائيل المطالبة بإجراء حوار أو تفاوض مع حماس وإن كان عبر طرف ثالث، تنطلق من بعض الاعتبارات السياسية والعسكرية في آن واحد، من أهمها:
1- حماس حركة باتت عصية على الاستئصال والقضاء عليها قضاء مبرما، بات أمرا أقرب ما يكون من المستحيل، ليس لاعتبارات عسكرية قتالية فقط، بل لأن الحركة تجذرت في الواقع الفلسطيني وليس عبر ضربة هنا أو اغتيال هناك، يتم إلغاء تاريخ كامل يمتد لعقود من السنين.
2- الدخول مع حماس في مواجهة عسكرية مفتوحة لا يضمن لإسرائيل النتائج النهائية لهذه المعركة، والكثير من الجنرالات الإسرائيليين المتقاعدين يذكرون القاعدة العسكرية الشهيرة، قد تكون صاحب الطلقة الأولى، لكن ليس بالضرورة أن تكون صاحب الطلقة الأخيرة! ولذا تبرز بعض المحاذير مما بين أيدي حماس من مفاجآت ليست سارة بالضرورة لجنرالات هيئة أركان الجيش الذي كان لا يقهر!
3- إجراء حوار أو تفاوض، مباشرا كان أم غير مباشر، مع طرف قوي ذي قدرة ميدانية واسعة على إلزام بقية الأطراف بالتفاهمات التي قد يصل إليها، وهو الآن حركة حماس، قد يوفر لإسرائيل شريكا قويا، وهو ما شهدت به بعض فترات التهدئة التي خاضتها الحركة مع إسرائيل في سنوات سابقة، وأبدى مقاتلوها التزاما حديديا برأي القيادة السياسية.
4- الثمن الباهظ الذي سيدفعه الجيش الإسرائيلي في المواجهة المرتقبة مع حماس، وحجم الخسائر البشرية والمادية التي ستضطر لدفعها المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، سديروت وعسقلان ونتيفوت تحديدا، ليس بالضرورة أن تكون إسرائيل قادرة على تحمل أعبائها، فالمجتمع الإسرائيلي يفتقر لإرادة التحدي والصمود التي يتقنها الفلسطينيون بجدارة وامتياز!
إرباك المحتل
في ضوء تلك المقاربات السياسية والمحاذير الأمنية والتهديدات الإستراتيجية، أرى إسرائيل متجهة نحو حسم المواجهة مع حماس عسكريا، ميدانيا، قتاليا، رغم كل المخاطر الكامنة، ورغم كلفة أي ضربة عسكرية باتجاه حماس في قطاع غزة.
وذلك بسبب قناعات عديدة توصل إليها الإستراتيجيون الإسرائيليون الذين واكبوا التطور التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية، خلاصتها أن الأمل في ردع متبادل بين إسرائيل وحماس أو تهدئة متواصلة هو مجرد وهْم، ورغم أن ضرب حماس في غزة عسكريا ليس حلا سحريا، سيسبب تأجيل ذلك الاجتياح ازدياد الوضع خطرا على إسرائيل!
يشير هؤلاء إلى أن سيطرة حماس على غزة، رغم بعض الفوائد السياسية لإسرائيل، فإنه على المدى البعيد وفي النطاق العسكري البحت غدا تهديد حماس يأخذ أبعادا جغرافية قد تطال الدولة العبرية كلها، لاسيما أن الحديث عن قصف سديروت بالصواريخ غدا حدثا من الماضي البعيد.
فـ"عسقلان" اليوم هي الهدف المفضل، لكن من يضمن لنا ألا تكون بحوزة حماس بعد سنوات قليلة صواريخ تطال مدن أسدود، بئر السبع، وربما تل أبيب.. ماذا سيكون آنذاك؟
ملاحظة ينبغي ألا تخفى عن الكثيرين وهي أن تولي "إيهود باراك" لحقيبة الدفاع منح الجيش قدرة على تخطيط عمله وتنفيذه بشكل يندمج مع إستراتيجية واضحة لكبح التهديدات، القصيرة والبعيدة المدى، التي تعرضت لها إسرائيل من قبل حماس وحزب الله، ولذلك ينظر المراقبون الأمنيون والمحللون العسكريون إلى أن ما شهده القطاع في الأسابيع الماضية لاسيما عملية الشتاء الساخن، أو المحرقة على حد وصف نائب وزير الحرب "ماتان فلنائي"، ما هو إلا المرحلة الأولى من هذه الإستراتيجية التي تنقسم إلى مراحل عديدة.
وتشير بوادر هذه الإستراتيجية إلى أنها ستشمل تغييرا إضافيا في طريقة عملها، بحيث لن يقتصر الأمر من الآن فصاعدا على عمليات التوغل والكمائن الموضعية التي تنفذها قوات صغيرة من المشاة بغطاء محدود من الدبابات، بل سيتم الأمر من خلال الدمج بين هذا الأسلوب وعمليات التوغل المدرعة.
أخيرا.. إن الحلم بالعودة لواقع ميداني بلا سفك دماء وفق قاعدة "عِش ودعنا نعيِش" ليس ممكنا، ولذلك الدعوة حثيثة وجادة لدى أوساط عسكرية إسرائيلية نافذة بضرورة توجيه ضربة عسكرية كبيرة لحركة حماس، ولا بأس إن أغمضنا عيوننا عن الخسائر البشرية التي ستلحق بالجيش الإسرائيلي.
لأن كل يوم يمر يرفع الثمن الذي سندفعه -كما يقولون-حيث ستجري حماس في القطاع إعادة صياغة لقواتها، ففي كل يوم يمر يتزود مقاتلوها بسلاح أكثر نجاعة، وكل يوم يمر يطيل الوقت الذي سنحتاج إليه لتجفيف القطاع من مستودعات السلاح والمواد المتفجرة التي تحشد فيه.
وبالتالي فإن أخفقت إسرائيل اليوم في ضرب أول موطئ لأقدام "الإسلام السياسي الجهادي"، على حد قولهم، فستضطر بعد ذلك، وقد يكون الأمر متأخرا جدا، إلى محاربة المنظمات الإسلامية التي تتزعمها حماس، وحينها ستستطيع هذه المنظمات محاربة إسرائيل مباشرة، ومن قواعد توجد على بعد كيلومترات معدودة عن مراكز السكان في البلاد، حينها، وحينها فقط، تصعب المبالغة في خطورة الوضع!
لا يجب أن يفهم من كل ما تقدم أنها دعوة لإشعال الحروب وسفك الدماء واستمرار التوتر، فأمنياتنا أن تصان الدماء وينعم الجميع بالهدوء، لكن الناظر لمسيرة المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية طوال أكثر من 60 عاما يعتقد بما لا يدع مجالا للشك أن خنادق المقاومين وليس فنادق المفاوضين هي التي تحسم الصراع.. وليس بالأمنيات وحدها تتحرر الأوطان والشعوب.