كيف تم عبور الحدود ليلاً

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


كيف تم عبور الحدود ليلاً

الحلقة الخامسة:

كيف تم عبور الحدود ليلا؟:

في صباح يوم 28 من أبريل 1948 كانت الكتيبة مستعدة تمامًا للرحيل، وبعد تناول الغداء بدأت سيارات النقل المحملة بالأسلحة والذخيرة ومواد التموين بقيادة اليوزباشي محمد عبد السلام في التحرك وانتظرنا عند أبو عجيلة، وقاد الحملة اليوزباشي أحمد عبد العزيز بسيارته "البيك أب" الخضراء ومعه اليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف، يرافقهم حرس يحمل رشاش "برن" ومن خلفهم سيارات المدفعية، ثم سيارات الأتوبيس التي تقل أفراد الكتيبة حسب ترتيب السرايا، وسار الركب حتى لحقنا بقافلة الإمداد والتموين عند الغروب، فانتظرنا قليلا حتى يخيم الظلام وكان القمر لا يظهر إلا بعد منتصف الليل، ثم عاودنا المسير إلى أن اقتربنا من الحدود بطريق رفح، واتجهنا إلى خط السكة الحديد، وأوقفنا السيارات فوق فلنكات القضبان، ودفعناها بالأيدي دون إدارة الموتورات حتى لا تشعر بنا القوات البريطانية، المرابطة على الطريق الأسفلتي، والتي كانت تبعد عنا بحوالي مائتي متر فقط.. ونجحنا في هذه المهمة الصعبة حتى وصلنا إلى مشارف "خان يونس" حيث خرج عدد كبير من أهالي البلدة لاستقبالنا قبل وصولنا إليها، وما أن وصلنا إلى مدخل القرية حتى أطلق الأهالي العيارات النارية ابتهاجًا وترحيبًا بقدومنا، لتخليصهم من بطش اليهود المتدفقين من الغرب والشرق لزرع دولة لهم في هذه البقعة الطاهرة.. أرض فلسطين الحبيبة.

دخلنا "خان يونس" في التاسعة مساءً تقريبًا، وهي تشبه – إلى حد كبير – القرية المصرية الوادعة.. كان أهالي البلدة في انتظارنا، وما أن وصلنا حتى انطلقت الزغاريد من داخل البيوت والأعيرة النارية تلمع في السماء وكان على رأس المرحبين بنا أحد أعيان "خان يونس" ويدعى إبراهيم أبو مدين.. سرنا في شوارع القرية في شبه مظاهرة عسكرية شعبية تفيض بالحماس والعزيمة وقوة الإرادة، وفرحة الأهل وترحيبهم بنا، ودخلنا إحدى مدارس القرية واتخذنا فناءها كمعسكر، وتم توزيع الحراسات الليلية في الداخل والخارج بالتعاون مع رجال إبراهيم أبو مدين لمراقبة تحركات الدوريات اليهودية.

أول شهيد:

وفي اليوم التالي بدأت سلسلة من المحاضرات في العسكرية يلقيها علينا اليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف والملازم معروف الحضري، وبدأنا نخرج لعمل دوريات استطلاع ومراقبة لمدة أسبوع، ثم وصلت إلى القيادة أخبار بأن دورية يهودية مصفحة تحوم حول "خان يونس" وتطلق النار عشوائيًا على الأهالي لإرهابهم، فأمر قائد فصيلة "البويز" الملازم محمد نور الدين بالتصدي لهذه الدورية، فخرجت مجموعة بقيادة جاويش، وهذه العملية هي أول عملية لنا مع العصابات الصهيونية، وعادت المجموعة بجثة الأخ الشهيد فتحي الخولي، وهو أول شهيد في الكتيبة الأولى، وهو من إخوان السيدة زينب بالقاهرة.. ولما حضرت الجثة، قفزتُ فوق العربة وكشفت عن وجهها فوجدت الابتسامة والنور الساطع يشع من صاحبها.. رحمه الله رحمة واسعة.

وأذكر هنا حديث الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم، وحسن منقبلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل أنا أبلغهم عنكم، فأنزل سبحانه وتعالى هذه الآيات: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169) رواه مسلم وأحمد وأبو وداوود.

ودفن الأخ فتحي الخولي في مقابر "خان يونس" في جنازة عسكرية، قبل غروب الشمس بنحو ساعة.. وانشغلت القيادة بعد ذلك في جمع المعلومات ومراقبة تحركات اليهود من وإلى مستعمرة "كفار ديروم" بدير البلح، وهي بلدة تقع على طريق غزة – خان يونس، فوق تبة مسطحة تبعد عن الطريق بحوالي مائتين وخمسين مترًا.. وهناك وادٍ وشريط سكة حديد بطول الطريق إلى غزة ولكنه متوقف.. وبجانب التبة التي في مستوى ارتفاع الطريق وادٍ صغير لا يزيد عمقه على مترين، يشبه الترع، ويمر الوادي من أسفل شريط السكة الحديد والمستعمرة.. كانت المستعمرة مربعة الشكل بها ثكنتان، كل واحدة من ثلاثة طوابق، وتمتد على الأرض بحوالي خمسين مترًا، ومحاطة بالأسلاك الشائكة من جهاتها الأربع.

أول معركة مع عدو نجهل إمكانياته:

بعد أن حصلت القيادة على ما تحتاجه من معلومات وتحريات، تمهيدًا لمعركة فاصلة ضد مستعمرة "كفار ديروم" التي تتحكم في الطريق بين "خان يونس" و"غزة" عند دير البلح، انطلقت مجموعة من القيادة وعلى رأسهم أحمد عبد العزيز وعبد المنعم عبد الرؤوف ومعروف الحضري وكمال الدين حسين وحسن فهمي عبد المجيد، يرتدون زيًا فلسطينيًا للتمويه عبارة عن شال أحمر مزركش مثبت بعقال أسود، انطلقت المجموعة إلى دير البلح لاستكشاف المستعمرة واستحكاماتها ووديانها وسهولها، ثم عادت واجتمعت مع قادة الفصائل لشرح المهام المطلوبة من كل فصيلة ومن كل فرد فيها.

كانت خطة الهجوم على المستعمرة تبدأ في الثالثة قبيل فجر الثالث عشر من مايو، بحيث تطلق المدفعية قذائفها لمدة عشر دقائق قبل الثالثة ثم يبدأ الهجوم بتقدم مجموعة التفجير إلى الأسلاك الشائكة لعمل فتحات "بالبنجالور" يعقبها اقتحام شامل بالسنكي تحت ستار نيران البنادق والرشاشات "البرن" في داخل المستعمرة في أول ضوء النهار، وصدرت التعليمات بالاستعداد، وفي الواحدة بعد منتصف الليل بدأ موكب جند الله في التوجه إلى مستعمرة "كفار ديروم".

كنت ضمن مجموعة مدفعية الهاون 62مللي، وكان قائد الفصيلة الملازم معروف الحضري وأخذنا مواقعنا بجانب الأشجار الكثيفة بالقرب من الطريق العام، وبجوارنا فصيلة مدفعية 7.3مللي، والمسئول عنها الملازم كمال الدين حسين، وفصيلة مدفعية 2رطل والمسئول عنها الملازم حسن فهمي عبد المجيد.. وكان اليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف مسئول عن موقع شمال المستعمرة، وعليه أن يبدأ الهجوم بعد قذائف المدفعية، وفقًا للخطة الموضوعة.. ولكن لسبب ما، تأخرت المدفعية في إطلاق قذائفها عن الموعد المتفق عليه، وبالتالي توقفت الخطة وانتظر الجميع حتى بدأ ضوء النهار يظهر.. وكانت الكارثة.

المأساة والدروس المستفادة:

ما حدث في معركة اقتحام "كفار ديروم" كان نتيجة خطأ غير مقصود، والأخطاء بالطبع واردة لأننا بشر، ولكن من الأفضل أن يتم معالجتها سريعًا حتى لا تتكرر.. انطلقت المدفعية بعد الساعة الرابعة صباحًا الثالث عشر من مايو 1948 أي بعد أكثر من ساعة وعشر دقائق من الخطة، وكان قد انبثق أول ضوء للنهار وتوقفت بعد عشر دقائق واشتعلت المستعمرة وسقطت الأبراج التي كانت بها، دون أن تنطلق منها رصاصة واحدة، وعندئذ بدأت عملية الاقتحام، وفي شمال المستعمرة كانت المجموعة المكلفة بنسف الأسلاك الشائكة بألغام "البنجالور" قد أصيبت ببعض الألغام، وكانت تريد الهجوم فتقدم الأخ "عمر عثمان بلال" وهو من إخوان الإسكندرية، وطلب من القوة الرجوع للخلف ثم قذف بنفسه فوق الأسلاك الشائكة المشحونة بالألغام، فتطايرت الأسلاك، وتطاير معها جسده أشلاء ممزقة بعد أن حقق المعجزة وفتح لإخوانه ثغرة في الأسلاك بدمه الطاهر الزكي، وفتحت السماء أبوابها لتستقبل ضيفًا جديدًا من أهل الدنيا هو الشهيد "عمر عثمان بلال" الذي قدم لإخوانه أعظم تضحية في سبيل الله وأن الموت في سبيل الله أسمى أماني الأخ المسلم..

بدأ الهجوم بعد ذلك على المستعمرة من كل اتجاه، ومن كل المجموعات والفصائل حتى إن فصيلة المدفعية التي كنت بها أمرها قائدها معروف الحضري بالتقدم للهجوم، رغم أن الخطة لم تأمرنا بذلك، وفعلا تقدمنا في مواجهة المستعمرة.. كانت المستعمرة عبارة عن أرض زراعية مغطاة بالقمح في مرحلة النضج واليهود – لعنهم الله – أقاموا بها سراديب وخنادق تحت الأرض، ودشمًا يظهر بعضها فوق سطح الأرض.. ولم يكن هذا في حسابنا.. ظلت العصابات اليهودية ساكنة في الدشم والخنادق والسراديب، حتى اقترب الإخوان من الأسلاك الشائكة، وهنا انطلقت النيران من جميع الاتجاهات لتحصد الكثير من الشهداء وتصيب آخرين في مشهد مروع مباغت.. وبلغ عدد الشهداء في هذه المأساة 46شهيدًا وحوالي 30جريحًا.. ومن المواقف التي أذكرها أن معروف الحضري كان يقف بجوار الأسلاك الشائكة عندما رأى رجلا في زي أعرابي يقول له تقدم فظن أنه معنا، ولكن اتضح أنه جاسوس مختوم بخاتم عصابات "الهاجاناه" الصهيونية، وتقدم معروف الحضري، فأطلقوا عليه دفعة من رشاشة "برن" في جسده فسقط مضرجًا في دمائه، وقام من بجواره بسحبه إلى الخلف حيث كانت سيارة الإسعاف تنتظر وبها طبيب يدعى الدكتور "غراب" يداوي الجرحى لحين وصولهم إلى المستشفى.

ولما اشتدت المعركة أرسلني القائد أحمد عبد العزيز إلى الخطوط الأمامية لأطلب من الجميع الانسحاب، وزحفت وسط أعواد القمح وطلقات الرصاص من العصابات اليهودية حتى أبلغت الجميع وانسحبنا من المعركة الدامية بهذا العدد من الشهداء والجرحى، والخسائر المادية والمعنوية..

وتم نقل الجرحى للعلاج في المستشفى العربي بغزة، وفي المساء حضر عدد من الإخوان من كتيبة المجاهد الأستاذ محمود عبده ليقوموا بدفن الشهداء في مدافن الشهداء في غزة، وكان من بينهم أخوان شقيقان من السرية الرابعة، عشت معهم في معسكر الهايكستب فرأيت الكثير من كريم صفاتهم وأخلاقهم.. أصيب الأخ محمد حسن العناني في فخذه، فلم يتمكن من وضع "البنجالور" تحت الأسلاك الشائكة لنسفها وفتح ثغرة، كما كان مكلفًا بذلك، ونزف نزفًا شديدً بعد الإصابة، فاستغاث بشقيقه عبد الوكيل بصوت منخفض وكان أخوه من مجموعة "البرن" فبدأ يتحرك نحوه، رغم ما في ذلك من مخالفة للأوامر العسكرية، وتراجع عبد الوكيل للخلف وسحب بندقية شقيقه وسلمها لقائد الفصيلة، وعندما حاول محمد الانسحاب لم يستطع بسبب الجرح، فلم يتحمل شقيقه عبد الوكيل المشهد واندفع بعاطفته نحو أخيه، فأصابته دفعة من طلقات الرصاص فاستشهد في الحال.

رؤيا صالحة:

كان استشهاد الأخوين: محمد وعبد الوكيل، تحقيقًا لرؤيا صالحة رآها أبوهما الرجل الصالح، فتحققت كفلق الصبح.. رآهما أبوهما يجلسان في الجنة.. وعندما ذهب بعض الإخوان من المركز العام لإبلاغ والدهما بالخبر فتح لهم الباب قائلا: لا أحد يعزيني.. فقد أدرك الرجل الصالح ما يريدون.. ومن المشاهد والمواقف التي لا تنسى أن هذا الرجل الصالح ذهب إلى المركز العام للإخوان المسلمين في اليوم التالي والتقى بالإمام الأستاذ حسن البنا، وقدم له ابنه الثالث قائلا: أريد أن أرسله ليشارك إخوانه الجهاد في فلسطين، فداعبه المرشد بقوله: يا رجل يا طماع خُذ ابنك وعُد وكفاك أن لك اثنين في الجنة".

أعاد موقف الأب المجاهد الصابر القلوب والنفوس إلى ذكريات عهد الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وها هو يتجسد الآن في أمثال هذا الرجل العظيم، تقبل الله منه شهيديه، وأنزلهما منازل الأبرار.