حماس وموسم القرارات الجريئة
حماس وموسم القرارات الجريئة
على هذه الصفحة كنت قد كتبت مقالا تحليليا قبل عدة أشهر حول الخيارات الصعبة التي تواجه حماس وحكومتها، وقد لامني الكثيرون على درجة التشاؤم التي غلبت على المقال، لكن الأحداث أثبتت صواب التوقعات التي قيلت في حينها.
على كل، من الواضح أن ما يحدث هذه الأيام في شوارع قطاع غزة وأزقة الضفة الغربية تحول خطير ومنعطف تاريخي مفصلي في تاريخ الحركة الإسلامية في فلسطين، لاسيما على صعيد علاقاتها مع "الآخر"، والآخر هنا المقصود به حركة فتح، بغض النظر عن التسميات الرائجة هذه الأيام، كالتيار المتأسرل، والانقلابيين وغيرها، لاسيما في ظل ما يشاع عن وجود تيار دموي وتكفيري بدأ يتسع في صفوف حركة حماس.
لن أتجنى على أحد إذا قررت في هذه العجالة أن تيارا معينا لدى "الآخر" قد حسم موقفه بالكلية، واختار طواعية الانحياز للموقفين الأميركي والإسرائيلي الساعي لتطبيق برنامج "الفوضى الخلاقة" والديمقراطية على المقاس.
كما لن أتجنى على آخرين إن قررت سلفا أن معالجة حماس لأزمتها الراهنة لم تكن بذات المواكبة التي تفرضها طبيعة الأحداث، بمعنى أنه كان هناك الكثير والكثير من الوسائل والأدوات التي كانت ستسعفها بالتأكيد بدلا من اللجوء مرة واحدة إلى علاج الكي، علما بأنه آخر الدواء وليس أوله!
قراءة في تدحرج الأحداث
لم يعد سرا أن حماس تواجه تحديا تاريخيا كبيرا، ربما منذ نشأتها وانطلاقها رسميا قبل زهاء عشرين عاما، وما يزيد من حدة هذا التحدي "الكوني" يكمن في تعدد أطرافه الداخلية والخارجية، واختلاف أشكاله الأمنية والإعلامية والسياسية، وقبل ذلك وبعده أن سقفه الزمني غير محدود ومفتوح إلى حين انتهاء المهمة كاملة!
وليس خافيا على أحد، لاسيما أولئك المقيمين داخل فلسطين، أن فوز حماس في الانتخابات وتسلمها لمقاليد إدارة شؤون البلاد والعباد، شكل خسارة كبيرة وانتكاسة كارثية لـ"لآخر"، وحين أقول خسارة وانتكاسة، فهي شخصية وشخصية بحتة لأولئك الخاسرين.
وبالتالي جاء الصراع لمحاولة استعادة ما فقده هؤلاء من مكاسب وامتيازات وغنائم، رآها وشعر بها وسمع عنها فلسطينيو الضفة والقطاع.
وهكذا جاء القرار باستعادة السلطة، بكل الطرق وشتى الوسائل، بعيدا عن شعارات الوحدة والوفاق التي باتت تثير نفور الفلسطينيين بعدما أحسوا بهوانها على من يتشدق بها!
لذلك أقدم من خسروا الانتخابات على ما لم يخطر على قلب بشر، في محاولة مستميتة لاستعادة تلك المغانم التي فقدوها بين عشية وضحاها، وهنا تكمن المشكلة في عدم تفهم حماس للخسارة التي مني بها أولئك، وبالتالي بدأت وساطاتها وجهودها لمحاولة استمالتهم للمشاركة في حكومة الوحدة، التي لم ولا أعتقد أنها، قد ترى النور، أو يكتب لها العمر المديد!
هذه المحاولات الجادة من حماس لإشراك رفاق القضية والوطن في حكومة تترأسها وضعتها تحت سطوة الابتزاز السياسي الرخيص من قبل هؤلاء، تارة للقبول بشروط الرباعية، وأخرى للالتزام بالاتفاقيات السابقة، وتارة ثالثة للموافقة على المبادرة العربية.
حماس من جهتها حاولت ضمنيا واجتهدت أن تضع صياغات لغوية من هنا وهناك لمحاولة الالتفاف على هذه الشروط وهذا الابتزاز، كل هذا لعيون تشكيل حكومة الوحدة، فهل تحققت؟
حكومة الوحدة لم تتحقق، ورغم ذلك خطت حماس خطوات متقدمة وجريئة على المسار السياسي، لكن "الآخر" لم يقابلها بذات التقدم والمرونة، وكأن المطلوب من حماس هو أن تستبدل برنامجها السياسي ببرنامج سقط سقوطا مدويا، وأن تتبرأ من ميثاقها، وأن تتنكر للمبادئ التي استشهد من أجلها قادتها وكوادرها!
كيف أدار الطرفان الأزمة القائمة؟
أكثر من ذلك، فقد تقدم "الخاسرون" بخطوات جريئة ومتقدمة ولكن من نوع آخر تجاه حماس، ويمكننا على هذا الصعيد سرد مجموعة من الخطوات الميدانية والإجراءات السياسية التي كان على حماس أن تستوعب مدلولاتها مبكرا، ومبكرا جدا. منها:
1- وجود تيار قوي داخل حركة فتح يرفض وما زال وسيبقى، يرفض أي وفاق مع الحكومة الجديدة، ما لم يكن له نصيب الأسد، متعاميا عما أفرزته صناديق الاقتراع من نتائج فاجأته، بل وفجعته!
2- تشكيل مكتب رئاسة السلطة لحكومة موازية كاملة متكاملة تتعامل مع الملفات الداخلية والخارجية، وكأن الحكومة الحقيقية غير موجودة، إذ أقدم رئيس السلطة على تعيين مجموعة مستشارين له لجميع الملفات، الأمن والإعلام والمفاوضات والأوقاف والصحة والتعليم والقضاء، وجميعهم يقومون بمقام الوزراء الحقيقيين.
وبإمكان المراقبين العودة إلى تصريحات جميع الوزراء عن غياب الصلاحيات الحقيقية التي سلبت منهم بحيث غدوا وزراء على أنفسهم فقط!
وإلا بماذا نفسر أن رئيس السلطة لم يصطحب طوال عام كامل أي وزير من وزراء حكومته في جولاته العربية والدولية في سلوك دبلوماسي مستغرب جدا؟
3- خروج الأحداث عن سلوكها الطبيعي من حيث رفض المشاركة في حكومة تقودها حماس، وهذا رفض تكفله الممارسة الديمقراطية من خلال افتعال مشاكل ميدانية وأزمات أمنية في الشارع الفلسطيني، بدءا بإطلاق النار على المواطنين، ومرورا بظاهرة خطف الصحفيين، وليس انتهاء بانتعاش ظاهرة الثارات العائلية والتنظيمية، بصورة لا يشك المراقب للحظة واحدة أنها مبرمجة وذات توقيت مدروس ومحكم!
4- وصول الأمر إلى "الاستقواء" بالخارج، والخارج هنا إسرائيلي أميركي أساسا، في حل إشكال داخلي لا ينبغي له أن يخرج عن دائرة القانون الفلسطيني وأروقة المجلس التشريعي ومداولات الحكومة والرئاسة.
وإلا ما معنى أن تحول الحكومة الإسرائيلية مائة مليون دولار من الضرائب المحتجزة لمكتب رئاسة السلطة، وأن تعلن الإدارة الأميركية عن رصد 86 مليون دولار لتقوية حرس الرئاسة، وأن تنظم الدورات التدريبية العسكرية وضخ ملايين الدولارات لها، أمام سمع وبصر الحكومة التي لا تملك حولا ولا قوة؟!
سلوك حماس في التعامل مع التحدي الماثل
أكاد أزعم، بل وأقرر، أن حماس بصورة عامة، بغض النظر عن بعض الآراء الفردية هنا وهناك، لم تتوقع أن يصل رفض "الآخر" لها إلى هذا الحد من التجرؤ، واجتياز خطوط كثيرة قيل كثيرا إنها حمراء، وتبين بعد قليل أنها خطوط باهتة، ليس لها من الواقع نصيب، وهنا أول الخلل!
ورغم تلك الشواهد وغيرها الكثير الكثير تجاه حماس وحكومتها، فقد بقي سلوكها مسقوفا بمدى لم تتجاوزه، ورهينة لتشكيل حكومة الوحدة، علما أن تلك الشواهد السابقة عطلت عمليا برنامج التغيير والإصلاح الذي انتخبت على أساسه، وهذا يعني أن برنامجها لم يجد طريقه للتطبيق.
وبالإمكان استخدام مصطلحات الإفشال لا الفشل، والتعجيز لا العجز، لكن المحصلة النهائية تقول إن إخفاقا عمليا أصاب برنامجها أمام الجمهور الذي انتخبها، ورغم ذلك فإن شيئا لم يغير في سلوك حماس كثيرا، وبالتالي بقيت إدارتها لأزمة جديدة وكبيرة ومتشعبة بذات الأدوات القديمة التقليدية، علما بأن خصومها استحدثوا أدوات جديدة "ووسائل مبتكرة" على حد زعم الناطق باسم الخارجية الأميركية.
وهنا تبرز الأسئلة مشروعة ومشرعة في آن واحد:
1- لماذا لم تعلن حماس أمام جمهورها الذي أوصلها إلى مقاليد الحكم الحقائق واضحة جلية، وأنها تواجه عقبات ومعوقات تنوء عن حملها، وأن تسمي الأشياء بأسمائها، بدلا من أن تترك هذا الجمهور في حالة إرباك حقيقية، وهو يتساءل: هل إن الإسلاميين بالفعل ليسوا جديرين بتسلم الحكم، وهل أخطأ الناخب الفلسطيني باختياره لمرشحي حماس؟
وعلى سبيل المثال فإن المؤتمر الصحفي الأخير والمتأخر لوزير الداخلية كشف حقائق كانت غائبة عن قطاعات كبيرة من المثقفين والمحللين، فما بالك بالجمهور العادي؟
2- ما الذي منع نواب حماس –وهم الآن في السلطة- طوال عام كامل من تفعيل أدوات الرقابة والمحاسبة التي وعدوا الناخب بها، ما دام الحديث يدور عن ملفات فساد "ثقيلة العيار" وإن شئت فلتكن هذه الملفات جزءا من إدارة الأزمة التي تواجهها؟
3- كيف سمحت حماس بأن يستدرجها الآخرون إلى مربعهم السياسي، والتساوق مع برامجهم، ولم تحسب إمكانية الانحدار إلى هاويات الاعتراف والتنازل، إلى درجة أثارت دهشة بعض المراقبين الغربيين، وفي الوقت ذاته فتحت شهية "الخاسرين" على انتزاع تنازلات سياسية أخرى تحت سوط تشكيل حكومة الوحدة، التي لم تتحقق؟
4- ألم يكن بإمكان حماس وهي الحكومة الشرعية أن تعلن على الملأ عن المتهمين بالتسبب في حوادث الفلتان الأمني المنظم، وملاحقتهم وتقديمهم للعدالة، وإن لم تستطع -وهي بالفعل لن تستطيع- فعلى الأقل تقوم بتبرئة ذمتها أمام الجمهور الذي انتخبها، وإشعاره أن مخططا ما يجري ترتيبه وإعداده للمواجهة المسلحة الحالية، بدل أن يشعر المواطن اليوم فجأة أنه أمام فريقين متنازعين ومتقاتلين على السلطة، وهنا تكمن مسؤولية حماس التي تعاملت بطيبة "وأخوة" لا تعرفها دهاليز السياسة المعاصرة!
5- ترى: هل الوضع الفلسطيني الحالي الذي ترقبه دوائر استخبارات العالم كله يحتمل النزاع المسلح القائم حاليا في غزة والضفة؟ وهل إن معركة حماس مع الاحتلال الذي من الواضح أنه يدير حربه معها "بالوكالة" تتطلب منها أن تكون شوارع غزة مسرحا لها؟
وطالما أن حماس في غزة لها السيطرة كما تشير بذلك الأوساط المتابعة، فهل من مصلحتها أن يستدرجها الآخرون لفتح معركة في الضفة التي تعاني فيها من ملاحقات إسرائيلية ضارية، وبالتالي ظهور عناصر حماس الملاحقين.
وهذا يعنى عمليا تقديم خدمة مجانية للمخابرات الإسرائيلية التي تبذل جهودا مضنية، سرية وعلنية، للكشف عن الخلايا النائمة لحماس هناك!
أخيرا.. الهدوء الذي تحياه الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية، قبيل العملية الفدائية في إيلات، قابله بالتأكيد توتر وتفجير وتأزيم للموقف على الجبهة الفلسطينية الداخلية، وهو بالتأكيد انحراف في البوصلة دون أدنى شك في ذلك، الأمر الذي يتطلب من حماس اتخاذ رزمة من القرارات الجريئة التي تحظى بالإجماع الوطني الحريص على إبقاء دفة الصراع مع الاحتلال قائمة.
ومنها: 1- التوقف الفوري عن التناحر الداخلي المسلح، لأن حماس اكتسبت شرعيتها وشعبيتها من طهارة سلاحها طوال عشرين عاما، رغم ما لاقته من محن متلاحقة وملاحقات ضارية من قبل "الآخر" في الوقت الذي بقي سلاح الآخرين مفتقدا لتلك الطهارة، وبالتالي إدارة دفة المواجهة المسلحة باتجاه الاحتلال الذي يرقب موازين القوى جيدا، لاسيما وأن عناصر حماس أتقنوا فنون المواجهة العسكرية مع قوات الاحتلال بصورة أثارت إعجاب الأعداء والخصوم معا، في حين أن حرب الشوارع تسر الأعداء وتحزن الأصدقاء، أليس كذلك؟
2- الكشف بصورة واضحة وجلية عن المخططات التي تستهدف حماس، تنظيما وحكومة، بالوثائق والأسماء، بعيدا عن الشائعات غير المستندة إلى دلائل ووقائع حقيقية، وإلا فإن مخطط استئصالها قادم لا محالة، وستكون الحرب مباشرة وبالوكالة معا.
3- التوقف عن مجاراة أصحاب المبادرات السياسية مع دولة الاحتلال، في ظل رفضها لأي حوار مع الفلسطينيين حتى مع شريك السلام الأول، ما دام الوضع الإسرائيلي غير مهيأ لمفاوضات جدية ذات جدوى.
4- البحث والبحث جديا في خيار طرحته في مقال سابق يتعلق بالجدوى العائدة على الفلسطينيين، لا على حماس وحدها، من بقاء السلطة الفلسطينية برمتها.
الحديث لا يدور عن تنحي حماس عن السلطة وإعادة من رفضه الناخب، وإنما إيجاد توافق –وهو موجود في بعض المستويات- بين القوى الوطنية حول فض السلطة كلها، وإعادة القضية الفلسطينية برمتها إلى المجتمع الدولي الذي يجب أن يتكفل بإدارة شؤون الفلسطينيين في الضفة والقطاع.
بالمناسبة ما زال الفلسطينيون لاجئين يرزحون تحت الاحتلال، ومهمة حماس الوطنية هنا تتجلى في تعريف العالم بهذه الحقيقة الغائبة، بعيدا عن الانشغال بملفات طارئة مستجدة أزعم أن "العالم المحاصر" نجح في فرضها على الأجندة الفلسطينية.
موضوعات ذات صلة
- حماس بعد عشرين عاماً على الانطلاقة
- حماس بين المقاومة والسلطة.. عام بعد التفرد بحكم غزة
- حماس في القاهرة بين المطرقة والسندان
- حماس و إسرائيل أفاق التهدئة أم التصعيد
- حماس وإسرائيل.. الضربة وليس الصفقة
- حماس والخيارات الصعبة
- حماس والهدنة في النقاش الداخلي الصهيوني
- حماس وخطى منظمة التحرير
- حماس.. النشأة والتكوين والمسيرة..
- حماس.. بين الخيارات الصعبة والقرار الأصعب
- حماس.. مراجعات سياسية وعسكرية