حماس و إسرائيل أفاق التهدئة أم التصعيد
بقلم:مؤمن بسيسو
مقدمة
تتضارب التقديرات بشأن مآلات العلاقة بين إسرائيل وحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، لكن ما تؤشر له الأحداث ينبئ بأن اتجاهات السياسة الإسرائيلية الراهنة تجاه حماس تستحثّ خطاها نحو التصعيد، دون إغفال أن معطيات الميدان وتقلباته الدائمة تلعب الدور الأكبر في صوغ معادلة الشدّ والجذب بين الطرفين، وتقرير شكل وخيارات الرد النهائي ضد الشريط الساحلي الضيق المستعصي على كافة صور الترهيب الإقليمي والدولي.
ولعل من مسلّمات اللحظة السياسية الواقعية أن محددات الموقف الصهيوني المتشدد التي تمت بلورتها إزاء حماس مؤخرا، لا تشكل نقطة الحسم النهائي في التعاطي مع ملف الحركة واستمرار سلطتها، على إيقاع اعتبارات دولية راجحة تتداخل ضمن سياق تشكُّل ردود الفعل الصهيونية، ما يقلص –نسبيا- من حدود التغوّل والفاشية الإسرائيلية في صورها المطلقة، دون أن يعني ذلك لجم إسرائيل عن مقارفة خيارات التصعيد والعدوان المفتوح التي لا ترقى إلى مستوى الحرب الشاملة.
التهدئة.. مصلحة فلسطينية
لا جدال في أن بسط أشرعة التهدئة على ربوع قطاع غزة يشكل مصلحة فلسطينية تامة، وهدفا أساسيا تنشد حركة حماس تحقيقه انطلاقا من الأسباب التالية:
- الرغبة في استعادة العافية العسكرية إثر الضربات القاسية التي تلقتها الحركة إبان الحرب الأخيرة، وإعادة بناء قدراتها العسكرية، وتأهيل كوادرها العاملة، وفقا لرؤى جديدة وأفكار حديثة.
- القناعة المؤكدة التي ترسخت في ضمير الحركة بصعوبة الصمود في مواجهة أي حرب إسرائيلية جديدة في ظل المعطيات الميدانية والبُنى العسكرية الراهنة، وأن العمل على تطوير الأدوات والوسائل والخطط القائمة يستلزم فترة زمنية لا تقل عن عام كحد أدنى.
- قطع الطريق على اتجاهات السياسة العنصرية لبعض أركان الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة التي وضعت من ضرب غزة وإسقاط سلطة حماس هدفا مركزيا لها، وضمان الاستمرار في الحكم وتثبيت أركانه وتعزيز قواعده بكل أريحية بعيدا عن هواجس العدوان وأثمانه الباهظة.
- امتلاك هامش أوسع من المناورة في إطار الحوارات الداخلية مع حركة فتح، والتحرر من ضغط الوقت وسيف الزمن بما يحدّ من حجم الابتزاز الفتحاوي لها، ويسقط أي رهانات فتحاوية على سطوة تدخل العامل الإسرائيلي لاستعجال "تنازلات" حمساوية ذات بال.
- محاولة كسب مزيد من الوقت لتقويم وترشيد تجربة الحكم التي خاضتها الحركة في ظل ظروف بالغة الخطورة والتعقيد، والبدء بجهد استدراكي شامل لعلاج كافة الأخطاء التي وقعت فيها، ابتغاء وضع أنموذج الحكم الخاص بها على طريق الفاعلية والنجاح.
- تكريس حماس، حكما وسياسة، كأمر واقع أمام القوى الإقليمية والدولية المناوئة، وإفراد أولوية خاصة لنسج علاقات ذات نسق متدرج مع العديد من الدول والأحزاب والمنظمات الدولية الأقل تشددا التي تحمل لواء الحوار مع الحركة، بهدف ولوج مسرح السياسة الدولية، وتشكيك العالم في جدوى وفعالية الحصار المضروب، ومحاولة فتح ثغرات تراكمية في جداره المتين.
- التخفيف من المعاناة البالغة التي يكابدها أهالي غزة جراء استمرار الحصار والعدوان الإسرائيلي، ومنح ملف إعادة الإعمار أولوية متميزة في ظل الدمار والخراب الهائل الذي خلّفته الحرب الإسرائيلية الأخيرة.
ووفقا لهذه المعطيات بدت تقديرات حماس مجانبة للواقع حين راهنت على جنوح أو ميل إسرائيل للتهدئة بُعيد انتهاء الحرب، وأطالت –دون مبرر- أمد المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل التي رعاها المصريون، حتى تسلّمت الحكومة الإسرائيلية الجديدة مقاليد السلطة، وانحدرت معها فرص إبرام التهدئة إلى ما يقارب الصفر.
هدوء بلا ثمن
لا تبدو إسرائيل متلهفة على التهدئة هذه الأيام، أو حتى على طرق أمرها مع الجانب المصري بأي شكل كان.
في خلفية الموقف الإسرائيلي تبدو التباينات داخل الطبقة السياسية واضحة إزاء هذه القضية، فحزب العمل بقيادة باراك –وزير الدفاع في حكومتي: أولمرت ونتنياهو- يُفضّل إبرام اتفاق للتهدئة مع حماس، ويحاول إقناع نتنياهو بفاعليته وجدواه، يؤازره في ذلك العديد من الأوساط الإعلامية والأكاديمية والاقتصادية والمجتمعية، بينما تقف غالبية القيادات السياسية والحزبية والعسكرية موقف الضدّ والنقيض، وتعتقد بأن إسرائيل تنعم بتهدئة فلسطينية مجانية دون الاضطرار لتقديم ثمن مقابل.
تتأسس رؤية أصحاب القرار الصهيوني على حاجة حماس الملحة لحالة ممتدة من الهدوء دون دماء، وسعيها –بكل وسيلة- لتجنب التحرش والاحتكاك بجيش الاحتلال ما أمكن، تحقيقا لأهداف فلسطينية داخلية.
ووفقا لهذه الرؤية فإن حماس التي تواجه تحديات لا حصر لها في سبيل إدارة قطاع غزة بما يؤمّن الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية عقب خطوة "الحسم العسكري" وتداعيات الانقسام السياسي، تدرك خطورة فتح جبهة إضافية مع إسرائيل التي لا تتورع عن صبّ حمم بغيها وعدوانها لأتفه الأسباب، ولا تتوانى عن تسجيل محارق جديدة دون حسيب أو رقيب، وما الحرب الأخيرة عنا ببعيد.
ومن هنا كثفت حماس جهودها إثر انقشاع غبار الحرب نحو بلورة مقاربات سياسية ذات صبغة ميدانية تنأى بها عن الصدام مع الاحتلال، والدفع باتجاه تأجيله إلى أطول فترة ممكنة، ومنحت الجهد المصري تفويضا واسعا لتحقيق تهدئة ذات عناوين مقبولة وأسس منطقية، إلا أن ارتفاع منسوب الدهاء والخبث والابتزاز الإسرائيلي أودى بهذه الجهود إلى مقصلة الإعدام، وأذهبها أدراج الرياح.
وإعمالا لفقه الموازنات، والرضوخ لضغط الواقع، لم تجد حماس بُدّا من فرض تهدئة ميدانية واقعية غير معلنة دون ثمن سياسي في سياق اتفاق مع الإسرائيليين، وعمدت مكرهة بوساطة أساليب الترغيب والترهيب إلى منع إطلاق الصواريخ على بلدات الاحتلال، وسدّ كافة أشكال الذرائع الاحتلالية التي تُسوّغ العدوان وتشتهي تكراره في ظل الاعترافات الحاسمة للقادة الإسرائيليين -سياسيين وعسكريين على السواء- بأن الحرب الأخيرة لم تحقق مرادها، وأن ما تردد عن إنجاز مستوى رفيع على صعيد بناء وترميم قدرة الردع يكاد يبلغ حدّ الوهم والادعاء.
مؤشرات التصعيد
من الواضح أن الساحة الميدانية تنحو منحى التسخين المنهجي والتصعيد المبرمج، وتُساق إلى احتضان أجندة خاصة، والتفاعل مع مخططات خبيثة تحاك خلف الكواليس.
أولا: على المستوى الإسرائيلي
تشعر معظم القطاعات داخل إسرائيل بحرقة بالغة واستياء متعاظم هذه الأيام، فقد فوّت جيشهم فرصة نادرة لسحق حماس واستئصال سلطتها حسب قناعاتهم، حين أوقفت حكومتهم الحرب من طرف واحد في اللحظة الحاسمة التي كان من الممكن فيها بدء المرحلة الثالثة من المعركة، والتوغل في عمق المناطق السكنية وسط التقديرات العسكرية المتفائلة بحسم نهائي قريب، وأبقت حماس على حالٍ من السيطرة والنفوذ في غزة، ومنحتها فرصة التعافي وإعادة البناء والتخطيط والتنظيم والتعاظم من جديد.
ومع ذلك، تدرك حكومة الاحتلال الجديدة التي يعلو هدير تصريحات أقطابها التي تقطر حقدا وعدوانية تجاه حماس صباح مساء، أن حدود فعلها العسكري في التعامل مع غزة باتت مقيدة بضوابط ومحددات خارجية، وأن استنساخ الحرب بشكلها وآلياتها السابقة في وقت قريب بات ضربا من المحال، وأكثر انفصالا عن الواقع.
وإذا استحضرنا بدقة تفاصيل الاتفاق الائتلافي بين نتنياهو وليبرمان الذي ينص في بند خاص ومفصل على التزام الحكومة بالعمل لإسقاط سلطة حماس، فإننا ندرك –حتما- أن الهدوء الإسرائيلي الراهن الذي يخيم على حدود وتخوم غزة لا ينمّ عن إرهاصات أفق مستقر، أو ملامح سياسة إسرائيلية وديعة في المرحلة المقبلة، بقدر ما يمثّل تحضيرا لأرضية المعركة وسيناريوهات الصراع، وإعادة بلورة لأشكال ومخططات وآفاق العدوان في ظل الكوابح الدولية التي انتصبت في وجه إسرائيل عقب جرائمها البشعة التي صدمت العالم إبان الحرب الأخيرة.
لذا لم يكن مستغربا أن تشرع إسرائيل في أوسع حملة استخلاص عبر في تاريخها العسكري، لرصد وحصر وتوثيق مكامن الخلل ونقاط الضعف إبان الحرب، والاستفادة من تفاصيل وحيثيات المواجهة البرية المباشرة التي دارت مع حركة حماس لأول مرة بهذا القدر من القوة والاتساع والشمول.
ولم تكن المناورات الجوية التي جرت قبل أيام إلا شكلا من أشكال الاستعداد والتحضير التالية لمرحلة استخلاص العبر، والبدء في ترجمة خلاصاتها على أرض الواقع في صورة تجربة عملية واقعية، لتتوّج بالمناورات الشاملة التي أجريت يوم الأحد الماضي، وتستمر لمدة خمسة أيام في تدريبات هائلة هي الأضخم في تاريخ الدولة العبرية.
وتجرى هذه المناورات على أرضية معالجة اشتعال حرب على الجبهة الشمالية (لبنان) وحرب على الجبهة الجنوبية (غزة) وانفجار انتفاضة عارمة داخل صفوف فلسطينيي عام 48، ما يؤكد بجلاء أن سيناريوهات الحرب هي أكثر ما يطغى على تفكير الحكومة الإسرائيلية واتجاهات سياساتها الحالية.
ثانيا: على المستوى الفلسطيني
تُعرف الساحة الفلسطينية بتضارب البرامج والسياسات الفصائلية التي تورثها تصادما في الواقع الميداني في كثير من الأحيان، كما تشتهر بتوالد العديد من "المجموعات الطفيلية" التي تدّعي المقاومة، لأغراض الارتزاق المادي والعمل المصلحي في إطار المناكفة الفصائلية والتنغيص السياسي والميداني.
ففي الحالة الأولى فإن بعض فصائل المقاومة تعتاش إعلاميا وسياسيا على صدى الصواريخ التي تطلقها على بعض المناطق الإسرائيلية، وتدخل مرحلة سبات وركود إعلامي وقت التهدئة، ما يدفعها إلى تجاوز التفاهمات المعقودة مع حماس بين الحين والآخر.
وفي الحالة الثانية فإن هذه المجموعات التي تمثل قوى ومصالح سياسية متضررة، لا تتوانى عن إطلاق الصواريخ بين فترة وأخرى وفقا لطبيعة الأوضاع ومقتضيات الميدان.
لذا يمكن توقّع تضاعف في أنشطة هذه المجموعات ذات الصلة بالانقسام السياسي في المرحلة المقبلة، وخصوصا في ظل التعثر الذي يعتري مسار الحوارات الفلسطينية الداخلية في القاهرة، والوثائق الإسرائيلية الرسمية التي أماطت اللثام عن التعاون الأمني الواسع الذي مارسته جهات في السلطة الفلسطينية مع إسرائيل إبان حربها الأخيرة على غزة.
بين هذا وذاك نستشف أن الواقع الميداني في غزة مرشح لخروقات وإرباكات وتصدّعات قد تضع التهدئة الهشة الحالية جانبا، وتفتح الطريق على مصراعيها أمام موجات من المواجهة والتصعيد.
آفاق التصعيد
قد يكون مستبعدا أي انزلاق إسرائيلي تجاه حرب جديدة ضد حماس على امتداد الأشهر القليلة القادمة ما لم تحدث تطورات دراماتيكية قالبة للموازين، إلا أن إسرائيل لن تكون في وارد التخلي عن أجندتها التصعيدية المُبيّتة، أو السكوت على الصواريخ الفلسطينية التي تستفزّها وتتحدى هيبتها وكرامتها بين يوم وآخر.
ولا شك فإن سيناريو التصعيد سوف يأخذ مسارا متدرجا، ويعتمد –أساسا- على دائرة الفعل وردّ الفعل، التي قد تشتدّ وتلتهب وتتسع حلقاتها وصولا إلى حلقة المواجهة المفتوحة.
والمواجهة المفتوحة تعنى استباحة الأهداف، سواء أكانت كوادر وقيادات أم بُنى ومقرات أم مناطق جغرافية، بمختلف الوسائل العسكرية، بما لا يرقى إلى مستوى الحرب الشاملة.
ولعل النقطة الأكثر أهمية تكمن في عدم أو ضعف قدرة حماس على منع الانزلاق إلى مسار التصعيد، وذلك لعدة أسباب:
- استحالة ضبط حدود قطاع غزة مع إسرائيل بنسبة 100%، ما يعني أن بإمكان مجموعات "المناكفة والارتزاق" النجاح في إطلاق بعض الصواريخ في بعض الأحيان.
- إصرار بعض فصائل المقاومة –أحيانا- على خرق التفاهمات الوطنية إزاء تكريس التهدئة ووقف الصواريخ، وقدرتها على إطلاق الصواريخ ذات المدى الأبعد من خارج نقاط التماس الحدودية ومناطق السيطرة الأمنية للأجهزة الأمنية في غزة.
- مبادرة جيش الاحتلال بالتصعيد بين فترة وأخرى، مما يستجلب ردا فلسطينيا فصائليا لا تقوى حماس على منعه وتبرير كبحه بالقوة المجردة في ظل أدبياتها وسياساتها القائمة على حقّ المقاومة والتنظير له.
لكن الانزلاق إلى التصعيد، وما قد يتبعه من محاولات لضبطه تمهيدا لوقفه شيء، واستمرار الانزلاق فيه دون كوابح شيء آخر تماما.
فقد تبدو حماس من القدرة بمكان بما يحول دون استفحال الوضع الميداني إبان الأوضاع الاعتيادية، غير أنها قد تجد نفسها في ظروف مغايرة تماما لا تستطيع فيها ضبط الإيقاع الفصائلي، في إطار أوضاع استثنائية يلعب فيها الاحتلال دورا مبادرا مركزيا لا يتورع فيه عن مراكمة الهجمات وتكرار الاعتداءات، بهدف إشعال نيران المواجهة وإنفاذ أجندته العدوانية المبيتة.
باختصار، فإن الأفق القريب يحمل نُذر جولة جديدة ودامية مع الاحتلال، قد يُستدرج إليها الفلسطينيون على غير رغبة منهم، وما لم يكن حال الميدان مصدّقا للسان المقال، استعدادا واحتياطا وتجهيزا، فإن المعاناة الفلسطينية –لا شك- ستكون كبيرة، والثمن الذي ستدفعه حماس –بكل تأكيد- سيكون فادحا.