المحاكمات العسكرية في الحقبة الناصرية
بقلم / الفريق عبدالمنعم عبدالرؤوف
المحاكمة أمام المجلس العسكرى العالي
فى صبيحة أول ابريل 1954 استدعيت لمقابلة مأمور السجن, وفى غرفته التقيت باثنين من ضباط السجن جاءا ليعلنانى بالمثول أمام المجلس العسكرى العالى الذى عقد يوم الاثنين 17 من ابريل فقلت لهما:
عن هذا موعد قريب جدا من جهة ومن جهة أخرى إننى متمسك بالمحاكمة أمام محكمة مدنية نظرا لأننى محال على المعاش منذ ثلاثة أشهر, فكيف يطبق القانون العسكرى علىّ؟!! وبعد أخذ ورد بينى وبينهما وتدخل مأمور السجن اقتنعت بأن لا مفر من قبول الأمر الواقع وتسلمت منهما صورة الادعاءات ثم انصرفا.
وقبيل العصر زارنى بالسجن نائب الأحكام البكباشى خليل محمد خليل الذى اعتذر لى لكونه مدعيا فى محاكمتى طالبا منى تقدير ظروفه وطالبنى بتقديم كشف بأسماء شهود النفى والأخلاق فقدمت له كشفا بشخصيات مصرية اشتركت معى فى حوادث وأعمال وجهاد ضد المحتلين الإنجليز وضد الحكومات الحزبية الفاسدة التى كانت تعاصرهم.
ومن هذه الشخصيات:
- الفريق عزيز المصرى.
- البكباشى أنور السادات.
- الأستاذ شوكت التونى المحامى.
- الصاغ خالد محيى الدين.
- الطيار حسن عبد العظيم عزت.
- البكباشى جمال عبد الناصر.
وقدمت كشفا بأوراق رسمية تثبت على رأس الكتيبة التاسعة عشرة التى حاصرت وهاجمت قصر رأس التين فى يوليو 1952 والمعارك التى خضتها مع متطوعى الإخوان المسلمين فى فلسطين عام 1948. كما قدمت أيضا كشفا بأسماء فلسطينية تشهد بمحبة أهالى القطاع المصرى الفلسطينى لى بسبب ما قمت به من مجهود مضن فى تدريب الكتيبة الفلسطينية على أحدث دروب القتال أمثال عبد الرحمن الفرا والشيخ عبد الله أبو ستة والأستاذ هاشم الشوا وغيرهم.
أبلغت خبر بدء محاكمتى لإخوانى الضبط فاعترتهم الدهشة لهذا التحول المفاجىء, وبدأ كل منهم يعرض علىّ خدماته وينظم أقواله لصالحى فى حالة استدعائه كشاهد إثبات ضدى.
انتدبت الأستاذين طاهر الخشاب المحامى واللواء عباس زغلول المحامى للدفاع عنى, كما أن المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ حسن الهضيبى انتدب الأساتذة عبد القادر عودة والأستاذ حسن العشماوى, وتطوع للدفاع عنى الدكتور عبد الله رشوان والأستاذ عبد الكريم منصور.
وفى صبيحة يوم الاثنين 17/ 4/1954 عقد المجلس العسكرى العالى بجهة معسكر العباسية برئاسة الأميرلاى عبد الجواد طبالة وعضوية القائمقام حسن عبد اللطيف والبكباشىحسن محفوظ ندا والبكباشى يوسف السباعى وقائد الجناح على لبيب ونائب الحكام البكباشى( لا أذكر اسمه) والمدعى العسكرى حسن خليل وأعضاء منتظرون. وكانت الادعاءات كالاتى:
الادعاء الأول : افتتح رئيس المجلس العسكرى جلسته الأولى, وعندما سألنى عمن أعارض فيه من هيئة المجلس عارضت فى الرئيس نفسه الذى اصفر وجهه وأخذته المفاجأة, وعارضت فى كل من, البكباشى محفوظ ندا, والبكباشى يوسف السباعى. أما أسباب المعارضة فلم أكاشفهم بها لحين عرضها على المحامين الذين تأخر حضورهم بسبب سوء الموصلات أو أنهم ضلوا طريقهم, ولما عرضت أسباب رد الأعضاء على هيئة الدفاع لم يوافقونى عليها وإنى أوجزها فى الآتى:
أما عن سبب ردى للأمير ألاى عبد الجواد طبالة فقد كان مشرفا على هيئى التحرير فى مديريته ومعروفا بعدائه لجماعة الإخوان المسلمين منذ معارك فلسطين, وعين أخيرا مديرا للكلية الحربية متخطيا الكثير من ضباط الجيش الممتازين.
أما عن البكباشى حسن محفوظ ندا فلأنى أعرف عنه فظاظة القلب منذ كان صف ضباط على بالكلية الحربية وتسبب لى فى أربعة عشر يوما حجز قشلاق بدون ذنب جنيته مما اضطرنى لأن أقذف البندقية فى وجهه, وكدت أطرد من الكلية ولكن الله سلم.
أما يوسف السباعى فلأنى أعرف الكثير عن مؤلفاته الداعرة, فتصورت أن مثل هذا الكاتب لا يستسيغ مبادىء الإسلام التى تجاهد من أجلها جماعة الإخوان المسلمين, وبالتالى لا يحب شباب الجماعة.
ولقد أكبرت يوسف السباعى عندما تقدم نحوى بعد انتهاء الجلسة وصافحنى متمنيا لى الخير. ماذا يريدون من محاكمتى؟
فى الجلسة الثانية التى عقدها المجلس سمع اعتراضي , وبدأت المحاكمة الجائرة التى لم يشهد القضاء العسكرى أو المدنى مثيلا لها فى التاريخ وسنوجز فى السطور التالية النقاط الهامة الواجب إبرازها:
1- كان غرض مجلس قيادة الثورة من هذه المحاكمة الجائرة إلصاق التهم الباطلة بالإخوان المسلمين الضباط الموجودين بالجيش ثم طردهم من الخدمة كى يطهروا الجيش من كل عناصر المقاومة, ومن ثم يتحول إلى جماعة الإخوان المسلمين ليحلها مرة ثانية, ويلقى بقيادتها فى غيابات السجون, ولقد سبق هذه المحاكمة التخلص من كثير من الإخوان المسلمين الضباط بالبوليس فنفت بعضهم وشتت الآخرون فى أنحاء الوجه القبلى, كما نقل عدد يربو على الستين موظفا من القاهرة ومنطقة القنال إلى الصعيد أيضا, ولا شك فى أن مثل هذه ( الفركشة) فى صفوف الإخوان علاوة على مجهودات جمال عبد الناصر المتواصلة لجذب أنصار من صفوف الجماعة لصفة, من أمثال الشيخ سيد سابق, ومحاولة تشكيك الإخوان فى صلاحية الأستاذ حسن الهضيبى كمرشد للجماعة , وتأليب بعض الشبان من أعوان عبد الرحمن السندى لمحاصرة دار المرشد العام ومحاولة إرغامه على تقديم استقالته, ومحاولة شغل الإخوان فى مناقشات بيزنطية تدور حول التعاون مع الحكومة أو هدم التعاون, وأن العداء بين الإخوان والحكومة سببه عنجهية المرشد وعناده إلى غير ذلك من الافتراءات والأباطيل... كل هذا يوحى بسوء نية الثورة نحو جماعة الإخوان المسلمين.
2- ثبت من سياق التحقيقات والمحاكمة أن نية مجلس الثورة كانت مبيتة لمحاكمتى قبل التحول لمحاكمة أبو المكارم عبد الحى وحسين حمود حمودة ومعروف الحضرى وعبد الكريم عطية والصولات بقصد اعتقالنا أطوال مدة ممكنة, وشغل قيادة الإخوان بنا ومحاولة مساومة الجماعة علينا وعلى حساب الوطن بأن لا يعارض الإخوان المسلمون اتفاقية الجلاء.
3- كان شهود الإثبات ضدى فى القضية اثنين وعشرين شاهدا, تحولوا جميعا عدا خمسة إلى شهود نفى, وطعنوا جميعا فى الأقوال الابتدائية التى أخذها منهم وزير الداخلية البكباشى أركان حرب زكريا محيى الدين , وصرح هؤلاء الشهود بأنها أقوال مزورة لم يسمح لهم بتلاوتها, وأجبروا على التوقيع عليها تحت ضغط التهديد والإرهاب, ولقد أثبتوا ذلك أمام المجلس العسكرى العالى.
4- ثبت أمام المجلس العسكرى أن رئيس الوزراء جمال عبد الناصر وقائد البوليس الحربى أحمد أنور لفقا بينهما قصة انقلاب خيالية ثم اجتمعا بدار الأول بمنشية البكرى بكل من الصاغ عبد الواحد سبل واليوزباشى الموجى والصاغ أركان حرب حسين حمودة والصاغ ا{كان حرب معروف الحضرى ليوهموهم بأن هناك قوات مسلحة تريد إحداث انقلاب وتطلب معاونة جماعة الإخوان المسلمين أو على الأقل معرفة موقفهم من الانقلاب وتأييده إن أمكن تأييدا أدبيا.
5- لما وجد عبد الناصر وأحمد أنور أن جماعة الإخوان المسلمين متيقظة لمثل هذه اللعبة الدنيئة أسرع فى القبض على الإخوان الضباط حتى إذا فرغ من محاكمتى بتهمة تكتيل ضباط بالعريش ورفح وغزة بقصد إحداث انقلاب فى القطاع المصرى الفلسطينى وسيناء بدأ فى محاكمة الباقين بنية إحداث انقلاب فى القاهرة.
6- استطاعت هيئة الدفاع عنى وعلى رأسها الشهيد عبد القادر عودة أثناء استجواب الشهود أن تهلهل شهادات شهود الإثبات من واقع كلامهم المتناقض حول أمكنه وأوقات وأسلحة التدريب التى ادعوا أننى كنت أنظمها لجماعة الإخوان المسلمين فى منطقة صحراء سيناء وحول خطة الانقلاب التى أرسلتها مع اليوزباشى سعد الدين صبرى هى كانت خطة أم تقدير موقف؟ وما محتوياتها فى كل حالة وحجم الورقة التى كتبت عليها ونوع الرصاص والحبر اللذين كتبت بهما, كما أوضح الشهيد عبد القادر عودة لهيئة المجلس أن سعد الدين صبرى كان مدفوعا من جهة المخابرات للإيقاع بى.
7- وبالرغم من أن هيئة لالدفاع دفعت بعدم جواز محاكمتى أمام القضاء العسكرى لسببين:
أولا: لمرور ثلاثة أشهر على التهمة الموجهة لى كنص قانون الأحكام العسكرية.
ثانيا: لإحالتى إلى المعاش والإحالة إلى المعاش لضابط فى سن صغيرة مثلى وبدون سبب تعتبر عقابا وجزاء ولا يجوز توقيع جزاءين على جناية واحدة كنص القانون العسكرى.
أقول بالرغم من كل ذلك فإن هيئة المحاكمة وبالأخص للأمير ألاى عبد الجواد طبالة والبكباشى حسن محفرظ ندا وقائد الجناح على لبيب عندما رفض طلب الدفاع فى مثول كل من القائمقام أركان حرب يوسف صديق والقائمقام أحمد شوقى والصاغ خالد محيى الدين , وقائد الأسراب حسن عبد العظيم عزت والفريق عزيز المصرى أمام المحكمة كشهود نفى وأخلاق.
وهنا يسجل التاريخ عبارة قالها الأستاذ الشهيد عبد القادر عودة:
"إن الوطن الذى لا عدالة فيه لا أمن فيه!"
قالها عندما رفضت هيئة المحكمة مثول الشهود السابق ذكرهم بحجة أن أمن الوطن يقتضى ذلك, ووضحت نياتها السيئة.
كذلك عندما تقدم الدفاع لهيئة المحكمة شاكيا عدم مثول الصاغ أركان حرب معروف الحضرى والصاغ أركان حرب حسين حمودة,واليوزباشى عبد الكريم عطية كشهود نفى, رغم طلبهم بالطرق القانونية عن طريق إدارة الجيش’
لكن الرئيس المحكمة أعلن عدم إمكانية إحضارهم , مخالفا استفتاء نائب الأحكام الذى أعلن احتجاجه كتابة فى محضر الجلسة لخروج الرئيس على قانون الأحكام العسكرية, وأخيرا وافق الرئيس مكرها واستجاب لفتوى نائب الأحكام .
8- كان يبدو على الرئيس وأغلب الأعضاء ضيق صدورهم نحو العدد الكبير من الإخوان المسلمين يزداد عددهم يوما بعد يوما لحضور المحاكمة فأصدرت المحكمة أوامرها للصحف كافة بعدم نشر أى شىء عنها, بل وعطلت جريدة الجمهور المصرى, وحكمت فيما بعد على صاحبها الأستاذ أبو الخير نجيب بعشر سنوات سجن, وحددت عدد المسموح لهم بالحضور لمحاكمة!!
9- الانتقال إلى السجن الحربى:
فى يوم 28/4/1954, ولم يبق على حلول عيد الفطر سوى أسبوعين تقريبا نقلنا جميعا إلى السجن الحربى وهناك تعرضنا لمعاملة سيئة وتضييق مؤلم يتنافى مع وضعنا كضباط وأيضا كمواطنين لم تثبت بعد إدانتنا.
ومن صور هذه المعاملة ما يلى:
• وضع كل منا فى زنززانة انفرادية طوال اليوم.
• لا تفتح الزنزانة فى الأربع والعشرين ساعة إلا ساعة واحدة يتمشى فيها كل منا بمفرده فى حديقة السجن الخالية من الظل وذات الجو الخانق.
• المشى فى أرض الحديقة الجرداء تحت حراسة الجنود شاكى السلاح والسونكى مركب, وفى يوم 7/5/1954 كتبت طلبا لقائد السجن الحربى راجيا منه تنفيذ الطلبات الآتية:
أ- السماح لى بالإطلاع على الصحف اليومية.
ب- إحضار مذياع لغرفتى.
ت- زيادة فترة الفسحة لأربع ساعات يوميا.
ث- السماح لأسرتى بزيارتى.
وبينت له فى طلبى أننى كنت متمتها بكافة هذه الطلبات عندما كنت فى سجن المحطة, وأن المعاملة الحاضرة لنا لا يجوز تطبيقها على المجرمين السياسيين, وأن محاكمتى اجتازت طور التحقيق وهى الآن فى المرحلة الأخيرة.
غرائب لم تحدث من قبل:
كان لسوء معاملتنا أثر كبير فى نفوسنا خاصة بعد أن وصل إلى مسامعنا اعتقال زوجة القائمقام يوسف منصور صديق, لأنها عاتبت جمال عبد الناصر تليفونيا وتطور العتاب بينهما إلى تبادل الألفاظ النابية.
والمخجل فى تاريخ جمال السفاح ألا يتسع صدره لإمرأة مناضلة كانت توزع بنفسها منشورات الضباط الأحرار فى الطرقات والدور فيزج بها فى سجن محطة مصر الرجالى, وبذلك فرق بين الزوجة وزوجها وبينها وبين أبنائهما الصغار الذين لم يتعد سن أكبرهم اثني عشر عاما.
الإضراب عن الطعام:
فكر القائمقام يوسف صديق فى الإضراب عن الطعام, ونفذ الإضراب وامتدت العدوى إلى البكباشى أركان حرب أبو المكارم عبد الحى , والصاغ أركان حرب معروف الحضرى والصاغ أركان حرب حسين حمودة , واليوزباشى عبد الكريم عطية وإلىّ أيضا.
فحضر قائد السجن الحربى يرجوننى العدول عن الإضراب مقسما لى بأن المرشد الأستاذ حسن الهضيبى سبق فى محنة مارس السابقة أن زجر الإخوان المضربين هن الطعام لمخالفة ذلك الدين الإسلامى. فصدقته أوقفت إضرابى فورا.
بالرغم من هذا التشديد والتضييق وسوء المعاملة استطعت أن ألتقى فى ممر السجن المؤدى إلى دورة المياة ( خصوصا قبيل الإفطار وبعده وعند الوضوء) بقائد الأسراب حسن عزت والأستاذ المجاهد أحمد حسين.
أما الأول فقد أودع السجن قرابة أسبوع للتحقيق معه فى محاولة اغتيال جمال عبد الناصر بالاتفاق مع الأستاذ عز الدين عبد القادر ثم أفرج عنه لتدخل البكباشى أنور السادات لما بين زوجة كل منهما والأخرى من صلة نسب.
وأما الثانى وهو الأستاذ المجاهد أحمد حسين فقد أفرج عنه بعد هربى من السجن بشهرين أو ثلاثة بعد وساطة بعض أصدقائه من الأعضاء السابقين فى جمعية مصر الفتاة.
انقطعت الاتصالات بيننا نحن الضباط الإخوان داخل السجن وبين الإخوان المسلمين بمن فيهم المرشد بعد انتقالنا إلى السجن الحربى.
المصدر: كتاب الأستاذ عبدالمنعم عبدالرؤوف "أرغمت فاروق على التنازل عن العرش"