اغتيال الإمام حسن البنا جريمة في حق الأمة
(21-02-2015)
مقدمة
(... حسن البنا كلما باعدت الأيام بيننا وبين يوم استشهاده ازدادت شخصيته وضوحا وإشراقا وإثارة نورا وبهاء .. إنه كاللوحة الفنية البديعة .. كلما ابتعدت عنها محملقا في روعتها كلما وضح أمام ناظريك رواؤها ودقة الإبداع فيها. وحقا ما مضي عام إلا ازداد تاريخ حسن البنا وضوحا في ميادين الدعوة الإسلامية وظهر ما أجراه الله من خير على يديه للإسلام والمسلمين ..). أ. عمر التلمساني – رحمه الله
لم يكن وداعا
كتب والد الإمام الشهيد حسن البنا، المرحوم الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، في الذكرى الثانية لاستشهاده يقول:
- " أتمثلك يا ولدي وأنت رضيعٌ، وقد حُملت في الليل مسفوكًا دمك، ذاهبة نفسك، ممزقة أشلاؤك، أذتك حياتُ الغاب، ونهشت جسدك حياتُ البشر، فما هي إلا قدرة من الله وحده تثبت في هذا الموقف، وتعين على هذا الهول وتساعد في هذا المصاب
- فأكشف عن وجهك الحبيب فأرى فيه إشراقة النور وهناءة الشهادة، فتدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، وأقوم يا ولدي على غسلك وكفنك، وأصلي وحدي من البشر عليك، وأمشي خلفك أحمل نصفي.. ونصفي محمول، وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.
- أما أنت يا ولدي، فقد نلت الشهادة التي كنت تسأل الله تعالى في سجودك أن ينيلك إياها، فهنيئًا لك بها... وأما أنتم يا من عرفتم ولدي واتبعتم طريقه، إن خير ما تحيون به ذكراه أن تنسجوا على منواله وتترسموا خطاه، فتتمسكوا بآداب الإسلام، وتعتصموا بحبل الأخوة، وتُخلصوا العمل والنية لله".
شاهد على جريمة العصر
الأستاذ عبد الكريم منصور المحامي هو صهر الإمام الشهيد حسن البنا ورفيقه أثناء حادث الاغتيال الذي تم في الساعة الثامنة والثلث من مساء يوم السبت من فبراير سنة 1949 .. وقد أصيب الأستاذ عبد الكريم في الحادث بعدة إصابات خطيرة ولكن الله شاء له الحياة بعد أن نشرت الصحف أنه مات..
وفي السطور التالية يحدثنا عن ذكرياته عن حادث الاغتيال.
هذا ما حدث في ليلة 12 فبراير 1949
قال الأستاذ عبد الكريم:
سبق حادث الإغتيال عدة اجراءات تتلخص فيما يلي:
- اعتقال الإخوان عدا الإمام الشهيد وإيداعهم السجون
- سحب المسدس المرخص الخاص بالإمام الشهيد
- قطع خط التليفون حتى لا يتمكن من الاتصال بالخارج
- سحب الجندي المكلف بالحراسة على منزل الإمام الشهيد، رغم أنه عرض عليهم التكفل براتبه (وكان جميع الزعماء توضع لهم حراسة خاصة).
- اعتقال أخيه الأستاذ عبد الباسط الذي أحس بالمؤامرة علي أخيه وجاء ليحرسه
- اعتقال كل من ذهب لزيارة الإمام حسن البنا ؛ وإذا دخل الزائر ولم يرى اعتقل أثناء خروجه
- إذا سلم عليه شخص في الطريق أثناء سيره اعتقل حتى ولو كان من غير الإخوان المسلمين.
- سحب السيارة الخاصة بالإمام الشهيد وكانت ملك صهره الأستاذ عبد الحكيم عابدين.
- عدم السماح له بمغادرة القاهرة أو السفر إلى أي مكان.
- شغل الإمام الشهيد بمفاوضات الصلح بينه وبين الحكومة.
وفي يوم الاغتيال كلفني الإمام الشهيد حسن البنا قبل العصر بالذهاب إلى التليفونات الخارجية في السيدة للاتصال بالشيخ عبدالله النبراوي في بنها لكي أبلغه رغبة الإمام في الإقامة عنده في عزبته (ابعادية النبراوي) وكانت العزبة محاظة برجال النبراوي وحراسه. فلما تكلمت رد على أهله وقالوا لا داعي لحضور الإمام لأن البوليس جاءنا وضربنا ودمر أثاث المنزل وممتلكاتنا واعتقل الشيخ عبدالله.
وعدت إلى الإمام الشهيد لأخبره بنتيجة المكالمة فقال إنه قد جاءه الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشبان بجمعية الشبان المسلمين وأخبره بأن الحكومة تريد استئناف المفاوضات وأن بعض الشخصيات الحكومية ستحضر في الشبان لهذا الغرض.
فأخبرت الإمام بأمر اعتقال الشيخ النبراوي ورجوته عدم الذهاب إلى الشبان المسلمين ولكنه رحمه الله صمم على الذهاب قائلا : إني وعدت ولا يجوز لي أن أخلف الميعاد.
وذهبنا إلى الموعد وكان عقب صلاة المغرب من يوم السبت 11 فبراير سنة 1949 وجلسنا في الشبان ولم تحضر الشخصية الحكومية حتى العشاء فقام الإمام الشهيد وصلى بالموجودين في الجمعية صلاة العشاء ثم جلسنا قليلا بعدها ولم تحضر هذه الشخصية.
وهنا طلب الإمام الشهيد حسن البنا من الأستاذ محمد الليثي أن يستوقف تاكسي، وخرجنا من الجمعية إلى شارع رمسيس الذي كان مظلما وكانت الساعة تشير إلى الثامنة والثلث، ووقف التاكسي الذي لم يكن هناك غيره في الشارع كله، ودخل الإمام الشهيد في المقعد الخلفي ودخلت بعده وجلست إلى يمينه، ثم نهض وأبدل المقاعد فجلس على يميني وجلست على يساره.
وفي هذه الأثناء كان يقف أمام السيارة شخصيان فتقدم أحدهما إلي وأراد فتح باب السيارة فأغلقته، وحاول الفتح وأنا أحاول الغلق مهددا لي بمسدسه وأخيرا فتح الباب وأطلق على صدري الرصاص فتحولت إلى الجهة اليسرى فجاءت الرصاصة في مرفقي الأيمن، وأمسكت بيده التي فيها المسدس وحاولت بيدي الأخرى أن أنتزع منه المسدس فلم أجد ذراعي إلا معلقا والعضد هو الذي يتحرك فقط
وهنا أطلق المجرم رصاصة أخرى اخترقت المثانة وشلت حركة الرجل اليسرى، وهنا عجزت عن الحركة، فتركني وتوجه إلى الإمام الشهيد وحاول فتح الباب ولم يستطع فأطلق الرصاص عليه، ثم فتح الباب وظل يطلق الرصاص على الإمام الشهيد وهو يتراجع، وهنا قفز الإمام الشهيد من السيارة وجرى خلفه حوالي مائة متر إلا أن سيارة كانت تنتظره عند نقابة المحامين فاستقلها وهرب، وعاد الإمام الشهيد فحملني وأجلسني في السيارة حيث كانت رجلي اليسرى خارج السيارة لا أستطيع تحريكها.
ونادى الإمام على الأستاذ محمد الليثي وقال له اكتب رقم السيارة عندك 9979 وجاء شخص آخر طويل القامة أسمر وقال هل أخذتم رقم السيارة التي ارتكبت الحادث .. رقمها 9979 وانصرف.. ودخل الإمام البنا إلى جمعية الشبان المسلمين وطلب الإسعاف بنفسه ولكنها تأخرت وهنا كان الناس قد تجمعوا فطلبوا من سائق التاكسي أن يوصلنا فرفض ولكنهم أرغموه على ذلك فأوصلنا إلى الإسعاف.
وأمام الإسعاف حملني الإمام الشهيد مرة أخرى من السيارة وأدخلني إلى الإسعاف، وقبض حرس الإسعاف على سائق التاكسي الذي حاول الهرب. وجاء طبيب الإسعاف ليسعف الإمام البنا الذي قال له : اسعف الأستاذ عبدالكريم أولا لأن حالته خطيرة.
في القصر العيني
ورأى طبيب الأسعاف أن حالتي تستدعي النقل إلى القصر العيني فنقلنا أنا والإمام الشهيد وأدخلونا إحدى الغرف وجلسنا فترة حتى اتصلوا بالطبيب المناوب في منزله في روكسي بمصر الجديدة واستدعوه من السينما المجاورة حيث كان يشاهد فيلما، وركب سيارته وجاء إلى القصر العيني.
مندوب الملك يطمئن
في هذه الأثناء دخل علينا الأمير لاي محمد وصفي مندوب الملك وقال صارخا (أنتم لسه ما متوش يا مجرمين) وانصرف .. وهنا دخل الطبيب الذي أراد أن يسعف الإمام الشهيد أولا ولكنه قال له : اسعف الأستاذ عبدالكريم أولا .. وأمر الطبيب أحد الممرضين بخلع ملابس الإمام الشهيد ولكنه نهض من على السرير وخلعها بنفسه كذلك وعندما أرادوا أخذ اسمي وعنواني قال لهم الإمام الشهيد اتركوا الاستاذ عبدالكريم لأن حالته خطيرة ، وأعطاهم هو الاسم والعنوان.
وهنا دخل الأميرالاي محمد وصفي مندوب الملك مرة ثانية وقال للطبيب: أنا جاي من عند الحكمدار لأعرف حالة الشيخ حسن البنا ... فقال له الدكتور إن حالته ليست خطيرة. وبعد ذلك فصلوا بيني وبين الإمام البنا ووضعوني في غرفة مع أحد المرضى ووضعوا الإمام في غرفه وحده.
وعلمت فيما بعد أن الأميرلاي وصفي أتى إلى المستشفة مندوبا عن الملك وكان مكلفا بالإجهاز على حياة الإمام الشهيد .. إذ منع الطبيب من مواصلة العلاج وترك دماء الإمام تنزف حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها تشكو ظلم الطواغيت.
إعلان وفاتي
ويضيف الأستاذ عبدالكريم:
- لم تكن حالة الإمام الشهيد خطيرة فقد كان أصابته رصاصة تحت الرئة اليمنى، وكان علاجه سهلا، ولكن المجرمين تركوا دماءه تنزف حتى فاضت روحه. ويقول الأستاذ عبدالكريم بعد استشهاد الإمام حسن البنا بعدة أيام أعلنت جريدة الأساس أنني مت، ونشرت خبرا كان عنوانه وفاة المصاب الثاني.
ولما جاء مندوبها إلى المستشفى ليعرف المكان الذي سأدفن فيه، أخبرته إدارة المستشفى أنني لا زلت على قيد الحياة، وظلت أعالج لعدة أشهر وشاء الله لي الحياة .
وهكذا
- "مات الرجل وفنى الجسد، ولم تمت الفكرة ولم تخمد جذوتها، بل توهجت وعاشت وانتشرت من مصر إلى سائر بقاع الأرض، رحل المرشد والقائد وبقيت الدعوة والجماعة تحمل رسالة الحق والقوة والحرية،وتوسعت فى كل قارات الدنيا المعمورة".
تهتف
- "الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله اسمى أمانينا"
كانت هذه خاتمة حياة الملهم الموهوب الإمام حسن البنا رحمه الله
أما بدايات الخير العميم فترسمه هذه الصورة وهي تنطق بنفسها بسر هذه الدعوة حيث يظهر فيها ثلاثة من الستة المؤسسين للجماعة (زكي المغربي - أحمد الحصري - عبد الرحمن حسب الله) ويظهر فيها الشيخ علي الجداوى أول نائب للإخوان بالإسماعيلية بعد الإمام البنا،كما يظهر فيها الشيخ: محمد فرغلي رئيس منطقة الإسماعيلية وعضو مكتب الإرشاد بعد ذلك.
حسن البنا 66 عاما على الرحيل ودعوته في أوج قوتها
بقلم الأستاذ: صلاح عبدالمقصود
في مثل هذا اليوم من عام 1949 م استشهد الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، كبرى الحركات الإسلامية في العالم. ولد رحمه الله في 14 أكتوبر 1906، وتخرج في دار العلوم 1927م.
أسس جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية، بمشاركة ستة من الشباب الذين اقتنعوا بمشروعه الدعوي، كانوا بسطاء؛ لكنهم اليوم من عظماء التاريخ، كان منهم العامل، والجنايني، والسائق، والحلاق، والميكانيكي - نعم هذه مهنهم - ولكن الرجل صهرهم في بوتقة الدعوة، وأسس بهم، بتوفيق الله، أكبر جماعة.
لم يهمل الإمام رحمه الله المرأة، فقد كان ينظر إليها على أنها تمثل نصف المجتمع، وتربي النصف الآخر، فأسس قسم الأخوات المسلمات منذ بواكير الدعوة، وجعل على رأسه السيدة لبيبة أحمد، وبالمناسبة كانت تعمل كاتبة صحفية، وتترأس مجلة نسائية اجتماعية هي مجلة الشرق.
اهتم بالإعلام فأصدر أول صحيفة للإخوان، باسم: جريدة الإخوان المسلمين سنة 1933.اهتم رحمه اللفه بالفنون بعدّها تشكل وجدان المجتمع، فأسس مسرح الإخوان المسلمين، في ثلاثينيات القرن الماضي، وكتب له بنفسه أول الأعمال التي جسدها. ووجه عددا من فريق مسرح الإخوان للدراسة المتخصصة ليصقلوا مواهبهم بالدراسة المنهجية.
أسهم مسرح الإخوان في تخريج عدد من كبار الفنانين، منهم على سبيل المثال لا الحصر: الفنان عبدالمنعم مدبولي، والفنان عبدالمنعم إبراهيم، والفنان المخرج التلفزيوني والسينمائي سعد أردش، وغيرهم الكثير، عليهم جميعا رحمة الله.
وكان لهذا المسرح الفضل - بعد الله - في تعريف أبناء الصعيد، وأبناء الريف المصري، بقضايا العرب والمسلمين، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. حيث كان المسرح آنذاك أفضل وسيلة لتوصيل الأفكار وصناعة الوجدان في مناطق تزيد نسبة الأمية فيها عن 70% في ذلك الزمان.
شارك رحمه الله في جهاد الاحتلال الصهيوني منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وأرسل شباب المجاهدين المتطوعين ليشاركوا الشيخ عز الدين القسام في مقاومته للاحتلال الصهيوني عام 1936م.
وبعدها حرك كتائب المتطوعين لمقاومة الاحتلال الصهيوني في عام 1948، وقاوم الاحتلال الإنجليزي في القاهرة ومدن القناة، وكبده خسائر موجعة، ليستكمل أبناؤه من بعده طريق مقاومة المحتل، في مدن القناة، أو في الداخل الفلسطيني، في الستينيات وما بعدها حتى يومنا هذا، حيث ترفع راية المقاومة كتائب العزة والكرامة وشرف الأمة، في حركة حماس. رغم حصار الأعداء وبعض الأشقاء، بل رغم تآمرهم وغدرهم.
أسس العديد من المشروعات الاقتصادية، والتعليمية، والصحية، والتربوية، والثقافية، إضافة للفرق الكشفية والرياضية، ووضع لأتباعه برامج تربوية جمعت بين إصلاح الروح، وتنوير العقل، وتنمية الفكر، وإيقاظ الوعي، والاهتمام بأمر الوطن وهموم الأمة.
تعرض رحمه الله للتضييق والاضطهاد، ونقل بأمر الإنجليز في عام 1941 م إلى أقصى جنوب مصر، في محافظة قنا، وذلك عندما أوعز الإنجليز إلى رئيس الحكومة والحاكم العسكري حسين سري، أن يبعده عن العاصمة - مركز التأثير السياسي والثقافي والاجتماعي - فكان ما أمروا به، حيث وجه رئيس الحكومة - وزير التعليم آنذاك - الدكتور محمد حسين هيكل بتنفيذ الأمر، ففعل الرجل.
لكن - وللأمانة - فإن الدكتور هيكل اعترف في كتابه: مذكرات في السياسة المصرية - وليس عن طريق التسريبات - اعترف بأن نقل الشيخ حسن البنا إلى أقاصي صعيد مصر تم بطلب من الإنجليز.
وفي عام 1942 م ترشح الإمام البنا لانتخابات مجلس النواب، وطلب الإنجليز أيضا من رئيس حكومة الوفد آنذاك، مصطفي النحاس، إسقاطه في الانتخابات. وللأمانة أيضا، فإن رئيس الحكومة الذي فرضه الإنجليز على الملك بمدافع الدبابات، اعترف للشيخ البنا - صراحة وليس تسريبا - بأن الإنجليز طلبوا مني أن أمنعك من الترشح!
كانت حركة الإخوان في هذا العام تتعرض لتضييق شديد، وصدر قبلها قرار بإغلاق مقارها وشعبها في كل المحافظات، عدا مركزها العام في القاهرة. فدخل الإمام البنا في تفاوض، انتهى بصفقة تم بموجبها سحب طلب ترشحه، مقابل إطلاق حرية العمل والدعوة لجماعته، وكان فتحا كبيرا له وللجماعة.
كتب رحمه الله مقاله الأول في صحيفة الفتح التي كان يترأسها الأستاذ محب الدين الخطيب عام 1928، وكان بعنوان "الدعوة إلى الله"، أما آخر مقال كتبه قبل اغتياله بشهرين، فكان في ديسمبر 1948 م، في جريدة الإخوان المسلمين اليومية، وكان بعنوان: "بين المنعة والمحنة"!!
عشرون عاما بين مقاله الأول ومقاله الأخير
عشرون عاما بين تأسيس الجماعة، وقرار الحكومة بحلها ومصادرة أموالها، واعتقال أبنائها، ثم اغتيال مرشدها. لكنها كانت سنوات مباركة، أقام رحمه الله فيها بناء الجماعة، ونشر فروعها وشعبها في آلاف القرى المصرية، وتعدى بمصر إلى المحيط الإقليمي والإسلامي والدولي.
لم يمت رحمه الله إلا بعد أن وفقه الله لنشر فكرته ومشروعه الدعوي في العديد من الدول، والأهم من ذلك تطبيق الجماعة لشعارها الخالد في حركتها داخل مجتمعاتها، ذلك الشعار الذي سيبقى ما بقيت الحياة؛
لأنه موصول بالله لا بالبشر:
- "الله غايتنا.. والرسول قدوتنا.. والقرآن دستورنا.. والجهاد سبيلنا.. والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
انشغل رحمه الله بتأليف الرجال، لا بتأليف الكتب والمجلدات، وجعل أساس دعوة الإخوان الحب والتعارف بين أبنائها. بمجرد أن يجلس أحد الإخوان لأحد أبناء الدعوة لأول مرة، وقد يكون من المغرب أو الهند، أو إندونيسيا، أو أوربا. ما إن يلتقي به ويتعرف عليه، إلا وسرى ذلك التواصل في الله بينهما، وكأنه يعرفه من سنوات.
هذا التعارف، وذاك الحب في الله، هو ما جعله الله سببا في قوة هذه الجماعة وصمودها، رغم العواصف والمحن التي تعرضت لها على مدار عمرها المديد. وليس أدل على ما أقول مما كتبه الأستاذ إحسان عبدالقدوس منذ سبعين عاما بمجلة روز اليوسف في 1945/9/13م، تحت عنوان: "الرجل الذي يتبعه نصف مليون"
كتب يقول عن الإخوان:
- (اركب أي سيارة أجرة، وقل للسائق: "الإخوان المسلمين يا أسطى" ولا تزد، ولن يلتفت إليك السائق ليسألك: ماذا تقصد بالإخوان المسلمين، ولا أين تقع هذه الدار التي يطلق عليها هذا الاسم، بل سيقودك إلى هناك دون سؤال، بعد أن يرحب بك بابتسامة لم تتعود أن تراها على وجوه سائقي سيارات الاجرة، وقد يرفض أن يتناول منك أجرًا، ولا شك أنه سيُحمّلك سلامه قبل أن تغادره إلى فضيلة الاستاذ حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين!!
- وستمر في طريقك داخل الدار بمخازن الذخيرة التي يملكها الإخوان، وهي الشباب، شباب ترى على وجوههم نور التقوى والايمان، وفي عيونهم حماسة الجهاد، وبين شفاههم ابتسامة تدعو إلى المحبة والاخاء، وفي يد كل منهم مسبحة انحنى عليها بروحه يذكر اسم الله، وهم مع ذلك شباب "مودرن"؛ لا تحس فيهم الجمود الذي امتاز به رجال الدين وأتباعهم، ولا تسمع في أحاديثهم التعاويذ الجوفاء التي اعتدنا أن نسخر منها.
- إنهم واقعيون يحدثونك حديث الحياة لا حديث الموت، قلوبهم في السماء، ولكن أقدامهم على الارض، يسعون فيها بين مرافقها، ويناقشون مشاكلها، ويحسون بأفراحها وأحزانها. وقد تسمع فيهم من "ينكت" ومن يحدثك عن الاقتصاد، والقانون، والهندسة، والطب، إنهم ذخيرة وستنطلق عند الاشارة الاولى فاحذروا.. ويستقبلك الاستاذ حسن البنا بابتسامة واسعة وآية من آيات القرآن الكريم، يعقبها بيتان من الشعر يختمهما بضحكة كلها بـِشـْر وحياة.
- والرجل ليس فيه شيء غير عادي، ولو قابلته في الطريق لما استرعى نظرك، اللهم إلا بنحافة جسمه ولحيته السوداء التي تتلاءم كثيرًا مع زيه الافرنجي وطربوشه االحمر الغامق، ولن تملك نفسك من التساؤل: كيف استطاع الرجل أن يجمع حوله كل هؤلاء الإخوان؟ وكيف استطاع أن ينظمهم كل هذا التنظيم، بحيث إذا عطس فضيلته في القاهرة صاح رئيس شعبة الإخوان في أسوان "يرحمك الله"؟.. انتهى كلام إحسان عبد القدوس.
لقد كتب الأستاذ البنا العديد من الرسائل والخطب والمقالات، لكنني اليوم، وفي هذا المناخ الذي يعيشه أبناؤه في أقطار عربية كثيرة، ويواجهون فيه مع قوى إسلامية ووطنية الاحتلال الصهيوني في فلسطين، أو قوى العمالة والانقلاب، والغدر والاغتصاب في عدة ساحات عربية.
اليوم، وفي ذكرى استشهاده - السادسة والستين - أضع هذه الكلمات لنتأملها.. يقول رحمه الله:
- "سيتذرع الغاصبون بكل طرق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان. وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم.
- وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتعطل أعمالكم، وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2).
ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين، ومثوبة العاملين المحسنين، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. ... فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف:10-14)
فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟
نعم ياسيدي.. أبناؤك مصرون على أن يكونوا أنصار الله، وها هم في شوارع المحروسة.. في مدنها وميادينها، في شوارعها وقراها، في نجوعها وكفورها، يواجهون الانقلاب الغادر الذي اغتصب إرادة الشعب..
يواجهونه مع الشرفاء من أبناء مصر للشهر العشرين، دون توقف، ولو ليوم واحد، في ملحمة لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلا، قدموا فيها آلاف الشهداء، وعشرات الألوف من المصابين والمعتقلين.أبناؤك يا سيدي مصرون على استعادة الحرية والشرعية والكرامة والعدالة الاجتماعية رغم المحاكم الظالمة التي نصبت لهم.
أبناؤك يا سيدي يحاكمون، وفي مقدمتهم الرئيس المنتخب من الشعب بانتخابات شهد لها العالم، وتوجه لهم تهم ظالمة وكبيرة تصل إلى الخيانة والعنف والقتل، رغم أن رئيسهم لم يسكن القصر، وأصر على البقاء في بيته الصغير المؤجر، ورفض أن يتقاضى راتبه، واحتسب أجر خدمته لشعبه عند الله.
يتهمهم القضاء الظالم بارتكاب الجرائم وهم المجني عليهم!! يأمر بمصادرة الأموال والممتلكات، وهي من عرقهم جمعوها من حلال، لا من نهب أو فساد! نعم سيدي.. ها هم أبناؤك في العديد من العواصم العربية، يواجهون الظلم والاستبداد، والديكتاتورية، والانقلاب على إرادات الشعوب.
البعض يرى أن جماعة الإخوان تعيش اليوم في العديد من الدول العربية محنة قاسية لم تعهدها من قبل منذ تأسيسها في عام 1928 م، وأنا أتفق معهم. لكنني أقول إن جماعة الإخوان اليوم في أوج قوتها، رغم ما تتعرض له من تآمر، ومن تحالف العسكر مع المال المنهوب، والإعلام الكاذب، والقضاء الفاسد، ورغم تحالف بعض الأطراف الإقليمية والدولية.
رغم كل ذلك إلا أنها في مقدمة المواجهة، تقاوم وتضحي بإصرار وإبداع، وتمسك بخيار السلمية الذي لم ولن تحيد عنه، لأنه بمشيئة الله سيوصلها مع شركائها من القوى الإسلامية والوطنية إلى النصر المبين، في مصر وفي كل الساحات التي تكافح من أجل حريتها وكرامتها وعيشها الكريم.
سلام عليك يا شهيد، وعهد مع الله أن نواصل الطريق لنصل إلى عزة الدين والأوطان.وأنتم أيها الإخوان امضوا في طريقكم واصبروا وصابروا وأبشروا.
حسن البنا .. مشروع أمة
عبد العزيز كحيل
لو أنصفوا الناس لسلّموا أن الإمام الشهيد حسن البنا هو – بكل تأكيد - مجدد القرن الرابع عشر الهجري، لو قرؤوا حياته ودرسوا تراثه واطلعوا عن كثب على ما قدّم للإسلام لما بقي لديهم شكّ في هذه الحقيقة التي انتهى اليها المنصفون من عرب وعجم ، وإنما غيّبتها عن آخرين الدعايةُ المغرضة التي لازمت حركة الرجل وجماعته من طرف أكثر من جهة لبغضها لدين الله أو لاحتكارها تمثيله دون سواها.
أبغضها العلمانيون العرب لأنه أبطل مشروعهم التغريبي بإنشاء جماعة دعوية تربوية سياسية تمثلت شمول الإسلام وحيويته ومواكبته لمسيرة الزمن لأنه دين الانسانية كلها ودين الزمن كله ، فأبطل سحرَ المبشرين بدين يلتزم ضمير الانسان في حين يتولى الفكر الغربي "الانساني" تسيير الحياة بعيدا عن الأحكام والشرائع والأخلاق ، لتنقطع الأرض عن هدي السماء .
جدّد الداعية الكبير الإسلام على نهج الشافعي وعمر بن عبد العزيز وأبي حامد الغزالي وابن تيمية ، فأخرجه من الزوايا القاصية والساكنة وأقحمه في معترك الحياة ليصلح جميع جوانبها من التربية والموعظة إلى السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية بواسطة شباب أصحاب وعي وإخلاص، يعرفون مهمتهم في الحياة ، مرجعيتهم القرآن والسنة ، وغايتهم إرضاء الله تعالى ، وقدوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنهجهم الدعوة على بصيرة ،
بذلوا أرواحهم في معارك القنال لتحرير مصر من الاحتلال الإنجليزي ثم في فلسطين لدحض الصهاينة الغزاة المعتدين، فأعطوا للجهاد معناه الأصيل ومارسوه ممارسة الأبطال الغيورين على دينهم وأرضهم وأمتهم ، ولم تمتدّ أيديهم بسوء إلى بريء مهما تقوّل عليهم المتقوّلون بالباطل من حكام مستبدين وأذناب لهم باعوا ضمائرهم للشيطان حتى لا يعمّ نور الإسلام.
وقد تميّزت دعوة الإمام الشهيد بالسعي المتواصل الحثيث لرأب الصدع بين العاملين للإسلام ولمّ شمل الدعاة والجماعات الإسلامية على اختلاف وسائلها واجتهاداتها، وعندما أيقن هؤلاء أن الرجل رباني مخلص وداعية بصير التفّ حوله أكثرهم وتناسوا خصوصياتهم الصوفية والسلفية والأزهرية وحشدوا جهودهم لخدمة دين الله وبلاد الإسلام.
استطاع مؤسس الجماعة ومرشدها الأول بناء كيان متميّز عمّا عهدته الساحة الإسلامية آنذاك من تجمّعات دينية تقليدية تذوب في الواقع أكثر ممّا تغيّره ،فهي جماعة آثرت العمل الميداني على التنظير ، والممارسة على التجريد ، كما آثر الإمام الشهيد تكوين الرجال على تأليف الكتب – رغم باعه الطويل في القدرة على الكتابة كما يدلّ تراثه-
وجسدت في المعاملة اليومية القاعدة الذهبية " نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه " ، ساعدها على ذلك الزادُ الأخلاقيُ الوافرُ الذي بثّه في أعضائها المؤسسُ الشاب ، فتجنبت تماما الجدال والمراء والمناظرات ، واتجهت إلى الشباب والفلاحين والعمال تُخرجهم من المقاهي والحانات وساحات اللهو واللغو وتحشد طاقاتهم في التزكية والبناء
كما اتجهت إلى الساسة وقادة الرأي تذكّرهم بمهامهم في خدمة الدين والوطن وقضايا المسلمين ، وبقيت على العهد نفسه والسمت ذاته بعد اغتيال مؤسسها في 12/02/1949 ، فلم تتراجع ولم تنحرف ولم تتطرف رغم ما جرّها إليه خصومها من مظالم صارخة .
توفي رحمه الله فأمدّ الله جماعته بأسباب الحياة والقوة والعطاء ، وكلما أمعن الحُكام التغريبيون في التضييق عليها فتح الله لها آفاقا أوسع ، فهي حاضرة في ميدان الأخلاق تدعّمها ، وفي ساحة الجهاد تدافع عن بلاد المسلمين وأعراضهم ، وعلى صعيد العلم تخرّج العلماء في كافة الفنون ، حتى غدا فكرُها يدلّ على الإسلام ذاته لتميّزها بالاعتدال الذي لا تحيد عنه أبدا وبالثبات على المبادئ والصرامة فيها ، والتحلي بالمرونة في الفروع والوسائل ، تنوّعُها وتستفيد من كلّ جديد نافع
وبقيت على محاسن مؤسسها:
- تجمع ولا تفرق ، وتبني ولا تهدم ، تبشّر ولا تنفّر ، تيسّر ولا تعسّر ،وقد عمد الإمام الشهيد إلى التراث الإسلامي فميّز بين الثابت والمتطوّر فيه وأشبعه بحثا وحرّر العقل المسلم من الأوهام والضبابية في الرؤية
- كما توجّه بالنظر الثاقب والدراسة المعمقة إلى الحضارة الغربية فبيّن محاسنها ودعا إلى تبنّيها كموروث إنساني نافع ، ونقَدها نقدا علميا رصينا ووضع اليد على مفاسدها وبيّن حكم الشرع فيها ودعا إلى نبذها مهما كانت الذرائع ، فكان مجدّدا حقا.
عرفت الجماهير المسلمة الجماعة من خلال أدبياتها البسيطة الواضحة ومن خلال بذلها السخيّ ورجالها ونسائها الثابتين الأوفياء للإسلام والأمة فلم تخذلها بل التفّت الأغلبية حولها واستجابت لها في العمل الخيري والنقابي والسياسي والطلابي، ومنحتها أصواتها كلما جرت انتخابات حرّة نزيهة في أيّ بلد رغم حملات التشويه الظالمة المستمرّة
- وهذا ما أثار الأوساط المتخوّفة من الإسلام وتلك الحاقدة عليه، فأوعزت إلى أتباعها هنا وهناك بإجهاض دعوة الإخوان وتجاربها الناجحة في أيّ ميدان، فكان ما كان من عدوان باغٍ على الجماعة كلما تأهبت لتطبيق مشروعها بمباركة الجماهير، ولم ينجُ حسن البنا من ذلك العدوان لا حيّا ولا ميّتا.
ورغم هؤلاء يبقى حسن البنا حيّا في القلوب والعقول ويبقى مشروعه الحضاري في إنجاز مستمرّ لا يبالي بالشدائد والتحديات... وكم من مرّة ذهب الطغيان وبقي الإخوان ، لأن مرشدهم قد بنى فأحسن البناء .
واليوم أضحت جماعة الإخوان – خير الله التي أفاء بها على الإمام البنا والرعيل الأول من أوتادها - والتي وقفت في وجه الطغاة والجبابرة والمحتل الغاصب في كل العصور منذ نشأتها المباركة، عنوان الصبر والصمود والتضحية والفداء وحمل هم العمل للدين والمحافظة على ثوابته ومبادئه مهما كانت التضحيات
فـ "الإخوان المسلمون" قبل أن تكون تنظيماً فهى رباط وروح وأخوة وتعارف وحب وتفاهم وتكافل وسلوك وخلق ومبدأ وفكرة وفهم يربط بين أفرادها جميعا فيجعلهم رجال يحسنون التبعة إلى رجال أمثالهم هى وسيلة نتعبد بها لله لتحقيق أهداف وغايات الإسلام السامية التي تخاذل عنها الكثير
إنها مشروع أهل السنة والجماعة في العصر الحديث الواضح معالمه وبرامجه ووسائله وأهدافه مشروع يقاوم مشاريع متعددة في العالم أجمع على اختلاف مشاربها وأنواعها وأهدافها وطموحاتها إنها فهم الإسلام المعتدل المتوازن الرباني العالمي التدريجي الواقعي العصري الوسطي الشامل حيث الجد والاجتهاد والعطاء والتجدد والفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والإخوة والثقة
إنها مشروع دعم الموجود من القيم والمبادئ وإيجاد المفقود منها وتصحيح المغلوط وإظهار الحقائق الغائبة عن الأمة لاسيما منهج الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية وتحرير الأوطان ومحاربة المحتل وتحرير المقدسات ووحدة الأمة الإسلامية وشمولية الدعوة لكل نواحي الحياة
(إن هذا الدين لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه)
البذرة الطيبة
تأسست جماعة الإخوان في آذار سنة 1928، حيث زار الإمام حسن البنا في منزله، حافظ عبد الحميد، وأحمد المصري، وفؤاد إبراهيم، وعبد الرحمن حبيب الله، وإسماعيل عز، وزكي المغربي، الذين تأثّروا من محاضراته
وقالوا له ـ كما يروي في مذكراته
- "لقد سمعنا ووعينا، وتأثّرنا ولا ندري ما الطريق العملية إلى عزة الإسلام وخير المسلمين.لقد سئمنا هذه الحياة، حياة الذلة والقيود.وها أنت ترى أنّ العرب والمسلمين في هذا البلد لا حظّ لهم من منزلة أو كرامة، وأنهم يعدّون مرتبة لأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب ..
- وكل الذي نريده الآن أن نقدّم لك ما نملك لنبرأ من التبعة بين يديّ الله.وتكون أنت المسؤول بين يديه عنا.ما يجب أن نعمل جماعة تعاهد الله مخلصة على أن تحيا لدينه وتموت في سبيله، لا تبغي بذلك إلا وجهه وجديرة أن تنصر، وإن قلّ عددها وقلّت عُدَّتها".
وهذا ما جاء في خطبته الأولى رضي الله عنه في مسجد "الإخوان":
- "إذا كان احدنا يحرص على محبة الكبراء وإرضاء الرؤساء، والأمة تجتلب مرضاة الدول، وتوثيق العلائق فيما بينها وبين الحكومات الأخر، وتنفق في ذلك الأموال، وتنشىء له السفارات والقنصليات، أفلا يجدر بنا ويجب علينا أن نترضّى دولة السماء، وعلى رأسها رب العالمين الذي له جنود السموات والأرض، وبيده الامر كله؟! نترضاه بإنشاء المساجد وعمارتها، وأداء الصلوات فيها لأوقاتها فيمدّنا بجنده الذي لا يغلب وجيشه الذي لا يقهر".
وتمر الايام وتبدو إرهاصات المحنة الأولى للجماعة. ويسكر قلم الإمام المؤسس وصفه لأبناء الدعوة فيكتب:
- " هذه المجموعة من الإخوان المسلمين فى وادى النيل هى أطهر مجموعة على ظهر الأرض، نقاء سريرة وحسن سيرة وإخلاصا لله وللوطن فى كل كفاحهم فى سبيل دعوة لا تخرج أبدا عما رسم الإسلام الحنيف قيد شعرة ..
- وأنهم بحكم إيمانهم ومنهاجهم ونظامهم وانتشار دعوتهم بكل مكان فى الداخل والخارج أفضل قوة يعتمد عليها من يريد بهذا الوطن الخير ويتمنى له التقدم والنهوض، وأكسب ورقة فى يد كل عامل لخير البلاد والعباد
- وأن تحطيم دعوتهم والقضاء عليهم وهو ما قد تستطيعه الحكومة إذا أرادته وصممت عليه ولو فى ظاهر الأمر إلى حين، بما فى يدها من سلطات عسكرية وما تملكه من قوة رسمية، ليس من المصلحة فى شىء بل هو قضاء على نهضة هذا الوطن الحقيقية وقتل للبقية الباقية من روح الإخلاص والجد والاستقامة والطهر فيه .
- على أن نتائج هذا الموقف فى مثل هذه الظروف غير مضمونة ولا معروفة ولا أدرى لحساب من يقوم دولة رئيس الحكومة بهذه المهمة ويحمل هذه التبعة الضخمة أمام الله وأمام الناس وفى التاريخ الذى لا ينسى ولا يرحم.
الإمام البنا بعد قيام حكومة محمود فهمي النقراشي بحل الجماعة في 8 ديسمبر عام 1948 ومصادرة ممتلكاتها ودورها
طائفة أخرى من الأقوال والشهادات
في عام 1954 كتب المرحوم أحمد عبد الرحمن البنا واصفًا حال الإمام الشهيد في تنقله وترحاله يقول:
- "وينزل على المسجد فإذا هو ضيف على الله تبارك وتعالى، وقد ينزل في رمضان وهو صائم فيكون إفطاره الماء والتمر، لا يذوق غيرهما ولا يتبلغ بسواه، فإذا ملأ الناس بطونهم، وطعموا مما يشتهون، قدموا إلى المسجد ينظرون الطارق الغريب، ويستطلعون النبأ العجيب، ويقولون: من هذا الرجل؟ وماذا يريد؟
- فينهض الرجل في عباءته وجلبابه، ويهدر مخوفًا بطش الله ومنذرًا عذابه، ويسترسل في شرح رحمته وما ورد من فضله ونعمته في آيات كتابه، والناس مشدوهون، مأخوذون، غائبون، مسحورون، منصتون لا يتحركون، يعجبون مما يسمعون".
وتحت عنوان الرجل الذي لم يحمل ضغنًا، كتب يقول:
- "عاش الإمام الشهيد حسن البنا حياته، يحمل قلبًا أحب الناس جميعًا، وأخلص للناس جميعًا، ونصح للناس جميعًا، وكان حريصًا على توثيق الصلات، وتدعيم الروابط، وإشاعة الخير والمحبة بين الناس".
كان أملك الناس لزمام نفسه، أحلم الناس إذا خاطبه جاهل حتى يغضب من لا يعرفه من حلمه. أشد الناس عفوا وصفحا عمن أساء إليه حتى لم يعرف له عدو .. وكان يقول من عيوبي أنني لا أعرف كيف أخاصم أو أعادي. لا يذكر أحد عنده بسوء إلا زجر الذاكر ومدح المذكور، فيخجل الواشي ويقلع المسيء، وتصح نفس هذا وذاك.
شهد الناس من حسن البنا ما رأوا منه، وغاب عن الناس من خلقه ما جعله بين نفسه وربه، يستره عن الناس فلا يطلع عليه إلا خاصة أهله، فهو في بيته- شهد الله- لا يفتر عن مصحفه ولا يغيب عن قرآنه، ولا يغفل عن ذكره، يتلو القرآن على الحافظ منا فيسمع له، ويلقي بالمصحف إذا لم يجد حافظا إلى الصغير فيراجع عليه، ويملأ البيت بالقرآن والتلاوة سابحا في آيات، غارقا في ذكريات، صاعدا إلى سموات. حسن البنا كما رآه الإخوان المسلمون
تواضعه وعزيمته في الأمور وجده واجتهاده، وإعطاء كل ذي حق حقه، ومشاركته لإخوانه في الأعمال كواحد منهم، ومواساته لإخوانه، ونفاذ بصيرته ومعرفته بأحوال الناس، والتَّأني في معالجة الأمور، وعدم التدخل فيما لا يعنيه.
وقد جمع الإمام الثاني المستشار حسن الهضيبي تلك الخلال التي لمسها شخصيا بقوله:
- "لقد تعلقت أبصارنا به ولم نجد لأنفسنا فكاكًا من ذلك، وخلت - والله - أن هالة من نور أو مغناطيسَ تحفُّ بوجهه الكريم فتزيد الانجذاب إليه.. خطب ساعة وأربعين دقيقة، كان شعورنا فيها شعور الخوف من أن يفرغ من كلامه، وتنقضي هذه المتعة التي أمتعنا الله بها ذلك الوقت، إن كلامه كان يخرج من القلب شأن المتكلم إذا أخلص النية لله..
- كان كالجدول الرقراق الهادئ ينساب فيه الماء، لا علو ولا انخفاض، أو كالموسيقى العذبة ليس فيها نشاز، يخاطب الشعور فيلهبه، والقلب فيملأه إيمانًا، والعقل فيسكب فيه من المعلومات ألوانًا، انقضى وقت طويل بعد ذلك دون أن ألتقي به، ولما أذن الله التقينا فإذا هو تواضع جم، وأدب لا تكلف فيه، وعلم غزير، وذكاء فريد، وعقل واسع ملم بالشئون جليلها وحقيرها، وآمال عراض كل ذلك يحفه روح ديني عاقل لا تعصب فيه ولا استهتار".
أما المرشد العام الثالث الأستاذ عمر التلمساني فيقول:
- " كان رضوان الله عليه متئدًا في كل ما يفعل يأخذ الأمور - بالغة ما بلغت من القسوة - في هدوء المفكر وصبر الحليم، وكأن ما حدث لم يحدث، ثم يبدأ العلاج في حنكة وخبرة ودراية، وكان ذلك سببًا في سلامة الدعوة طوال حياته من الهزات العنيفة التي تعطل المسيرة، فكان يعالج المشاكل بما يذهب بها في هدوء".
وعن علاقته بالناس، فيقول عنها الأستاذ التلمساني:
- "كان حريصًا على المؤاخاة في الله فكان يقول: "إن لم ترد أن تكون أخًا نسعد بك، فلا أقل من أن تكون صديقًا نرتاح إليك"، ولهذا لم يكن هناك من يجفو حسن البنا إلا من كان لا يريد شرع الله".
وعن سماحته وخلقه يقول:
- "أيها الحبيب: أية ناحية من نواحيك يستطيع هذا القلم الهزيل أن يتحدث عنها؟ وكل نواحيك كريم جليل.. حنوك علينا؟ برك بنا؟ كنت تحنو حتى لنلمس الحنان مجسمًا، وتدنو حتى يخيل إلينا أنك صنونا، أيها الحبيب: لقد صاغك الله بقدر، فجئت على قدر، وكذلك الأفذاذ، ومنحك الله المدد، ففاض من معينك الصافي، ونبعك المتدفق، أعطر ورد ينهل منه الناهلون لا مددك ينتهي ولا هم يرتوون".
وتحدث الأستاذ عبد القادر عودة عن دعوته فقال:
- "لقد دعا حسن البنا الناس إلى أن يفهموا الإسلام على أنه قوة وعزة وكرامة بعد أن فهمه الناس على أنه ضعف واستعباد واستسلام، ودعا الناس إلى أن يفهموا الإسلام على أنه عدالة ونظافة وحرية ومساواة بعد أن أرهقت المسلمين المظالمُ، وفشت فيهم المآثم، وبعد أن فقد المسلمون حريتهم وزالت دولتهم، ودعا المسلمين إلى أن يفهموا الإسلام على أنه اتحاد بين أفرادهم، وتوحيد لبلادهم، وأنه أخوة بين المؤمنين وتعاون وتضامن بين المسلمين".
وتحدث عن أبرز سمات الإمام، فقال:
- "لقد كان أبرز ما في الإمام البنا رجولته الكاملة الناضجة، تلك الرجولة التي كملت ونضجت بكمال الإسلام في نفسه وإخلاصه لله في عمله وقوله، فما علم عليه الناس أنه عمل لهوى أو سكت لمنفعةٍ، أو جامل قويًا، أو كتم كلمة حق، وإنما هو التجرد للحق في كل الحالات وفي جميع الظروف".
أما عن قناعة الإمام، يقول الأستاذ البهي الخولي:
- " عرض عليه الإنجليز ذهبهم الوهاج في مستهل الحرب العالمية الماضية، ألوفًا وعشرات الألوف، من ورائها خزائن طوع أمره، ورهن إشارته، ولكن الرجل المتواضع السهل السمح أذل بكبريائه القاسية من جاء يسومه في مثله وكرامته... نعم، وهذه شركات الإخوان المسلمين يعمل في مجال إدارتها جميعًا فتعرض عليه المرتبات السخية، والمكافآت المجزية، ولكنه يريد أن يكون مأجورًا من الله لا من الناس، فيجعل عمله في هذه الشركات حسبة لله سبحانه".
وقد كانت حياة الإمام - رحمه الله - ترجمة لما يقول، فقد قام الإخوان في سوريا بحجز جناح لفضيلته في فندق الأوريان بلاس وهو في مصاف سميراميس وسيسل وغيرهما حين ذهب فضيلته – كعادته – يطارد المسئولين في كل مكان ويجابههم بالحقائق ويعلنهم بمطالب الشعوب الحرة حيث كان يُعقد اجتماع للجامعة العربية للتشاور في أمر فلسطين"
يقص الأستاذ سعد الدين الوليلي الخبر فيقول:
- "وعند انتصاف الليل دعانا الأخ عمر بهاء الأميري (وزير سوريا المفوض في باكستان الآن) للنوم والراحة، ولشد ما كانت دهشة فضيلته حينما وقفنا بباب الأوريان ثم صاح "يا عمر أنبيت هنا في المكان الأنيق حيث الفراش الوثير والطعام الشهي وإخواننا المجاهدون في معسكري البريج بفلسطين وقطنا بسوريا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء؟ والله لليلة في دار من دور الإخوان أفترش الحصير وألتحف عباءتي وأتوسد ذراعي أحب إلي من الدنيا وما فيها".
وتحت عنوان "لم يمت ولن يموت" كتب الشيخ أحمد حسن الباقوري:
- "والإمام الشهيد لم يمت بهذا المعنى لأنه لم يعش لأسرته الخاصة، ولم يعش مع جماعة محدودة من أصدقائه حتى يكون من الممكن أن ينسدل عليه ستار النسيان بسلو أسرته عنه واطّراح أصدقائه لذكراه، وإنما كان يعيش - رحمه الله - في نفوس الألوف المؤلفة في مصر وفي خارج مصر..
- لقد صنع حسن البنا جيلاً من الناس على مثال نفسه الكبيرة، وعلمه الغزير، وإرادته الصارمة، وأسلوبه في التفكير إذا فكر، وفي التعبير إذا عبر، بل في طريقة تلاوته للقرآن إذا تلاه قاعدًا يتأمل أو قائمًا يصلي، ولقد صنع حسن البنا كذلك جيلاً من الناس أقبل على الإسلام يدرسه دراسة المستبصر، ويفهمه فهم المتأمل ويعمل به عمل المؤمن".
وكتب الأستاذ أحمد أنس الحجاجي - وكم رافق الإمام البنا في ترحاله - مقالات كثيرة تعرضت لمواقف العظمة في حياة الإمام البنا
فتحت عنوان "إعجاز" كتب يقول:
- "وكان إمامنا الشهيد مسلمًا مصنوعًا على عين الله منذ نشأته وصباه، وقد وهب نفسه للدعوة الإسلامية، واختاره الله لها، فعاش لها وبها وجاهد في سبيلها، واستشهد في ميدان الكفاح والنضال من أجلها، فكان في حياته كلها كطبيعة الفكرة التي اصطنعته، معجزًا الإعجاز الذي نسجه الإسلام تاجًا لرجاله وقادته في كل زمان، فهم أبدًا يتحدون به كل معركة نزال وفي كل ساحة نضال!
- وكان معجزًا، فأتعب خصومه وأرهقهم، طاردوا فكرته، واضطهدوا أنصاره، وفتحوا لهم السجون والمعتقلات، وصبوا عليهم كل أنواع الظلم والعذاب! ثم قتلوه! وقال بعضهم لبعض: إنه قد مات!..
- ومع ذلك فقد راحوا يحشدون الجند ويجمعون القوات، لمحاربة هذا الذي في زعمهم قد مات، ثم منعوا تشييع جنازته، وصنعوا ما صنعوا مما لم يشهد الناس له مثيلاً في أظلم العصور، فسخر منهم
- وقال التاريخ كلمته:
- الحق تلك إحدى المعجــزات".
وكتب الاستاذ سعيد رمضان في مذكراته يقول:
- "آه.. قتل حسن البنا بعد عشرين عامًا قضاها في جهاد مرير متصل الأيام والليالي، لن أنسى جولاته في الأقاليم، لا ينام إلا ساعتين أو ثلاثًا كل يوم وليلة، ولن أنسى سهره الليل عاكفًا في المركز العام أو في منزله أو في الشهاب على أعمال الدعوة، ولن أنسى دموعه التي طالما هطلت في غفلة من الناس على الإسلام والمسلمين..
- لم تمت يا فضيلة المرشد! لا والله الذي خلقك، لا والذي أنعم علينا بك، ومتعنا بصحبتك، لقد فتحت قلوبنا على النور، ووضعت أيدينا على أول الصراط، وجمعتنا يا حبيب من شتات، سنمضي إلى حيث كنت تدعو وتربي وتحترق بالليل والنهار".
وتحت عنوان "حسن البنا العبقرية الفذة" كتب الأستاذ محمد عبد الله السمان، يقول:
- "وجاء حسن البنا ليقر في أذهان هذه الشعوب المسلمة أن الإسلام دينٌ ودولةٌ، ومصحفٌ وسيفٌ وقانونٌ ونظامٌ، ودستورٌ وتشريعٌ، وكفاحٌ وجهادٌ، وليقر في ذهن المسلم أن مهمته في الحياة ليست مقصورة على التدين والتعبد، وإنما هي فوق هذا، جهادٌ من أجل الإسلام حتى تكون له الكلمة العليا في الأرض، كما أن له الكلمة العليا في السماء".
وما لم يسجله التاريخ عن الإمام أكبر بكثير مما سُجل، يقول الأستاذ أمين إسماعيل:
- "أريد أن أكتب عن حوادث تخفى على الناس اشترك فيها حسن البنا فغيَّر وجه التاريخ، وكتب تاريخًا جديدًا.. خذ موقعة العلمين مثلاً من الأمثلة التي تحول فيها تاريخ البشرية جميعًا، موقف حسن البنا ورأي حسن البنا في هذه اللحظة الحرجة من عمر التاريخ...
- ولو أن المرحوم اللواء عبد الرازق بركات باشا كان حيًا لاستطاع أن يتحدث عن تأثير حسن البنا في موقعة العلمين، وإليك مثلاً داخليًا، معاهدة (صدقي – بيفين) كيف لم يُكتب لها أن ترى النور؟ كيف قُتلت في مهدها؟ كيف ثار عليها الشعب؟ كيف سقطت وزارة صدقي؟
- لو أتيح لنا أن نتكلم عن هذا، إذن، لكشفنا عن صفحة أخرى، كتبها حسن البنا بيده، وأهداها للتاريخ، وأمثلة أخرى، كيف هرب أمين الحسيني إلى مصر؟ وكيف نزل الأمير عبد الكريم إلى أرض مصر؟
- إن العالم يعرف أن (حسن البنا) هو المدرس الذي علم المسلمين ما هو الإسلام؟ولكن العالم إلى حد ما تغيرت سياساته ووضعت خططه، في الغرب قبل الشرق، وكان التغيير بسبب حسن البنا وكانت الخطط الجديدة تتأثر سلبًا وإيجابًا (بحسن البنا) وبدعوة حسن البنا؟
- حسب له هتلر حسابه، وحسب له موسوليني حسابه، وحسب له ستالين حسابه، وحسبت له بريطانيا حسابها، وحسبت له فرنسا حسابها، وحاولوا جميعًا أن يرتموا على أقدام المدرس الفقير الزاهد ليتصلوا به، ولكنه كان لا يتصل إلا بالله، والله أعز وأقوى من ألمانيا وإيطاليا وروسيا وبريطانيا وفرنسا مجتمعين ومنفردين.
ويؤكد ذلك المعنى الأستاذ صالح عشماوي فبقول:
- " كان حسن البنا طاقة ضخمة من الحكمة والكياسة وعبقرية فذة في فن القيادة والسياسة، وحسبه أنه استطاع أن يقود دعوته ويسير بجماعته تحت سمع المستعمرين وبصرهم، وتحت أنف المتزعمين وأحزابهم".
ثم يضيف:
- "إن عظمة حسن البنا وعبقريته لا تقتصر على تنظيمه للجماعة وقيادته لها، وإنما أيضًا، تمتد تلك العبقرية بعد موته في ثبات أفراد الجماعة أمام المحنة التي تعرضت لها الجماعة عقب استشهاده، ولقد أثبتت الحوادث الأخيرة عظمة حسن البنا في تربيته، وعلى عمق هذه التربية ورسوخ هذا التكوين، فلقد تعرض أتباعه جميعًا لأشد فتنة وأعظم بلاء في عهد حكومة الإرهاب
- وانصب عليهم من العنت والاضطهاد والعذاب ما لو سُلط على جبل لاندك وانهار، تعرضوا للسجن والاعتقال، وللضرب الوحشي وللتعذيب الذي يتضاءل معه تعذيب محاكم التفتيش في القرون الوسطى، وتعرضوا للنفي والتشريد، وحوربوا في أرزاقهم وهددوا في أعراضهم وسقط شهداؤهم واحدًا بعد واحدٍ، واغتيل قائدهم على قارعة الطريق، وفي وسط المعركة فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا".
وقد راح الأستاذ عبد الحكيم عابدين يعدد مواطن تلك العظمة في حياة الإمام حتى أحصى – فيما وسعه استنباطه – تلك الدعائم التي أقام عليها الإمام مدرسته الفاضلة في توجيه الفكر اعتبر في نهايتها أن "حسن البنا... مرحلة حاسمة في تاريخ العقل الإسلامي".
أقام الداعية المؤمن مدرسته الفاضلة في توجيه الفكر الإسلامي على عشر دعائم:
- دوام استهداف الوحدة، وهي الحرص على رابطة القلوب واجتماع الكلمة.
- كلّ من قال : "لا إله إلا الله" يلتقي معك في ظل التوحيد.
- اتهام النفس، وإحسان الظن بالمخالف.
- أدب الإنكار والاختصام، فإذا أنكر على إنسان أو خاصم، التزم الخلق الرفيع في ذلك.
- ذم الجدال والمكابرة.
- جواز تعدد الصواب.
- التعاون في المتفق عليه، وتبادل العذر في المختلف فيه.
- استحضار خطر العدو المشترك الذي لا يميز بين مسلم وآخر.
- فتح آفاق العمل والإنتاج، فعلى كلّ أخ - فوق أعماله الخاصّة - أن يقرأ كل يوم وِرْدًا من القرآن، ويحاسب نفسه قبل النوم.
- الرثاء للضال المنحرف، لا الشماتة فيه ولا التشهير به.
ويقول فضيلة الشيخ عبد الحميد كشك:
- "الإمام الشهيد حسن البنا هو الداعية الذي بعث الأمل في قلوب اليائسين، وقاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط إلى طريق الله رب العالمين ... عرفته من كتاباته، وعرفته من مريديه ومحبيه، وعرفته من آثاره الطيبة وأعماله المجيدة، عرفته داعية يجمع ولا يفرق، يحمي ولا يبدد، يصون ولا يهدد، يشدد أزر الأصدقاء ويرد كيد الأعداء...".
حسن البنا.. الرجل والمنهج
المرشد الأسير ظلما وعدوانا الدكتور محمد بديع - المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومن والاه..
يقول الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23)، ويقول تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).
ونحن نستحضر ذكراه في يوم استشهاده (12 فبراير)، فإننا ندرك أن الرجل قد مضى إلى ربه راضيًا مرضيًّا، فقد اخترقت الرصاصات الغادرة ليلتها جسدًا أفناه السجود ليلاً بين يدي الله، وأضنته الرحلة في سبيل الله نهارًا في ربوع مصر وقراها، من أقصاها إلى أقصاها،
أما الروح والمنهج والبناء الذي أرساه فقد بقي شامخًا، يزداد على مرِّ الزمان رسوخًا وتألقًا، وقد أعطاه الإمام الشهيد المؤسس من دمه الطاهر الزكيِّ وقودًا ومددًا لم ينقطع، بل استمرَّ المدد بدماء الشهداء ودموع الساجدين بين يدي الله، وأنَّات المعذبين في غياهب السجون، وتضرُّعات الملايين من السجناء وأسرهم إلى الله رب العالمين، وثبات الذين ضحَّوا بالغالي والنفيس في سبيل عقيدتهم وفكرتهم ومنهجهم ابتغاءَ رضوان الله رب العالمين؛ فالله غايتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قدوتهم، والجهاد سبيلهم، والشريعة منهجهم، والموت في سبيل الله أسمى أمانيهم، صدقوا الله فصدقهم الله.
وكان له من اسمه نصيبٌ وافرٌ؛ فقد أرسى بناءً ضخمًا شامخًا، واستقى من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم منهجًا واضحًا بيِّنًا للإصلاح والتغيير؛ لتحقيق هدفٍ سامٍ نبيلٍ، هو نهضة الأمة الإسلامية، وإحياء مجدها، واستعادة عزتها وريادتها في العالم أجمع، بعد تحرير أوطانها وإعادة الكيان الدولي لهذه الأمة.
هذا المنهج مرسومةٌ خطواتُه، محددةٌ معالمه، يستقي الحكمة من قول الحق تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية 11) .. وقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال: من الآية 53)، وقوله تعالى: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران: من الآية 165)، وقوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل: 112).
فرسَم خطة العمل العملية والموضوعية، التي أثبتت الأيام جدواها ونفعها حين فشل غيرها من الخطط المستعجلة البراقة.. خطة تبدأ بإصلاح الفرد، وتكوين البيت المسلم، وإرشاد المجتمع إلى الفضائل ومحاربة المنكرات، وتستمر بتحرير الأوطان من كل هيمنة وسلطان أجنبي، وإصلاح الحكومات حتى تسير على منهج الإسلام، وتنتهي بإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية وأستاذية العالم كله، دون وصاية من أحد على أحد، بل هي الإنسانية العالمية التي جاء بها الإسلام.
ويقول في بواكير الدعوة عن أساسها الذي ترتكن إليه "من أين نبدأ؟":
- " إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ؛ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة، تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرَّق إليها ضعف، ووفاءٌ ثابتٌ لا يعدو عليه تلوُّن ولا غدرٌ، وتضحيةٌ عزيزةٌ لا يحُول دونها طمع ولا بخل، ومعرفةٌ بالمبدأ وإيمانٌ به وتقديرٌ له، يعصِم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره..
- على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تُبنى المبادئ، وتتربَّى الأمم الناهضة، وتتكوَّن الشعوب الفتية، وتتجدَّد الحياة فيمن حُرموا الحياة زمنًا طويلاً".
وكل شعب فقد هذه الصفات الأربع أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعبٌ عابثٌ مسكينٌ، لا يصل إلى خير، ولا يحقِّق أملاً، وحسبه أن يعيش في جوٍّ من الأحلام والظنون والأوهام.. (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (يونس: من الآية 36).
هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية 11). وأعلن بوضوح أن نهضة الأمة لن تتحقق إلا على أسس الإسلام وقواعده، وهذا ما استقرَّ بعد استشهاده في يقين الأمة، وعبَّرت عنه جموع المسلمين في كل استفتاء أو انتخابات حرة نزيهة بتأييدها للمشروع الإسلامي.
يقول البنا رحمه الله:
- "إذا كان الإخوان المسلمون يعتقدون أن الله تبارك وتعالى وضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها؛ فهم يطالبون الناس بأن يعملوا على أن تكون قواعد الإسلام الأصول التي تُبنى عليها نهضة الشرق الحديث في كل شأنٍ من شئون الحياة، ويعتقدون أن كل مظهر من مظاهر النهضة يتنافَى مع قواعد الإسلام ويصطدم بأحكام القرآن؛ فهو تجربةٌ فاسدةٌ فاشلةٌ، ستخرج منها الأمة بتضحيات كبيرة في غير فائدة".
وقد أثبتت الأيام ووقائع الزمان منذ أكثر من قرن أن كل تجارب النهوض التي عاشتها الأمة وصلت إلى طريق مسدود، وأننا ما زلنا نبحث عن الاستقلال الحقيقي، والإرادة الحرة، والعدالة الناجزة، والعدل الاجتماعي، ودولة القانون، والحريات العامة، وتداول السلطة، التي يستمدُّها الحكام من الأمة في انتخابات حرة، رغم مرور عصور جرَّبت فيها الأمة حينًا الليبرالية، ومرةً الاشتراكية أو الشيوعية، ومراتٍ الانقلابات العسكرية، فجنينا الشوك والحصرم وعُدْنَا من حيث بدأنا..
فها هي قوات الاحتلال الأجنبية من أكثر من 40 بلدًا، تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، تحتل فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال..وها هي القواعد العسكرية الأمريكية تنتشر على الأراضي العربية والإسلامية من المحيط إلى المحيط، مرورًا بالخليج.. وها هي الاتفاقات الأمنية تكبِّل الحكومات الإسلامية، وتضع جيوشها وقوات شرطتها في مواجهة شعوبها أو ضد جيرانها من المسلمين..
كل ذلك رغم المظاهر الشكلية للاستقلال، من أعلام ودساتير ووزارات وبرلمانات، ورغم كل اتفاقيات الجلاء، بل تمَّ استنزاف ثروات العرب والمسلمين؛ أفرادًا وحكوماتٍ، مؤسساتٍ وشركاتٍ، لتضيع في مغامرات أباطرة المال ودهاليز البنوك الربوية التي تأكل الربا أضعافًا مضاعفةً، وها هي تضيع بالتريليونات وليس بالمليارات، والجوع يفتك بأكباد ملايين المسلمين، والمخيمات تملأ بلاد المسلمين وتعجُّ بضجيج الجوعى والمنهكين من الشيوخ والنساء والأطفال.
ورغم كل ذلك فإن المؤتمرات والمؤامرات التي كانت تنعقد سرًّا خلال قرن من الزمان تنعقد الآن علنًا، جهارًا نهارًا، ويحضرها المسئولون من بني جلدتنا، المعيَّنون بأمر القوى الأجنبية؛ ليتآمروا على أبناء أمتهم، ويراهنوا على دعم الأجانب ضد شعوبهم، ويا للعجب!!
وها هو العالم كله - بأممه المتحدة ومجتمعه الدولي- يظاهر كيانًا عنصريًّا بغيضًا، دنَّس أرض فلسطين، وانتزع أشجار الزيتون، ودمَّر بيارات العنب، وشرَّد ملايين الشيوخ والنساء والأطفال، الذين أصبحوا شيوخًا ولم تسقط من أيديهم مفاتيح بيوتهم يتوارثونها جيلاً بعد جيل.
إن حسن البنا الرجل لم يمُت، بل هو باقٍ بما رباه من رجال، وإن فني الجسد النحيل الذي أنهكته الأسفار والرحلات في سبيل الله، فإن الروح باقيةٌ ترفرف حول الأمناء على الدعوة الذين يحملونها في ربوع الأرض كلها في قارات الدنيا الخمس. وإن أحداث الزمان أثبتت صدق المنهج وسلامة المسيرة.
فيا أيها الإخوان..
سيروا على بركة الله.. كونوا أوفياء لعهدكم مع الله.. ادرسوا كتاب الله لتتعلموا منه طريقكم المرسومة خطواته، وتحلَّقوا حول سيرة رسولكم صلى الله عليه وسلم لتعلموا أن منهجكم إنما هو التطبيق العصري العملي لسيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
اعملوا.. واعملوا.. واعملوا.. ولا تيأسوا؛ فالمستقبل لدعوتكم، والنصر لأمتكم.. (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: من الآية 105) صدق الله العظيم.
بين المنحة والمحنة
" وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ " صدق الله العظيم.
وهل تتضح الموهبة ويصفو الجوهر إلا بين المنحة والمحنة؟ ،وتلك سنة الله تبارك وتعالى في تنشئة الأفراد وتربية الأمم، وسبك أصحاب الدعوات ممن اصطنع لنفسه من عباده وصنع على عينه من خلقه ليكونوا أئمة يهدون بأمره .. (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الانبياء:35).
والأمة الإسلامية اليوم بين منحة ومحنة إن فهمت عن الله فيهما، وأدت ما وجب عليها من حقهما، وشكرت النعمة، وثبتت وصبرت على الشدة وواصلت السير في قوة إلى الغاية وهى واصلة بإذن الله تبارك وتعالى إلى ما تريد، مهما اعترضها من صعاب وواجهها من عقبات، ونصر الله قريب ، وصدق الرسول القائل: (عجبت لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير، إن أصابته النعماء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته الضراء صبر فكان خيرا له).
والإخوان المسلمون اليوم وهم الأمة الجديدة القائمة على الحق ، المهتدية بنور الله الداعية إلى صراطه المستقيم ، بين منحة ومحنة، عليهم أن يشكروا الله أجزل الشكر على ما أولاهم من نعمته وأغدق عليهم من فضله ومنته
وأن يصبروا أكمل الصبر على المحنة مهما علا ضجيجها، وأرعد برقها وعظم هولها وأجلبت بخيلها ورجلها، وليثقوا بموعود الله تبارك وتعالى لسلفه الصالحين من قبل: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:120).
يا أيها الإخوان المسلمون
في الحرم المكي وأمام الكعبة المشرفة تجلس بعثتكم المتواضعة خاشعة لله ، مخبتة تذوب حياء من رب البيت وتنطوي على نفسها خشية لجلاله وعظمته ، والأبصار ترنو إليها من كل مكان ، والأيدي تدل عليها بكل بنان ووفود الحجيج من كل قطر وبلد ومصر ، تقبل عليها بقلوب متوادة متحابة تسأل في لهفة وشوق:
أنتم الإخوان المسلمون؟
مرحبا بكم وما أشوقنا إلى لقائكم ونحن إخوانكم في أندونسيا ، أو في جاوه وسيلان ، أو الهند وباكستان ، أو في جنوب أفريقيا أو في مدغشقر وبورنيون ، أو في نيجيريا والكمرون أو في إيران والأفغانستان ، أو في غير ذلك من أراضي الله الواسعة التي امتدت إليها أضواء الإسلام الحنيف وانبسط فيها هدي كتابه الشريف المنيف ، وتكون تحية وسلام وتفاهم وكلام ، وتدارس لحال أبناء الإسلام .
وإعجابا بجهودكم المتواضعة، وأعمالكم النافعة لا نرى أنفسنا له أهلا ولا نعتبرها إلا منة من الله وفضلا و (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد:21) ، ويعود إخوانكم من البعثات العلمية أو الرحلات التجارية في إنجلترا أو أمريكا أو فرنسا أو غيرها من بلاد الغرب المتهالكة على المادة، المتهافتة على الطغيان ، فإذا بهم قد أنشأتهم الرحلة نشأة أخرى وسمعوا ورأوا من حديث الناس عنكم، واهتمامهم بشأنكم
والتعليق على جهادكم وجهودكم بما يجعلهم يستشعرون التقصير في حق الدعوة ، ويعتزمون بذل الجهد وفوق الجهد في العمل لها والجهاد في سبيلها، ولقد سمعت أحدهم بالأمس القريب يخاطبني في حماسة ويحادثني في قوة وحزم ، فيقول: يا أخي والله إننا لسنا مجهولون إلا في وطننا، ولا مغموطين إلا في أرضنا، فإذا أراد الناس أن يعرفونا بل إذا أردنا نحن أن نعرف أنفسنا ومدى تأثير دعوتنا، فعلينا أن نرحل خلال هذه الأقطار، ونجوس تلك الأمصار ونستمع إلى أهل تلك الديار، في مجالسهم الخاصة ومجامعهم العامة وسنرى من ذلك العجب العجاب والقول اللازب
فأقول له : لا بأس عليك، فقديما قيل: (وزامر الحي لا يحظى بإطراب) وليس نبي بدون كرامة إلا في وطنه وبين عشيرته ، وسيدرك قومنا بعد قليل من نحن وماذا سنصنع والعاقبة للمتقين: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:40).
وفى هذه الغمرة من نعم الله عليكم بحسن الأحدوثة وجميل الذكر وجليل التقدير تواجهكم محنة القول الزائف فتبلغ قلوب المؤمنين الحناجر، ويظن الكثير من المتربصين بالله الظنون، وتقول طائفة كما قال أسلافها من قبل: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) (الأحزاب:13) ، وتقول طائفة أخرى: (مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً) (الأحزاب:12).
وأنتم خلال ذلك تسيرون في ركاب نبيكم والمؤمنين معه ، وتهتفون بدعائهم : (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب:22).
يا أيها الإخوان المسلمون ..
ستنكشف الغمة .. وتزول المحنة إن شاء الله .. وتخرجون من البلاء خروج السبق من الجلاء أنقياء أتقياء .. والله تبارك وتعالى يربيكم بالمنحة والمحنة .. والله اكبر ولله الحمد
الوصايا العشر للإمام البنا
- قم للصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف.
- أُتْلُ القرآن وطالع أو استمع أو اذكر الله، ولا تصرف جزءا من وقتك في غير فائدة.
- اجتهد أن تتكلّم العربية الفصحى فإنّ ذلك من شعائر الإسلام.
- لا تكثر الجدل في أيّ شأن من الشؤون أيّا كان، فإنّ الهراء لا يأتي بخير.
- لا تكثر من الضحك فإنّ القلب الموصول بالله ساكن وقور.
- لا تمازح فإنّ الأمة المجاهدة لا تعرف إلا الجد.
- لا ترفع صوتك أكثر مما يحتاج إليه السامع فإنه رعونة وإيذاء.
- تجنّب غيبة الأشخاص وتجريح الهيئات ولا تتكلّم إلا بخير.
- تعرّف إلى من تلقاه من إخوانك وإن لم يطلب منك ذلك.
- الواجبات أكثر من الأوقات فعاون غيرك على الانتفاع بوقته. وإن كان لك مهمة فأوجِز في قضائها.