الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية
- محمود محمد الجوهري
- محمد عبد الحكيم خيال
دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع
2شارع منشاة- محرم بك الإسكندرية)
إهداء
إلى الطامحين إلى بناء الأسرة المسلمة... قاعدة المجتمع المسلم المرتقب.
إلى الرعيل الأول من الأخوات المسلمات .. أول من حملن عبء التحول الاجتماعي الإسلامي المعاصر مع الرجال في كتائب البنا.
إلى الطلائع الجديدة من الأخوات على نفس الطريق..الواقع المؤمن الحي الواعي المتقدم لإزاحة كام الهزيمة والخراب في عزم وثبات وإصرار الواثق بنصر الله.
إلى الأخت الصابرة المحتسبة: أمينة علي.... واحدة من الرعيل الأول، دفعتنا بقوة روحها إلى نشر هذا الكتاب.
مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 109].
رعاية ثمرات هذا الروح حتى تينع وتنضج في غير عبث ولا إهمال وعالج ما يعترض هذه الحياة الزوجية من مشكلات أدق علاج وأختط في كل نظرائه طريقًا وسطًا لا تفريط فيه ولا إسراف.
(ج) وإذا صلحت الأسرة فقد صلحت الأمة وإنما الأمة مجمعة هذه الأسر، وإنما الأسرة أمة مصغرة، والأمة أسرة مكبرة، وقد وضع الإسلام للأمة قواعد الحياة الاجتماعية السعيدة فعقد بينها آصرة الأخوة وجعلها قرينة الإيمان ورفع مستوى هذه الصلة إلى المحبة بل إلى الإيثار وقضي على كل ما من شأنه أن يمزق هذه الروابط أو يضعف هذه الوشائج وحدد الحقوق والواجبات والصلاة فاللأبوة حقها وعليها واجبات وللنبوة مثل ذلك، ولذوي القربى حقوقهم وعليهم واجباتهم، وفصل مهمة الحاكم والمحكوم أدق تفصيل وبين أحوال الناس بأفصح بيان ولم يجعل لأحد على أحد فضلا إلا بالتقوى، فلا سيد ولا مسود ولا أمراء ولا عبيد ولكن الناس أمام الله سواسية كأسنان المشط، إنما يتفاوتون بعمل الصالحات وكذلك حدد صلات الأمم بعضها ببعض وبين حقوق كل صنف فيها وواجباته ولم يدع من ذلك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقد عالج الإسلام بعد ذلك مشاكل المجتمعات فالوقاية مما يؤدي إليها أولا واستئصال ما عساه أن يحدث منها ثانيا فلكل مشكلة اجتماعية عنده دواء والدواء الأول في كل علاج صلاح النفوس والتضامن الاجتماعي بين بني الإنسان.
والإسلام يحيط بكل ذلك ولا يسلك سبيل العنت ولا يحمل الناس إلى ما يؤدي إلى الحرج، ولكن يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر ويضع القواعد الكلية وبدع الفرعيات والجزئيات ويرسم طرائق التطبيق، وبكل الأزمان والعصور بعد ذلك أن تعمل عملها، وهو لذلك شريعة كل زمان ومكان وهو لذلك يفرض نشر الدعوة حتى تشمل الناس أجمعين ويتحقق قوله تعالى، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»
فإذا قوى الشعور الذي أشرنا إليه آنفا، وأدى إلى نتيجته التي وضعناها الآن فطبق نظام الإسلام على الفرد والبيت والأمة، ووصلت الرسالة إلى القلب والوجدان فقد نجحت فكرتنا واستجيبت دعوتنا ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
بين الصبغة الاستقلالية والصبغة التقليدية
نحن نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم.
ولكنا نريد قبل ذلك أن تسود الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل هذه الأوضاع وتصبغها بصبغة إسلامية وبدون ذلك لن نصل إلى شيء نريد أن نفكر تفكيرا استقلاليا يعتمد على أساس الإسلام الحنيف لا على أساس الفكرة التقليدية التي جعلتنا نتقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء ونريد أن نتميز بمقومات ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة تجر وراءها أقوم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد (1)
وبعد استعراضنا لهذه الكلمات الغالية للإمام البنا التي أرشدنا بها إلى المنهج النبوي الكريم في بعث الشخصية المسلمة التي يقوم على عاتقها بناء البيت المسلم والأمة المسلمة من جديد.. بعد هذا العرض يصبح من الجلي أثناء استلهمنا خطتنا في هذا الكتاب من هذه الكلمات التي آثرنا أن نورد نصها في هذه المقدمة.
- وبذلك يتبين لماذا بسطنا البحث في خصائص المنهج القرآني في تربية الفرد وبناء الجماعة كما جاء في الفصل التمهيدي لأننا نريد كما يقول الإمام البنا «أن تفكر تفكيرا استقلاليا يعتمد على الإسلام الحنيف».
- ويأتي بعد ذلك الباب الأول ليدحض زيف الحلول الداخلية لمشكلات المرأة والأسرة ويفضح مخططات الهدم والجماعات الضالعة في تنفيذ هذه المخططات.
- ثم تجيء بقية أبواب الكتاب في كيفية بناء الأسرة المسلمة كما يجب أن تكون والأخوات المسلمات ومكانتهن ودورهن في حركة التحول الاجتماعي الإسلامي المعاصر، وبأي المناهج تتكون الأخت المسلمة. فإن كنا قد وقفنا فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وإن كنا لم نبلغ الغاية فنسأل الله العفو، فهذا جهد العاجز الضعيف الذي حاول أن يقطف من كل بستان زهرة ويضع ما قطفة في هذا النسق.
والله أكبر ولله الحمد.
فصل تمهيدي
نظرات في المنهج القرآني في تربية الفرد وبناء الجماعة
- • بين الوسائل والأهداف
- • التكامل والشمول
- • التحرير
- • الإيجابية
- • التوازن
- • الواقعية
- • التقدم والتطور
- • التكافل والعدل
- • التميز
بين الوسائل والأهداف
إن حاجتنا إلى اجتياز مشكلات أمتنا الإسلامية وتفككها وضعفها وهوانها على الأمم لا تتحقق إلا في حدود ما يكون لنا من إخلاص وهمة صادقة على بعث الفاعلية القرآنية في النفوس مع ما نملكه من وسائل وأساليب منهجية للتسامي الروحي في الوعي الإنساني. هذا التسامي هو الذي يحول الإنسان «ذكرًا وأنثى» وهو قاعدة أي نهضة إلى أمر صارم للعمل، ويستثير همته إلى البذل والتضحية، وبهذا نكون قد سلكنا الطريق الصحيح إلى قيام المجتمع المسلم ليستأنف رسالته في الحياة.
إن أي سياسة تربوية لا تعمل على تغيير ما بالنفس وهو بحفزها للتفوق على ذاتها، وانبعاثها وتزويدها بقيمتها الإيجابية .. بتخليصها من أهوائها وكل ما ران عليها من ركام الجاهلية هي سياسة لا تريد أن تجتاز بهذه الأمة صعوباتها ومشكلاتها إن عجز العالم الإسلامي الحديث يكمن في بناء الإنسان المسلم نفسه الذي يعاني من شلل أخلاقي واجتماعي وفكري هذا العجز يمتد بجذوره إلى نفس هذا الإنسان – فردا وأسرة- فكيف تنبعث هذه النفس؟
- وكيف تستأنف الحركة من السكون وبلادة الحس؟.
- وكيف ينسجم لها تفكير في خضم هذه الثقافات والمناهج المضطربة المتنافرة؟
- وكيف يستقيم لها خلق في أوحال هذا السقوط والانحلال؟
والمسألة كذلك ليست في أن نعلم الإنسان ألفاظا وشعارات، كما أن المسألة ليست في أن تغني له لحن «الحرية والعزة والكرامة» فهو يعرف هذه الأغنية وليست المسألة كذلك في أن نقول له ونكرر بأن له حقوقا وعليه واجبات، فهو يعرف هذا القول أيضا، وليس علينا أن نلقنه فضائل التكافل والوحدة المقدسة، ففطرته وغريزته الجماعية مركوز فيها هذه المعاني فهي أمر من أمور البداهة عنده، وبتعبير آخر ليس علينا أن نلقنه أو أن نعرفه ما قد عرفه من قبل، بل الذي علينا هو أن نسلك به المنهج الناجح لاستنفار مواهبه وتقويم معارفه في شكل جماعة واقعي ملموس لتحقيق دوره في الحياة وبناء حضارته وبتعبير أدق ليست القضية أن نحدثه عن ضياعه وضعفه وتمزقه وحقوقه المهضومة وحرياته المسلوبة وفضائل العودة إلى الإسلام وشريعته، بل الذي عينا أن نعلمه ونمرنه على الوسائل والأساليب والأعمال التي يسترد بها ما سلب منه، وهي الوسائل والأساليب والأعمال المعبرة عن واجباته كإنسان صاحب رسالة وحضارة.
إن عمل السياسة التربوية الرشيدة هو في الواقع توفير لكل الأساليب العملية وتهيئة لكل الشروط النفسية والمادية الكفيلة بظهور الإنسان المسلم ذكرا وأنثى- من جديد ليستأنف حركته على الأرض ومع الناس بمنهاج الخلاقة عن الله.
ولكن نصل إلى هذا الهدف .. هدف بروز الإنسان المسلم من جديد، لابد أن نبدأ أولا بتصحيح الفهم فهم عقائد الإسلام وتصوراته عن الله والإنسان والحياة، فقد مسخت هذه العقائد في كثير من عقول المسلمين ولحقها فساد التأويل، وهو الفساد الذي كان من نتائجه أن استغل الإسلام ضد كبيعته وروحه لعرقلة انبعاث الشخصية المسلمة، وذلك بافتعال تفسيرات له تنحرف بل تتصادم مع حكمته الإلهية السامية، كما كان من نتائج فساد التأويل «أن تصور بعض الناس واهمين أن عيهم أن يختاروا بين رفض التقدم باسم دين تصوروا أنه يقف في وجه الحياة...
وبين حياة تدار شئونها بعيدا عن الدين وتوجيهاته فخسروا وخسر الناس معهم على الحالين»
والتصحيح الذي تقصده بهدف إلى القضاء على الأفكار الخبيثة والأعمال المضللة لفصل الدين عن الحياة.. حياة الفرد وحياة الأسرة وحياة المجتمع وتصويره على أنه عالم مستقل لا يتجاوز عتبة المسجد وهو التصور الذي أوجد عند كثير من ذراري المسلمين نوعا من ثنائية الحياة والاتجاه، فتمزقت نفس الإنسان المسلم وتبددت طاقتها فتوقفت عجلة التقدم في ربوع العالم الإسلامي فأصبحت ناصية أمورنا بيد أعدائنا بعد أن تأثرنا بهم واستجبنا لهم وارتكبنا معهم كل الموبقات فأذاقنا الله لباس الخوف والذل.
أما وقد جربنا كل المناهج، وفشلنا في أن نلمس أوتار النفس المسلمة، كما فشلنا في تفجير طاقتها المذخورة، ذلك أن الناس في هذه الأمة الإسلامية بالذات لا ينصلحون ولا تنصلح أحوالهم إلا إذا عرفوا ربهم وعدنا بهم إلى منهجه...
القول الفصل في مشكلات الأمة الإسلامية، هو في قيامها على أمر الله، ولا يتأنى لها ذلك إلا إذا عرفت الله وتفتحت قلوبها عليه، «فإذا لامست معرفة الله قلب الإنسان، تحول من حال إلى حال وإذا تحول الفرد، وإذا تحول الفرد تحولت الأسرة، وإذا تحولت الأسرة تحولت الأمة، وما الأمة إلا مجموعة أسر وأفراد (2) »
والواقع أننا لو نعرف شأن الأسرة في عملية التحول هذه لأدركنا أنها قطب الرحى ومركز الدائرة بالنسبة لتحول الفرد وتحول المجتمع فالأسرة أصل الفرد وهي في ذات الوقت أصل المجتمع ووحدته الأولى، الأمر الذي يجعلنا ندرك أيضا سر عناية الإسلام بها ومجيء أحكامه بشأنها في بيان وتفصيل فالأسرة في نظام الإسلام مؤسسته التربوية الأولى، فهي المحصن الذي يتربى فيه الطفل، ويتشرب منها أخلاق الإسلام وعقائده وشرائعه وتاريخه، وهي التي تقوده إلى المسجد مؤسسة التربية الثانية في الإسلام وتترتب على هذه المهمة الضخمة الخطيرة الهائلة الملقاة على عاتق الأسرة كل صورة المجتمع المقبلة.
فعلى الأسرة إذن يقع العبء الأكبر من واجب التنشئة الإسلامية في جميع مراحل الطفولة بل في المراحل التالية لها كذلك، وفي ظل الأنظمة العلمانية التي تحكمنا وتعمل مؤسساتها التربوية والإعلامية على تشويه حقائق الدين وتأويله تأويلا فاسدا يتصادم مع حكمته الإلهية السامية، كما تروج لكل تيارات الغرب الفكرية والأدبية والفنية التربوية العاملة على مسخ الشخصية المسلمة وانحلالها. .. وفي ظل هذه الأنظمة يقع عبء التربية الإسلامية الأكبر على عاتق الأسرة.
وللإسلام منهجه المتفرد في تربية الفرد وبناء الجماعة الذي يختلف عن غيره من المناهج في أنه منهج رباني وأنها مناهج وضعية، ومن هذه النقطة تبدأ سائر الاختلافات بين طبيعة المنهج الإسلامي وطبيعة هذه المناهج.
ولكي نكشف عن طبيعة ذلك الاختلاف الأساسي إجمالا فإننا نقول: إن المناهج الوضيعة هي من صنع المجتمع، يصوغها هو ويكيفها وفق
تقديم
ماذا نريد؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يظلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أيها الناس اتقوا ربكم، الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم.
ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا.
أما بعد....
• بما أن نظام الأسرة في المجتمعات الإسلامية يواجه خطر التفكك والانحلال الذي تظهر عقابيله وآثاره الوخيمة في سلوك قطاعات كبيرة من الشباب، وذلك بسبب تيارات ثقافية وحضارية غربية توجهها دوائر اليهودية التلمودية والصليبية والشيوعية، التي تستهدف ضرب مقومات الأصالة والتميز في الأمة المسلمة وتفويض بنيانها من القواعد.
لقد جرفت هذه التيارات الجاهلية معها كلي معنى من معاني الفضيلة والخير والكرامة، وطغت على سطحها وجوه كالحة ارتسمت فيها كل أساب الغواية والفتنة والشذوذ.
وأذكت مادية هذه الجاهلية المنتنة الأنوف ومسخت الفطرة حتى أصبح كثير منا وقد عميت أبصارهم وبصائرهم وماتت أحاسيسهم ومشاعرهم لا يفكرون إلا بها ولا يعيشون إلا لها ولا يحكمون على الأشياء إلا من خلالها.
وهذه هي التركة المثقلة بالأعباء والمهمات التي ورثها دعاة الإسلام والعاملون له.
• وبما أن العاملين للإسلام مطالبون بتحصين كل جبهات المقاومة.
ولما كانت الأسرة والزوجة والولد، هي إحدى هذه الجبهات وخط دفاع خطير في مقاومة الجاهلية التي تقف لهم بالمرصاد، فعليهم أن يحصنوا هذه الجبهة بكل أسباب المناعة والقوة.
• ورما أن الاهتمام بالفرد المسلم وتكوينه يجب أن يسبق أي عمل آخر، فالفرد المسلم هو حجر الزاوية في أي بناء اجتماعي ولما كانت الأسرة هي التي تستقبل الفرد منذ ولادته وتستمر معه مدة طويلة من حياته، بل هي التي تحيط به طوال حياته، فهي العامل الأول الذي تتحدد به معالم الشخصية وخصائصها وصفاتها، كما أنها الوسيط بين الفرد والمجتمع فإذا كان هذا الوسيط سليما قويا أمد طرفيه- الفرد والمجتمع- بالسلامة والقوة. لهذا اهتم الإسلام واتجه إليها يضع لها الأسس التي تكفل قيامها ونموها نموا سليما، ويرفع مستواها وشأنها ويوثق العلاقات بين أفرادها ويدعم كيانها ويؤمن حياتها.
ويتجلى لنا اهتمام الإسلام بالأسرة من حركة الدعوة الإسلامية منذ ساعاتها الأولى، إذ كان من قد الله تعالى كان قدر الله تعالى أن يكون من أول السابقين إلى الإسلام امرأة «خديجة عليها السلام»: إشادة بمنزلة المرأة في الإسلام وأنه يرسم قواعده على الأسرة وصبى «على كرم الله وجهه»: إشارة لحاجة الدعوة إلى البراعم الجديدة واهتمامها بالجيل الناشئ لتسير في مراحلها الصحيحة لبناء المجتمع المسلم.
• وإذا كانت الدعوة الإسلامية قد ورثت مجتمعا مثقلا بجراثيم فساده وانهياره، يواجه أخطر التحديات في تاريخه، بسبب ما تقوم به قوى النفوذ الاستعماري بدوائره اليهودية والصليبية والشيوعية من تنفيذ مخطط الهدم لكل مقومات الأمة المتمثلة في الحركة التي استعلنت باسم «حركة تحرير المرأة» التي حمل لواءها نساء ورجال قطعوا كل صلة لهم بنسبهم الإسلامي الأصيل، وجعلوا كل ولائهم لحضارة الغرب وقيمها وتقاليدها.
لقد استهدفت هذه الحركة تفكك الأسرة وانحلال الأخلاق واستباحة العرض الإسلامي، بإحداث ثغرات وتأصيل مفاهيم جديدة باسم التقدم تدور في إطار المفهوم الغربي العاري من أسالب العفة والقيم والحصانة، بالفعل تأصلت هذه المفاهيم الخاطئة لدى بعض ذراري المسلمين وأصبحت في عقولهم المريضة ف عداد المسلمات، فانحرفوا باتجاه المرأة المسلمة ورسالتها في الحياة وعملوا على إفساد علاقاتنا الاجتماعية عن طريق مواقعهم في مؤسساتنا الإعلامية والتربوية فزدنا ضعفا على ضعف، وعمت الفوضى حياتنا وابتعدت عن الصورة الكريمة العزيزة النظيفة للحياة الإسلامية.
والحق الذي لا مراء فيه أن هذه الجماعات لم تكن مخلصة لهذه الأمة أو صادقة في التماس هدف أصيل، إذ أخذت على عاتقها كل عمليات تذويب ومسخ الشخصية المسلمة والقضاء على البقية الباقية من معالمها وإيجاد وشائح وصلات تربطنا بوثنيات الحضارة الأوربية وأصولها الانحلالية المتهافتة وقطع كل ما يصلنا بنسبنا الإسلامي العريق.
فبرز الإمام البنا يعيد لهذه الأمة أهدافها الأصيلة في عملية التحول الاجتماعي، ويضع أمام أنظار العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية معالم الخطة النبوية الكريمة التي قامت على أساسها خير أمة أخرجت للناس، وعلى أساسها تبعث هذه الأمة من جديد.
يقول رضي الله عنه: «وينظر الإنسان في الدعوات إلى مظاهرها العملية وألوانا الشكلية ويهملون كثيرا النظر إلى الدوافع النفسية والإلهامات الروحية، التي هي في الحقيقة ورد الدعوات وغذاؤها وعليها يتوقف انتصارها وتملؤها وتلك حقيقة لا يجادل فيها إلا البعيد عن دراسة الدعوات وتعرف أسرارها إن من وراء المظاهر جميعا في كل دعوة لروحا دافعة، وقوة باطنة تسيرها وتهيمن عليها وتدفع إليها، ومحال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة الحقيقية في النفوس والأرواح والمشاعر: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
ولهذا أستطيع أن أقول، إن أول ما نهتم له في دعوتنا، وأهم ما نعول عليه في نمائها وظهورها وانتشارها هذه اليقظة الروحية المرتجاة فنحن نريد أول ما نريد يقظة الروح وحياة القلوب وصحوة حقيقية في الوجدان والمشاعر، وليس يعنينا أن نتكلم عما نريد بهذه الدعة من فروع الإصلاح في النواحي العملية المختلفة بقدر ما يعنينا أن نركز في النفوس هذه الفكرة.
نحن نريد نفوسنًا حية قوية فتية، قلوبًا جديدة خفاقة، ومشاعر غيورة ملتهبة طموحة متطلعة متوثبة تحدد مثلا عليا، وأهدافا سامية لتسمو نحوها وتتطلع إليها ثم تصل إليها، ولابد من أن تحدد هذه الأهداف والمثل، ولابد من أن تحصر هذه العواطف والمشاعر، ولابد أن تركز حتى تصبح عقيدة لا تقبل جدلا ولا تحتمل شكا ولا ريبًا وبغير هذا التحديد والتركيز سيكون مثل هذه الصحوة مثل الشعاع التائه في البيداء لا ضوء له ولا حرارة فيه.
.. .فما حدود هذه الأهداف وما منتهاها؟
إننا نتحرى بدعوتنا منهج الدعوة الأولى ونحاول أن تكون هذه الدعوة الحديثة صدى حقيقيًا لتلك الدعوة السابقة التي هتف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطحاء مكة قبل ألف ومئات من السنين، فما أولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا إلى ذلك العصر المشرق بنور النبوة، الزاهي بجلال الوحي لنقف بين يدي الأستاذ الأول، وهو سيد المربين وفخر المرسلين الهادين لنتلقى عنه دروس الإصلاح من جديد، وندرس خطوات الدعوة من جديد...
إلى النبي صلى الله عليه وسلم قذف في قلوب صحابته بهذه المشاعر الثلاثة، فأشرقت بها وانطبعت عليها:
- (أ) قذف في قلوبهم: أن ما جاء به هو الحق وما عداه هو الباطل وأن رسالته خير الرسالات، ونهجه أفض المناهج وشريعته أكمل النظم التي تتحقق بها سعادة الناس أجمعين، وتلا عليهم من كتاب الله ما يزيد عليهم هذا المعنى ثباتًا في النفس وتمسكا في القلب: «فاستمسك بالذي أوحي إليك، إنك على صراط مستقيم» «وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون» «فتوكل على الله، وإنك على الحق المبين» «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون» «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا... فآمنوا بهذا واعتقدوه وأصدوا عنه.
- (ب) وقذف في قلوبهم أنهم ماداموا أهل الحق، وما داموا حملة رسالة النور وغيرهم بتخبط في الظلام وما دام بين أيديهم هدى السماء لإرشاد الأرض، فهم إذن يجب أن يكونوا أساتذة الناس، وأن يقعدوا من غيرهم مقعد الأستاذ من تلميذه يحنو عليه ويرشده، ويقومه ويسدده ويقوده إلى الخير ويهديه سواء السبيل.
- وجاء القرآن الكريم يثبت هذا المعنى ويزيده كذلك وضوحًا. وصاروا يتلقون عن نبيهم م من وحي السماء «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» «وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا» «وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج..» فآمنوا بهذا أيضا واعتقدوه وأصدروا عنه.
- (ج) وقذف في قلوبهم أنهم ماداموا مؤمنين بهذا الحق معتزين بانتسابهم إليه، فإن الله معهم يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيدهم إذا تخلى عنهم الناس، ويدفع عنهم إذا أعوزهم النصير، وهو معهم أينما كانوا، وإذا لم ينهض معهم جند الأرض تنزل عليهم المدد من جند السماء وأخذوا يقرأون هذه المعاني واضحة في كتاب الله: « إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».. «وكان حقا علينا نصر المؤمنين».. قرأوا هذه وفقهوه، فآمنوا به واعتقدوه وأصدروا عنه.
وبهذه المشاعر الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة والاعتزاز باعتناقها والأمل في تأييد الله إياها، أحياها الداعي الأول صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله وحدد لهم أهدافهم في هذه فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم ومصاحفهم بادية في أخلاقهم وأعمالهم معتدين بتكريم الله إياهم واثقين بنصره وتأييده فدانت لهم الأرض وفرضوا على الدنيا مدنية المبادئ الفاضلة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة وبدلوا سيئات المادية الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدة ويأبى الله إلا أن يتم نوره...
الفرد المسلم، البيت المسلم، الأمة المسلمة.
وهذا الشعور القوي الذي يجب أن تفيض به النفوس وهذه اليقظة الروحية التي تدعو الناس إليها لابد أن يكون هلا أثرها العملي في حياتهم ولابد أن تسبقها ولا شك نهضة علمية تتناول الأفراد والأسر والمجتمعات.
(1) ستعمل هذه اليقظة عملها في الفرد فإذا به نموذج قائم لما يريده الإسلام في الأفراد، يرد ي الفرد وجدان ثائرا يتذوق الجمال والقبح وإدراكا صحيحا يتصور الصواب والخطأ وإرادة حازمة لا تضعف ولا يلين أمام الحق وجسما سليما يقوم بأعباء الواجبات الإنسانية حق القيام ويصبح أداة صالحة لتحقيق الإرادة الصالحة وينصر الحق والخير. وقد وضع الإسلام تكاليفه الشخصية على القواعد التي توصل إلى هذه النتائج كلها ففي العبادات الإسلامية أفضل ما يصل القلب بالله، ويربي الوجدان الشاعر والإحساس الدقيق.
وفي النظر الإسلامي ما يرقى بالعقول والألباب ويدفعها إلى كشف ستائر الكون ومعرفة دقائق الوجود.
وفي الخلق الإسلامي ما يربي الإرادة الحازمة والعزيمة الماضية الصارمة، وفي النظام الإسلامي في الطعام والشراب والمنام وتوابع ذلك من شئون الحياة ما لو اتبعه الفرد لحفظ جسمه من مهلكات لا دواء لها ولظل في وقاية من فواتك الأمراض.
ولهذا يجب على الأخ المسلم أن يتعبد بما أمره الله به ليرقى وجدانه وأن يتعلم ما وسعه العلم ليتسع إدراكه وأن يتخلق بأخلاق الإسلام لتقوى إرادته وأن يلتزم نظام الإسلام في الطعام والشراب والنوم ليحفظ الله عليه بدنه من غوائل الأمراض والسقام، والإسلام حين يضع هذه القواعد لا يضعها للرجال ويدع النساء ولكن الصنفين في هذه الناحية الفردية في الإسلام سواء فعلى الأخت المسلمة أن تكون كالأخ المسلم في دقة وجدانها وسمو إدراكها ومتانة خلقها وسلامة بدنها.
(ت) وسيكون لهذا الإصلاح الفردي أثره في الأسرة، فإنما الأسرة مجموعة أفراد، فإذا صلح الرجل وصلحت المرأة وهما عماد الأسرة...
استطاعا أن يكوننا بيتا نموذجيا على القواعد التي وضعها الإسلام وقد وضع الإسلام قواعد البيت فأحكم وضعها فأرشد إلى حسن الاختيار وبين أفضل الطرائق للارتباط وحدد الحقوق والواجبات وأوجب على الطرفين ارتباطاته أو وفق حاجاته، أو وفق تصوراته، على حين أن المنهج الإسلامي من نتاج الوحي الإلهي ومتكيف به ومحكم باتجاهاته، بل ناشئ أصلا من فاعليته.
والله سبحانه يقول «كنتم خير أمة أخرجت للناس» (3) وهذا التعبير «أخرجت» يدل دلالة كاملة على حقيقة تكوين الأمة المسلمة ونشأتها، وطبيعة المنهج التربوي الذي أخرجها في أمة مخرجة إخراجا وفق اتجاه معين، يمثله منهج معين، وهي لم تخرج نفسها في وضع اختارته، ولم تصنع منهجها من ذات نفسها، وإنما صيغ لها هذا المنهج وأخرجت على وفقه إخراجا ربانيًا وفق منهج رباني.
خصائص المنهج القرآني في تربية الفرد وبناء الجماعة
كان الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده حريصين كل الحرص على تربية الأمة تربية قرآنية وإقامة الدولة على أساس قرآني سليم ومن الواقع التاريخ الإسلامي يبرز عنصر التربية القرآنية واضحًا في فتراته المشرقة، وحين تختلف هذا العنصر وقلت العناية به، أو شغلت الدولة عنه وصرفت إلى غيره من المناهج الوضعية، دب الضعف في كيان الفرد وبناء الأسرة فأصاب الأمة ما أصاب الأمم قبلها من نزاع وتخلف وانحلال، وما زال القرآن باقيًا وما زال غضًا طريا فيه من الإعجاز الذي يبلغ بالأمة الإسلامية ما بلغ بها من قبل إذا وجد حملة ودعاة ومؤمنين.
والقرآن منهج فريد في التربية، يربي بآياته متى صادف الفطرة السليمة، والقلب الذكي والعقل الواعي، والقدوة الحسنة .. هذا المنهج له خصائص التي تميزه عن غيره من المناهج، تنبثق هذه الخصائص من خاصية الربانية فهو منهج رباني موحى به من الله- سبحانه- ومحصور في هذا المصدر لا يستمد من غيره.
الخاصية الأولى التكامل والشمول
والمقصود بالتكامل والشمول أن أحكام الإسلام المختلفة وتوجيهاته في مجال العقيدة أو في مال السلوك الفردي أو في نطاق النظام الاجتماعي ترتبط كلها في وحدة محكمة، وترتد كلها إلى تصور شامل للحياة وحقائقها وكل ما فيها، ومعنى هذا أن الخطأ المؤدي على سوء الفهم ونقص التصور بل اضطرابه أن ينتزع جزء من أحكام الإسلام في التربية الأخلاقية أو في غيرها وأن يدرس ويحلل أو يعمل به بعيدا عن سائر أجزاء البناء المتكامل الذي يقيمه لتربية الفرد وتكوين المجتمع، ومن هنا نستطيع أن نقرر في يقين أن ما يخالف المنطق العلمي في دراسة أي حكم من أحكام الإسلام أن يفصل هذا الحكم من الصورة العامة التي يقيمها الإسلام للوجود وحقائقه وقيمه ونظمه إن دين الله تتفاعل فيه العقائد والشرائع والتوجيهات الأخلاقية وتتصل فيه الدنيا بالآخرة وترتبط في نظامه مصالح الفرد بمصالح الجماعة.
ولهذا أيضا يكون المنهج الصحيح في عرض منهج الإسلام في تربية الفرد وبناء الجماعة أن يعرض نظام الإسلام في هذا المجال مرتبطا بأساسه العقائدي لأن هذا الأساس العقائدي المميز هو الذي يحدد جذور التكوين النفسي والعقلي للفرد والأمة وهو الذي تصاغ على أساسها قيمها ومفاهيمها وموازينها.
والتكامل في منهج الإسلام يرجع إلى وحدة مصدره من ناحية ووحدة موضوعه من ناحية أخرى:
(1) أما وحدة المصدر: فمردها أنه منهج رباني وصاحب العقيدة فيه هو صاحب الشريعة «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا» (4)
فمصدر أحكام الإسلام كلها التنزيل السماوي الموحى به إلى الرسول الكريم (قرآنا وسنة) فالقرآن هو كتاب الله وتنزيله الكريم: «إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا» (5) وسنة رسول الله التي هي المأثور عنه في تبليغ رسالة ربه من قول أو فعل أو تقرير، هي من الوحي أيضا «وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى» (6) .
وقد أمرنا الله في شان اتباع الرسول أمرًا بينا: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا» (7) «ومن يطع الرسول فقد أطاع الله» (8)
هذا، وباستعراضنا للأسلوب القرآني نجد ترابطا ووحدة بين الإيمان والتكليف، فخطاب التشريع في القرآن لا ينفصم عن وصف الإيمان في الجماعة المسلمة المكلفة بهذا التشريع، فالإيمان هو أساس التكليف، وهو الوازع العميق في نفوس هذه الجماعة والحارس الأول على أمر الله فيها.
«وإنك لتقرأ القرآن في نور هذا المعنى فيأخذك أسلوبك الإلهي القاهر في مخاطبة هذا الإيمان. وفي دأبه على تحريكه واستثارته وتزكيته: فهو حين يشرع مناسك الحج يردفها بقوله: واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون» (9) وحين يفنى في الإنفاق يعقب بقوله: «وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم» (10) وحين يفرض القتال يقول «والله يعلم وأنتم لا تعلمون» (11) وحين يسرد أحكام النكاح يقول: «ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم، أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون» (12) ويقول: واتقوا الله واعملوا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين» (13) ويقول بعد آداب الخطبة: «واعلما أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم» (14) ويقول بعد الطلاق والرجعة «ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر، ذلكم أزكى لكم وأطهر» (15) وبعد حد الزنا يقول: «ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر» (16) وبعد حد السرقة يقول: «نكالا من الله، والله عزيز حكيم» (17) وفي رعاية العهد: «فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين» (18)
وهكذا نجد الأسلوب الإلهي في التشريع يذكر دائما بالله الذي أحكمه وفصله وأنزله «كتاب أحكمت آياته ثم فصت من لدن حكيم خبير» (19) ليستثير بالذكرى روح الإيمان في الناس، تارة بالترغيب في مرضاته ورحمته وتارة بالترهيب من غضبه وعذابه، والجنة والنار فأمتان تنتظر أن أهلهما وليست بين الناس وبينهما إلا سكرة الموت بالحق، ثم حساب بين يدي الله عسير سؤال للناس عما فعلوا بالذي أنزل إليهم: «فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين» (20) .
(ب) وأما عن وحدة الموضوع: فإن موضوع وهدف التوجيهات والتكاليف الإسلامية هو «النفس الإنسانية» أي حقيقة الإنسان في أعماقه التي لا يراها غير صاحبها وعين الله الناظر إليه، والتي تنبعث منها خواطر الخير والشر، وتكون من عندها الحركة الأولى نحو الخير أو نحو الجريمة: «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها» (21) .
فمن غير المعقول ولا المقبول أن يتولى هذا الدين تنظيم جانب واحد من جوانب حياة هذا الإنسان فيحكمها بمنطقه ويوجهها بموازينه ومنهجه ثم يترك سائر جوانبها مهنيًا لموازين غير موازينه ومناهج غير منهجه، وذلك يعتبر تجاهلا شنيعًا لوحدة الكيان البشري، كما يعتبر من وجهة النظر الإسلامية تجاهلا لطبيعة هذا الدين الذي يقول كتابه: «ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين» (22) والذي جاء مستغرقا للحياة مهيمنا على النفس ومن هنا كان تنظيم شئون الحياة المختلفة أمر تستوجبه طبيعة الإسلام، ويصبح من الضروري أن تكون العلاقة بين المسجد والبيت والشارع والمدرسة والصحافة والسينما والمحكمة والسوق التجارية والمصنع والمزرعة والسياسة في الداخل والخارج وشئون السلم والحرب، علاقة انسجام وتعاون على «الخُلق الرفيع» الذي هو عمل الإسلام الرئيسي لا علاقة خصام وتدابر وتنافر والوحدة الأخلاقية بين هذه كلها –فضلا عن أنها علامة الصدق على إسلام الأمة واتجاهها إلى الله- هي الضمان الرئيسي لبقاء كل فرد في نفسه مسلمًا فإن للمسلم نفسًا واحدة يدخل بها المسجد ويدرس بها في المدرسة ويقرأ بها في الصحيفة ويمشي بها الشارع ويعمل بها ويتاجر بها ويسوس بها ولن يستطيع أن يعيش مسلما إذا تخلفت مناهج الأسرة والدراسة والصحافة والشارع وسوق التجارة والسياسة عن أخلاق الإسلام.
وجميل أن يلتفت المسلم إلى صورة هذه الوحدة في صلواته كل يوم وليلة فهو ذا قائم في المحراب يناجي ربه، حتى إذا أشرق قلبه بمعاني فاتحة الكتاب وشرع يقرأ ما تيسر من القرآن .. رأيته يقرأ مرة آيات في التقوى وحسن الخلق ومرة أخرى آيات في الوصية والميراث، وثالثة في القانون المدني، ورابعة في القانون الجنائي، وخامسة في أحكام القتال والصلح والمعاهدات والمسلم الذي يقرأ كل ذك هو هو لم يتغير، وكل ذلك قرآن، أنزله الله الذي يقبل عليه بصلاته ويسجد خاشعا لجلاله، «قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض».
فإذا أردنا أن نبين ونبسط البحث-بعد ذلك- ليبرز مظاهر تكامل المنهج الإسلامي في ربطه بين الأساس الاعتقادي والنظام الأخلاقي والاجتماعي لزمنا أن نحدد في بساطة وإيجاز هذا الأساس الاعتقادي.
والأساس الاعتقادي للإسلام يقوم على الإيمان بمبدأين أساسيين:
«أن هناك ألوهية وعبودية، ألوهية يتفرد بها الله –سبحانه- بخصائص الألوهية وتجرد العبيد من هذه الخصائص، وعبودية يشترك فيها كل حي وكل شيء .. ومن ثم يترتب على هذا التصور كل مقتضياته وكل ونتائجه في الحياة الإنسانية».
فمن مقتضيات عقيدة التوحيد: أن يعتقد المسلم «أن لا إله إلا الله، وأن لا معبود إلا الله، وأن لا خالق إلا الله، وأن لا رزاق إلا الله، وأن لا نافع أو ضار إلا الله، وأن لا متصرف شأنه- وفي شأن الكون كله- إلا الله فيتوجه لله وحده بالشعائر التعبدية، ويتوجه لله وحده بالطلب والرجاء، ويتوجه لله وحده بالخشية والتقوى».
إن عقيدة التوحيد، ليست مجرد تقرير غيبي لحقيقة الألوهية، ولا هي مجرد إثبات فلسفي، وإنما هي خطاب كامل للكينونة الإنسانية بكل جوانبها وفي جميع أطوارها وحالاتها، ومنهج شامل في الفكر والسلوك، ومذهب رباني في الإصلاح ويستطيع المتأمل في جنبات النظام الإسلامي المتكامل أن يرى له العديد من النتائج والآثار.
إن عقيدة التوحيد إذ تستجمع الكينونة الإنسانية تستجمعها شعورا وسلوكا وتصورًا واستجابة في شأن التصور والمنهج وشأن الاستمداد والتلقي وشأن الحياة والموت وشأن السعي والحركة وشأن الصحة والرازق شأن الدنيا والآخرة، فلا تتفرق مزقا، ولا تتجه إلى شتى السبل، وتسلك شتى الطرق..
إن عقيدة التوحيد حين تستجمع الكينونة الإنسانية ومشاعرها تستجمع مشاعر الولاء والخضوع في العقل والنفس وتردها إلى الإله الواحد الذي «ليس كمثله شيء» والذي «لم يكن له كفوا أحد» كما تستنقذ في نفس الوقت هذه المشاعر وتحررها من الاتجاه إلى أي مخلوق من الناس أو قوة من قوى الطبيعة والإنسان، أو حزب غير حزب الله أو منهج غير منهج الله. وقد حرم الله على المسلم أن يعطي ولاءه على أساس غير أساس الإسلام «أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دونى أولياء، إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا» (23) فهذا غير ممكن في حق المؤمن، لأن عباد الله لا يوالون أحدا من دون الله فكيف يوالون أعداء الله؟
إن في كيان الإنسان وتكوينه أنه لا يستطيع أن يعيش بغير ولاء...
والذين تصوروا ذلك وزعموه خرجوا من دين إلى دين. ولم يزيدوا أن استبدلوا إلها بالله. ولقد قيل بحق «إن الإنسان لا يكون متدينا إلا إذا عبد إلها فحسب، فلا يصبح متدينًا حقا إلا عندما يضع جميع منابع نفسه في خدمة قضية أو موجود يستولي على المشاعر ويوجهها» ومعنى هذا أن الدين لازمة من لوازم النفس البشرية، وأنه ليس في وسع الناس أن يعيشوا بغير دين إلا أن يتخلصوا من طبيعتهم..
فأين تذهب مشاعر الدين في غيبة عقيدة التوحيد... إن أوربا قد جربت هذا الهروب من الله في أعقاب عصر النهضة حينما تمرد الناس على كل تبعية ورفضوا كل سلطان الله... واختلط التمرد على الملوك بالتمرد على القساوسة بالتمرد على الله.. فهل تحرر الإنسان في ظل هذه الثورة من تبعات الخضوع التي يفرضها الإيمان بالله لقد خرجوا من الخضوع لإله الكنيسة ليدخلوا في الخضوع لآلهة جديدة هي المادة والشهوة وأهواء النفس.
إن ضغوط الأنانية ومطالب الأهواء المتفرقة... وألوهية الناس قد فرضت على الملحدين تبعات أشد فداحة وأثقل وزنا من تبعات الخضوع للإله الواحد وصدق الله العظيم «أأرباب متفرقون خير، أم الله الواحد القهار؟» «فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون؟؟» بل إن عبادة الله لا تقتضي الإنسان ذلا ولا قهرا ولا تكلفة أتاوة بقدمها صاغرا وهو لا يفهم لها معنى: «ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون».
أما عقيدة التوحيد فإنها تستنقذ الإنسان وتحرره من تبعات هذا الولاء المشتت وعبادة الله وحده، تقتضي التحرر من سلطان الخلق أجمعين «ونخشى الناس والله أحق أن تخشاه» «فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين».
فالله وحده هو الذي «لا يسأل عما يفعل وهم يسألون»وهو وحده الذي «يعلم وأنتم لا تعلمون» وهو الذي «لا يحمد على مكروه سواه».
أما موقف الناس من الناس، فأساسه الحرية وقوامه المساواة، ولذلك قيل بحق أن لا إله إلا الله إعلان للإخوة الإنسانية عن طريق إفراد الله بالربوبية.
ومن هنا نستطيع أن نقول في وضوح أن الإيمان بالله حده ينعكس اجتماعيا وأخلاقيًا في صورة قيمتين أساسيين هما: الحرية والمساواة
والإيمان بالله وحده- فوق ذلك- هو الذي يطمع الفرد المؤمن والأمة المؤمنة بموقف الصلابة في الحق ويمدها بروح الجهاد والصبر عند لقاء الظلمة والمعتدين .. لأن المؤمنين كما يصفهم القرآن الكريم «يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم».. لأنهم يؤمنون بالله واحد «يرجون رحمته ويخافون عذابه» والإيمان بالله. هو الذي يجعل الفرد المؤمن مؤمنا على علمه حريصا على إتقانه وإجادته ولو غفلت عنه عين الدولة وحراسة القانون لأنه يقرأ عن ربه قوله تعالى «ألم يعلم بأن الله يرى» ويسمع عن نبيه صلى الله عليه وسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» رواه البخاري.
من أجل ذلك لا نبالغ إذا نحن قلنا أن الخطوة الأولى في منهج الإسلام التربوي أنه يبدأ بغرس عقيدة الإيمان بالله.. وتوحيده.. لأنه بقدر ما تستقر هذه العقيدة في النفس يكون انطلاقها إلى سائر الفضائل الخلقية.. ويكون استعدادها لإقامة سائر أحكام الإسلام، ولهذا لم يكن غريبا أن يمضي الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما في مكة يعلم الناس التوحيد.. ولو كان الأمر في التوحيد أمر تقرير فلسفي لما احتاج أكثر من ساعات .. ولكن الأمر فيه أمر استخلاص مشاعر النفس وملكات العقل ومحركات الجوارح حتى تسلم كلها لله. متحررة من ذل العبودية لسواه ويكون حالها كما كان حال أبو الأنبياء إبراهيم «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين».
• وثانيهما: الإيمان بالغيب:
والغيب هو ما غاب عن العباد وخرج عن مدركاتهم الحسية، وهو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان –الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه- إلى مرتبة الإنسان الذي رفع الله قدره بين الأحياء بنفخة الروح التي نفخها فيه، وهي ملكته الكاشفة، يكشف بها «آفاق الغيب» فترفعه عن أفقه هذا المحسوس المشهود.
فمتى شفت الروح وانزاحت الحجب بينها وبين المشهود والمغيب، يكون الإيمان بالغيب عندئذ هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه.
ولذلك كانت أول صفة للمتقين في القرآن الكريم: أنهم «يؤمنون بالغيب» التي فسرها بعض السلف فقال: «يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله» (24) .
وجاء خيرية الفئة المؤمنة بعد جيل الصحابة من صفة الإيمان بالغيب، عن ابن مُحَريز قال: «قلت لأبي جمعة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، أحدثك جيدًا: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني».
هذا الاكتشاف لآفاق الغيب الإيمان به، هو في واقع الأمر نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان الحقيقة الوجود كله، ولحقيقة وجوده الذاتي كخليفة ،ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود (ملائكة وشيطانية) وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدر الله وتدبيره وجنته وناره. كما أنها نقلة بعيدة في حياته على الأرض فهو إذ يستمد مثله وقيمه مادة معارفه من أفق الحق الأعلى، لكي يقرها في هذه الأرض، سلوكا وأوضاعا ومعاملات وعرفًا صالحا، إنما يهب لعالمنا هذا المشهود أمرًا ليس من طبيعته، أو يدخل على أرضنا هذه لونا ليس من قبيل مادتها وعناصرها ... فهو حامل «روح» من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وجالب «حق» من كون إلى كون وناقل «رحيق» من عالم قدسي إلى عالم يراد له أن يتقدس ويتطهر كل ما فيه من أعمال العباد ومجتمعاتهم...
إنها نقلة بعيدة في حياته على الأرض، فالإيمان مثلا بضرورة حدوث اليوم الآخر هو الذي يدفع الإنسان المؤمن إلى الجهاد الدائم لتحقيق الهدف الذي خلقه الله له مستهينًا بكل العقبات «أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا، وأنكم إلينا لا ترجعون، فتعالى الله الملك الحق (25)
إن الإيمان باليوم الآخر يستتبع بالضرورة وجود رقابة على كل الناس، على كل صغيرة وكبيرة يقومون بها، ابتداء من النفس وانتهاء بأحداث الحياة، وذلك حتى يحاسبوا عليها حسابًا دقيقًا عادلا لا ظلم فه، فهناك رقابة الله المباشرة: «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور» (26) وهناك لكل إنسان ملكان غير منظورين يسجلان له كل أعماله ونياته «ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد» (27) «إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون» (28) ) في كتاب منذ انطلاق نفسه الأول في هذه الأرض، وحتى آخر نفس عليها.
إن تحقيق العدل المطلق الذي جاء به الإسلام، والذي تبذل من أجله الدماء والأرواح والأموال والأوقات إن هذا العدل لا يمكن أن يتحقق في واقع الحياة بدون حساب أو جزاء ينتظر الناس في اليوم الآخر، «ونضع الموازين بالقسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين» (29) .
والمنهج الإسلامي عندما يتناول الكائن الإنساني بالتربية والإصلاح يتناوله تناولا شاملا لا يترك جانبا من جوانبه ولا يفضل عنصرا من عناصر تكوينه.. جسمه وعقله وروحه، حياته المادية والمعنوية وكل نشاطه على الأرض.
كما أنه في الوقت التي يتناول جوانب الكائن الإنساني مجتمعة، لا يتناول كلا منها على حدة، فيهتم بجانب ويهمل الجوانب الأخرى أو يعلي من جانب على حساب الآخر، كما تناولته المناهج البشرية التي لا ترى إلا جانبًا واحدًا منه، فراحت تعمل على تنميته وتغذيته دون جوانبه الأخرى.
فهناك من المناهج ما يؤمن بالجانب الحسي في الإنسان والحياة.. كل ما تدركه الحواس فهو حقيقة وما لا تدركه غير موجود، فاهتمت بكل محسوس على الأرض، وكل ما هو محسوس في الكيان البشري، فحاولت أن تسير له مأكله وملبسه ومسكنه، ويسرت له قضاء الشهوات ثم أغفلت من كيانه جانب الروح أغفت ما لا تدركه الحواس.. أغفلت العقيدة في الله، وما يشع منها من مثل وأخلاق وكانت النتيجة خواء الروح من الإيمان وخواء الحياة من العقيدة فأنهارات الأخلاق وخلت الحياة من القيم.
وهناك من المناهج ما يؤمن بالجانب الروحي من الإنسان وأنه هو الجوهر الحق وكل ما عداه لا يثبت على حقيقة، فراحت تغذي الروح بالترهب والتنسك، وترفع الإنسان على ضرورات جسده كلها، وتقهر هذا الجسد لأنه دنس لا ينبغي الاستجابة لمطالبه وكانت النتيجة أن تمرد الجسد المكبوت على خنق الفطرة.
وكل النظم التي عملت أو تعمل بهذه المناهج وتأخذ بجانب واحد من الإنسان وتفصله عن بقية الكائن، تؤدي بشعوبها إلى الهلاك في النهاية والمنهج الإسلامي يجمع فضائل هذه المناهج ولا ينحرف كما انحرفت فهو الذي يخاطب الكينونة الإنسانية بكل جوانبها، وبكل أشواقها، وبكل حاجاتها، وبكل اتجاهاتها، ويردها إلى جهة واحدة... جهة الله الخالق تتعامل معه وحدة وهو يؤمن من الكائن الإنساني بما تدركه الحواس، وبما يقع خارج نطاق الحواس...يؤمن بكيانه الجسمي وأنه قبضة من طين الأرض «إني خالق بشرًا من طين» (30) وفي الوقت ذاته يؤمن بالكيان الروحي للإنسان يؤمن بأن فيه نفخة من روح الله: «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» (31) )
إن كيان الإنسان –في التصور الإسلامي- من جسم وروح أو جسم وعقل وروح هذا الكيان ليس منفصل الأجزاء إنه ليس جسما وحده مستقلا بذاته لا علاقة له بالروح أو العقل، وليس عقلا منفصل مستقلا بذاته لا يرتبط بجسم أو روح، وليس روحا وحدها هائمة بلا وعاء الجسم أو رباط العقل، وإنما هو كيان واحد ممتزج مترابط الأجزاء.
وليست مزية المنهج الإسلامي في أنه يشمل الكيان البشري كله ولا يترك شيئا من جوانبه المتعددة الطاقات وإنما المزية الحقة أنه يساير الفطرة فيما هو أبعد من هذه الحقيقة فالمنهج الإسلامي يجاري الفطرة في تركيبها جميعه يحاربها ولا يعتسفها يحاربها في السماح ببروز بعض الجوانب أحيانا وانحسار بعض فيجعل ساعة للعبادة، وساعة للتفكر وساعة للعمل، وساعة للاستمتاع.. يحاربها محتفظا بترابط الجوانب كلها.
وامتزاجها فلا يسمح بفصل جانب عن بقية الجوانب أو إبراز جانب وكبت الجوانب الأخرى في أي وقت من الأوقات.
ساعة العبادة ليست تهويمة روح خالصة وإنما هي حركة جسم ونظرة عقل وانطلاقه روح، والصلاة فيها هذه الحقيقة بوضوح، فهي تشمل الجسم والعقل والروح كلها في آن، ثم كل عمل في عرف الإسلام عبادة مادام يتجه به الإنسان إلى الله.
وساعة التفكر، لا تنقطع عن الإحساس بالله والتفكير فيه.. لا تنقطع صلتها بالروح.
وساعة الجسد الخالصة لا يفصلها الإسلام عن الروح إن كان طعاما أو شرابًا فهي باسم الله والصلة بالله هي صلة الروح، وإن كانت متعة جنس- حلال- فهي كذلك، يقرأ عليها اسم الله ويدعوه قائلا: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ويقول فيها الرسول الكريم: «إن في بضع أحدكم لأجرًا! قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ثم يكون له عليه أجر؟ قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟
فكذلك إذ وضعها في حلال فله عليها أجر»...رواه مسلم.
الخاصية الثانية التحرير
«يستدل الإنسان لنظام جاهلي.. فيفقد شخصيته وذاتيته، يفقد قرته على الحكم على الأشياء ويفقد قردته على التوجيه، ويصبح كما سالبا، ينقاد ولا يقود يُوجه ولا يوجه ترسم له الطواغيت التعليمات فينفذها، ولا يفكر يوما في اختيار هذه التعليمات ليرى إن كانت صالحة حقا أم داعية إلى الفساد.
« ويستذل الإنسان لتقيد اجتماعي له أصل أو لا أصل له، فينساق وراءه، ويظل يزاوله حتى وهو لا يؤمن في دخيلة نفسه ومن ثم يصبح منافقا، وينقلب المجتمع إلى بؤرة من الفساد (32)
فجاءت عقيدة التوحيد لتعلن أنه لا عبودية إلا الله، ولا خضوع ولا ذلك إلا لله، ولا استسلام ولا انقياد إلا لحكم الله.
ومن هذا التسليم الخالص لله يستمد الإنسان حريته وإيجابيته الكاملة تجاه الأشياء والأشخاص والأحداث ومنه تعطى النفس هذه القوة العجيبة التي تكافح بها كل شيء وتستعلي بها على كل شيء وتنشئ بها ما تريد
«إنه لا عبودية لقوة المادة ولا لقوة الاقتصاد ولا لقوة الدولة ولا لقوة المجتمع ولا لقوة العادة ولا لقوة التقاليد. لا (حتمية) لشيء على وجه الأرض إلا لسنة من سنة الله: (ولن تجد لسنة الله تبديلا) ومن سنة الله أن تكون النفس المؤمنة قوة كونية فاعلة، تسير مع الناموس الأكبر وتفهم عنه أسراره، وتستغل قواه وطاقاته.. لأن هذه القوة والطاقات كلها مسخرة للإنسان بإذن الله».
ومن هنا يكون مفرق الطريق بي موقف الإسلام ومنهجه في تحرير الإنسان وبين موقف الديمقراطيات في الغرب فهو أي الإسلام يعني بالحرية في معطياتها الجذرية التي تحرر الإنسان من سيطرة الآخرين ويكسر القيود والأغلال التي تكبل قواه وطاقاته ويعتبر تحقيق هذه المعطيات للحرية هدفا من الأهداف الكبرى للرسالة السماوية «ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم» (33) . ولكنه لا يربط بين هذا النوع من الحرية وبين معطياتها الإيجابية في ديموقراطيات الغرب، لأنه لا يعتبر حق الإنسان في التحرر من سيطرة الآخرين والوقوف معهم على صعيد واحد نتيجة لعبادة الإنسان لنفسه و «تحقيق ذاته بأهوائها وشهواتها الصنمية» وحقه في تقرير سلوكه ومنهجه في الحياة وإنما يربط بين الحرية والتحرر من كل الأصنام والقيود المصطنعة وبين العبودية المخلصة لله فالإنسان عبد الله قبل كل شيء، وهو بوصفه عبد الله لا يمكن أن يقر سيطرة لسواه عليه أو يخضع لعلاقة (صنمية) مهما كان لونها وشكلها، إنه يقف على صعيد العبودية المخلصة لله، مع المجموعة الكونية كلها على قدم المساواة.
فالقاعدة الأساسية للحرية في الإسلام هي: التوحيد والإيمان بالعبودية المخلصة لله الذي تتحطم بين يديه كل القوى الوثنية التي هدرت كرامة الإنسان على مر التاريخ.
«قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله» (34) .
«أتعبدون ما تنحتون؟ والله خلقكم وما تعلمون» (35) .
«إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم» (36) .
«أأرباب متفرقون خير؟ أم الله الواحد القهار» (37) .
وهكذا يقيم الإسلام نظامه في التحرر من كل العبوديات على أساس الإفرار بالعبودية المخلصة لله تعالى» ويجعل من علاقة الإنسان بربة الأساس المتين الثابت لتحرره في علاقاته مع سائر الناس ومع كل قوى الكون الطبيعية، فالإسلام والديمقراطيات في الغرب، وإن مارسا معا عملية تحرير الإنسان، ولكنهما يختلفان في القاعدة الفكرية التي يقوم عليها هذا التحرر فالإسلام يقيمها على أساس العبودية لله والإيمان به، والديموقراطيات في الغرب تقيمها على أساس الإيمان «بالذات الإنسانية» والتأكيد على مطالب «الأنا» (38) بعد أن شكت في كل القيم والحقائق وراء الأبعاد المادية لوجود الإنسان.
ومن اجل ذلك كان مرد فكرة الحرية في الإسلام إلى عقيدة إيمانية موحدة لله، ويقين ثابت بسيطرته على الكون المسخر له من الله تعالى.
وكل فما تأصل هذا اليقين في نفس المسلم، وتركز اتجاهه الموحد إلى الله تسامت نفسه وتعمق إحساسه بكرامته وحريته وتصلبت إرادته في وجه الطغيان تبغي واستبعاد الآخرين: «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» (39) .
وعلى العكس من ذلك فكرة الحرية في ديموقراطيات الغرب: فإنها كانت وليدة الشك لا اليقين ونتيجة القلق والثورة لا اليقين والاستقرار.
الحرية في مجالاتها
ويمكننا أن نقسم الحريات في ديموقراطيات الغرب إلى قسمين، للمقارنة بينها وبين الإسلام، لنرى هل نحرر الإنسان هناك بالفعل، أم كان الأمر مجرد ثورة لينفلت الإنسان هناك فتصيح الحرية فوضى تنذر بدمار هذه الحضارة ودمار الإنسان نفسه بعد أن أخذت الصراعات تنخر في كيانه.
القسم الأول:
الحرية في المجال الشخصي للإنسان، وهي ما تطلق عليه الديمقراطيات اسم: الحرية الشخصية.
والقسم الثاني:
الحرية في المجال الاجتماعي وهي تشمل الحريات: الاجتماعية والفكرية.
فإن الحرية الشخصية تعالج سلوك الإنسان بوصفه فردا سواء كان يعيش بصورة مستقلة أو جزءا من مجتمع وأما الحريات الأخرى فهي تعالج الإنسان بوصفه فردا يعيش في جماعة فيسمح له بالإعلان عن أفكاره للآخرين كما يحلو له، وتمنحه الحق في تقرير نوع السلطة الحاكمة، وتفتح أمامه السبيل لمختلف ألوان النشاط الاجتماعي والاقتصادي تبعا لقدرته وهواه.
الحرية في المجال الشخصي
حرصت الحضارة الغربية الحديثة على: توفير أكبر نصيب ممكن من الحرية لكل فرد في سلوكه الخاص، بالقدر الذي لا يتعارض مع حريات الآخرين، فلا تنتهي حرية كل فرد إلا حيث تبدأ حريات الأفراد الآخرين.
وليس من المهم لديها بعد توفير هذه الحرية لجميع الأفراد- طريقة استعمالهم لها، والنتائج التي تتخمض عنها، وردود الفعل النفسية والفكرية لها.. ما دام كل فرد حرا في تصرفاته وسلوكه وقادرا على تنفيذ إرادته في مجالاته الخاصة، فالخمور مثلا لا حرج عليه أن يشرب ما شاء من الخمر، ويضحي بآخر ذرة من وعيه وإدراكه، لأن من حقه أن يتمتع بهذه الحرية في سلوكه الخاص مالم يعترض طريق الآخرين، أو يصبح خطرا على حياتهم.
وفي مجال الجنس يتاح لغرائزه الحيواني بالانطلاق بلا حدود ولا ضوابط فللفرد هناك الحق باسم الحرية أن يخالل ويخادم من يشاء.
ولقد سكرت الإنسانية على أنغام هذه الحرية وأغفت في ظلالها برهة من الزمن وهي تشعر لأول مرة أنها حطمت كل القيود وأن هذا العملاق المكبوت في أعماقها آلاف السنين وقد انطلق لأول مرة» واتيح له أن يعمل كما يشاء في النور دون خوف أو قلق.
ولكن لم يدم هذا الحلم اللذيذ طويلا فقد بدأت الإنسانية هناك تستيقظ وتدرك بصورة تدريجية ولكنها مرعبة: أن هذه الحرية ربطتها بقيود هائلة وقضت على آمالها في الانطلاق الإنساني الحر، لأنها وجدت نفسها مدفعوعة في عربة تسير باتجاه محدد لا تملك له تغييرا ولا تطويرا، وإنما كل سلوتها وعزائها وهي تطالع مصيرها في طريقها المحدد- أن هناك من قال لها: إن هذه العربة (وإن كانت طائشة) هي عربة الحرية بالرغم من هذه الأغلال وهذه القيود التي وضعت في يديها.
أما كيف عادت الحرية قيدًا؟ وكيف أدى الانطلاق إلى تلك الأغلال التي تجر العربة في اتجاه محتوم وكيف أفاقت الإنسانية على هذا الواقع المر في نهاية المطاف؟ فهذا كل ما قدره الإسلام قبل أربعة عشر قرنا، حين لم يكتف بتوفير هذا المعنى السطحي القاصر من تحرير الإنسان، الذي منى بكل هذه التناقضات كما ظهرت في بالممارسة في الحياة الحديثة للإنسان الغربي وإنما ذهب إلى أبعد حد من ذلك، وجاء مفهوم أعمق لتحرير الإنسان وأعلنها حربا، لا على الأغلال والقيود بشكلها الظاهري فحسب بل على جذورها النفسية والفكرية وبهذا كفل للإنسان أرقى وأنزه أشكال الحرية التي ذاقها الناس على مر السنين.
ولئن كانت الحرية في ديموقراطيات الغرب تبدأ من التحرر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والأغلال كما أشرنا في بداية موضوعنا هذا وكما سنوضح فإن الحرية الرحيبة في الإسلام على العكس، لأنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى لتنتهي إلى التحرر من كل أشكال العبودية المهينة.
يبدأ الإسلام عمليته في تحرير الإنسانية من المحتوى الداخلي للإنسان نفسه، لأنه يرى أن منح الإنسان الحرية ليس أن يقال له: هذا هو الطريق قد أخليناه لك فسر كما تهوى وتحب.. وإنما يصبح الإنسان حرا حقيقة حين يستطيع أن يتحكم في طريقه ويحتفظ لإنسانيته بالرأي في تحديد الطريق ورسم معالم واتجاهاته وهذا يتوقف على تحرير الإنسان قبل كل شيء من عبوديته لأصنام الشهوات التي تعتلج في نفسه لتصبح الشهوات أداة تنبيه للإنسان إلى ما يشتهيه ليشبعها بالحلال وبالأسلوب الرشيد الذي يرتقي بحياته ويحقق سعادته في الكون لا قوة جارفة تسخر إرادة الإنسان دون أن يملك بإزائها حولا أو طولا، لأنها إذا أصبحت كذلك خسر الإنسان حريته من بداية الطريق ولا يغير من الواقع شيئا أن تكون يداه طليقتين ما دام عقله، وروحه وكل ملكاته الإنسانية التي تميزه عن مملكة الحيوان معتقله ومجمدة.
.. ونحن نعلم أن الشيء الأساسي الذي يميز حرية الإنسان عن حرية الحيوان بشكل عام: أن الحيوان مسخر دائما لشهواته وإيحاءاته الغريزية، وأما الإنسان فقد زود بالإرادة التي تمكنه من السيطرة على شهواته وتحكي منطقه العقلي فيها فسر حريته –كإنسان يكمن في هذه القدرة فنحن إذا جمدناها فيه واكتفينا بمنحه الحرية الظاهرية في سلوكه العملي ووفرنا له بذلك كل إمكانات ومغريات الاستجابة لشهواته كما صنعت الحضارة الغربية الحديثة فقد قضينا بالتدريج على حريته الإنسانية في مقابل شهوات الحيوان الكامن في أعماقه، وجعلنا منه أداة تنفيذ (لهذه الشهوات) حتى إذا التفت إلى نفسه في أثناء الطريق وجد نفسه محكوما لا حاكما، ومغلوبا على أمره وإرادته.
وعلى العكس من ذلك إذ بدأنا بتلك القدرة التي يكمن فيها سر الحرية الإنسانية فأتميناها وغذيناها جاء بناؤنا للإنسان بناء إنسانيا لا حيوانيا وجعلناه يعي أن رسالته في الحياة أرفع من هذا المصير الحيواني المبتذل الذي يسوقه إليه حضارة الشهوات وأن مثله الأعلى الذي خلق للسعي في سبيله أسمى من هذه الغايات التافهة، والمكاسب الرخيصة، التي يحصل عليها في متعة المادية. نقول إذا قمنا بذلك كله حتى جعلنا الإنسان يتحرر من عبودية شهواته وينعتق من سلطانها الآسر، ويمتلك إرادته فسوف يظهر لنا من جديد «الإنسان المسلم» ذلك الإنسان الحر الذي يستطيع أن يقول لا أو نعم دون أن تكمم فاه أو تغل يديه هذه الشهوات الموقوتة أو تلك اللذة المبتذلة.
وهذا ما صنعه القرآن حين وضع للفرد المسلم طابعه الروحي الخاص، وارتفع بمقاييسه ومثله، وانتزعه من طينة الأرض وأهدافها المحدودة، إلى آفاق رحيبة وأهداف سامية: «زين للناس حب الشهوات: من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث.. ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب.
قل أؤنبئكم بخير من ذلك؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فهيا، وأزواج مطهرة ورضوان من الله، والله بصير بالعباد» (40) .
هذه هي جولة التحرر في المحتوى الداخلي للإنسان، وهي في نفس الوقت الأساس الأول والرئيسي لتحرير الإنسانية في المنهج القرآني، بدونها تصبح كل حرية زيفا وخداعا، وبالتالي أسرًا وقيدًا (41) .
على انتشال الإنسانية من ربقة الشهوات وعبوديات المجتمع بتقاليد وعاداته الجاهلية.. هي الطريق العامة التي يستعملها الإسلام دائما في تربية الإنسان في كل المجالات: طريقة التوحيد فالإسلام حين يحرر الإنسان من عبودية الأرض وملذاتها العاجلة، يربطه بالسماء وجنانها ومثلها ورضوان من الله لأن التوحيد في هذا الدين هو دعامة الإنسانية في تحررها الداخلي من كل العبوديات كما أنه عماد التحرر الإنساني في كل المجالات.
والامثلة كثيرة لنعرف النتائج الباهرة التي تمخض عنها هذا التحرير ومدى الفرق بين حرية الإنسان القرآني الحقيقية، وتلك الحريات المصطنعة التي تزعمها ديموقرطيات الغرب، فقد استطاع الإنسان الذي حرره القرآن حين دعاه الله في كلمة واحدة إلى اجتناب الخمر أن يقول: نعم للأمر الإلهي في التو واللحظة، وأن يقول: لا لرغائب النفس وشهواتها في التو واللحظة، لأنه يملك نفسه ويملك إرادته.
عن أبي بريدة عن أبيه قال:
«بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر، إذ قمت حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نزل تحريم الخمر، فجئت أصحابي فقرأت الآية عليهم إلى قوله: «فهل انتم منتهون؟». قال: وبعض القوم شربه في يده شرب بعضها وبقي بعض في الإناء فاراقوا ما في كؤوسهم ثم صبوا ما في باطيتهم وقالوا: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا» (42) .
وشطبت الخمر من قاموس حياة المسلم بعد أن كان جزءا من كيانه وضرورة من ضرورات نفسه، مالكة لإرادته. فأصبح حرا بإزاء شواته ودوافعه الحيوانية وبكلمة مختصرة: كان ذلك الإنسان يتمتع بحرية حقيقية تسمح له بالضبط والتحكم في سلوكه.
أما ذلك الإنسان الذي نشأ في ظل ديموقراطيات الغرب، ومنحته الحرية الشخصية بطريقتها الخاصة فهو بالرغم من هذا القناع الظاهري للحرية، لا يملك شيئا من إرادته ولا يستطيع أن يتحكم في وجوده لأنها لم تحرر المحتوى الداخلي له.. وإنما أسلمته إلى شهواته ونزواته تحت ستار من الحرية الشخصية حتى فقد حريته كإنسان إزاء تلك الشهوات والنزوات فلم تستطع أكبر حملة للدعاية ضد الخمر جندتها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أن تحرر الإنسان الأمريكي من الخمر، بالرغم من قوة القانون والطاقات المادية والمعنوية الهائلة التي جندتها السلطة الحاكمة ومعها المؤسسات الاجتماعية مدة أربعة عشر عاما في هذا الغرض وليس هذا الفشل الذريع إلا نتيجة فقدان الإنسان الغربي للحرية الحقيقية فهو لا يستطيع أن يقول لا كلما اقتنع بذلك كالإنسان القرآني وإنما يقول الكلمة التي تفرضها عليه شهوته فحسب، ولهذا فلم يستطع أن يعتق نفسه من أسر الخمر لأنه لم يكن قد ظفر في ظل حضارة بتحرير حقيقي في محتواه الروحي والفكري.
كما استطاع الإنسان الذي حرره القرآن حين دعاه في كلمة واحدة إلى الحجاب أن يمتثل للأمر الإلهي لا يقيده في ذلك رغبة نفس أو مألوف مجتمع عن صفية بنت شيبة قالت: «بينما نحن عند عائشة قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة: إن لنساء قريش لفضلا وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار وأشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لما نزلت في سورة النور: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم منها، يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابة فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتاب فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهن الغربان» - رواه أبو داود.
ولكن النفس قد تتحرر من قيود الشهوات الآسرة وتقاليد المجتمع الجاهلي ومن العبودية لغير الله ثم تتأثر بعبودية الخوف على الحياة أو الرزق أو المكانة وقيم المال والجاه والحسب والنسب وهنا لا يترك المنهج القرآني هذه المشاعر ترهق كاهل الإنسان الذي يتعهد بالتربية وعنده الحل..
• فالحياة والموت بيد الله: «إنا نحن نحي ونميت وإلينا المصير» (43)
والعمر مكتوب وليس لمخلوق قدرة على أن ينقصه ساعة أو بعض ساعة: «وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلا» (44) .
• والرزق بيد الله وحده ولن يملك مخلوق أن يقطع رزق إنسان أو يضيق عليه في الرزق شيئًا «وكأي من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم» (45) وهذا لا ينفي الأسباب والعمل «فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه» (46) .
• والخوف على المركز والمكانة قد يعدل الخوف من الموت والخوف من الفقر لذلك حرص المنهج القرآني على تحرير الإنسان من هذا الخوف أيضًا ولن يملك مخلوق في هذا الأمر شيئًا «قل: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء، وتذل من تشاء بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير» (47)
• أما عبودية القيم الاجتماعية أو إفراط المرء في حب المال وتعلقه الشديد بجاهه وحسبه ونسبه، فقد وضع الإسلام هذه القيم في مكانها الحقيقي وجعل الإيمان والعمل الصالح هي المعيار الذي تتحد به مكانة المرء الحقيقية كما جعل منهما القيمتان الحقيقيتان اللتان لها كل الاعتبار: «وقالوا: نحن أكثر أموالا وأولادًا، وما نحن بمعذبين قل إن يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، إلا من آمن وعمل صالحًا، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون» والإسلام لا يغض مع هذا من شأن المال ولا من شأن الأبناء: «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» .. زينة ولكنهما ليسا قيمة من قيمها التي ترفع، فالذي يرفع ويخفض هو العمل الصالح: «والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخيرا أملا».
هذا التحرير الداخلي أو البناء الداخلي لكيان الإنسان هو في المنهج القرآني حجر الزاوية في عملية بناء الإنسان وإقامة المجتمع الإسلامي الحر السعيد فإذا لم يملك الإنسان إرادته ويسيطر على موقفه الداخلي ويحتفظ لنفسه بالكلمة العليا في تقرير سلوكه، لا يستطيع أن يحرر نفسه في المجال الاجتماعي تحريرا حقيقيا يصمد في وجه الإغراء والإغواء ولا أن يخوض معركة التحرير الخارجي بجدارة وبسالة.. وصدق الله العظيم: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (48) .
الحرية في المجال الاجتماعي
وكما يقطع الإسلام أشواطا بعيدة في تحرير الكيان الإنساني من الداخل كذلك يخوض معركة عظيمة لتحرير الإنسان في المجال الاجتماعي فهو يحطم في المحتوى الداخلي للإنسان أصنام الشهوة التي تسلبه حريته الإنسانية يحطم أيضا في نطاق العلاقات المتبادلة بين الأفراد الأصنام الاجتماعية ويحرر الإنسان من عبوديتها، ويقضي على عبادة الإنسان للإنسان: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابا من دون الله»
فعبودية الإنسان لله تجعل الناس كلهم يقفون على صعيد واحد بين يدي الخالق المعبود سواسية كأسنان المشط، فلا توجد أمة لها الحق في استعباد أمة أخرى والاستعلاء عليها، ولا فئة أو طبقة من المجتمع يباح لها اغتصاب طبقة أخرى وانتهال حريتها، ولا إنسان أيا كان مركزه يحق له أن ينصب نفسه صنما للآخرين.
ومرة أخرى نجد أن الجولة القرآنية الثانية من جولات التحرير قد سلك فيها القرآن نفس الطريق التي سلكها في شوطه الأول في تحرير النفس الإنسانية من العبودية للشهوات... وهي: التوحيد فما دام الإنسان يقر بالعبودية لله، فعليه أن يرفض كل صنم وكل تأليه مزور لأي طاغوت «فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور» (49) حينئذ يستطيع أن يرفع رأسه حرا أبيا لا يستشعر ذل العبودية والهوان أمام أي قوة من قوى الأرض أو صنم من أصنامها لأن ظاهره العبودية للأوثان والأصنام في حياة الإنسان نشأت عن سببين:
أحدهما: عبوديته للشهوة التي تجعله يتنازل عن حريته إلى الصنم الإنساني الذي بيده إمكانية إشباع شهواته وضمانها له.
والآخر: جهله بما وراء الأقنعة الصنمية المتألهة من جوانب الضعف والعجز.
وقد جاء الإسلام ليحرر الإنسان من عبودية الشهوة- كما عرفنا ويزيف هذه الأقنعة الصنمية الخادعة التي لا تخلق شيئا بل هي تخلق ولا تنصر عبادها بل لا تملك لأنفسها نصرا: «إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم» (50) فمن الطبيعي أن ينتصر على ظاهرة الشرك والعبودية للأصنام ويمحو من عقول وقلوب المسلمين كل أثر من آثار العبودية للأصنام بمختلف أشكالها وألوانها أن الذي يخلق هو الذي يستحق أن يعبد والذي يملك أن ينصر عباده بقوته ويحميهم هو الذي ينبغي أن يعبد.
وعلى ضوء الأسس التي تقوم عليها تحرير الإنسان من عبوديات أصنام الشهوة في المجال الشخصي وتحريره من عبودية الأصنام الاجتماعية، سواء أكان الصنم (أمة) أم (فئة) أم (فردًا) ... نستطيع أن نعرف مجال السلوك الفردي في الإسلام فإن الإسلام يختلف عن ديموقواطيات الغرب التي لا تضع لهذه الحرية الفردية حدا إلا حريات الأفراد الآخرين، لأن الإسلام يهتم قبل كل شيء كما عرفنا بتحرير الفرد من عبودية الشهوات والأصنام ويسمح له بالتصرف كما يشاء على أن لا يخرج عن حدود الله فالقرآن يقول «خلق لكم ما في الأرض جميعا» (51) «وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه» (52) وبذلك يضع الكون كله تحت تصرف الإنسان وحريته، ولكنها حرية محدودة بالحدود التي يجعلها تتفق مع تحرره الداخلي من عبودية الشهوة والهوى وتحرره الخارجي من عبودية الأصنام الاجتماعية.
وبناء على هذه القاعدة نستطيع أن نرى المجال الذي يتحرك فيه الفرد المسلم والمدى الواسع الذي يزاول فيه نشاطه بحرية...
في الإسلام لا تتدخل الدولة ممثلة للمجتمع في الحرية الشخصية للأفراد ولكن الحرية الشخصية هنا شيء آخر غير ما تفهمه الدول المنحلة، التي تترك أفرادها يعيشون فسادًا في الأرض باسم الحرية الشخصية.
ففي سياسة المال، يبيح الإسلام حرية التملك، وللدولة حق التدخل لحماية المجتمع من أخطار عدم التوازن التي تؤدي إلى الفتن والثورات وانحلال عقدة المجتمع بسبب وجود الترف المجرم من جانب والحرمان الكافر من جانب آخر وهنا يفترق الإسلام افتراقاً أساسيًا عن الدول الرأسمالية التي تترك حفنة من الناس أحرارًا في استعباد بقية الشعب، لمصلحتهم الخاصة فليس استغلال الآخرين حرية شخصية في الإسلام «كذلك الانحلال الخلقي أمر غير مباح وحكمة تحريمه واضحة، تتضح في الأثر السيئ الذي ينتج من هذا الانحلال على كيان الفرد نفسه وعلى كيان المجتمع على مدى الأجيال فليس الإسلام من قصر النظر بحيث ينظر إلى جيل واحد كأنه مقطوع الصلة بما قبله أو بعده من أجيال فالإنسانية حلقة مستمرة فالذي نصنعه اليوم يؤثر حتما فيما يحدث غدا وأبنائنا الذين نربيهم اليوم ونحن منحلون أو نهمل تربيتهم لهذا السبب سيكونون أكثر انحلالا في الجيل القادم لأن الإفلات من الضوابط الأخلاقية والارتداد إلى الحيوانية أسهل على الأفراد والمجتمعات من ضبط الشهوات ومحاولة الارتفاع (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)، ومن هنا كانت التربية الرشيدة واجبًا لا يسقط عن الآباء ولا عن أولياء الأمور في أي جيل من الأجيال.
• والاعتداء على الآخرين بأية صورة من الصور أمر كذلك غير مباح فإصابة أي مسلم في دمه أو عرضه أو ماله أو كرامته أمر لا يجوز لأحد من الحكام أو المحكومين.
• فحدود الحرية الشخصية إذن في الإسلام هي عدم الإيذاء للآخرين سواء كان الإيذاء يقع على فرد بعينه، أو على المجتمع كله، وسواء أكان الضرر الناشئ واضحا لمرتكبيه عاجل الأثر، أو كان خفيًا لا يتبين مداه إلا بعد أجيال.
أما ما يتحقق به النفع الفردي، ولا ينتج منه إيذاء للفرد بعينه أو لمجموع الأفراد، فالحرية مباحة فيه إلى آخر الحدود.
وكل فرد يختار عمله بنفسه، وبما يرى أنه موهوب فيه.
والأسرة تقوم بإرادة حرة بطرفين متكافئين وتستمر بالرغبة المشتركة التي تجمع بين طرفيها المتساويين، وتنفصم بالإرادة الحرة.
«والفرد في الإسلام حر في أن يمتلك ما يشاء في الحدود العامة للاستخلاف التي تحول دون الطغيان» ...
«وحر في اختيار حاكمه، بانتخاب حر لا تتدخل فيه سلطة الحاكم، ولا نفوذ أسرته، ولا يخضع لضغط أي طبقة أو فئة.
«وهو حر على العموم في الاستمتاع بكل طيبات الحياة بالقدر الذي لا يؤذي به نفسه ولا غيره وحر في التفكير في أمور الحياة في داخل الحدود الإسلامية.
«إن الذي لا يباح للمسلم، ويعتبر في الظاهر من قبيل الحرية الشخصية، هو الكفر بعد الإيمان ورفضه التحاكم إلى شريعة الله, وعقوبته الصريحة هي القتل... «وذلك أن الارتداد ليس مسألة شخصية وإن بدا ذلك في ظاهر الأمر إذ كيف كان يجوز أن يقتل الآلاف ويشردون لأنهم لا يؤمنون بلينين وستالين وعبد الناصر من الطغاة والجبابرة على مر التاريخ القديم والمعاصر ثم يباح للناس أن لا يؤمنوا بخالق لينين وستالين وأمثالهم؟ على أن غير المسلم له أن يعتقد ما يشاء وليس لأحد عليه سلطان- حتى داخل الدولة الإسلامية- مالم يتعرض لعقيدة الأمة بسوء «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي هذا في الوقت الذي يعاقب المرتد بالقتل، ذلك أن ردة المسلم عن دينه لها معناها الذي لا يظهر نتائجه الخطيرة إلا في إطار النظام والمجتمع.
إن الارتداد عن دين الله بعد الإيمان معناه إفساد نظام لا مجرد تغيير عقيدة فردية فالإسلام نظام عملي قائم على عقيدة، ومجتمع قائم على هذا النظام وأوامر مفروضة لصالح الفرد أولا وصالح المجتمع في الوقت ذاته ثانيا فهي إذن ليست مسألة شخصية وإنما يرجع الضرر فيها على الجميع.
نخلص إلى أن عبادة الله –كما عرفنا- ترفع الإنسان عن أن يستذل لأية قوة على الأرض سواء أكانت قوة الشهوة والهوى أو قوة السلطان الجائر أو غيرها مما يستذل الأفراد والمجتمعات التي لا تدخل في دين الله، هذه العبودية لله تدفع المؤمن الحق، بل تكلفه تكليفا أن يضرب قوة صنمية تستذل رقاب الناس لإنقاذ أرواحهم وكرامتهم وسلامتهم.
كما أن عبادة الطاغوت كما يقول الأستاذ سيد قطب في الظلال «عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال ومهما تكن تكاليف العبودية لله، فهي أربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة فضلا عن وزنها في ميزان الله (53).
«..... إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق إنها تكاليف بطيئة مديدة تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه (الإنسانية) لا توجد والإنسان عبد للإنسان وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟ وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه وغضبه عليه.
...وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام (كالحيوان) يقوده منه كيفما شاء إنسان؟!
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة .. إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس في حكم الطواغيت أموالهم التي يحميها شرع ولا يحوطها سياج كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما يشاء من التصورات والأفكار والمفاهيم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته.. ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية .. حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومناهج تجعلهن نهبا مباحا للشهوات تحت أي شعار وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار..
والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبناءه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله.. إنما يعيش في وهم، أو يفقد الإحساس بالواقع إن الانحراف بمعاني الحرية الشخصية في عبادة الشهوات والأهواء الالتصاق بطين الأرض أو التخلص عن الحرية الإنسانية بمعناها الحقيقي، مع الانحراف بمعاني الحرية الشخصية في عبادة الشهوات والأهواء والالتصاق بطين الأرض أو التخلص عن الحرية الإنسانية بمعناها الحقيقي، مع الانحراف بمعاني الحرية الشخصية في عبادة الشهوات والأهواء والالتصاق بطين الأرض أو التخلص عن الحرية الإنسانية بمعناها الحقيقي، مع الانحراف بمعاني الحرية الاجتماعية في السكوت عن الظلم والتنازل عن الحق وعبادة الأصنام البشرية والتزلف لها والانسياق وراء مصالحها والتخلص عن الرسالة الحقيقة الكبرى للإنسان المسلم في الحياة، هذا الانحراف لم يأذن به الإسلام لأنه تحطيم لأعمق معاني الحرية في الإنسان، ولأن الإسلام لا يفهم من الحرية إيجاد منطلق للمعاني الحيوانية في الإنساني وإنما يفهمها بوصفها جزءا من منهج فكرى وروحي كامل يجب أن يقوم على أساس بناء الكيان الإنساني.
الحرية في المجال الفكري
.. عرفنا أن الإسلام من الحرية إيجاد أي منطلق للمعاني والنزعات الشهوانية الحيوانية في الإنسان المسلم، لأن هذا الانطلاق الذي لا يعرف ضبطا ولا تساميا يشكل أخطر تهديد لأعمق معاني الحرية عند هذه الشخصية المتميزة.
فإذا لم يسيطر الإنسان على إرادته ويسيطر على زمام موقفه الداخلي ويحتفظ لنفسه بالكلمة العليا في تقرير سلوكه، لا يستطيع أن يحرر نفسه في المجال الاجتماعي تحريرًا حقيقيًا يصمد في وجه الإغراء والإغواء، ولا أن يخوض معكرة التحرير الخارجي بجدارة وبسالة وهي المعكرة التي ابتعت الله الإنسان المسلم من أجلها وتعهده المنهج القرآني بالتربية الكاملة ليخوضها في قوة واقتدار وثقة واطمئنان روي الطبري في «ابتداء أمر القادسية» أن ربعي بن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه فسأله ما جاء بكم؟؟ فقال ربعي: «الله ابتعثنا، والله جاء بنا، لنخرج من شاء:
• من عبادة العباد... إلى عبادة الله.
• ومن ضيق الدنيا.. إلى سعتها.
• ومن جور الأديان .. إلى عدل الإسلام.
فأرسلنا بدينة إلى خلقه، لندعوهم إليه»
إن الإسلام لا يعلن الجهاد إلا لتحرير الإنسان وحماية حقه في الاختبار الحر... ليكون الفيصل في قضايا الفكر: هو (إقتناع العقل) لا (رهبة السلطة) .. إنه يدفع القوة بالقوة ليكون الدين (لله) لا تحت سلطان أحد من الحكام والطواغيت يحجر على عقول الناس.
جاء في دائرة معارف لا روس: «إذا بحثنا بدون غرض ولا هم عن سبب الرقي الذي حدث في العالم المادي والفكري والخلقي منذ طفولة الجماعات البشرية إلى أيامنا هذه، فلا نراه إلا في خلاص العقل من الضغط عليه»
فالخصية التي تجعل الإنسان إنسانا هي العقل والفكر فتلك هي المنطقة التي يوجد فيها الاختيار وهي منطقة التكليف من الله ولذلك نجد أن فاقد هذه لا يكلف من الله، كما يحدث بالنسبة للطفل وللمجنون مثلا.
وهنا يكمن سر عناية الإنسان بتحرير العقل وتكريمه عن طريق دعوته إلى التوحيد وتحطيم الأصنام وحثه على البحث والتقصي، والنظر ف ملكوت السماوات والأرض فقد ورد في الأثر: «الدين هو العقل، ولا دين لنم لا عقل له» «أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل، تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم».
فالعقل في الإنسان طاقة من أكبر طاقاته، ونعمة من أكبر نعم الله عليه «قل هو الذي أنشاكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلا ما تشكرون» (54) والفوائد يستخدم في التعبير القرآني بمعنى العقل، أو القوة الواعية المدركة في الإنسان.
«والإسلام يحترم الطاقات البشرية كلها ولكنه يعطيها أقدارها الصحيحة لا يبخسها قدرها ولا يعطيها فوق قيمتها ويستغلها جميعا إلى أقصى طاقتها لفائدة المخلوق البشري وصلاح حالة على الأرض.
ومن ثم فهو يحترم الطاقة العقلية ويشجعها ويربيها لتتجه في طريق الخير... ولكي يصل إلى ذلك فإنه يمزجها بمزيج الروح، ويستنبتها في تربية الروح الأريجة المشعة، لتستعد من أريجها العذاب وإشعاعها الطليق» (55) ومن هذا المنطلق تجئ الحرية الفكرية في الإسلام لذلك يختلف الإسلام عن ديموقراطيات الغرب في موقفه من تحرير العقل، لاختلافه عنها في نظرته للطبيعة الإنسانية في شمولها فهو يسمح للفكر الإنساني أن ينطلق ويعلن عن نفس كشخصية مجاهدة في سبيل قاعدة «لا إله إلا الله التي هي الأساس الحقيقي لتوفير الحرية الحقيقية للإنسان، بعد أن يخلصها من أغلال التقليد وجمود الفكر، والاستسلام للأساطير (56) أو لآراء الآخرين دون وعي أو تمحيص وتكوين العقل الاستدلالي أو البرهاني عند الإنسان فلا يكفي لتكوين التفكير الحر لدى الإنسان أن يقال له: فكر كما يحلو لك، كما صنعت ديموقراطيات الغرب الأمر الذي يؤدي إلى الفوضى ويؤدي إلى ألوان من عبودية الفكر المتمثلة في التقليد والتعصب وتقديس الخرافات المزرية بقيمة العقل الإنساني.
والمنهج القرآني في خطته لإنشاء الفكر الحر يحرص على أن يتكون في الإنسان العقل الاستدلالي أو البرهاني الذي لا يتقبل فكرة دون تمحيص ولا يؤمن بعقيدة مالم يتحصل على برهان ليكون هذا العقل الواعي ضمانا للحرية الفكرة وعاصما للإنسان من التفريط بها بدافع من تقليد أو تعصب أو خرافة وفي الواقع إن هذا جزء من المنهج الإسلام وجولاته في سبيل تحرير المحتوى الداخلي للإنسان فهو كما حرر الإرادة الإنسانية من عبودية الشهوات كذلك حرر الوعي الإنساني من عبودية التقليد والتعصب والخرافة والأسطورة، وكل ألوان السحر والدجل والشعوذة، لذلك جاء نهي الرسول الكريم حاسمًا صريحًا في أمر إتيان الكهان والمنجمين وبهذا وذاك أصبح الإنسان حرًا في تفكيره وحرًا في إرادته.
«... فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب» (57) «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون» (58) وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون» (59).
وبعد:
إن أدعياء الحرية في عالمنا هذا أمرهم عجيب، ووضعهم غريب وحالهم مريب، نراهم يدعون أنهم أساطير العلم فيها وهم أجهل الناس بها، ويتبجحون تبجح المغرور برف أعلامها وهم أشد الناس تنكيسًا لها، ويتخيلون تخيل الواهم أنهم يشيدون بناءها وهم يقوضون أركانها (60)
• ويقول قائلهم: إنه متحرر في عالم السياسة.. وهو محكوم (بالديكتاتوريات) الفردية والتسلطات الحزبية.
• ويقول: إنه متحرر في عالم الاقتصاد.. وهو محروم من ضرورات الطعام والشراب والملبس والمسكن.
• ويقول: إنه متحرر في عالم النفس.. وهو يعيش القلق والحيرة والخوف والحسرة.
• ويقول: إنه متحرر في عالم الضمير.. وهو يعيش الغش والخداع والمكر والاحتيال.
• ويقول: أته متحرر في عالم الدين والإيمان وهو مستعد للدنيا بجميع شهواتها ومغرياتها.
• ويقول: إنه متحرر في عالم الفكر.. وهو يعيش الخطأ والانحراف وبتلق الكذب والدجل.
• ويقول: إنه متحرر في عالم السلوك والأخلاق وهو يعيش الوقاحة والسفه والفحش والمنكر.
• ويقول: إنه متحرر من كل شيء.. وهو عبد لكل شيء.
إن الحرية الحقيقية التي تليق بالإنسان المكرم كما تعلمناها من رسالة الإسلام هي الخلاص من جميع قيود الشر والفساد، وانفتاح المجال للانطلاق في جميع سبل الخير والصلاح، دون أي عائق يعوق أو أي حائل يحول.
• والإنسان الحر حقيقة هو الخالص من جميع قيود الشر والفساد، والسائر المطمئن في جميع سبل الخير والرشاد.
• وهو الموافق إذاء رغبات النفس ونزوات الجنس موقف العاقل الحكيم والمميز الرزين ليضع كل شيء في مكانه اللائق ووضعه الموافق، دون أن تطفى رغبة على حق أو أن تتعدى نزوة على حد.
• وهو السليم في عقله وتفكيره. إذ لا حرية مع فساد العقل والتفكير
• وهو المستقيم في تصوره واعتقاده .. إذ لا حرية مع انحراف التصور والاعتقاد
• وهو المخلص لله في نيته وطويته.. إذ لا حرية مع سوء النية وفساد الطوية.
• وهو المستسلم لله تعالى بكل شيء..إذ لا حرية مع الخضوع للدنيا والتثاقل إلى الأرض
• وهو العابد لله تعالى وحده..إذ لا حرية مع الشرك.
• وهو الملتزم لأمر الله وحكمه.. إذ لا حرية مع الالتزام لأمر البشر وحكمهم
• وهو الصحيح في خلقه وسلوكه.. إذ لا حرية مع سوء الخلق والسلوك.
• وهو الطيب في كسبه وإنفاقه إذ لا حرية مع الكسب الخبيث والإنفاق الخبيث.
• هذا هو مفهوم الحرية كما تعلمناه من الإسلام وهذه هي صفات المسلم الحر.
قال تعالى: «ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين» (61)
فهل آن لأدعياء الحرية المزيفة والتحرر المنحرف أن يفهموا الحرية على معناها الحقيقي ويعرفوها على وجهها الصحيح؟؟
وهل آن للشباب المحروم، الذي لم يذق بعد طعم الحرية الحقة أن يتذوقها ويشب على غذاها النافع اللذيذ.
وهل آن لهذه الأمة المخدوعة بالأكاذيب والأباطيل الغافلة عن الحق المبين أن تتنبه من غفلتها وتفيق من رقادها «ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون» (62)
الخاصية الثالثة الإيجابية
الإنسان الذي حررته عقيدة التوحيد قوة مريدة بانية، ومن ثم فهو قوة إيجابية في واقع الحياة. قوة تدفع الحياة إلى الأمام، قوة تسيطر على قوة الكون وطاقاته، وتستغلها لخير الأرض وعمارتها بالحق وبهذا يستحق أن يوصف بأنه خليفة الله في الأرض
إن العقيدة الإسلامية ليست مجرد حقائق إيمانية يعيشها الإنسان في عالم الضمير لا يكفيها أن توجد في صورة مثالية نظرية، أو تصوفية وروحانية ذلك لأنها منهج لواقع مطلوب إنشاؤه بالعمل والجهاد الدائب.. منهج يحمل معه بواعثه ومحركاته التي تؤثر غاية التأثير في الإنسان.
هذا ما تثيره عقيدة التوحيد في شعور المسلم ... «ومن ثم يجد دائما هاتفًا ملحًا في أعماقه، يهيب به إلى تحقيق هذا التصور في دنيا الواقع, ويؤرقه، حتى يهب للعمل، ويفرغ طاقته الإيمانية كلها، في هذا العمل الإيجابي البناء وفي إنشاء واقع تتمثل هذه العقيدة في حياة الناس (63).
«وحيثما ذكر الإيمان في القرآن أو ذكر المؤمنون ذكر العمل، الذي هو الترجمة الواقعة للإيمان، فليس الأمر مجرد مشاعر تفرغ في حركة، لإنشاء واقع وفق (التصميم) الإسلامي للحياة، أو وفق التصور الإسلامي للحياة.
..إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله –ثم لم يرتابوا- وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون (64) .
وتلك حقيقة كبرى في منهج الإسلام تفسر طبيعته ووظيفته باعتباره حركة تغيير جذري للحياة وليس نظاما منفصلا عنها يعاديها وينعزل عنها، ويستهلك طاقة الناس تحت لوائه في محاولة يائسة للوقوف في وجه حركتها كما يفعل بعض الناس غير أن التقاء الإسلام بالحياة ليس التقاء (ميكانيكيا) كالتقاء الظاهرة الاجتماعية التي تستجيب استجابة مطلقة عمياء لعوامل البيئة وتفاعل أسباب التأثير، وإنما هو التقاء النظام الواعي الذي يستهدف السيطرة على الحياة وتوجيهها والأمة المؤمنة لا تقف عاجزة عن انتظار قدر الله «وإنما هي نفسها قدر الله الذي تجري به السنن وتتحقق من خلاله القوانين» أن الإسلام ليس ملجأ للضعفاء واليائسين والهاربين من الحياة وأخلاقه ليست أخلاق الهزيمة والخوف والسكون وإنما هو مسكر كبير لتربية النفوس العملاقة وتكوين القمم الشامخة التي تسيطر على الحياة وتوجهها لما ينفع الناس وأخلاقه لذلك أخلاق أمن ونصر وحركة وتفاعل مع الحياة..
الإسلام كما قيل بحق لا يسلب الإنسان من الدنيا ولا يسلبها منه ولا يحرمه من نعيمها وسرورها ولا يضعه مع قواها الدافعة في معركة خاسرة فالدنيا هي دنيانا نحن... وحياتنا فيها لا يمكن ولا يجوز أن تكون حياة زهد وحزن وصمت والله تعالى لم يرسل رسله وينزل كتبه ليحارب الحياة وإنما فعل ذلك لتستقيم الحياة على موازينه القسط «ولقد أرسلنا رسلنا وأنزلنا بالبينات الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط»« خلق لكم ما في الأرض جميعا».
«وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا».
ولفهم هذه الإيجابية وآفاقها الواسعة نعرض لمسألتين:
أولهما- معنى العبادة ومكانها في الإسلام ومظاهر الإيجابية فيها ونظرة الإسلام إلى متع الحياة ومباهجها.
ثانيا- مظاهر الإيجابية في الأخلاق التي يربي عليها الإسلام أتباعه.
معنى العبودية والعبادة
فقد أساء كثير من الناس فهمهم فجعلوها قاصرة على أداء الشعائر المخصوصة المحددة التي هي أركان الإسلام الأساسية كالصلاة والصيام والزكاة والحج.. واعتبروا ما عداها لا يحقق عبودية لله وكان لهذا التفسير الخاطئ انعكاسان خطيران...
أولهما: اختلال ميزان التقويم الأخلاقي عند كثير من الناس حتى صار الرجل الفاضل الصالح هو من يقيم هذه الشعائر وحدها. ولو كان منحرفا مهلهلا في سائر جوانب شخصيته وحتى لو أسقطت من أساس التقويم الأخلاقي كل العناصر الحيوية الأخرى في تكوين الشخصية والسلوك...
الآخر: الوقوف من سائر ضروب النشاط الحيوي للفرد والمجتمع موقفا معاديا على أساس أنها لخروجها من نطاق شعائر العبادة .. تعتبر .. لهوا ولعبا واشتغالا بزينة الحياة الدنيا.
وكان من التقاء هذين الخطين الكبيرين في بعض النفوس أن قسمت الحياة الإنسانية قسمة جائرة فاسدة بين الدين والدنيا.. وبين العبادة والعمل وبين الرب والقلب وكما يقول التعبير الشائع الذي يعكس هذا الفهم المنحرف..
وقد آن الأوان لتعرف الأجيال الصاعدة من الشباب المؤمن أن الدنيا كلها معبد للمؤمنين وأن شعائر الإسلام المعروفة هي الأركان الرئيسية للطاعة وهي الحد الأول من العبادة ولكنها ليست وحدها كل ما يحقق العبودية لله بمفهوم الإسلام وإنما الذي يحقق العبودية الكاملة لله، هو القيام بهذه الشعائر وكل عما ينفع الناس ويبتغي به الخير ووجه الله.. رأي الصحابة في مجلس رسول الله: شابا قويا يسعى في نشاط فقالوا «لو كان ذلك في سبيل الله» .. فصحح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم مفهوم العمل في سبيل الله قائلا: «إن كان خرج يسعى على ولد صغار فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وأن كان خرج على نفسه يعفها فهو في سبيل الله».
وعن أنس قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فمنا الصائم ومنا الفاطر... قال: فنزلنا منزلا في يوم حار، فسقط الصوام إعياء وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله».
ويعرس الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الكبير في نفوس أتباعه فيقول لهم: «لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعبد الله في مسجدي هذا شهر» بل إننا إذا حققنا النظر وأحسنا التأمل في شعائر الإسلام.. لوجدنا لها انعكاسا عمليا معينا على العمل الإيجابي في الحياة... بل إن نصوص الإسلام صريحة في توكيد هذا المعنى والإرشاد إليه...
يقول تعالى: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر».
ويقو تعالى: «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج».
بل إذا تأملنا في كثير من الأوامر والتوجيهات المتعلقة بالشعائر والعبادات الأساسية لوجدنا لها بالإضافة إلى هدفها الديني الأساسي المتمثل في التسليم لله والدخول في طاعته آثارا وانعكاسات عملية ذات طابع إيجابي من شأنها حين تتحقق أن تضفي على الفرد المسلم والجماعة المسلمة صورا متعددة من القوة والتماسك فضبط القبلة وضبط مواعيد الصلاة وإتمام الأفعال وإتقانها وقراءة القرآن والسنن النبوية وتلاوة الأوراد وسماع العظات، من شأنه أن ينجب فكرا مثقفا يعرف كيف يفقه ويتدبر ويعمل حين يقرأ ويسمع والامتناع عن الأكل والشراب رمضان من شأنه أن يعقب إرادة قوية تجيد الاستعلاء على ضبط النفس والجسد وتحسن التحكم في الحياة وتجعل ضبط النفس طبعا سائدا مغروسا بل إن هذه العبادات وتلك الشعائر إذا لم تعكس شيئا في هذه الآثار على صاحبها فقد تجردت في كثير قيمتها ومن ثوابها وقد وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر».
بل إن الإسلام ليحرص على ربط شعائره وعباداته كلها بالحياة.. حتى لا يقع اتباعه فيما وقع فيه أصحاب الديانات الأخرى من الوهم حين تصوروا الدين بشعائره ونظمه تعبيرًا عن جانب الحزن والألم في الحياة»
ولذلك حرص على أن يردف صيام رمضان بعيد الفطر.
وأن يردف أيام الحج بعيد النحر.
ليؤكد في وضوح أنه لا رهبانية في الإسلام وأن الحياة الإنسانية السوية تتعانق فيها مشاعر التمتع بالحياة مع مشاعر العبادة التي تدرب النفس على صناعة الحياة..,وليعلن أن الحياة في الإسلام متكاملة تستوعب الجد واللهو، وتلبي مطالب الجسد والروح .. وتطلب الزينة والكمال كما تطلب الضرورة التي تبقى على الحياة .. ولهذا حارب الإسلام مصادرة مباهج الحياة والإسراف في حرمان النفس وتعذيب الجسد تخليصًا للروح كما تصور نساك الفرس والهند وبعض فلاسفة اليونان ورهبان النصارى.
وشعار الإسلام العام في هذه القضية الحيوية قول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم» وقوله: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق».
هو حين فطم النفس عن هذه الزينة لا يفعل ذلك عداء منه للحياة وإنما تربية منه لتلك النفس ولهذا يكره للمسلمين استمرار هذا الفطام...
فيقول صلى الله عليه وسلم في الصيام: «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطور» ويجعل الإسلام صيام يوم العيد حراما...
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف: «ولكنني أصوم وأفطر وأصلي وأنا وأتزوج النساء هذه سنتي فمن رغب عن سنتي فقد رغب عني».
ويطلب الله تعالى من المؤمنين ألا تمنعهم إقامة الشعائر من الضرب في الأرض وإقامة شئون الحياة فيقول: «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله».
بل أنه ليحرص وهو يذكر المؤمنين بمنافع الدواب من الخيل والبغال والحمير وهي الوسيلة الوحيدة للمواصلات وقت نزول الوحي في قفار الجزيرة العربية... على أن يشبع نزعة التزين والتجمل في نفس الإنسان فيقول: «والخيل والحمير لتركبوها وزينة».
ويعلمهم العناية بالمظهر والملبس إذا جاءتهم مناسبة من المناسبات فيقول الله تعالى: «وخذوا زينتكم عند كل مسجد» ولا يخفى أن صلاة الجماعة في المسجد كانت في ذلك الوقت مناسبة اللقاء الاجتماعي الأساسية.
مظاهر الإيجابية في توجيهات الإسلام وتعاليمه
فتكشف عنها أمور كثيرة.. فإن رسالات الله- كما قدمنا- لم تكن دعوات نظرية تستهدف تقرير بعض الحقائق المتصلة بالغيب والألوهية وإنما كانت في هدفها النهائي دعوات للإصلاح العملي وهو ما تكشف عنه الآية الرئيسية في هذا الموضوع وهو قوله تعالى: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط».
والقرآن الكريم في سورة هود وفي غيرها يستعرض لنا نماذج من الأهداف الاجتماعية المتنوعة التي دعا إليها رسل الله.. بعد نبذ الشرك وتحقيق العبودية لله. وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم».
«ولوطا إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين».
ويسجل القرآن كيف استغرب الناس في تلك الأزمنة أن تمتد مطالبات الدين إلى تنظيم حياتهم في أنفسهم وأموالهم وتخيلوا أن في وسعهم أن يعبدوا الله في البيع والمحاريب .. ثم ينطلقوا بعد ذلك في حياتهم بعيدا عن الدين وموازينه، «قالوا يا شعيبا أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، إنك لأنت الحليم الرشيد».
ثم تمتد هذه الإيجابية إلى منهج الإسلام في تقرير عقيدته وتعاليمه..
فهو منهج حركي يدعو أصحابه إلى الدخول في معركة تحكمها هي الأخرى موازين الدين وشرائعه وحدوده.
«فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين»
«ودوا لو تدهن فيدهنون».
«ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئًا قليلا إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا».
والمسلم مطالب إزاء الشرور والمظالم والانحرافات بموقف واضح ثابت هو موقف السعي إلى تغييرها . «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»
بل إن هذه الإيجابية لتمتد إلى أسلوب معالجة الصدام الداخلي بين طوائف المؤمنين ولا يقبل من المسلم إزاء هذا الصدام أن يضرب كفا بكف ..
أو أن يشير إلى الظالم والمظلوم من بعيد، لا وإنما عليه واجب التدخل المباشر والعمل الإيجابي لتصفية الصدام بالحق والعدل «وأن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت احداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين».
وتظهر هذه الإيجابية في نظرة الإسلام إلى القيم والفضائل فهو يحميها ويعمل على تقدمها ودفع عجلة تطورها غير مكتف بما يمكن أن نسميه فضائل السكون...
«فالعلم فضيلة .. ولكنه ينبغي أن يوجه لخدمة الناس وتحقيق مصالحهم ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع».
بل إن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم المأثور ليكشف كشفا رائعا عن هذه الإيجابية التي يربي عليها الإسلام جنوده فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم أني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال».
والإيمان نفسه كما قدمنا ليس مجرد حالة نفسية أو عقلية ولكني ينبغي في منطق الإسلام أن يتحول إيجابيا إلى عمل صالح.. ولها لا تكاد آية من القرآن تذكر الذين آمنوا حتى ترد فيها بالذين عملوا الصالحات وجاء الحديث الشريف مفسرا هذا المعنى الكبير في الحديث الذي يرويه البخاري.
من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان بضع وسبعون شعبه، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان.
بل إن الصدقة التي يحصرها الناس اليوم قي متاع قليل تمتد به يد الغني إلى يد الفقير يحولها الإسلام إلى فضيلة إيجابية متعددة الجوانب فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: تبسمك في وجه أخيك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الوجل في أرض الضلال لك صدقة وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دول أخيك لك صدقة وبصرك للرجل الردي البصر لك صدقة. رواة البخاري)
بل إن الحق والباطل يوزنان في الإسلام بمقدار ما يؤديان إليه من نفع أو ضرر إيجابي للناس يقول تعالى: وكذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء «وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
الخاصية الرابعة التوازن
التوازن قاعدة الحياة السوية يحرص عليه الإسلام ويجعله هدفا أساسيا في منهاجه، عندما يوازن في الإنسان بين طاقة الجسد وطاقة العقل وطاقة الروح.. بين مادياته ومعنوياته... بين ضرورياته وأشواقه. بين حقوقه وواجباته، فالذي ينشد الحق لا بد أن يقوم بكل متطلباته من واجبات كما يوازن في الحياة بين الواقع والمثال .. بين الإيمان بالواقع المحسوس والإيمان بالغيب الذي لا تدركه الحواس.. بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية، قال تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطًا» (65) ... وسطا في كل شيء متوازنين في كل ما تقومون به من نشاط، فكنتم بذلك خير أمة قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الوسط ههنا: الخيار والأجود.
وإذا كان التوازن قاعدة للحياة السوية فيما يتعلق بالإنسان في كيانه الخاص كفرد أو بكيانه في أسرته أو مجتمعه وكان هذا التوازن سبب الاستقرار والاستمرار فإنه قاعدة مطردة في الكون وظواهر الطبيعة فالرياح والأمطار والزوابع والأعاصير والزلازل والبراكين والحر والبرد، والليل والنهار والحياة والموت واختلاف الفصول بين الصيف والشتاء والربيع والخريف، كلها ظواهر لقانون التوازن في الطبيعة والشمس والقمر والنجوم والمجموعات الكونية السابحة في فضاء الكون الفسيح لكل منها مداره الذي يسبح فيه ويدور في فلكه بانتظام دون أن يصادم غيره أو يخرج عن دائرته الفلكية، تخضع كلها لقانون التوازن الذي يكفل الله به لهذا الكون بما فيه ومن فيه بالاستقرار والاستمرار لأوضاعه ونظمه دون طغيان في حساب مقدر مقرر، شاءه خالق الكون وخالق الإنسان، قال تعالى: «إن كل شيء خلقناه بقدر» (66)
الطغيان اختلال لا يليق بالإنسان المسلم
وإذا كان الإنسان كما يريده الله، قوة إيجابية فقد أراد له أحسن الخالقين أن تكون إيجابيته في واقع الحياة بغير طغيان.. ذلك أن «الطغيان» بكل أنواعه هو المنزلق السهل أمام الإيجابية الفاعلة.
يطغى الإنسان على نفسه فيكبت بعض طاقاته ليبرز بعضها الآخر يكبت طاقة الروح ليبرز طاقة الجسم أو طاقة العقل يكبت معنوياته ليبرز جوانبه المادية، ويحقق كيانه عن طريق الإنتاج المادي.
«ويطغى الإنسان على غيره، فيعطي نفسه حقوقًا لا يعطيها للآخرين يعتبر نفسه فردا أو شعبًا- من عنصر ممتاز يحق له أن يستعبد الآخرين ويخضعهم لسلطانه يحق له أن يسلبهم كراماتهم وحرياتهم ومقومات حياتهم لينتفش بها وحده ويتضخم أو يحق له أن يصنع كما يشتهي ويقرر حقوقه كما يتراءى له، ويقرر واجباته بنفسه إذا رأى أن تكون عليه واجبات ولا يعنيه ترابط المجتمع ولا الخلل الذي يطرأ عليه حين يصنع كل فرد فيه ما يريد حينما يريد تلك نماذج الإيجابية المختلة» وفي مقابل هذه النماذج من الإيجابية المختلة نماذج أخرى سلبية مريضة: «يكون الإنسان سلبيًا مع نفسه، فيطلق لها عنان الشهوات، لأنه لا يملك القوى الضابطة – القوة الموجبة- التي يضبط بها نوازع الشهوة.
ويكون سلبيًا مع غيره...سلبيًا مع إزاء القوى المادية والاقتصادية والاجتماعية... سلبيا إزاء العرف والعادات والتقاليد .. سلبيا إزاء سطوة المجتمع أو جموده أو القوى المسيطرة عليه، ومن ثم يضع كيانه الفردي وينسحق تحت ما يقع عليه من ضغوط.
كلاهما اختلال لا يليق بخليفة الله في الأرض.
وكلاهما اختلال لا يليق بخليفة الله في الأرض!
وكلاهما اختلال ينشأ من سوء التربية وسوء التوجيه، ينشأ من التوقيع على بعض جوانب النفس وطاقاتها دون بعضها الآخر، أو التوقع على بعضها بأكثر مما ينبغي لها، بحيث تطعى على ما يقابلها من جوانب وطاقات.
والإسلام يريد الإنسان قوة إيجابية فاعلة، ولكنها سوية وطريقته هي التوقيع على الأوتار مجتمعة في تناسب وترابط (67)
التناسب في قيم الحياة
المال واللذة والعمل والفكر والقوة والعبادة والقرابة والقومية والإنسانية قيم من قيم الحياة الدنيا، جعل الإسلام لكل منها موضعا في نظام الحياة وقدرًا ونسبة محدودة لا تتجاوزها حتى لا تطغى قيمة على قيمة. وإن من التشويه والانحراف بمنهج الإسلام وطريقته المتوازنة تبديل هذه النسب بحيث تزاد عن حدها أو تنقص بالنسبة إلى غيرها كما حدث فعلا في العصور الأخيرة من حياة المسلمين فاختلت حياتهم وانحرافوا عن طريق الإسلام القويم فإن تغيير النسب في نظام الحياة كتغيير النسب في «الرسم الكاريكاتيري» الذي يعطي من الإنسان المعالم والمشابه ولكن على وجه هزلي ممسوخ، وكتغيير النسب في مواد الدواء وكمياته، فقد يؤدي إلى فساده وتغيير صفاته وخصائصه وربما انقلب إلى مادة ضارة أو مادة سامة، وكذلك الإنسان لو غيرنا في التناسب بين جوانب حياته كما أرادها الله في منهجه لكانت النتيجة هي مسخ لفطرة الله التي فطر الناس عليها، وفقدان للسعادة بما يحدثه الخلل من تمزق وشقاء...
فلو جعلنا الحياة مئة جزء لوجدنا أن الإسلام قد خص العبادة منها بأجزاء وكذلك الإنفاق والكسب والجهاد والتمتع بالملذات والمشروعة لكل منها قدره ونصيبه المحدد، ولو غيرنا هذه النسب فقللنا قيمة الجهاد والقدر الممنوح له وزدنا في نصيب شعائر العبادة وانتقصنا من حظ المال كسبا أو إنفاقًا، وأفرطنا في المآكل والملذات أو فرطنا فيها أو ألغيناها لخرجنا بذلك إلى نظام يخالف في حقيقته وروحه نظام الإسلام وأخللنا بالتوازن الذي أقامه بين قيم الحياة وجوانبها فالمسلم الكامل في نظر البعض هو المنصرف كلية إلى شعائر العبادة لا يهتم بغيرها المعتكف في محرابه لا يبارحه الملتزم لأذكاره وأولاده وأهله هم شغله الشاغل إن هذه الصورة لا تشبه مطلقا الصورة التي كان عليها الرسول الكريم وأصحابه المقتدون به فلئن كانت العبادة جزءا أساسيا في حياتهم وكان للتجارة نصيبا في حياتهم، فإن الجهاد كان مالئا لصفحاتها.. الجهاد في سبيل تحرير المجتمع من العقائد الفاسدة وترسيخ العقائد الصحيحة وتحريره من ظلم الظالمين واستبداد المستبدين لحماية المستضعفين وإقامة العدل بين الناس وكذلك تكون حياة المسلم المنشغل بالجهاد والإصلاح الاجتماعي مختلة مشوهة بالقياس إلى الصورة الإسلامية الكاملة إذا كانت خالية من العبادة ضعيفة الصلة بالله ومن السعي في طلب الرزق ليعف نفسه ويستغني بما في يده عما في أيدي الناس.
فالتوازن من أبرز خصائص التربية الإسلامية وهو القاعدة الكبرى في المنهج القرآني الغلو فيه كالتفريط كلاهما يخل بتوازن الحياة ولذلك قامت تكاليف الإسلام كلها على الاعتدال مراعاة لتكوين الإنسان باعتباره مزيجا من الروح والمادة فالطاقة الروحية هي أكبر طاقات الإنسان حرص الإسلام على عقد الصلة الدائمة بينها وبين الله حتى يرتفع المسلم للمستوى اللائق به، وفي الوقت نفسه يعترف الإسلام بمواطن الضعف والقصور في الإنسان بما فيه من مادية فيحاول أن يرتفع به عن ضعفه «يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (68) ومن هنا كان تعامل الإسلام مع الإنسان من خلال توجيهاته وشرائعه مراعيًا ألا يعلو على مستوى طبيعته وألا يهبط عنها موازيا بين حاجاته الجسدية وأشواقه الروحية.
«إن دوافع الحياة الطبيعية كلها ليست مستقذرة في عرف الإسلام والرغبة في الامتداد ليست سقوطا يترفع عنه المتطهرون فالرغبة في امتداد الحياة تتفق مع مشيئة الله في خلق الحياة، وإنما يريد الله ترقية الحياة لا مجرد امتددها وهذا الامتداد هو وسيلة الارتقاء وليس مضادا لفكرة الارتقاء ومن ثم فالإسلام ينسق الدوافع الحيوية في بيئة البشر مع الأشواق الروحية العميقة في الفطرة ويصوغ من كليتهما وحدة، لا تفريط فيها ولا إفراط، ولا صراع في داخلها ولا اصطدام.
«والدعوة إلى الاستمتاع في الإسلام تسير جنبًا إلى جنب مع الدعوة إلى التسامي فتنشأ من بينهما صورة اللاعتدال البريء من الفحش البرى من الحرمان: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يجب المسرفين قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة، كذلك تفصل الآيات لقوم يعلمون قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشكروا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون».
والفواحش من الفحش وهو تجاوز الاعتدال وشأنه شأن البغي بغير الحق وشأن الاشتراك بالله كله مفسد للفطرة مناف للعدالة، مخالف لناموس الحياة المتناسق.
وقد قامت تكاليف الإسلام كله على الاعتدال في الطب، وأوساط الناس يقدرون عليها فإذا ما قصر المسلم عن شيء منها أو وقع في إثم ثم رجع إلى نفسه يزكيها ويطهرها، وإلى الله تائبا، فهذا أمر طبيعي في جبلة الإسنان
يلاحظ الإسلام بصفة عامة ألا يكل الفرد فوق طاقته، في شرائعه أو شعائره فالتكليف فوق الطاقة، إيجابا أو منعا لا ينتهي إلا أن نتائج ثلاث
1- إما الإرهاق والعسر، والحرمان والكبت وتحطيم الذات الإنسانية تحت الكبت أو الإرهاق وتعويق الحياة عن النمو المطرد، والرقي المعتدل.
2- وإما إلى النفور والجماح والخروج على الأوامر والنواهي، والعداء الجامح الذي يقود صاحبة إلى الغلو في الإباحة، كرد فعل للكبت أو الإرهاق
3- وإما القلق النفسي الدائم والشعور دائما بالخطيئة أو التقصير ، فيما لا خطيئة فيه ولا تقصير وهو عذاب دائم لا يطاق.
«ولذلك يحرص الإسلام على أن تكون تكاليفه كلها في حدود الطاقة ويرعى الطبيعة البشرية بكل إمكانياتها وهو يشرع إيجابًا وتحريمًا، ثم يدع لها أن تتطوع بالأكثر فوق التكاليف المفروضة، إن استطاعت في غير ضيق ولا حرج ولا مشقة وبذلك يصونها من التحطيم ويصونها من الجموح، ويصونها من القلق الذي لا يريح.
«وفي ذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم: «لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها» (69)....
«ما جعل عليكم في الدين من حرج» (70) ويقول الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين يسر لا عسر فيه ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» رواه البخاري والنسائي وينهي صلى الله عليه وسلم التنطع والتشدد في تفسير الدين وفي القيام بتكاليفه فيقول: «لا تشددا على أنفسكم فيشدد الله عليكم» رواه أبو داود أو يقول: «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق» ويشبه المتشدد المرهق لنفسه بالمسافر الذي يهلك راحلته ولا يبلغ غرضه: «إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» رواه البخاري.
وفيما مضى من أمثلة على هذا القصد والاعتدال ومراعاة الطاقة وبخاصة في التنسيق بين الضرورات والأشواق وفي الاعتراف بداعي الخطأ لا بأس من أن نسوق منه ناحية أخرى.
إن انفعالات الغضب ووجدانات الغيظ انفعالات ووجدانات لا سبيل إلى محوها أو قتلها في النفس البشرية لأسباب شتى بعضها ينبع من الشعور بالذات، وبعضها ينشأ من تصادم المصالح وبعضها يأني من اختلاف المشاعر والمسالك والإسلام يدعو إلى السماحة والرفق والبشاشة ولكنه لا يلغي من حسابه أن مشاعر الغضب والغيظ مشاعر طبيعية، فلا يكلف الناس محوها من الناس محوًا، ولا يعدها في ذاتها خطيئة وإثما إنما يدعو إلى كظمها وضبطها لا على أن تستحيل أحقادًا وضغائن في الصدور بل إلى أن يكون هذا الضبط سبيلا إلى التسامي والتصعيد. وفي هذا السبيل يأخذ النفس البشرية بالترغيب والتحضيض لا بالأمر والتكليف: «ولمن صبر وغفر، إن ذلك من عزم الأمور» (71) «الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس» (72) وهكذا يقرن الصبر بالغفران ويتبع الكظم بالعفو لأن الصبر والكظم إن لم يوجها إلى الغفران والعفو فقد يؤديان إلى الضغينة والحقد، والإسلام يكره الضغينة وينفر من الحقد فيوجه ويرغب في العفو المساحة ليغسل النفوس من الغيظ والغضب، قبل أن يستحيلا حقدًا وضغينة...
«والإسلام يكره أن تقع الخصومة بين المسلم والمسلم، وأن تسودها القطيعة ولكنه يقدر أن شعور الغضب لا يمكن محوه، ولا يعده ذنبًا بمجرد وقوعه، ولا يقول كالنصرانية الكنيسية: «من غضب على أخيه باطلا كان مستوجب الحكم» فإذا دعا إلى الصلح والوئام أعطى فرصة من الزمن تهدأ فيها الثورة وتخمد فيها النزوة وترجع فيها النفس إلى الهدوء والسكينة فيمنح كلا من المتخاصمين ثلاثة أيام، بفثأ فيها غضبه وتسكن فيها نفسه، قبل أن يلزمها بالسلام بعد الخصام: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» رواه البخاري.
«والإسلام يكره الجزع الذي تتهاوى بسببه النفس، ويتداعى إيمانها بالله واحتمالها للمكروه لأن الصبر والتماسك مقياس القوة ومقياس الإيمان فيقول الرسول الكريم: «ليس منا لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» ولكنه لا يعد الحزن والدمع جريمة ولا يقهر النفس على السكون الكامل الجامد لأنه فوق الطاقة، وربما قاد إلى القسوة والتحجر. فها هو ذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه تدمع عيناه على ابنه إبراهيم ويناجيه وهو مسجى. «يا إبراهيم إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون» (73) إنما الصبر الذي يتطلبه الإسلام هو صبر التأسي والتجمل وتذكر الله ورد الأمر إليه في الكروب «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين؛ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوت من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون» (74).
التوازن بين الفردية والجماعية
للفرد في المنهج القرآني قيمة أساسية فهو اللبنة الأولى في بناء الجماعة يبدأ الإسلام عمله في إقامة المجتمع المتوازن بدءًا بالنفس،يطلق طاقتها وقواها الصالحة البانية، ويهذب نزواتها بلا كبت أو تنويم أو إخماد.
وفي النظام الإسلامي تلتقي النزعات الفردية مع مصلحة الجماعة في صورة متزنة، فعندما تتخبط المذاهب الاجتماعية في قضية الفرد والمجتمع والعلاقة بينهما، مفترضة أن العلاقة بين الفرد هي أبدًا علاقة صراع وخصومة، وأن العلاقة بين الأفراد والسلطات هي أبدًا علاقة كبت وإجبار.. يقرر الإسلام أن العلاقة بينهم جميعًا في المجتمع المسلم هي:
• علاقة الود والرحمة: يقول الرسول الكريم «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
• وعلاقة التضامن والتعاون يقول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» ويقول: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له».
• وعلاقة الأمن والسلام: لقول الله تبارك وتعالى: «من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من فتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض:
فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» (75).
«ويقرر أن القاعدة التي تقوم عليها حياة الناس في المجتمع المسلم هي قاعدة التناسق بين الحقوق والواجبات، والتعادل بين المغانم والمغارم، والتوازن بين الجهد والجزاء كل ذلك وفق مبدأ إسلامي أساسي: «الرجل وبلاؤه والرجل وحاجته» (76) هذا المبدأ الذي وزع عمر بن الخطاب الفيء على أساسه في أيام الإسلام الأولى، والذي ما تزال البشرية تحاوله حتى اليوم، فتخفق لأنها لا تأخذ بشقيه، إنما يأخذ مذهب من مذاهبها بشق، ويأخذ مذهب آخر بالشق الثاني فلا يجتمع لأيهما ما جمعه الإسلام بطريقته المتوازنة في علاج مشكلات الحياة.
ويقر أن الغاية المقدرة لهم جميعا هي امتداد الحياة وإنماء الحياة، وترقية الحياة والتوجه بكل نشاط فيها وبكل نية ولك عمل إلى الله خالق الكون والحياة.
ومن ثم ينتهي كل نشاط فردي وكل نشاط اجتماعي كما ينتهي كل تنظيم وكل إنتاج إلى التوازن والسلام، الذي ينسق بين مختلف النوازع والاتجاهات ومختلف القوى والطاقات ومختلف الأفراد والجماعات، لأن هناك أفقا أعلى من أفق المصالح الوقتية التي تثير الشحناء، وتؤجج العداوات
إن الصراع كثيرًا ما ينشأ من الطاقة المكبوتة التي لا تجد لها متصرفًا، ومن المجال الضيق الذي لا يسمح لهذه الطاقة بالتسامي ذلك حين تضيق آفاق النفس، وتضمر أهداف الحياة، ويصبح الواقع الفردي الصغير، أو الواقع الطبقي المحدود، أو الواقع القومي المغلق هو مجال النشاط، ومجال العمل، ومجال الخيال.
والإسلام يفطن إلى هذا كله، فيخرج الفرد، ويخرج الطبقة ويخرج القوم من حجر الغابات الصغيرة القريبة، ليطلقها في مجال الأهداف العليا للحياة الطليقة.. يطلقها من مضيق العمر الفردي القصير إلى فضاء الحياة العامة الكبيرة ومن مجال النظرة الطبقية أو القومية الضيقة إلى آفاق الإنسانية الرفيعة الشاملة. (77)
عندئذ يحس الفرد أنه لا يعيش لذاته، وإنما يعيش للإنسانية جميعًا وعندئذ تحس الجماعة أنها لا تحيا لهذا الجيل، وإنما تحيا للبشرية قاطبة، وعندئذ يحس المسلمون أنهم أوصياء في الأرض خلفاء الله، وأن ذواتهم ليست ملكهم وجهودهم ليست لهم، وحياتهم وسيلة لا غاية ولا وقت إذن ولا متسع للصراع الفردي والطبقي أو القومي الصغير الضئيل الهزيل، بينما الغايات العليا والأهداف الشاملة تنتظر الجميع «يا أيها الذين آمنوا: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» (78).
الخاصية الخامسة الواقعية منهج للبشر
عندما تستشرف القرآن الكريم وننظر فيه بقلوب وعقول فاحصة متفتحة، تجد «الواقعة» أساسًا مستوعبًا لعقيدته وشريعته، وطريقة عمله في حياة البشر وأسلوب عرضه لقضايا الحق، وتحليله لقوانين النصر والهزيمة ومعالجة الآثار المترتبة على ذلك كله في الحياة الإنسانية وإنه لواقعي كذلك في معالجة الغريزة، استجاشة الفطرة وبواعث الحركة، وسنن الكون وأحداث التاريخ وكذلك حين يعرض لحياة الرسول وأسلوب عمله ومنهج حياته، نراه يركز على الجوانب الواقعية لتستطيع البشرية أن تتأسى به وتقتدي..
ومن هنا يتضح لنا أن عقيدة القرآن لا ترضى لنفسها أن تظل حبيسة المشاعر والوجدان منفصلة عن الحياة معتزلة واقع المجتمع كما أنها ترفض التعبير عن نفسها تعبيرا هزيلا في مجموعة الأخلاقيات النظرية مكتفية بفتح حوار حول تلك القضايا التي لا هدف لها، ولا طائل إلا الجدل كما فعلت الكتب التي ألفت في عصور الانحطاط فاصطبغت بصبغة الفلسفة فشوهت جمال العقيدة وكدرت صفاءها ونقاءها في النفوس وعطلت فاعليتها في الواقع الإنساني...
وتبرز لنا الواقعية القرآنية في نظرة القرآن إلى الواقع الإنساني والواقع الكوني وواقع الحياة كله، محاولا ربط الإنسان بكونه الذي يتعامل معه، ويعيش فيه، ويتفاعل مع عناصره مؤكدًا العلاقة الوثيقة بينهما لأنهما معًا من صنع الله، فواجب أن تتم الألفة بينهما على نحو يمكن الإنسان من أداء رسالته رسالة الاستخلاف في الأرض وهذا هو السر الخالد الذي يدفع بعناصر الوجود كله إلى المضي في حركة متناسقة سديدة الخطو إلى غاية سامية نبيلة هي معرفة الله من خلال رائع صنعه، ثم إلى بناء الحياة بمنهاج الخلافة الراشدة بناء يتجه إلى الله في كل لحظة ويستمد منه العون والتوفيق: «لتستووا على ظهوره، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين» (79) فليس عجيبًا عن هذا أن يختفي القرآن الكريم بالواقعية في مجال كهذا لكي يربط بين الإنسان بأن الحضارات بين عناصر الوجود كله من مادية ومعنوية لكي تكون هذه العناصر في متناول يده، وهو يؤدي دوره في بناء الحياة ومن هنا اتسمت المشاهد الكونية التي يعرضها القرآن بالبساطة والوضوح والواقعية، ليدرك الإنسان عناصرها وأبعادها وغاياتها، وينفذ «بعلمه» الذي هو منحة من ربة إلى حلها وتركيبها وبناءها وهدمها وإخضاعها لإرادته تحقيقا لقانون التسخير الإلهي «وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه» (80)
وتسخيرها يقتضي أن نتصرف فيها بالعلم تصريفا يجعلها في خدمتنا وتحت إرادتنا على أن نظل بعد أن مكننا الله من قوى الطبيعة ذاكرين لقوله سبحانه: (جميعا منه) فلا تفتر ولا تغفل عن الله طرفة عين، لأنه لو لا تسخيره لتلك العناصر لكانت فوق طاقة العلم، ولولا خلقه للمادة بهذه الكيفية لما استطعنا أن نشكلها بالمعرفة، بل لولا إمدادنا بالمعرفة لما وصلنا إلى شيء، وأيسر ذلك يجعلنا نلزم حد التواضع فنهتف (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين).
هكذا مشاهد القرآن التي يعرضها تتسم جميعًا بالواقعية، لمسات كونية، تقضي إلى حركة شعورية، ثم إلى حركة علمية، ثم إلى واقع في الحياة.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، في سائر شئون الحياة، لكنه لا يؤتي نتائجه إلا «بتحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية، وفي وحدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة ويبدأ العمل من النقطة التي يكون البشر عندها حينما يتسلم مقاليدهم. ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية، وبقدر ما يبدلون من هذه الطاقة.
والميزة الأساسية للمنهج القرآني «أنه لا يغفل لحظوة، في أي خطة وفي أي خطوة عن فطرة الإنسان وحدود طاقته، وواقع حياته المادي أيضا وأنه في الوقت ذاته يبلغ به كما تحقق ذلك فعلا في بعض الفترات، وكما يمكن أن يتحقق دائما كلما بذلت محاولة جادة، إلى مالم يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق وفي يسر وراحة وطمأنينة واعتدال.
«ولكن الخطأ كله ينشأ من عدم إدراك طبيعة هذا المنهج أو من نسيانها، ومن انتظار الخوارق والمعجزات المجهولة الأسباب على يديه... تلك الخوارق التي تبدل فطرة الإنسان ولا تبالي طاقاته المحدودة، ولا تحفل واقعة المادي البيئي» (81)
لقد خاض المسلمون معارك منتصرة لأنهم بذلوا أقصى جهدهم، وخاضوا معارك دون ذلك لأنهم لم يحققوا شرط النصر في أنفسهم ففي غزوة بدر كانت النتيجة كما صورها الحق تبارك وتعالى: (لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة..) لماذا؟ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلوا أقصى ما في الطوق واتجهوا إلى الله بكل قلوبهم، فأكمل نقصهم، وحول ضعفهم إلى قوة، وذلتهم إلى عزة، ومنحهم نصره المبين.
وفي غزوة أحد حلت بهم هزيمة لأنهم نسوا الله وذكروا أنفسهم واستهوتهم الغنائم فتركوا مواقعهم وكشفوا ظهورهم ونزلوا يجمعون الحطام الفاني، فكانت النتيجة كما صورها الحق تبارك وتعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا؟ قل هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير» (82) ويستوقفنا قوله سبحانه: (قل هو من عند أنفسكم) وذلك لدلالة الواقعة فما من ضر يصيب البشر إلا بما كسبت أيديهم وما كان الله ليخذل قوما جعلوه –سبحانه- غايتهم، ففوضوا له الأمر، واستعدوا على قدر طاقتهم.
منهج يراعي حدود الاستعداد البشري
ميزة المنهج القرآني تفرد بها أنه لا يغفل طبيعة الإنسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ أهدافه.. هذه ميزته الكبرى، لأنه كلمات الله الباقية لكافة الخلق، وهو الهداية الخالدة للأبيض والأسود، ورحمة الله الشاملة للعالمين، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولهذا جاءت تعاليمه تليق بحال البشر أين كانوا ومتى كانوا وكيف كانوا، لأنها انبثقت من عقيدة واقعية لا تعدو الإدراك البشري، ولم تتجاوز حدود الكينونة الإنسانية. فلا غرو أن راعي هذا المنهج الرباني بعقائده وعباداته وأخلاقه وتشريعاته الواقع البشري فهو بحق دين للواقع.
من واقعية العقيدة
شاءت إرادة العليم الخبير، أن لا يحدثنا عن نفسه إلا في الحدود التي تدركها عقولنا، وتقع في دائرة أفهامنا، بالأسلوب الذي يقنعنا ويريحنا ويدخر طاقاتنا.. أما ما كان خارج هذه الحدود فقد طواه الله عنا، لأنه لا يدخل في محيط إدراكنا ولا تطيقه عقولنا، وهي معرفة كنه الذات العلية، إن هذا الإدراك أكبر وأوسع من الكينونة الإنسانية، لأن هذا المجال سر مدي أزلي مطلق فهل يستطيع الإنسان كمخلوق حادث متحيز في حدود الزمان والمكان محدود الفكر والعقل والتصور أن ينفذ إلى إدراك ما لم يتهيأ له: (لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) (83).
ومن ثم فلا قدرة للكائن البشري على أن يعمل خارج حدوده وليس له أن يعدو قدره ولا أن يتجاور حجمه، وإنما عليه أن يتلقى عن الله فيحسن التلقي ومن الخير له أن ينتهي عن التفكير فيما لم يخلق له( ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) (84) فما قيمة البحث عن ذات الله بالنسبة لمهمة الإنسان في الأرض؟ وليس من كمال العبودية لله أن نخوض فيما نهانا الله عن الخوض فيه «تفكروا في خلق ولا تفكروا في ذاته». إن رسالة الإنسان على ظهر الأرض –بوصفه خليفة عن الله- لا يدخل فيها هذا النوع من البحث فقد وهب الله الإنسان إدراكا يتناسب مع حجم رسالته... وهبه قدرات عظيمة على اكتشاف أسرار المادة، والتأليف بين عناصرها والبحث في كون الله الفسيح، والتنقيب في الأرض والقدرة على الهدم والبناء والحل والتركيب ليصل بذلك كله إلى تحقيق معنى الاستخلاف أما غير ذلك من أمور ما وراء الطبيعة وأسرار الغيب فليس من اختصاصه وقد كفاه الوحي هذه المئونة ليس أن يخوض في:
- مسألة كنه الذات الإلهية
- موضوع تعلق المشيئة الإلهية بالخلق من مثل قولهم قديما: (أنى يحي هذه الله بعد موتها) (85)
- مسألة السؤال عن جوهر الروح( قل: الروح من أمر ربي) (86)
- محاولة معرفة الغيب واستطلاع المستقبل (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا) (87)
- ومن ذلك علم الساعة فهو إلى الله وحده.
هذه الموضوعات وأضرابها تخرج عن حدود الإدراك البشري، تقتضي من المؤمنين الصادقين والراسخين في العلم الوقوف عندها موقف التسليم وتفويض العلم فيها إلى الله(....الراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا) (88)
وفيما غير ذلك فالمجال فسيح لسعي الإنسان وعمله وكفاحه وتفكيره، والله تعالى قد فتح المنافذ كلها أمام العقول الباحثة لتكشف وترتاد، وحث الإنسان على المعرفة التي تعينه على أداء رسالته في الحياة وأغراه بالعمل في ميادين الصناعة والزراعة ليكتشف بالتجربة الواعية كل ما يعينه على معرفة نواميس الطبيعة وقوانينها ليعيش معها في مودة وأنس وينطلق معها مسبحا باسم ربه خالق الطبيعة والإنسان معًا.
من واقعية الشريعة
لقد جعل الإسلام حدًا أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه لأن هذا الحد ضروري لتكوين شخصية المسلم على النحو العادي، لأنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين، ولأنه وضع على النحو الذي يستطيع بلوغه أقل الناس قدرة على الارتفاع إلى المستوى الكامل إن هذا الحد الأدنى يتكون من جملة واجبات يجب القيام بها وهي المسماة بالمحرمات.
إن هذه الفرائض والمرحرمات جاءت بقدر طاقة أقل الناس استعدادا لفعل الخير وابتعادًا عن الشر، ومن ثم يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاها، ولا يعذر في التخلف عنها، ولكن فوق هذا الحد الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم، جاءت الشريعة بمستوى آخر أرفع وأعلا وأوسع مجالا حببته إلى المسلمين ورغبتهم في بلوغه.. هذا المستوى الرفيع يشمل المندوبات التي ترغب الشريعة في القيام بها والمكروهات التي تستحث المسلم على تركها.
وهذان المستويان الأدنى والأعلى موجودان في كل تشريعات الإسلام، فالصلاة: منها ما هو فرض، ومنها ما هو مندوب، فالأول يمثل الحد الأدنى والثاني يدخل ف معاني المستوى الأعلى، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم اثنتى عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة إلا بني الله له بيتا في الجنة». وإنفاق المال في سبيل الله: فرضه الزكاة، وهي الحد الأدنى المطلوب من المسلم، وتطوعه الصدقة، وهي المستوى الأمثل يرغب الله المسلمين في بلوغه بقوله: «ما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون» والكلام: منه الكذب، حرام يجب تركه ويدخل في الحد الأدنى لخلق المسلم، والثرثرة وكثرة الكلام بما لا ينفع ولا يفيد مكروه وإن لم يكن فيه باطل، يكرهه الله المسلم الكامل، جاء في الحديث الشريف «إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال».
مراعاة سنة التدرج
والمنهج القرآني يسلك بالنفس البشرية سبيل التدريج، لا يفاجئها بأوامره في التحليل والتحريم فالفطرة الإنسانية بطبيعتها لا تقبل التغيير، وكل منهج يأخذ الناس بأوامر فورية متطرفة ويتخطى الفطرة المتزنة الخطى محكوم عليه بالفشل فلا بد لكل نظام راكز المبادئ والأصول أن يخطو في كل ناحية من نواحي الحياة باتزان تام وتدرج تصمد له الفطرة وتستجيب له، فلا يعتسف أمرا ولا يتعجل غاية ولا هدفًا. فالمنهج القرآني وهو يقود الإنسان في طريق الكمال الصاعد إلى الله يأخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته، وقوته وضعفه، وحالاته المتغيرة التي تعتريه، فيسير هينا لينا مع الفطرة، يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة لا يعتسف معها أمرا ولا يتعجل منها غاية أو هدفا...
وخير أسوة لنا في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يصل إلى ما وصل إليه دفعة واحدة...
فقد بدأ بالدعوة والتبليغ، يعرض على الناس تصورات الإسلام ومبادئه العقائدية والخلقية.
ثم أخذ يربي من قبلوا منه هذه الدعة وانضووا تحت لوائها على حب الصلاح والتقوى ويكون منهم جماعة اصطبغت حياتها بالصبغة الإسلامية الكاملة لا يشوبها شائبة من شوائب الجاهلية وأرجاسها
فلما أن اكتملت الجماعة وبلغت حدا خاصًا معلومًا تقدم خطوة أخرى فأقام في المدينة المنورة المجتمع المسلم والدولة المسلمة وفق مبادئ الإسلام ودستوره، ولم يكن من غاية لهذه الدولة إلا أن تعلو كلمة الله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وهذه السنة الإسلامية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة واستئناف حياة إسلامية متكاملة.
«فإذا أردنا أن نقيم (مجتمعا إسلاميًا حقيقيًا) فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجرة قلم أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس أو مجلس قيادة أو برلمان.
«إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أعنى بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية، والأخلاقية والاجتماعية (89))
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز: «لقد يكون من المفيد أن نذكر أنفسنا بطبيعة المنهج التعليمي في القرآن حينما يكون بصدد محاربة بعض الرذائل التي تأصلت في العرف العام والتي توارثتها الأجيال سلفا عن خلف في أحقاب متطاولة ذلك ان القرآن في معالجته لهذه الأمراض المزمنة لا يأخذها بالعنف والمفاجأة بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل متريثة متصاعدة حتى يصل إلى الغاية، كلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرمه كليًا إلا في المرتبة الرابعة من الوحي أما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع وأما المرحلة الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم، أولى درجاته بينان مجرد آثار الخمر وأنه إثمه أكبر من نفعه والمرحلة الثانية تحريم جزئي له والدرجة الثالثة تحريمه الكلي القاطع».
القرآن وواقعية الأخلاق
عندما يحدثنا القرآن عن الأخلاق الفاضلة وآثارها في الحياة، أو مرذول الأخلاق وما تحدثه في المجتمعات من عواقب فإنه يجسد هذه الأخلاق في شخص ويحركها في قصة فهو لا يحدثنا عن الصدق حديثا نظريا مجردا يعرفنا فيه ما هو الصدق؟ وما آثاره؟ بل يتحرى الأثر المطلوب في نفوس المخاطبين وهم عامة الناس فالتجريد الذهني للفضائل لا يفهمه إلا القليل لذلك يعمد إلى منهج واقعي في عرض أخلاقياته مقترنة بآثارها العملية في الحياة مع أناس طبعوا عليها وتعاملوا بها فعندما يريد مثلا أن يحذرنا من الدخول على النسا في بيوتهم في غير أوقات الزيارة وبغير استئذان وبدون رعاية لحرماتهم، يذكر لنا وقائع حدثت بالفعل كان لها آثارها السيئة قام بها أشخاص غلاظ أجلاف لا يذكرهم القرآن بأسمائهم في تلك المجالات النقدية رعاية لجانبا لتربية الربانية التي تنفر من التشهير بالناس مستهدفة تهذيب الطباع وعلاج الأمراض النفسية والعلل الاجتماعية نجد ذلك ماثلا في قوله سبحانه: «إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم، والله غفور رحيم» (90) فالآيات تعالج مشكلة أخلاقية، هي جفوة الطبع وعدم مراعاة الظروف والأوقات والأشخاص إنها لم تعرض المشكلة عرضًا تجريديا، وإنما صاغتها في واقعة تكشف عن قبح الفعلة، وأن أصحابها لم يحسنوا الأدب، ولم يتخيروا الوقت، ولم يراعوا كرامة الرسول، لهذا صدر الحكم عليهم (أكثرهم لا يعقلن) وهو حكم فيه تقريع بأن ما صدر عنهم لا يصدر إلا من غير العاقلين!! ثم عقبت على فعلهم المرذول يذكر التصرف السليم (ولو أنهم صبروا .. إلخ، وهكذا تتقابل الأخلاق في القصة القرآنية، السلبية والإيجابية وتترك للمخاطبين أن يتأسوا ويقتدوا.
... إن القرآن بهذا لا يحدثنا عن أخلاق نظرية بل عن أخلاق عملية، تمثلت في أشخاص وتحركت في نماذج ليكون العرض واقعيًا والتأثير إيجابيا والقدرة أعظم والدرس أبلغ وأنفع إنه يربطنا بالصادقين لا بالصدق المجرد... وبالأمناء والإعفاء والحافظين لحرمات الله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونا مع الصادقين (91) ويقول سبحانه: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (92)
منهج واقعي في التربية
لم يقع المنهج الإسلامي في التربية في محاذير التربية المسيحية الكنسية، التي كان يستهدف عزل الفرد عن الحياة بحجة إعداده للآخرة، وذلك بحرمانه من ضرورات الجنس والمال، بدفعه إلى نبذ طيبات الحياة والهروب منها والانقطاع إلى الرهبنة والتنسك.
ولقد كان هذا الهدف مما أطلقوا عليه «النظرية الطبيعية للتربية، ومن الأسباب التي دفعت فلاسفة الغرب على النقيض فتجاوزوا الجانب الديني كلية في نظرياتهم التربوية، ثم عادوا يدعون إلى الأخلاق منفصلة عن الدين كما بشرت بها الفلسفة المثالية، ثم انتهوا إلى الفلسفة المادية والبرجماتية التي تهاوت فيها قيم الدين والأخلاق جميعًا.
لم يقع المنهج الإسلام للتربية في مثل هذه المتناقضات فلم يكن الإسلام دعوة إلى رضا الله بإذلال النفس وتعذيب الروح وإسقاط الجسم، جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فسأل عنه فقالوا يا رسول الله إنه نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال عليه الصلاة والسلام: «مروه فليتكلم وليقعد وليتم صومه» فالصوم مطلوب ولكن الوقوف في الشمس والصمت الدائم غير مطلوب، فالإسلام ينظر إلى الجسد على أنه مركب الروح وليس من الحكمة خرق المركب أو إضعافه، والجسد مستقر الروح هي الأخرى لها حق الترويح والاستجمام فهذا حنظلة الصحابي الكريم لما رأى أنه يكون مع أرته وأهله في حال تغاير الحال التي يكون عليها مع النبي صلى الله عليه وسلم من حيث الصفاء والشفافية والشعور بتقوى الله ومراقبته، فرأى هذا لون من النفاق خرج يعدو في الطريق وهو يقول عن نفسه: نافق حنظلة حتى انتهى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وشرح له ما يحس من اختلاف حاله عنده عن حاله في البيت فأجابه الرسول بقوله: «إنكم لو بقيتم على الحال التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة».
ومع أن الإسلام لا يقر بأن أحدا يولد ملوثا بالخطيئة، كما هو الحال في النظرة الكنسية إلى الإنسان نراه يعول كثيرًا على أثر البيئة بعامة والبيئة الأسرية بخاصة في التربية فهي تحمل مسئولية تشكيل عقيدة الطفل واتجاهه الأول إلى الدين «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه رواه البخاري... وأبواه يحملان تبعة توجيهه وحسن تربيته، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة»
الخاصية السادسة التقدم والتطور
«الحركة في إطار ثابت حول محور ثابت»
جاء القرآن الكريم يوجه العقول والأبصار إلى عالم الحس والواقع ويربط بين الفكر وبين ما في الكون من مظاهر وآيات (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون. وجعلنا السماء سقفا محفوظًا، وهم عن آياتها معرضون، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) (93)
.. جاء المنهج القرآني في دعوة إلى عالم الحس والتجربة وإبعادا للفكر الإنساني عن منهج التجريد النظري الذي لا يدعو إلى تأمل وتفكير ولا يؤدي إلى كشف ولا يحقق رسالة في الأرض، ولا يعدو أن يكون رياضة ذهنية ليس بينه وبين واقع الحياة ومطالبها صلة، ولكن للأسف انخدع بعض هذه الفلسفة فانحرفوا عن منهج القرآن ولم يحققوا في الحياة إلا الخلافات والفرق والمذاهب وجاءت آثارهم بعيدة كل البعد عن روح القرآن ولكن جمهور العلماء المسلمين أدرك ما بين منهج القرآن وبين الفلسفة اليونانية من خلاف فسار على أساس النظر والحس والتجربة، وارتبط بواقع الحياة والأحياء فكان الأساس الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية وكان هو الأساس الذي قام عليه العلم التجريبي الحديث.
جاء القرآن ليطلق العقل من إساره، وليضع خاتمة عهد طفولة الإدراك البشري وليبدأ عهد الرشد والنضج العقلي فكان فتحًا جديدًا،في تاريخ الفكر الإنساني وثورة على التقليد والجمود الذي لا يقوم على علم ولا يستند إلى دليل وطرقة القرآن في ذلك تقوم على مبدأين:
- الأول: تحرير العقل ووضع المنهج الصحيح للنظر العقلي لكي لا تتبدد الطاقة العقلية في غير مجالها.
- الثاني: تدبر سنن الكون وقوانينه وتأمل ما فيها من دقة وارتباط.
المبدأ الأول: حرر الإسلام العقل ليعمل في الكون المحسوس، وليجول في آفاق الوجود لا تحول بينه وبين اتصاله بالوجود كله وصاية كاهن يحتكر المعرفة، ولا تحول بينه وبين ربه وساطة سادن يعمى على الناس عقائدها وعباداتهم يحيط العقيدة السمحة بكثير من الغموض والأسرار حتى يكون لهم على نفوس الناس سلطان ويكون لهم في الحياة عمل يحلون الرموز ويكشفون عن الأسرار، فلا يتوب مذنب ولا يتعبد عاد ولا يدعو إنسان أو يتصل بخالقه أو يفارق الدنيا إلا على يد كاهن أو سادن.
ومن ثم ثار القرآن على الشرك والكهانة والوساطة فقضى على جميع مظاهر العبودية لغير الله، وحرر العقول وطالبها بالتفكر والتدبر، وأشاع فيها اليقظة والنور، وجعل الصلة مباشرة بين العبد وخالقه، لا تحتاج إلى وساطة أو كهانة، فالله سبحانه قريب مستجيب له: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (94)
وكانت الرسالات السابقة تعتمد في الإقناع على الخوارق الحسية تصعق قدرة الناس وتسكت شكوكهم، فجاء الإسلام بمنهج جديد في الفكر يتفق مع ما يراد للبشرية من اكتمال ورشد، منهج العقل الذي لا يعتمد على قسر أو معجزة، طليق من كل قيد أو إكراه، وإن كانت الخوارق من مؤيدات الرسالات السابقة باعتبارها رسالات مرحلية محدودة الزمن والإطار، فإن القرآن هو معجزة الإسلام الخالدة جاء خطابًا أخيرًا للبشرية،وهو كلمات الله الباقية لكافة الخلق حتى يرث الله الأرض ومن عليها،فلا غرو أن كان العقل وللعلم فيه مكان الرعاية والتبجيل فليس هناك بعد محمد صلى الله عليه وسلم من رسول يأتيها بالخوارق التي ترغمها على الإيمان والتصديق وليس من سبيل بعد ذلك للوصول إلى الحق والإيمان إلا التفكير (قل: إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا) (95) وليس من سبيل إلا أن يحل الدليل محل الخارقة، ومما يكشف عن عمق هذه الدعوة إلى إطلاق الفكر هذا الحوار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الناس كما يرويه القرآن الكريم:
(وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا أو تسقط السماء زعمت علينا كسفًا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه...) فيرفض النبي هذا التحدي ويقرر لهم حقيقة الموقف في تواضع وأمانه موضوعية بقوله:
(...قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا؟!!) (96)
ولعل من ثمرات هذه المكانة الخاصة التي وضع فيها الإسلام العلم. تكريمه للعلماء حتى ليقول الرسول صلى الله عليه وسلم (..وإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارًا ولكن ورثوا هذا العلم)، وحتى يقرن الله تعالى العلماء بنفسه وبالملائكة في الإقرار بوحدانيته والاطمئنان إلى عدالته فيقول: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (97)
لهذا حارب الإسلام نزعة التقليد والاتباع الأعمى لأنها تهدد منطق العلم وتطمس نور العقل الذي يعول عليه في تثبيت عقائده وآدابه، كما أمر بالدعوة إلى عقيدته ومبادئه عن طريق مخاطبة العقل في محاورة جادة مخلصة يبتغي فيها وجه الحق دون تعصب أو هوى: «وجادلهم بالتي هي أحسن»....
وبناء على ما تقدم نجد القرآن قد أشاد بالعقل احترم أحكامه فيما يدخل تحت سلطانه ومحاكماته، وهو حين يلفت نظر الإنسان إلى الحياة وأسرارها، ويطلب منه أن يتأمل في نفسه وفيما حوله تأمل باحث مفكر، ويكره له الانقياد والتقليد الأعمى، إنما يعلن القرآن بذلك ثقته بالعقل واحترامه له، وإحلاله محلاً عظيمًا في استفادة الإنسان من هذه العوامل كلها...
ونظر العقل إلى ظواهر الحياة يقرر حقيقة واضحة: هي أن الإنسان مهما اكتشف من أسرار الحياة، فلن يحيط بها كلها في عصر واحد، وستظل تتكشف للناس شيئا بعد شيء وهذا يستتبع أن الحياة في تطور مستمر وكشف عن المجهول متتابع.
هذا، وإذا كان الإسلام قد دعا الإنسان أن لا يقنع بما علم وأن يتابع بحوثه في مكنونات الكون وقوانين مادته، فقد دعاه كذلك أن يعتقد أن هناك علم فوق علمه «وفوق كل ذي علم عليم» ذلك أن العلم الإنساني لا يتعدى كونه محاولة بشرية لتفسير الظواهر الكونية المحيطة بالإنسان، والاستفادة بها في عمارة الأرض وإذن فليس في وسع العقل أن يصل إلى جوهر الأشياء لأنه لا يستطيع أن يصف سوى مظهرها واطراد تأثيرها، ومن هنا فلا يمكن لاستنتاجاته وكسوفه أن تمثل الحقيقة المطلقة فالعلم البشري محكوم بأحاسيس الإنسان المحدودة وبإمكانات العقل وطاقاته، التي لا تجعل من استنتاجاته شيئًا لا يعدو ما يقع في مجال المادة، كما أن جميع هذه الاستنتاجات محدودة كذلك بوضعه على كوكبه الأرض في زمان ومكان معين، ومن هنا تأتي استنتاجاته كلها نسبية، الأمر الذي لا يصح معه أنيفتن الإنسان بعقله، إذ استطاع أن يميز بين الأشياء ويدرك خصائصها، ويستنبط فوائدها، ويشكل صورا جديدة من «المادة» التي وجد نفسه محاطا بها على ظهر الأرض أو في السماوات وفي العصور الحديثة خاصة زادت فتنة الإنسان بعقله حين رأى المخترعات التي ينتجها، والكشوف التي يقع عليها، وبلغت الفتنة قمتها بانطلاق الطاقة الذرية وانطلاق الصواريخ وكانت هذه الفتنة على حساب طاقة الروح الطاقة التي تتصل بالله وتتصل بالغيب.
فالعلوم التجريبية هي في حقيقتها معارف جزئية زادها ضيق التخصص يومًا بعد يوم تحديدًا، والعلم الجزئي ليس في مقدروه أن يجيب عن تساؤلات الإنسان المطلقة فيما وراء المادة والحياة الدنيا، وهذا يؤكد حاجة الإنسان في هذه المسألة الغيبية التي خرجت عن مجال طاقة العقل البشري ومدركاته إلى علم أكبر من علمه، وبالتالي يؤكد على ضرورة الوحي والرسالة السماوية لكي لا يعمل العقل في غير مجاله واختصاصه ولكي لا يغرق في بحور الغيب التي لا يملك وسائل السبح فيها فتتبدد قواه وطاقاته إنها الروح المهتدية بنور الله هي التي تملك هذا.
ومن هنا حرص المنهج القرآني على صون الطاقة العقلية أن تتشتت وتتبدد وراء الغيبيات فعمل على توجيه العقل ليعمل بكل طاقته في مجاله من أجل صلاح الإنسان وتمكينه من القيام بدور الاستخلاف عن الله في الأرض يوجه قواه العقلية إلى تدبر حكمة الله في الخلق، وأنه سبحانه خلق السماوات والأرض «بالحق» .. يوجهها إلى طريقة إقامة المجتمع الصالح على أساس الطاعة لله ولرسوله ثم يوجهها إلى استخلاص الطاقة المادية وتذليلها لخدمة الإنسان وقد وجه روحه من قبل إلى الارتباط بالله وخشيته وتقواه.. ومن ثم يعمل العقل البشري في استخلاص هذه الطاقة غير مفتون بها ولا شاعر بأنها خلاصة الحياة وجوهرها الأوحد، فينتفع بثمارها وهو مالك لأمره منها غير مستعبد لها ولا منجرف في طريقها وتلك نقطة حاسمة فيما بين الإسلام وغيره من النظم والعقائد والمذاهب الوضعية التي انسلخت من التوجيه الديني.
ففي أوروبا التي يسيطر عليها العلم المنقطع عن الله والمادة المنقطعة عن الروح، أحدث التقدم المادي الضخم انقلابا خطرا في كيان الإنسان انقلابًا أدى إلى أن يكون آلة حيوانية تعمل كالآلات، بعد أن توغل شبح الآلة الضخمة في أعماق حسه، وصارت هي القوة القاهرة التي تملئ عليه إرادتها، وتصرف حياته كما تريد... ونبذ الناس هناك الأخلاق جانبا بحجة أنهم «تقدميون» وفتنهم العلم فاستغلوه في سبيل الشر والتخريب والتدمير وهذه كلها من نتائج انقطاع الصلة بين الدين والعلم وبين الإنسان والله المبدأ الثاني: تدبر سنن الكون: أرشد القرآن الإنسان إلى أن الكون محكوم بقوانين وسنن توجه حركته، وأن قدرة الله في كمالها وإطلاقها لا تسقط عمل هذه القوانين ولا تعطل سير هذه السنن ذلك أن الله سبحانه يجري أمره من خلال سنن وقوانين من خلقه وتقديره، ومعنى أنها سنن أن الأصل فيها أن تكون ثابتة مطردة حتى يمكن أن يعتمد الناس على ثباتها في حياتهم وفي تقديرهم لأمورهم «فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا» (98).
ولولا ثبات هذه السنن وتلك النواميس لما كان لتأمل العقل من قيمة... ولما كان لتدبره من عبرة، وإذا اقتضت مشيئة الخالق أو تتغير هذه السنن لنقض ما يحصله العقل.
ويعود الله سبحانه وتعالى رسله وأنبيائه وأتباعهم من المؤمنين أن يكونوا أحرص الناس على التوافق مع هذه السنن والنواميس، فهو يبتلي رسوله صلى الله عليه وسلم بتكذيب الناس.... ولا يتدخل بالمشيئة المباشرة ليعفيه من أعباء الجهاد في سبيل دعوته.. وإنما يذكره بقانون الحياة، وسنة الصراع بين الحق والباطل «ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين» (99) ثم يؤكد لرسوله أنه لا مهرب من عمل هذه السنن فيقول له: «وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين (100).
وكان طبيعيا أن يسلك المؤمنون مع نبيهم مدارج هذه السنة الإلهية وأن يلقوا في سبيل دعوتهم ما يلقاه أصحاب الدعوات «إذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا» (101).
ويكشف الله تعالى بعد ذلك عن حكمة هذا الأسلوب، مبينًا علاقة المشيئة الإلهية بقوانين المجتمع فيقول سبحانه: «ذلك ولو يشاء الله لا تنصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض» (102)
وتعيش الجماعة المؤمنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلال هذا المنهج العلمي السليم حتى إذا غفلت عنه ردها في حزم إلى سبيل المؤمنين يروي أن موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدث في يوم خسفت فيه الشمس فقال بعض الناس: إن الشمس قد خسفت لموت إبراهيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته».
هذا ويوجه القرآن الكريم الطاقة العقلية إلى النظر في أحوال الأمم والشعوب على مدار التاريخ: «قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدي وموعظة للمتقين» (103) .. دعوة تتكرر في كثير من آيات القرآن، تلح على الناس أن ينظروا في تاريخ ما قبلهم ويدرسوا عوامل الفناء والبقاء في المجتمعات دراسة واعية متفتحة متبصرة معتبرة.
والقرآن يوجه القلب البشرى أن يفتح بصيرته على عوامل التطور الحقيقية في المجتمعات، ويستخدم طاقته الواعية ويستخدم طاقته الواعية في تدبرها والبحث في أسبابها ونتائجها، بما يعرض عليه من الأمثلة التاريخية المتعددة التي تحققت فيها سنة الله الخالدة: سنة التمكين للمؤمنين حين يؤمنون الإيمان الحق: والتدمير على الكافرين ولو استكبروا بباطلهم وعتوا في الأرض مفسدين.
سنة دائمة لا تتغير . النصر للإيمان والخذلان للكفر، وإن كان الظاهر في لحظة من اللحظات الواقع هو النقيض! (104)
إن تاريخ الأمم وحياة المجتمعات في نظر الإسلام وهو كذلك في واقع الأمر ليس أطوارًا متعاقبة بغير معنى، ولا هدف ولا غاية ولا نظام معروف أنها تتبع سنة معينة «سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا» سنة الله التي تعمل بما أودعه الله في الإنسان من طاقات واستعدادات وما أعطاه من قدرة على الاختيار بين أحد طريقتين «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» (105)
«إنهما طريقان لا ثالث لهما: الهدى أو الضلال الاهتداء بما أنزل الله على عباده من منهج وما وجههم من توجيه أو الانحراف عن طريق الله الواضح المبين الهدى يتبعه الخير والبركة والتمكين في الأرض والضلال يتبعه الفساد والضعف والانحلال والفناء ولو ظل الباطل يقاوم ويعاند، ولو ظل متماسكا فترة من الوقت يبهر الأنظار.
«وليس للبشرية في تاريخا كله سوى أحد هذين الطورين المتغايرين. مهما بدا في الظاهر من «تطور» وتغير وانتقال.
وليس «الأطوار» التي يرسمها التفسير المادي للتاريخ إلا أطوار الحضارة المادية في الأرض ولكنها ليست أطوار التاريخ، ولا أطوار الإنسان.
فقد كان في الناس في مختلف المجتمعات الإنسانية المهتدي والإنسان الضال في كل عصر من عصور التاريخ، الذي لم يقيده شيء من الأطوار المادية بهدى أو ضلال ولم يرسم له التقدم المادي طريقًا معينة يتحتم عليه السير فيها، ولا كانت لهذا التقدم في ذاته دلالة معينة في خط سير البشرية وأوضح الأمثلة على ذلك هذا العصر الذي نعيش فيه.. العصر الذي وصل فيه التقدم العلمي والمادي إلى الذروة ووصلت الإنسانية إلى الحضيض من التقاتل الوحشي والتخاصم الذي يقطع أواصر الإنسانية ويجعلها تعيش في رعب وخوف من الدمار كما وصلت إلى الحضيض في تصورها لأهداف الحياة وغاية الوجود الإنساني وحصرها في اللذة والمتاع، وانحطاطها تبعا لهذا التصور إلى أحط درجات الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية التي يعف عنها الحيوان ولكن برغم هذا الضلال والانحطاط فما زال في الناس الإنسان المهتدي الظاهر على الحق يدعوهم إلى منهج الحق والأمن والعفاف التقي.
كيف يواجه الإسلام بنصوصه الثابتة حركة المجتمع!
وإذا كان الكون كله في حركة، وإذا كانت الشمس والقمر دائبين» وإذا كان من آيات الله أنك «ترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب»...
وإذا كانت حياة الإنسان نفسها حركة وتطورًا «وخلقناكم أطوارًا» فقد كان من الطبيعي أن يعالج الإسلام المجتمع على أنه هيكل متطور بتطور مكوناته المادية والبشرية وبتدافع القوى المختلفة القائمة فيه وهو تدافع يشير إليه قوله تعالى: «ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسد الأرض» وتحكمه سنة جارية تنتقل بها السيطرة والتمكين من فريق إلى آخر «وتلك الأيام نداولها بين الناس» «ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك».
... عندما يقرر الإسلام حقيقة تطور الإنسان والمجتمع يفتح الباب فكريا وعمليا أما سؤال ذي بال وهو: كيف يتأتى لنصوص الإسلام أن تلاقي حركة المجتمع المتطور المتغير وأين يذهب بقوله تعالى: «لا مبدل لكلمات الله» وقوله تعالى: «اليوم أكملت لك دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا»...؟؟؟
جاءت شريعة الإسلام ملائمة للفطرة الإنسانية، فجمعت بين عنصري الثبات والتطور بهذه المزية يستطيع المجتمع المسلم أن يعيش ويستمر ويرتقي ثابتا على أصوله وقيمه وغاياته متطورا في معارفه وأساليبه وأدواته.
«فبالثبات، يستعصي هذا المجتمع على عوامل الانهيار والفناء أو الذوبان في المجتمعات الأخرى.. بالثبات يستقر التشريع وتتبادل الثقة وتبنى المعاملات والعلاقات على دعائم مكينة، وأسس راسخة لا تعصف بها الأهواء والتقلبات السياسية والاجتماعية ما بين يوم وآخر «وبالمرونة، يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته حسب تغير الزمن وتغير أوضاع الحياة، دون أن يفقد خصائصه ومقوماته الذاتية.
«ويتجلى عنصر الثبات في شريعة الإسلام في «المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع» من كتاب الله وسنة الرسول فالقرآن هو الأصل الدستور والسنة هي التفسير النظري والبيان العملي للقرآن وكلاهما مصدر إلهي معصوم لا يسع مسلما أن يعرض عنه (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (106)
«وتتجلى المرونة ومواجهة التطور الاجتماعي في «المصادر الاجتهادية» مثل الإجماع والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة...
وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد وطرائق الاستنباط وبذلك تنقسم أحكام الشريعة إلى قسمين بارزين:
• قسم يمثل الثبات والخلود
• وقسم يمثل المرونة والتطور
يقول عنهما ابن القيم: «الأحكام نوعان..
- 1- نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
- 2- النوع الثاني، ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة فنجد الثبات يتمثل في الأسس العقائدية التي قام عليها بناء الإسلام: وهي الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وفي الأركان العملية الخمسة: وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
كما نجد أن الثبات متمثلا في المحرمات اليقينية: من السحر وقتل النفس بغير حق والزنى وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات الغافلات المؤمنان والتولي يوم الزحف والغصب والسرقة والغيبة والنميمة وغيرها مما ثبت بقطعي القرآن والسنة.
وفي أمهات الفضائل من الصدق والأمانة والغفلة والصبر والوفاء بالعهد والحياء وغيرها من مكارم الأخلاق التي اعتبرها القرآن والسنة من شعب الإيمان.
«وفي شرائع الإسلام القطعية في شئون الزواج والطلاق والميراث والحدود والقصاص ونحوها من نظم الإسلام التي ثبتت بنصوص قطعية الدلالة فهذه الأمور ثابتة، تزول الجبال ولا تزول نزل بها القرآن تواترت بها الأحاديث وأجمعت عليها الأمة فليس من حق حاكم أو هيئة أن يلغي أو يعطل حكما من أحكامها لأنها كليات الدين وقواعده وأسسه كما قال الشاطبي في الموافقات: «كلية أبدية وضعت عليها الدنيا، وبها قامت مصالحها في الخلق حسبما بين ذلك الاستقراء وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا، فذلك الحكم الكلي باقي إلى أن يرث الله الأرض وما عليها».
وما عدا ذلك فيتمثل فيه عنصر المرونة والتطور: وهو ما يتعلق بجزيئات الأحكام، تركت للاجتهاد رحمة بالأمة وتيسيرًا وتوسعة عليها، وبهذا تجد أمامها مجالا رحبًا مرنًا، تتحرك فيه بيسر وسهولة دون أن تشعر بالإثم في دينها أو الحرج دنياها.
وفقد اقتضت حكمة الله في التشريعات المتعلقة بأمور متغيرة في الحياة البشرية وهي سياسة الحكم والمال اقتضت حكمته تعالى أن يجيء التشريع فيها بالأسس والمبادئ دون التفصيلات والأشكال لأن أية تفصيلات وأية أشكال ستكون موقوتة بفترة معينة بينما الأسس والمبادئ هي الإطار الذي ينبغي أن تسير الأمور في حدوده، متجددة بتجدد كل عصر ودرجته من العلم، ودرجته من التفاعل مع الكون المادي، وصورة المجتمع الذي يعيش فيه ملتزمة مع ذلك بهذا الإطار العام لا تخالفه ولا تخرج عنه ففي سياسة الحكم مثلا ورد أساسان شاملان هما العدل والشورى: إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» (107) «وأمرهم شورى بينهم» (108) ولكنه لم يبين أي طريقة تكون عليها الشورى أهي مجمع من رؤساء القبائل والعشائر أم مجلس منتخب أو معين أم مجلسان لأن هذه صورة متغيرة بتغير صورة المجتمع وإمكانياته وجاء في سياسة المال «كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم» فقرر كراهية حصر المال في يد فئة قليلة يتداولونه بينهم وبقية الأمة محرومة منه أما طريقة اشتراك الأمة في الخير المشترك فقد تركها لكل جيل يصوغها في الصورة التي تلائم ظروفه وعلمه وإمكانياته، بحيث لا يخرج على تلك القاعدة الكبيرة فلا يلجأ مثلا إلى الإقطاع أو الرأسمالية كما فعلت أوربا، ولا يلجأ لنزع الملكية جميعًا كما صنعت الشيوعية.
فهناك «ثبات» في مقومات هذا الدين: عقائده وشرائعه وحدوده وقيمة لا تتغير ولا تتطور حينما تتغير ظواهر الحياة الواقعية وأشكال الأوضاع العملية فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع يظل محكوما بالمقومات الأساسية والقيم الثابتة لهذا الدين ولا يقتضي هذا «تجميد» حركة الفكر والحياة، ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة بل دفعها إلى الحركة ولكن في هذا الإطار الثابت وحول هذا المحور الثابت.
فهذا الدين الذي يرفض كل ابتداع فيما يتعلق بالعبادات، وصور التقرب إلى الله تعالى، لأن الأصل في شعائر العبادة التوقيف فلا يعبد الله إلا بما شرعه وأذن به، لا بما تستحسنه العقول، وتجري عليه الأهواء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد»، لأن هذا هو أصل التحريف والتزييف في الأديان هذا الدين الذي يرفض الابتداع في أمور العبادات هو نفسه الذي يشجع الاختراع والابتكار في أمور الدنيا مثل وسائل المواصلات التي يشير إليها قوله تعالى بعد ذكره للخيل والبغال والحمير (.. ويخلق ما لا تعلمون) ومثل أدوات الحرب التي تدخل في قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وسائر الصناعات الحربية والمدنية التي تشير إليها الآية الكريمة: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس).
لهذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب ويستخدم المنجنيق في غزوة الطائف، ويحث على الإنتاج الحربي حتى يجعل صانع السهم كالمجاهد الرامي به في استحقاق المثوبة ويحذر الأمة أن تكتفي بالزرع وتتبع أذناب البقر ،كما رأيناه يتنازل عن رأيه إلى رأي الصحابة فيما يرى أنهم أعلم به من أمور الحياة، التي لم ينزل بها الوحي ليعلمها للناس، وإنما تركت لعقولهم وتجاربهم...
وأظهر مثل لذلك قصة (تأبير النخل وتلقيحه) حيث كان ذلك من عادة أهل المدينة وهم أهل نخل وزرع فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن صنيعهم فأجبروه فقال: ما أراه يصلح نبلغهم قوله وظنوه وحيا وتشريعا وتركوا التلقيح فلم يصلح التمر، فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر «وفي رواية» إنما ظننت طنًا فلا تؤاخذوني بالظن، أنتم أعلم بأمر دنياكم – رواه مسلم.
موقف المجتمع المسلم من المجتمعات المخالفة له
مما سبق نستطيع أن نتبين طبيعة المجتمع المسلم، إذ يجمع بين فضائل الثبات وحسنات المرونة والتطور إذ يجمع بين الثبات الذي يمنحه الاستقرار فلا يتخلى عن مبادئه ولا يتحول عن أصوله وبين المرونة التي يواجه بها سير الزمن وسنة التطور.
فهو بإزاء المجتمعات الأخرى المخالفة له في العقيدة والوجهة المبدأ، لا يذوب فيها، ولا يتبع أهوائها، ولا يقلدها ويتشبه بها فيما هو من خصائصها لكي لا يفقد أصالته وشخصيته المتميزة فالأمة المسلمة وقد بوأها الله مكان الأستاذية للبشرية كلها يرفض الله لها التبعية واقتفاء آثار غيرها من الأمم بشبر وذراعًا بذراع.
مع هذا فهي أمة مفتوحة على غيرها من الأمم لها أن تقتبس منها وتنتفع بما ليدها من معارف وخبرات ومهارات لا تضر بكياتها المادي والمعنوي لأن العلم الخالص وما يتفرع عنه من مكتشفات وأجهزة وأدوات ومخترعات لا جنسية له ولا وطن له.
فعنصر الثبات يتجلى هنا في رفض المجتمع المسلم للعقائد والمبادئ والأفكار والقيم والشعارات التي تقوم عليها المجتمعات غير المسلمة وتميزها لأن مصدرها غير مصدره، ووجهتها غير وجهته، وسبلها غير صراطه، فهو مجتمع متميز في المصدر والوجهة والمنهج بل في السمة والشعار أيضا.
ولهذا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تميز المسلمين في كل شئونهم عن مخالفيهم من المشركين واليهود والنصارى فرفض البوق والناقوس للإعلام بالصلاة واختار الآذان ووردت عبارة (خالفوهم) في أحاديث كثيرة تحض المسلمين على مخالفة غيرهم في أمور كثيرة مما يدل على أن تميز المجتمع المسلم أمر مقصود ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب قيم عالج فيه هذا الموضوع، أسماه (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم).
وجاء القرآن الكريم يحذر الرسول صلوات الله عليه من اتباع أهواء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أو التأثر بدسائسهم فيفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه فقال تعالى: (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلهم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس الفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (109)
وهذا هو موقف الفرد المسلم والمجتمع المسلم من أحكام الكفار، إنه يرفضها رفضا حاسما ولا يقبل إلا أحكام الله، لأن من لم يقبل حكم الله سقط في حكم الجاهلية ولا ثالث لهما.
إن شعار المسلم إزاء كل ما يعرض عليه من مبادئ وأفكار ومذاهب هو الكلمة الموجزة: (إن كان فيها ما في الإسلام فقد أغنانا الله بالإسلام وإن كان فيها ما يخالف الإسلام فنحن لا نبيع ديننا بملك المشرق والمغرب، وفي مقابل هذا الثبات نجد مرونة وسماحة من الناحية العملية والتطبيقية في الحياة، كما يتصل بالطرائق والأساليب لا بالمبادئ والأهداف.
فإذا كان لدى مجتمع غير مسلم نظام حسن في تعبئة الجيوش أو في ترقية الصناعة أو الزراعة أوفي تخطيط المدن والقرى أو في حفظ الصحة العامة ومقاومة الأوبئة، أو في تسخير القوى الكونية بسلطان العلم لمصلحة الإنسان أو نحو ذلك من كل ما يتعلق بالجانب العلمي (التكنولوجي) والإبداع المادي، والتنظيم العلمي فالإسلام يرحب به بشرط ألا يصطدم بأحكام الإسلام وقد جاء الحديث «الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها) رواه الترمذي وابن ماجة.
فقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق حول المدينة ليحميها في غزوة الأحزاب من المشركين، وهذا من أساليب الفرس الدفاعية ولم يقل الرسول: هذا من أساليب المجوس ولا تأخذ به.
وهؤلاء صحابة رسول الله رضي الله عنهم – يقتبسون بعض التنظيمات الإدارية والمالية الصالحة من الفرس أو الروم أو غيرها ولم يجدوا بذلك بأسا ما دام يحقق لهم مصلحة، ولا يصادم نصًا ولا قاعدة كما في نظام الخراج، وهو نظام فارسي الأصل ونظام الديوان هو نظام روماني الأصل.
هذه صورة المجتمع المسلم فهو في نماء وتقدم في حالة جمعه بين الثبات على مبادئه وأصوله والمرونة والتطور الذي يواجه به حركة العلم وكشوفه والتغير في أشكال الحياة وأساليبها، ولا يصبح عرضة لأخطار الانحطاط والتأخر إلا نتيجة لأحد أمرين:
الأول: أن يجمد ما من شأنه التغير والتطور الحركة، فتصاب الحياة بالعقم والجمود، وهذا ما حدث في عصور الانحطاط والشرود عن هدى الإسلام الصحيح فرأينا كيف توقف الاجتهاد في الفقه وتوقف الإبداع في العلم، والأصالة في الأدب، والابتكار في الصناعة والافتنان في الحرب وغيرها وضربت الحياة بالجمود والتقليد في كل شيء وأصبح المثل الثائر الذي يعبر عن الاتجاه السائد «ما ترك الأول للآخر شيئا» و «ليس في الإمكان أبدع مما كان».
على حين أخذت المجتمعات الكافرة التي اقتبست من المسلمين مناهج العلم التجريبي وثمرات حضاراتهم .. أخذت تستيقظ وتنهض وتتطور، ثم تنمو وتتقدم في الكشف والاختراع ثم تزحف غازية مستعمرة والمسلمون في غمرة ساهون.
الثاني: أن يخضع للتطور والتغير ما من شأنه الثبات والدوام والاستقرار كما نرى ونسمع في عصرنا هذا، أن فئة من ذراري المسلمين ووكلاء حضارة الغرب المادي المنحل، يريدون خلع الأمة من جذورها الإسلامية وعزلها عن تراثها وأصولها كلها باسم التطور .. يريدون أن يفتحوا النوافذ كلها للإلحاد في العقيدة الانسلاخ من الشريعة والتحلل من الفضيلة.
كل ذلك باسم هذا الصنم الجديد «التطور» وتحت تأثير هذه اللوثة يريدون أن يطوروا الدين نفسه، لكي يلائم ما استيراده من مناهج الغرب، ومن عقائد وأفكار وقيم وموازي وأنظمة وتقاليد ومثل وأخلاق.
وما جعل الله الدين إلا ليمسك البشرية أن تنقلب على عقبها وأن تنكس في الجاهلية، لهذا أوجب أن يكون الدين هو الميزان الثابت الذي يحتكم إليه الناس إذا اختلفوا ويرجعون إليه إذا انحرفوا.
أما أن يصبح الدين خاضعا لتقلبات الحياة وظروفها فإنه بذلك يفقد وظيفته في حياة الإنسان.
إن الإصلاح الحقيقي: أن نتفهم جيدًا ما يجب أن يتطور من شئون الحياة فنعمل على تطويره وتحسينه، بمنطق الحكماء الشجعان لا الأغرار المقلدين كما نعرف ما يجب أن يبقى راسيًا من القيم ثابتًا راسخا، القيم والأفكار والعقائد والأخلاق والآداب والشرائع التي تزول الجبال الشم ولا تزول. (110)
حقيقة التقدم والتخلف
المجتمع الذي ينشئه الإسلام، هو المجتمع الذي يرتقي بالإنسان إلى كمالاته..
ذلك أنه حين تكون «إنسانية» الإنسان هي القيمة العليا في مجتمع، وتكن الخصائص «الإنسانية» فيه هي موضع التكريم والاعتبار يكون هذا المجتمع المتحضر.. وأما حين تكون «المادة» في أية صورة هي القيمة العليا، سواء في صورة «النظرية» كما في التفسير الماركسي للتاريخ أو في صورة «الإنتاج المادي» كما في أمريكا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي قيمة عليا وتهدر في سبيلها القيم والخصائص الإنسانية .. إن هذا المجتمع يكون مجتمعًا متخلفًا.
إن المجتمع الإسلامي كما عرفنا لا يحتقر المادة، لا في صورة النظرية باعتبارها هي التي منها هذا الكون الذي نعيش فيه ونتأثر به ونؤثر فيه أيضا ولا في صورة الإنتاج المادي، فالإنتاج من مقومات الخلافة عن الله في الأرض، ولكنه فقط لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص «الإنسان» ومقوماته، وتهدر من أجلها حرية الفرد وكرامته، وتهدر فيها قاعدة الأسرة ومقوماتها وتهدر فيها أخلاق المجتمع وحرماته... إلى آخر ما تهدره هذه المجتمعات الجاهلية من القيم العليا والفضائل والحرمات لتحقق الوفرة في الإنتاج المادي.
وحين تكون «القيم الإنسانية» التي تقوم عليها إنسانية الإنسان، هي السائدة في مجتمع يكون هذا المجتمع بحق مجتمعًا متقدمًا متحضرًا والقيم الإنسانية ليست مسألة غامضة مائعة وليست كذلك قيما «متطورة» (111) متغيرة متبدلة لا تستقر على حال ولا ترجع إلى أصل كما يزعم التفسير المادي للتاريخ وكما تزعم «الاشتراكية العلمية» القيم الإنسانية ليست مسألة غامضة مائعة، فهي القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان جوانبه الإنسانية التي ينفرد بها دون الحيوان والتي تغلب فيه هذا لجانب الذي يميزه عن الحيوان وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه وتغلب الجوانب التي يشترك فيها مع الحيوان.
وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم و«ثابت» لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها «التطوريون» و «الاشتراكيون»
عندئذ لا يكون اصطلاح البيئة وعرفها هو الذي يحدد القيم الأخلاقية إنما يكون وراء اختلاف البيئة ميزان ثابت عندئذ لا تكون هناك قيم وأخلاق «زراعية» وأخرى «صناعية» ولا قيم وأخلاق رأسمالية وأخرى «اشتراكية» ولا قيم وأخلاق برجوازية» وأخرى «برولوتارية» ولا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومستوى المعيشة وطبيعة المرحلة إلى آخر هذه التغيرات السطحية والشكلية .. إننا نقول وبكل وضوح أن هناك من وراء ذلك كله – قيم وأخلاق «إنسانية» وقيم وأخلاق «حيوانية» إذا صح هذا التعبير أو بالمصطلح الإسلامي: قيم وأخلاق «إسلامية» وقيم وأخلاق «جاهلية».
إن الإسلام يقرر قيمه وأخلاقه، التي تنمي في الإنسان الجوانب التي تميزه عن الحيوان ويمضي في إنشائها وتثبيتها وصيانتها في كل المجتمعات التي يهيمن عليها سواء أكانت هذه المجتمعات في طور الزراعة أم في طور الصناعة وسواء أكانت مجتمعات بدوية تعيش على الرعي أو مجتمعات حضرية مستقرة، وسواء أكانت هذه المجتمعات فقيرة أو غنية إنه يرتقي صعدا بالخصائص الإنسانية ويحرسها من النكسة إلى الحيوانية لأن الخط الصاعد في القيم والاعتبارات يمضي من الدرك الحيواني إلى المرتفع الإنساني، فإذا انتكس هذا الخط مع حضارة المادة، فلن يكون ذلك حضارة أو تقدم إنما هو التخلف أو هو «الجاهلية».
وحين تكون «الأسرة» هي قاعدة المجتمع وتقوم على أساس «التخصص» بين الزوجين ..وحين تكون رعاية الجيل الناشئ هي أهم وظائف الأسرة، حين يكون ذلك يكون معه التحضر والتقدم ذلك أن الأسرة على هذا النحو –في ظل المنهج الإسلامي- تكون هي البيئة التي تنشأ فيها القيم والأخلاق الإنسانية ممثلة في الجيل الناشئ والتي يستحيل أن تنشأ في وحدة أخرى غير وحدة الأسرة، فأما حين تكون العلاقات الجنسية «الحرة»كما يسمونها والنسل «غير الشرعي» هي قاعدة المجتمع حين تقوم العلاقات بين الجنسين على أساس الهوى والنزوة لا على أساس الواجب والتخصص الوظيفي في الأسرة حين تصبح وظيفة المرآة هي الزينة والغواية والفتنة.. وحين تتخلى المرأة عن وظيفتها الأساسية في رعاية الجيل الجديد وتؤثر هي –أو يؤثر لها المجتمع- أن تكون مضيفة في فندق أو سفينة أو طائرة.. حين تنفق طاقاتها في «الإنتاج المادي» ولا تنفقها في صناعة «صناعة الإنسان»لان الإنتاج المادي يومئذ أغلى وأكرم من «الإنتاج الإنساني» عندئذ يكون هذا هو «التخلف الحضاري» بالقياس بالإنساني. ... أو تكون هي «الجاهلية» بالمصطلح الإسلامي.
وقضية الأسرة والعلاقات بين الجنسين قضية هامة في تحديد صفة المجتمع متخلف أم متحضر جاهلي أم إسلامي والمجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية في هذه العلاقة لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة مهما تبلغ من التفوق الصناعي والاقتصادي والعلمي إن هذا المقياس لا يخطئ في قياس مدى التقدم «الإنساني».
والمجتمعات الجاهلية الحديثة يضطرب فيها المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ماله علاقة بالتميز «الإنساني» عن الطابع «الحيواني» ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة ذيلة أخلاقية إن المفهوم الأخلاقي ينحصر عندهم في المعاملات الاقتصادية والسياسية في حدود مصلحة الدولة على أساس من مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة»
الكتاب والصحفيون الروائيون هنا وهناك يقولونها للفتيات والزوجات إن الاتصالات الزوجية «الحرة» ليست رذائل أخلاقية.. الرذيلة الأخلاقية أن يخدع الفتى رفيقته أو تخدع الفتاة رفيقها ولا تخلص له الود، بل الرذيلة أن تحافظ الزوجة على عفتها إذا كانت شهوة الحب لزوجها قد خمدت، والفضيلة أن تبحث لها عن صديق تعطيه جسدها بأمانة .. عشرات من القصص هذا محورها ومئات من التوجيهات الإخبارية والرسوم الكاريكاتيرية والنكت والفكاهات هذه إيحاءاتها.
مثل هذه المجتمعات مجتمعات مختلفة غير متحضرة، من وجهة نظر «الإنسان» وبمقياس خط التقدم «الإنساني»...
إن خط التقدم الإنساني يسير في اتجاه «الضبط» للنزوات الحيوانية وحصرها في نطاق «الأسرة» على أساس «الواجب» لتؤدي بذلك «وظيفة إنسانية» ليست اللذة غايتها وإنما هي إعداد جيل إنساني يخلف الجيل الحاضر في ميراث الحضارة «الإنسانية» التي تميزها بروز الخصائص الإنسانية
ولا يمكن إعداد جيل يترقى في خصائص الإنسان إلا في محض أسرة محوطة بضمانات الأمن والاستقرار العاطفي، وقائمة على أساس الواجب الذي لا يتأرجح مع الانفعالات الطارئة، وفي المجتمع الذي تنشئه تلك التوجيهات والإيحاءات الخبيئة التي ينحسر فيها المفهوم الأخلاقي عن كل آداب الجنس لا يمكن أن يقوم ذلك المحضن الإنساني.
من أجل ذلك كله تكون القيم والأخلاق والإيحاءات والضمانات الإسلامية هي اللائقة بالإنسان ويكون الإسلام هو «الحضارة» ويكون المجتمع الإسلامي هو المجتمع «المتحضر المتقدم» بذلك المقياس الثابت الذي لا يتميع أو لا «يتطور»
لقد كان الإسلام ينشئ الحضارة في أواسط أفريقية بين المرأة .. لأنه بمجرد وجوده هناك تكسي الأجساد العارية ويدخل الناس في حضارة اللباس التي يتضمنها التوجيه الإسلامي المباشر ويبدأ الناس في الخروج كذلك من الخمول البليد إلى نشاط العمل الموجه باستغلال كنوز الكون المادي.
ويمرون كذلك في طور القبيلة أو العشيرة إلى طور الأمة... وينقلون من عبادة الطواغيت المنعزلة إلى عبادة رب العالمين.. فما هو التقدم، وما هي الحضارة إن لم تكن هي هذا؟؟..... «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة».
• وبعد:
إن التقدم الحقيقي، هو انتصار المبادئ وانتصار القيم الإنسانية الرفيعة ورفع رايتها عالية خفاقة، أصلها ثابت وفروعها في السماء.
والمتقدمون المنتصرون هم المطبقون للحق حرفا حرفًا وعملاً وعملاً..
إنهم هم الذين يصدرون المناهج والأفكار ولا يستوردون الثياب أنهم هم «الأمة الوسط» التي اختارها الله لتقوم الاعوجاج وتحول دون الانحلال والانحراف.
وحين يصل الإنسان إلى وضع كل سلوك بشري في موضعه الصحيح من الكون والحياة على أساس من المنهج الرباني فقد بدأ يتقدم أما دون هذا فلا.. وما ذلك إلا لأن العقيدة هي التي تحكم المادة، وهي نفسها التي تحكم الأخلاق، وأخلاق الناس هي التي تصنع أزياءهم كما تصنع منطلقاتهم العلمية والعملية.
إن تصورات العلم الحديث للكون والحياة والإنسان قد صبغت الحياة بصبغة مادية قاسية فجعلتها صراعا مسعورا بين الأفراد والطبقات والدول فهذه مآسي الاستعمار والرجل الغربي من نتائج ذلك الصراع المسعور، فلم قاست وتقاسى شعوب وأزهقت وتزهق أرواح، وسفكت وتسفك دماء في غمرات ذلك الاستعمار وما يثيره من نيران الحروب والصراعات التي لا تهدأ.
«ولقد يظن –بادي الرأي- أن تصورات العلم الحديث للكون والحياة والإنسان لا يمكن أن تكون مسئولة عن كل تلك الفواجع الرهيبة ولكن الحقيقة أن تلك التصورات المنحرفة هي التي كيفت الحضارة الغربية، وهي التي صنعت الفنون والآداب، وهي التي حددت غايات الحياة وهي التي أعطت الدول الغرب حق الاستعمار والعدوان، وأعطت للساسة مبررات الغدر والنفاق، فأصبح العالم في ظل هذه التصورات المنحرفة غاية تسودها شريعة المخلب والغاب وأصبحت الحياة شهوة عارمة لا ترتوي وجوعة في الأرواح وشقاء في الأنفس لا تعرف سكينة ولا طمأنينة ولا قرارًا.
لقد استطاع العلم الحديث أن يحقق للبشرية تقدمًا ماديًا لا شك فيه، إنتاجا في المصانع ومتاعًا في الحياة، ولكنه عجز عن توفير السكينة للنفوس أو إشاعة الود والرحمة في الأسرة أو إرساء التعاطف والتكامل في المجتمع.
والذين تبهرهم مظاهر الترف والتقدم في الغرب، إنما ينظرون إلى زينة الحياة الدنيا... ينظرون إلى مظاهر الحياة دون جوهرها لا يتعمقون أغوار النفوس ولا تبصرون الشقاء والتعاسة الروحية التي تعانيها تلك المجتمعات ويكفي أن أغنى الأمم في الغرب وأعلاها مستوى معيشة دلت الإحصاءات على أنها أكثر بلاد العالم تعاسة وشقاء ففيها أكبر نسبة في العالم من أمراض الصرع والجنون، وأعلى نسبة في تعاطي المخدرات وأضخم نسبة في انحرافات الشباب وحوادث الانتحار.
لقد فقدت الحضارات الغربية مقومات البقاء والاستمرار يقول الفيلسوف الألماني شبنجلر في كتابه «انهيار الغرب»: (إن الحضارة الغربية طغت فيها المادة على الروح، وهذه بداية النهاية لها، رغم ما تخدع به البصر من التقدم العمراني والمادي وما مرحلة الحضارة الحالية إلا غمرة المدنية المضللة ببهرجها الذي يستر فقرها الروحي فهي سائرة بخطى واسعة إلى الفناء المحتوم الذي أصاب الحضارات السابقة)
إن وسائل الإنتاج المادي والتفوق العلمي والانتصار العسكري ليست هي بأي حال من الأحوال دليل التقدم فكم من انتصارات عسكرية لم تقدم لمن حققوها الانتصار الحضاري الشامل والتقدم في مضمار التفوق على العدو المغلوب لأن العدو كان ذا عقيدة أقوى وأخلاق أقوم من عقيدة وأخلاق الذين انتصروا عليه بالقتال وحده فخضع لهم في ميدان القتال، حتى تسلط عليهم بعد أن أخضعهم لسلطانه، ثم دارت رحى حروب أخرى بين الفريقين فإذا الفريق المهزوم في الحرب، هو الفريق المنتصر في شتى ميادين العقيدة والأخلاق والفكر والمعرفة والوجود الحضاري.
وأوضح مثل لذلك ما حدث حين انتصر التتر علينا نحن العرب المسلمين فيميدان الحرب واقتلعوا عاصمة الخلافة العباسية في بغداد، ثم أخذ الإسلام يضرب سرادقه حول هؤلاء الوثنين الذين اقتلعوا حصون أوروبا حينذاك، وفعلوا مثل ذلك ببلاد المسلمين فلم يكن أمرهم مع المسلمين كما كان أمرهم مع الأوروبيين أي لم يكن انتصارهم العسكري هو انتصارهم الشامل الحاسم على المسلمين وإنما كان الانتصار العسكري هو جولة دخلوا بعدها في جولات حضارية بين الحق المطلق المتمثل بالفكرة الإسلامية والباطل المتمثل بالفكرة الوثنية عادة بالغالبين بالسيف مغلوبين بقوة الفكر والخلق والحضارة وإن لم تتوفر لأصحابها القوة المادية.
إنه استعلاء أمم الغرب في مجالات الإنتاج المادي ومنتجاتها المادية دون أن يتزودوا بمنهج الحق في الاستمتاع بها وصرفها في مصارفها الحقيقية لا تغني هذه الأمم فتيلا في تخلفها الناتج من بعدها عن نور القرآن إذ هم واقعون في متاهات الضلال والضياع، ما لم يكتمل لحضارتهم البعد الروحي الذي لن يجدوه في غيره المنهج القرآني.
بينما الأمة التي تحمل القرآن لا يعيبها التأخر في مجالات الإنتاج المادي، بقدر ما يعيبها التأخر في أن تكون كما هي في الحقيقة أمة وسطًا أي حاملة رسالة ومبلغة أمانة، تصل من الجنس البشري ما انقطع به من عبادة المال والشهوة وأنانية العنصرية البغيضة.
إن منهج الله وحده، هو الذي ضمن للحياة الإنسانية التقدم لا التأخر، إذا هي اتصلت بحقيقة القرآن وتمثلت أحكامه سوكا وعملا وارتفعت إلى مستوى رسالته الخالدة.
إن عالمنا المعاصر في واقع أمره ينقسم إلى طائفتين يقتسمان معا خطين متناقضين من التخلف الذي ينقصه التقدم من طرفين متناقضين أيضا، فالتخلف عام شامل وإن اختلت أسابه ومسبباته...
• فهناك طائفة تملك إنتاجًا ماديًا متراكما، لم يلتق ببعده الأخلاقي.
• وهناك طائفة تمتلك الحقيقة الواحدة الجامعة، هي حقيقة القرآن العظيم الذي تقبض عليه أيدينا نحن المسلمين، دون يبلغ من نفوسنا مبلغ الوعي ومن سلوكنا مبلغ العمل القادر على تبليغ الحقيقة الوحيدة في الأرض في سائر الأرض لسائر البشر فلسنا نحن المتخلفين لبعدنا عن التفوق في مضمار الإنتاج المادي المعاصر ولكننا المتخلفون لعدم تمثلنا الحقيقة المثلى وهي بأيدينا، فضلا عن تبليغها للناس كافة وفي هذه الريادة الفكرية والأخلاقية انتصارنا، بالذين يسمعون صوتنا ويؤمنون بحقيقتنا على المعاندين المبغضين.
وحيث نفعل ذلك ونكف عن استيراد «الثوب العاري والفكر العاري» تقوى على حفظ أرضنا وطرد عدونا منها أو إلزامه بالحياة فيها تحت رايتنا وفي نور مبادئنا التي تخرجه من ظلماته إلى نورنا.
هذا هو تقدمنا لمن شاء منا أن يتقدم ولمن يريد حقا أن يتقدم.
الخاصية السابعة التكافل والعدل
إذا كان النهج القرآني يهتم بالفرد على أنه في ذاته كائن جدير بالاحترام والتقدير والتكريم بنفخة الروح العلوية التي رفعته عن مستوى المخلوقات الأخرى، فعنى بغفلة وضميره، وهيأ له أسباب الحياة الحرة العزيزة فالإنسان يتصل بربه فردا، ومسئوليته في اليوم الآخر فردية، وهذا يعني أن كل إنسان مسئول أمام الله عن أقواله وأفعاله مؤاخذ بها يلفظ أو يفعل مسئول عن جوارحه: سمعه وبصره، يده وأذنه ولسانه وقلبه وغيرها، مسئول عن أسرته وأفراد عائلته أن يهديهم إلى الصواب كمسئوليته عن نفسه
«كل نفس بما كسبت رهينة» (112).
«بل الإنسان على نفسه، ولو ألقى معاذيره» (113)
ولا يعني ذلك أن المنهج القرآني يدفع الفرد إلى الاستقلال بذاته والانعزال عن الجماعة، فالصلة الشخصية الفردية بالله، هي الرباط الحي الذي يربط الفرد بالجماعة فهي التي تلين قلب الإنسان لأخيه فيحبه ويمنحه من نفسه ويفنى فيه، والقرآن بتوجيهاته الدائمة يعمل على غرس روح التعاون والإيثار في النفس وطبيعة الإسلام نفسها تقتضي وجود جماعة متكافلة تقوم بالتكاليف الجماعية.
فالمنهج القرآني منهج جماعة يهدف إلى تكوين جماعة متميزة، تحمل مبادئه وتعمل على تبليغه والجهاد في سبيل تأمينها وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يربي أصحابه تربية جماعية، وعلى الرغم من أن ظروف مكة لم تسمح بأي مظهر جماعي فقد كان المؤمنون جماعة لها شخصيتها المتميزة وكذلك كان المهاجرون الذين هاجروا إلى الحبشة جماعة لها طابعها وأميرها ولما تمت الهجرة إلى المدينة أقام الرسول صلى الله عليه وسلم مجتمعه الجديد، بعد أن توفرت له كل مقومات المجتمع ومظاهره بالعبادة والأخوة والتشريع والدولة والجهاد.
وعندما فرض القرآن الهجرة إلى المدينة ليجنب الجماعة المؤمنة الجاهلية المتمثلة بالمجتمع المكي حينذاك بضغوطه ورواسبه كان ذلك توجيها لأثر المجتمع في العمل التربوي بعامة والتنشئة الاجتماعية بخاصة.
وفرائض الإسلام وواجباته جميعًا تربي الفرد ليكون لبنة في بناء المجتمع وعضوا في جماعة المؤمنين.
لقد بدأ الإسلام بناء المجتمع في ضمائر الأفراد ووجداناتهم، فهناك في أعماق الروح غرس بذرة الحب والرحمة الحب الإنساني الخالص والرحمة الإنسانية المبرأة لقد رد الناس إلى ذكرى نشأتها الأولى من نفس واحدة وأيقظ في شعورهم شعور النسب والقربى، وذكرهم أخوتهم في الله، وفي المنشأ والمصير، حتى إذا رقت جوانحهم بهذه المشاعر كانوا أقرب إلى التعاون وأدنى إلى الإخاء «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا» (114) «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
وفي ظل الحب والرحمة دعا الناس إلى الإيثار، وإلى التضحية بما هو عزيز على النفوس في سبيل إسعاد الآخرين فلا بد للتكافل من قوم يؤثرون على أنفسهم، ويضحون بالغالي والعزيز عليهم فالمجتمع فيه الأغنياء والمحرومون وإذا لم يؤثر الأغنياء على أنفسهم، وإذا لم يضحوا بما يملكون لم يقم التكافل، لم يتم التعاون.
ولقد رسم القرآن الكريم صورة جميلة للإيثار في نفوس أهل المدينة الذين استقبلوا المهاجرين فآووهم وشاركوهم حالهم وديارهم في رحابة صدر وسماحة نفس. «الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرن على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» (115) وكل ما ينزل عنه المسلم من مال أو جهد لتحقيق التكافل إنما هو قرض لله لا يضيع وأن الكف عن بذله تهلكة في الدنيا والآخرة فأطمعه في الثواب، وحذره من العقاب وهما وسيلتان من وسائل التربية للضمير، من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم» ...«وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» (116)
وجاء حث القرآن الكريم للجماعة المؤمنة على التكافل لا في دائرة المال فقط، بل في كل شأن من شئن الحياة، وناط هذا بضمائرها وملأ هذه الضمائر بخشية الله وتقواه والتقوى في النفس هي أقوى عوامل التربية الشعورية وأعمقها قال تعالى: «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون» (117)
ولم يقف المنهج القرآني عند مجرد استجاشة المشاعر الوجدانية، وهو يحاول التربية الخلقية، بل عمد إلى تكوين عادات وآداب اجتماعية تعاون على التآخي وعلى التعاون والتكافل في محيط الحياة العملية.
ومن هذه الآداب والعادات الاجتماعية التي ربى المنهج القرآني المسلمين عليها حسن القول ولطف الحديث وإفشاء السلام: «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» (118) «أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (119) ... «وإذا حييتم بتحية، فحيوا بأحسن منها أو ردوها» (120).
ومنها احترام الآخرين، وحسن الظن بهم، وحفظ غيبتهم ونجنب اغتيابهم، واتقاء الله فيهم «يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم، عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكون خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم» (121)
وهكذا سار الإسلام في تهذيب المشاعر الإنسانية وتكوين الآداب والعادات الاجتماعية التي يمكن أن يلتقي الناس على أساسها، وأن يتعاونوا في يسرن ويتكافلوا في طواعية، لأن أسباب هذا التكافل نابعة من ضمائرهم، منبثقة من مشاعرهم، وليست مفروضة عليهم فرضًا من خارجهم بحكم القانون إن أية محاولة للتربية الخلقية ينبغي أن تقوم أساسًا على ربط النفس الإنسانية بأفق أعلى من الذات والمصلحة القريبة أفق يستعذب التضحية في سبيله، ويستسهل الصعب في الارتقاء إليه، فماذا يكون هذا الأفق العالي؟
لقد يرى البعض أن يكون هو العزة القومية، ولقد يرى بعضهم أن يكون هو الأخوة الإنسانية، وكلاهما أفق يمكن أن يرفع مشاعر الفرد عن أفق المنفعة القريبة واللذة الحاضرة فيقبل تكاليف التكافل عن رضا وطواعية ما دام ذلك يعود عليه بالتقدير والتكريم العاجل من قومه أو من هيئة ترفع شعار الأخوة الإنسانية، إما إذا آثرنا ربط ضمير الفرد بأفق أعلى من هذه الآفاق جميعًا.. إذا آثرنا ربطة بالله خالق الأوطان وخالق الإنسان جاء بذلة ابتغاء مرضاة الله ولو لم يشعر به وطن ولم يكرمه إنسان. إذا آثرنا أن يكون الحب في الله هو الذي يجمع القلوب ويلف الأيدي السواعد، عندئذ تتحقق الصورة المشرقة التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «إن عباد الله لأناس ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة من الله تعالى قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟. قال: هم قوم تحابوا بروح الله بينهم على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس».
ويؤصل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة ويؤكدها فيجعل تعامل المؤمن تعاملا مباشرًا مع الله، الناس في هذا التعامل صورة ظاهرة أما حقيقة فهو تعامل مباشر مع الله والله تعالى فيقول: «إن الله يقول يوم القيامة.
يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟
قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟. يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلا فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ .... يا ابن آدم استقيتك فلم تسقني قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقيتك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك ولو سقيته لوجدت ذلك عندي؟»
إن ارتباط الضمير الإنساني بالله، هو الأساس الأول في أي تربية خلقية ناجحة عميقة الجذور ويقتضي كما سبق بيانه في بداية هذا الفصل أن تتخذ عقيدة التوحيد قاعدة أساسية للتربية الفردية أو الاجتماعية في سبيل قيام مجتمع متكافل: وهذا الأساس لا يحقق لنا مصلحة اجتماعية فحسب، ولا مصلحة قومية فحسب، بل كذلك يحقق غاية إنسانية أبعد من تتسم بالرغبة في إرضاء الله وحده والتضحية بالغالي والرخيص ابتغاء وجهة الكريم.
وحين نقيم هذا الأساس الأول، حين نربط الفرد بربه، ونربط سلوكه بتقوى الله ورجائه، حينئذ سيسهل علينا أن نغرس في هذا الضمير كافة المشاعر التي يقوم عليها التكافل والتماسك الاجتماعي، وأن نقود الفرد إلى سلوك اجتماعي يؤدي إلى تلك الغاية، فإذا جاء التشريع بعد ذلك ليقيم الأساس العملي للتكافل وجد طريقه إلى النفس البشرية مفتوحا وطريقه في الحياة الواقعية ممهدًا.
أما الوسائل العملية في محاولة التربية الخلقية فهي كثيرة ولكنها كلها ينبغي أن ترجع إلى لك الأساس الأول.
إن هذه الوسائل يجب أن تتجه إلى تكوين عادات اجتماعية إسلامية، عن طريق الإيحاء والقدوة والسلوك العملي، فالعادة ضرورية لتثبيت الاتجاه الشعوري, كثيرا ما تكون هذه هي الوسيلة المضمونة لتحقيق هدف التربية الخلقية.
والمنهج القرآني عندما يلجأ إلى «العادة» كوسيلة لتحويل المشاعر الوجدانية الكريمة نحو الآخرين إلى اتجاهات ثابتة، يحافظ على حيوية هذه المشاعر الوجدانية ويحرص على يقظتها وحضورها مع الاستجابة العملية وذلك باستحضار النية دائما في كل عمل من أعمال التعاطف الإنساني لقول الرسول الكريم «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
قاعدة العدل
يدعو الإسلام أهله أن يكونوا أمناء على تحقيق العدل في الأرض كلها ومنع الجور، ورد الطغيان تحقيقا لأمر الله فحيثما كان ظلم وكان بغى فالمسلمون منتدبون لدفعه ورفعه، دون نظر إلى من وقع منه الظلم والبغي في أي صورة وتحت أي شعار وعنوان سواء أكان ظلم فرد لفرد، أو ظلم فرد لجماعة، أم ظلم جماعة لفرد، أم ظلم جماعة لجماعة، كله سواء لأن الناس كلهم سواء.
فشرط الله على الأمة المسلمة حين ينصرها الله ويمكن لها في الأرض وتتولى قيادة البشرية أن تقوم بفريضة العدل، فهو تمكين مشروط بهذا الشرط، ونصر ملازم لانتصار الحق وحماية العدل فإذا قصرت في هذه الفريضة وأخلت بهذا الشرط فقد فقدت مقوما رئيسيا في تمكينها وقيادتها أمر الدنيا بعدل قامت، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم «ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم، فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة» (122)
فكما أن المنهج القرآني حريص في عمله على إقامة المجتمع المسلم على قاعدة التكافل.. نجده في نفس الوقت حريصا على إمداده بالمبادئ التي تكفل تماسكه واطمئنان أفراده فأمر بالعدل الذي يضمن لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل لا تميل مع الهوى ولا تتأثر بالود والبغض ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغنى والفقر والقوة والضعف فليس أخطر على المجتمعات من أن يحتكم الناس فيها إلى شريعة الهوى وأن يكون الحيف والجور هو قاعدة التعامل بين أفرادها.
خطوات التربية
ومنهج القرآن الكريم في إرساء قواعد العدل في المجتمع منهج تربوي يربي الأمة على الإيمان بالعدل إيمانا يجعله في قلب المؤمن في مستوى العقيدة فالعدل أولا هو شريعة الكون وأساس نظامه: «والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان» (123)
وبهذا يجعل العدل في المجتمع جزءا لا ينفصل عن العدل الذي يقوم عليه نظام الكون.
ورسالات السماء جميعا كان هدفها إقامة العدل بين الناس: «لقد أرسلنا رسلنا بالبيان وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط» (124)
يقول الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه «إعلام الموقعين»: (إن الله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فهم شرع الله ودينه...
(إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة لكها، ومصالح كلها، وحكمة كله، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليس من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وصدقها).
والعدل، إحدى قيم الإسلام التي تنبع أساسًا من الإيمان وقيم الإسلام كما جاء بها القرآن الكريم ليست أخلاقًا مفردة أو مجردة ولا آداباً للسلوك متغيرة أو متطورة إنما هي قيم ثابتة موحدة تتبع من العقيدة وترتفع في ضمير المؤمن إلى مستوى الإيمان ففي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: «قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا غيرك قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» والاستقامة خلق وسلوك يجمع الإيمان والعمل الصالح، وهو استقامة كل ما يخالج نفس المسلم وما يصدر عنه من أقوال وأعمال ولهذا فسرت «الاستقامة» على أنها ثبات جميع الطاقات والنزعات على حدودها بالأمر والنهي آخذا من قوله تعالى: «فاستقم كما أمرت»... وهذه الاستقامة يجمعها خلق العدالة.
ومن هنا كانت النظرة إلى العدل كقيمة مجردة في معزل عن الإيمان بعيدا عن مهج الحركة في إقامة المجتمع، خطأ منهجيًا في ميزان القرآن الكريم وفي ميزان السيرة، فقيم الحياة في القرآن وفي السنة تنبع أساسًا من العقيدة وترتبط بها برباط وثيق، فالإيمان هو الباعث الأساسي لخلق المسلم، والدافع الحقيقي لسلوكه، والرقيب القائم على ضميره، وهو بعد ذلك الضمان الأكيد لسلامة تطبيق التشريع في واقع الحياة.
جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست (محيت) ليست عندهما بينة فقال: إنكم تختصمون إلى وإنما أنا بشر، ولعل بعضهم يكون ألحن بحجته من بعضن وإنما أقضي بينكم بما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظامًا في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم ليحلل كل منكما صاحبه.
والعدالة عندما تصبح حالة راسخة في نفس المسلم وعادة تسير أعمال صاحبها على مقتضاها بصفة مطردة تمنع من قامت به من اقتراف الكبائر.
وكمال العدالة لا يتم إلا إذا اجتمعت لصاحبها خصلة المروءة، وهي استكمال صفات الرجولة الكاملة، وخير تفسير لها أن لا تفعل في سرك ما تستحي أن نفعله جهرًا، وفسرها الفقهاء بأنها تجنب ما في فعله خسة تغض من فاعله وتذمه عند الناس وقد جمع بين العدالة والمروءة حديث يقول: «من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو من كملت مروءتهم وظهرت عدالته ووجبت أخوته».
والإنصاف من النفس من أجل مظاهر الخلق الكريم وأدلها على رسوخ محبة العدل في الضمير والإنصاف هو إعطاء حق الغير طوعًا يقال أنصف: إذا أعطى حقا عليه طوعًا «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم» (125) وهو داخل في عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يجب لأخيه لا ما يحب لنفسه» و «الكيس من دان نفسه» أي حكم عليها وحده وحاسبها وبين لنفسه تقصيرها.
وقد فسر القاضي ابن العربي العدل في قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فوضعه في مستويات تبدأ من داخل النفس لتنتهي كقاعدة للتعامل بين الناس في المجتمع.. يقول:
«العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواج والامتثال للأوامر.
«وأما العدل بينه وبين نفسه: فمنعها مما فيه هلاكها وقال تعالى:
«ونهي النفس عن الهوى وعزوف الأطماع عن الاتباع ولزوم القناعة في كل حال ومعنى.
«وأما العدل بينه وبين الخلق: فبذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل وكثر والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا فيعلن والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى... (126)
«إن الله أراد أن تنشأ العفة من داخل النفس أولا، فينصرف الإنسان عن المعاصي وهو في خلوته لا يعطي عليه أحد من الناس ويشعر بأن ربه معه أينما كان مطلع على أعماله لا تخفى عليه خافية...
«وإحياء روح الإنسان وضميره وتزكية نفسه، وتطهير قلبه واجب أول في الإسلام عليه أكثر المعول في أن يسلك الإنسان سلوكًا حسنًا في الجماعة التي يعيش فيها (127)
وقد يبدو أن هناك أناسًا ليسوا مؤمنين يتمسكون بالفضيلة ويتحلون بكريم الأخلاق، ويلتزمون في الحياة سلوكًا حميدًا، وقد يكون في ذلك بعض الحق، ولكنه ليس كل الحق، فأولئك إن وجدوا فهم قلة نادرة، ولو أنهم كانوا مؤمنين لسمت أخلاقهم فوق ذلك درجات ذلك في الأفراد أما الأمم فإن المجتمعات الظاهرة في التقدم المدني والصناعي يصبح الخلق فيها آدابا للسلوك كنوع من تنظيم الحياة فترى دولا تعدل وتصدق فيما بينها ولكنها تظلم وتكذب مع غيرها من الشعوب وكم سمعنا بالحرية والعدل في فرنسا وبالصدق والأمانة في بريطانيا ورعاية حقوق الإنسان في أمريكا، ثم أرينا بأعيننا ولمسنا بأيدينا مدى خروج هذه الدول على تلك الأخلاق مع من وقع في براثن استعمارهم من الشعور إن الخلق حين لا ينبع من العقيدة ولا يرتبط بها يتبع الهوى حتما ويخضع للمصلحة العاجلة ويتلون بتلون الظروف والأحداث، أما أخلاق القرآن فلها وازع العقيدة وضوابط الإيمان.
فأين لولا الإيمان –من يعدل في الرضا والغضب وفي الحب والبغض، وأين لولا الإيمان – من يفي للقرب والبعيد وللعدو والصديق وأين – لولا الإيمان من يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة.
في فتح خبير جاء رجل من زعماء يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ما لم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ونادى للصلاة فاجتمع المسلمون وصلى بهم ثم قام فقال: «أيحسب أحدكم متكئا على أريكته أن الله لم يحرم شيئًا إلا ما في القرآن؟ ألا إني والله لقد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء أنها لمثل القرآن ألا إنه لا يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم. وتم العهد بين المسلمين ويهود خيبر على أن يبقوا في أرضهم ويؤدوا نصف ثمارها وذهب عبد الله بن رواحه ليتسلم منهم نصف الثمار، فأرادوا أن يرشوه ليقلل من نصيب المسلمين فقال: تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلى، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنتم أبغض الناس إلى ... ولا يحملني بغضي إياكم على أن لا أعدل فيكم فقالت يهود: بهذا قامت السماوات والأرض...
على هذا العدل قام المجتمع الإسلامي الأول، عرف كل فرد فيه قدره وأحس بمسئوليته وحاسب نفسه، وراقب الله في أعماله وأحب للناس ما يحبه لنفسه وكره لهم يكرهه لها وكانت قيادته أشد إحساسا بالمسئولية وتقديرا للتبعية ونفورا من الظلم وشعورا بالمساواة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهاية حياته وفي مرض وفاته يقوم في الناس ليعلنها عدالة مطلقة تنبع من داخل النفس لتعم بخيرها الجماعة كلها فيقول: «... من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقدمنه ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرض فليستقدمنه، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فلتسقد منه، لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني ألا، وإن أحبكم إلى من أخذ حقا كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم. قال أما إنا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه فيم صارت لك عندي؟ قال: تذكر يوم مربك مسكين فأمرتني أن أدفعها إليه، فقال ادفعها إليه يا فضل».
وحينما حاول الإسلام أن يحقق العدل في المجتمع ارتفع به عن أن يكون عدلا اقتصاديا محدودًا وأن يكون التكلف وحده هو الذي يكفله فجعله عدلا إنسانيا شاملا وأقامه على ركنين قويين: الضمير البشري من داخل النفس والتكليف القانوني في محيط المجتمع وزاوج بين هذه القوة وتلك مثيرا في الوجدان الإنساني أعمق انفعالاته غير غافل عن ضعف الإنسان وحاجته إلى الوازع الخارجي كما يقول الخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان «يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن.
لقد أولى الإسلام ثقته بالضمير البشري بعد تهذيبه فأقامه حارسا على التشريعات ينفذها ويرعاها، وجعل تنفيذ الكثير منها في ضمانته، وفي الوقت نفسه لم يدع هذا الضمير لذاته وهو يدعوه لسمو فوق ما يوجبه التشريع والتكليف. لقد أقام عليه رقيبا من خشية الله يقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إذ يكن غنيا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعلمون خبيرا» (128)
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينًا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل فلا يعدلوا عنه يمينًا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين فيه اشهد الحق ولو عاد ضرر الشهادة عليك: وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجًا من كل أمر يضيق عليه وقوله: «أو الوالدين والأقربين» أي وإن كانت الشهادة على والديك وقاربتك فلا تراعهم فيها، بل أشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم فإن الحق حاكم على كل أحد وقوله: «إن يكن غنيا أو فقيرًا فالله أولى بهما أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره فالله يتولاهما بل هو أولى بهما منك واعلم بما فيه صلاحهما وقوله: «فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا» أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشئونكم، بل الزموا العدل في كل حال»
وجاء التصريح القرآني جليًا واضحًا في نهي المسلم عن الوقوع في الظلم تدفعه إلى ذلك مشاعر الكراهية والعداوة: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى» (129).
وهذا التكليف شاق في تطبيقه على النفوس البشرية لا يحس مشقته إلا من ذاق مراراته، ولقد تعرض المسلمون لتجربة التطبيق التربوية وهم منصرفون من الحديبية إذ سنحت لهم فرصة الانتقام من بعض مشركي مكة، وحدث بعض المسلمين بعضهم بعضًا في هذا الانتقام فردهم الله تعالى إلى الحقيقة التي كادوا ينحرفون عنها.. وهم ميزان الله بين الناس رباهم في حجر رسوله على القيمة الثابتة قيمة العدل الخالص المطلق الذي لا يتأثر ببغض ولا عداء فنزل قوله تعالى: «ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدروكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب» (130).
وجاء في حديث قدسي يرويه الرسول الكريم عن الله يقول: «يا عبادي إني حرمت الظلم عن نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا»
ولقد كان العصبية الجاهلية هي الأصل عند مشركي العرب، الذي تنبثق منه القيم، والأساس التي يقوم عليه السلوك فكانت شريعتها في قولهم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» وهي شريعة العصبية الصارخة التي لا تعرف حقًا وعدلا فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فعدلها وجعلها من شريعة الإسلام، ومن موازين العدل، ومن أسباب حمايته في المجتمع فقال: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا... قيل يا رسول الله، هذه نصرته مظلومًا، فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه» رواه البخاري.
وحين اتهمت المرأة بالمخزومية بالسرقة، حاول قومها أن يتلمسوا لها «واسطة» لإعفائها من إقامة الحد عليها خشية العار لأنهم أي بني مخزوم في الندوة من قريش، فقالوا نكلم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بين زيد ليكلمه فلما توسط أسامة غضب الرسول، وقال: «ويحك يا أسامة أتكلمني في حد من حدود الله؟» .. وخطب في الناس في المسجد فقال: «إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بينت محمد سرقت لقطعت يدها- رواه البخاري (131)
الشريعة .. وقواعد التكافل والعدل
حرية التملك
يقرر الإسلام حق الملكية الفردية للمال بوسائل التملك المشروعة...
وإنما يقرر الإسلام حق الملكية الفردية ليحقق العدل بين الجهد والجزاء، فوق أنه بذلك يساير الفطرة ويلبي الميول الأصيلة في النفس البشرية تلك الميول التي يحسب لها المنهج الإسلامي كل حساب في إقامة نظام المجتمع فوق ما يحقق من العزة والكرامة والاستقلال ونمو الشخصية بحيث يصلحون أن يكونوا أمناء على هذا الدين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحاسبون السلطة الحاكمة وينصحونها دون خوف من القطاع أرزاقهم لو كانت تحت سطوتها وفي يديها.
والعدل يقتضي أن يلبي النظام أشواق الفرد ويرضي ميوله –في الحدود التي لا تضر الجماعة –جزاء ما بذل هذا الفرد من طاقته وجهده وعرق جبينه وكدح فكره وكد أعصابه، فالعدل أكبر قواعد الإسلام يعم خيره الفرد والجماعة على السواء...
وإذا كان الإسلام قد أعطى الإنسان حرية التملك من الطريق الذي شرع له، ولم يلجا إلى تحديد التملك بالكم كما تفعل الاشتراكيات وإنما حددها بالكيف بأن بين الأسلوب المشروع للتملك عن طريق العمل والإرث، وإعطاء الدولة من أموالها للرعية، والعقود الناقلة للملكية كالبيع والهبة، وانتقال المال من فرد إلى فرد من غير مقابل كالوصية... إلخ
هذا وقد حرم الإسلام التملك من طريق غير مشروع كالقمار «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصار والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) (132) والربا مهما كانت نسبته ومهما كان شكله أو مسمياته وأنواعه فهو حرام لا يجوز التملك عن طريقه قال تعالى: «أحل الله البيع وحرم الربا» (133) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» رواه البخاري.
والغبن الفاحش وهو الخداع في البيع بأن يبيع الشيء بأكثر مما يساوي أو بأقل مما يساوي حرام، قال : «إذا بايعت فقل لا خلابة متفق عليه والخلابة الخداع، والتدليس في البيع بأن يكتم البائع العيب الذي في السلعة على المشتري مع علمه به أو يغطي العيب عنده بما يوهم المشتري أن السلعة سليمة من العيوب أو يعرض السلعة بإظهار أنها حسنة كلها وهذا كله حرام قال : «من غش فليس منا»و «البيعتان بالخيار ما لم يتفرقا، وبينا بورك لها من بيعهما وإن كتما وكذبا محقق بركة بيعها».
وحرم الإسلام كذلك أكل السحت من المال، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت أن يبيع ما حرمه الله كالخنزير والخمر، وتعاطي الرشوة.
وحرم كذلك الاحتكار مطلقًا: «المحتكر ملعون والجالب مرزوق، فالاحتكار وسيلة غير مشروعة للكسب في أي نوع من الأنواع الطعام والأشياء من غير فوق بين قوة وغيره، كماليًا أو غير كمالي لأن معنى الاحتكار عام، والأحاديث النبوية جاءت مطلقة، وما ورد مخصصًا فلبيان بعض أنواع ما يحتكر فيه، لمصلحة الجماعة.
فإذا حدد الإسلام وسائل الكسب الحلال، وبين وسائل الكسب الحرام، وتقيد المسلم بهذا تبين لنا أن التفاوت في الثروات يقل والاستغلال يمتنع فالمنهج الإسلامي في التملك حل عدل بين الشيوعية التي تمنعه مطلقا والرأسمالي التي تبيحه من أي طريق كان.
وقد قيد الإسلام كل أشكال التعامل بالتراضي، إذ أنه الركن الأول لجميع المبادلات والأصل فيه قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضي منكم» (134) ... كما قيد الإسلام التملك بعدم الاعتداء على مال الغير وأخذه من مالكه بغير حق وأن لا يكون فيه إضرار بالآخرين.
فالإسلام وهو يقرر حق الملكية الفردية يقرر في الوقت نفسه أن الفرد أشبه شيء بالوكيل في هذا المال عن الجماعة، وأن حيازته له إنما هي وظيفة أكثر منه امتلاكا وأن المال في عمومه إنما هو أصلا حق للجماعة والجماعة مستخلفة فيه عن الله الذي لا مالك لشيء سواه، والملكية الفردية تنشأ من بذل الفرد جهدًا خاصا لحيازة شيء معين من هذه الملكية العامة التي استخلف الله فيها جنس الإنسان.
فريضة الزكاة
الزكاة هي الركن الاجتماعي البارز من أركان الإسلام...
والزكاة تعني الطهارة والنماء فهي طهارة للنفس بأداء الحق المفروض، وطهارة لها من فطرة الشح وغريزة حب الذات، وهي طهارة للمال بأداء حقه وصيرورته بعد ذلك حلالا...
والزكاة حق الجماعة عند الفرد لتضمن لطوائف منها الكفاية حينا وشيئا من المتاع بعد الكفاف حينًا آخر.. ذلك أن الإسلام يكره للناس الفقر والحاجة ويكره أن تكون الفوارق بين أفراد الأمة بحيث تعيش منها جماعة في الترف وتعيش أخرى في الشظف والحرمان والأمة التي تكون على هذه الحال تفقد ضفة الإيمان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله» (135) و «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»...يكره الإسلام هذه الفوارق لما وراءها من أحقاد أضعاف تحكم أركان المجتمع؛ ولما فيها من أثرة وجشع وقسوة تفسد النفس والضمير، ولما قد تؤدي بالمحتاجين: إما إلى السرقة والغصب وإما إلى الذل وبيع الشرف والكرامة.. وكلها منحدرات يتجافى الإسلام بالجماعة عنها.
ويكره الإسلام أن يكون المال دولة بين الأغنياء في الأمة، وألا نجد الكثرة ما تنفق لأن ينتهي إلى تجميد الحياة والعمل والإنتاج في الأمة.
لهذه المعاني جميعًا شرع الله الزكاة وجعلها فريضة، وحقًا لمستحقيها، لا تفضلا من مخرجيها فالمال مال الله وملكية البشر له ملكية خلفاء لا أصلاء، فما يعطونهم هذا المال من ملكهم ولكنهم يعطونهم من مال الله وهم فيه وسطاء قال تعالى: «آمنوا بالله ورسوله، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه» (136) وقال: «وأتوهم من مال الله الذي آتاكم» (137)
أما المستحقون فهم كما حددتهم الآية الكريمة في سورة التوبة «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم».
- الفقراء: وهم الذين يملكون أقل من النصاب ويقدر بعشرين مثقالا تقدر بحسب القوة الشرائية للعملة والإسلام يريد أن ينال الناس كفايتهم ليتحقق لهم العيش الكريم.
- والمساكين: وهم الذين لا يملكون شيئا وهم بطبيعة الحال أجدر بالعطاء من الفقراء وجاء ذكر الفقراء قبلهم في الآية يرمي إلى أن وجود شيء قليل للفقراء لا يكفي فكأنهم كالمساكين، لأن هدف الإسلام ليس مجرد الكفاف الضروري، ولكن شيء فوق الكفاف.
- والعاملين عليها: وهم القائمون على جمعها يعطون جزاء العمل.
- والمؤلفة قلوبهم: وهم من كانوا قد دخلوا في الإسلام حديثًا، لتقوية واجتذاب من عداهم، ولكن هذا المصرف قد أقفل بعد أن أعز الله الإسلام عقب حروب الردة في خلافة الصديق.
- وفي الرقاب: وهم الأرقاء المكاتبون يستردون حريتهم نظير قدر من المال متفق عليه مع مالكيهم تيسيرا لهم لينالوا حريتهم.
- والغارمين: وهم الذين استغرق الدين ثروتهم، وعلى ألا يكون هذا الدين بسبب إنفاق في معصية أو معيشة مترفة وإعطاء هؤلاء حصة من الزكاة لسداد ديونهم فيه إعانة لهم على الحياة العزيزة في ظل المجتمع الإسلامي وفيه تخليص لنفوسهم من عذاب الدين وهمومه.
- وفي سبيل الله وهو مصرف عام تحدده الظروف، ومنه تجهيز المجاهدين وعلاج المرضى وتعليم العاجزين عن التعليم، وسائر ما تختص به مصلحة للمجتمع المسلم، والتصرف في هذا الباب يتسع لكل عمل اجتماعي في مختلف البيئات والظروف.
- وابن السبيل: وهو المنقطع عن ماله الذي لا يجد ما ينفق كالمهاجرين في وقت الحروب والغارات والاضطهاد الذين تركوا أموالهم في مواطنهم ولا سبيل لهم إلى هذه الأموال.
والإسلام لا يعطي هذه الطوائف حقها في الزكاة إلا بعد أن تستفد وسائلها الخاصة في الكسب، فالمنهج الإسلامي حريص على الكرامة الإنسانية لذلك حث على الاستغناء عن طريق العمل، وجعل من واجب جماعة المسلمين أن تهيئ العمل لكل فرد فيها فقد جاء سائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستجديه، فأعطاه درهما وأمره أن يشتري به حبلا ليحتطب به فيعيش من عمل يده، وقال: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه».
إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن من الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته.
وقد بهتت صورة الزكاة، في حسنا وحس الأجيال التعيسة التي لم تشهد تطبيقا لنظام الإسلام الذي يقوم على أساس الإيمان والتربية الإيمانية والأخلاق الإيمانية فيصوغ النفس البشرية صياغة نظيفة ويجعل الزكاة قاعدة هذا النظام التي تدفع الحياة إلى النماء والاقتصاد إلا الارتقاء عن طريق الجهد الفردي والتعاون الخالص، في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة المادية الربوية، والفردية والأثرة التي تحكم ضمائر الناس.
لقد بهتت صورة الزكاة حتى أصبحت أجيالنا تحسبها إحسانا فرديًا هزيلا لا ينهض على أساسه نظام عصري فكم هي ضخمة حصيلة الزكاة وهي تتناول اثنين ونصفا في المائة من رؤوس الأموال ويؤديها الناس الذين يربيهم الإسلام تربية خاصة بالتوجيه والتشريع وتجعلها الدولة المسلمة حقًا مفروضًا لا إحسانا فرديا، وتكفل بها كل من تقصر به وسائله الخاصة من الجماعة المسلمة حيث يشعر كل فرد أن حياته وحياة أولاده مكفولة في كل حاله، وحيث يقضي على الغارم المدين دينه من حصيلة الزكاة (138)
الميراث
جاءت الآية 11 من سورة النساء تفصل أحكام الإرث وتبين نصيب كل وارث من الأصول والفروع وقد أكملت أحكام الإرث بالآية 12 من السورة نفسها، وبالآية 176 وهي آخر آية من السورة.
-وقد فصل سبحانه نصيب الفروع من أصلهم بقوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم...
- وفصل نصيب الأبوين من ولدهما بقوله تعالى ولأبوية لكل واحد منهما السدس مما ترك...»
- وفصل نصيب أحد الزوجين من الآخر بقوله تعالى: «ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد»
- وفص نصيب الأخوة والأخوات لأم بقوله تعالى: «إن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت ....»
- وفصل نصيب الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب بقوله تعالى: «يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك..» (139)
وقد أفاض الفقهاء في ترتيب المستحقين للتركة بعد الديون والوصايا، وفي بيان أحوال أصحاب الفروض على التفصيل وفي الإرث بالتعصيب وإرث ذوي الأرحام.. إلى آخر هذه الأحكام.
ويلاحظ في نظام الإرث في شريعة الإسلام، أنه يحقق:
العدالة في الجهد والجزاء
جاءت شريعة الله في الميراث لتجعله –في الأصل- حقًا لذوي القربة حسب مراتبهم وأنصبتهم كما بينتها آيات القرآن الكريم والسنة المطهرة...
وذلك تمشيًا مع نظرية الإسلام في التكافل والعدل بين أفراد الأسرة الواحدة، وفي التكافل الإنساني العام. وحسب قاعدة الغنم بالغرم.. فالقريب مكلف إعالة قريبة إذا احتاج والتضامن معه في دفع الديات عند القتل والتعويض عند الجرح، فعدل إذن أن يرثه إن ترك مالا –بحسب درجة قرابته وتكليفه، والإسلام نظام متكامل متناسق ويبدو تكامله وتناسقه واضحًا في توزيع الحقوق والواجبات.
إن قاعدة هذا النظام هي التكافل والعدل ... ولكي يقوم هذا التكافل على أسس وطيدة راعى أن يقوم على أساس الميول الفطرية الثابتة في النفس البشرية، وهذه الميول التي لم يخلقها الله عبثًا في الفطرة، إنما خلقها لتؤدي دورًا في الحياة الإنسانية.
ولما كانت روابط الأسرة القريب والبعيدة روابط فطرية حقيقية، لم يصطنعها جيل من الأجيال ولا مجتمع من المجتمعات فقد جعل الإسلام التكافل في محيط الأسرة هو حجر الأساس في بناء التكافل الإسلامي العام وجعل الإرث مظهرًا من مظاهر ذلك التكافل في محيط الأسرة، فوق ماله من وظائف أخرى في النظام الاقتصادي والاجتماعي العام.
فشعور الفرد بأن جهده الشخصي سيعود أثره على ذوي قرابته –وبخاصة ذريته- يحفزه إلى مضاعفة الجهد، فيكون نتاجه للجماعة عن طريق غير مباشر لأن الإسلام لا يقيم الفواصل بين الفرد والجماعة، فكل ما يملك الفرد هو في النهاية ملك للجماعة كلها عندما تحتاج.
ثم إن العلاقة بين المورث وبخاصة الذرية ليست مقصورة على المال، فإذا نحن قطعنا وراثة المال، فما نحن بمستطيعين أن نقطع الوشائج الأخرى والوراثات الأخرى بينهما.
إن الوالدين والأجداد والأقرباء عامة، لا يرثون أبناءهم وأحفادهم وأقاربهم المال وحده، إنما يورثونهم كذلك الاستعدادات الخيرة والشريرة، والاستعدادات الوراثية للصحة والمرض، والانحراف والاستقامة والحسن والقبح والذكاء والغباء إلخ. وهذه الصفات تلاحق الوارثين وتؤثر في حياتهم ولا تتركهم أبدًا فمن العدل إذن أن يورثوهم المال...
من أجل هذه الواقعيات الفطرية والعملية في الحياة البشرية ومن أجل غيرها وهو كثير من المصالح الاجتماعية شرع الله قاعدة الإرث.
• كفالة حق المرأة: يقول تعالى: «للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا» فكانوا في الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصبية
في الغالب – إلا التافه القليل لأن الجاهلية كانت تنظر إلى الأفراد حسب قيمتهم العملية في الحرب والإنتاج أما الإسلام فجاء بمنهجه الرباني، ينظر إلى «الإنسان» أولا حسب قيمته الإنسانية وهي القيمة الأساسية التي لا تفارقه في حال من الأحوال فقرر أن النساء كالرجال لكل منهم نصيب مفروض في تركه من مات من والديهم وأقاربهم قليلها وكثيرها.
وهذا وقد نهي اله في هذه السورة عن كثير من مظاهر العسف الواقع على المرأة في الجاهلية قال تعالى: «لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن» وقال تعالى «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة».
وإذا كان الله قد جعل «للذكر مثل حظ الأنثيين فليس الأمر أمر محاباة لجنس على حساب جنس، إنما الأمر أمر توازن وعدل بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي: فالرجل يتزوج امرأة ويكلف بإعالتها وإعالة أبناءها منه في كل حالة، وهي معه وهي مطلقة منه. أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط، وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء، وليست مكلفة نفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال ... فالرجل مكلف على الأقل ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي ومن ثم يبدو العدل، كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في التوزيع الحكيم، ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى، وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسري لا تستقيم معها حياة!
ولا ريب بعد ذلك في أن هذا التوزيع الحكيم وما اشتمل عليه من حساب دقيق يلفت الأنظار إلى ما يربي عليه الإسلام أبناءه من تحر للعدل وتجويد للعلم حتى يتحقق هذا التوزيع لذلك اشتهر من بين المسلمين من تخصص في الأنصبة المواريث «بما توفر فيهم من عقليات رياضية وفقهية ولا يخفى أن نزول الوحي بآيات تتناول الحساب والأرقام ويتوالى فيها ذكر النسب والكسور، وتضمنت هذا كتابا يتعبد المسلمون بتلاوته، من الدلائل الكبرى على شمول هذا الدين للعقل والعدل والواقع وإتاحته المسلم نظرية بصيرة وأفقا واسعا ونفسا سوية مطمئنة في تعامل مع طيبات الحياة وواقع الأحداث..
الوصية
عن سعيد بن أبي وقاص أنه كان مريضا فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أأوصي بكل مالي؟ قال: لا قال أأوصي بالثلثين؟ قال: لا قال أأوصي بالنصف؟ قال: لا قال: أأوصي بالثلث؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم يتكففون الناس. وفي هذا وفاء بالحق الخاص: حق الأسرة كوحدة اجتماعية تقوم على التعاون والتكافل، وفي الوقت نفسه وفاء بالحق العام: بما لا يحيف بأحد الحقين إذ أن النفع المرجو من وراء كليهما عائد على الناحية الأخرى.
ويشترط ألا يكون الموصي له وارثا للموصى للحديث: «لا وصية لوارث إلا إذا أجازها الورثة» وعللوا ذلك بأن إيثار بعض الورثة على بعض فيه تحايل على زيادة النصيب الذي فرض الله له بما يطفف نصيب الغير، وهذا يتنافى مع العدل أولا، ويهدد سلامة وحدة الأسرة بما يجره من أحقاد ثانيا.
وهناك نوع من الرعاية تدخل في نطاق الشريعة نص عليها القانون المصري للأطفال الذين يموت أحد أبويهم في حياة أبيه أو أمه، وذلك أنه لوحظ أن الأطفال الذين يموت أبوهم في حياة أبويه يحرمون من ميراث جديهم، فيكونون في حال ضعف وحاجة إلى المال بينما أعمامهم وأخوالهم في حال يسر واضح بما آل إليهم من مال أحد أجدادهم، وقد كان الأب أو الأم بتوجيه أهل الخير من المتصلين بالأسرة يعطي أولاد ابنه المتوفى قدرا من ماله يكون قريبا مما كان يستحق أبوهم وقد يمتنع الكثيرون من ذلك فأوجب لهم القانون المصري الوصية بمقدار ما يرثه المتوفى بشرط ألا يزيد عن الثلث استنادا إلى رأي لبعض الفقهاء والأصل القرآني الذي يقول: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين».
هكذا كان التكافل والعدل وحسن التعامل من قوام الحياة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام الحنيف فماذا فعلت المطامع والأهواء والنظم الأرضية المادية التي طلعت بها أوروبا على الناس يوم أن انتهت إليها وإلى حكماء صهيون قيادة البشرية؟
لقد بدلت نعمة الله كفرا وأحلت التنافر والتخاصم محل هذا التكافل والتعاون في البيوت اتهمت المرأة أنها إن عاشت في كنف الرجل وفي وفاق معه فقدت شخصيتها وقضت على حريتها فثارت المرأة على هذا الذي لا يمكن عقلا وعملا أن تسعد بغيره، والتمست سعادتها في المعامل والمصانع، والملاهي والمفاتن، وتمثلت الرجل عدوا يغتصب حقوقها ويعتدي على كيانها، فتمردت عليه حليلا يرعى حقها ويؤدي واجبه نحوها، ولكنها لم تستغن عنه فأسلمت نفسها إلى خليلا يعبث بها وتعبث به.
«وبدلت نعمة الله كفرا، وأحلت التنافر والتخاصم محل هذا التكافل والتعاون في الشعوب والمجتمعات فأمتد للغني في أسباب الجشع والطمع والثروة والمتع، ثم أفهمت الفقير أنه مظلوم مهضوم وأن الغني يمتص دمه ويثري على حساب مجهوده فأشعلت بذلك نيران الحرب بين الطبقات؛ وغذتها بما وضعت وأنشأت من نظم وتشريعات أو قوانين ونقابات، تنتصر للفقراء إذا اشتعلت ثورتهم وتمالئ الأغنياء إذا عظمت رشوتهم، وتتذبذب بين هؤلاء وأولئك إذا أظلمت السبل واختلطت المسالك حتى ينتهي الأمر إلى ثورات جامحة ونفوس طامحة تعصف بالنظم والأوضاع جميعًا.
«وبدلت نعمة الله كفرا وأحلت التنافر والتخاصم، محل هذا التكافل والتعاون في الدول والحكومات، فاقترضت الحكومة حزبًا يلتمس لنفسه المغانم ويسوق إلى مناصريه ومؤيديه المنافع كما يجر على معارضيه المغارم، وأقامت من الأمة قسما آخر ينظر إلى الحكومة نظر الطير إلى الصائد لا نظر الجندي إلى القائد ويرى كل ما يصدر عنها بعين الساخط الناقد لا الناصح المساعد، ويتربص بها الدوائر تطلعا إلى كرس الحكم وحرصا على ما يدره من فائدة وغنم، واعتبرت هذا الوضع الفاسد أساسًا للديمقراطية، ومظهرًا للحرية وما هو إلا قضاء على الوحدة وتمزيق الكلمة.
«فيا أيها الذين تحاولون أن تقيموا عالم الغد، حذار أن تقيموه على هذه الأسس الواهية فتزل قدم بعد ثبوتها ويأتي الله بنيانكم من القواعد، فيخر عليكم السقف من فوقكم فتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكن هلموا إلى هدى الله ووحي السماء، ففيه النور والضياء والسعادة والشفاء (140)
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم).
الخاصية الثامنة التميز
ثمرة التربية القرآنية
من أخص خصائص التربية القرآنية أنها تؤصل روح التميز التام للأمة المسلمة في القول والعمل وكل نواحي السلوك.. تميزا يبتعد بها عن كل تشبه بغيرها من الأمم المخالفة لها في العقيدة والخلق والاتجاه في كل شأن يمس وجودها المتفرد وأوضاعها الاجتماعية وطابع شخصيتها العامة...
إن الشعور بالتميز يصون في الأمة مقومات وجودها، ويقيم لها كيانًا راسخا صلبًا، لا يعتريه تصدع أو ينفذ إليه ضعف أو خلل مادام هذا الشعور مستندا إلى الحق، منبثقا من جوهر العقيدة وأصولها الثابتة، متصلا بالشريعة وأحكامها بأوثق صلة...
والشعور بالتميز في آثاره الفكرية والنفسية يؤصل ويعمق ما ينبغي أن يكون عليه المسلم في كراهية للكفر والشرك ونفور منه، وتباعد عن طريقه المنحرف وسيره الشاذ وأهدافه الهابطة...
- فالمسلم الحق يتميز بعلوه.. سندًا ومصدرًا، فمن الله يتلقى وإليه سبحانه يرجع وعلى منهجه يسير.
- والمسلم الحق يتميز بعلوه إدراكا وتصورًا لحقيقة الوجود.
- والسلم الحق يتميز بعلوه .. تصورا للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والأحداث والأشياء والأشخاص.
- المسلم الحق يتميز بعلوه.. ضميرا وشعورًا، وخلقا وسلوكا.
تميز المسلم في أهدافه وغاياته:
إن الهدف الأخير للتربية القرآنية هو إعطاء الجماعة المسلمة خصائص الأمة المستخلفة وشخصيتها المستقلة بقبلتها وبشرائعها المصدقة لشرائع الديانات السماوية قبلها والمهيمنة عليها وبمنهجها الجامع الشامل المتميز كذلك وقبل كل شيء بتصورها الخاص للوجود والحياة، ولحقيقة ارتباطاتها بربها ولوظيفتها في الأرض، ما تقتضيه هذه الوظيفة من تكاليف في النفس والمال، وفي الشعور والسلوك، ومن بذلك وتضحية وتهيؤ للطاعة المطلقة للقيادة الإلهية المتمثلة في تعليمات القرآن الكريم، وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي ذلك كله بالاستسلام والرضى، وبالثقة واليقين. إن المسلم الحق إنسان متميز تميزا تامًا عن غيره في كل شيء فهو متميز منذ البداية في عقائد وعبادته ومناهج حياته، وفي هدفه النهائي وهدفه القريب.
فإذا كان هدف غير المسلم هو الحياة الدنيا في لهوها ولعبها وزينتا وتفاخرها وتكاثرها، وذهبها وفضتها ومتاعها فإن هدف المسلم النهائي هو الآخرة وهو من الدنيا على حذر.
وإذا كان هدف غير المسلم في الحياة الدنيا من علمه الاجتماعي أو السياسي أو الإصلاحي في زعمه هو تحقيق تقدم مادي، أو تعميم شهوة، فإن الهدف العام للمسلم في عمله العام، إقامة دولة الإسلام وحمايتها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
يقول الإمام البنا رحمه الله: (إن القرآن حدد غايات الحياة ومقاصد الناس فيها، فبين أن قومًا همهم من الحياة الأكل والمتعة، فقال تبارك وتعالى: «والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم» وبين أن قومًا آخرين مهمتهم الزينة والعرض الزائل، فقال تبارك وتعالى: «زين للناس حب الشهوات من النساء والبنيني والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب» وبين أن قوما آخرين شأنهم في الحياة إيقاد الفتن وإحياء الشرور والمفاسد أولئك الذين قال الله فيهم: «ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد»... تلك مقاصد الناس في الحياة نزه الله المؤمنين عنها وبرأهم منها وكلفهم مهمة أرقى، وألقى على عاتقهم واجبًا أسمى ذلك الواجب هو: هداية البشر إلى الحق، وإرشاد الناس جميعا إلى الخير، وإنارة العالم كله بشمس الإسلام فذلك قوله تبارك وتعالى: «يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكما المسلمين من قبل ومن هذا ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير».
ومعنى هذا أن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة، وإذن فذلك من شأننا لا من شأن الغرب ولمدينة الإسلام لا لمدينة المادة.
ثم بين الله تبارك وتعالى أن المؤمن في سبيل هذه الغاية قد باع نفسه وماله فليس له شيء وإنما هي وقف على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس وذلك قوله تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة» ومن ذلك نرى أن المسلم يجعل دنياه وقفا على دعوته ليكسب آخرته جزاء تضحيته...) (141)
هذه هي الصورة المتميزة للإنسان المسلم يطالعنا بها القرآن الكريم كثمرة لمنهجه في التربية إنها صورة الإنسان الرباني الذي يعيش في رباط دائم وجهاد مستمر مع نفسه ومع الناس حتى يستقيم الجميع على منهج الحق...
• فهو في جهاد مع النفس.. يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق يجاهدها للعمل بالهدى ودين الحق، يجاهدها للدعوة إلى الهدى وتعليمه لمن لا يعلمه وتربيته عليه ويجاهدها للصبر على مشاق الدعوة إلى الله والصبر على أذى الخلق وهو يقوم بمهام الدعوة.
• وهو في جهاد مع الشيطان... يجاهده على دفع ما يلقى الإنسان من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان حتى لا يصل المؤمن إلى اليقين الذي تنتج عنه الاستقامة الكاملة على منهج الله، يجاهده لدفع ما يزينه للمؤمن من أنواع الأعمال المنحرفة ليقع فيها ويبوء بإثمها ويكون هذا الجهاد بالصبر على الاستقامة على منهج الله، وعدم الانحراف إلى غيره.
• وهو في جهاد مع الظلمة وأصحاب البدع والمنكرات في المجتمع الإسلامي لتقويمهم.
• وهو في جهاد مع الكفار والمنافقين: لهدايتهم ويكون بالقلب واللسان والمال والنفس (142).
• تميز المسلم في طريقه:
والمسلم عندما يتميز في أهدافه القريبة والبعيدة، فالطريق الذي يسكن لتحقيق هذه الأهداف طريق متميز مستقل، وأرشده الله عز وجل إلى هذه الحقيقة في سورة الفاتحة أول سورة القرآن التي يكررها في صلاته سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى: «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين».
فطريق المسلم المتميز، هو طريق الأنبياء والمرسلين ولا يرضى أن يسلك طريق غيرهم سواء كانوا أهل كتاب يهودا أو نصارى أو أهل الملل والفلسفات والمذاهب والأديان الكافرة الأخرى.
إن طريق المسلم هو طريق الله الذي دل عليه كل نبي لله وكل رسول، ووضحه كاملا خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم: «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين»«قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين»
سأل رجل سيدنا عبد الله بن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد (143) –طرق- وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد- الطرق- انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة ثم قرأ «وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون».
وعن النواس بن سمعان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ضرب مثلا صراطا مستقيما على كتفي الصراط داران وفي رواية سوران- لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور، ودا يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فالأبواب التي على كتفي الصراط حدود الله، فلا يقع أحد في حدود الله تعالى حتى يكشف الستر، والذي يدعو من فوقه واعظ ربه» أخرجه الترمذي.
وفسره رزين في حديث رواه عن ابن مسعود:
- أن الصراط هو: الإسلام.
- وأن الأبواب: محارم الله.
- والستور: حدود الله.
- الداعي على رأس الصراط: القرآن.
- والداعي فوقه: واعظ الله في قلب كل مؤمن.
فهذا طريق متميز لا يبه طريقًا ولا يشبهه طريق: طريق الله المستقيم.
مخالفة الكفرة والمشركين
إن تقليد المسلمين سواء كان فرديا أو جماعيًا لطريق حياة المشركين والكفرة لهو بلا ريب من أقوى الأسباب التي أدت إلى ضعفهم وانحلال شخصيتهم لهذا جاء نهي الله قاطعا للمسلمين عن التشبه بالكافرين في كل ما يصدر عنهم من قول أو عمل لأن من تشبه بقوم فهو منهم وكيف يتشبه المسلمون بهؤلاء الأعداء؟ من الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وهم ينطوون في صدورهم على أشد العداوة والبغضاء، ولا يضمرون للمسلمين إلا الحقد والضغينة ويكرهون حسدا واستكبارا وتعصبا أن يختارهم الله لحمل رسالة الحق والخير والسداد، وأن يعدهم لقيادة البشرية وتحريرها وإخراجها من أجور الأديان إلى عدل الإسلام...
إن أصل كل شر حاق بالمسلمين، وما أدى بهم إلى الانسلاخ عن دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي فيهم، وانفصام عرى الإسلام في مجتمعاتهم عروة عروة... إن أصل هذا الشر كله بسبب تشبههم بالكافرين وتبعيتهم لهم في العقائد والنظم والشرائع وهو الأمر الذي حذرنا الله تعالى منه، وحذرنا منه الرسول الكريم حتى لا تذوب الشخصية الاجتماعية للأمة المسلمة في غيرها من الأمم، ولا يفقد الفرد المسلم تميزه.
يقول تعالى في سورة البقرة: ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم، قل: إن هدى الله هو الهدى ولئن أتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم، مالك من ولي ولا نصير» وهكذا يضعنا المولى جلا وعلا وجها لوجه أمام الهدف الحقيقي لأهل الكتاب من اليهود والنصارى إنه تحويل المسلمين عن دينهم إلى دين أهل الكتاب ولن يرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، وإلا فهي الحرب والكيد والدس إلى النهاية!
«إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان..إنها هي العقيدة هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة قد يتخاصمان فيما بينهما وقد تتخاصم طوائف الملة الواحدة فيما بينها ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونونها بألوان شتى، ويرفعان عليها أعلام شتى في خبث ومكر وتورية أنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة لم يعلنوها حربا باسم العقيدة على حقيقتها خوفا من حماسة العقيدة وجيشانها إنما أعلنوها باسم الأرض والاقتصاد والسياسة والمراكز العسكرية وما إليها وألقوا فيروع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها ولا يجوز رفع رايتها ولا خوض المعركة باسمها فهذه سمة المتخلفين المتعصبين ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها وبينما هم يخوضون المعركة في فلسطين وغيرها من أوطان المسلمين يخوضونها أولا وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلا فأدمتهم جميعا صخرة العقيدة!
ومن باب الحض على مخالفة الكفرة المشركين ما جاء في حادث تحويل القبلة من المسجد الأقصى على المسجد الحرام قوله تعالى في سورة البقرة أيضا: «ولئن أتيت الذين أتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا من الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات، أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير، ومتى خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، لئلا يكون للناس عليكم حجة»
قال غير واحد من السلف: معناه لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة، فيقولوا قد وافقونا فقبلتنا ويوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة...
فبين سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها: مخالفة الكافرين في قبلتهم ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان من اليهود من الحجة في أمر القبلة.
ويعلق صاحب ظلال القرآن رحمه الله على حادث تحويل القبلة بقوله:
«ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه... فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد كما أنه بدوره ينشئ شعورًا بالامتياز والتفرد.
«ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبيه بمن دون المسلمين في خصائصهم التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء ولم يكن هذا تعصبًا وتمسكا بمجرد شكليات.
وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورًا عن تصور، وضميرا عن ضمير، وخقا عن خلق، واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون- الأمم- قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، فقيل يا رسول الله: كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك؟ وفي حديث أبي سعيد الخدري عن الرسول عليه السلام أنه قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعًا بذراع حتى ولو دخلوا حجر ضب خرب لتبعتموهم قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى.؟ قال: فمن غيرهم؟!»
وجحر الضب كناية عن العادات المخربة لسعادات الشعوب والأفراد.
وقد اختلف الجواب بحسب المقام، فحيث قيل: فارس والروم كان هناك قرينة تدل على أن الأمر يتعلق بنظم الحكم والسياسة والاجتماع وحيث قيل: فارس والروم، كان هناك قرينة تدل على أن الأمر يتعلق بنظم الحكم والسياسة والاجتماع وحيث قيل: اليهود والنصارى.؟ كان هناك قرينة على تعلق الأمر بما هو من قبيل الديانات والعبادات (144).
وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في كتابة (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، في حقيقة التميز ومعناه، مبينًا أن سبيل المسلم في تميزه هو بمخالفة الكفار والمشركين وأن هذه المخالفة ضرورة للمسلم وحاجة إلى هداية الصراط المستقيم محذرا من الانحراف إلى طريق المغضوب عليهم أو الضالين وأوضح أثر التميز في نفس المسلم وسلوكه وأحواله كلها مشيرًا إلى ما تورثه المشابهة والمشاركة من تناسب وتماثل بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال.
قال: «ثم إن الصراط المستقيم، هي أمور باطنة في القلب: من اعتقادات وإرادات وأمور ظاهرة وغير ذلك من أقوال وأفعال قد تكون عبادات وقد تكون أيضا عادات: في الطعام واللباس والنكاح، والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك.
وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولابد ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالا.
وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته، وهي الشريعة والمنهاج الذي شرعه له.
فكان في هذه الحكمة، أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر؛ وإن لم يظهر لكثر من الخلق في ذلك مفسدة، لأمور:
- منها أن المشاركة في الهدى الظاهر، تورث تناسبًا وتشاكلا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب أهل العلم- مثلا- يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس لثياب الجند المقاتلة- مثلا- يجد من نفسه تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع.
- ومنها أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب ،وأسباب الضلال والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين، وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام- لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا أو باطنا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة- كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنا وظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.
- ومنها أن مشاركتهم في الهدى الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهرا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكيمة.
هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحًا محضًا، لو تجرد عن مشابهتهم فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم.
...فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له.. «والله أعلم» (145) .
وإن المسلمين الذين اختصهم الله برحمته ومن عليهم من بفضله العظيم، فكانوا حملة الأمانة الإلهية والأمة الوسط الشهداء على الناس .... مدعوون دائما، إلى أن يلتزموا المنهج الإسلامي الكامل في العقيدة والفكر، والقول والعمل والاجتماع والأخلاق وكل شأن من شئون الحياة... مدعوون بحكم هذا المنهج أن يعتصموا بحبل الله، ويتبعوا هداه، ويعتزوا بشخصيتهم الإسلامية الفريدة التي بها سادوا، وبها يسودون وهذا هو ما تؤكده التربية القرآنية في بناء الإنسان المسلم وغرسه في ضميره، وجعله محور حركته واتجاهه، حتى تكون صياغته وفق مفاهيم الإسلام وتقاليده، صياغة فريدة تتسم بالتميز التام الذي لا سبيل إليه إلا بالاعتصام بهدى الله، والسير على صراطه المستقيم ومجانبة سبل المغضوب عليهم والضالين أصحاب الجحيم.
الباب الأول الأسرة المسلمة بين البناء والهدم
- • الأسرة في القرآن الكريم
- • الخطة الصهيونية الصليبية
- • الأسرة المسلمة على مفترق طريقين
الفصل الأول الأسرة في القرآن الكريم
أصل الأسرة ومكانتها في الإسلام
من المسلم به أن الأسرة هي الخلية الحيوية الأساسية التي يتكون منها جسم المجتمع البشري، إذا صلحت صلح المجتمع كله وإذا فسدت فسد المجتمع كله.. بل هي الأمة الصغيرة، منها تعلم النوع الإنساني أفضل أخلاقه الاجتماعية فلا أمة حيث لا أسرة، بل لا آدمية حيث لا أسرة.
وتستمد الأسرة أهميتها وعلو شأنها من أنها هي البيئة الاجتماعية الأولى والوحيدة التي تستقبل الإنسان منذ ولادته وتستمر معه مدى حياته، تعاصر انتقاله من مرحلة على مرحلة، بل لا يوجد نظام اجتماعي آخر يحدد مصير النوع الإنساني كله كما تحدده الأسرة.
ولا يوجد نظام أولى الأسرة بالعناية والرعاية مثل نظام الأسرة، فشملها بتوجيهاته التربوية وحدد لها من قواعده التشريعية ما يكفل قيامها على أسس سليمة، ويرفع مستواها ويوثق أواصر العلاقات بين أفرادها ويدعم كيانها ويؤمن حياتها ذلك أن الأسرة في المنهج الإسلامي هي القاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة ويقوم عليها المجتمع الإسلامي فاستحقت أن يحيطها القرآن بالرعاية ملحوظة، واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدا كبيرا نراه ماثلا بإحاطة وتفصيل في صور شتى من صحائفه، يربطها بالله وتقواه في كل آية، ويمدها بالإشعاعات الروحية والتنظيمات القانونية والضمانات التشريعية، في كل حالة من حالاتها.
«إن النظام الاجتماعي الإسلامي نظام أسرة بما أنه نظام رباني للإنسان ملحوظ فيه كل خصائص الفطرة الإنسانية وحاجاتها ومقوماتها...
• ينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلقة، وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعا وللمخلوقات كافة تبدو هذه النظرة في قوله تعالى: «من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» ومن قوله سبحانه: «سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لايعلمون».
• ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان (آدم وحواء) ثم الذرية، ثم البشرية جميعا، كما نبينه الآية الأولى من سورة النساء: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به الأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا» وآية سورة الحجرات: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير». وكان الله قادرا على أن يخلق الملايين من الأفراد الإنسانية دفعة واحدة. ولكن قدرة جرى بهذا الحكمة كامنة في وظيفة الأسرة الضخمة في حياة هذا المخلوق.
• ثم تكشف عن جاذبية الفطرة بين الجنسين لا لتجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث في شيوعية وحيوانية ولكن لتتجه إلى إقامة الأسر والبيوت إذ يقول تعالى: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة» ويقول: «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» ويقول: «نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين». ويقول سبحانه: «وجعل لكم من بيوتكم سكنا».
«فهي الفطرة تعمل وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق عن أصل التكوين الإنساني بل من صل تكوين الأشياء كلها في الكون على طريق الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقام الله للكون كله، ومن بينه هذا الإنسان.
وهي الفطرة التي تسكت الأصوات المنكرة لدارسي علم الاجتماع المادي ونظرياته اليهودية التي تشيع أن الأسرة نظام من وضع المجتمع وليست شيئا من طبائع البشر ولا أصلا من أصول الإنسانية، وإنها ككل نظام اجتماعي تخضع للمؤثرات الاجتماعية فتنمو أو تضعف ما دام هذا النظام من صنع ما يسمونه «العقل الجمعي» فهو رهن بمشيئته، فيبقيه أو يزيله إن أراد وما ذلك إلا تبرير يلبس ثوب العلم لمسالك الخطيئة والانتكاس بالإنسانية إلى الفوضى الجنسية التي يعيشها حضارة الغرب المادي المنحل، التي جنت على الأسرة جناية كبرى.
إن الأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتلوى حماية الطفولة الناشئة ورعايتها، وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هديه وتوجيهه تتفتح للحياة، وتفسر معنى الحياة الإنسانية وأهدافها وتعرف كيف تتعامل مع الأحياء ذلك أن طفل النوع الإنساني هو أطول الأحياء طفولة تمتد طفولته أكثر ن أي طفل آخر للأحياء الأخرى، فمرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتدريب للدور المطلوب من كل حي في مستقبل حياته ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة ودوره هو أضخم دور «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحلمها الإنسان...» فهي أمانة الاستخلاف ودور المبتلي الممتحن بهذه الأمة تقتضي أن تمتد طفولته فترة أطول، ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل ومن ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لنوع من الأحياء والأخرى وكانت الأسرة المستقرة الهادفة ألزم للنظام الإنساني وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة.
وقد أثبتت التجارب العملية أن أي مؤسسة أخرى غير مؤسسة الأسرة لا تعوض عنها، ولا تقوم مقامها ولكن الماديون يجادلون، فيزعمون أن لا ضرورة للأسرة وأن نشأة الطفل في محضن صناعي تساوي نشأته بين أبوية، بل يزيدون فيتحدثون عن التلقيح الصناعي وعن إمكان صنع الأطفال بعيدا عن الأسرة وأعباءها الثقال بل إن النظام الماركسي يحبذ نشأة الأطفال جميعًا شرعيين وغير شرعيين في المحاضن الجماعية... حتى لا يكون لهم ولاء نحو آبائهم وأمهاتهم وأسرهم فلا يذكرون إلا الدولة والحزب!!
هذا إلى ما فرضته الثورة الصناعية والنظم الاقتصادية في الحضارة المادية الغربية من تشغيل النساء فأصابت الأسرة في صميمها بغياب الأم عن أطفالها واعتمادها على المحاضن في رعايتهم ويتحول البيت إلى شيء أشبه بالفندق يأوي إليه أفراد الأسرة بعد عملهم الشاق في المصانع...
ولكن الفطرة الإنسانية لا تقبل الزور، بل لابد أن تفضح الأنظمة المخادعة التي تحاول أن تغير خلق الله وأن تشقي البشرة من حيث توهمها السعادة، فدور الحضانة والمدارس الداخلية التي يشرف عليها موظفون تعينهم الدولة في النظام الماركسي وتؤجرهم المؤسسات الاستثمارية في النظام الرأسمالي لا تعني في بناء الإنسان إلا بنمو العظم واللحم فكيف تصبح هذه الدور قادرة على أن تعوض للطفل ما يحرمه من حياة الأسرة بما فيها من جو روحي وقد قامت على أسس مادية نفعية خلت من أية نسمة خلقية وروحية هذا ويكف يتوفر لكل طفل من العناية في المحاضن بالقدر الذي يؤديه نظام الأسرة التي تشرف فيه الأم بكل حنانها على طفلها في الوقت الذي تشرف فيه الحاضنة الواحدة على عدة أطفال.؟ الجواب: عند الأوضاع الأليمة في المجتمعات المادية المناهضة لمنهج الله، والمصادمة للفطرة تشهد بما أصاب الناشئة من انحراف في السلوك نتيجة ما امتلأت نفوسهم من عقد واضطرابات كانت سببا في انتشار ظاهرة الخنفسة والهيبة وتعاطي المخدرات وتورط الشباب هناك في الجريمة والإباحية وفقدان الثقة بالمثل والأخلاق حتى أصبحوا يفاخرون بمعاداة المجتمع والقانون.
وأعجب العجب أن انحراف التصورات الجاهلية تنتهي بناس من جلدتنا يتسمون بأسماه المسلمين إلى أن يعتبروا نظام العمل للمرأة تقدما وتحررا وانطلاقا من الرجعية بدوافع مركب النقص وميول الهوى ونزعات الانحلال والتقليد لهذا النظام الملعون الذي يضحي بالصحة النفسية لأغلى ذخيرة على وجه الأرض ...الأطفال... رصيد المستقبل البشري.
ومن ثم نجد النظام الإسلامي، الذي أراد الله به أن يدخل المسلمون في السلم وأن يستريحوا في ظله بالسلام الشامل .. يقوم على أساس الأسرة، ويبذل لها من العناية مع ما يتلاءم ودورها الخطير .. ومن ثم نجد في سور شتى من القرآن الكريم تنظيمات قرآنية للجواب والمقومات التي يقوم عليها هذا النظام.
خصائص التنظيم القرآني للأسرة
نزلت آيات القرآن الكريم فيما نزلت بنظام متكامل للأسرة له من الأحكام والقواعد ما يرافق الفرد المسلم من المهد إلى اللحد، بل له من التشريعات والتوجيهات ما يطبق على الإنسان قبل ولادته وهو جنين إلى ما بعد وفاته، بشكل متقن منظم، فيه إتقان الصنعة الإلهية وتنظيم العليم الحكيم.
والناظر في القرآن وشريعته المحكمة يرى أن أحكام نظام الأسرة جاءت متميزة بخصائص على النحو الآتي:
أولا: جاءت بالتفضيل .. وقدر وردت أحكام الأسرة من زواج وطلاق وميراث ووصية مفصلة غير مجملة ويرى الناظر في القرآن الكريم أن الأمور التي من شأنها أن تتغير وتتبدل جاءت مجملة بمبادئ عامة وقواعد كلية، وأما الأمور من شأنها الثبات والاستقرار وعدم التغيير فقد جاءت أحكامها مفصلة في القرآن الكريم وهي كل ما يتعلق بمسائل الإيمان بالله وملائكته وكبته ورسله واليوم الآخر، والإنسان وأصله وأهدافه في الحياة... (146)
وهذا يدلنا على مدى اهتمام القرآن بأحكام الأسرة، وأنه لا يجوز تغييرها وتبديلها لأنها مفصلة محكمة ولكن للأسف قد بدت بوادر في مصر وفي بعض الأقطار الإسلامية، تدل على تلفيق قبيح بين المفهوم الإسلامي وأحكامه للأسرة والمفهوم الأوربي المادي المنحل، من ذلك صدور بعض قوانين للأسرة تهدف إلى إخضاع الشريعة لاتجاهات غريبة عنها مراعاة لظروف وتطورات جديدة حادثة بعامل التأثير والتقليد الغربي، وسيرًا في طريق رسمته دوائر تعمل على هدم المجتمعات الإسلامية بتحطيم آخر حصن لها ... وهو الأسرة.
ثانيا: جاءت أحكام الأسرة في القرآن مرتبطة بالعقيدة ترابطًا عضويًا بل قامت على قاعدة الإيمان بالله وتقواه مما يدل على أن قداسة هذه الأحكام من قداسة أحكام العقيدة في الله، ونرى مصداق ذلك قول الله تعالى: «ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى» وقوله تعالى: «أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتم» وقوله سبحانه: «قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانًا» وقوله جل من قائل: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا».
ولارتباط أحكام الأسرة بالعقيدة في القرآن الكريم دليل على أن تشريعات الأسرة لابد أن تجيء ملتزمة بهذه العقيدة منبثقة عن أحكامها مستهدية بروحها احتراما للعقيدة نفسها وللأمة التي تؤمن بهذه العقيدة.
ثالثا: وصف القرآن الكريم الزواج بأنه من آيات الله ودلائل عظمته، فقال تعالى: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها...» فيجب أن يكون هذا العقد بعيدا عن عبث العابثين ليحقق تلك الأهداف السامية من المودة والرحمة والسكن النفسي بين الزوجين في الأسرة المسلمة ونواة المجتمع، فلا تفرض على الأمة المسلمة تشريعات أسرية خارجة تؤلب أحد الزوجين على الآخر وتحرض على نشوز الزوجة لتقلب أوضاع البيت لتجعل منه حلبة صراع بدلا من أن يكون مثابة أمن وحب وتراحم مجال تعاون وتعاضد وتكافل.
رابعا: جاء تقرير القرآن حاسما في أن الزوجة كالزوج في الحقوق والواجبات إلا ما جاء النص على خلاف ذلك لأن الأصل المساواة «ولهن مثل الذي عليهن» فالإنسان يتكون من الذكر والأنثى شأن كل الكائنات فإن كل الخالق تبارك وتعالى قد جعل لكل من المرأة والرجل طبيعة تتفق من ناحية وتختلف من ناحية أخرى إلا أن الإنسانية واحدة في كليهما فالتفكير والعقل واحد في كليهما والغرائز كغريزة الجنس والنوع والتدين واحدة في كليهما والحاجات العضوية كحاجة الإنسان إلى الطعام والهواء واحدة عندهما ولكن ما يتعلق بالوظيفة الجسمية عند كل منهما فيه اختلاف كبير، فقد هيئت المرأة برحم لتحمل وتلد، وثديين للرضاعة كما زودت بميول فطرية لأن تقوم بالشئون المتعلقة بالبيت والأطفال.
وهذا الاختلاف في الطبيعة النفسية والجسمية تقتضى أن تجيء قوانين الأسرة متناسبة مع هذا الاختلاف وذلك لأن خلقة المرأة تتقاضاها أن تلتزم البيت فهي في أحوالها إما في حالة طمث أو حامل أو في حالة ولادة وإرضاع، وهي في جميع أحوالها قائمة على شئون زوجها وأولادها.
ومن هنا نرى أن الإسلام حين نزلت آياته، قد نظر إلى المرأة والرجل بحسب الطبيعة التي خلقا بها وشرع من التعاليم والأحكام التي توافق طبيعة كل منها دون تميز بين ذكر وأنثى ولا تفضيل لأحد الجنسين على الآخر.
فقرر الإسلام وحدة الأصل والمنشأ، فالرجل والمرأة من أصل واحد ومنشأ واحد «وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة» وشرع المساواة بين الجنسين فيما هو من خصائص الإنسانية في الدنيا والآخرة، قال تعالى: «فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض»
وقال تعالى: «للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء ونصيب مما اكتسبن»
وقال تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم» ولم يقل كرمنا الرجال والذكور..
وكل خطاب وجه للزوج وكانت العلة مشتركة فيه يعتبر خطابا للزوجة فقال تعالى «وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا» وقول الرسول صلى الله عليه وسلم «خياركم خياركم خياركم لنسائكم» الخطاب للأزواج ولكنه يشمل الزوجات أيضا لأن العلة هي حرص الشارع على عدم الفراق والمعاشرة بالمعروف، وهذا ينطبق على كل من الزوجين، وقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة الذي خطب دون أن يرى خطيبته: «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدي بينكما» خطاب للرجل ولكن العلة مشتركة فيجب على المرأة أيضا أن ترى خطيبها لأنه قد يخطب شخص دون أن يرى خطيبته لأن الألفة والمحبة تنتج عن معرفة كل منها بالآخر ضمن حدود الشرع ودون مخالفة لأوامره يكون من الزوجة كما يكون من الزوج، وهكذا نجد المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة إلا ما جاء النص بتخصيصه.
خامسا: لا يعتمد الإسلام على العقوبة وسلطان القانون في إنشاء مجتمعة العفيف الركين، إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية من الوقوع في الإثم والخطيئة وهو لا يكبت الدوافع الفطرية ولكن ينظمها ويهيئ لها الجو النظيف الخالي من المثيرات التي يصطنعها الذين يتبعون الشهوات.
ذلك أن الفكرة السائدة في المنهج القرآني للتربية في هذه الناحية، هي تضييق فرص الغواية، إبعاد عوامل الفتنة، وسد جميع السبل والنوافذ على أسباب التهيج والإثارة مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة .. بالزواج والإحصان.
والإسلام عندما يعتمد على التشريع في إرساء قواعد الأسرة ومجتمعه الإنساني فإنه يعتمد على المقام الأول على استجاشة الضمير الذي اعتني به تربية وتهذيبًا بهذه الوسيلة المزدوجة نجح في حماية الأسرة من كل عوامل التفكك والتصدع.
1- فمن أسباب الوقاية، التي اتخذها القرآن الحيلولة دون الاستثارة وتهيج الشهوات قوله تعالى في سورة النور. «قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم. إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات: يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، أو آبائهن.. إلى آخر الآية.
2- ومن أسباب الوقاية للأسرة وحمايتها حتى لا يصبح المحضن الصالح للناشئة لا ضرورة له والحياة الزوجية ناقلة قوله تعالى: «ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا»... تحذير قرآني من مجرد مقاربة الزنا، وهي مبالغة في التحرز، لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة فالتحرز من المقاربة أضمن فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان.
«ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة، توقيا للوقوع فيه فهو يكره الاختلاط في غير ضرورة، ويحرم الخلوة وينهى عن التبرج بالزينة ويحض على الزوج لمن استطاع ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد.. وبحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع وعلى رمى المحصنات الغافلات دون برهان: إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج (147) كل ذلك ليحفظ الأسرة المسلمة من التردي والانحلال.
3- ومن أمثلة تشريعات الإسلام الوقائية والعلاجية لحماية الأسرة أن يصيبها التصدع قوله تعالى: «واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا» فالمنهج الإسلامي لا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل وتعلن راية العصيان وتسقط مهابة القوامة، وتنقسم الأسرة إلى مسكرين متصارعين فالعلاج حين ينتهي الأمر إلى هذا الوضع فلما يجدي فلابد من المبادرة في علاج مبادئ إجراءات تأديبية متدرجة في علاج علامات النشوز في بوادره الأولى، يقوم بها الزوج لا للانتقام ولا للتعذيب، ولكن للإصلاح وتوقي التصدع.
والإسلام الذي عالج حالة النشوز من ناحية الزوجة لا يغفل عن علاج حالة النشوز والإعراض حين يخشى وقوعها من ناحية الزوج فتهدد أمن المرأة وكرامتها ،وأمن الأسرة يقول تعالى: «وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليها أن يصلحا بينهما، والصلح خير» فإن خشيت المرأة أن تصبح مجفوة وأن تؤدي بها هذه الجفوة من الزوج إلى الطلاق وهو أبغض الحلال إلى الله أو إلى الإعراض فيتركها كالمعلقة فليس هناك حرج أن تتنازل لزوجها عن شيء من فرائضها إذا رأت هي أن هذا خير لها وأكرم من طلاقها وإبقاء على الرابطة العائلة.
ويقول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة في التعقيب على حكم التعريض بخطبة النساء وأثناء العدة «واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه» يجيء هذا التعقيب في آية محرم مواعد رجل لامرأة في عدتها قبل انقضاء عدتها لما فيه من مجانبة لأدب النفس، ومخالسة لذكرى الزوج وقلة استحياء من الله الذي جعل العدة فاصلا بين عهدين من الحياة لتبقى القلوب خالصة نقية ثم هو الرابط بين عهدين من الحياة، لتبقى القلوب خالصة نقية ثم هو الربط بين التشريع وخشية الله المطلع على السرائر وما يحيك في الصدور ولكن في هذا الربط ضمائر أخيرة لتنفيذ الشريعة.
4- هذا إلى جانب ما أوصى به القرآن بالعفو والصفح «وإن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم» والحض على الصبر وحسن المعاملة «وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا» يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضى منها خلقا آخر، لا يفرك: لا يبغض.
أهداف الأسرة القرآنية
الإنسان وحياته منذ النشأة الأولى في أحشاء أمه وحتى النشأة الثانية ف يوم الحشر، هو هدف كل رسول وهدف كل شرائع الله.. من أجل تنظيم حياته كان المنهج الإلهي كل لا يضل ولا يشقى في رحلته على الأرض...
ومن أجل صياغة الشخصية الإنسانية صياغة ربانية بذل المنهج القرآني جهده الطويل في قيام الأسرة على أساس وطيد ركين فمن هذا الحصن ومن هذه المثابة تخرج الشخصية المسلمة بدورها العظيم على العالمين بالهدى والنور...
من خلال مؤسسة الأسرة عندما نقوم على تقوى من الله ورضوان يخرج الإنسان المجاهد في سبيل الله بما تبعثه هذه المثابة في نفسه من طمأنينة في الشدائد، وصبر على المكاره وثقة في النصر.
لقد شاءت حكمة الله قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديًا ومبشرًا ونذيرًا أن يهيئ له البيت الكريم الذي يأوي إليه والزوجة الوفية التي في كنفها وجد الراحة من كل تعب والعون في كل شدة والتي بلغت ثقتها فيه وفي منزلته عند الله، ومعرفتها بقدره العظيم أنه ما كاد يهرع إليها حين عاد إليها من غار حراء ليقص عليها ما وقع له من خطاب جبريل إليه حتى قالت مهدئة لروعه، ومثبتة لفؤاده: «كلا.. أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقوى الضعيف وتعين على نوائب الدهر» لقد شاءت إرادة الله ذلك بالنسبة للرسول الكريم، وهو الإنسان الكامل والصورة المثلى للأسوة الحسنة كما يجب أن تحتذي لكي تقرر لنا مدى الدور الذي تقوم به الأسرة في النظام الإسلامي وما تحققه من أهداف ومطالب فردية واجتماعية في عملية البناء النفسي والعقلي والجسمي للأمة.
1- الاستمتاع
في البيت وفي نطاق العلائق الزوجية يجد الفرد ذكرا أو أنثى المنظم الطبيعي لانطلاق الشهوة، بالطريقة التي تحول دون دمار الجسم وعذاب اللهفة الدائمة، وتمنح الفرد السوي نصيبًا معقولا من المتعة الجسدية، ينتهي إلى الرضا والارتواء.... وهكذا كان الإسلام أدرى بالطبيعة البشرية وأحكم في معالجتها حين أباح للناس نشاطهم الحيوي المشروع وحين تحرم التعاليم الكنسية أن يحسوا بأية شهوة فينشأ الكبت والاضطراب النفسي أو الانحلال والفوضى الجنسية نرى الإسلام صريحًا في الاعتراف بالطبيعة البشرية لا يستقذر الدافع الجنسي فأباح للناس شهوة الجنس والاستمتاع بطيبات الحياة بدعوة قوية صريحة «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق» وشدد في نكيره على دعاة الرهبنة بقوله تعالى: «ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم..»
وهذا رسول اله صلى الله عليه وسلم يقطع على المسلمين طل طريق إلى الرهبانية في حادثة امرأة عثمان بن مظعون عندما جاءته صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها في أنه لم يرفع عنها ثوبا منذ كذا وكذا ويحضر الزوج ليقول له الرسول: «ما بالك يا عثمان؟ قال: إني تركته لله، لكي أتخلى للعبادة فقال صلى الله عليه وسلم أقسمت عليك، إلا رجعت فواقعت أهلك» فقال يا رسول الله إني صائم فقال صلى الله عليه وسلم أفطر.. أفطر».
وحض الإسلام على الزواج صريح في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... » وذهب بعضا الفقهاء في شرح هذا الحديث أن الأمر بالزواج على سبيل الوجوب وذهب البعض الآخر فوضعه في مرتبة الفرض.
2- السكن النفسي
في جو الأسرة يجد الزوجان كل في رحاب الآخر مشاعر الألفة والحنان والود والتعاطف مشاعر لا يجدها كل منهما في مكان آخر، ولا يجدها الرجل- كاملة- عند الرجل ولا المرأة عند المرأة، إلا في حالات الشذوذ.
والسكن النفسي والمودة والرحمة التي يشعر بها الإنسان إزاء زوجه تعتبر من المطالب النفسية التي لا يستغنى الإنسان عنها ولا يجدها في غير الزواج، إنه سكن لا يغني عنه سكن آخر، فهو سكن روحي إلى روح من جنسه، فتصبح الروحان روحًا واحدة ويصبح القلبان قلبًا واحدًا.
والمودة التي يعنيها قوله تعالى: «... وجعل بينكم مودة ورحمة» ليس من نوع المودة بين الآباء والأبناء ولا من نوع المودة التي توجد بين الأصدقاء وكذلك الرحمة الخاصة بين الزوجين غيرها بين الناس الآخرين، إنها سر من أسرار الله ومن يتزوج ليجمع الروح بالروح، لا الجسد بالجسد ومن يتزوج ممن يكون قلبها من نوع قلبه طهرا ونظافة وروحها من نوع روحه شفافية يتزوجها باسم الله وغايته إتمام أمر الله وتحقيق حكمته وآياته ومن هنا قال بعض الدارسين للنفس الإنسانية إن الاتصال غير الشرعي اتصال ناقص ذلك أن هذه المشاعر اللطيفة النابعة من أعماق النفس لا تجد منطلقها إلا في جو هادئ مستقر، لا يكفله مكان غير الأسرة ولا تكلفة علاقة غير العلاقة الزوجية.
3- إشباع مطالب الوالدية:
وفي كنف الأسرة وفي رحابها القدسي يتحقق للفرد مطلب من مطالبه الملحة ذلك هو مطلب الوالدية، والحاجة إلى الخلف والذرية.
إن إنجاب الأطفال شهوة عند الرجل والمرأة لم ينج منها أحد في القديم أو الحديث إن لدى الرجل فراغ في نفسه وحياته لا يملؤه إلا صحبة طفل ونسل يمد من عمره القصير على الأرض وحبذا لو كان هذا النسل صالحًا ليكون امتدادًا حقيقيا لعمله الذي يجزي به يوم الحساب فكل امرئ ينقطع عمله إلا من ثلاث منهم الولد الصالح الذي يدعو له والمرأة من غير طفل شقية بائسة فالطفل جزء منها .. جزء من جسدها تحمله تغذيه من دمائها ثم من لبنها وهو خلاصة دمها وجزء من كيانها النفسي، تشعر أنها معطلة أو ناقصة أو عاجزة إذا لم تأت بنسل....
فالولد هبة الله للإنسان استجابة لنداء الوالدية وهتافها: «وزكريا إذ نادى ربه: رب لا تذرني فردا، وأنت خير الوارثين. فاستجبنا له ووهبنا له يحي»... هذه النعمة والهبة الإلهية تتقاضى الإنسان عرفانا بفضل الله ومنته» فيحمده على جميل عطائه: «الحمد لله وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق»
4- تربية الأطفال
وإذا كان الإنسان يحب أن يكون له نسلا، فعليه أن يوفر لهم أسباب التربية والنماء، وحيث أن الطفل الإنساني أكثر الأطفال حاجة إلى الرعاية لأمد طويل، وكلما تقدم الإنسان في سلم الحضارة زادت وظائفه وتنوعت أعماله ومجالات نشاطه، كلما استتبع ذلك حاجة أطفاله إلى فترة أطول لتعلم هذه الوظائف والأعمال والمران عليها.. وهي مسئولية الآباء حتى يشب أولادهم عن الطوق ويخرجوا إلى الحياة رجالا عاملين نافعين..
الأسرة هي البيئة الوحيدة التي يمكن فيها تنشئة الأطفال مسلمين صالحين، وهي المجال الفريد لغرس عواطف الحب لله والرسول والمسلمين مع عواطف الرحمة والمودة والتعاون من هذه اللبنات الصالحة يقوم المجتمع المسلم المتكافل الذي تقوم علاقاته على الحب والإيثار الحب الذي تزل معه كل عوامل الشحناء والصراع.
هذه التربية حق للأولاد على آبائهم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: حق الولد على والده أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا أرك، ويعلمه الكتاب –أي القرآن» ويقول: «ما نحل والد ولدا –أي أعطاه ووهبه- أفضل من أدب حسن» ويقول: «لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع».
وقد أجمعت خبرات الناس ودلت تجارب العلماء على ما للتربية في الأسرة من أثر عميق وخطير يتضاءل دونه أثر أية منظمة اجتماعية أخرى في تعيين الشخصية وتشكيلها خاصة خلال مرحلة الطفولة المبكرة، أي السنوات الخمس أو الست الأولى من حياة الفرد. وذلك لأسباب عدة أن الطفل في هذه المرحلة لا يكون خاضعًا لتأثير جماعة غير أسرته ولأنه يكون فيها سهل التأثر، سهل التشكل شديد القابلية للإيحاء وللتعلم قليل الخبرة، عاجزًا ضعيف الإرادة قليل الحيلة في حاجة دائمة إلى من يعوله ويرعى حاجاته العضوية والنفسية المختلفة ولأن عملية التطبيع فيها تكون مركزة فعالة إذا عرفنا هذا قدرنا ما يمكن أن يكون لهذه المرحلة من أثر بالغ في تشكيل شخصية الطفل وتوجيهها إلى الخير أو إلى الشر إلى الصحة أو المرض فكما أن الأسابيع الأولى في حياة الجنين فترة حاسمة في تكوينه الجسمي إذا اضطرب النمو فيها خرج الوليد مسخًا، وكما أو الوليد إن لم يزود بالغذاء الكافي في الأسابيع الثلاثة الأولى بعد ولادته شب ناقص النمو الجسمي والعقلي حتى إن زودناه طول العمر بكافة المواد الغذائية كذلك السنوات الأولى من حياة الطفل فترة حاسمة خطيرة في تكوين شخصيته وتتلخص خطورتها في أن ما يغرس أثناءها من معتقدات وعادات واتجاهات وعواطف يصعب أو يستعصي تغييره أو استئصاله فيما بعد ومن ثم يبقى أثره ملازمًا للفرد في عهد الكبر.
ونظن أن هذه الحقيقة لا تغيب عن العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية والمربين والدعاة إلى قيام المجتمع المسلم من جديد فإن كانت أبواب الفوضى والأغلال والإلحاد قد انفتحت على مصراعيها من مؤسسات التربية والإعلام والتوجيه العلمانية اللادينية وأزالت عن مجتمعاتنا صبغتها الإسلامية الأصيلة وزعزعت الثقة في أحقية النظام الإسلامي في الهيمنة على الحياة، فالآمال كلها معقودة على إمكانات الأسرة في التغيير إذا قدرت حق التقدير وأخذت مأخذ الجد.
5- تحقيق تماسك المجتمع:
إذا كان الإسلام يهدف إلى قيام مجتمع قوي متماسك فإن للأسرة في تحقيق هذا الهدف دور عظيم لما يترتب على تكوينها من قيام علائق جديدة بطريق النسب والمصاهرة «وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا» فالإنسان في ابتداء أمره نطفة يتخلق منها الجنين، فولد نسيب، ثم يتزوج فيصير صهرًا ثم يصير له أصهار وأخوات وقرابات، إنها القدرة الخالقة المدبرة «وكان ربك قديرًا».
وإذا كان المنهج الإسلام يعتبر المسلمين أمة واحدة لا يحول بنيهم وبين هذه الوحدة حائل من لون أو جنس أو لغة ويبذل في سبيل تجسيد هذه الوحدة كل الوسائل فإنه يتخذ من الحض على لتتزاوج من غير الأقارب وسيلة، يتحقق بها مالا يتحقق بزواج ذوي القربى الذين لهم صلة الرحم ما يكفي لتعاونهم وتضامنهم في حين أن الزواج من الغرائب ينشئ علائق حميمة وصلات جديدة لم تكن قائمة من قبل بين العائلات.
ولعل من الحكمة في تحريم الزواج من المحارم أن علاقة الزواج جعلت لتوسيع نطاق الأسرة وامتداد الروابط الحميمة إلى ما وراء رابطة القرابة.
ولعل من الحكمة في تعدد أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم هو توثيق عري الود والحب في المجتمع المسلم بالمصاهرة.
وقد حذى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حذوه، فارتبطوا فيما بينهم برابط النسب والمصاهرة، فكانت ذلك من أسباب تماسكهم وتساندهم وتآلفهم فغذوا كما أراد لهم الله ورسوله: كالبنيان المرصوص يشد بعضد بعضًا. أو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر فليس البيت مجرد بيئة لتكوين العظم واللحم وتنمية الثقافة والذكاء، ولكنه كذلك بيئة لتربية الفضائل الاجتماعية فبين جدرانه الأربعة يتطبع جميع أفراده كبارا وصغارا على المبدأ القرآني: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»
إن تحطيم الأسرة لا يعني في مخططات الهدم أكثر من أن نلقي في مهب الريح جميع الأسس الخلقية والروحية التي تقوم عليها حياة المجتمع المسلم.
6- وقاية المجتمع من السقوط والانحلال:
الدافع الجنسي من أقوى الدوافع البشرية وأعمقها أثرا في حياة الإنسان وجاءت أصالته في الكيان البشري لحكمة سامية أرادها الخالق، وهدف يتعلق باستمرار الحياة وبقاء النوع.
والإسلام يقر للإنسان حقه في تلبية مطالب هذا الدافع ولا يقره ي كبته، أو يوحي إليه باستقذاره ولكن ليس هناك غير طريق واحد يرتضيه الإسلام في تصريف الطاقة الجنسية هو الزواج العلني الذي تتخصص فيه امرأة بعينها ويتم به الإحصان وهو الحفظ والصيانة إن الارتباط بين الجنسين على قاعدة الأسرة، هو النظام الوحيد الذي يتفق مع فطرة «الإنسان» وحاجاته الحقيقية الناشئة في كونه إنسانًا لحياته غاية أكبر من غاية الحياة الحيوانية فإذا كانت غاية الميل الجنسي في الحيوان تنتهي عند تحقيق الاتصال الجنسي والتناسل والإكثار فإنها في الإنسان لا تنتهي هنا، إنما هو وسيلة إلى هدف أبعد هو الارتباط الدائم بين الرجل والمرأة لتحقيق أهداف المجتمع الإنسانية (149) إنه الزواج الاتصال الجنسي المشروع هو الوسيلة المثلى التي تجد عن طريقها غريزة الجنس طريقها في نطاق الأسرة النظيف ما تنشده من إشباع وارتواء، في توازن لا يخل بسلام المجتمع ولا يزعزع بناءه الإنساني الأخلاقي.
إنهما نوعان للعلاقات بني الجنسين الأول: يقوم على قاعدة الأسرة، وهو النكاح على شريعة الإسلام، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته، فيصدقها ثم ينكحها إنه الإحصان الذي ينص القرآن على طلبه ويريده الله فهو إحصان هو حفظ وصيانة هو حماية ووقاية والثاني: وهو الذي ينص القرآن على نفيه، سواء منه المخادنة والبغاء.. إنه اللذة العابرة، والنزوة العارضة عن طريق المسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة يريقان ماءهما في السفح الواطئ فلا يحصنها من الدنس ولا يحصن الذرية من التلف ولا يحصن البيت من الدمار والمجتمع من الخراب.
إنهما نوعين من الحياة يحددهما القرآن في كلمتين اثنين: «محصنين غير مسافحين» ليبلغ غايته من تحسين الإحصان.. النوع الذي يرتضيه في الحياة، وليصل إلى هدفه من تبشيع الزنا بكل أشكاله النوع الذي ينكره في الحياة.
إن ضبط الغريزة الجنسية وتنظيمها في نطاق الأسرة لا يعني كبتها فالضبط تنظيم للطاقة والكبت إنكار لها. وكل قوة إن لم تضبط ذهبت هباء أو كانت أداة للتخريب.
وقد ميز الله أهل الإيمان بضبط الغريزة وتوجيهها الوجهة الفطرية الصالحة وأشار القرآن إلى أن مسلك الفوضى إنما هو انحلال وعدوان خطير يدمر المجتمع ويبث الوهن في أنحائه وذلك في قوله تعالى: «والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم، فإنهم غير ملمومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون»...فهي طهارة الروح والبيت والجماعة ووقاية النفس والأسرة، والمجتمع بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير احتلال وحفظ القلوب من التطلع إلى غير حلال وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب ومن فساد البيوت فيها والأنساب فالجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير جاب جماعة معرضة للخلل والفساد لأنه لا أمن فيها للبيت ولا حرمة فيها للأسرة والبيت هو الوحدة الأولى في بناء الجماعة إذ هو المحضن الذي تنشأ فيه الطفولة وتدرج ولا بد له من الأمن والاستقرار والطهارة ليصلح محضنا ومدرجا وليعيش الوالدان مطمئنا كلاهما للأخر، ويرهم عيان ذلك المحضن ومن فيه من أطفال.
والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية فالمقياس الذي لا يخطئ للارتقاء البشرية هو تحكم الإرادة الإنسانية وغلبتها وتنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة نظيفة لا يخجل الأطفال معها في الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم... (149)
ولذلك يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سلامة المجتمع المسلم وقوته وتماسكه مرهونة بابتعاده عن الفاحشة ونجاته من أوبئتها فيقول: «لا تزال أمتي بخير مالم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشا فيهم ولد الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب» ويقول: «اتقوا الزنا فإنه فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأما التي في الدنيا:فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما التي في الآخرة: فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار» ويقول: «ما ظهرت الفاحشة في قوم قط، إلا أصابهم الطاعون والأوباء التي في أسلافهم»
إن الحياة العائلية المستقرة رمز ناطق للمجتمع السليم، ولن يتم القضاء على الأسرة دون أن يكون لذلك أسوأ الأثر فكم من الحضارات قد اندثرت حين نحلل فيها نظام الأسرة فلقد اعتبرت الحياة الزوجية عند اليونانيين القدماء أمرًا تافهاً فكان اللقاء بين الرجل المرأة لإشباع غريزة الجنس أمرا عابرا وكانت النتيجة أن تحطمت حضارتهم وكذلك سقط الرومان من قمة مجدهم عندما أغفلوا العناية بحياتهم المنزلية واعتبروا الحياة فرصة للمتاع وإشباع الشهوات.. وهذه نذر سقوط حضارة الغرب الحديثة:
كشفت نشرة إحصائية لهيئة الأمم عام 1959 عن مدى عمق الهاوية التي تنحدر إليها المجتمعات الغربية كنتيجة مباشرة لتفكك الأسرة ..
تقول النشرة إن العالم الغربي يواجه الآن مشكلة الحرام أكثر من الحلال، في شأن المواليد إن نسبة الأطفال غير الشرعيين قد ارتفعت إلى 60% وأما في بعض البلاد، مثل «بناما» فقد جاوزت 75% أي أنه من كل أربعة مواليد ثلاثة عن طريق الحرام...
وجاء في تقرير لمنظمة الصحة العالمية (عن جريدة الأهرام في 8/ 1/ 1971) أن الزيادة في الإصابة بالأمراض السرية في الولايات المتحدة والدول الإسكندنافية وبريطانيا قد خرجت عن نطاق السيطرة عليها وأن الإصابة بالسيلان في الولايات المتحدة قد وصلت على حد الوباء...»
وقد أدى تحلل الأسرة في المجتمع الأمريكي أن أصبح لا يصلح للجندية ستة من كل سبعة ممن هم في سن التجنيد وسنة الله لا تتخلف.
وعندما اكتسح الألمان فرنسا في الحرب العالمية الثانية في بضع أيام، لم يتردد رئيس فرنسا في ذلك الحين في مصارحة أبناء وطنه فقال: «لقد جاءت الهزيمة من الانحلال فدمرت روح الشهوات ما شيدته روح التضحية.
إن لا سبيل لإخراج فرنسا من كبوتها وإقالة عثرتها إلا بإقامة صرح الأسرة من جديد وتقوية أواصرها وتقديس تقاليدها وأنظمتها» وهيهات!!
ورغم توالي صيحات الخبراء والمصلحين في الغرب فإن النذر كلها تشير إلى أن هذه الحضارة قد دخلت في مرحلة الأقوال نتيجة لاتباع الشهوات، والنفور من تبعات الزواج والتبرم بالحياة العائلية والاستهتار بروابط الزوجية، الذي دمر في المرأة هناك عاطفة الأمومة الفطرية فأصبحت لا هم لها إلا اللذة تحصل عليها وقتما شاءت وكيفما شاءت بعيدا عن قاعدة الأسرة، ولا تذهب إلا ومعها تدابير منع الحمل وإن تم حمل فعيادات الإجهاض تعمل 24 ساعة.
ورغم هذه الصيحات فإن جرائم الأحداث في ازدياد متسمر بلغ حدا خطيرًا يقول تقرير للأمم المتحدة (عن الأهرام في 20/ 8/ 1955) «إن نسبة الانحراف بين الأحداث في الولايات المتحدة التي تتمتع بأعلى مستوى من الرفاهية أعلا منها بكثير في بريطانيا إن نسبة الزيادة في الانحراف مخيفة جدا وأن 70% من المجرمين يبدأون عهد الإجرام ما بين الرابعة عشرة والثانية والعشرين ويشمل انحرافهم كل النواحي مما في ذلك تناول المخدرات والشذوذ الجنسي.
يقول ألفريد ديننج: «إن أكثرية المجرمين الأطفال غير البالغين تخرج من أنقاض أسر محطمة».
من هنا ندرك مدى الجريمة التي يزاولها دعاة الانحلال والأجهزة الدنسة، والمسخرة لتوهين روابط الأسرة عندنا والتصغير من شأن الرباط الزوجي، وتشويهه وتحقيره للإعلاء من شأن الارتباط القائمة على مجرد الهوى المتقلب والعاطفة الهائمة والنزوة الجامحة وتمجيد هذه الارتباطات بقدر الحط من الرباط الزوجي.
فالمشكلة بيننا وبين هؤلاء الدعاة وهذه الأجهزة «أننا نخاطبهم بالعقول وهم يتكلمون بالشهوات إن عقولهم لا تنكر ما تقول، ولكن شهواتهم هي التي تكرهه إن ما يعرفونه عن التاريخ يؤيد أقوالنا وما يعرفونه عن مجون الحضارة يوافق أهواءهم نحن مع العقل وهم مع الهوى، نحن مع المبادئ العلمية والأخلاقية التي يقرون بها وهم مع الرغبات والأهواء التي يخضعون لها والعقل بين الدول من حيث يخربها الهوى» (150)
لقد كان الحسم والزجر في عقوبة الفوضى في سلوك الغريزة ضرورة اجتماعية لحماية الجماعة وحماية الفرد ذاته وقد كان على الأمة الإسلامية أن تستمسك بشريعتها وأن تتبع نهج الإسلام في الحفاظ على كيان المجتمع. ولكن المؤسف أننا نبذنا أحكام الشريعة واستبدلنا بها قوانين وضعية جيء بها إلينا من قوانين دول الغرب الذي لا يؤمن بعفة ولا إحصان.
وليت دعاة الانحلال والفوضى الجنسية يتركون لداعي العقل يغلب دواعي الهوى والمصالح الشخصية ليكون له الحكم في المقارنة بين عقوبة الزنا في الشريعة الإسلامية وعقوبتها في القوانين الوضعية ليظهر لهم أن قانون الشريعة حكيما وحاسمًا لأنه من تقدير الخبير البصير، المحيط بنوازع الإنسان العليم بما يصلحه وما يفسده وأن القانون الوضعي في عقوبة الزنا يدلل الزناة لأنه تعبير عن روح الإنسان الغربي الذي لا يستقذر هذه الفعلة كانت العواقب في مجتمعات الغرب كما ألمحنا وخيمة وها هي مجتمعاتنا الإسلامية قد أصابها شر كبير من جراء التساهل الفاحش في تكييف جريمة الزنا نتيجة الأخذ بهذا القانون ....
إن الإسلام حين يشدد في عقوبة جريمة الزنا إنما يهدف بذلك إلى دفع خطر يهدد الحياة الاجتماعية بالدمار والفناء يقول القانوني الكبير الأستاذ عبد القادر عودة: «تعاقب الشريعة الإسلامية على الزنا باعتباره ماسا بكيان الجماعة وسلامتها إذ أنه اعتداء شديد على نظام الأسرة، والأسرة هي الأساس الأول الذي تقوم عليه الجماعة ولأن إباحة الزنا إشاعة للفاحشة وهذا يؤدي إلى هدم الأسرة ثم إلى فساد المجتمع وانحلاله، والشريعة تحرص أشد الحرص على بقاء الجماعة متماسكة قوية.
أما العقوبة في القوانين الوضعية فأسبابها أن الزنا من الأمور الشخصية التي تمس علاقاتها للأفراد ولا تمس صوالح الجماعة فلا معنى للعقوبة عليه ما دام عن تراض إلا إذا كان أحد الطرفين زوجا ففي هذه الحالة يعاقب على الفعل صيانة لحرمة الزوجية!!
ولعل ما حدث في أوروبا والبلاد الغربية عامة يؤيد نظرية الشريعة فقد تحللت الجماعات الأوربية وتصدعت وحدتها وذهب ريحها وما لذلك من سبب إلا شيوع الفاحشة والفساد الخلقي والإباحية التي لا تعرف حدا تنتهي عنده.
وما أشاع الفاحشة وأفسد الأخلاق ونشر الإباحية إلا إباحة الزنا وترك الأفراد لشهواتهم واعتبار الزنا من الأمور الشخصية التي لا تمس صالح الجماعة.
ولعل أشد ما تواجهه البلاد غير الإسلامية اليوم من أزمات اجتماعية وسياسية يرجع إلى إباحة الفاحشة فقد قل النسل في بعض البلاد قلة ظاهرة تنذر بفناء هذه الدول أو توقف نموها وترجع قلة النسل أولا وأخيرا إلى امتناع الكثيرين عن الزواج وإلى العقم الذي انتشر بين الأزواج.
ولا يمتنع الرجل عن الزواج إلا لأنه يستطيع أن ينال من المرأة ما يشاء في غير حاجة إلى الزواج ولأنه لا يثق في أن المرأة ستكون له وحده بعد الزواج، وقد اعتاد أن يجدها مشاعا بينه وبين الغير قبل الزواج.
والمرأة التي كانت أمنيتها الأولى الزواج ووظيفتها التي خلقت من أجلها إدارة البيت وتربية الأولاد هذه المرأة أصبحت في كثير من الأحوال تنفر من الزواج ولا ترضى أن تستأسر لرجل تنال ما عنده وتثقل نفسها بالقيود والأغلال.
وقد أدى شيوع الزنا إلى مقاومة الحمل من جهة وانتشار الأمراض السرية من جهة أخرى وإذا كانت مقاومة الحمل تؤدي في كثير من الأحوال إلى عقم النساء فإن انتشار الأمراض السرية يؤدي في الغالب إلى عقم الرجال والنساء على السواء.
وكانت المرأة تعيش في كنف الرجل في ظل الزواج، فلما أضرب الرجال عن الزواج كان لابد للمرأة من أن تعيش فاضطرت إلى مزاحمة الرجل في ميدان العمل لتنال قوتها فأدى هذا إلى تفشي البطالة وشيوع المبادئ الهدامة، وألقى بشعوب أوربا في بحر لحى يزخر بالفوضى والاضطراب.
ويستطيع الإنسان أن يرتب على هذه المفاسد الاجتماعية نتائجها الخطيرة دون أن يخطئ الحساب ولو تدبر هذه النتائج القائلون بأن الزنا علاقة شخصية لعلموا أن الزنا من أخطر الجرائم الاجتماعية وأن مصلحة الجماعة تقتضي تحريمه في كل الصور والمعاقبة عليه أشد العقاب.
وعلى هذا الأساس حرمت الشريعة الإسلامية الزنا لتتجنب الوصول إلى تلك النتائج المخيفة وقررت أشد العقوبات للزناة، حتى اعتبرت من يزني بعد إحصانه غير صالح للبقاء لأنه مثل سيئ ولي للمثل السيئ في الشريعة حق البقاء» (151)
المرأةأساس البيت
إن خطورة شأن المرأة في الاجتماع الإنساني أمر تواضع عليه البشر أيا كانت حالته في سلم الحضارة لأنه أمر من أمور البداهة، وحكم من أحكام الفطرة جاءت الشرائع السماوية مع كل نبي ورسول لتأصيله وتحديد اتجاهه ومساره الصحيح الذي يليق بالإنسان وغاياته في الوجود ولكنها الأهواء والشهوات والشيطان، هي التي تذهب بنور العقل وتطمس بداهاته وتنحرف بدواعي الفطرة، وتضل الإنسان عن سبيل الله، فيرتكس في الحمأة الوبيلة والبهيمية المشينة وتجعل منه مسخا وقد خلقه الله في أحسن تقويم وفي النهاية تضطرب النظم وتسقط الحضارات.
فالمرأة في بداهات العقل ودواعي الحياة الإنسانية الصحيحة هي الأساس الأول في بناء البيت وهي ربته، والفلك الأسرى كله هي محوره في رحابه يعود الرجل ليجد هدوء أعصابه وراحة نفسه وسكينة قلبه، ومن بين حناياها وضلوعها وأحشائها يخرج الوليد، وتحت جناحها يشب.. إنها قوام البيت: زوجة وأما ومحوره: منها وإليها يعود الجميع فلا قوام لبيت بدون المرأة وهذه هي مكانة المرأة في نظام الإسلام قدرها وأعظم قدرها..
«المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»
- «للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن»
- «النساء شقائق الرجال»
- «استوصوا بالنساء خيرًا»
- «.. أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك»
كلمات من نور جاء مع فجر الإسلام ليقشع الظلام الذي عاشت فيه المرأة في الجاهلية كلها، جاءت لتسمع الدنيا أنه لا ظلم اليوم.
1- فقد كانت المرأة في أول شريعة وضعية دونت في عهد حمورابي، تحسب في عداد الماشية المملوكة حتى أن من قتل بنتا لرجل كان عيه أن يسلم بنته لوالد البنت المقتولة حتى يقتلها أو يتحللها وفي هذا تعد المرأة من عداد الملكية شيئا يحافظ عليه (152)
2- كما أنه لم يكن للمرأة في شريعة مانو ف الهند حق الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها فإذا انقطع هؤلاء جميعا وجب أن تنتمي إلى رجل من أقارب زوجها في النسب ولم تستقل بأمر نفسها في حال من الأحوال، وهي قاصة طيلة أيام حياتها لم يكن لها الحق في الحياة بعد موت زوجها بل وجب أن توت يوم يموت زوجها وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد وبطل هذا بعد القرن السابع عشر على كره من أصحاب الشعائر الدينية (153).
3- وعند اليونان الأقدمين كانت محرومة من الثقافة لا تسهم في الحياة العامة بقليل ولا كثير وكانت محتقرة حتى سموها رجسا من عمل الشيطان، وهي مسلوبة الحرية والمكانة في كل ما يرجع إلى الحقوق الشرعية، فهم لا يعتبرونها إنسانا بل حيوانا يباع ويشترى كا يباع أي حيوان آخر ويشترى وعلى هذا يسلبونها أهلية التصرف ولا يرون أنها تصلح لشيء سوى خدمة البيت واستيلاد الأطفال (154).
4- وعند الرومان تظل البنت خاضعة لرب الأسرة ما دام حيا وكانت سلطته عليها سلطة ملك لا حماية تشمل البيع والنفي والتعذيب والقتل فكان رب الأسرة هو الذي يقوم بتزويجها دون إرادتها وكان مالكا لأموالها ليس لها حق التصرف فيها، ولا يؤثر في ذلك بلوغها ولا زواجها لكن في عهد جوستنيان انتقلت السلطة من الأب إلى الزوج وتحولت في عهد الازدهار العلمي للقانون الروماني إلى سلطة حماية ومع ذلك ظلت المرأة قاصرة الأهلية وكان شعارهم الذي تداولوه إبان حضارتهم «أن قيد المرأة لا ينزع ونيرها لا يخلع» (155)
5- وكان للمرأة في الحضارة المصرية القديمة حظ من الكرامة يجيز لها الجلوس على العرش يبوئها مكان الرعاية في الأسرة ولكن الأمة المصرية كانت من الأمم التي عاشت فيها عقيدة الخطيئة بعد الميلاد، وشاع فيها من اعتقاد الخطيئة الأبدية أن المرأة هي علة تلك الخطيئة وخليفة الشيطان وشرك الغواية والرذيلة ولا نجاة للروح إلا بالنجاة من أوهاقها وحبائلها.
6- وعند اليهود كانت البنت تخرج من ميراث أبيها إذا كان له عقب من الذكور إلا ما كان يتبرع به لها أبوها في حياته ففي الإصحاح الثاني في الأربعين من سفر أيوب «ولم توجد نساء جميلات كنساء أيوب في كل الأرض، وأعطاهن ميراثا بين إخوتهن». وحين تحرم البنت من الميراث لوجود أخ ذكر لها يثبت لها على أخيها النفقة والمهر عند الزواج، إذا كان الأب قد ترك عقارا فيعطيها من العقار، وإلا لم يعطها شيئا ولو ترك الأب القناطير المقنطرة من الأموال المنقولة والبنت التي يؤول إليها الميراث عند عدم وجود الأخ الذكر، لا يحق لها أن تنقل ميراثها إلى غير سبطها... واليهود يعتبرون المرأة لعنة لأنها أغوت آدم وقد جاء في التوراة: «المرأة أمر من الموت، وأن الصالح أمام الله ينجو منها، رجلا واحدا بين ألف ودت أما امرأة فيبن كل أولئك لم أجد».
7- أما المسيحيون فقد اعتبروا المرأة مسئولة عن انتشار الفواحش والمنكرات وكل ما آل إليه المجتمع من انحلال خلقي شنيع وقرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه، وأن المرأة باب الشيطان وأنها يجب أن تستحي من جمالها لأنها سلاح إبليس للفتنة والإغواء فقد قال القديس سوستام: إنها شر لابد منه وآفة مرغوب فيها وخطر على الأسرة والبيت ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية مموهة» وقد أثرت هذه الآراء كلها في أمم الغرب التي دخلت المسيحية ففي فرنسا عقد سنة 586 اجتماع بعض ولاياتها دار فيه البحث عن المرأة: أتعد إنسانًا أم غير إنسان؟ وكان ختام البحث أن قرر المجتمع أن المرأة إنسان ولكنها مخلوقة لخدمة الرجل.
وفي انجلترا كان النساء طبقا للقانون الإنجليزي العام حوالي سنة 1850 غير معدودات من المواطنين ولم يكن لها حقوق شخصية، ولا حق لهن في تملك ملابسهن ولا في أموال التي يكسبنها بعرق الجبين ومن الطريف أن نذكر أن القانون الإنجليزي حتى عام 1905 كان يبيح للرجال أن يبيع زوجته.
ولما قامت الثورة الفرنسية (نهاية القرن الثامن عشر) وأعلنت حقوق الإنسان في الحرية والإخاء والمساواة لم تشمل المرأة بنصيب من حقوق الإنسان هذه في قوانينها فقد جاء النص في القانون المدني الفرنسي أن القاصرين هم الصبي والمرأة واستمر ذلك حتى عام 1938 حيث عدلت هذه
النصوص لمصلحة المرأة ولا تزال بعض القيود على تصرفات المرأة المتزوجة فلا يجوز أن تهب أو تتصرف في مالها إلا بعد موافقة الزوج موافقة خطية منه إذ إن الزواج عندهم قائم على دمج شخصيتها بشخصية زوجها، ونظن أن هذا النظام إن هو إلا آثار من الرقي المدني الذي كان سائدا في أيام الرومان والذي تصبح فيه المرأة رقيقا للرجل يتصرف في مالها كما يشاء، والدليل على هذا الرق، أن المرأة بعد الزواج تنفصل باسمها وكنيتها عن أسرتها.
8- أما عند العرب في الجاهلية كانت المرأة ممتهنة في كثير من أحوالها فقد كانت العرب لا تورث النساء وكان الرجل من خوف العار أو الفقر يئد بنته، ويستكثر عليها النفقة التي لا يستكثرها على الجارية المملوكة والحيوان النافع وكل قيمتها بين الذين يستحيونها ولا يقتلوها في طفولتها أنها حصة من الميراث تنقل من الآباء إلى الأبناء، وتباع وترهن في قضاء المنافع، وسداد الديون وليس لها على زوجها أي حق وليس للطلاق حد معين ولا لتعدد الزوجات عدد محدود ولم يكن عندهم نظام يمنع تمكين الزوج من النكاية بها، كما لم يكن لها حق في اختيار زوجها وكل ما كانت تعتز به المرأة العربية في تلك العصور على أخواتها في العالم كله حماية الرجل لها والدفاع عن شرفها والثأر لامتهان كرامتها.
ثم جاء الإسلام بشريعة لعدل (156) ليقرر للعالم كله قديمه وحديثه أن للمرأة كرامة ولها عرض ولها مال كما أن للرجل كرامته وعرضه وماله، فلا يجوز إهدار كرامتها ولا انتقاص عرضها ولا منعها من تصرفها بمالها، قال تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم» وقال تعالى: فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى» وقال «يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن» ومنع الإسلام خدش كرامتها وعرضها مهما كانت الدوافع واعتبر ذلك قذفا يستحق فاعله أن يجلد ثمانين جلدة إذا كان باللسان «والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا، وألئك هم الفاسقون» وإذا اغتصب عرضها بالزنا يجلد مائة جلدة أو يرجم إن كان ثيبًا، وإذا اتهم الزوج امرأته ولم يستطع أن يثبت ذلك فيشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين، وتنفى عن نفسها التهمة صيانة لشرفها وعرضها وحرصها على كرامتها أن تشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين والخامسة للرجل أن لعنة الله عليه إن كان كاذبا، والخامسة للمرأة أن غضب الله عليها إن كان صادقًا فأي تكريم للمرأة بعد هذا!!
ومتى كانت المرأة في أي بيئة من بيئات الدنيا أو عالم من عوالم القانون والتشريع في هذا المستوى من التكريم حقوقها غير منقوصة في مالها وأهليتها في التصرف فيه كاملة سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة مالها، لها لا يملك أبوها ولا أخوها ولا زوجها أن يتصرف فيه أو يأخذه منها.
هي حرة التصرف ولا تجبر على الإنفاق على البيت مع الزوج إلا برضاها فحق الملكية لها حق مشروع شرعه الإسلام منذ ألف وأربعمائة عام وهو أمر لا تتمتع به المرأة الغربية حتى الآن فمثلا لا يحق لها أن تتصرف في أموالها إذا كانت زوجة إلا بإذن زوجها فذمتها في القانون الفرنسي (مثلا) غير منفصلة عن ذمة الزوج وقد عدل هذا القانون مؤخرا بحيث سوغ للمرأة أن تودع أموالها باسمها.
والمرأة المسلمة تستطيع أن تقوم بكل ما تريد في مالها، تبيع وتشتري وتؤجر وتستأجر وتوكل من تشاء وتقوم بجميع العقود شريطة أن تيم ذلك في طاعة الله لا في معصيته، فإذا تبرجت وتخلعت منعها الشرع من ذلك...
لقد عنى الإسلام بالمرأة منذ ساعة ولادتها حيث كانت تستقبل بالنفور والمقت والاشمئزاز والتشاؤم: «وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون» فجعل ولادة المرأة تفاؤلا وخيرًا وبشرى قال صلى الله عليه وسلم «علامة بمن المرأة تبكيرها ببنت» وقال: «من كانت له ابنة، فلم يؤذها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله بها الجنة» فغير الله مفهوم الجاهلية نحو البنت من النظرة الحقيرة إلى النظرة الإنسانية الخيرة الطيبة، واعتبر تبكير الأم بالبنت يمنا وبركة.
وأعطاها الإسلام وهي بكر مالم يكن له مثال قبله ولا بعده، جعل لها أن تختار زوجها كما يختارها زوجها وأن تبدي الرأي فيه، وهي صاحبة الكلمة الأخيرة فليس من حق ولى أمرها سواء كان أباها أو أخاها أو أمها أن يجبرها على زواج من لا ترغبه، فقد ورد في الحديث الشريف: «أن البكر تستأمر فتستحي فتسكت إذنها سكاتها» ويقول الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد: (إن البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من ملكها إلا برضاها ولا يجبرها على إخراج اليسير منة بدون رضاها؟ فكيف يجوز أن يسرقها ويخرج بضها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي من أكره الناس، وهو من أبغض شيء إليها ومع هذا فينكحها إباه بغير رضاها إلى من يريده هو وهي من أكره الناس، وهو من أبغض شيء إليها ومع هذا فينكحها إباه بغير رضاها إلى من يريد ويجعلها أسرة عنده، كما قال عليه السلام «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» ومعلوم أن إخراج مالها كله بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها)
وقد رتب الإسلام تبعا لهذه الأهلية الكاملة للمرأة مسئوليتها في تكاليف العبادة من صلاة وصوم وزكاة وحج ولم يضع عنها شيء منها إلا ما يتعارض مع طبيعتها كإباحة الإفطار حينما تكون حائضا أو نفساء أو حاملا وإسقاط الصلاة عنها عندما تكون نفساء أو حائضا وفرض عليها الزكاة في مالها مثلما أوجبه في مال الرجل وجعل الحج فرضا عليها كما فرضه على الرجل وأباح لها الجهاد في وقت النفير العام تسقى الماء وتمرض الجرحى، ولم يلزمها به من الأحوال العادية لأن مهمتها التي هيأها الله لها هي القيام على شئون الزوج المنزلية ورعاية الطفل تربية وتسقيه من روح الإسلام وتعلمه أن يكون جنديا من جنود الله، وتلقنه الغاية من وجوده وتنشئه على مرضاة الله وهذه المهمة هي أسمى مهمة يقوم بها بشر، ويحملها إنسان، ومن تكريم الله للمرأة أن جعلها من نصيبها وهل هناك مهمة أعظم من بناء الأجيال مهمة؟ ورتب الله عليها في هذا المسئوليات حسن الثواب في الجنة إن هي أحسنت وسوء العذاب في النار إن هي أساءت...
والمنهج القرآني في التربية يضرب لنا مثلين: امرأة أساءت فمصيرها النار، وامرأة أحسنت فكانت جائزتها الجنة: «ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً، وقيل ادخلا النار مع الداخلين... وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون، إذ قالت: رب ابن لي عندك بيتًا في الجنة، ونجني من فرعون وعمله، وجني من القوم الظالمين».
وإذا كان الله في منهجه قد رفع شأن المرأة وأعلا منزلتها وجعل لها من الحق مثل ما عليها باعتبارها كائن إنساني فلها في حدود طبيعتها أن تمارس الحق الإلهي الذي منحها إياه في جو من الطهر والإيمان واستقامة على أحكام الشريعة ولا تكون كامرأة نوح خائنة لمبادئ دينها وتقاليد أمتها الإسلامية نقول هذا لأن المرأة اليوم إنما ادعت من حقوقها ما يمكنها من الخروج على آداب الإسلام، وانطلاقًا وتقليد للغرب المتحرر من كل القيم الأخلاقية، مما يؤدي إلى هدم الأسرة وزلزلة بنيانها ومما يعود بالعواقب الوخيمة على المجتمع.
وهنا يتبادر سؤال عن صورة المرأة المسلمة كما أراداها الله؟ ندع الإجابة للإمام الشهيد حسن البنا كما جاءت في مجلة «المنار» بالجزئيين الثامن والعاشر سنة 1359 هـ، في فترة رئاسته لتحرير هذه المجلة الغراء بعد وفاة صاحبها السيد رشيد رضا رضي الله عنهما.
المرأة المسلمة بقلم الإمام الشهيد حسن البنا
كتب إلى كاتب فاضل يطلب أن أكتب عن المرأة وموقفها من الرجل وموقف الرجل منها، ورأى الإسلام في ذلك حث الناس على التمسك به والنزول على حكمه.
لست أجهل أهمية الكتابة في موضوع كهذا، ولا أهمية انتظام شأن المرأة في الأمة فالمرأة نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته أبلغ التأثير لأنه المدرسة الأولى التي تكون الأجيال وتصوغ الناشئة، وعلى الصورة التي يتلقاها الطفل من أمة يتوقف مصير الشعب واتجاه الأمة وهي بعد ذلك المؤثر الأول في حياة الشباب والرجال على السواء.
لست أجهل كل هذا ولم يهمله الإسلام الحنيف وهو الذي جاء نورًا وهدى للناس ينظم لهم شئون الحياة على أدق النظم وأفضل القواعد والنواميس أجل لم يهمل الإسلام كل هذا ولم يدع الناس يهيمون فيه في كل واد، بل بين لهم الأمر بيانا لا يدع زيادة لمستزيد.
وليس المهم في الحقيقة أن تعرف رأي الإسلام في المرأة والرجل، وعلاقتهما وواجب كل منهما نحو الآخر فذلك أمر يكاد يكون معروفا لكل الناس ولكن المهم أن نسأل أنفسنا هل نحن مستعدون للنزول على حكم الإسلام؟
الواقع أن هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية تتغشاها موجة ثائرة قاسية مرحب التقليد الأوربي والانغماس فيه إلى الأذقان.
ولا يكفي بعض الناس أن ينغمسوا هذا الانغماس في التقليد بل هم يحاولون أن يخدعوا أنفسهم بأن يدبروا أحكام الإسلام وفق هذه الأهواء الغريبة والنظم الأوربية، ويستغلوا سماحة هذا الدين ومرونة أحكامه استغلالا سيئا يخرجها عن صورتها الإسلامية إخراجا كاملا ويجعلها نظما أخرى لا تتصل به بحال من الأحوال ويهملون روح التشريع الإسلامي وكثيرا من النصوص التي لا تتفق مع أهوائهم.
هذا خطر مضاعف في الحقيقة فهم لم يكفيهم أن يخالفوا حتى جاءوا يتلمسون المخارج القانونية لهذه المخالفة ويصبغونها بصبغة الحل والجواز حتى لا يتوبوا منها ولا يقلعوا عنها يوما من الأيام.
فالمهم الآن أن ننظر إلى الأحكام الإسلامية نظرا خاليا من الهوى وأن نعد أنفسنا ونهيئها لقبول أوامر الله تعالى ونواهيه وبخاصة في هذا الأمر الذي يعتبر أساسيًا وحيويًا في نهضتنا الحاضرة.
وعلى هذا الأساس لا بأس بأن نذكر الناس بما عرفوا وبما يجب أن يعرفوا أحكام الإسلام في هذه الناحية.
أولا: الإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة الرجل في الحقوق والواجبات:
وهذه قضية مفروغك منها تقريبا فالإسلام قد أعلى منزلة المرأة ورفع قيمتها واعتبرها أختا للرجل وشريكة له في حياته هي منه وهو منها «بعضكم من بعض» وقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوقها الشخصية كاملة وبحقوقها المدنية كاملة كذلك وبحقوقها السياسية كاملة أيضا وعاملها على أنها إنسان كامل الإنسانية له حق وعليه واجب يشكر إذا أدى واجباته ويجب أن يصل إليه حقوقه والقرآن والأحاديث فياضة بالنصوص التي تؤكد هذا المعنى وتوضحه.
ثانيا: التفريق الرجل والمرأة في الحقوق إنما جاء تبعا للفوارق الطبيعية التي لا مناص منها بين الرجل والمرأة وتبعا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل مها وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما:
وقد يقال إن الإسلام فرق بين الرجال والمرأة في كثير من الظروف والأحوال ولم يسو بينهما تسوية كاملة، وذلك صحيح ولكن من جانب آخر يجب أن يلاحظ أنه إن انتقص من حق المرأة شيئا في ناحية فإنه قد عوضها خيرا منه في ناحية أخرى أو يكون هذا الانتقاص لقائدتها وخيرها قبل أن يكون لشيء آخر وهل يستطيع أحد كائنا من كان أن يدعي أن تكوين المرأة الجسماني والروحي كتكوين الرجل سواء بسواء وهل يستطيع أحد كائنا من كان أن يدعي أن الدور الذي تقوم به المرأة في الحياة هو الدور الذي يجب أن يقوم به الرجل ما دمنا نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة أعتقد أن التكوينين مختلفان وأن المهمتين مختلفتان كذلك وأن هذا الاختلاف لابد أن يستتبع اختلافا في نظم في الحياة المتصلة بكل منهما وهذا هو سر ما جاء في الإسلام من فوارق بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات
ثالثا: بين المرأة والرجل تجاذب فطري قوي هو الأساس الأول للعلاقة بينهما وأن الغاية منه قبل أن تكون المتعة وما إليها هي التعاون على حفظ النوع واحتمال متاعب الحياة:
وقد أشار الإسلام إلى هذا الميل النفساني وزكاه وصرفه عن المعنى الحيواني أجمل الصرف إلى معنى روحي يعظم غايته ويوضح المقصود منه ويسمو به عن صورة الاستمتاع البحت إلى صورة التعاون التام ولنسمع قول الله تبارك وتعالى: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة».
هذه هي الأصول التي رعاها الإسلام وقررها في نظرته إلى المرأة وعلى أساسها جاء تشريع الحكيم كافلا للتعاون التام بين الجنسين بحيث يستفيد كل منهما من الآخر ويعينه على شئون الحياة.
والكلام عن المرأة في المجتمع في نظر الإسلام يتلخص في هذه النقط:
أولا: يرى الإسلام وجوب تهذيب خلق المرأة وتربيتها على الفضائل والكمالات النفسانية منذ النشأة ويحث الآباء وأولياء أمور الفتيات على هذا ويعدهم عليه الثواب الجزيل من الله ويتوعدهم بالعقوبة إن قصروا وفي الآية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون».
وفي الحديث الصحيح «كلكم راع ومسئول عن رعيته: الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته» أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة» رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه.
وعن ابن سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان أحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة» رواه الترمذي واللفظ له وأبو داود إلا أنه قال (فأدبههن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة).
ومن حسن التأديب أن يعلمهن ما لا غنى لهن عنه من لوازم مهمتهن كالقراءة والكتابة والحساب والدين وتاريخ السلف الصالح رجالا ونساء وتدبير المنزل والشئون الصحية ومبادئ التربية وسياسة الأطفال وكل ما تحتاج إليه الأم في تنظيم بيتها ورعاية أطفالها وفي حديث البخاري رضي الله عنه «نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين» وكان كثير من نساء السلف على جانب عظيم من العلم والفضل والفقه في دين الله تبارك وتعالى.
أما المقالات في غير ذلك من العلوم التي لا حاجة للمرأة بها فعبث لا طائل تحته، فليست المرأة في حاجة إليه وخير لها أن تصرف وقتها في النافع المفيد.
ليست المرأة في حاجة إلى التبحر في اللغات المختلفة.
وليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة، فستعلم عن قريب أن المرأة للمنزل أولا وأخيرا.
وليست المرأة في حاجة للتبحر في دارسة الحقوق والقوانين، وحسبها أن تعلم من ذلك ما يحتاج إليه عامة الناس.
كان أبو العلاء المعري يوصي بالنساء فيقول:
علموهن الغزل والنسج والرد ن (157) وخلو كتابة وقراءة
فصلاة الفتاة بالحمد والإخلا ص تجزئ عن يونس وبراءة
ونحن لا نريد أن نقف عند هذا الحد (158) ، ولا نريد ما يريد أولئك المغالون المفرطون في تحميل المرأة ما لا حاجة به من أنواع الدارسات، ولكنها تقول علموا المرأة ما هي في حاجة إليه بحكم مهمتها ووظيفتها التي خلقها الله لها: تدبير المنزل ورعاية الطفل.
ثانيا: التفريق بين المرأة والرجل:
يرى الإسلام في الاختلاط بين الرجل المرأة خطرًا محققًا، فهو يباعد بينهما إلا بالزواج.
سيقول دعاة الاختلاط إن في لك حرمانا للجنسين من الاجتماع وحلاوة الأنس التي يجدها كل منهما في كسونه للآخر والتي توجد شعورا يستتبع كثرا من الآداب الاجتماعية من الرقة وحسن المعاشرة ولطف الحديث ودماثة الطباع... إلخ وسيقولون إن هذه المباعدة بين الجنسين ستجعل كل منهما مشوقا أبدا إلى الآخر ولكن الاتصال بينهما يقلل من هذا الشأن ويجعله أمرا عاديا في النفوس (وأحب شيء للإنسان ما منعا) وما ملكته اليد زهدته النفس.
كذا يقولون ويفتتن بقولهم كثير من الشبان، ولا سيما وهي فكر توافق أهواء النفوس وتساير شهواتها نحن نقول لهؤلاء: مع أننا لا نسلم بما ذكرتم في الأمر الأول، نقول لكم إن ما يعقب لذة الاجتماع وحلاوة الأنس من ضياع الأعراض وخبث الطوايا وفساد النفوس وتهدم البيوت، وشقاء الأسر، وبلاء الجريمة وما يستلزمه هذا الاختلاط من طراوة في الأخلاق ولين في الرجولة لا يقف عند حد الرقة، بل هو يتجاوز ذلك إلى حد الخنوثة والرخاوة، وكل ذلك ملموس لا يماري فيه إلا مكابر.
كل هذه الآثار السيئة التي تترتب على الاختلاط تربو ألف مرة على ما ينتظر منه من فوائد، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة فدرء المفسدة أولى ولا سيما إذا كانت المصلحة لا تعد شيئًا بجانب هذا الفساد.
أما الأمر الثاني فغير صحيح وإنما يزيد الاختلاط قوة الميل وقديما قيل: إن الطعام يقوى شهوة النهم، والرجل يعيش مع امرأته دهرًا، ويجد الميل إليها يتحدد في نفسه فما باله لا تكون صلته بها مذهبة لميله إليها، والمرأة التي تخالط الرجال تتفنن في إبداء ضروب زينتها ولا يرضيها إلا أن تثير في نفوسهم الإعجاب بها وهذا أيضا أثر اقتصادي من أسوأ الآثار التي يعقبها الاختلاط وهو الإسراف في الزينة والتبرج المؤدي إلا الإفلاس والخراب والفقر.
لهذا نحن نصرح بأن المجتمع الإسلامي مجتمع يكره الاختلاط للرجال فيه مجتمعاتهم وللنساء مجتمعاتهم ولقد أباح الإسلام للمرأة شهود العيد وحضور الجماعة والخروج في القتال عند الضرورة الماسة، ولكنه وقف عند هذا الحد واشترط له شروطا شديدة: من البعد عن كل مظاهر الزينة ومن سترا لجسم ومن إحاطة الثياب به فلا تصف ولا تشف ومن عدم الخلوة بأجنبي مهما تكن الظروف وهكذا.
إن من أكبر الكبائر في الإسلام أن يخلو الرجل بامرأة ليست بذات محرم له، ولقد أخذ الإسلام السبيل على الجنسين في هذا الاختلاط أخذاً قويًا محكمًا.
• فالستر في الملابس أدب من آدابه.
• وتحريم الخلوة بالأجنبي حكم من أحكامه.
• وغض الطرف واجب من واجباته.
• والعكوف في المنازل للمرأة حتى في الصلاة شعيرة من شعائره.
• والبعد عن الإغراء بالقول والإشارة وكل مظاهر الزينة، وبخاصة عند الخروج حد من حدوده.
كل ذلك إنما يراد به أن يسلم الرجل من فتنة المرأة وهي أحب الفتن إلى نفسه وأن تسلم المرأة من فتنة الرجل وهي أقرب الفتني إلى قلبها والآيات الكريمة والأحاديث المطهرة تنطق بذلك.
يقو الله تبارك وتعالى في سورة النور: «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آباء بعولتهن أو آبائهن أو أبناء بعولتهم أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون»
وفي سورة الأحزاب: «يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين».
إلى آيات أخرى كثيرة.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن ربه عز وجل: «النظرة: سهم مسموم من سهام إبليس من تركها مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» رواه الطبراني والحاكم من حديث حذيفة.
وعن ابن أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتغضن أبصاركم ولتحفظن فروجكم، أو ليكسفن الله وجوهكم» رواه الطبراني.
وعن ابن سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحم؟ قال الحم الموت» رواه البخاري ومسلم والترمذي، والمراد بدخول الأحماء على المرأة الخلوة بها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يخلو رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان».
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخلو أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم» رواه البخاري ومسلم.
وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له» ... رواه الطبراني والبيهقي ورجال الطبراني ثقاة من رجال الصحيح، كذا قال الحافظ المنذري.
وروي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياك والخلوة بالنساء، والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما، ولأن يزحم رجل خنزيرا متلطخا بطين أو حمأة خير له من أن يزحم منكبيه منكب امرأة لا تحل له». رواه الطبراني.
وعن أبي عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا» وكذا يعني: زانية. رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح، رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ولفظهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية» أي كل عين نظرت إليها نظرة إعجاب واستحسان.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني. وعنه: أن امرأة مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدة قوسًا، فقال: «لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل». رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان ي صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات (159) والمتفلجات (160) للحسن المغيرات خلق الله فقالت له امرأة في ذلك فقال: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، قال الله تعالى: «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» رواه البخاري ومسلم وأبو داود الترمذي وابن ماجة والنسائي.
وعن عائشة رضي الله عنها أن جارية من الأنصار تزوجت وأنها مرضت فتمعط (161) شعرها، فأرادا أن يصلوها فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لعن الله الواصلة والمستوصلة وفي رواية:«أن امرأة نم الأنصار زوجت ابنتها فتمعط شعر رأسها فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وقالت أن زوجها أمرني أن أصل شرعها فقال لا إنه قد لعن الموصولات» رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وفي رواية للبخاري ومسلم: «لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها».
وعن ابن هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا» رواه مسلم وغيره.
وعن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بن أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا أسماء إلى المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» رواه أبو داود وقال هذا مرسل، وخالد بن دريك لم يدرك عائشة.
وعن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: «إني أحب الصلاة معك» قال: «قد علمت انك تحبين الصلاة معي» وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك ي مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي» فأمرت فبنى لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه وكانت تصلى فيه حتى لقيت الله عز وجل رواه أحمد وابن حزيمة وابن حبان في صحيحهما.
وليس بعد هذا البيان بيان، ومنه يعلم أن ما نحن عليه ليس من الإسلام في شيء، فهذا الاختلاط الفاشي بيننا في المدارس والمعاهد والمجامع والمحافل العامة، وهذا الخروج إلى الملاهي والمطاعم والحدائق وهذا التبذل والتبرج الذي وصل إلى حد التهتك والخلاعة، كل هذه بضاعة أجنبية لا تمت إلى الإسلام بأدنى صلة ولقد كان لها في حياتنا الاجتماعية أسوأ الآثار.
يقول كثير من الناس: إن الإسلام لم يحرم على المرأة مزاولة الأعمال العامة وليس هناك من النصوص ما يفيد هذا فأتوني بنص يحرم ذلك، ومثل هؤلاء مثل من يقول: إن ضرب الوالدين جائز، لأن المنهي عنه في الآية أن يقال لهما: «أف» ولا نص على الضرب.
إن الإسلام يحرم على المرأة أن تكشف عن بدنها، وأن تخلو بغيرها وأن يخالط سواها ويحبب إليها الصلاة في بيتها ويعتبر النظرة سهما من سهام إبليس وينكر عليها أن تحمل قوسا متشبهة في ذلك بالرجل أفيقال بعد هذا إن الإسلام لا ينص على حرمة مزاولة المرأة للأعمال العامة؟
إن الإسلام يرى للمرأة مهمة طبيعية أساسية هي المنزلة والطفل، فهي كفتاة يجب أن يهيأ لمستقبلها الأسرى، وهي كزوجة يجب أن تخلص لبيتها وزوجها وهي كأم يجب أن تكون لهذا الزوج ولهؤلاء الأبناء وأن تتفرغ لهذا البيت فهي ربته ومدبرته وملكته ومتى فرغت المرأة من شئون بيتها لتقوم على وسواه؟.
فإن كان من الضرورات الاجتماعية ما يلجئ المرأة إلى مزاولة عمل آخر غير هذه المهمة الطبيعية لها، فإن من واجبها حينئذ أن تراعي هذه الشرائط التي وضعها الإسلام لإبعاد فتنة المرأة عن الرجل وفتنة الرجل عن المرأة، ومن واجبها أن يكون عملها هذا بقدر ضرورتها، لا أن يكون هذا نظام عام، من حق كل امرأة أن تعمل على أساسه، والكلام في هذه الناحية أكثر من أن يحاط به، ولاسيما في هذا العصر «الميكانيكي» الذي أصبحت فيه مشكلة البطالة وتعطل الرجال من اعتقد مشاكل المجتمعات البشرية في كل شعب وفي كل دولة.
وللإسلام بعد ذلك آداب كريمة في حق الزوج على زوجه، والزوجة على زوجها والوالدين على أبنائهما والأبناء على والديهم، وما يجب أن يسود الأسرة من حب وتعاضد على الخير وما يجب أن تقدمه للأمة من خدمات جلى مما لو أخذ الناس بها لسعدوا في الحياتين، ولفازوا بالعبادتين.
انتهى مقال الإمام الشهيد حسن البنا عن المرأة المسلمة وسنعالج ما أشار إليه فضيلته من آداب الإسلام في قيام الأسرة المسلمة .. حقوق الزوجين كل على الآخر وواجبهما نحو أبنائهما وحقوق الوالدين على الأبناء في الباب الثاني من هذا الكتاب وبالله التوفيق.
الفصل الثاني الخطة الصهيونية الصليبية وتدمير الأسرة المسلمة
الخطة الصهيونية
ترى الصهيونية العالمية أن انهيار الأخلاق في العالم وسيطرة الشهوات والغرائز الجنسية وحصر الناس في دائرة الضنك والحرمان لا هم لهم إلا اللقمة من أين يجيئون بها، أو في دائرة الترف والحرص على جمع المال من أي سبيل وبأي وسيلة شريفة أو غير شريفة.. كل هذا يمهد لها الطريق للسيطرة وبسط النفوذ في العالم...
لأن انهماك الناس وصرف أنظار الشعوب إلى هذه الأمور يزيدهم تعلقا بالدنيا وحب الحياة، ويزيدهم خوفا من الموت ورعبا منه، ويشغلهم عن القيم الإنسانية العليا والمبادئ والشاعر التي تدفعهم للحفاظ على كرامتهم وعزتهم والدفاع عن حقوقهم ومقدساتهم مما يسهل للحركة الصهيونية تحقيق أهدافها بأقل التكاليف والجهود في بسط سيطرتها على شعوب العالم.
لهذا عمل اليهود على ضرب المجتمعات من الداخل بالانحلال وتقويض دعائم الأسرة بالإباحية وكأن أول رائد هلم في العصر الحديث: هو اليهودي (فرويد) الذي عمل في مجال الأخلاق ما عمله دارون وماركس في مجالات الفكر والدين . .فيقولون في بروتكولاتهم: يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان لتسهل سيطرتنا إن فرويد منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس، لكي يبقى في نظر الشباب الشيء المقدس، ويصبح همه الأكبر هو إرواء غرائز الجنسية، وعندئذ تنهار الأخلاق»، في إطار هذا المخطط عمل فرويد وجاءت نظريته النفسية لتقول: إن الغريزة الجنسية هي التي تتحكم بسلوك الفرد وتحدد جميع العلاقات، وكبت هذه الغريزة والحد من نشاطها يؤدي إلى كبت جميع طاقات الإنسان، وأن الدين ناشئ من الكبت، من عقدة أو ديب من العشق الجنسي الذي يحسه الولد نحو أمه، من رغبة الابن في قتل أبيه، وانتشرت هذه النظرية بين الشباب في الغرب وضربت الأخلاق وهبطت بالإنسان إلى مستوى أقل من الحيوان ثم تبعه اليهودي (دوركايم) بنظرياته الاجتماعية ليقول: إن الأسرة عمل صناعي ولا ضرورة لها والأصل هو شيوعية النساء فهدم أساس المجتمعات.
ولم تقف المؤامرة عند هذا الحد. وإنما حرصت على إخراج المرأة من بيتها إلى الطريق.
- ماركس يقول: إن المرأة يجب أن تعمل.
- ودوركايم يقول: ن الزواج ليس فطرة الأسرة ليست نظام طبيعي.
- وفرويد يتلقفها فيقول لها؛ إنها لابد أن تحقق كيانها تحقيقا جنسيا خالصا من القيود.
وراح شياطين اليهود ينشرون هذه النظريات النفسية والاجتماعية في المؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية والإعلامية كما عملوا على استغلال جوانب الحياة الأخرى فيعمدون إلى تشجيع الترف الذي يجلب الهلاك ويخلق الحقد بين الطبقات ويغرق المجتمعات في الفساد والانحلال.
فقاموا بتهيئة أسباب الترف عن طريق شركاتهم المنتجة للكماليات المختلفة والمتجددة في أشكالها وألوانها لتسلب ثروات الأمم
كذلك يسيطر اليهود في أوربا وأمريكا على دور الأزياء وبيوت الزينة، وبذلك يعينون ملابس الرجال وأزياء النساء من آن لآخر فمسخون الرجل ويعرون المرأة والهدف في النهائي لهذه البيوت أن تجعل المرأة التي أخرجها ماركس للعمل فتنة، تشغل بال الشباب بالفتنة والإغراء وتحلل في قلبه وازع الإيمان والتقوى.
ولم يغفل اليهود الفن بمظاهرة المختلفة ووسائله المتنوعة للإفساد، فالأغنية أصبحت دعوة صريحة إلى الفسق والفجور والسينما وهي مؤسسة يهودية تعمل على إفساد الأولاد والبنات بما تعرض عيهم من فتنة.
ويدير اليهود الملاهي والمراقص وبيوت الدعارة في أكثر بلدان العالم حتى تحولت المجتمعات إلى مواخير تع بالفساد والدعارة.
وتلعب النساء اليهوديات المتنكرات في جنسيات مختلفة دورا كبيرا في إفساد الأخلاق وسلب الأموال واستغلال الزعماء السياسيين ورؤساء الدول فالملاحظ أن الكثير من هؤلاء الزعماء لهم زوجات أو خليلات يهوديات يطلعن على أسرارهم لخدمة المخططات اليهودية.
وهم يعملون بشتى الوسائل المغرية للتشجيع على اختلاط الجنسين.
ويقومون على نشر المجلات والكتب الجنسية المهيجة والقصص الغرامية المثيرة والصورة العارية في أوضاع شتى ومن المعروف أن أكبر ناشر للأدب الجنسي المكشوف في العالم رجل يهودي يعمل تحت اسم مستعار (موريس غيروديس) واسمه الحقيقي (غوردياس بن جاك كاهان) وأبوه من قبله كانت مهنته نفس المهنة وتوفي سنة 1949م، وسلسلة كتبه تحت اسم (أولمبيا) والمكتبة الشهيرة التي تبرز وتروج وتبيع كتب هذا الناشر هي (برنتانو) في مدينة باريس.
لقد أشار هنري فورد في كتابه «اليهود العالمي» بأن اليهود من أجل تحقيق غاياتهم قد سيطروا على ثلاثة أشياء: البنوك للربا والسينما لتقديم مفاهيمهم المسمومة وشركات الملابس والأزياء والمساحيق والعطور، وسواها من مستلزمات الموضة فكلما غيروا الأنماط ( الموضة) زادوا النساء شراء وإنفاقا وتسربت الأموال إلى جيوب اليهود وهم يحققون أيضا قتل الأخلاق ويشيعون التفسخ وينشرون الشهوات، وإنما الملابس القصيرة ابتكار يهودي فقد رفعوا أزياء النساء فوق الركبة ليزول الحياء وتنتشر الرذيلة، ويشيع الاختلاط غير البريء بين الشباب والشابات، وتضيع طهارة الفتاة وتتهدم الأسرة وتنشر الأمراض الجنسية، ويبتلي الأطفال وينشأ جيل ضائع موبوء مريض.
والمرأة المسلمة تسعى إلى حتفها وحتف أمتها دون أن تدري وقبل أن تفيق من أحلامها وأهوائها.
وابتلى العالم الإسلامي بهذه الشرور منذ أن استعره عبيد الصهيونية من الغرب) فالعادات والتقاليد التي جعلت للأمة الإسلامية خصائص نفسية معينة سمت بها وأعطتها صلابة وتميزًا (162) صارعت بها كل الخطوب والنوازل .. هذه العادات أصبح وجودها في حياة الأمة مستهدفا لهذه التيارات الانحلالية التي لم تدع مكانا الآن إلا دخلته من المدينة إلى القرية.
وما أصاب التقاليد، أصاب الأسرة ،حصن المجتمع ومصنع طاقاته فأخذت تعصف بها تيارات الهدم بسبب انحلال الرجل وفقدانه رجولته واستهتار المرأة وفقدانها العواطف النيلة وصفات الأنثى الفاضلة.
واليهود يركزون على تدمير الحياة الأسرية للوصول إلى أهدافهم الشريرة، فقد جاء في البروتوكول العاشر: «فإذا أوحينا إلى عقل أي فرد فكرة أهميته الذاتية، فسوف ندمر الحياة الأسرية بين الأميين غير اليهود- وتفسد أهميتها التربوية».
الواقع أن الحملات الصهيونية والصليبية عندما استطاعت الدخول إلى الأسرة المسلمة، قد استولت على أهم معقل في المجتمعات الإسلامية، فبدلا من أن توجه حملاتها الإفسادية للفرد المسلم بعد أن يخرج إلى الحياة مزودا بأسباب المناعة والحصانة التي يستمدها من تربية الأسرية، صار يشب على الفساد في أسرته منذ الطفولة ويتلقن اتجاهات وتقاليد الميوعة والاستهتار من أمة وأبيه .. من أمه التي لا ترى لها قدوة إلا في الممثلات وعارضات الأزياء والمغانيات والحقيقة التي لا مراء فيها أن المرأة في الشرق الإسلامي أصبحت رسول فساد أينما ذهبت إلا من رحم اله فهي في البيت مفسدة للنشء مثبطة للزوج عن الأعمال الجليلة والأهداف العالية لا يرضيها إلا أن يملأ لها (حقيبة يدها بأوراق البنكنوت) لتنفقها في اللهو الزينة ولا يهمها بعد ذلك من أي طريق جاء هذا المال من حلال أم من حرام كما أصبحت لا تفهم رباطها بالزوج إلا كما تفهم بالبقرة رباطها بفحل البقر هي في المجتمع عامل إغراء وفتنة تنشر الفساد في كل ناحية بعريها وميوعتها وينعكس هذا الأثر على نفوس الشباب الذي مسخ إلى عجول حيوانية في صور آدمية تنتشر على مفارق الشوارع والحواري في المدينة لينهش بعيونه الجائعة أجساد الغاديات والرائحات من الكاسيات العاريات، فانطمست بذلك فطرته وتدنست طهارته وغرق في هذه التيارات النجسة وانصرف عن واجباته وأصبح لا يعي مستقبله ولا ما يراد له في غده.
ويعبر عن هذا الوضع الشائن للمرأة المسلمة اليهودي«موروبيرجر» في كتابه «العلام العربي المعاصر» الذي صدر عام 1963 بأسلوب فرح مستبشر لخروج النساء على الإسلام .. يقول.. «والسلوك والأخلاق تتغير بسرعة لدرجة أن الحكومات أصبحت تراقب هذا التغير فالتغرب قد أثر تماما بالعلاقات بين الرجال والنساء ،وهو أشد أنواع التغير هولا والإسلام أكثر صرامة من بقية الأديان في تحريمه تبرج النساء وزينتهن إلا أن هذا التحريم يصاب في كبده من سهم ملابس النساء وتخررهن المتواصل» (163)
هذا ونسمع أن المرأة قامت لتشارك في القضايا القومية بعقد مؤتمرات لا تختلف في حقيقتها عن حفلات اختيار ملكات الجمال وعروض الأزياء... فهيم تروح إليها لاستعراض فتنتها وزينتها التي يستحضرها لأمثالهن من التحررات اليهودي (ماكس فاكتور) الذي يملك مصانع أدوات التجميل في الغرب.
على أن أخطر ما ابتلينا به هو فقدان الغيرة والحساسية بقيمة الأخلاق وقيم الرجولة فقد كان الرجل المسلم أشد حرصا على صيانة نسائه وأعراضهن وشرفهن وحفظ عفافهن وطهرهن، من أن يصاب بخدش أو بطعن أو يمس بخبث أو دنس، أو يلحق بأذى أو ضر، فقد كانت غيرته أصلا في تدينه، ودليلا على عظم كرامة المرأة عنده فهو الذي يربي على قول الرسول صلى الله عليه وسلم «ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة، مدمن خمر، والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث «رواه أحمد فأصبحنا وقد تبلدت هذه الحساسية وقتلت هذه الغيرة فينا بفعل مخططات الانحلال الصهيوني الصليبي وصار الأب لا يبالي أن يرى أبنته كاسية عارية، تصاحب الشباب بحجة الزمالة في الجامعة ومعاهد التعليم أ ونوادي الرياضة أو على الشواطئ بل هو يصطحب زوجته وأولاده إلى السينما يشاهدون مناظر الفجور والزنا تعرض عليهم خطوة خطوة، وهو يتكدس بجانبهم كومة من اللحم البارد لا يحركه شعور ولا تهتز غيرة ولا نخوة.
وكان الأجدر بأولي الأمر في أمتنا أن يكونوا أكثر يقظة وانتباها لهذه التيارات المخربة والمخططات المدمرة التي يزجيها اليهود إلينا كسلاح في معركة معنا، لتحظيم صلابتنا ولكنهم راحوا يحملن العبء كله كوكلاء عنهم في تنفيذ هذه المخططات يقومون بكل التسهيلات لإنشاء الملاهي وأندية القمار ويتسترون على بيوت الدعارة ويقدمون لها كل أسباب الحماية ويشجعون قيام حفلات ملكات الجمال، والغناء والرقص ويصرفون المكافآت للراقصين والداعرين والداعرات باسم تدعيم الفنون، وأقروا الاختلاط بين الجنسين في دوائر العلم والعمل والأماكن العامة وأيام الأعياد المختلفة وحاربوا كل دعوة إلى نظافة الأمة وتطهيرها من كل الموبقات ويصون عن سبيل الله ويقفون لكل سالك له يريد أن يتطهر وبذلك كانوا وكلاء عن تنفيذ هذه المخططات وفتحوا جميع النوافذ على المجتمعات الإسلامية لتدخلها كل تيارات الهدم والفساد.
جاء البروتوكول الثالث عشر من برتوكولات صهيون يقول: «ولكي نبعدهم – غير اليهود- عن اكتشاف سير خط جديد في السياسة سنلهيهم بأنواع شتى من التسلية كالقمار والملاهي إثارة العواطف ونشر منازل الدعارة ونقوم بالإعلان في الصحف داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى من أنواع المشروعات كالفن والرياضة وما إليها هذه المتع الجديدة ستلهي الناس نهائيا عن المسائل التي قد تثير النزاع بيننا وبنيهم، وحالما يفقد الناس تدريجيا نعمة التفكير المستقل سنكون الوحيدين الذين يكونون أهلا لتقديم خطوط تفكير جديدة عن طريق وسطاء لن يرتاب أحد في أنهم من أتباعنا وسنحاول أن نوجه العقل العام نحو كل نوع من النظريات المبهرجة التي يمكن أن تبدو تقدمية أو تحررية»..!!
الخطة الصليبية
عندما انتهت الحروب الصليبية بهزيمة الصليبيين لم ييأس هؤلاء من العودة إلى احتلال بلاد الإسلام فاتجهوا إلى دارسة هذه البلاد في كل ما يخصها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات، ليتعرفوا على مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموه، ولما تم لهم الاستيلاء العسكري والسيطرة السياسية كان من دوافع التبشير والاستشراق إضعاف المقاومة الروحية في نفوسنا، وبث الوهن والارتباك والفوضى في أوضاعنا الاجتماعية والثقافية وذلك عن طريق التشكيك بفائدة ما في أيدينا من تراث وما عندنا من عقيدة وأنظمة اجتماعية وأخلاقية فنفقد الثقة بأنفسنا ونرتمي في أحضان الغرب ولا نرى غضاضة في استمرار تبعيتنا له بعد جلائه العسكري.
وتحددت رسالة التبشير بعامة ومدارس إرسالياته بخاصة في تشويه المعتقدات الإسلامية في نفوس المسلمين وزعزعتها والتشكيك فيها اكتفاء بانحلال الروح الإسلامية وذلك بعد أن أدركت الدوائر الصليبية أنه من العسير أن يرتد مسلم عن دينه، على أثر شكاوي من المبشرين في أحد مؤتمراتهم عن إخفاقهم في تحويل المسلمين إلى النصرانية حيث أنه لا يستجيب أحد من المسلمين للتبشير إلا أحد اثنين: طفل مخطوف من أهله وهو صغير فيربى على النصرانية وهو جاهل لعقيدته، أو رجل معدم لا يجد سبيلا للعيش إلا الدخول في النصرانية ليحصل على لقمة العيش ويظل من المشكوك فيه أنه غير عقيدته حقيقة... ويقوم القس «صموئيل زويمر» ليعلن في هذا المؤتمر عن الهدف الحقيقي للتبشير ومدارسه يقول: «إن الخطباء أخطأوا أيما خطأ وأنه ليس الهدف الحقيقي للتبشير هو إدخال المسلمين في النصرانية إنما الهدف هو تحويل المسلمين عن التمسك بدينهم وفي ذلك نكون قد نجحنا نجاحًا باهرًا عن طريق مدارسنا الخاصة وعن طريق المدارس الحكومية التي تتبع مناهجنا.»
ويذهب المبشرون من ورائهم الدوائر الصليبية الاستعمارية في أهداف المدارس إلى أبعد من هذا إذ يرون أن المدارس ليست غاية في ذاتها وأنها لا تعدو أن تكون وسائل بالغة التأثير الذي يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوما ما قادة في أوطانهم (164).
كما أدرك المبشرون أن المرأة ذات أثر عميق في التربية فأولهوها اهتماما كبيرا فبادروا إلى إنشاء أول مدرسة تبشيرية للبنات في بيروت عام 1830م، ومن ثم فتحوا مارس كثيرة للنبات في مصر وسورية والهند وأفغانستان وجميع بلدان العالم الإسلامي التي ابتليت بالاستعمار الغربي وقالوا: «إن التبشير يكون أتم حبكا في مدارس البنات الداخلية تفضل المدرسة الخارجية لأنها تجعل الصلة الشخصية بالطالبات أوثق، ولأنها تنتزعهن من سلطات بيتية غير مسيحية، ويفرح المبشرون إا اجتمع في مدارسهم الداخلية بنات من أسر معروفة لأن نفوذ هؤلاء يكون حينئذ في بيتهن أعظم وتتكلم المبشرة «أنا ميليغان» فتقول: « في صفوف كلية البنات في القاهرة بنات آباؤهن باشاوات وبكوات، وليس ثمة مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحي وليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة (165).
وعن طريق هذه المدارس وفي إطار الخطة العامة للتبشير والاستشراق في «إضعاف مثل الإسلام وقيمه العليا من جانب، وإثبات تفوق المثل الغربية من جانب آخر، وإظهار أي دعوة للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر» (166) .. عن طريق هذه المدارس اهتم المبشرون بما يسمونه «تحرير المرأة» وتخريج جيل من الفتيات المسلمات اللواتي لا يعرفن عن دينهن وتاريخهن شيئا ويتعلقن بالحياة الغربية التي تفسح لهن الطريق إلى الفساد والانحلال باسم المساواة والتحرر من الرجعية.
لقد أراد المبشرون أن يخرجوا المرأة المسلمة من عقيدتها وخلقها وكرامتها ودعوا إلى تعليمها وفق مناهجهم التربوية الخبيثة لتصبح متحررة من الإسلام ولتنطلق على هواها، فلا تكون في المستقل الأم المسلمة التي تغرس في أطفالها غراس الإسلام والإيمان وتنشئهم على الولاء لدينهم ولأمتهم يضحون في سبيلها بالنفس والمال بهذا النوع من التربية يتحقق للمبشرين هدفهم الخطير الذي لا يفترون عن العمل لبلوغه، وهو القضاء بشتى الأساليب على كل ما يؤدي إلى قيام جيل مسلم يحمل رسالة الإسلام من جديد.
فلم تخل مؤتمرات المبشرين فيما أصدرت من قرارات وتوجيهات من الإلحاح على تحرير المرأة المسلمة بمفاهيم التحرر عند الغرب وتعليمها لتشب وقد أشربت روح الغرب وقيمه.... جاء في كتاب الغارة على العالم الإسلامي الذي صدر في فرنسا قبل نيف وخمسين عامًا ا يؤكد ذلك جاء في الصفحة 47 «ينبغي للمبشرين أن لا يقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة، إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين وتحر النساء» وجاء في صفحتي 88، 89 التقرير الخاص بأعمال «مؤتمر لكنؤ ومؤتمر القاهر التبشيري» فقد وضع مؤتمر لكنؤ التبشيري إلي عقد سنة 1911 م في برنامجه عدة أمور منها:
«استنهاض الهمم لتوسيع نطاق تعليم المبشرين والتعليم النسائي»
أما لجنة مواصلة أعمال مؤتمر القاهرة الذي عقد سنة 1906 فقد وضعت هي الأخرى برنامجا يحتوي على مواد منها:
«المادة السابعة: الارتقاء الاجتماعي والنفسي بين النساء المسلمات»
من أجل ذلك كانت هذه المحاضن الأساسية للصليبية مستحقة لما تبذله دوائر الغرب وحكوماته من إمكانات بشرية ومالية وجهود فنية وعلمية سخية فالعائد كبير والثمار ضخمة.. وليس أكبر عندهم من دك حصون المسلمين من الداخل وفي مقدمتها حصن الأسرة ومعولهم في ذلك هي المرأة التي تخلع ثوب الإسلام في مدارس الإرساليات التبشيرية وتتطبع فيها على حياة العري .. عري الروح وعري الجسد.
وقد وضع الكاتب الفرنسي «مسيوايتين لامي» النقط على الحروف في مقاله الذي نشرته مجلة «العالمين الفرنسية» منذ ثمانين عامًا، كاشفا عن أهداف الخطة الصليبية لهدم الإسلام بقوله: إن مقاومة الإسلام بالقوة لا تزيده إلا انتشارا فالواسطة الفعالة لهدمه وتقويض بنيانه هي تربية بنيه في المدارس المسيحية وإلقاء بذور الشك في نفوسهم منذ الطفولة، فتفسد عقائدهم من حيث لا يشعرون وإن لم يتنصر منهم أحد فإنهم يصيرون لا مسلمين ولا مسيحيين وأمثال هؤلاء يكونون بلا ارتباب أضر على الإسلام مما إذا اعتنقوا المسيحية وتظاهروا بها...
«إن طريقة تربية أبناء المسلمين وإن كان لهما من التأثير ما بيناه، فإن تربية البنات في مدارس الراهبات أدعى لحصولنا على حقيقة الغرض ووصولنا إلى نفس الهدف الذي نسعى إليه بل أقول إن تربية البنات بهذه الكيفية هي الطريقة الوحيدة للقضاء على الإسلام بيد أهله.
ثم انتهي إلى تحديد الغاية في تربية البنات في مدارس الإرساليات بقوله: «إن التربية المسيحية أو تربية الراهبات لبنات المسلمين توجد للإسلام داخل حصنه المنيع الأسرة عدوة لدودة وخصم قوي لا يقوى الرجل على قهره لأن المسلمة التي تربيها يد مسيحية تعرف كيف تتغلب على الرجل ومتى تغلبت هكذا أصبح من السهل عليها أن تؤثر على عقيدة زوجها وحسه الإسلامي وتربي أولادها على غير دين أبيهم، وفي هذه الحالة نكن قد نجحنا في غايتنا من أن تكون المرأة المسلمة نفسها هي هادمة الإسلام»
وعلى ضوء ما سبق، نجد أن المخطط التبشيري الاستعماري في العالم الإسلامي يتبع هذه الخطوات:
- خطوة التشكيك... تشكيك المسلمين في إسلامهم وصلاحيته كمنهج حياة، والعمل على إقناعهم بأن سبب تأخرهم وانحطاطهم، فالغرب لم يتقدم إلا بعد أن نفض عن كاهله أعباء الدين والتزاماته وليس للمسلمين من سبيل إلى التقدم غير ترك دنيهم والتحلل من قيمهم والسير في الطريق الذي سلطه الغرب.
- خطة التذويب.. وهدفها سلخ المسلمين من أخلاقهم ومقوماتهم الشخصية فيذوبوا في دوامة الحضارة الغربية، وذلك بالعمل على دعوتهم إلى مبادئ جديدة تحل محل العقيدة .. دعوتهم إلى الشيوعية والقومية العنصرية والعمل بكل الطرق على تحطيم حصن الأسرة الذي يخرج الأجيال المسلمة بتأليب المرأة على الرجل باسم الحرية والمساواة يقول الدكتور زويمر في كتابه أشعة الشمس في الحريم «إننا قد تعلمنا أن هناك خططا أخرى غير الهجوم المباشر على الإسلام والضرب العشوائي على الحائط الصخري أصبح علينا أن نتحسس الثغرة في الجدار ونضع البارود فنحن عرفنا أن الثغرة تقع في قلوب نساء الإسلام، فالنساء هن اللواتي يصنعن أولاد المسلمين».
- النتيجة.. وكانت النتيجة أن نشأ جيل من المسلمين كافر بأمته مؤمن بحضارة الغرب، يدافع عنها ويأخذ بها منجًا لحياته ويعتبرها حضارة تقدمية بينما يعتبر المنهج الذي يقدمه دينه وحضارة أمته حضارة رجعية فوجد منهم من يكن الولاء لموسكو أو واشنطن أكثر من ولائه لأمته ووطنه، كما وجد منهم من يحرص على مصلحة الشيوعي اليهودي أكثر من حرصه على أبناء وطنه وجنسه هكذا نشأ في المسلمين جيل يكفر بكل المقومات التي صانت هذه الأمة من الذوبان فاستغل المستعمرون أمثال هؤلاء فاتخذوا منهم صنائع لهم أوصولهم إلى أعلا المناصب (167): وحكموا هذه البلاد من ورائهم وسخروهم لتنفيذ مخططاتهم.. يقول الدكتور زويمر للمبشرين: «إنكم أعددتم شبابًا في ديار المسلمين لا يعرفون الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه المسيحية وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقًا لما أراده له الاستعمار لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا تبوأ أسمى المراكز فللشهوات، ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء»
حركة تحرير المرأة
إن المتتبع للحركة المعروفة باسم «تحرير المرأة» يجد أن أصولها الفكرية البعيدة، تعود إلى «بولس» مؤسس المسيحية التاريخية الحالية، والتي تعتبر رسائله أقدم الوثائق المسيحية في تاريخ الكنيسة إذ أنها تعد أقدم من الأناجيل الأربعة كلها، بل إن رسائله تعتبر المادة الأساسية الأولى للأناجيل.
ذلك أن هذا اليهودي الذي أعطى لنفسه صفة الرسول، هو الذي أوجد في الديانة المسيحية فكرة تعارض زواج المرأة من الرجل وجعلها تتنافى وعبادة الرب!!
ويعبر عن هذه المضادة للطبيعة البشرية في قوله في إحدى رسائله التي تعتبر مقدسة عند الكنيسة، وهي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، إذ جاء فيها:
«أقول لغير المتزوجين وللأرامل أنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا»... أي غير متزوجين.
ولماذا يظل الإنسان غير متزوج؟
يجيب على هذا بوليس في نفس رسالته بقوله: «إن بين الزوجة والعذراء فرقا:» غير المتزوجة تهتم فيها للرب لتكون مقدسة جسدا وروحا أما المتزوجة فتهتم فيها للعالم كيف ترضي رجلها»...
ومن هنا نشأت فكرة الرهبنة في المسيحية الحالية بين الرجل والنساء واعتبر الزواج في الفكر الكنسي في درجة الخطيئة لأنه استجابة لرغبات الجسد الدنس الخاطئ!!
وعلى الجانب الآخر وفي الجبهة الأخرى يلتقط شياطين اليهود الآخرين هذا الخيط المتعارض وفطرة الإنسان لينسجوا منه نظرية أخرى تروج لفكرة الإعلاء من شأن الجنس كرد فعل على الكبت الناجم عن الأخذ بنظرية الرهبنة وفكرة الكنيسة في الجسد وخاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بعد ظهور نظرية سيجموند فرويد في الجنس.
وقد تبلورت فكرة تحرير المرأة بالذات في عصر الثورة الفرنسية وعصر النهضة الأوربية المعروفة بعصر التنوير، وخاصة بعد نجاح الماسونية اليهودية في القضاء على سلطان الكنيسة والإعلاء من شأن العقل باعتباره هو مصدر المعرفة الوحيد، بعد أن فقد الإنسان الأوروبي ثقته في الكنيسة التي كان يستمد منها قيمة العليا ومثله الأخلاقية في الحياة الأسرية والعلاقات الاجتماعية.
وتنجح الثورة الفرنسية وتطيح بالكنيسة وتعلن مبادئ الحرية والإخاء والمساواة ويصبح الإيمان بالوطن والدولة هي دين الشعب الفرنسي وتحل القومية الفرنسية والديموقراطية محل العقيدة المسيحية وأصبح الوطن هو القيمة العليا والوحيدة التي تبذل في سبيله النفوس والأموال، وتصبح فرنسا بعد ذلك دولة علمانية ليست لها علاقة بالكنيسة تطبيقا لمبادئ مونتسكيو وجان جاك روسو وفولتير في فصل الدين عن الدولة وظهور ما يسمى بالحرية الشخصية والحرية الاقتصادية والمذاهب الفكرية الهدامة المتمردة على الله تحت اسم التقدمية العلمية والأفكار المعاصرة وحرية الفرد المطلقة بلا حدود ولا ضوابط ومن هذه الحريات «حرية المرأة» التي أثيرت حولها ضجة مفتعلة تنادي المرأة بتحريرها من الرجل وانطلاقها لممارسة حريتها الاجتماعية والسياسية وخروجها للعمل وكان ذلك كله كرد فعل طبيعي لقيود الكنيسة ونظرتها المتعسفة الخاطئة للجنس والمرأة وللجسد، الذي هو في عرفها «وعاء الخطيئة».
كانت كتابات فولتير الماجن بالذات تحض على الانحلال والفوضى والشهوة وظهرت المرأة كهدف نهائي للبهجة والمتعة كما أصبحت سلاحًا رئيسيًا في تدمير المجتمعات والقضاء على أحلام الشعوب.
تحرير المرأة في التاريخ الأوروبي
إن الفكرة حينما أراد أن يتحرر من آثار المفاهيم التي كانت مفروضة عليه في ظل المسيحية الكنسية قد تجاوز ذلك كله تجاوزا كبيرا من النقيض إلى النقيض وعجز أن يوجد التوازن في هذا الأمر ذلك لأن المسيحية الكنسية التاريخية كانت وما زالت تحمل بذور المعادلة الصعبة التي فرضتها اليهودية التلمودية بالاتجاه المادي البالغ الخطورة والذي ترددت فيه البشرية من قبلها فجاءت المسيحية الكنسية تدعو إلى الأخلاق وإلى تطهير النفس من الفساد في مواجهة الانحلال والابتذال الذي كان مفروضا على المجتمع الروماني فبعد أن كانت المرأة في الدولة الروماني تستبدل أزاجا ثمانية في أقل من خمس سنوات، فتحت أبواب الأديرة للعديد من النساء وخاصة الساقطات والمومسات اللاتي أردن أن يتطهرن من فاحشة الزنا.
غير أن هذه المفاهيم لم تلبث أن خرجت عن هذا الحد، فأصبحت رهبانية انعزالية تكره الحياة تحتقر الجسد، وأصبح الطلاق مقيدا تقييدا صارما بل وأصبح الطلاق نفسه خطيئة مهما كانت الظروف وراحت الدعوة إلى الزهد وكبح الجسد وطاقاته وأصبحت المرأة لعنة أبدية.
كان هذا هو الخيط الذي تلقفته اليهودية فجاءت بالنقيض العكسي تمامًا في صورة التحرر والانحلال فظهرت الوجودية (168) البوهيمية المادية المتعطشة لشهوة الجسد وتصوراتها الحيوانية عن المتعة الجسدية ورفض رباط الزواج، وظهور أفكار العبث واللامعقول وأخيرا الدعوة إلى الهيبية.
كل هذه المذاهب الفاسدة تعتبر ردًا على الزهادة المسيحية المفتعلة التي تتنافى والطبيعة البشرية، والتي تتمثل قيمتها في عدم زواج البابا نفسه كرمز للطهارة الجسدية، فجاءت هذه الأفكار المضادة لإسقاط النفس البشرية في مجالات اللذة والشهوات حتى تصبح غير قادرة على الدفاع عن نفسها أو تركيز وجودها، وأصبحت المرأة بجسدها سلاحا خطيرًا في هذه الدعوات وارتفعت صيحة «تحرير المرأة» ترتكز على مفاهيم مدمرة وإن كانت تدعي العمل على الإعلاء من قدرة المرأة.
إن هذه المفاهيم المدمرة تظهر بوضوح في التفسير النفسي والاجتماعي التي تشكله الفلسفات المعاصرة وهي تقوم أساسًا على المبادئ اليهودية التالية:
- إن الأسرة ليست نظام فطري، ولكن الاتصال الحر بين الرجل والمرأة هو الفطرة الطبيعية.
- إن إطلاق حريات المرأة هو الطريق الصحيح لحركتها في المجتمع.
- إن خروج المرأة للعمل هو العامل الأكيد في قدرتها على امتلاك إرادتها إزاء الرجل.
- إن المرأة على قدم المساواة مع الرجل في كل الخصائص ولكن السر في ضعفها هو الحيلولة بينها وبين حرياتها في العصور الماضية التي منعتها من ممارسة هذه الحرية.
- أن من حق المرأة أن تباشر رغبتها الجنسية دون الحاجة إلى الزواج أو الأولاد فإن هناك من وسائل الطب ما يمنع الحمل.
- المرأة بهجة المجتمع ولا يتشكل المجتمع إلا باشتراكها فيه ولا تولد القصة الأدبية إلا بتحرر المرأة حيث تولد القضايا والمآسي العاطفية والأحداث الساخنة المثيرة.
- إنكار الدعوات الدينية التي تدعو إلى العفاف والبكارة والبيت بحجة إفساد الحمل والولادة لجمال المرأة وجسدها.
- عدم التفريق بين امرأة المجتمع الفاضلة وبين الغانية والراقصة، وجعل الأخيرة نموذجا للأزياء الحديثة وأدوات الزينة لتقلدها كل النساء.
- إعلاء شأن العقود المدنية في الزواج وظهور نظريات الترابط بين الرجل والمرأة بدون عقد مكتوب يوجب قيود الرجعية.
- ظهور عيادات الأطباء التي تعلن عن إجراء عمليات الإجهاض.
- ظهور أندية العراة واختلاط الرجال والنساء بالرجال على شواطئ البحار بالمايوهات العارية (البكيني) والاهتمام بمسابقات جمال السيقان والصدر لانتخاب ملكات الجمال.
- استشراء أدب الجنس والأدب المكشوف وقصص الإباحية باعتبارها ظاهرة طبيعية في المجتمع.
- ظهور حق تحرر المرأة اقتصاديا واختيار الزوج دون الرجوع إلى أوليائها ودفعها للعمل الاعتماد على ما تكسبه لإيجاد شخصية نسائية جديدة لها استقلالها التام لا فرق بينها وبين الرجل.
- الدعوة إلى إيجاد فترة تجربة لاختبار الزوج قبل الزواج ويتعلق تمام الزواج بنجاح التجربة في فترة الخطوبة المفتوحة.
- ظهور ما يسمى بصديق العائلة والقول بأن طول فترة الحياة الزوجية على رجل واحد وامرأة واحة تبعث على الملل وظهرت الدعوة إلى تبادل الزوجات بين الأزواج للتغيير والتنويع الملل، وظهور الخليلة بجوار الحليلة (169).
- أصبح لدور البغاء حقوق قانونية لدى الدولة لحمايتها علاوة على حماية المجتمع بأوضاعه وأعرافه وتقاليده.
وبعد: فإنه مما لا شك فيه أن هذه المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها فلسفة تحرير المرأة في الفكر الغربي إنما تعطي صورة لأخطر تمويه يستهدف تدمير الأسرة واستعباد المرأة بحجة تحريرها وتتكشف أهداف هذه الفلسفات الحديثة من خلال عصر التنوير وفي ظلال الخطة الماسونية الخبيثة ومن خلال مقررات النظرية المادية أولا وأخيرا التي تقدم علاقة جديدة بين الرجل والمرأة على حساب كرامة المرأة وعفافها وعلى حساب الأسرة والبيت والأجيال القادمة (170) ».
وقد استطاعت هذه الفلسفة إيجاد عقلية جديدة للمرأة تصورها بصورة الشخصية المستقلة القادرة على الحياة في المجتمع متحررة أو متحللة من سلطة الأب والأسرة والزوج فقد أصبحت قادرة على الإنفاق على نفسها وتبعا لذلك الاستقلال المادي فإنه أصبح من حقها أن تختار الأسلوب الذي ترضاه والطريق الذي تقرره لسلوكها الاجتماعي وعلاقتها بالرجل في الحياة الاجتماعية سواء داخل الأسرة أو خارجها كذلك فإن التقدم العلمي في مكتشفات عقاقير وأساليب منع الحمل وأدوات الإجهاض وتيسير الحصول عليها قد مهدت الطريق أمام كل الرغبات في ظل مناعة طبية مقررة مشروعة تعيد البكارة والعذرية وتحول في نفس الوقت دون حدوث الحمل.
وفي انحلال المرأة ما فيه من آثار لها نتائجها في صرف الرجل عن الزواج أن تراخيه في تكوين الأسرة أو استمرارا بعد تكوينها وتجيء قوانين الأسرة والأحوال الشخصية في بعض البلاد الإسلامية لتكون في خدمة هذه الاتجاهات وتشجيعها لها من خلال النصوص الجديدة التي أدخلت على البيئة الإسلامية لدفع المرأة إلى التمرد والتحلل والنشوز في حماية هذه القوانين مما يؤدي في النهاية إلى إسقاط قوامة الرجل وفقدانه هيبته داخل الأسرة. فتدب الفوضى في أركان البيت فلا ينال الكبير حقه في التوقير الاحترام ولا يستطيع الصغير أن يجد لدى الكبير نسمة الحب والحنان والرحمة التي تهفو بها روح الكبير طالما اشتغلت النيران في قلبه.
وننهي هذه العجالة في قضية تحرير المرأة في الغرب بتقرير هام لأحد المفكرين الغربيين المعروفين وهو وول ديورانت يقول في كتابه مباهج الفلسفة «نحن غارقون في تيار من التغيير سيحملنا بلا ريب إلى نهايات محتومة لا حيلة لنا في اجتيازها وأي شيء قد يحدث مع هذا الفيضان الجارف من العادات والتقاليد والنظم لا حيلة لنا في صدها فالآن وقد أخذ البيت في مدننا الكبرى في الاختلاف وفقد الزواج القاصر على واحدة جاذبيته الهامة وأن زواج المتعة سيظفر منا بتأييد أكثر وأكثر حيث لا يكون النسل مقصورا على رجل بعينه وسيزداد الزواج الحر ويصبح مباحا أو غير مباح وستحث المرأة الرجل بعد تقليده في كل شيء على التجربة قبل الزواج سينمو الطلاق ثم يصاغ الزواج بأسره في صورة جديدة أكثر مرونة وأكثر تسيبا وسيصبح ضبط الحمل أمرا شائعا في كل طبقة ويصبح أمر الحمل أمرا عارضًا ف حياة كل امرأة».
حركة تحرير المرأة في مصر
إننا إذا ما تتبعنا ما يسمى بحركة تحرير المرأة في مصر، نجد أن الأصول الأولى لهذه الحركة إنما تمتد جذورها إلى عهد محمد علي باشا وإلى مصر وبالذات إلى فترة ما بعد الثورة الفرنسية التي كانت أفكارها الماسونية اليهودية تنشر إلى العالم كله انتشار النار في الهشيم وهذا ما حدث في مصر عندما أوفد محمد علي باشا البعثات الفنية إلى فرنسا بالذات لاكتساب الخبرات الفنية والصناعية المتعلقة بالصناعات الحربية والجيش ومع حرص محمد علي في الاقتصار على الخبرات الفنية والزراعة والاقتصاد والتنظيم الإداري فإن الأمور قد تجاوزت الحدود التي أرادها وقدرها ودخلت الأفكار الأوربية الجديدة التي هبت من رياح الثورة الماسونية في فرنسا والتي لم يقصدها محمد علي ولكنها تسربت مع الخبرات والمهارات الفنية التي كان يريدها.
ذلك أن المبعوثين الذين أرسل أكثرهم إلى فرنسا كانوا يقرأون الكتب الفرنسية ويشاهدون الحياة الفرنسة في أحفل العصور بالصراع الفكري الذي يصحب الثورات وكانت فرنسا تعيش في أوج انتصارات الثورة الماسونية وما صاحبها من قلق فكري وروحي لم يبلغ نهاية أشواطه وقد احتل هؤلاء المبعوثين من بعد مكان الصدارة والقيادة في مختلف الميادين السياسية والتربوية والفكرية وبدأو يترجمون منذ سنة 1830 ميلادية وينشرون كتبا في غير ما تخصصوا فيه من فنون ومع المعلمين الذين استقدمهم محمد علي للمدارس ومع الفرنسيين منهم بخاصة جاءت أفكار فولتير وروسو ومونسكيو التي وجدت مؤلفاتهم في مكتبة إحدى المدارس المصرية في 1816م.
ويتعاون العائدون من أعضاء البعثات في مصر مع البعثة الفرنسية من أتباع سان سيمون تلك البعثة التي استخدمها محمد علي في العقد الرابع من القرن التاسع عشر وكان تلاميذ سيمون متأثرين بآرائه الثورية في تنظيم المجتمع على أساس علمي يحل سلطان العقل أو رهبانية العلم على حد تعبير سان سيمون نفسه محل الدين، ذلك الفكر الذي مهد للحرية الفكرية والحرية الشخصية واستقلال الأبناء عن الآباء وتحرير المرأة من سلطان الأب والزوج واعتمادها على مواردها المالية من عملها.
وبصفة عامة فإن أعضاء البعثات تأثروا تماما بما شاهدوه في المجتمع الأوربي ويتضح ذلك جليا مما كتبوه أثناء إقامتهم في أوروبا أو بعد عودتهم منها.
رفاعة الطهطاوي وريادة حركة تحرير المرأة
ونستطيع أن نلمس ذلك على سبيل المثال في عضو من الجيل الأول لهؤلاء المبعوثين الذي أقام في باريس خمس سنوات من 1826 إلى 1831 وهو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي رافق البعثة المصرية بمثابة واعظ البعثة!!
ونجد فيما كتبه هذا الرجل آراء تظهر للمرة الأولى في المجتمع الإسلامي ربما رواها عن حسن قصد دون أن يسبر أغوارها البعيدة أو يتعمق في حقائقها ولكنه على كل حال قد وضع البذور الأولى التي تعهدها من جاء بعده بالسقى والرعاية حتى نمت وضبت جذورها في الأرض وأنتجت الثمرة المرة وتبدو أهمية الطهطاوي في أنه قد جلب هذه البذور الغريبة وألقاها في التربية الإسلامية في مصر.
فللمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاما عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى المادي الوثني الذي شاع في الفكر الأوربي الحديث والذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض يراد اتخاذها وحدة وجودية يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر ليكونا معا ذات شخصية مستقلة تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين.
ثم نرى بعد ذلك كلاما كثيرا عن المرأة لا شك أنه من وحي الحياة الاجتماعية الأوربية مثل تعليم الفتاة وتعدد الزوجات وتحديد الطلاق واختلاط الجنسين ونستطيع أن نحد آراء الطهطاوي ونظرته إلى المرأة من خلال إعجابه بأفكار الثورة الفرنسية ولكن الطهطاوي لم يفقه هذا فقد كان مثلا للإنسان المسلم ومجتمعه الذي كان في هذا الوقت في أشد حالات الاستخذاء والضعف والغفلة بسبب ابتعاده عن عقيدته الصافية وما تعطيه من صلابة وحصانة لذلك كان من السهل أن يفتن بما شاهده في المجتمع الفرنسي من الرخاء وشعور الفرد بكيانه واعتزازه بذاته خاصة حينما قارنه بما خلفه وراءه في مصر من قهر الرجال وامتهان إنسانيتهم وسوقهم إلى ما يراد لهم لا إلى ما يريدون وكأنهم أنعام لا إرادة لها ومن هنا كان إعجابه الشديد بالمجتمع الفرنسي الجديد ويتضح ذلك تماما في كل ما جاء في كتابه الأول تخليص الإبريز في تلخيص باريز» والذي كتبه أثناء إقامته في فرنسا.
وبعد عودته كتب كتابيه الخطيرين اللذين احتويا آراءه التحررية عن المرأة وقد كتبهما في عهد الخديوي إسماعيل باشا وهما: «مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية»و «المرشد الأمين للنبات والبنين» وهما كتابات تعليميان ألفهما لكي يوضعا بين أيدي الناشئة الذين تزايد فيهم عدد البنات.
وواقع الأمر أن الطهطاوي قد تأثر تأثرا شديدا بالمسرح الفرنسي الذي استقى منه كل أفكاره عن المرأة فهو معجب به إيما إعجاب وقد سمى المسرح باسمه الفرنسي كما هو الإسبيكتاكل أو التياترو.
فنراه يقول عن المسرح في «تلخيص الإبريز» ص166 ما يلي:
«وبالجملة فالتياترو عندهم كالمدرسة العامة يتعلم فيها العالم والجاهل».
وفي نص 122 يلمس هذا الفكر الذي تاثر به في شئون المرأة فنراه يتكلم على الطلاق الذي لا يتم عند الفرنسيين في اختلاط الرجال بالنساء وينفي أن يكون الاختلاط والتبرج داعيا إلى الفساد أو دليلا على التساهل في العرض حيث يقول في ص304 من نفس الكتاب «ولا يظن بهم أنهم لعدم غيرتهم على نسائهم لا عرض لهم. لأنهم وإن فقدوا الغيرة لكنهم مع ذلك إذا علموا شيئا مهينا كانوا شر الناس عليهن وعلى من خانهم وعلى أنفسهم وإن كانت المحصنات لا يخشى عليهن شيئا وغاية الأمر أنهم يخطئون في تسليم القيادة للنساء»... وهكذا بكل بساطة!!
ويعود فيؤكد في ص305 أن السفور الاختلاط بين الجنسين ليس داعيا للفساد، وأن مرد الأمر كله إلى التربية فيقول: «إن نوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن بل منشأ ذلك إلى التربية الجيدة والخسيسة والتعود على محبة واحد دون غيره، وعدم التشريك في المحبة والالتئام بين الزوجين.
ويدافع الطهطاوي عن الرقص، ومراقصة الرجال للنساء حين وصفه «محال الرقص المسمى: البال» فيقول في ص168 من تلخيص الإبريز: «إن الرقص عندهم فن من الفنون.. فهو نظير المصارعة وموازنة الأعضاء .. وما كل راقص يقدر على دقائق الحركات.. ويتعلق بالرقص كل النساء في فرنسا وكأنه نوع من العياقة والشلبنة كلمتان عاميتان بمعنى الأناقة والفتوة» لا الفسق فلذلك كان الرقص دائما غير خارج عن قوانين الحياء بخلاف الرقص في مصر فإنه من خصوصيات النساء لتهييج الشهوات أما في باريس فإنه قط مخصوص لا يتم منه رائحة العهر أبدا!!!!
ويشيد الطهطاوي في مقدمة كتابه «المرشد الآمين للبنات والبنين» بفضل الخديوي إسماعيل في التسوية بين البنات والبنين في التعليم بقوله: «فقد سوى في اكتساب المعارف بين الفريقين ولم يجعل العلم كالإرث للذكر مثل حظ الأنثيين فهذه سوق المعارف المشتركة قد قامت وتاريخ العوارف للجنسين استقامت وليل جهل النساء جلاه فجر المعارف وفجر تمتعهن باللطائف والطرائف.
ويذهب إلى أبعد من ذلك في ص 166 فيجعل من مزايا التعليم أنه: «يمكن للمرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال، على قدر قوتها وطاقتها فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق ويقربها من الفضيلة ويتكلم في موضع آخر من الكتاب عن تعدد الزوجات ويدافع عن الزوجة الواحدة ويورد أقوالا للحكماء وقصصا تحبذ الاقتصار على زوجة واحدة (171) .
ومن ذلك كله نرى أن الشيخ رفاعي رافع الطهطاوي قد أثار قضية تحرير المرأة في مصر لأول مرة في القرن التاسع عشر، وقد أثارها في أكثر النواحي التي أصبحت بعد ذلك مثارا للجدل والمناقشة في هذه الأيام ومن هنا نلحظ اهتمام الجمعيات النسائية بخاصة بالاحتفال بذكرى هذا الرجل الذي فتن بالحياة في فرنسا، واهتمام دعاة التغريب والماركسيين بعامة بإحياء تراث هذا الشيخ ونشره في ثوب جديد (172).
قاسم أمين
تأتي بعد ذلك إلى الشخصية الهامة الضالعة في قضية تحرير المرأة ألا وهي شخصية قاسم أمين.
ولعل خير تعريف لهذه الشخصية هو ما نشرته جريدة الجمهورية في عددها الصادر في 20/ 4/ 1978 في الذكرى السبعين لوفاته إذ كتبت تحت العنوان التالي ما يلي:
«تحليل شخصية قاسم أمين:
«كان أول من أنصف قاسم أمين رجلا هو صديقه سعد زغلول وهو أحيا ذكرى قاسم أمين حين تولى وزارة التعليم دون أية ضجة وذلك بافتتاح عدد من مدارس البنات ولما تولى سعد زغلول زعامة الشعب في عام 1919 اشترط على السيدات اللواتي يحضرن لسماع خطبه أن يزحن النقاب عما سمح الله به من وجوههن وكانت هذه أول مرحلة عملية للسفور..»
وتقول جريدة أخبار اليوم في عددها الصادر في 13/ 9/ 1969: «إن قاسم أمين فيما بين حصوله على إجازة الحقوق سنة 1881 وبين إخراجه لكتابه تحرير المرأة سنة 1889 كان قد مر بأحداث هادئة على عكس الأحداث الضخمة التي عاشها في مصر ففي خلال تلك السنوات تعرف قاسم أمين بجمال الدين الأفغاني في باريس ومحمد عبده وسعد زغلول».
ونحن إذا ما تأملنا هذا الخبر نجد لقاء قاسم أمين بسعد زغلول وبعض الشخصيات الأخرى المعروفة بانتمائها للماسونية (173) وولاءها لثقافة الغرب ونظمه وتقاليده.
ويتأكد لنا انتماء سعد زغلول إلى الماسونية، بما جاء في مجلة المصور في عددها الخاص الصادر في 23 سبتمبر 1927 بع وفاته، فقد نشرت المصور صورة الجنازة تحت عنوان: «الأمة والحكومة تشيعان الفقيد العظيم» وتحت الصورة مباشرة كتبت العبارة التالية: «وفد البنائين الأحرار (الماسون) في تشييع جنازة الزعيم الكبير وكان رحمها لله قطبا من أقطاب الماسونية».
وتزيد جريدة المقطم هذا التأكيد بما جاء في عددها الصادر يوم الجمعة 26 أغسطس 1927فقد نشرت على الصفة الأولى ما يلي: «حداد الماسونية على فقيد البلاد الأعظم.. فقدت الماسونية المصرية. بفقد سعد العظيم الخالد عضدا كبيرا وفضلا كثيرا وذخرا وفيرا كانت تعتز بفضله.. وستقام حفلة جناز ماسونية للفقيد الأعظم يعلن موعدها فيما بعد» ودرجة سعد زغلول ورواد صالون نازلي فاضل في التنظيم الماسوني تفسير لنا نوع الصداقة التي أنشأوها مع قاسم أمين فترة وجوده في باريس، كما توضح لنا الخط الفكري الذي سار فيه رائد تحرير المرأة في مصر، وهذا وإذا ما تأملنا الفترة التي عاشها قاسم أمين في فرنسا وكانت من 1881 حتى 1889، فإنه كسلفه رفاعه الطهطاوي قد تأثر بحياة المجتمع الفرنسي ولكنه يتميز عن الطهطاوي بأنه عقد صداقه مع أقطاب الماسونية المصرية من رواد صالون نازلي فاضل.
وعندما نتتبع مخطط حركة تحرير المرأة في مصر نجد أنها تلتقي جميعا عند مدبر: هو واحد اليهودية العالمية وعبيدها المتمثلين بالاستعمار الغربي حينذاك.
وبداية الخيط في هذه المؤامرة ترجع إلى كتاب ظهر في مصر سنة 1884 لمحام مصري مسيحي موالي لكرومرو للنفوذ الاستعماري يدعي مرقص فهمي تحت عنوان «المرأة في الشرق» حدد فيها خطة الاستعمار في المطالبة بتحقيق أغراض هي:
- أولا: القضاء على الحجاب الإسلامي.
- ثانيا: إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.
- ثالثا: تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي.
- رابعا: منع الزواج بأكثر من واحدة.
- خامسا: إباحة الزواج بين المسلمات وغير المسلمين.
وهذا الخيط الذي ترجع بدايته إلى النفوذ الاستعماري الغربي هو الذي يقودنا إلى حركة قاسم أمين وهدى شعراوي وذلك أنه لم تمض سنوات خمس حتى ظهر كتاب «تحرير المرأة» فكان ذلك خطوة على الطريق ظن البعض وما يزال يظن سلامتها نقائها وبعدها عن الهوى وتحررها م أي خلفية موحية.
ولكي تكتمل خيوط هذه المؤامرة وتتضح خلفيات هذا الحدث الخطير نرجع إلى ما كتبه داود بكرات رئيس تحرير الأهرام بعددها الصادر في مايو 1928يقول «إن قاسم أيمن قرأ كتاب الدوق داركير «المصريون» وقد تضمن هجوما على المصريين ورد عليه قاسم أمين بكتاب باللغة الفرنسية وفند اتهاماته، فلما ظهر هذا الكتاب لقاسم أمين وصف بأنه لم يكن في صف النهضة النسائية فقد رفع الكتاب من شأن الحجاب وعده دليلا على كمال المرأة، كما ندد بالداعيات إلى السفور وقد رأت فيه الأميرة نازلي فاضل تعريضا بها.. لأنه لم يكن في نساء مصر في ذلك الحين من يتشبه بالنساء الأوربيات غيرها فقد كانت الوحيدة التي تختلط بالرجال وتجالسهم في صالونها الذي افتتحته لتبث منه الدعة إلى التغريب بعامة وتحرير المرأة بخاصة، ومن المعروف أن هذا الصالون كان يحضره سعد زغلول ومحمد عبده وجماعة من الطامحين في زعامات سياسية في ظل الاستعمار البريطاني ورعاية «المندوب السامي»!!
ويتابع داود بركات مقاله بقوله: « وقد أشير إلى جريد المقطم وهي لسان الإنجليز في مصر في ذلك الوقت أن تكتب ست مقالات عن الكتاب تفند أخطاء قاسم أمين في هذا الاتجاه ودافعه عن الحجاب واستنكاره اختلاط الجنسين ثم أوقفت الحملة بعد اتفاق الشيخ محمد عبده وسعد زغلول مع قاسم أمين على تصحيح رأيه»..
ويقال إن اشتراك محمد عبده في إقناع قاسم أمين للعدول عن رأيه كان على أثر وأصدر من تهديد ووعيد من هذه الأميرة، ولكن ذاود بركات في مقاله هذا يحاول إبراز دور الأستاذ الإمام وكأنه ضالع في تحرير ونشر كتاب «تحرير المرأة».. يقول: «وقد حمل الشيخ محمد عبده (174) الدعوة إلى تحرير المرأة في دروسه في الرواق العباسي بالأزهر حين أعلن أن الرجل والمرأة يتساويان عند الله، وقد ترددت آراءه كثيرة بأن الشيخ محمد عبده كتب بعض فصول الكتاب أو كان له دور في مراجعتها ومما أورده لطفي السيد أنه اجتمع في جنيف عام 1897 بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب «تحرير المرأة» وصفت بأنها تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده.
وكتب فارس نمر صاحب المقطم في مقال له في مجلة «الحديث» الحلبية عام 1929 مشيرا إلى هذا الحادث «... إن الشيخ محمد عبه تطوع للقيام بهذه المهمة بقصد إيقاف مقالات الهجوم على قاسم أمين- وتحدت الشيخ محمد عبده مع الأميرة نازلي في هذا الشأن واتفق محمد عبده وسعد زغلول ومحمد المويلحي وغيرهم على أن يتقدم قاسم أمين بالاعتذار إلى سمو الأميرة، فقبلت اعتذاره ثم أخذ يتردد على صالونها، وارتفع مقامها لديه، وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذي كان الفضل فيه للأميرة نازلي، والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان (قاسم أمين ) أكثر الناس دعوة إلى الحجاب».
وقد تناول قاسم أمين وفي كتابه «تحرير المرأة» أربع مسائل، وهي الحجاب واشتغال المرأة بالشئون العامة وتعدد الزوجات والطلاق، وذهب في كل مسألة من هذه المسائل إلى ما يتوائم ويتلاءم مع الحضارة الغربية وفلسفتها زاعما أن ذلك هو ما يعنيه الإسلام.
ويتجلى أثر الثقافة الغربية والخضوع للحضارة الغربية قيمها أوضح في الكتاب الثاني «المرأة الجديدة» ذلك أن قاسم أمين التزم فيه بالمنهج الغربي الحديث الذي يرفض كل المسلمات والعقائد السابقة سواء ما كان منها عن طريق الدين، وما جاء من غير طريقه، ولا يقبل إلا ما يقوم عليه دليل تجريبي أو واقعي على حسب المنهج الذي يسلكه باحثو الاجتماع الأوربيون الملاحدة وهو ما يسمونه بالمنهج العلمي. ودعا قاسم أمين في آخر هذا الكتاب دعوة صريحة إلى تقليد الحضارة الغربية وأساليبها فيقول بعد أن ذكر إعجاب المسلمين والمصريين الشديد بالماضي: «هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس له دواء إلا أننا نربي أولادنا على أن يتعرفوا شئون المدنية الغربية ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها إذا أتى ذلك الحين- ونرجو أن لا يكون بعيدا انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغربي وتيقنا أنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسا على العلوم العصرية الحديثة وإن أحوال الإنسان مهما اختلفت وسواء كانت مادية أو أدبية خاضعة لسلطة العلم لهذا نرى أن الأمم المتمدنة على اختلافها في الجنس واللغة والوطن والدين متشابهة تشابه عظيما(!!) في شكل حكوماتها وإدارتها ومحاكمها ونظام عائلتها وطرق تربيتها ولغاتها وكتابتها ومبانيها وطرقها بل في كثير من العادات البسيطة كالملبس والتحية والأكل هذا هو الذي جعلنا (نضرب الأمثال بالأوربيين) ونشيد بتقليدهم وحملنا على أن نستلفت الأنظار إلى المرأة الأوربية!!
وكان من الطبيعي أن يحدث نشر كتابي «قاسم أمين» وما أعلن لأول مرة من أفكار تدعو إلى خروج المرأة المسلمة على تعاليم الإسلام ضجة أعظم وأخطر لصدورها من مسلم في منصب مستشار في الدولة كأن له سابقة التصدي لهجوم أعداء الإسلام... وكانت هذه الضجة شاملة لجميع الأوساط الإسلامية والوطنية.
فمن الجدير بالذكر أن الزعيم الوطني مصطفى كامل قد ربط بين هذه الحركة وبين الاستعمار فكشف خلفياتها ودوافعها الاستعمارية وسارع إلى مقاومة هذه الحركة الخائنة وتحذير الأمة منها، فعقد اجتماعا على أثر صدور كتاب تحرير المرأة لفضح اللعبة قال فيه: «... ولكل أمة مدنية خاصة بها، فلا يليق أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليدا أعمى بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا ولا نأخذ من الغرب إلا فضائله فالحجاب في الشرق عصمة وأي عصمة فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم وعلموهن التعليم السليم الصحيح وإن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة ركيكة غير نافعة هو تعليم الدين» كما جعل من صفحات مجلة «اللواء» التي كان يصدرها الحزب الوطني حربا على هذبه الدعوة العملية، فكان مما كتبه في كشف صلتها بالاستعمار ما نصه: (وهذا.. وقد انتشر خبر الكتاب «تحرير المرأة» في جهات من الهند، واهتم الإنجليز بترجمته وبث قضاياه وإذاعة مسائله، اهتماما عظيما لما وراء العمل به من فائدة لهم.. وعلم به من سلطان مالديفي وبلغه في هذه الأيام خبر كتاب «المرأة الجديدة» الذي أخرجه أخيرا قاسم أمين ليدعم به أمر كتابه الأول ويفتح به آفاقا جديدة لتحلل المسلمين من دينهم وأخلاقهم ولما سئل السلطان المذكور عن رأيه في هذه الاتجاهات قال: «أما تعليم النساء المسلمات فقد أصبح من المسائل الحيوية للإسلام والمسلمين ولكنه لو مال عن طريق الشريعة الغراء إلى خطة مدنية الغرب الغبراء كان معولا لهدم أركان الإسلام وفأسا لفتح القبور لأبنائه ودسهم فيها وهم أحياء، أما رفع الحجاب فلا أرضاه لنسائي وبلادي وأما المرأة وحق طلاق زوجها فدعوة لا تصدر من معترف بقول الله ي كتابه: «الرجال قوامون على النساء» فنسأل الله السلامة»).
هذا ومما ينبغي ذكره أن قاسم أمين عدل عن رأيه في عام 1906 بعد أن تبين له أنه ضل الطريق في حديث له إلى صحيفة «الظاهر» التي كان يصدرها محمد أبو شاردي المحامي أعلن فيه رجوعه عن رأيه، كما أعلن فيه أنه كان مخطئا في الدعوة إلى تحرير المرأة.. فهل يكون لدى دعاة تحرير المرأة فهل يكون لدى دعاة تحرير المرأة من الشجاعة في إعلان هذا التحول؟ حيث قد اعترف قاسم أمين نفسه بعد ذلك بأنه أدرك خطر هذه الدعوة بما اختبره من أخلاق الناس.
معنى كلام قاسم أمين هذا الذي نشره قبل وفاته بعام ونصف أنه قد اكتشف بعد سبع سنوات من دعوته التي جاءت استدراجًا واسترضاء لنفوذ نازلي أنها لم تكن قائمة على أسس صحيحة وهي الدعوة إلى تربية الخلق الإيمان بالله وأنها لم تكن على طريق الحق أو ربما أن قاسم قد رأى بعد أن تغيرت الظروف بزوال كرومر وانطفاء نفوذ نازلي فاضل (ربيبة كرومكر) أنن يتخفف من هذه التبعة... وربما كان لبعض التجارب أثرها في نفسه فما يروي أن صديقا عزيزا زاره ذات مرة فلما فتح له الباب قال: جئت هذه المرـة من أجل التحدث مع زوجتك !فدهش قاسم، كيف يطلب مقابلة زوجته ومحادثتها فقال له صديقه: ألست تدعو إلى ذلك.؟ إذن لماذا لا تقبل التجربة مع نفسك؟ فأطرق قاسم أمين صامتًا.. ومما يذكر أن السيدة زوجة قاسم أمين كتبت منذ سنوات تعلن أن دعوة زوجها كانت خطيرة وأنها لم تكن قائمة على أساس صحيح (175) .
ويعلن الأستاذ محمد فريد وجدي على دعوة قاسم أمين بقوله: «إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهورا مريعًا في الآداب العامة، وأحدثت انتشارا مريعًا في مبدأ العزوبة وأصبحت ساحات المحاكم قاصة بقضايا هتك الأعراض وهرب الشابات من دور أهلهن».
تلك هي خلفيات قاسم أمين الذي دفع لإصدار كتاب «تحرير المرأة» عن طريق الاستعماريين ووكلاء الغزو الحضاري الأوربي وعملائه من رواد صالون نازلي ثم عدوله عن أفكاره في هذا الكتاب الذي جاء مخالفا كلية لدفاعه عن الحجاب أساسًا عندما تصدى «اللورد دار كير» وهناك من يرى أن قاسم أمين مات مهموما حزينا على ما فرط منه في هذا الأمر خاصة إذا عرفنا أنه توفى في ريعان شبابه وهو في الثالثة والأربعين من عمره وله كلمات تكشف عن هذا المعنى عندما قال: «إن كنت قد شعرت في هذه الحياة بشيء من السعادة ففي الأوقات التي قضيتها في بيتي مع زوجتي وأولادي» (176)
فهذه كلمات تبين أنه كان يفتقد السعادة خارج منزله لما كان يدور حلوه من همسات.
وبموت قاسم أين لم تهدأ هذه الدعوة إلى تدمير المرأة إلا قليلا. فكيف يهدأ للمستعمر البريطاني بال والخطة لم تصل بعد إلى أهدافها وإن مات قاسم أمين فهناك على الساحة السياسية من يستأنف الدور، وهناك حزب الأمة وزعاماته السياسية المعروفة بعمالته للإنجليز من أمثال فتحي زغلول عضو محكمة دنشواي والهلباوي جلادها وسفاحها، وهناك وكلاء الحضارة الغربية المنضوين تحت لواء هذا الحزب من أمثال لطفي السيد، وليس أجد من لطفي السيد من يحمل مهمة استمرار الدعوة إلى خروج النساء باسم التحرير.
واستأنف أستاذ جيل التغريب المهمة بكتاباته على صفحات «الجريدة» لسنا حزب الأمة.. وأستاذ هذا الجيل أو لطفي السيد هو أول من تحدى مشاعر الشعب المسلم في مصر بإدخال الفتيات لأول مرة طالبات في الجامعة مختلطات بالطلاب وهو أول من تحدى مشاعر الأساتذة المصريين والطلاب بدخول الطالبات سافرات وقد أعلن عن ريادته هذا الاختلاط الجنسين في الجامعة بكل جرأة بقوله:«ويتصل خطأ الجماهير في فهم رسالة الجامعة مسألة قبول الفتيات المصريات طالبات في الجامعة وهي مسألة قليلة الأنصار في الرأي العام(!!) وفي هذا المقام يسرني أن أؤكد لكم أني لم أتعرض إلى جزئية من الجزيئات تجعلني أندم ولو وقتيا على ما شرعته الجامعة من هذه الخطة (!!) من غير أن نستفتي العرف العام».
وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى واعتقلت السلطات الاستعمارية الأحرار وكتمت أنفاس كل صوت يدعو إلى الاستقلال والاستمساك بعرى الإسلام، وخلت الساحة فانتهز دعاة الانحلال ورواد الحركة النسائية الفرصة فأصدروا مجلة باسم «السفور»يديرها الصحفي عبد الحميد حمدي وأخذت هذه المجلة على عاتقها مهمة الدعوة إلى خروج النساء على التقاليد والآداب الإسلامية وخلع الحجاب والحشمة.
وحتى قيام ثورة سنة 1919 كانت هذه الدعوة إلى تحرير المرأة في نطاق محدود فما زالت المرأة المسلمة في مصر تتمسك بعفتها فرغم تزين الفجرة لها الخروج في المظاهر فلم تستجب لهذه الدعوة غير300 امرأة من بيوت مصرية لها قابليتها في التشبه بنساء الغرب.
فعندما صحبت صفية زغلول زوجها سعد زغلول في باريس لحضور مؤتمر الصلح سنة 1920 لعرض القضية المصرية. وقد مكثت صفية ترتدي الحجاب إلى أن عادت مع سعد زغلول إلى مصر بعد عودتنه من منفاه وعلى ظهر الباخرة التي نقلتهما إلى الإسكندرية وجد سعد البحر وقد امتلأ بألوف المخدوعين يستقبلونه بالقوارب وقال سعد لصفية: ارفعي الحجاب وتدخل على الشمس وواصف بطرس من أعضاء الوفد وعارضا في ذلك قال سعد زغلول: المرأة خرجت إلى الثورة بالبرقع ومن حقها أن ترفع حجابها اليوم ورفعت صفية زغلول الحجاب ثم وقفت إحدى صنائع الاستعمار تخطب في القاهرة في احتفال الشعب المخدوع بقدوم الزعيم وقد وضعت على وجهها البرقع وبعد انتهاء الخطاب تقدم (الزعيم) وطلب منها رفع الحجاب.. وعندئذ رفعت الحاضرات الحجاب.
هدى شعراوي
*من بيوت العمالة خرجت زعامات الحركة النسائية المصرية:
وفي أعقاب ثورة سنة 1919 اتسع نطاق حركة تحرير المرأة في مصر، وتسلمت قيادتها هدى شعراوي فإذا وضعت صفية زغلول تحت علم الزعامة التي انعقدت لزوجها فتحت أي علم يضع الاستعمار هدى شعراوي وقد رفع العلم السياسي بصفة نهائية لصفية زغلول؟ الأدوار موزعة فليكن الاتحاد النسائي وعبء تشكيله ونشاطاته في عقد المؤتمرات المحلية وحضور المؤتمرات الدولية لترويج الدعوة إلى خروج المرأة من نصيب هدى شعراوي...
فمن هي هذه المهمة المرأة التي حملت هذه المهمة؟
هي ابنة محمد سلطان باشا الذي خان الثورة العرابية وطعن حركة المقاومة لجيش الاحتلال البريطاني في زحفه على القاهرة فقام بتخذيل الأمة في صد هذا الغزو، بل كان يدعوها إلى تقديم العون والمساعدة له وكانت جائزته عشرة ألاف جنيه ذهبية من خزينة مصر قدمها له الخديوي، والإنعام عليه من الإنجليز بنيشان «ونيشان «سان جورج» الذي يلقب حاملة بلقب «سير» كل ذلك اعترافا له من بريطانيا والخديوي الخائن بما قدم لهما من صنيع!!
وهدى شعراوي هي زوجة علي شعراوي باشا ابن عمتها ورفيقة صفية زغلول ابنة مصطفى فهمي الذي حكم مصر بالحديد والنار ثلاثة عشر عاما في أوائل عهد الاستعمار البريطاني.
ومن المعروف أن هدى شعراوي كانت على ثقافة فرنسية أوربية أهلتها لقيادة الحركة النسائية المصرية بعد تكريسها في المؤتمر النسائي الدولة في روما الذي عقد سنة 1923 حضرته مع سيزانبراوي، وفي أعقاب عودتها من هذا المؤتمر خلع الحجاب ونشطت في تكوين الاتحاد النسائي المصري الذي يحمل في رأس لائحته منع تعدد الزوجات وتقييد الطلاق وإلغاء بيت الطاعة.
وهي المرأة التي قالت في مذكراتها عن أول مظاهرة نظمتها معلنة عن شخصيتها المتمردة قالت: «وبينما كنت أتأهب لمغادرة منزلي للاشتراك في المظاهرة سألني زوجي إلى أين سأذهب فتركته وانصرفت لألحق بالسيدات اللائي كن في انتظاري»!!
وهذه هي المرأة التي تبوأت مكانة عالية في الحركة النسائية العالمية فأصبحت وكيلة الاتحاد النسائي الدولي بعد أن تلقفتها جماعات تحرير المرأة المنتشرة في دول أوربا وخاصة في باريسوبرلين وبروكسل، التابعة للمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية، التي يديرها شياطين اليهود من وراء ستار، مستهدفين وفق مخططاتهم التلمودية أحدث ضجة حول ما يسمى بحقوق المرأة السياسية واشتراكها في المجالس النيابية والوزارية ومساواتها بالرجل لضرب شبكات العلاقات الاجتماعية في المجتمع المصري المسلم ودفعه إلى طريقا الانهيار.
هذه هي المرأة التي صنعت منها محافل الصهيونية الصليبية الدولية زعيمة لأخطر حركة في بلادنا تهدد سلام المجتمع وأمن البيت.
هذه هي المرأة التي أبت أن تنزل عن أمر الله وتتنسب لأبيها ليكون اسمها هدى سلطان وهو الأمر الذي يكرمها ويجعل لها شخصيتها ولكنها وهي زعيمة في اتباع الغرب وتقليد أهله والمخالفة عن أمر الله، كيف وهي الثائرة على «الرجعية»!! لا تكون «هدى شعراوي» انتسابا للزوج كما يفعلون هناك؟
ولما كان دعاة التخريب عندنا ووكلاء تشويه مفاهيم المرأة المسلمة وقيمها لا ينامون فإنهم يقيمون لهذه المرأة في كل عام حفلا لتخليد ذكراها والمقصود هو تخليد ما تدعو إليه من أفكار مسمومة تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم البيت المسلم، وآخر ما طلبت به كبيرتهم هو تدريس تاريخا في المدارس.
درية شفيق وزعامة حزب بنت النيل
• ومع هدى شعراوي وبعدها تأتي سيزا نبراوي...
امرأة تلقت تربيتها في فرنسا تجيد اللغة الفرنسية أكثر من العربية... أشربت ثقافة الغرب ومفاهيمه الحضارية وأعدت هناك وزودت بعلم واسع بتشكيل الاتحادات النسائية على الأسس الاجتماعية التي كانت تقوم عليها هذه الاتحادات في دول أوربا.
وليس هناك من وصف نصف به هذه السيدة غير ما وصفت به نفسها في مجلة حواء عدد 21/ 12/ 1957 تقول: «وعندما عدت من الخارج حيث عشت حتى بلغت الثامنة عشر من عمري، كنت متحررة متحمسة، ولهذا رفض لبس البرقع وأصررت على لبس القبعة وبحكم الصداقة التي كانت بين والدتي وبين المرحومة هدى شعراوي أخذت تهدئ من ثورتي وتقنعني بأن الظروف غير مواتية للحصول على حقوق المرأة مرة واحدة، وأن المطالبة بها في هدوء يجنبنا ثورة الرجال الذين كانوا كل شيء في ذاك الوقت»
ومن هنا استحقت سيزا نبراوي أن تقوم بدور السكرتيرة الخاصة لهدى شعراوي وأن تكون في مقدمة مستشاراتها واستحقت أن تكون رفيقة الزعيمة في أسفارها ومؤتمراتها وجميع نواحي نشاطها لقد كان لوجود سيزا نبراوي مع هدى شعراوي في تأسيس الاتحاد النسائي المصري ضرورة لنجاح المشروع فلربما كانت فكرة الاتحاد قد مرت بخواطر نساء مصريات من قبل، لكن الإمكانات التي أعطتها هدى شعراوي لهذا المشروع عن طريق سيزا نبراوي كانت فوق قدراتهن جميعا.
هذه هي المرأة التي قالت للفنان التشكيلي مصطفى نجيب عندما طلب يده للزاج «أنها لا تستطيع أن ترتبط بحياة يكون من حق أحد طرفيها فقط التخلي عن التزامه فيها بالطلاق في أي وقت يشاء».. واقترح العريس أن تكون العصمة في يدها وتم الزواج الذي دام أربع سنوات فقط... ومن يومها لم تكرر التجربة مرة أخرى... وعاشت كما تقول لابنتها وللحركة النسائية وذكرياتها مع هدى شعراوي.
وتتوالى الزعيمات وتأتي دربة شقيق، من الرعيل الأول لطالبات الجامعة المصرية في أول عهدها بنظام اختلاط الجنسين الذي تبناه أستاذ الجيل لطفي السيد (177)
ودخلت مع أستاذ جيل التغريب مشاركة في التحدي لمشاعر الأساتذة والطلاب بإبراز فتنتها والمبالغة في الظهور أمام الرجال والشباب في الجامعة سافرة وبعد التخرج سافرت وحدها وعاشت دون محرم في فرنسا للحصول على الدكتوراه وكل ما يؤهلها لتقوم بدور المنافسة في الحركة النسائية. إن الاستعمار أفانيد وألا عيب، والحركة المصرية النسائية في ظل مجتمع مسلم تحتاج إلى حبكة درامية مثيرة تعطي آثارها المطلوبة وتحقق أهدافها في أقصر الأوقات.. فلا بد من شخصية تقوم بدور المنافسة في لعبة العملاء في مجال المرأة...
هدى شعراوي تقوم بتشكيل الاتحاد النسائي وتتبنى أسلوب التدرج في الخطوات.
وثانية تقوم بتشكيل «الحزب النسائي» وتقوم بالتجديد في وسائل الإغراء والإفساد.
وثالثه، تشكيل حزب «بنت النيل» وتقوم بدور المتشد المغامر في استنقاذ المرأة من الرجل واسترداد الحقوق المهضومة!! فيمن هي هذه الشخصية التي تستطيع القيام بهذا الدور؟ ليس غير درية شفيق.
ففي سنة 1949أنشأت حزب بنت النيل وبعد أشهر من تكوين الحزب سافرت إلى انجلترا التي كانت لها في هذا الوقت 80 ألف جندي يحتلون أرض الوطن وهناك قوبلت مقابلة رؤساء الدول وزعمائها ورحبت بها الصحف البريطانية وألقت عليها الأضواء ونشرت لها أحاديث عديدة تبرزها في صورة المناضلة والزعيمة الأولى في مصر لتحرير المرأة من قيود الإسلام!! قيود الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات يقول مراسل جريدة «ذي سكتشمان» في تقديمه لأحد أحاديثها: «إن الأهداف المباشرة لحزب بنت النيل هي كما أوضحتها الدكتورة درية شفيق منح المرأة حق الاقتراع وحق دخول البرلمان والمطمح الثاني الذي تهدف الدكتورة لتحقيقه هو إلغاء تعدد الزوجات وإدخال قوانين الطلاق الأوربية في مصر» وتقول: «إن الطلاق في مصر بوضعه الحالي أمر يسير جدا فالزوج المسلم له الحق في أن يطلق زوجته بمجرد قوله أنت طالق أما فيما يتعلق بتعدد الزوجات فإنه لا يزال شائعا بني الطبقات الفقيرة».
وفي أعقاب قيام الحزب فوجئ المراقبون بظهور الثراء على السيدة وحزبها كما طلعت على الناس بثلاث مجلات تطبع في حجم كبير وعلى ورق فاخر اثنتان منها باللغة العربية والثالثة باللغة الفرنسية عدا المطابع والسيارات الفخمة.. .وبالتقصي عن مصدر هذه الموارد اكتشف من أسباب استقالة إحدى عضوات هذا الحزب أن السفارة الإنجليزية والسفارة الأمريكية تمدان الحزب بألفين من الجنيهات سنويا، وبخلاف الورق المصقول وغيره فضلا عن المشورة والتوجيه.
هذا وتجيء منطلقات هذه المرأة المشبوهة بتحريض استعماري ومن خلال المؤسسات الاستعمارية ففي سنة 1951 انطلقت بمظاهرة من قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية ذات التاريخ العريق في التبشير قوامها بضع عشرات من الفتيات المتفرنجات الكاسيات العاريات وبعض الشباب من أصدقاء الحزب!! متجهة نحو البرلمان بهتافات تطالب بالحقوق المهضومة وعلى أثر هذه المظاهرة أبرقت إليها جمعية سان جيمس الإنجليزية تهنئتها على اتجاها الجديد نحو المظاهرات وتعلن تأييدها لها حتى تنال المرأة المصرية على يديها الحقوق السياسية تحت قبة البرلمان وفوق كرسي الوزارة وكيف لا تؤديها هذه الجمعية وهي تقوم بخدمة المستعمر الإنجليزي في إشغال الرأي العام عن قضية الاستقلال!!
وقد أثبتت الحوادث فوق ذلك أن هذه الحركة النسائية المصرية لم يقف تواطؤها مع الاستعمار الغربي عند حد تثبيته في مصر والشرق فحسب بل إننا لا نغالي إذا قلنا عنها أنها كانت تسخر لتثبت دولة إسرائيل على أرض فلسطين وقد اتضح ذلك بجلاء حين اشتركت المندوبة المصرية في المؤتمر النسائي الدولي في استوكهلم عاصمة السويد وجاء ضمن قراراته الاستعمارية قرار يقضي بمطالبة وزير داخلية السويد بإنزال أشد العقوبات على مسيو «إنيرابر» الصحفي السويدي المعروف، لمواصلته أعمال الدعاية ضد الصهاينة في السويد وقد كتب مسيو «إنيرابر» على أثر ذلك إلى الجماعة العربية والحكومة المصرية يستنكر موقف مندوبات مصر في ذلك المؤتمر لموافقتهن على هذا القرار (178)
هذه هي درية شفيق التي قامت بدور المغامر في الحركة المزعومة التي اتخذت في حياتها الطابع الدرامي المثير وانتهت دراميا حيث ماتت في حادث أليم.
وهناك من جبهات تخريبية أخرى تلميذة طه حسين أمنية السعيد رئيسة تحرير مجلة حواء، التي تحرض نساءنا على النشوز وفتياتنا على الانحلال.. وهي التي جعلت الفسق والبغاء الرسمي في شارع الهرم نوعا من كرم الضيافة عندنا في ردها على القذافي عندما ندد بمخازي شارع الهرم في أحد مواقفه العنترية من خلال ندوة عقدت بالقاهرة طالب فيها بنظافة شوارع الهرم وإغلاق محال الدعارة السياحية وعلب الليل .. وهي التي تهاجم بكل قحة الحجاب الإسلامي في مجلتها وتقول إنه كفن كأكفان الموتى...
وتأتي أمينة السعيد ومعها رئيسة النور والأمل سعاد صبري التي رفضت الزواج لتعيش هكذا ممسوخة الفطرة بحجة أن الزواج معوق لرسالتها ولكنه نشوز في الطبع لا يجعلها أهلا لدور الزوجة والأم الحقيقي.
وفي مواكب الرذيلة صحفيات ومذيعات ومعلمات وطبيبات من أمثال نوال السعداوي الكاتبة الماركسية وفاطمة السعيد ومي شاهين وسميحة طاهر وغيرهن صفوف ممن رباهن الغرب الاستعماري الصليبي في حجره ومحاضنه وممن هن في دور الإعداد والتكوين ليخلفهن في مهام التدمير في مهام التدمير في مجالات الإعلام والتربية والخدمات الاجتماعية.
أهداف حركة تحرير المرأة في مصر
• وحققت حركة تحرير المرأة في [[مصر]]
وكل أهدافها وزيادة
جاءت ثورة 23 يوليو سنة 1952م كانت طليعة للثورات التي قلبت الأوضاع في المنطقة العربية والإسلامية ورحب بها كل الساخطين على الأوضاع الفاسدة وعقد بها الناس أكبر الآمال، وكان في إمكانها أن تعيد إلى مصر مكانتها بين العالم العربي ومكان التوجيه والثقة الاحترام ي العالم الإسلامي بما تنتهجه في الحياة من مناهج وإجراءات توافق طبيعة الشعب المصري المسلم وما يكنه في صدره من عواطف إسلامية جياشة، وطبيعة الأمة العربية التي لم يكتب الله لها النهوض والخلود إلا بهذا الدين وتوافق طبيعة الأمة الإسلامية التي لا تنشط ولا تتوحد إلا بدعوة الإسلام وتوافق طبيعة العصر الحائر الذي يبحث عن مخلص بعد أن أفلست جميع الأنظمة العالمية بهدمها لكل خير وسعادة تنشدها الإنسانية وينتظر من شعب مسلم أن يقدم له المنهج الرباني الذي ينتج عند التطبيق الصحيح فردا محررا مكرما في كل جوانب حياته ومجتمعا مكرما متكافلا سعيدًا.
ولكن الذي حدث أن هذه الثورة تبنت فكرة مستقلة وفلسفة قائمة بذاتها وخطة كاملة مصممة تصميما دقيقا لتطوير المجتمع المصري والمجتمع العربي بالتبعية تطويرا قوميا ماديا، حتى يصبح مجتمعا عصريا يستخلص لنفسه علاقات اجتماعية جديدة تقوم عليها قيم أخلاقية جديدة وتعبر عنها ثقافة وطنية لا تقوم على أصول الإسلام وشريعته والذي يتصفح الميثاق وطنية لا تقوم على أصول الإسلام وشريعته والذي يتصفح الميثاق الوطني الذي أصدره عبد الناصر في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في يوم 31 مايو سنة 1962 يجد أنه يتكلم عن الأديان كأي اشتراكي مادي لا ينظر إلى الأديان إلا كقيمة مادية ثورية في التاريخ البشري وكأنه لا يؤمن بالآخرة والحقائق الغيبية وإلى قيمة العقيدة الدينية والثواب الأخروي «إن رسالات السماء كلها في جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته وإن واجب المفكرين الدينيين الأكبر هو الاحتفاظ للدين بجوهر رسالته» (179) .
وينظر إلى المجتمع وأفراده وحقوقهم نظرة لا يتقيد بالتشريعات الإسلامية والحدود التي بينها الله تعالى والتفكير العصري فالمرأة في نظره «تتساوى بالرجل ولابد أن تسقط بقايا الأغلال التي تعوق حركتها الحرة لتستطيع أن تشارك الرجل بعمل وإيجابية في الحياة» (180)
وبوحي من هذه الفلسفة المادية العلمانية وعلى أساسها اتخذت إجراءات وخطوات حاسمة لتطوير المجتمع المصري وتطوير العقلية المصرية شجعت على الإشادة بالفرعونية كقومية وحضارة وتراث، ولم تعد كلمة فرعون تثير في النفوس الكراهية والاحتقار ومعاني اللعنة العار التي ألحقها به القرآن الكريم وأطلق العنان للصحافة وكل وسائل والإعلام من سينما وإذاعة وتليفزيون أن تستهزئ بالدين وشعائره ومقدساته وتنتهك الحرمات، وتنشر في المجتمع الخلاعة والاستهتار والميوعة ولم يزدها التأميم إلا خبالا وإسرافا في نشر الصور العارية الخليعة والروايات الماجنة والقصص الغرامية والأغاني الفاجرة والتركيز على الحوادث المثيرة للغريزة الجنسية وأقيمت مهرجانات للرقص والغناء وبذلت العطايا والجوائز للراقصات والمغنيات باسم تشجيع الفنون، كل ذلك حتى يتطور المجتمع وتتطور العقلية المصرية وتأخذ اللون المادي والطابع الغربي الانحلالي.
واتخذت لتطوير المجتمع خطوات إيجابية أخرى تنزع عنه الصبغة الإسلامية فطور الأزهر ومسخت رسالته وتحول من جامعة إسلامية تخرج علماء في أصول الدين والشريعة إلى جامعة عصرية ليس للإسلام وعلومه فيها إلا حصة كحصة الدين في المدارس العصرية التي وضع مناهجها دنلوب القسيس الإنجليزي وألغيت المحاكم الشرعية والقضاء الشرعي وزج بالدعوة إلى الله في غياب السجون والمعتقلات وطوردوا وشردوا وعلقوا على المشاق وحورت أسرهم وأطفالهم بالإرهاب والتجويع بلا ذنب ولا جريرة إلا أنهم دعوا إلى تطهير المجتمع ونظافته...
وفي ظل هذه الظروف وأتت أصحاب الدعوة إلى تحرير المرأة الفرصة فتوسعت لها قاعدة التعليم المختلط فشملت المدارس الإعدادية والثانوية بعد أن كانت قاصرة على التعليم الجامعي وأصبح من حق المرأة في مصر التصويت في الانتخابات والترشيح لعضوية المجالس النيابية والشعبية والجلوس على كرسي الوزارة وصدرت القوانين التي تؤكد هذه الحقوق وتلتها قوانين أخرى.
- قانون بفرض ثلاثين نائبة على الأقل في مجلس الشعب
- قانون بفرض خمسة وعشرين في المائة من النساء على الأقل في عضوية جميع المجالس الشعبية والمحلية
- قانون يجعل الانتخاب والتصويت إجباريا على كل أنثى تبلغ الثامنة عشرة من عمرها، مع كونهما ليسا بالإجبار على الرجل!
- قانون تعديل أحكام قانون الأحوال الشخصية.
إن اشتراك المرأة في الحكم في أي صورة من الصور، مخالف للشريعة الإسلامية تماما وهو بدعة مستوردة من الخارج عملت الثورة على اتباعها وتقليدها غير عابئة بأحكام الشريعة الغراء التي نصت على أنه «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» اشتراك المرأة في الوزارة، وفي مجلس الشعب، والمجالس المحلية، والمجالس الشعبية هو اشتراك فعلى في الحكم والولاية، وهو ما لا يرضاه الله ورسوله ولم تكفينا هذه المخالفة لشريعة الله بأن أبحنا أن تكون المرأة ناخبة أو نائبة في كل هذه المجالس ولكن تعدي الأمر إلى جعل الانتخاب فرضا وجبرا على كل من بلغت ثماني عشر سنة وتعدى الأمر إلى فرض نسبة أدنى على الأقل في كراس النيابة البرلمانية والمحلية والشعبية للنساء، وهو أمر لم يحدث حتى في الدول الماركسية الشرقية أو الغربية التي لا تتقيد بأحكام الإسلام.
وتعقب أمينة السعيد بعدم الرضا في مجلتها «حواء» على قانون تعدل قانون الأحوال الشخصية برغم أن المرأة حصلت بهذا القانون على ما يتجاوز حدودها فتقول «إن هناك أمورا جوهرية لم يتناولها التعديل، وهي تقصد طبعا أن القانون لم يتضمن نصا صريحا بتحريم الطلاق وتعدد الزوجات اقتداء بالكاثوليكية التي قالت منذ ربع قرن في مجلة المصور: «إني لا أطمئن على حقق المرأة إلا إذا تساوت مع الرجل في الميراث، وكتبت بعد سنوات تقول «كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق». ونحن نقول للكاتبة إن القانون يحقق لها ما تتطلبه من وضع العقبات والعراقيل والمتاعب ف طريق تعدد الزوجات والطلاق والتنكيل بكل من تحدثه نفسه أن يقدم على أحد الأمرين وأنه سيفتح الأبواب على مصاريعها لتعدد العشيقات الخليلات بدلا من تعدد الزوجات الحليلات.
كما نقول لها إن الغرب الذي تقدسينه هو مهد الدعارة والتحلل الخلقي وانحلال الأسرة وإن ما أصاب الشرق من تحلل خلقي قد هب إليه من الغرب عن طريق الصحافة والمؤسسات التربوية الدخيلة على تقاليدنا والمعروف أن الغرب يحرم الطلاق وتعدد الزوجات وإن كان قد اتجه أخيرا في بعض دولة لإصدار قوانين تبيح الطلاق وتعدد الزوجات.
ونقول برغم كل هذه الإجراءات فإن مقومات الأمة وتقاليدها لن تهزم أبدا وإن حصون الإسلام أقوى وعين الله لها حراسة.
• وهل كان سعيهم مشكورا؟
إن الدعوة إلى التجديد وتحرير المرأة في إطار مفاهيم الحضارة الغربية كما قدمها دعاة من أمثال رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وسعد زغلول ولطفي السيد وطه حسين وغيرهم في جيلهم ومن سلك طريقهم في الدعوة إلى تقليد الغرب واقتفاء مناهجه الوثنية المادية بشقيها الغرب الليبرالي والشرقي الماركسي إن هذه الدعوة كانت مخالفة للحقيقة ومصادمة للفطرة ومنافية لبديهيات العلم ومسلماته ورفضا للإسلام وشريعته، وكانت في غاياتها البعيدة تخدم المخطط الاستعماري الصليبي الشيوعي الذي يستهدف تدمير الأسرة والمجتمع كله بواسطة إخراج المرأة من رسالتها وأمانتها.
والواقع أن أصحاب هذه الدعوة لم يكونوا مخلصين لأمتهم وتراثها الأصيل وما لديها من منهج سماوي يعلو، لا يجعل من دور المرأة في الحياة ألعوبة من الألاعيب بل مسئولية وتبعية زوجية وأمومة وإن كان الحياء الصادق والعفة الصحيحة والطاعة العظيمة التي هي مظهر الحب لا تتحقق إلا بأن تصون المرأة فلا تخالط الرجال إلا في ضرورة ماسة وحرصها على دينها والصبر على مكاره البيت فالمرأة للبيت ثم إنشاء البيت للأسرة ثم إنشاء الأسرة للمجتمع.
وبسبب ولاء هؤلاء لثقافة الغرب وتقاليده جاء تصويرهم لدور المرأة وشخصيتها مشوها وصالا ومثيرا للتمرد ودعوة إلى شر كثير حرفوا الواقع وزيفوا الفطرة وغالطوا الحقائق الأصيلة الثابتة ما دام ذلك يوافق ما يدين به الغرب وينسجم مع أساليب الحياة هناك التي فتنوا بها وبلغة فتنتهم بها أن تجاوز أحدهم نسبيا الإسلام وأعمته الفتنة بالغرب عن تاريخ أربعة عشرة قرنا لشعب مصر في الإسلام لينسبها تاريخا وحضارة إلى أوربا فيقول طه حسين إن من السخف الذي ليس بعد سخف اعتبار مصر جزءا من الشرق واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية (181) ».
وعلى هذا الأساس دعا العميد المصريين إلى اختيار الحضارة الغربية حضارة لهم ومشاركة الغربية في جميع مناهجهم ومقاييسهم وأذواقهم وأحكامهم فطب بصريح العبارة أن «نسير سيرة الأوربيين وتسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب» (182)
«وأن نشرع الأوربيين بأننا نرى الأشياء كما يراها ونقوم الأشياء ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها» (183)
وإلى هذا الحد وصلت حماسة هؤلاء الدعاة إلى تقليد الحضارة الغربية الانتساب إليها، لندخل فيها بعد أن نخلع على أعتابها إيماننا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكل ما يقوم على هذا الإيمان من نظم شرعها لنا الله.
ولكن هل كان سعي هؤلاء في إضفاء الصبغة الغربية علينا مشكورا؟ وهل نالوا تقديرا واحترام أصحاب هذه الحضارة برغم ما قدموا على أعتابهم من مراسيم الطاعة والإخلاص والولاء؟
الإجابة عند اللورد كرومر، الذي كان أكبر رائد إلى تغريب مصر والعالم العربي بالتبعية فقد صورة بنفسه هذا الجيل المشئوم الذي تربى في أحضان التعليم الغربي ونال أعلى درجاته العلمية من جامعاته ورجع إلى وطنه مؤمنا بسيادة الغرب وفضل حضارته وقدسية مبادئه فكانوا طلائعه الأولى العاملة بكل حماس على سلخ أمتهم من ماضيها العريق وهدم كل وقواعدها وأصولها الاجتماعية لتقوم على أساس غربي طنا منهم أن هذا هو طريق النهضة والحل الأمثل لمشكلاتنا فتاهوا بذلك عن اكتشاف خصائص أمتهم وفقدوا هويتهم الأصيلة لعموا وصموا عن أن الغرب ما يزال يعيش على تراث سلفه، على عكس النظرة الخاطئة التي تحاول عن عمد الإيهام بلفظه لعقيدته ونبذه لتراثه والمفاصلة بنيه وبين سلفه.
يقول كرومر في شأن هؤلاء: «إن المصري المتحرر يسبق الأوربي المتحرر في التنور، وحرية الفكر والحيرة، إنه يجد نفسه في بحر هائج لا يجد فيه سكانا ولا ربانا لسفينته فلا ماضيه يضبطه ولا حاضره يفرض عيه الحواجز الخلقية أنه يشاهد أن الجمهور من مواطنيه يعتقدون أن الدين يعارض «الإصلاحات» التي يراها جديرة كل الجدارة بالنفاذ إن ذلك يثير فيه السخط، والكراهية الشديدة للدين الذي يؤدي إلى مثل هذه النتيجة فيدوسه بقدمه وينبذه بالعراء، إنه إذا قطع الصلة عن دينه وتعاليمه فلا يحجزه عن التورط في المزالق الخلقية إلا مصلحته الشخصية السافرة مع أن الأوربي الذي يحرص على تقليده لا يزال متقيدا بشرائع أمته الخلقية إن المجتمع الذي يتكون من مثل هؤلاء الأفراد المتحررين في مصر لا ينكر على الكذب والخديعة إنكارًا، شديدًا ولا يمنعه من ارتكاب الرذائل خوف سوء الأحدوثة في المجتمع إنه إذا رفض دين آبائه فإنه لا يلقى عليه نظرة عابرة إنه لا يرفضه فحسب بل يرفسه ويركله برجله، إنه يترامى في أحضان الحضارة الغربية ليس غلا الجانب الخارجي من جوانب هذه الحضارة إن الحقيقة أن القوة الخلقية التي تنبع من التعاليم المسيحية هي التي تضبط سفينة الحضارة الغربية وتمنعها من الاضطراب الزائد في البحر الهائج ولما كانت هذه القوة قوة باطنية فإنها تتوارى في غالب الأحيان عن أنظار المتشبهين الزائفين بأبنائها الحقيقيين إنه يخلف وبقول: إنه نبذ التعصب الديني وأنه يحتقر تعاليم آبائه إنه يقول لزميله الأوربي إننا أصبحنا نتلك الخط الحديدي وقد أسسنا في بلادنا مدارس عصرية وأنشأنا الجرائد والمحاكم ومظاهر الحياة الحديثة، والمدينة العصرية التي تتكون منها حضارتكم فكيف نعتبر متخلفين عنكم وأحط شأنًا منكم إنه يجهل أنه لا يستطيع أن يجاري زميله الغربي ويكون ندا له فإن المسيحية فغن لم تكن المسيحية التي مضى عليها ألف وتسع ومائة سنة رصيده وسنده لم يكن قد حيث هو الآن» (184)
... يقول في موضع آخر: «إن المجتمع المصري في مرحلة الانتقال والتطور السريع، وكانت نتيجته الطبيعية أن وجدت جماعة من أفرادهم «مسلمون» ولكنهم متجردون من عن العقيدة الإسلامية والخصائص الإسلامية، وإن كانوا «غربيين» فإنهم لا يحملون القوة المعنوية والثقة بأنفسهم، وإن المصري الذي خضع للتأثير الغربي، فإنه وإن كان يحمل الاسم الإسلامي لكنه في الحقيقة ملحد وارتيابي» (185) .
الحصار المر
أنه برغم صلابة الشخصية الحضارية للمجتمعات الإسلامية واستعصائها على الذوبان في حضارة الغرب، إلا أنه لضراوة الغزوة الحضارية الغربية وما حشدت لها من جهود وإمكانات مادية وبشرية من الداخل والخارج وما ساعدها من ركون هذه المجتمعات تبلدها استطاعت الحركة الملقبة بحركة «تحرير المرأة» أن تحقق الكثير من أهدافها في قطاعات عريضة من مجتمعاتنا...
لقد استطاعت هذه الحركة المشئومة أن تحدث تشوها في معالم شخصية المرأة المسلمة العفيفة المصونة، وانقلابًا في مفاهيمها حتى أصبحنا لا نستطيع التمييز بين المرأة المسلمة ولامرأة الأوربية في كفر أو خلق أو سلوك ..
كما استطاعت أن تنزع عن مجتمعاتنا الكثير من سمات الإسلامية، فبذات الحواجز بين الفتى الفتاة في الرحلات المزدوجة ومعسكرات الشباب المختلطة ونزعت القيم والأخلاق من نفوس الأجيال الناشئة وراحت الأغذية السامية التي يقدمها الأدب الوجودي المنحل وأدب الجنس والفكر المادي حتى أصبحت الوجبة المفضلة لدى شبابنا وفتياتنا وهي الظاهرة الخطيرة التي أعلن عنها رئيس اتحاد الناشرين في بيروت بقوله: «إن الكتب الجنسية الآن من أروج الكتب في البلاد العربية، وهي المعاجم اللغوية لا تمنع كالكتب الأخرى» يقصد أن قيود المنع لا توضع إلا على كتب الفكر الإسلامي الجاد.
وكانت النتائج وخيمة فانعكس الفساد على كل مرافق حياتنا وتغلغل فيها من الجلد إلى اللحم والعظم وتخلفنا في جميع الميادين، ولحقت بنا الهزائم السياسية والعسكرية فما موقف ضباط الطيران بمصر في ليلة 5يونيو سنة 1967 عنا ببعيد، فقد كانت هناك تنبيهات وتحذيرات من أكثر من مصدر تمومئ إلى توقيع هجوم من إسرائيل في يوم 5يونيو ذاته ويساعد على هذا التوقع سخونة الجو السياسي والعسكري وارتفاع حرارته إلى حد بعيد أثر المؤتمرات والتصريحات النارية وفي هذه الظروف يأبى قادة الطيران إلا أن يقيموا حفلا راقصا يشربون فيه ويطربون ويتراقصون يتمايلون حتى مطلع الفجر بدلا من أن ينيبوا إلى ربهم سجدا وقياما واستعدادا ..
وكان ما كان من ضرب المطارات وتحطيم الطائرات، والقوم يغطون في نوم عميق بعد سهرهم الطويل وكانت النتيجة أن ضاعت القدس أولى القبليتين وأصبح الطريق إلى القاهرة مفتوحًا.
وقد كشفت «نكستهم» في سنة 1967 كثيرا من الفضائل والمخازي التي يندى لها جبين الكريم ويضيق بها صدر الحليم .. ومن هذه المخازي قضايا «الجواسيس» اليهود الذين تسللوا في أكثر من بلد عربي ثوري إلى مركز القيادة تحت أسماء إسلامية مزورة واستطاعوا أن يمسوا ويصبحوا ندامي ومسامرين لكثير من الشخصيات المرموقة عسكرية ومدنية وأن يحصلوا من ورائها على أعمق الأسرار العسكرية والسياسية ليطيروها إلى «إسرائيل» وهم في أمان واطمئنان لأنهم في حماية فلان وكنف علان، من القادة والضباط العظام!!
إن قصة «إيلي كوهين» في سورية وإضرابه في غيرها من دول المواجهة مع إسرائيل مما كشف بعضه ولم يزل بعضة الآخر سرا مجهولا ستظل من القصص العالمية المثيرة في تاريخ التجسس المفعم بالمغامرات.. لماذا نجح هؤلاء الجواسيس؟
نجحوا عن طريق الفساد الخلقي فما وجدوه منه استغلوه ووسعوه، وما لم يجدوه حاولوا أن يخلقوه ويغذوه إن أعظم فخين أو شبكتين للجاسوس هما، الخمر والمرأة وعن طريقهما يقع في حبائله كبار المسئولين من حملة أسرار الدولة والقوات المسلحة.
إن من شأن هذه الدعوة الخبيثة التي يروج لها دعاة تحرير المرأة الذين وضعتهم الدولة في مراكز الصدارة في كل مؤسسات التوجيه والإعلام.. إن من شأن هذا الجو الذي سممه هؤلاء الدعاة بإمكانياتهم هذه أن يعطي منطقا واحدا للشباب والشابات أن الحياة كلها لهو وفراغ وجنس وتسلية وخداع وصراع وتحريض وانتقام وغواية واصطياد وليس لهذا كله حدود ولا عقوبات هكذا تصور وسائلهم الإعلامية من صحافة وإذاعة وسينما وتليفزيون في حوار قصصهم وأفلامهم وتمثيلياتهم فتعطي للشباب التحريض على أسرته وأهله وللفتاة الاندفاع إلى مطامعها وأهوائها وللزوجة أن تبحث عن طريق غير طريق البيت أو الأسرة إذا ما رأت تسهيلات الاعوجاج والانحراف..
نشرت جريدة «أخبار اليوم» في عددها الصادر 14/ 2/ 1976 تحقيقا بعنوان «لماذا تنحرف الفتيات الصغيرات؟ يجيب صاحب التحقيق بأن الفقر أحيانا هو السبب .. «التطلع » في أحيان كثرة يكون وراء الانحراف هكذا يقول المتخصصون في الاجتماع.
إن شارع الشواربي بمجلاته الأنيقة ومعروضاته المغرية من الملابس المستوردة وأدوات التجميل والزينة يثير لعاب الفتيات فإذا امتدت أيديهن إلى الجيوب عادت خاوية وغالبا ما تمتد أيد كثيرة إليهن في هذا الوقت بالذات تشتري لهن وتأخذهن إلى الضياع!
ليس الفقر وحدة هو المسئول: هكذا تقول أوراق التحقيقات مع البنات المنحرفات إن إمام «حسين نعمان» مدير نيابة الآداب اعترافات مثيرة لبنات صغيرات لم تكن الحاجة والفقر وراء انحرافهن ولكن كانت هناك أسباب أخرى كثيرة ومثيرة:
-الاعتراف الأول لطالبة .. قالت إنها تمتلك سيارة بيجو وقد تعطلت فذهبت بها إلى الورشة طلب الميكانيكي مائة جنيه لإصلاحها وعجزت عن تدبير المبلغ وتعبت من الذهاب إلى الكلية في المواصلات المزدحمة وهمست زميلتها وصديقتها الطالبة بكلية الآداب في أذنها بالحل .. ساعة واحدة مع سائح تحصلين على ثمن إصلاح السيارة!
وذهبت مع صديقتها إلى السائح في الصباح.. وأسرتها تعرف أنها في الكلية .. ونزلت وفي حقيبتها مبلغ المائة جنيه.
والثانية اعترفت بأنها مخطوبة لموظف شاب أحبته .. لكنه كان محدود الدخل وعند البحث عن شقة الزوجية طلب صاحب العمارة 800 جنية خلو رجل وعجز خطيبها عن الحصول على أي مبلغ.. وانحرفت هي لتحصل على خلو الرجل وانسابت دموعها وهي تقول لمدير نيابة الآداب: وجمعت 600 جنيه في ستة أيام ولم يكن ينقصني غير مائتين.
والثالثة.. تستأجر شقة مفروشة في الدقي بمائة وخمسين جنيها في الشهر قالت إن أسرتها فقيرة وهي تكره الفقر وتتطلع إلى الحياة المترفة للملابس الجاهزة في شارع الشواربي .. للطعام النظيف .. لركوب سيارة .. وانحرفت!
وقدمت النيابة الطالبات إلى المحكمة بعد اعترافهن وحكمت المحكمة بحبس كل منهم بالسجن 3شهور مع الشغل.
ويقول مدير نيابة الآداب: ليس العامل الاقتصادي وحدة هو الدافع إلى وقوع الكثيرات وأمامي نماذج كثيرة:
وقفت أمامي فتاة لا تتجاوز عمرها 22سنة .. من أسرة كبيرة.. والدها كان يشغل مركزا مرموقا .. تملك 50 فدانا ..عندما تم ضبطها في شقتها مع سائح وجد معها خمسة آلاف جنية ومجوهرات لا يقل ثمنها عن عشرة آلاف جنيه.. وطالبة بالجامعة الأمريكية عمرها 25سنة .. زوجة وأم لطفلين تملك شقة خاصة في ميدان التحرير .. وسيارة من أحدث طراز.. تم ضبطها ومعها مبلغ كبير وتتحلى بمجوهرات ثمينة. قالت أنها ليس في حاجة إلى الفلوس إنها انحرفت لتملأ فراغك وقتها فزوجها مشغول عنها بأعماله دائما!!
خمس طالبات صغيرات تم ضبطهن في شقة سائح عاريات في حجرة النوم.. كلهن من أسر محدودة الدخل يمارسن الجنس لحاجتهم إلى مصروفات نثرية لشراء سندوتشات والجلوس في الكازينوهات قالت إحداهن: ومعي الفلوس لكني لا أستطيع أن أشتري ما تتوق إليه نفسي من الملابس الجاهزة في شارع الشواربي خشية أن تسألني أسرتي من أين لك هذا؟؟
والأمثلة كثيرة.. ومثيرة.. ومتعددة إن متوسط ما يقدمه مكتب الآداب إلى النيابة والمحكمة سنويا يزيد عن الألف قضية.. لطالبات وزوجات من أسر كبيرة وموظفات هذا ما يكشفه بوليس الآداب الحالات التي لم تكشف لا حصر لها!!»
ويقول حسين نعمان مدير نيابة الآداب: من واقع تجاربي معهن وسماعي لاعترافاتهن فإن ذلك في تقديري يرجع إلى نقص التربية الأسرية والدينية في الأسرة وأحمل وسائل الإعلام .. والصحافة والإذاعة والتليفزيون نصيبها من المسئولية.
ويستطرد: إن المادة 9 ج من القانون رقم 10 لسنة 1961 فيها كثير من الثغرات على سبيل المثال... المنحرفة التي تصادق شخصا واحدا لا يحاكم والتي تمارس الجنس مع عدد من الأشخاص تقدم بتهمة الاعتياد على ممارسة الدعارة».
جاء في البروتوكول التاسع من بروتوكولات حكماء صهيون «ولقد خدعنا الجيل الناشئ من الأميين غير اليهود وجعلناه فاسدا متعفنا بما علمناه من مبادئ ونظريات معروف لدينا زيفها التام، ولكنا نحن الملقنون لها» وجاء في البروتوكول الثاني عشرك «الأدب والصحافة هي أعظم قوتين تعليميتين خطيرتين ولقد نشرنا في كل الدول الكبرى ذوات الزعامة أدبا مريضا قذرا يقذف النفوس»...
وإننا نحن المسلمين بعد هذا كله لنتساءل: أما آن لمواكب الفارغات والفارغين من دعاة تدمير المرأة أن يكفوا ويتقوا الله؟ .. أما آن للمسئولين عن هذه الأمة أن يضعوها على الطريق الصحيح وأن يكون لنا في هذا الواقع المر الأليم عبرة؟
إن هذه الأجيال التي نحن مسئولون عنها أمام الله وأمام التاريخ: أننا لم نمهد لها طريق الحق ولم ندلها على منابع الخير، ولم نقم بناءها على أساس الإيمان هناك مسئولية توجيه الآباء والأمهات أولا وهناك مسئولية مناهج التربية والتعليم وهناك مسئولية وسائل الإعلام بما تقدمه من مفاهيم غربية فاضحة تمثل مجتمعها ولا تمثلنا .. هذه الأجيال التي يجب أن تعرف التحديات الخطيرة التي تواجهها وتواجه أمتها، وذلك الخطر الأكبر الماثل في بلادنا من صهيونية واستعمار صليبي وماركسي، وما تحاول به كل هذه القوى الحاقدة الطامعة من احتواء أمتنا عن طريق إخراج شبابنا من دينه وقيمه وتراثه الأصيل ليصبح عاجزا بالتحلل والإباحية والفردية والأهواء عن مقاومة ما يحدق بنا من أخطار وإن ما نراه الآن لينذر بالخطر وليكشف بصورة واضحة ما أضمرته بروتوكولات حكماء صهيون التي ركزت على تحلل شباب الأمة وتلويث قلبه ونفسه وتزيف عقله وتشويشه واحتوائه السيطرة عليه عن طريق حرية الجنس الذي تزينة جماعات اتباع الشهوات في الأغنية المكشوفة، وحوار التمثيليات الهابط، والصورة العارية والقصة الإباحية حتى يصير في النهاية وقد مسخ بالحيوانية غير قادر على فهم رسالته في بناء أمته وتفهم دورها في هذا الوجود كخير أمة أخرجت للناس وتعرف حق الله عليها والتزامها التاريخي والأخلاقي ومسئوليتها على حساب أخروي يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله أليم.
الفصل الثالث الأسرة المسلمة على مفترق طريقين
رأينا كيف نقلت قوى النفوذ الاستعماري بوجهيه اليهودي والصليبي إلى الحياة الاجتماعية الإسلامية مخطط الهدم المدروس لكل مقومات الأمة وجعلها لقمة سهلة للك طامع..
ومما لاشك فيه أن هذه القوى وضعت في الحركة التي استعلنت باسم «تحرير المرأة» أكبر آمالها، فحشدت لها كل الإمكانات والجهود والطاقات ما يكافئ الدور الخطير الذي تلعبه على الساحة الإسلامية ذلك أن هذه الحركة، التي حمل لواءها رجال قطعوا صلتهم بنسبهم الإسلامي وجعلوا من حضارة الغرب قبلة لهم ونساء كثيرا غرر بهن وأظن أنهن يستهدفن حقا مسلوبا هي في حقيقتها جزء هام من أجزاء مخطط التذويب والاحتواء الغربي والغزو الثقافي والاجتماعي الذي يهدف إلى إخراج المرأة من رسالتها وقيمها ودفعها لتكون معول هدم للأسرة والمجتمع ذلك أن الإسلام هو الذي وضع الركائز الأصيلة لتحرير المرأة أما هذه الحركة فقد استهدفت تفكك الأسرة وانحلال الأخلاق واستباحة الغرض الإسلامي بإحداث ثغرات وتأصيل مفاهيم جديدة تدور في إطار المفهوم الغربي العاري من أساليب العفة والقيم والحصانة وبالفعل تأصلت هذه المفاهيم الخاطئة وأصبحت في عداد المسلمات التي مسخت الفطرة السليمة للمرأة وأفسدت العلاقات بين الزوج والزوجة والآباء والأبناء فعمت الفوضى والاضطرابات حياتنا حتى أصبحت بعيدة كل البعد عن الصورة النظيفة الآمنة المطمئنة للحياة الإسلامية والحق الذي لا مراء فيه أن هذه الجماعات التي أخذت على عاتقها قطع كل صلة لنا بأصولنا الإسلامية لتصلنا بالغرب وأصوله لم تكن مخلصة لهذه الأمة أو صادقة في التماس هدف أصيل.
وقد كان لهذا الانحراف الذي تم تحت أضواء الحضارة وبريق الحرية وصيحات التكريم الزائفة للمرأة أثره البعيد في هذه النتائج الخطيرة التي يواجهها المجتمع الإسلامي وهذه التحديات التي تواجه المرأة المسلمة ورسالتها في الحياة كما رسمها المنهج الإسلامي.
من أجل إسقاط الأسرة طرحت طريق المرأة المسلمة أشواك كثيرة منها خروجها إلى ميادين العمل العام والتخلي عن مسئوليات البيت، وتحريضها على النشوز وإسقاط قوامة الرجل ودعوتها إلى تحديد النسل وضرب وظيفة الأمومة وتشكيكها فيما شرعه الله لها من الحجاب وعدم التبرج وإباحة تعدد الزوجات والطلاق حلا لمشكلات الأسرة...
أولا: عمل المرأة
تدرجت الدعوة إلى تحرير المرأة من رفع الحجاب وإزالة ما يسمى بالنقاب وكشف وجهها وكفيها وسمت رفع النقاب سفورا ثم كشفت قدميها وساقيها وراعيها حتى وصلت في عريها إلى الكشف عن صدرها إلى نهديها وعن ركبتيها وربطت الدعوة إلى السفور الحجاب «بالحريم» تبغيضا فيه، كما يربط الإلحاد العلمي: الدين «بالرجعية» تنفيرا منه.. تدرجت هذه الدعوة الآثمة من رفع الحجاب والتعليم المشترك واختلاط الجنسين إلى دفع المرأة نحو العمل خارج المنزل.
ويلاحظ ابتداء أن المرأة في المجتمعات الإسلامية خرجت من المنزل لتشارك الرجل وتزاحمه في ميادين الأعمال العامة لمحض تقاليد المرأة الأوربية والتشبه بها عن جهل منها بأنها ضحية الخطة اليهودية التي سبقت إلى تدمير المرأة والأسرة في الغرب منذ الثورة الصناعية وعندما اشترى اليهود والبورجوازيون أصحاب رأس المال عمل النساء والصبيان بأبخس الأثمان في المصانع الجديدة ووضعوهما في أسوأ الظروف الاجتماعية والصحية، التي يفرضها العمل الليلي وكانت تلك مقدمات تهتك النساء وجنوح الأحداث في الغرب تلتها خطوات انتهت بالمرأة الغربية حتى أصبحت الآن سلعة في سوق الرقيق الأبيض يتاجرون بجسدها وعرضها فرؤوس الأموال الكبيرة تشيد الفنادق والمعارض تقيم فيها المحترفات بالبغاء كما نعرض في واجهاتها أبدان النساء عاريات مع الأجور التي تدفع لهن، وتقام هذه الفنادق في مواقع مختارة تعرف بالتردد عليها كمواقع للهو والتسلية أو في مواقع كنقاط اتصال على الحدود بين دولة وأخرى» (186)
لقد أصبح جسد المرأة الأوربية كبائعة في متجر أو عارضة أزياء أو ممثلة في أفلام السينما أو سكرتيرة لرجال الأعمال أو مضيفة في فندق أو على طائرة أو باخرة وفي جميع المحلات العامة والخاصة سلعة ترتبط بالمنفعة المادية (187) التي طغت على القيم الأخلاقية الإنسانية هناك.
وقد أحست المرأة الغربية بالغبن الذي وقع عليها من جراء مساواتها بالرجل في العمل وأخذنا نسمع عن صيحات هناك تعبر عن هذه الأحاسيس فنسمع أجاثا كريستي أشهر كاتبه انجليزية للكتب والمسرحيات البوليسية تقول في كتاب صدر لها أخيار عن حياتها: «إن المرأة مغفلة لأن مركزها الاجتماعي يزداد سواء يوما بعد يوم فنحن النساء نتصرف تصرفا أحق لأننا بذلنا الجهد الكبير خلال السنين الماضية للحصول على حق العمل والمساواة في العمل مع الرجل والرجل ليسوا أغبياء فقد شجعونا على ذلك معلنين أنه لا مانع مطلقا من أن تعمل الزوجة وتضاعف دخل الزوج ومن المحزن أن أثبتنا نحن النساء أننا الجنس الضعيف نعود اليوم لنتساوى في الجهد والعرق الذي كان من نصيب الرجل وحده».
وإذا كانت أوضاع المجتمعات الغربية فيما بعد الحربين العالميتين سنة 1914و 1939 قد اضطرت المرأة للنزول إلى العمل في المصانع والمتاجر والمرافق العامة بسبب نقص الرجال وحاجتها في ظل هذه المجتمعات المادية إلى الكفالة بعد أن فقدت العائل في الحرب فليس المسئولين ولا الرعاة تحرير المرأة في المجتمعات الإسلامية مبرر فيما اتخذ من إجراءات هناك أخرجت المرأة للعمل في كافة الميادين فلا توجد عندنا ضرورة ملجئة إلى ذلك. فبصرف النظر عن حصيلة الإنتاج لعمل المرأة فلا يزال لدينا زيادة في الأيدي العاملة من الرجال الذي يعانون من بطالة صريحة ومقنعة تشهد بذلك أعداد العاملين الزائدة عن الحاجة في شركات القطاع العام ومكاتب الحكومة.
لقد تعارف البشر (188) أنه لا استقرار لأوضاعهم الاجتماعية والأسرية إلا بتقسيم الأدوار وأعباء الحياة بين الرجل والمرأة كل على حسب طبيعته ووظيفته وإلا تعرضت أوضاعهم للفوضى الاضطراب وتتجلى لنا هذه الحقيقة في تعبير بليغ لحكيم قديم يقول: الرجل للحقل والمرأة للمنزل والرجل للسيف.. والمرأة للإبرة، والرجل العضل.. وللمرأة القلب هو يأمر .وهي تطيع ولولا ذلك لعمت الفوضى.
ولكن النسائيين ودعاة تحرير المرأة في المجتمعات الإسلامية يزينون محاولة إخراج النساء من البيوت ليشاركن الرجال في ميادين الأعمال العامة على أن قمة التقدم والتحضر ويتذرعون بكل حجة: أنه لا سبيل إلى حل مشكلاتنا الاجتماعية إلا بمساواة المرأة بالرجل، وإخراجها من ظلمات عصر الحريم إلى نور عصر المدنية لتشارك في بناء المجتمع بناء عصريا وما لم يتحقق ذلك فسيظل «نصف المجتمع» معطلا مهدر الطاقات وما إلى ذلك من ادعاءات عريضة مضللة ركز عليها هؤلاء خلال تلك السنوات الطويلة على صفحات الجرائد ومن خلال الإذاعة والتليفزيون والسينما والمسرح والقصة وهذه الادعاءات لا تروج لها إلا غاش أو صاحب هوى أو مخدوع يهدف إلى خلق عقلية مضللة للمرأة تصور لها نفسها في صورة المهضومة وتضعها تحت وسواس يخيل لها أنها مضطهدة ولا شفاء لها إلا بالخروج إلى العمل خارج المنزل لتحقق ذاتها وتؤكد شخصيتها المستقلة وصدقت الكثيرات هذا الضلال فأصابتهن اللعنة على أنفسهن وعلى بيوتهن.
ومن هنا وجدت المرأة المسلمة نفسها أمام تحديات خطيرة تنحرف بها عن رسالة الزوجية والأمومة وتخرج بها عن مقتضيات الأنوثة والتزامات الدين بالقرار في البيت وعدم التبرج «وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى» ذلك لأن عمل المرأة خارج البيت يستهدف به النسائيون من دعاة تحرير المرأة:
أولا: استقلال المرأة استقلال اقتصاديا يجعلها قادرة على عدم الارتباط بالرجل أيا كان أم زوجا أو أخا ارتباط نفقة وكفالة (189)
ثانيا: هذا الاستقلال الاقتصادي يفتح لها باب التحرر على مصراعيه بلا حدود ولا ضوابط فيحقق لها حرية الزواج بلا ولي إن رغبت في الزواج، وحرية الصداقة إن آثرت علاقة الصداقة على الزواج كما يحقق لها حرية السكن والعيش بعيدة عن نطاق الأسرة ونطاق العادات والتقاليد التي تحد من حريتها!!
وهذان الهدفان لعمل المرأة خارج المنزل إن حققا للمرأة سندا بعيدا عن الأسرة فإنه سيفقدها الترابط مع أسرتها كما يفقد الأسرة نفسها سلطة الأبوين في توجيه الأبناء وبذلك تتفكك الأسرة وتتحلل إلى أفراد تتعدد اتجاهاتهم وتتلاشى عصبيتهم وعندئذ يفقد المجتمع أساسه الأصيل وهو الأسرة كوحدة اجتماعية صلبة.
وإذا ما فقد المجتمع قوة الأسرة كان عرضة للفوضى، وكان الشباب عرضة للضياع، والحركات الفوضوية التي تتوالى اليوم موجه بعد موجة في المجتمعات الغربية وعلى الأخص ما يسمى بينها: «بالثورة الجنسية» التي تكتسح هذه المجتمعات في الوقت الحاضر هذه الحركات تعبر عن انهيار الأسرة بضياع سلطانها ولولا مساندة الحضارة المادية وازدهار اقتصاد هذه المجتمعات عن طريق التطور التكنولوجي في صناعاتها لعجل هذا الانحلال بأفولها منذ حين.
والمرأة بعملها خارج البيت وما يتيحه لها ذلك من استقلال الشخصية يوهن من علاقتها الزوجية ويضعف من ارتباطها بزوجها وحاجتها إليه، ويجعلها في أي لحظة ولأتفه الأسباب قادرة على هجر شئون الزوجية أو الإهمال في شئونها وليس المراد بشئون الزوجية الشئون المادية وحدها ولكن قبلها الجانب النفسي والروحي وهو جانب السكنى والاطمئنان بين الزوجين هذا إلى جانب ما يزرعه خروجها واختلاطها بزملاء العمل بذور الشك والريبة.
والمرأة بخروها للعمل وبما تكسبه من استقلال تصبح عرضة لتبلد مشاعر الأمومة وأحاسيسها اللطيفة فتصبح غير راغبة في أن تكون أما وإذا اضطرت لأن تكون ذات طفل في يوم ما، فطفلها هذا يتسبب لها في المشاكل التي تقف عقبة في تأدية واجبات العمل الخارجي، والقيام بواجب التنشئة السليمة وتهيئة جو الحنان له. إذ تضطرها التزامات العمل والوظيفة إلى أن تكل أمره إلى غيره من المرضعات والحاضنات فيفقد الطفل أهم ما تعطيه الأم ولا يعطي غيرها بديلا منه: العاطفة ولبن الأم والوجدان.
ولقد خرجت المرأة المسلمة إلى العمل في السنين الأخيرة دون أن تفهم حقيقة مهمتها في الحياة الاجتماعية أو طبيعة تكوينها البيولوجي أو ورها في المجتمع ذلك أن هذا كله لم تتعلمه مع الأسف لأن مناهج التعليم لا تقدم للفتاة ما يدلها على الطريق الصحيح أو يهديها إلى الحق يقول ألكسيس كاريل في كتابه «الإنسان ذلك المجهول»: (لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة عظيمة باستبداله تدري المرأة بالمدرسة استبدالا تاما ولهذا تترك الأمهات أطفالهن لدور الحضانة حتى ينصرفن لأعمالهن أو مطامعهن الاجتماعية أو مباذلهن أو هوايتهن الأدبية أو الفنية أو ارتياد دور السينما وهكذا يضيعن أوقاتهن في الكسل إنهم مسئولات عن اختفاء وحدة الأسرة واجتماعاتها التي يتصل فيها الطفل بالكبار فيتعلم منهن أمور كثيرة لأن الطفل يشكل نشاطه الفسيولوجي والعقلي والعاطفي طبقا للقوالب الموجودة في محيطه إذ أنه لا يتعلم إلا قليلا من الأطفال الذين في مثل سنه.
وكل هذبا يكشف مدى التحدي الذي تواجهه المرأة المسلمة بخروجها من بيتها باسم العمل تحت ضغط ظروف خلقتها دوائر الشر والإفساد اليهودية لإقامة أنظمة اجتماعية تتحكم في ظلها فطرة الإنسان وتضطرب حياته. وليس هناك اضطراب يصيب حياة الإنسان أكثر من أن تتخلى المرأة عن رسالتها بالنسبة لزوجها وبيتها وأطفالها وهي رسالة دقيقة خطيرة تتطلب تفرغ المرأة تفرغا تاما لها، وقد سجل القرآن الكريم هذه الرسالة في وضوح إذ يقول تعالى «وقرن في بيوتكن».. وقر يقر، أي ثقل واستقر وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا إنما هي إيمامة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن والمقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقرون إنما هي لحاجة تقضي وبقدرها ...
«فالبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى، غير مشوهة ولا منحرفة، ولا ملوثة ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة.
«ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه غايتها أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها فالأم المكدودة (190) بالعمل للكسب المرهق بمقتضيات العمل المقيدة بمواعيده المستفرغة الطاقة فيه لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والحانات، وما يشيع فيها ذلك العطر الذي يشيع في البيت فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة وعطر البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلام والملل ذلك أن طاقة الإنسان محدودة والله لا يكلف نسفا إلا وسعها.
إن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة أما أن يتطوع بها الناس استجابة لدعوات منكرة وهم قادرون على اجتنابها فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول في عصور الانتكاس والشرود والضلال (191) .
ثانيا: المساواة وإسقاط القوامة
يدعي النسائيون وأصحاب المؤامرة على غزو حصون المسلمين وإسقاط أخطر حصن يها وهو الأسرة يدعون: أن الإناث يساوين الذكور في كل مجال ويستطعن أن يقمن بما يقوم به الرجال ويستدلون على ذلك ببعض استدلالات متعسفة نقلوها إلينا من نظريات اجتماعية تقول إن المجتمع هو صانع الأديان والعقائد والقيم والعادات والتقاليد وهو صاحب السيادة على كل النظم والشرائع حتى ولو كان هذا المجتمع منتكسا شاردا وهو وقول باطل لأن نظريتهم هذه استخلصت من ظواهر اجتماعية منحرفة في مجتمعات شاردة منتكسة فمن المغالطات قولهم (إن الطبيعة البشرية سواء للرجل أو المرأة وإن الاختلاف بين الرجل والمرأة في بعض الوظائف الفسيولوجية لا تعني تكبيل النساء بالقيود وإطلاق الرجال بل إن هناك حقائق!! تثبت تفوق المرأة بيولوجيا).. فالعلم الصحيح وواقع الخلقة يثبت أن المرأة تختلف عن الرجل في كل شيء: في الصورة والسمة والأعضاء الخارجية إلى ذرات الجسم والجواهر البروتينية لخلاياها النسجية ومع بلوغها سن الشباب يعروها المحيض الذي تتأثر به أفعال كل أعضائها وجوارحها.
ونسوق شهادة عالم أوربي أمريكي: هو الدكتور كاريل الذي لا يجادل علماء الحضارة الحديثة في مكانته العلمية إذ حصل على جائزة نوبل سنة 1912 لأبحاثه الطبية الفذة: «إنا الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة لا تأتي من الشكل الخاص للأعضاء التناسلية ومن جود الرحم والحمل أو من طريقة التعليم إذا أنها ذات طبيعة أكثر أهمية من ذلك.. إنها تنأ من تكوين الأنسجة ذاتها، ومن تلقيح الجسم كله بمواد كيماوية محددة يفرزها المبيض. ولقد أدى الجهل بهذه الحقائق الجوهري بالمدافعين عن الأنوثة إلى اعتقاد بأنه يجب أن يتلقى الجنسان تعليما واحدا وأن يمنحا سلطات واحدة ومسئوليات متشابهة والحقيقة أن المرأة تختلف اختلافا كبيرا عن الرجل فكل خلية من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها والأمر نفسه صحيح بالنسبة لأعضائها وفوق كل شيء بالنسبة لجهازها العصبي فالقوانين الفسيولوجية غير قابلة للين، شأنها شأن قوانين العالم الكوكبي فليس في الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها ومن ثم فنحن مضطرون إلى قبولها كلما هي فعلى النساء أن ينمين أهليتهن تبعا لطبيعتهن دون أن يحاولن تقليد الذكور فإن دورهن في تقدم الحضارة أسمى من دور الرجال فيجب عليهن ألا يتخلين عن وظائفهن المحدودة (192) ».
ألا ما أبدع إشارة القرآن الكريم في آية من آيات الخلق الكبرى وهي التفريق بين الذكر والأنثى حيث يتبين أن من أعظم دلائل قدرة الخالق في خلق الزوجين: الذكر والأنثى فهما جنسان من نفس واحدة كفل لها المنهج القرآني حقوقا واحدة فيما يتعلق بالأصل الإنساني العام ولكنه في الوقت ذاته يفرض على كل منها واجبات مختلفة وفق الوظيفة الخاصة في العمران ووفق طاقة كل منها ومجموعة تكاليفه فلا يكلف المرأة المسكينة الضعيفة مثلا أن تحمل وترضع وتربي، وفي الوقت ذاته تعمل وتكدح وتشقى بينما الرجل لا يشاركها الحمل والرضاعة والتربية ولا يكلف المرأة أن تهمل «صناعة الإنسان» لتشغل بصناعة الأشياء فالإنسان في منهجنا أغلى من الأشياء ولا يجوز فيه أن تشغل المرأة المثقفة الماهرة الحكيمة بصناعة الأشياء وإنتاجها وأن تستجلب لأبنائها امرأة أخرى أقل ثقافة ومهارة وحكمة وأرخص أجرا بالطبع لتشرف لها على «الأبناء» بينما هي تشرف على «الأشياء»!
ولكن الذين يزعمون أنهم ينصفون المرأة ويحترمونها ويحررونها (أنه إذا كانت المرأة تحمل وتلد فليس معنى ذلك أن تكون وظيفتها في الحياة هي الحمل والولادة فقط فالحمل والولادة لا يبطلان المرأة الحديثة عن عملها في المجتمع وأن الحمل لم يكن قيدا على المرأة القديمة التي كانت تنسب أطفالها إليها لكن الحمل أصبح قيدا على المرأة حين امتلك الرجل الجنين) (193) إنهم بذلك لا يريدون أن يعترفوا بضعف المرأة الطبيعي ولا بضعفها في فترة الحمل والولادة ولا يدعون أنم يعملون لخير المرأة وإنصافها وكأنهم أرحم وأكثر إنصافا لها من الذي خلقها فقال تعالى «وحملته أمه وهنا على وهن» فليس أشد على المرأة من مدة الحمل فهو جهد على جهد وضعف على ضعف فلا تستطيع خلال هذه المدة أن تتحمل مشقة الجهد البدني أو العقلي لاختلال نظام جسمها كله، فهي مريضة أو شبه مريضة طول هذه المدة.
وقد تمنى النساء قديما أن يكون لهن حظ مما ذهب به الرجال فقد روي أن أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ومعها نسوة قالت: ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال فيكون لنا من الأجر مثل مالهم فنزل قوله سبحانه: «ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن» وروي أن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت: يا رسول الله: إني وافدة النساء إليك إن الله بعثك بالحق للرجال والنساء فآمنا بك اتبعناك وإنا معشر النساء محصورات قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم وأنتم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وعيادة المرضى وشهادة الجنائز وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الرجل إذا خرج حاجا أو مرابطا أو معتمرا حفظنا لكم أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم وربينا لكم أولادكم أفما نشارككم في هذا الخير والأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه الكريم إلى أصحابه ثم قال: «هل سمعتم مقالة امرأة أحسن من هذا عن أمر دينها؟» فقالوا: يا رسول الله ما ظننا امرأة تهتدي إلى مثل هذا (194) فلتفت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «انصرفي أيتها المرأة» واعلمي من خلفك من النساء أن إطاعة الزوج اعترافا بحقه يعد ذلك وقليل منكن من يفعله فانصرفت وهي تهلل حتى دخلت إلى نساء قومها من العرب وعرضت عليهن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحن وآمن جميعهن وسميت أسماء «رسول نساء العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا يقطع الإسلام التفكير في هذا النوع المدمر من المساواة ويمنع الاشتعال به إلى حد التمني لما قد يحمل بعضهن إلى التمرد على وظائف الأنوثة ويفسدن مقاصد الفطرة ويعارضن إرادة الله في حكمة النسل دون أن يكون لهن من ورائه كبير عناء فمن كانت تريد الأجر فسبيله ما يسرها الله له، فقد قال سبحانه: «للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن» دون توقف على جهاد أو غيره ومن كانت تريد مجرد التشبه بالرجال فهو محاولة لتغيير خلق الله وسعي لمسخ وإبطال سنة من سنن الله في خلقه، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، إذ يجب أن تظل المرأة قائمة على وظائف الأنوثة وأن يظل الرجل رجلا قائما بما يسره الله له فذلك هو منطق السنن وسبيل عمارة الكون
فإذا انعقد للرجل رياسة البيت ورياسة الحرب والجيش وقام بها على المرأة فذلك توجيه الفكرة وضرورة الواقع وإذا انعقدت له زعامة الإصلاح الاجتماعي والانقلابات التاريخية وقيادة الجماهير فهو الثمرة الطبيعية لما تجمع فيه من مواريث الخبرة وسعة التجارب ومواهب الكفاح والقوة، والتمرس بشئون المجتمع على مدى القرون والأحقاب وإذا تقررت له الإمامة الكبرى أي رياسة الدولة العليا من دونها فهو تقرير يسوغه أنه رئيس البيت بحقه وصاحب لواء الحرب بحقه وزعيم الانقلابات الإصلاحية بحقه، وما الإمامة الكبرى إلا السلطان الذي يتوج هذه الرياسات كلها فلا يوسد إلا لمن سبقت له الكفاءة لتلك الرياسات وهذا ما يعنيه قوله تعالى: «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض»...هذا فالمرأة بطبيعة استعدادها للحمل والوضع والإرضاع وما تلقى بذلك من ضعف وألم تعجز عن حماية نفسها أو قومها ولا يكون لديها من الطاقة ما تنهض به لرد غارة أو مدافعة عدو فكان طبيعيا أن يقوم عليها الرجل بتلك الحماية والرعاية.
ومكن هنا ألقى الإسلام فريضة الجهاد على الرجل وحده، وأعفى المراة منها فالرجل بذلك قائم أو قوام على المرأة بصنوف الرعاية والحماية والمدافعة وهذه القوامة لا تعني القهر والحجر والاستبداد ولا تعني إهدار شخصية المرأة وأهليتها ومقومات إنسانيتها وقد أرسى الإسلام سياسة البيت بين الرجل والمرأة على أساس دقيق من العدل والمساواة والشعور، وذلك ينفي معنى القهر والاستبداد ويوفر حرية الرأي وكمال الشخصية.
فالرجل والمرأة في تعاون معا على أداء رسالة الحياة لكل منهما نصبيه الذي يتفق مع استعداده وفطرته وبه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاءه علي رضي الله عنه وفاطمة عليها السلام يشتكيان ما يلقيان من عناء العمل فجعل العمل بينهما قسمة: فاطمة لعمل البيت، وعلي لعمل الخارج وفي هذا الباب جاء قوله تعالى: «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف» وهو قول يتضمن مبادئ الإسلام في إرساء قواعد البيت:
- العدالة: فالرجل والمرأة طرفان يتبادلان الحقوق والواجبات في شركة الحياة الزوجية وليس للرجل أن يبغي على شيء من حقوقها وإلا كان ظالما مبطلا لمفهوم الآية الكريمة وليس للمرة أن تبغي على شيء من حقوقه وإلا كانت ظالمة.
- المساواة: وهو مبدأ يقتضي توزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين على سبيل التكافؤ أو المماثلة الواضحة في قوله سبحانه: «ولهن مثل الذي عليهن».
وهي مماثلة معنوية ومساواة أدبية إذ ليس المراد من تماثل الحقوق والواجبات تماثلها الحسي والعيني إنما هو تماثل التكافؤ الذي يعود على كل منهما بما يرضيه لقاء ما قدم لصاحبه وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لقوله تعالى: «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف» وهو تطبيق دقيق ذهب فيه السلف الصالح إلى أعدل حد .. ولا شك أن الزينة التي يتزين بها الرجل غير الزينة التي تتزين بها المرأة ولكنها تتماثلان فيما وراء الشكل والصورة من أهداف ونتائج إذ تعود على كل من الرجل والمرأة بما يشرح الصدر ويسر النفس...
ثالثا: الشورى والتفاهم الذي يتم بين الزوج وزوجه في شركة الحياة بينهما وما يعرض لهما من شئون يوميه تتعلق بأمور المعاش وتربية الأولاد وهو تفاهم بين شطري النفس والواحدة يقوم على الحب والتقدير والاحترام وبالحسنى دون إكراه منه أو جور منها...
وإذا كانت رياسة الرجل المسلم لبيته لا بغى فيها ولا قهر.. فهي رياسة بحكم الفطرة والخصائص التي تجعله أقدر على القوامة وأفضل في مجالها كما أن تكليفه بالإنفاق وهو فرع من هذه الاختصاصات تجعله أولى بهذه القوامة فإن تدبير المعاش للأسرة ومن فيها داخل في هذه القوامة والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفتها فيها إنها قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية وتكليف كل شطر في هذا التوزيع بالجانب الميسر له، والذيهو معان عليه من الفطرة...
وأفضلية الرجل كما يقررها المنهج الإسلامي وكما يقررها خالق الرجل وخالق المرأة (سبحانه) أفضلية في مكانها في استعداده للقوامة والدربة عليها، والنهوض بها بأسبابها لأن مؤسسة الأسرة لا تسير بلا قوامة، كسائر المؤسسات الأقل شأنا. فالقوامة أساس مكين في الأسرة لا تقوم بغيره إذ لابد لكل تجمع بشري من إشراف ورئاسة ومسئولية ودرجة القوامة التي أعطاها المنهج الرباني للرجل هي ركن أساسي في بنا الأسرة يقتضيها نظام الاجتماع الإنساني بل إن الأبوة لها مكانتها الأصيلة مكانة القيادة في سفينة الأسرة عنه تصدر التوجيهات ليطيعها ويلتزم بها الجميع وأولهم في ذلك الأم، وما أصاب المجتمعات الغربية من تمزق خطير وشقاء تعاسة إلا بسبب دخول الأم ميدان العمل مما ترتب عليه ما آثار سيئة في نفسيات الأبناء حيث أخذت توجيهات الأب اتجاها وأخذت توجيهات الأم اتجاها آخر وحين تخلى الرجل للمرأة عن وقوامته للأسرة.
ولعل فيما كتبه «جاردنر تل أرمسترونج» في كتيب أصدره أخيرا بعنوان your marriage can be happy في انهيار الأسرة الأمريكية نتيجة سقوط قوامة الرجل يقول: (لماذا تشعر أغلب النساء بالخيبة الشقاء لأنهن خرجن عن فطرتهن.
ولماذا يتأنث معظم الرجال ويفشلون أزواجا وآباء؟ لأنهم تخلو عن أصالتهم الفطرية وتحولوا إلى عناصر غريبة تحاول أن تكون الزوجة والأم لا الزوج ورجل البيت.
إن المجتمعات المريضة لا تلد غلا بيوتا مريضة تلك حقيقة ثابتة وساء تغيرت المقاييس عند الناس أم لم تتغير وتطورت المجتمعات أم لم تتغير فإن القوانين التي تحكما الزواج تبقى ثابتة لا تتبدل ولا تزول فإذا ما خرج الناس على تلك القواعد وتجاهلتها المجتمعات فإن عواقبها لأزمة لا حدود لها.
لقد قلبت بيوتنا رأسا على عقب رفض الرجال أن يتحمل مسئوليته وتخلى عن القيادة في البيت، بينما حاولت المرأة أن تغصبه قوامته وتستولي على تلك القيادة والنتيجة بينة لا غرور فيها!!
لم يعد غريبا أن يقوم الرجل بأعمال البيت من كنس وغسل وطهي وكثير من الأعمال الأخرى التي تهم المرأة لا ريب أنه من الحق أن يكون الرجل في عون زوجته إذ مرضت وفي الحالات الطارئة أو فيما دون ذلك فإن تلك الأعمال هي واجباتها التي ينبغي أن تقوم بها.
ومن الشائع اليوم أن يمكث الرجل في البيت لرعاية الأطفال في تحضير المائدة (195) بينما تقضي الزوجة أغلب وقتها في عملها خارج البيت أو في نشاطات نسائية عامة وفي سبيل عالم أفضل!!»
وبعد هذا هل بدأت المرأة تدرك ما وراء هذا الشقاء؟؟
ولكن يبدو أن تجاهل تلك الحقائق هو القاعدة العامة حيث تحاول المرأة أن تكون رجلا ويحاول الرجل أن يكون مدبرة البيت الطيعة وسواء أدركت النساء «العصريات» أم لم تدركن فإنها لجريمة شائنة بحق أزواجهن وأطفالهن أن يهجرن البيت ليعملن خارجه».
وهكذا شقيت المرأة الغربية وشعرت بالحرمان والنقص والقلق لأنها رفضت الاستجابة للفطرة وتنكرت لها، وخرجت على قوانينها المتحكمة في بني الإنسان وتحدت ميلها الفطري إلى قيام رجل يشبع في نفسها هذا الميل.
وما أصيب الأسرة في الغرب بأعاصير الانحلال التفكك إلا يوم أن تزعزت مكانة الرجل فيها: زوجا وأبا فخسرت دوره في التوجيه والرقابة والخبرة.
إن مكان الأب على رأس الأسرة وقيامه بدور القيادة الحقيقية والتوجيه لكل أفرادها إنما هو مسئولية خطيرة في استقرار الأسرة وقيامها كخلية سليمة في بناء المجتمع المسلم ومن هنا كانت محاولة النسائيين والقوى المعادية للإسلام والتي تعمل على هدم المجتمع الإسلامي ضرب موقع الأب والتحريض عليه عن طريق وسائل الإعلام والفكر المسموم بوصفه عدوا للزوجة والأبناء وتصويره في صورة المالك المستبد لكي يتحرر الجميع من توجيهاته خصوصها فيما يتعلق بمستقبلهم وبث روح الاحتقار والازدراء به والسخرية منه عن طريق إظهاره في صورة الشخص الرجعي المتخلف في مفاهيمه وتوجيهاته ليعلن الجميع العصيان والتمرد عليه وتكون النتيجة انهيار الأسرة وتفككها.
«إن من أخطر التحديات العصرية نتيجة عمل المرأة وخروجها هو تعدد مراكز السلطة داخل الأسرة بين الدين لكل منهما وجهته وهدفه ومفاهيمه مما يوقع الأولاد في حيرة نفسيه تشتت عواطفهم وتبدد أمنهم النفسي الذي كانوا يستمدونه من «الأدب» باعتباره المصدر الأساسي للسلطة.
فالأب هو الذي يضع أسرته في المجتمع ويحدد موقف أفرادها ودورهم في البناء الاجتماعي ويظل دور الأب في المنهج الإسلامي سليما لا تهزه التيارات الفاسدة لأنه قائم على قيم ثابتة، ومعاير سلوكية محددة، يؤصلها الإسلام بمنهجه التربوي حتى لا يفقد دوره في الضبط الاجتماعي وتوجيه الفكر والسلوك كما أن تعدد الأجيال داخل الأسرة المسلمة لا يحدث صراعا كما في المجتمعات الغربية إلا في الأسرة التي فقدت عنصر الدين والأخلاق فقد وصل الأمر في التوجيه الإسلامي إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم تبرأ من الذين لا يرحمون الصغار ولا يوقرون الكبار ولا يهتمون بمكانتهم فقال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا» وكان عليه السلام يعلم المسلمين سلوك هذا المنهج في تصرفاتهم بحيث يعطي كل ذي فضل ومكانة وكبر سن ما يناسب حاله..
ثالثا: تحدي النسل
خلق الله هذه الدنيا وخلق الناس وأمر بالزواج لتدوم الحياة، ولم يرد للإنسان أن يعيش كالبهائم فجاء الإسلام دينا يحض على الزواج والتناسل والتكاثر لتدوم الأمة المسلمة وتستمر حتى تقوم الساعة ولتظل قادرة على القيام برسالتها.
لهذا قرر فضل المرأة الولود على العقيم قال صلى الله عليه وسلم: «سوداء ولود خير من حسناء عقيم» وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال «يا رسول الله إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال، إلا أنها لا تلد أفأتزوجها؟ فنهاه ثم أتاه الثانية فقال له مثل ذلك ثم أتاه الثالث فقال له: تزوجوا الودود الولود: فإني مكاثر بكم الأمم.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: إني لأتزوج المرأة ما لي فهيا حاجة وأطؤها وما أشتهيها قيل له: وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: حبي أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبيين يوم القيامة: وإني سمعته يقول: إليكم بالأبكار فأنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقان وأنتق أرحاما أي أقبل للود وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة.
إن الإسلام يطلب القوة للمجتمع الذي يقوم على منهجه القوة بكل أسبابها المعنوية والمادية ومن أسباب القوة المادية كثرة النسل ولكن المنهج الإباحي الغربي الذي يدعو إليه النسائيون عندنا يهدد النسل الإنساني بالفناء كما ينذر الحياة بعامة بالموت والوفاة ويهدد الوجود الإسلامي في نسله بخاصة بالعدم والزوال.
يقول تعالى في وصف القيادة الفاسدة التي تنذر الحياة الإنسانية بالفناء «وإن تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد».
وقد عاشت المرأة المسلمة في ظل المفاهيم قائمة بوظيفتها مدركة لدورها في الحياة الإسلامية كأم تهب الأمة المسلمة أعز ما تحتاج إليه في وجودها واستمرارها وهو الثروة البشرية ظلت المرأة المسلمة على هذه الاستقامة إلى أن التقينا بحضارة الغرب «فوجدت نفيها محاصرة بغزو استعماري لمفاهيمها الإسلامية يشكل تحديا خطيرا يتزعمه النسائيون عندنا عن طريق البث الإعلامي في الصحافة والإذاعة والتليفزيون وعن طريق مناهج التربية والتعليم وتأثرت الكثيرات وخصوصا المثقفات فاصطبغت حياتهن بمفاهيم الحضارة المادية وملن إلى الأنانية ونحب الذات والترف واللهو ومتع الحياة وزخارفها وكان ذلك على حساب فطرة الأمومة وقدرتها على العطاء والإيثار... ومما ساعد على ذلك خروج المرأة إلى ميادين العمل العامة، الذي دفعها إلى النسائيون ودعاة حركة تحرير المرأة إلى ميادين العمل العامة، التي دفعها إليه النسائيون ودعاة حركة تحرير المرأة في مكر وخديعة لصرفها عن وظيفة الأمومة والتناسل ولضرب الأسرة كخلية وحيدة للتكاثر ومحضن أولى وأساسي في تنشئة الأجيال المسلمة...
ولما كانت مؤامرة تحديد النسل وأسطورة الانفجار السكاني التي يرددها الشاردون هنا، وتعمل لها الببغاوات عندنا في إخلاص عن طريق مراكز تنظيم النسل المنتشرة في مؤسساتنا الصحية والجمعيات النسائية ذات أبعاد خطيرة على وجود الأمة المسلمة فإن كشف هذه المؤامرة وفضحها أصح من أول واجبات العاملين للإسلام لإزالة الأشواك عن طريق نساء المسلمين ورسالتهم، ورفع غشاوات الغزو الفكري عن قلوبهن وعقولهن.
«تكشف الإحصائيات العالمية أن العالم الآن يضم 3.5 مليار نسمة ترتفع إلى 7مليارات في نهاية القرن الحالي وقد زاد الجنس البشري 700 مليون نسمة في السنوات العشر الأخيرة، وفي كل عام يولد بالعالم 127 مليون طفل وأن الدول النامية في آسيا وأمريكا اللاتينية هي أكثر الدول تأثرا بهذه الزيادة إذ أن ثلثي العالم يعيش في هذه المناطق وق أصبح الوافدون يزيدون عن الراحلين في الشهر الواحد بما لا يقل عن سبعة ملايين نفس، فالعالم الآن يستقبل كل يوم 300 ألف مليون زيادة صافية بعد الخسائر.
ولا ريب أن لنا نحن المسلمين عبرة في دارسة هذه الأرقام فنحن نؤمن بأن الكون كله لله وأنه سبحانه هو الخالق وأن ظاهرة التفوق البشري هذه ظاهرة طبيعية في طريق اكتمال صورة الكون والأرض على النحو الذي أشار إليه القرآن الكريم لتأخذ الأرض زخرفها وزينتا ولتخرج الأرض مذخورها من معطيات الحياة من قاع البحار ومن قلب صخور الجبال ومن جوف الأرض وأن المسلمين في هذه الثلاثمئة ألف طفل يوميا أكثر من 219 ألف طفل يوميا وهذا يدل على أن ظاهرة التفوق هذه تمثل جيشانا في عالم الإسلام بل يدل بما يدل على تفوق لهذه القوة المؤمنة بالله وبينما نجد أن الانحصار السكاني واضح الدلالة في عالم الغرب إذ نجد أن سكان العالم الآن هو 3700 مليون نسمة وإذا سار معدل المواليد على حالته الراهنة فإن العدد سيتضاعف خلال 26 سنة «أي في نهاية القرن العشرين ويكون الرقم قد ارتفع إلى 7400 مليون نسمة، وأن هذه الزيادة ستكون من نصيب الدول النامية في آسيا وأفريقيا أي أنه من بين 224 طفلا يولدون في الدقيقة الواحدة 202طفل في دولا العالم الإسلامي و22طفلا في الدولة المتحضرة «الغرب».
وهذه الإحصائيات تعطينا مؤشرا واضحا للأحداث ذلك أن ظاهرة تقلص حجم المواليد في عالم الغرب وزيادة هذا الحجم في عالم الإسلام من الظواهر التي تزعج الرأسمالية الغربية والنفوذ الغربي المسيطر الآن في بلاد المسلمين إزعاجا شديدا، لأنهم يحسون بمدى الخطر الذي ينتظرهم في السنوات القادمة ويترصد بهم نتيجة نقص المواليد وتنازل نسبتها في بلادهم بينما تزداد هذه النسبة وتتضاعف في بلاد المسلمين.
ولما كانت هذه الظاهرة ستصبح بعيدة المدى في متغيرات موازين السيطرة والنفوذ وتملك الموارد الطبيعية والطاقة وغيرها في السنوات القادمة فإن الغرب يشن حملة شديدة عاصفة وعنيفة على هذه الزيادة المضطردة بوصفها بعيدة الأثر في عالم الإسلام تحت اسم مثير هو ما يطلق عليه اسم «الانفجار السكاني» ويجند له النسائيون وعشرات الأقلام والمفكرين والساسة دون أن يشير إلى حقيقة الموقف وطبيعة التحول الاجتماعي والحضاري الذي يوحي بأن فساد المجتمعات الغربية وانحلالها قد أدى إلى نضوب منابع «الوالدية» بها نتيجة شيوع الخمر والماريجوانا والترف وانصراف المرأة الغربية عن رسالتها كلية وكراهيتها الشديدة للولادة وتربية الأولاد، وشيوع الزنا وتفشي ظاهرة الاتصال الجنسي خارج نطاق الأسرة بدون زواج وظاهرة اللقطاء واستعمال وسائل منع الحمل.
هذا الاضطراب الاجتماعي في المجتمعات الأوربية المرتبطة بمرحلة الانهيار في الحضارة الغربية هو مصدر انخفاض نسبة المواليد بما أدى إلى انزعاج ساسة الغرب وحكوماته، وما يحاولونه الآن من إغراء وتشجيع الزواج والولادة بإغراءات كبيرة دون جدوى بينما يشنون في الناحية الأخرى حملة شديدة على الولادة المتزايدة في البلاد الإسلامية وينفقون ملايين كثيرة لحكومات المسلمين من أجل تحديد النسل وتعقيم الرجال، والإغواء بإعطاء الحبوب واللوالب وغيرها من أجل تقليل نسبة المواليد.
ولا شك أن الغرب يرى في ظاهرة التقاص في مواليده والزيادة المضطردة في نسبة مواليد المناطق التي يسميها البلاد النامية وخصوصا المناطق الإسلامية خطرا شديدا على نفوذه وعلى المقدرات التي يحصل عليها من الخامات والثروات والمواد الأولية وعلى كل ما يعينه على التفوق.
ومن أجل هذا نجد المجتمع الغربي لا يتبنى فكرة تحديد النسل فحسب، بل يفرضه فرضا على عالم الإسلام بينما يعلن البابا بولس الثاني عشر رأيه صراحة في تأييد المسيحية لكثرة النسل ويواجه المسلمين من حملة تحديد النسل، ذلك التحدي الخطير: تحدي الهجرة والنمو المتزايد لليهود في فلسطين ونمو الصليبية في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي بينما يجبر المسلمون بوسائل شتى فيها الإغراء أ و التعقيم الإجباري كما حدث لمسلمي الهند على يد أنديرا غاندي على خفض تعدادهم وهنا تتكشف المؤامرة ويتبين أن هناك خطة مدبرة ضد المسلمين بالذات ذلك أن غير المسلمين يخشون تكاثر المسلمين ويحالون إيقاف هذا النمو والتزايد بلك وسيلة ومن هنا جاءت الدعوة إلى تحديد النسل الحد من تعداد الزوجات التي يدعو إليها النسائيون في بلادنا.
وبينما يطلب إلى المسلمين تحديد نسلهم تترك الصين ليتزايد سكانها بمعدل 14 مليونا كل سنة.
ولا شك أن تهدي العالم الإسلامي بنضوب الثروات هو أكذوبة كبرى فإن الخطر الحقيقي في السياسة الاستعمارية التي مزقت وحدة الوطن الإسلامي وفقدان الأمة الإسلامية لتكاملها الاقتصادي الذي ينتج عنه اتحاد أوطانها هذا إلى جانب سوء استخدام القوى البشرية والثروات والكنوز التي تفيض بها الأراضي البكر وسوء التخطيط لتطوير إنتاجي أفضل وبينما تنقل هذه الخامات إلى بلاد الغرب وتنهب ثم يعاد تصديرها لا يحصل أصحاب هذه الثروات إلا على الفتات.
يقول العلامة علال الفاشي: إن أكب الخطر أن يدرس حركة تحديد النسل منفصلة عن سياقها السياسي والتاريخي فنحت لا نستطيع أن نفهمها على حقيقتها ولا نرسم لأنفسنا خطة عملية راشدة إلا داخل نطاق التحدي فإذا أضفنا إلى هذا: الخطط الصهيونية لإجلاء العرب عن الشرق الأوسط وتهجير أكبر عدد ممكن من اليهود إليه وخلق حركات داخل كل بلد إسلامي وعربي من الأقليات التي يصل به التعصب أحيانا إلى الانفصال عن الوطن الوالد، عرفنا أن التنقيص في عدد المواليد لا يخدم إلا مصلحة الاستعمار والصهيونية كذلك فإن عددا من علماء الطب والاجتماع والدين من جهة وعلماء الاقتصاد من جهة أخرى يرون أن تحديد النسل خطر على قوة الدولة العددية وعلى زيادة إنتاجها وتقاومون الدعوات التي سبقت في بلادهم والحركة التي نشأت عنها فكيف يمكننا نحن الذين ما زلنا في طور التخلف وما زلنا نأمل أن يكون من شعبنا قوة مادية وإنسانية أرو نتيجة إلى معالجة ضعف الإنتاج الاقتصادي بإضعاف الإخصاب الإنساني».
وقد اتفق الأئمة والمجتهدون على أنه لا يجوز للإنسان أن ينظم تخطيطا جماعيا على الشكل الذي تدعو إليه هذه المنظمات وبعض الحكومات لأن ذلك يتنافى مع مقاصد الشريعة التي جعلت من غابات الأسرة «تكثير النسل» فقد نصوا على أن تكاليف الشرع ترجع إلى حفظ مقاصد الضرورية في الخلق وهي وجوب حفظ المال والنفس والعرض النسل والعقل فمحاولة الماس بواحدة من هذه الخمسة بغير حق لا يقع إلا من الظالمين.
وقد التبس على بعض المتملقين ما قاله بعضا لفقهاء في مسألة إباحة العزل مع أن قضية العزل هي غير قضية التخطيط العائلي لأنها مسألة تتعلق بحالات فردية اختيارية لا تتدخل فيها الدولة ولا تنظمها ولا تدعو إليها ولا تجعلها جزءا من برنامجها يقول العلامة علال الفاسي: أما ادعاء أن التنقيص من عدد السكان ضروري لتنفيذ التخطيطات الاقتصادية وتحقيق النمو فهو خطأ من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية لأن المواليد لا يولدون بأفواههم فقط بل يولدون بعقولهم وسواعدهم فهم مادة وعامل قوي في النمو الاقتصادي وتقوية الإنتاج وليسوا مجرد طفيليين في المجتمع وإنما عجز التدبير من الحاكمين وسوء توزيع الثروة على المواطنين والتخلي عن الأقاليم الوطنية للمستعمرين هو الذي يدفع إلى هذا التفكير الكسول الذي يرضي بهذه التدابير غير الإنسانية ولا يعلم أن مقتضيات التطور الحديث يقض بتحميل الدولة لتكاليف العائلة.
ومن جهة أخرى فقد نص الفقهاء على أن خص المواطن ممنوع شرعًا بالإجماع لكونه يعوق عن الغاية المقصودة من الشارع كما نصوا على أن أخذ الأدوية لمنع الحمل ممنوع، وأحسن من هذا كله قوله تعالى في سورة الإسراء: «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم» وفي آية أخرى في سورة الأنعام: «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم»... وبذلك حرم الله قتل النسل بسبب فقر واقع أو خشية فقر متوقع كما أنذر الله تعالى الذين يقتلون أولادهم مخافة الفقر ووصفهم بالسفه فقال: «قد سخر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله».
فالرزق قد يسر الله طريقه وجعله مستطاعا وأعطى الإنسان أدواته، ولكن صعوبة الرزق بدأت بعد أن تدخلت أهواء لناس ومطامعهم وظهرت عمليات الاحتكار والاحتجاز وظهرت عوامل التفرقة والاستغلال والقوى التي تسيطر على الكثير فلا يترك للضعفاء والفقراء ما يطعمهم أو يقوتهم هذه هي الأزمة وهي ليست أزمة الرزق نفسه وإنما هي أزمة الجشع والتسلط.
وهناك قانون الوفرة الذي يؤكد وجود ثمرات طيبات لكل من يعيش على ظهر الأرض مهما بلغ عدد هؤلاء السكان وذلك تقدير الله تبارك وتعالى وما تزال هناك مدخرات كثيرة في البحار والجبال وقد أعطى الله عهده وميثاقه إلى البشر بضمان الطعام وضمان الرزق لكل مخلوق ودابة وحشرة بحيث تطمئن النفس الإنسانية إلى عهد الله الصادق الأكيد، فلا تكون مثل هذه الصيحات الضالة مصدرا لزعزعة الإيمان فلقد حفظ الله تعالى للإنسان هذه المواد التي لا تنضب في نفس الوقت الذي دعاه إلى السعي في الأرض والأكل من رزق الله.
ولو وضعت الموازين الحقيقية لقضية الطعام ولو روعي ف توزيعه ما أمر الله به، لأمكن للإنسان أن تتجنب الكثير من عمليات البخل والشح والأثرة حيث ينفق بعض الأفراد ف بعض البلاد ما يواري عشرات أضعاف بل مئات أضعاف ما ينفقه الآخرون وما مليارات الدولارات التي هربها شاه إيران المخلوع وما الأموال التي يهرب بها حكام المسلمون إلى بنوك سويسرا، وما البذخ والإسراف وسياسة الإنفاق الحمقاء التي يتبعها هؤلاء الحكام والأمراء إلى شاهد على ذلك.
وهناك في بعض البلاد المنتجة تغرق المحاصيل في البحر أو تحرق للمحافظ على مستوى أسعار التصدير بينما يقتل الجوع الملايين وذلك من أساليب الاستعمار الرأسمالي للسيطرة على القوى البشرية بتجويعها يحدث كل هذا في دول الغرب ثم نسمع الأصوات المنكرة التي يطلقها دعاة تحرير المرأة لتحيد النسل عندنا عملا بتوجيهات سادتهم هناك!
إن حاجة المسلمين في الدرجة الأولى إلى التوالد والتناسل لأن الإسلام مهدد في معاقله الأولى ويواجه حربا صهيونية صليبية وماركسية استعمارية لا قبل له بها وإن هذه الحرب ستطول ويسقط فيها كثير من المسلمين وإن تعبئة الأمم في ميادين النمو الاقتصادي بوسائل العلم المنظم تغني عن كل تدبير مناف لطبائع الأشياء وإن هذه المبالغ الضخمة التي تصرفي في مجال تحديد النسل وإنشاء مستشفيات التعقيم وإنتاج حبوب منع الحمل وهي تزيد عن 100مليار من الدولارات لو أنفقت في مجال النمو الاقتصادي لجاءت بنتائج إيجابية علينا أن نذكر أن من مقاصد الشريعة الرغبة في تكثير سواد الأمة الإسلامية وقد امتن الله بالكثير في القرآن إذ قال: واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين»
على العالم الإسلامي أن لا يرسم لنفسه في مثل هذه الظروف خطة تغاير ما رسمه الحق تبارك وتعالى، وفصله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفضي تلك الخطة إلى الانتحار القومي دون وعي بسبب محاكاته للغرب.
فتحديد النسل موضوع تمس الكيان الإسلامي في أساسه ويقوض أساسًا هاما من أسس قوة المسلمين وهو القوة العددية.
رابعا: تعدد الزوجات
هناك مشكلات تهدد أمن الأسرة المسلمة وسلامها وتعرضها كحصن لحماية الأخلاق وتأمين المجتمع للدمار والفساد إنها مشكلات من نوع خاص لا يمكن حلها إلا عن طريق إباحة تعدد الزوجات.
• مشكلة مرض الزوجة بمرض مزمن أو إصابتها بعقم.
• زيادة عدد الإناث على عدد الذكور.
• عنف الدافع الجنسي لدى بعض الرجال أو بروده عند بعد الزوجات فقد يتزوج رجل بامرأة باردة أ وضعيفة لا ترويه ولا تسكن شهوة نفسه، وقد جاءت شريعة الإسلام بكمالها لتحول بين وقوع الإنسان في الحرج فأباحت أن يقترن الرجل بأخرى يصرف عن طريقها طاقته الجنسية التي لم يجد إشباعا عند الأولى، ولكي لا يقع فريسة للصراع النفس والوساوس الشيطانية التي قد تتسبب في سقوطه ووقوعه في الحرام.
يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: «من الطباع ما تغلب عليه الشهوة بحيث لا تحصنه المرأة الواحدة، فيستحب لصاحبه الزيادة عن الواحدة إلى الأربع»... وعلى هذا عدد الصحابة وقل فيهم من ليس له اثنتان.
من أجل هذا وضع الإسلام مبدأ تعدد الزوجات فقال تعالى:
«فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خضتم ألا تعدلوا فواحدة» فالعدل المطلوب هو العدل الظاهري في الحقوق والواجبات، وهو امر في استطاعة البشر، إذ يستطيع الزوج أن يعدل بين زوجاته في المسكن والمأكل والمشرب والمبيت والقيام بواجب الزوجية كاملا والقرآن الكريم نفسه، هو الذي عقب على قضية العدل بنصيحة للبشر بعد أن ذكر أنهم لا يستطيعوا العدل ولو حرصوا فذكر أن العدل المطلوب هو عدم الميل المتعمد المكشوف الضار فقال: «فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أمر العدل بين زوجاته: «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»... يعني القلب (196)
لقد اشترط الإسلام لإباحة التعدد عدم الخوف من الظلم فيه ذلك أنه جاء والناس يعددون في الزواج بلا حدود ولا ضوابط مما كان يلحق بالمرأة حيفا وجورا فوضع لنظام التعدد آدابا وأحكاما تحفظ للمرأة كرامتها...
يقول الإمام أبو حامد: «ومهما كان الباعث معلما فينبغي أن يكون العلاج بقدر العلة فالمراد تسكين النفس فينظر إليه في الكثرة والقلة» ويعلق الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت على هذا الكلام بقوله: «إن الغزالي يشير بهذا إلى أن التعدد لتحصين النفس أمر مرغوب فيه شرعا أي مع أخذ النفس بالعدل الواجب بين الزوجات، ويشير أيضا على أن الذين يعددون زوجاتهم لمجرد الانتقال من ذوق إلى ذوق دون حاجة إليه في تحصين النفس وعفتها عن المحرم يعملون عملا تأباه الشريعة ويمقته أدب الدين»
والإسلام عندما أباح تعدد الزوجات لم يكن لصالح الرجل دون المرأة ولكن لتحقيق مصلحة الجنسين فمعاذ الله أن يكون في شريعته الكاملة محاباة لجنس على حساب جنس فمن الخير للمرأة أن تشارك أخرى في زوجها فتجد ريا لعاطفتها وتحقيقا لأنوثتها وصونا لكرامتها من ألا تحد رجلا قط أو تطلق من زجها فتحيا محرومة من شرف الزوجية ونعمة الأمومة.
ولكن دعاة تحلل المرأة عندنا لا يريدون أن يكون أمنا في عرض الحقائق فهذه زوجة عاقر تطلب من زوجها أن لا يحرم من حقه في الزاج عليها مع البقاء في عصمته وتحت رايته وهذه أخرى تفضل لزوجها أن يجمع معها زوجة أخر خير من أن يغرق في علاقات غير مشروعة مع نساء ساقطات ينفق عليهن في سخاء ويجلب لها ولأولادها الكساد وسوء الأحدوثة وهذه فتاة تفضل الزواج من رجل متزوج ناجح كامل الرجولة على شاب أعزب فيه حمق وطيش لا يستطيع معه أن يتحمل مسئولية الزواج.
وهؤلاء نساء بعض عرب دول البترول الأثرياء يعضلن تعدد الزوجات على تسكع أزواجهن في باريس والرباط والدار البيضاء ولندن وبيروت سادرين في متعهم الرخيصة مع عشيقاتهم اللائي يستنزفنهم ويدفعونهم إلى الضياع الذي يجلب الشقاء والتدمير الكامل وهذه امرأة عانس محرومة في شوق على نصف رجل يحقق لها أنوثتها ويروي عواطفها وتجد في كنفه صونا لكرمتها.
وإذا كان الإسلام قد لاحظ في إباحته للتعدد كثرة عد الإناث بسبب الحروب وحاجة الأمة إلى استكمال قوتها بكثرة نسلها فإن النسائيين عندنا يقفون دائما في كل ما يحقق صالح المرأة نفسها والأمة بأجمعها وفي الوقت الذي تطالب فيه المرأة الغربية بالتعدد نجد الممسوخين والممسوخات من بيننا يعملون على وضع كل الشبهات التي تنحرف بمفاهيم وأوضاع المرأة والأسرة المسلمة التي أرساها الإسلام عبر أربعة عشر قرنا من الزمان.
ولا ندري على إلى متى يظل هؤلاء الهدامون يعملن في أمتنا بالتخريب فإذا كانوا يستمدون من أوربا وأمريكا أفكارهم فها هي المرأة في ألمانيا تطالب في أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) بتعدد الزوجات بسبب ذهاب كثير من رجالهن وقودا للحرب ورغبة في حماية نفسها من احتراف البغاء وما يتأدى عنه من أولاد غير شرعيين يقذفون إلى الشوارع والطرقات وفي أعقاب عام 1948 أوصى مؤتمر الشباب العالمي المنعقد بألمانيا بإباحة التعدد حلا لمشكلة تكاثر النساء طلب الألمان حينذاك من مشيخة الأزهر بيانا مفصلا عن حكم تعدد الزوجات في الإسلام وقالت مجلة «لواء الإسلام» المصرية: إن كبير أساقفة انجلترا أعلن عن أنه لا يجد علاجا لمنع التحلل الخلقي والانهيار العائلي للذين فشيا بعد الحرب العالمية الثانية إلا إباحة تعدد الزوجات فهو على حد تعبيره الذي يمنع المرأة الإنجليزية من الانهيار النفسي وارتكابها للجريمة والعار ويرد إليها الكرامة والعزة حيث لا تكون فراشا لرجل إلا بكلمة الله»
وقالت كاتبة انجليزية: لقد كثرت الشارات من بناتنا وعم البلاء...
وإني كامرأة أنظر إليهن وقلبي ينفطر حسرة وشفقة عليهن وإن الدواء الشافي لذلك: أن يباح للرجل الزواج بأكثر من واحدة، فبذلك تصبح بناتنا ربات بيوت. وإن إرغام الرجال على الاكتفاء بواحدة جعل بناتنا شوارد، ودفعهن إلى التماس أعمال الرجال وسوف يتفاقم الشر إن لم يبح تعدد الزوجات» عن جريدة «لندن تربيون» 10/ 8/ 1949.
وقالت كاتبة انجليزية أخرى: «الرجال يقل عددهم عن النساء والرجل يتأخر عادة في الزوج حتى يتم تعليمه ويحصل على عمل أو وظيفة بينما تصلح الفتاة للزواج في سن مبكرة إذن فخير للمرأة أن تشارك مع أخرى في ظل بيت شرعي من أن تظل عانسا أو بغيا تهدر كرامتها بين أحضان الرجال العابثين»
ويقول المستشرق (رينيه) الذي اسلم وتسمى «ناصر الدين» سنة 1927 في كتابه «أشعة خاصة بنور الإسلام» إن الإسلام لم يتمرد على أحكام الطبيعة بل سايرها وعمل على تهذيبها ولذلك لم يرض على تحريم الزواج، فرغم تحرير الكنيسة لتعدد الزوجات فقد اتخذ ملوك فرنسا أنفسهم أكثر من زوجة: وفي الوقت نفسه كنت الكنيسة لهم كل تعظيم واحترام ولم يحقق تحريم تعدد الزوجات في المسيحية الغرض المقصود منه، بل انعكست الآية عندما اصطدمت بضرورات الطبيعة أسفرت عن نتائج خطيرة من الدعارة والعوانس من النساء والأبناء غير الشرعيين ولم نجد مثل هذه الأمراض الاجتماعية في البلاد التي طبقت فيها الشريعة الإسلامية تمام التطبيق وإنما انتشرت في البلاد التي سرت إليها عدواها عن طريق المدنية الأوربية الحديثة».
وبرغم صيحات الخطر في الغرب ولجوء عقلائه إلى الشريعة الإسلامية يلتمسون منها حلولا لمشكلاتهم الاجتماعية فقد جاءت التعديلات الأخيرة لقانون الأحوال الشخصية في مصر تتحايل على ما أحله الله فتجعله حراما حيث تقول المادة السادسة مكرر من هذا القانون: «ويعتبر إضرارا بالزوجة اقتران زوجها بأخرى بغير رضاها..».
وتقول لواضعي هذا القانون هل أراد الله تعالى الإضرار بعباده في قوله «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع»؟ وهل طاب له وما أحله الله له وهو صلى الله عليه وسلم القائل: «لا ضرر ولا ضرار»؟
والأعجب من ذلك أن تأتي نفس المادة فتجعل للزوجة الأولى حق طلب التفريق عن زوجها خلال سنة من تاريخ علمها بزواجه بالثانية!!
وهكذا يقول رسولنا: «من كانت له امرأتان فمال إلى احدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» ويقو هذا القانون من كانت له زوجتان فللأولى حق التفرق وقد صح عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة».
والقانون بإعطائه الزوجة الأولى حق التفريق عن زوجها بسبب الزواج الثاني يجعل التعدد متعلقا بإرادة الزوجة لا بحكم الله الواحد القهار.
وإذا كانت شريعة الله المحكمة قد رفعت الحرج وأرست قاعدة عدم الضرر قد جاء هذا القانون ليعصف بقوامة الرجل وأمن الأسرة ويضعها تحت فسلطان النساء وتقلباتهن وعدم ثباتهن الانفعالي.
فإحساس الزوجة بأن زوجها يمكن أن يتزوج عليها دون توقف على رضاها ودون أن يكون لها حق التفريق يجعلها تحسن معاملة الزوج خشية أن يجرب حظه مع أخرى أما إعطاء حق التفريق في يده فهو سيف مسلط على الرجل يخل بحقه في القوامة عليها.
وعندما أعطى الله تعالى للرجل حق تأديب المرأة الناشز، ومن هذا الحق «واهجروهن في المضاجع» أعطاه إمكانية إحسان استخدامه عن طريق التعدد الذي يجعله يطيق هذا الهجر وبخاصة إذا كانت طاقته الجنسية عنيفة.
جعل الله تعالى عقوبة الزاني المحصن الرجم بالحجارة حتى الموت، ومع شدة هذه العقوبة لابد من فتح باب إطفاء الشهوة في طريق مشروع وإلا فما الذي يفعله رجل مرضت زوجته مرضا طويلا يمنع الاتصال الجنسي بها ولا يرد مفارقتها؟ أيتزوج بأخرى ليكون للأولى حق التفريق أم يتصل اتصالات غير مشروع بأخرى فيرجم بالحجارة حتى الموت!
ولكن يبدو أن واضع هذا القانون يعلم أن مجتمعنا لا تقام فيه حدود الله فجاء القانون ليفتح الباب على مصراعيه للانحلال ولتعدد العشيقات بوضعه هذا القيد على تعدد الزوجات لأن الرجل سدا لباب المشاكل التي تنشأ من الزوجة الأولى عند استخدامها التفريق يؤثر أن يجعل الثانية عشيقة لا زوجة وإن كان لا يرغب ف علاقة محرمة قد يتزوجها عرفيا فيهدر بذلك حقوقها.. وخير للرجل أن يقترف بحليلة من أن يتخذ عشيقة
خامسا: الطلاق
وكما أشاع المستشرقون والمبشرون ووكلائهم عندنا من دعاة تحرير المرأة المسلمة من قيمها ودينها كما أشاعوا عن تعدد الزوجات أنه ضياع للمرأة واستجابة رخيصة لشهوات الرجل وأهوائهم الجنسية وأشاعوا كذلك باطلا أن نظام الطلاق وإباحته في شريعة الإسلام وجعله في أيدي الرجال قسوة وظلم واستبداد بالنسبة للنساء وذهبوا في ضلالهم إلى القول بضرورة إلغاء الطلاق وتحريم ما أحله الله وحقق مساعيهم بمساعدة النفوذ الاستعماري في بلادنا بعض المكاسب تتمثل في صدور بعض القوانين هنا وهناك تضع العراقيل في تنفيذ حق الطلاق الذي جعله الله رحمة وأخرى حل عندما يستحيل دوام العشرة الزوجية.
وقبل أن تمضي ف دحض هذه الشبهات وكشف باطل ما اتخذ من تعديلات قانونية نسائل النسائيين وسدنة الانحلال الغربي في بلادنا: هل ما تدعونه وما وصلتم إليه بمسخ قوانين الأحوال الشخصية وسلخا من إطار الشريعة الإسلامية ثم وضعه من خلال الواقع الإسلامي لهذه الأمة أم جاءت دعاواكم وقوانينكم لتطبق على أمة لا دين لها ولا شريعة، لها استجابة للخطة الصهيونية الصليبية بإدخال قوانين الكفار لتحكم الأسرة المسلمة بدعوة الإصلاح والتجديد كما دخلت على أنظمتنا الاقتصادية والسياسية من قبل والتي أدت إلى الازدواج في شخصية الأمة!!
إن منطق الإيمان الصحيح يقتضي هؤلاء أن ينزلوا على أحكام الله جميعا ولا يحيدوا عن حكم منها أما إسلام الأسماء والمظاهر وشهادات الميلاد فحسب أصحابه نذير قول الله عز وجل: «ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين».
إن الإسلام كما أعطى المرأة الحق في اختيار زوجها أعطاها الخيار في البقاء معه أو فراقه عندما تسوء العشرة بينهما ويعز التوفيق والصلح ولها شرع الطلاق لمصلحة المرأة ومصلحة الرجل على السواء فهو وإن جعل الطلاق في يد الرجل لأنه أقدر على التحكم في نفسه أثناء الغضب والخصام ولأنه يتميز عن المرأة بصفة الثبات الانفعالي إلا أن المرأة تملك أن تطالبه بالطلاق أو الخالعة كما تملك عند العقد أن تشترط لنفسها منا شاءت على ألا يكون الاشتراط مانعا لحق من حقوق الزوج المشروعة.
وقبل وقوع الطلاق بين الزوجين شرع الإسلام التحكم: باختيار حكم من أهلها وحكم من أهله لكي يحاولا الإصلاح بينهما وذلك حرصا على بقاء الرابطة الزوجية وحماية الأولاد حتى إذا تعذر الصلح وتعسر الوفاق ورؤى أن الفرق أصلح ولا مفر من الطلاق قرر الحكمان أو القاضي التفريق بينهما: «وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما». وهناك من الأسباب والأحوال التي تجعل الطلاق في مصلحة الزوجين وأن كان أصلا أبغض الحلال إلى الله كما يقول رسولنا الكريم أهمها حالة الشقاق والنزاع بين الزوجين الناتجة من اختلاف طبائعهما وتباين أخلاقهما وإصرارا كل منهما على رأيه وسلوكه مع الآخر.
ويلاحظ أن الحالات والأسباب التي تجعل الطلاق حلا مرغوبا وعلاجا مطلوبا هي من الأمور الواقعية التي تتعرض لها الحياة الزوجية في مختلف المجتمعات البشرية في كل زمان ومكان.
إن القول بضرورة إلغاء الطلاق وارتداد إلى العصور الأولى للمسيحية المحرفة عند بولي التي قضت بعدم جواز الطلاق بل وعدم السماح للقاضي بالتطليق لأن ما جمعه الرب لا يفرقه العبد هذه النظم لم تستطع البقاء أمام المطالب الاجتماعية فأباحت الكنيسة للقاضي التطليق في حال الزنا من جانب الزوجة ثم توسعت في أسباب الطلاق حتى شملت زنا الزوج أيضا وأصبح الزوج عنيفا أو حكم عليه بالحبس خمس سنوات أو إصابته بجنون أو اعتداء أي من الزوجين على حياة الآخر أو تعدد إيذائه.
ورغم أن المذهب الكاثوليكي كان من أشد المذاهب المسيحية تمسكا بالزاج المؤبد الذي لا ينحل ولول بسبب الزنا، إلى أنه خر راكعا أمام التطور الاجتماعي ومن هنا نجد إيطاليا وهي معقل هذا المذهب تتيح الطلاق لعدة أسباب منها الزنا وهجر أحد الزوجين منزل الزوجية أو اعتداء الآخر باللفظ أو الإشارة أو الإساءة بمعاملته للآخر أو رفض الزوج أعداد مسكن ملائم لزوجته (المواد 150، 152، 153 من القانون الإيطالي).
وفي ديسمبر سنة 1970 عقب تعديل القانون الإيطالي والتوسع في أسباب الطلاق بلغ عدد قضايا الطلاق في شهر واحد مليون قضية أكثرها كان هذا العديل من عشر سنوات.
ولا يخفى على القوم أن بعض الولايات الأمريكية اليوم تبيح الطلاق لأتفه الأسباب كإرسال الزوج للحيته أو تأخره في العودة إلى منزله مساء.
وها هي انجلترا أخر قلعة من قلاع التزامن الكنسي تعود إلى الفطرة السليمة في حياة الناس فقد نشرت مجلة الأيكونوميست الإنجليزية في عددها الصادر في 19 مايو 1978 موضوعها عن مطالب المجتمع الإنجليزي رجالا ونساء بتيسير الطلاق والتوسعة فيه وإباحته لغير علة الزنا، وعدم تقيده بقيود. يطلبون إباحة الزواج للمطلق وإباحة الزواج من مطلقة.
لسنا في حاجة بعد ذلك إلى التدليل على فساد نظام العقد المؤبد فقد أثبت التاريخ فشل هذا النظام وتمت إباحة الطلاق على الوضع المشار إليه.
أما الشرائع المسيحية التي لم تتوسع في أسباب التطليق فيلجأ أصحابها إلى تغيير دينهم توصلا إلى الطلاق أو يهجرون منزل الزوجية وهذا ما يسمى بالتفريق الجسماني المنصوص عليه في المادة 17 من الإرادة الرسولية.
هناك يطلبون تأويل الكنيسة للتوسعة والتيسير في الطلاق وتصدر قوانين تستجيب لهذه المطالب وهنا يطالبون العدول عن نظام الإسلام للتضييق حتى المنع بقوة القانون.
هناك يطلبون عدم تقييد الطلاق بقيود وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومما نبغي ملاحظته هنا في حديثا الموجز عن الطلاق في الإسلام: أن الشريعة الإسلامية انفردت بنظام المراجعة في الطلاق دون الشرائع الأخرى حرصا على إعادة الرباط الزوجي وحفاظا على الذرية من الضياع والتشرد واستصلاحا لما فسد من بين الزوجين من مودة وسكن ويعتبر الطلاق الرجعي في الإسلام وهو المرء الأولى والثانية فترة اختبار للزوجين وفرصة تأمل ومراجعة للأخطاء والزلات والندم والتوبة ثم العودة إلى بيت الزوجية وما يظله من مودة ورحمة وسكن وذرية.
كما ينبغي أن تلاحظ أيضا أن الإسلام جاء ليصحح وضعا خاطئا ويحفظ للمرأة كرامة كانت مضيعة على عهد الجاهلية الأولى إذ كان العرب يطلقون دون حصر أو عدد فكان الرجل يطلق ما شاء ثم يراجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها ضرارا لها حيث تظل معلقة بين طلاق ورجعة في نهاية العدة ثم طلاق في بداية الرجعة وهكذا فنزل القرآن الكريم يضع لهذه الفوضى حدا ولهذا الظلم النازل بالنساء قيدا «الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» وهو تأديب للرجل وتكريم للمرأة يشبه التأديب القرآني للرجال أيضا عندما منعهم من إمساك النساء على كره وبغضاء وهوان وذلك في قوله تعالى «ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا».
ولذلك أجاز الإسلام أن تخلع المرأة الكارهة لزوجها المتضررة بالحياة معه المتأذية من معاشرته ..أجاز أن تخلعه بشيء من المال يتراضيان عليه، كما فعلت امرأة ثابت بن قيس عندما ردت عليه حديقته التي قدمها إلها مهرا حين تزوجها وأقر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «إذا أردن النساء الخلع فلا تكفروهن» أي أجيبوهن إلى ما يطلبن فلا تمسكوهن ضرارا لهن وحيفا عليهن الأمر الذي يؤدي إلى كفرهن!
وهكذا تنجلي عدالة نظام الطلاق في الإسلام وحكمته البالغة حيث جعل الطلاق بيد الرجل لتمام عقله وامتلاكه لنفسه وتحكمه في عواطفه إلى جانب التزامه بما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات تجاه مطلقته وأولاده منها، كما جعل في نفس الوقت للمرأة حقا في المخالعة إذا أحست ظلما أو هوانا في بقائها معه أو كراهته لخلقه أو خلقته.
سادسا: الحجاب
يبدو عند المخدوعين أن الزي الإسلامي عرض خارجي لا يرتبط بأعماق الإنسان ولا بجوهره، ولما كانت هناك علاقة تفاعل بين شكل الشيء ومضمونه وهذه قاعدة مضطردة تجري على الأشياء والإنسان.. وعليه يكون كل مظهر من حياة الإنسان مرتبطا بعلاقة تفاعل وتأثير بصميم روحه فملابس الشجاعة تبث في الرجل روح الشجاعة وملابس الخنوثة تعطيه التخنث والميوعة وملابس العفة تبث في المرأة روح العفة وملابس المجون والخلاعة تصبغها بالمجون والخلاعة وملابس الممثلين والجوكي تفقد الشباب طابع الإيمان برجولته.
ومن هنا توجهت أول ضربة قام بها النسائيون إلى حجاب المرأة المسلمة وزيها تحت ستار فلسفة خبيثة حملت اسم «تحرير المرأة» برروا بها أهدافهم في انحلال المجتمعات الإسلامية الكاملة وإضفاء الصبغة الغربية عليها من الزي والسلوك..
وانطلت الخدعة الكبرى على كثير من نساء المسلمين واندفعن في غيبة النظام الإسلامي إلى طريق الخروج على تعاليم الإسلام وشريعته في الحشمة والحجاب ونقدت إلى تقليد قبيح للمرأة الغربية حتى لا تكاد تسير في شارع من شوارع مدننا الآن إلا وكأنك تسير في مدينة أوربية لا تمت إلى الوطن الإسلامي بأصل ولا تمتد إليه بنسب فترى النساء وقد تركن البيوت وخرجن في تكشف مزر وتبرج مشين وحركات خليعة كاسيات عاريات مائلات مميلات وفقن في ذلك بنساء الغرب وتراهن وقد خلعن ثياب الحياء والخجل وكأنه لا حرام ولا حلال ولا حساب ولا سؤال، ولا حدود ولا قيود!!
ومما لا شك فيه أن وراء هذا الانحراف الذي أصاب المجتمع الإسلامي ووراء هذه المؤامرة على الأزياء والزينة قوى الصهيونية التي تملك بيوت الموضات والأزياء مستهدفة اقتصاد المسلمين ومقدراتهم وإضعاف الأسرة المسلمة باستنزاف ميزانيتها في الأزياء وأدوات الزينة والترف وإفساد حياتها بما تشيعه هذه الأزياء من انحلال وتميع في نفوس أفرادها فلابد من توجيه مستنير إزاء هذا الإعصار المدمر من إغراءات المودات في الأزياء وأدوات الزينة.
إن ملابس المرأة هي مسئولية الرجل وإن ملابس الفتاة هي مسئولية الآباء، وعلى الآباء والأمهات حماية أبنائهم من أعاصير السموم التي تجتاح المجتمعات الإسلامية ولكن كيف لفاقد الشيء أن يعطيه .. كيف لهذا الجيل من الآباء أن يقدم الهدى وهو ليس مهتديا فلابد من رعاية لهم ممن يلون أمرهم وحماية مما يقرأون ويسمعون ليفاصلوا بين الخير والشر والحلال والحرام وهو الأمر الذي يع المربين وحملة الدعوة الإسلامية رجالا ونساء أمام هذه المسئولية الخطيرة وإذا كانت قضية الزي والحجاب قضية حيوية وذات خطر عظيم في اتجاه المرأة المسلمة وأجيال الأمة بأسرها، فلابد من تبديد ظلمات وشكوك النسائيين بنور القرآن في هذه القضية إنه إما اتباع لله ولشريعة القرآن أو اتباع لشريعة كهنة بيوت المودات والأزياء في الغرب.
جاء تفسير قوله تعالى «ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى».
قال مجاهد كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال فبذلك تبرج الجاهلية وقالت قتادة: وكانت لهن مشية تكسر وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: مقاتل بن حيان: والتبرج أنها تلقى الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها وذلك التبرج وقال ابن كثير في التفسير: كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها فأمر الله المؤمنات أن يتسترن في هيئاتهن وأحوالهن.
هذه هي صورة التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة ودواعي الغواية ويرف آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك. ويقول: ذوقه: فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ هو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ وما يشي به من جمال الروح وجمال العفة وجمال المشاعر.
وهذا المقياس لا يخطىء في معرفة ارتفاع المستوى الإنساني وتقدمه فالحشمة جميلة جالا حقيقيا رفيعا ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر!
ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها.
والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان إنما هي حالة اجتماعية معينة ذات تصورات معينة للحياة ويمكن أن توجد هذه الحالة وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان!
وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في جاهلية عمياء غليظة الحس، حيوانية التصور هابطة فيدرك البشرية إلى حضيض مهين وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس والتخلص من الجاهلية الأولى، وأخذ بها أول من أخذ أهل بيت النبي صلى الله عليه وسم على طهارته ووضاءته ونظافته...وصدق الله العظيم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم..) فللنبي صلى الله عليه وسلم على جميع المؤمنين الولاية العامة التي تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها ولأزواجه عليه السلام الأمومة الشعور به التي يجب أن يكون فيها لهم القدوة الصالحة والمثل الأعلى:
وقد أوحى الله إلى نبيه صلى لله عليه وسلم أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة إذا خرجن لحاجتهن أن يغطين أجسامه ورؤوسهن وجيوبهن وهي فتحة الصدر من الثوب بجلباب كاس فيميزهن هذا الزي ويجعلهن مأمن من معابثة الفساق فإن معرفتهن وحشمتهن معا تلقيان الخجل والتحرج في نفوس الذين كانوا يتبعون النساء لمعابثتهن (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)
ويذكرنا قوله تعالى في سورة الأعراف: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس للتقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون) يذكرنا هذا النداء العلوي الجميل بنعمة الله على البشر وقد علمهم ويسر هلم وشرع كذلك الباس الذي يستر العورات المكشوفة ثم يكون زينة بهذا الستر وجمالا بدل قبح العري وشناعته ولذلك يقول: «أنزلنا» أي: شرعنا لكم في التنزيل واللباس قد يطلق على ما يواري السوءة وهو اللباس الداخلي والرياش قد يطلق على ما يستر الجسم كله ويتجمل به وهو ظهر الثياب كما يطلق الرياش على العيش الرغد والنعمة والمال وكلها معان متداخلة ومتلازمة: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباس يواري سوءاتكم وريشا) كذلك يذكر هنا «لباس التقوى» ويصف بأنه «خير» (ولباس التقوى لك خير ذلك من آيات الله) قال عبد الرحمن بن أسلم: «يتق الله فيواري عورته فذاك لباس التقوى».
فهناك تلازم بين شرع الله في اللباس لستر العورات والزينة وبين التقوى كلاهما لباس هذا يستر عورات القلب ويزينه وهما متلازمان فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى إن يدعو إلى العري العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس وكشف السوءة!
إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهم لتدمير إنسانيتهم، ونق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق.
والله (سبحانه) يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر، صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل: (لعلهم يذكرون)...
ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة المواجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي باسم الزينة والحضارة والمودة وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم والتعجيل فانحلالهم ليسهل تعبيدهم لملك صهيون ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفس فحتى هذه توجه لها معاول السحق بتلك الحلمة الفاجرة الداعية إلى العري النفسي والبدين الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان والزينة «الإنسانية» هي زينة الستر بينما الزينة «الحيوانية» هي زينة العري ولكن «الآدميين» في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانيتهم وصيانتها!
وفي سورة النور يقول تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبناء بعلتهن أو أخواتهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهم أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم مايخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ولاتستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري .. كهلا لا تصنع شيئا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون وأن يفلت زمام الأعصاب والإرادة فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة وهي تكاد أن تكون عمليات تعذيب!
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليما وبقوته الطبيعية دون استثارة مصطنعه وتصريفه في موضعه المأمون النظيف.
ولقد شاع أن النظرة المباحة والحديث الطليق والاختلاط الميسور، والدعاية المرحة بين الجنسين والإطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة ...
شاع أن كل هذا تنفيس وترويح وإطلاق للرغبات الحبيسة ووقاية من الكبت ومن العقد النفسية وتخفيف من حدة الضغط الجنسي وما وراءه من اندفاع غير مأمون.. شاع هذا على أثر انتشار بعض النظريات المادية، وبخاصة نظرية فرويد ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية ففي أشد البلاد إباحية وتفلتا وبعدا عن جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية ما يكذبها وينقضها من الأساس في هذه البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله لم ينته هذا كله إلى تهذي الدوافع الجنسية وترويضها إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع والأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها لا تنشأ إلا من الحرمان من التلهف على الجنس الآخر المحجوب تشاهد هناك بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد، وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء وللأجسام العارية في الطريق وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة واللافتات الموقظة وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود.
وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين:
(قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون).. وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الإطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام كما أن فيه إغلاقا للنافذة الأولى من نوافذ الفكرة والغواية ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم؟
يقول القرطبي في تفسيره: «البصر هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمق طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه وغضه واجب عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله».
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر، أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة ويقظة الرقابة والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة بوصفهما سببا ونتيجة أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع كلتاهما قريب من قريب.
(ذلك أزكى لهم) فهو أطهر لمشاعرهم وأضمن لعدم تلوثها بالانفعالات الشهوانية في غير موضعها المشروع النظيف وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها وجوها الذي تتنفس فيه.
والله هو الذي يأخذهم لهذه الوقاية، وهو العليم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري الخبير بحركات نفوسهم وبحركات جوارحهم: (إن الله خبير بما يصنعون)...
(وقل للمؤمنات: يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن)...
فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة أو الهاتفة المثيرة تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب يلبي داعي الفطرة في جو نظيف لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة!!
(ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها)...
والزينة حلال للمرأة تلبية لفطرتها فكل امرأة مولعة بأن تكون جميلة وأن تبدو جميلة والزينة تختلف من عصر إلى عصر ولكن أساسها في الفطرة واحدة هي الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله وتجليته للرجال والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية ولكنه ينظمها ويضبطها ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد هو شريك الحياة يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه ويشترك معه في الإطلاع على بعضها المحارم المذكورون في الآية ممن لا يثير شهواتهم هذا الاطلاع.
فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين فيجوز كشفه لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجه وكفيه.
والجيب فتحة الصدر في الثور والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر ليداري مفاتنهن فلا يعرضها للعيون والجائعة ولا حتى لنظرة الفجاءة والتي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها ولكنها قد تترك كمينا في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة!
إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء.
هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة.. ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة فيستثنى المحارم الذين لا تتواجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم:
الآباء والأبناء وآباء الأزواج أبناؤهم والإخوة وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات كما يستثنى النساء المؤمنات أما غير المسلمات فلا.
لأنهن قد يصفن لأزواجهن وأخواتهن وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها.
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء فقد مضت الآية تنهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المذكورة، وتهيج الشهوات الكامنة وتوقظ المشاعر النائمة ولو لم يكشفن فعلا عن الزينة:
(ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)
وإنها المعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها. فإن الخيال لا يكون أحيانا أقوى في إثارة الشهوات من العيان وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها أو حليها أكثرها مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة بخطر في خيالهم أكثر ما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم وسماع وسوسة الحل أو شمام شذى العصر من بعيد قد يثير حواس ناس كثيرين ويهيج أعصابهم ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها ردا.
والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله لأن منزله هو الذي خلق وهو الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
وبعد هل الحجاب قيد ورجعية وتخلف كما يقول المخدعون والمتملقون للمرأة؟
لقد سئلت بعض الأخوات المحجبات عن شعورهن إزاء الحجاب والزي الإسلامي وآدابه فجاءت الإجابة تدل على وعي وإيمان وبرغم الحملة الضارية على عفاف المرأة المسلمة من الأقلام التي مردت على الإثم والدفاع عن الباطل فإن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة ..جاءت الإجابة دامغة «بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق»: قالت إحداهن: والله إن عزتنا في هذا الحجاب ولقد شقيت كل متبرجة وسعدنا نحن به. وقالت الثانية: إن الحجاب لا يمنعا من تلقي العلم في أرقى درجاته، وليست هناك علاقة بين الاختلاط والعلم ولا بين السفور والعلم فهذه أكاذيب.
وقالت الثالثة: سنتمسك بالحجاب إلى الأبد، ونحن لا ننادي بالتحرر لأننا متحررات فعلا ومصانات من يوم أن نادى محرر الإنسانية محمد رسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام وأخرج الناس من الظلمات إلى النور (197)
على مفترق طريقين
إن مشكلة المرأة والأسرة في المجتمعات الإسلامية، وتوزع الأعمال بين الرجل المرأة ومسلك كل منها في الأسرة وخارج الأسرة هي في الواقع من أكبر المشكلات التي نجابهها اليوم والتي تظهر فينا صفة التبعية والتقليد إلى درجة مخزية، وهي ناحية من نواحي الحياة التي جرفنا فيها تيار جديد أفقدنا الكثير من خصائصنا الإسلامية وصار له من الشيوع حتى كاد يشمل جميع الطبقات وتحتاج إلى عزائم أصحاب الدعوة الإسلامية والأمثلة الفذة من النماذج المؤمنة للفتيان الملتزمات في مجتمعنا اليوم التي تستمد قوتها من إيمانها بحضارة الإسلام وصحة عقيدته ومثله العليا وأحكامه الأخلاقية لتحرر من هذه التبعية الشائنة لحضارة الغرب ونظامها الاجتماعي ومفاهيمها المادية الانحلالية...
إن في العالم قديمة وحديثة المتمدن منه والمتأخر نظامين للحياة الاجتماعية المتعلقة بالأسرة والمرأة والحياة الجنسية أحدهما يقوم على ضرورة حصر الحياة الجنسية والتمتع بها في نطاق الأسرة أو الحياة الزوجية وتتفرع عن جميع العادات المتصلة بحياة المرأة والرجال بحيث تؤدي إلى تلك الغاية وتنسجم معها وتعضدها فلا إثارة للغريزة في السوق والشارع والمجالس والمجتمعات ولا إثارة للغريزة عن طريق عري المرأة وتزينها ولا إفساح للاختلاط والخلوات الخاصة، وكل ذلك مقترن بآداب وأعراف وتقاليد ومعتقدات وأحكام خلقية وأحكام تشريعية.
أما النظام الآخر وهو رائج في حضارات أخرى سواء أكانت قديمة بدائية أم حديثة متمدنة فلا علاقة للحداثة والقدم ولا للتقدم المادي أو التخلف بذلك ويقوم هذا النظام على التساهل في العلاقات بين الرجال والمرأة وعدم الاكتراث بحصر الحياة الجنسية وتحقيق متعتها وأهدافها في نطاق الحياة الزوجية بل يسود الاعتقاد في مثل هذا النظام بحرية هذه الصلات وعدم التفريق بين تحقيق الحياة الجنسية في صورة حياة زوجية أو علاقة زنا ..نعم إن الحياة الزوجية وحياة الأسرة موجودة، ولكن على أية حال توجد إذا كان أصحاب هذا النظام لا يغارون أو يشعرون بالنار إذا حدثت صلات جنسية شيوعية تامة ين المتزوجين من الرجال والنساء أو بين الشباب والفتيات من غير المتزوجين من الرجال والنساء أو بين الشباب والفتيات من غير المتزوجين هناك إن وقع البلاد الأوربية والأمريكية هو هذا كما هو معروف ومتحقق.
تلك هي الحقيقة التي لا مهرب منها فنحن بين نظامين وعلينا أن نختار بينهما:
- نظام الإسلام.. أو نظام العفة الزواج.
- ونظام الغرب.. أو نظام الإباحية الجنسية والأسرة المفككة.
وعلينا كذلك أن نختار بين نتائج كل من النظامين:
في نظام الإسلام | في نظام الغرب |
---|
مسئول عن الزاج والزوجة والولد | غير مسئول عن الزواج ولا السفاح والعشيقة واللقيط. |
---|---|
لزوجته وأولاده | لعشيقاته وخليلاته |
يثق بزوجته أنها له وحده | لا يثق بزوجته أنها له وحده |
يثق بولده وأنه من نطفته | يشك أن ولده من نطفته |
له الزواج بأربعة بشرط العدل | يزني بالكثير منهن بغير مسئولية |
يحترم زوجته ولا يشتهي غيرها | يحقرها ويشغل عنها بغيرها |
له القوامة على الأسرة | فاقد القوامة على الأسرة |
يجد السكينة والمودة في بيته | في فوضى وصراع وجفاء في بيته |
صحيح الجسم والنفس والخلق | مريض الجسم والنفس والخلق. |
تضبط نفسها حتى تجد الزوج | حمقا تستسلم لرجل المغرض |
---|---|
يعاشرها زوجها بالمعروف | يعاشرها الرجال بالمال والاحتيال |
عشرتها مع زوجها دائمة مستمرة | عشرتها مع عشاقها مؤقتة |
زوجة لرجل وأم لولد | زانية وأم لقيط |
مسئول عنها زوجها وأقاربها | مهملة لا أحد مسئول عنها |
جميع قلبا لزوجها | قلبها موزع بين العشاق |
للبيت الهادي الساكن | للشارع الصاخب والعمل المرهق |
لأولادها تمنحهم عطفها | محرومة الولد أو مفصولة عنه |
في نظام الإسلام | في نظام الغرب |
---|---|
يتوجها الخجل ويكللها الحياء | وقحة سفيهة ساقطة الحياء |
بعيدة عن الفتنة والافتتان | تَفتن وتُفتن |
صبابة لزوجها فقط | صبابة للجميع |
محصنة الفرج عفيفة النفس | أسيرة الشهوة والهوى |
سليمة الجسم والخلق | مريضة ونشر الوباء |
ناعمة لطيفة جميلة | خشنة بارزة العروق والعضلات |
تقية طبية أبية | شقية خبيثة حقيرة |
آمنة مطمئنة سعيدة | مهددة قلقة تعسة |
هدية من الله مباركة وثمرة الفؤاد | مصيبة كبيرة وكارثة مريرة |
---|---|
منسوب لأبية وأمه | منسوب لأمة الزانية أو غير منسوب |
يثق بأبيه وأنه من صلبه | لا يثق بأبيه ويشك فيه |
يفتدي بالروح ويؤثر على النفس | رخيص مصيره القتل أو المستشفى |
يعيش في أسرة منه وإليه | يعيش في المؤسسة مع الغرباء |
ينعم بعطف أمه وأبيه وأخته وأخيه | محروم حتى من الأم والأب |
يزداد حبا في حال ضعفه | في حال ضعفه يتمنون موته |
ينادي أبي أمي وأخي أختي | محروم من نداء الأم والأب |
موصول بالمجتمع ومحب له | مبتور عن المجتمع حاقد عليه |
أسرى مترابط متعاون | مفكك أناني فردي |
---|---|
محفوظ الأنساب مصان الحرمات | ضائع الأنساب مهتوك الحرمات |
للجسم والروح حقهما الكامل | مادي أرضي ضعيف الروح |
تسوده القيم الربانية الرفيعة | تسوده الاعتبارات الوثنية الدنيئة |
عبد لله وملتزم بشرعه | عبد للهوى والأهواء وطموع لذلك |
لله، لرضاه لرفع كلمته | للمال، والخمر والشهوة والشيطان |
آمن على ضروريات حياته | مهدد في ضروريات حياته وأقل |
إن النتائج التي وصلت إليها البشرية والثمار المرة التي جنتها حين اتبعت نظام الإباحية والتساهل في العلاقات بين الجنسين لتهتف كلها بصدق هذا الدين وأنه من عند الله خالق هذا الإنسان والعليم بما يصلحه .., هذه شهادة الكاتبة الأمريكية «هيلسلين ستانسبري» التي تخصصت في دارسة مشاكل الشباب تقول: «إن المجتمع العربي كامل وسليم ومن الخليق به أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الشباب والفتاة في حدود المعقول وتحتم عدم الإباحية الموجودة عندنا في الغرب .. هذه الإباحية التي هددت الأسرة في أوروبا وأمريكا فالقيود التي فرضها المجتمع العربي صالحة ونافعة لهذا أنصح أن تتمسكوا بها امنعوا الاختلاط بل ارجعوا إلى عصر الحريم والحجاب فهو خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا ثم تقول: إن الإباحية هددت الأسرة وزلزلت القيم والأخلاق إن الفتاة الصغيرة عندنا أقل من عشرين سنة تخالط الشباب وترقص وتشرب الخمر والسجائر وتتعاطى المخدرات باسم المدنية والإباحية فهل بقي شيء؟»
وبعد: فهذه الشهادة من الذين أصابهم الداء فهل يفيق السكارى؟
وهل يدرك الساخرون بالأخت المسلمة أبعاد حريتهم في حق الأمة؟
وهل يقرأ من يقيم السدود أمام المحتشمات ويضعون الأشواك في طريقها هذا الإنذار من عقلاء الغرب؟
إن التخلف والرجعية لن يكونا فيمن أوامر ربه وأسلم له قياد نفسه إنما يكونان فيمن هاج وماج واعتدى من يسلك طريق الله ومنهجه المستقيم...
الباب الثاني الأسرة المسلمة كما يجب أن تكون
- • أسس تكوين الأسرة المسلمة
- • العلاقات الأسرية في ضوء القرآن الكريم
- • من أسرار التربية السليمة.
«تمهيد» من أقوال الإمام الشهيد حسن البنا
الإسلام والبيت
قيمة البيت:
إذا كان الإسلام قد أصلح القلوب، ونظم الأوقات، وطهر الأموال، فإن تعرض للبيت بالإصلاح ونفذ إليه بالتنظيم، ورفرف عليه بالسعادة، فجاء يرغب المسلمين في حياة الأسرة ويحضهم على الاستقرار، ويحببهم في البيت ومن فيه، ويصفه بأنه نعمه كبرى من نعم الله.
جاء سيدنا معاذ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يوصيهن فقال عليه الصلاة والسلام: « يا معاذ أمسك عليك لسانك، وليسعك بينك وأبك على خطيئتك»
وليسعك بيتك:
هذا المكان الطيب الآمن الذي فيه الزوجة والأبناء والأمهات والآباء، فيه الراحة بعد التعب، والسكون بعد الإجهاد، وإن متاعب الحياة لنزول في البيت المنتظم السعيد، وإن جراح الأحداث لترم عليها يد المواساة الرحيمة في البيت المسلم، الذي هو عش الهناءة ومنبت الطهر، ومكان الوفاء ومهد العطف والتراحم، وقد تناول الإسلام تنظيم البيت بتنظيم الصلة.
بين أهله:
• الزوج:
بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول علن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته» فمسئولي الزوج كراع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته تلقى عليه تبعات مادية وأدبية داخل البيت وخارجه.
ففي خارج البيت: السعي على كسب ما يسد احتياجات البيت عن طريق شريف حلال وبقدر يضمن الحياة الكريمة لمن في البيت.
وفي داخل البيت: التوجيه والنصح، والتقويم والإشراف الكامل بحيث يلتزم جميع من فيه تعاليم الإسلام بكل جدية وصدق وبهذا الالتزام وحده يسعد كل من البيت، ولا تتم هذه السعادة دون القدوة الحسنة من الأب والأم ففاقد الشيء لا يعطيه.
• الزوجة!
يقول الله تبارك وتعالى: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة» ويقو النبي صلى الله عليه وسلم: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خبيرا من زوجة صالحة» فالزوجة الصالحة روح البيت، إليها تسكن النفس وبها تنتظم الحياة تقوم بتنظيم البيت، وتربية الأبناء وتنشئتهم على الفضيلة والحق والخير وإن من أمانتها استقرار الحياة وفي عنقها طمأنينة الزوج، وفي فضيلتها نجابة الأولاد وصلاحهم وفي جمالها ونظافتها زينة الحياة والمتاع الحلال.
فرض عليها الإسلام من الواجبات ما لا يثقل النفس الكريمة، ولا يبهظ الطبيعة المعتدلة وسوى بينها وبين الزوج في أمور الدين فهي مطالبة بسلامة العقيدة وطهارة الذيل وأداء الفرائض وأبدلها خيرا من السعي والعمل خارج البيت مملكة هي أساس كل ملك ودعامة كل مجتمع «وإن المرأة التي تهز مهد الطفل بيمينها لتهز العالم بيسارها» وكفل لها من الحقوق ما خلصها من العبودية وانتشلها من الجور، فهي إنسان حر كريم، لا يهضم له حق ولا تهد له كرامة، وإن ما حققه الإسلام للمرأة ليزري بهذه الأباطيل التي يتشدق بها أولئك الفسقة الذين يدسون لها السم في الدسم، ويلبسون الحق بالباطل.
وإن هذه النداءات المغرضة الصادرة من وحوش هم أعداء المرأة في الحقيقة إنها أصوات تدعو المرأة للعمل واحتمال تبعات الحياة في الخارج فتفقد بذلك الحياء والخجل وهما رأس مالها وتتعرض عفتها وكرامتها للانهيار فالرجل الذي يدعو لذلك عدو للمرأة، حليف للشيطان والمرأة التي تصدق ذلك وتعمل له، لهي عدوة لنفسها ومنساقة وراء الشهوات.
فكرامة المرأة في صيانتها وعزتها في خدرها ومكانها اللائق بها والذي خلقت من أجله هو البيت ومهمتها الحقيقية التي هيأها الله لها هي تربية الأبناء وتكوين الرجال وما أعظمها مهمة لو فطنت لها المرأة «وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله».
ومن طاعة الله ورسوله أن تفهم المرأة مهمتها وتقوم بها خير قيام كما يريد الله ورسوله.
• الأبناء:
وفي البيت هم ثمرة الحياة ومعقل الآمال كفل لهم الإسلام عطف الوالدين في أنبل الصور، وأقوى الحالات وأمر الأم أن تحسن الحضانة وتكمل الرعاية وأمر الوالد أن يحسن التربية وكفالة السعادة.
«دخل رجل على سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فوجد أبناءه يركبون ظهره ويلعبون معه فقال يا أمير المؤمنين: أنت سيد الناس ويهابك الملوك فكيف بك وأنت في هذه الحال وإن لي عشرة من الأبناء إذا دخلت البيت جلس قائمهم ووقف قاعدهم وسكت متكلمهم وكان الخليفة قد ولاه عملا فقال له رضي الله عنه: إنك غير رحيم بأبنائك فكيف ترحم المسلمين وجرده من عمله.
هذا هو الإسلام يجعل الأبوة رحمة وعطفا على الأبناء ويجعل السعي عليهم من خير أنواع الجهاد.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه فأشاروا إلى شباب قوي جلد فقالوا: حبذا لو كان هذا الجل القوي في سبيل الله؟ فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما معناه: «إذا كان خرج يسعى على ضعيفيه فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يقيها السؤال فهو في سبيل الله».
وقد فرض الإسلام على الأبناء أن يكونوا بررة طائعين لآبائهم وأمهاتهم «وقضي ربك ألا تعبد إلا إياه وبالوالدين إحسانًا إما يبلغن عندك الكبرى أحدهما أو كلاهما فلا نقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا»
• تشرد وإهمال:
وعندما ترك المسلمون العمل بينهم في كل شيء أخذ البيت نصيبه من الإهمال فأصبح مكانا بغيضًا يرى الإنسان في كل مكان إلا فيه، ويقطع وقته في التسكع على المقاهي ودور اللهو، واستبدل المؤانسة بالزوجة والأولاد بإخوان السوء وزملاء الشهوات والشر وأصبح شريدا يعمل على ضياع وقته وقد قيل: «الوقت هو الحياة» كذلك يعمل على ضياع ماله وترك زوجته مسهدة منكوبة مجروحة الكرامة وأبناءه بلا رعاية أو عطف أو رقابة فيتطرق الفساد إلى البيت وتتعرض الزوجة لخيانة ويقودها الشيطان وينشأ الأبناء أعضاء فاسدين فيكونوا جناية على الأوطان والمجتمعات.
• أساس الخير:
علينا أيها الإخوان أن نأخذ أنفسنا بالحياة الصحيحة، وأن نبدأ في بناء مجتمعنا على أساس إسلامي خالص فنؤدي واجبنا نحو البيت بالإخلاد إليه في وقت الفراغ واستغلال الفرصة لإسعاد الزوجة بالعطف وطيب العشرة، ورعاية الأبناء والإشراف على تربيتهم لأن البيت الصالح هو أساس المجتمع الكامل والأمة القوية الناهضة.
الفصل الأول أسس تكوين الأسرة المسلمة
ليس هناك في نظام المجتمع الإسلام غير مجال واحد يملك فيه الناس أن يلبوا دوافعهم الفطرية فليس غير الزواج العلني الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه.. وهي الطريقة التي يجب أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت وإقامة مؤسسات الأسرة، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد يليق بهذا الأمر العظيم، صيانة للمجتمع من كل تلوث أو اختلاط في الأنساب ينشا من «شيوعية» الاتصال الجنسي، أو ينشأ من انتشار الفاحشة.
والزواج أو النكاح الذي اختاره الإسلام وأقره: هو أن يخطب الرجل من الرجل ابنته أو أخته فيعطيها صدقا ثم يتزوجها بإيجاب وقبول على مشهد من الناس.
وهذا هو النكاح الذي صادف أصول النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه إلى آدم عليه السلام ويقول فيه: «خلقت من نكاح ولم أخلق من سفاح ومن لدن آدم إلى أن ولدتي أبي وأمي لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء».
فما عدا ذلك من الأنكحة، هو خارج عن الوضع الفطري الصحيح في علاقة الرجل بالمرأة ويعد زنا وسفاحا في نظر الإسلام.
• والنكاح المشروع يجب أن تتوفر فيه....
• العلانية والإشهار ويستحسن أن يدعى له كبار القوم ويستحب من أجل ذلك قبول الدعوة لحضور وليمة الزواج.
• استئذان ولي أمر المرأة لحمايتها من أخطار التغرير والاندفاع وراء رغبة جامحة ولتكريمها وإعزازها ولكي تتحقق صلات النسب والمصاهرة كهدف من أهداف الزواج.
• وإتمام القبول والإيجاب منهما عن رضا واختيار بينهما لا يكره أحدهما أو كلاهما ولا يقبل من أحدهما أو كليهما رأي لم يتوفر له ظروف الحرية الشخصية العادية.
• وإصداق المرأة صداقًا، لتشعر بأنها مطلوبة من الرجل، وليست طالبة له.. صونا لكرامتها وحيائها الطبيعي وهو أغلى ما تملكه الأنثى.
• استصحاب نية التأبيد لا التوقيت لكي لا يفسد عقد الزواج ولا تدخل فيه أي شبهة من شبهات زواج المتعة أو ما يقال عنه بالزواج المنقطع الذي حرمه الإسلام حرصا منه على استقرار الأسرة وحفظا كرامة المرأة وطهارتها.
وهذه هي الصورة الوحيدة: النظيفة القويمة العفيفة التي يتم بها إحصان من أنكحه الجاهلية طرحه الإسلام وحرمه، لما تنطوي عليه من امتهان للمرأة وجعلها موضع مساومة واستحقاق بالصلة الزوجية وقصرها على الاستمتاع الجنسي وإهمال لما يأتي عن هذه الصلة من أولاد والغض من قيمتهم ومستقبلهم.
وقد انتهى الإسلام على هذه الصورة في العلاقة بين الرجل والمرأة التي أقرها وجعلها الزوج المشروع فقد كانت صلة الرجل بالمرأة ف الجاهلية في جانب العلاقة الجنسية على صفوف شتى (198) :
• كان منها نكاح الاستبضاع وهو طلب المباضعة والجماع من رجل آخر فكان يقول الرجل لارأته عقب طهرها من الحيض: اذهبي لفلان المشهور بالشجاعة أو الكرم مثلا: واستبضعي منه، أي اطلبي منه الجماع كي ننجب ولدا على وضعه وشاكلته وكان رجلها يتجنبها حتى يظهر حملها ثم له بعد ذلك أن يصيبها ما شاء.
والمرأة في ذلك أشبه بأنثى الحيوان يتخذ لها صاحبها الفحل القوي الأصيل حتى يكون ولجها موضع فخر بقوته ونجابته.
وهذا النوع من النكاح له نظيره في الجاهلية المعاصرة في المجتمعات الأوربية وإن كان هذا النظير له طابع العصر وأسلوبه وهو طابع العلم وأسلوب الموافقة والرضا هناك التلقيح الصناعي: وهو أن تحقن المرأة بموافقتها وموافقة زوجها بماء رجل آخر عرف بإنجاب الأولاد...
• وكان هناك نكاح الرهط دون العشرة: وهو أن يدخل جمع دون العشرة على المرأة فيصيبونها في يوم أو ليلة مثلا وتمتنع على الوطء حتى يتم حملها وتضع وبعد أيام وضعها ترسل إليهم فيحضرون فتذكرهم بما مضى وتلحق الوالد بما تشاء وهو من تحب منهم فيقبله ويثبت النسب بينهما. • ونكاح الكثرة: وهو أن يدخل ناس كثير على إحدى البغايا اللاتي بضعن على أبوابهن علامات لمن أرادهن فيجامعونها فإذا حملت ووضعت حضروا عندها ودعوا «القافة» وهم ناس لهم خبرة بإلحاق الأولاد بآبائهم بناء على التشبه فألحقوا الولد بمن أشبه منهم فيثبت النسب بينهما.
• ونكاح البدل: وكان الرجل في الجاهلية يقول للرجل «انزل عن امرأتك وأنز عن امرأتي والمستهدف في هذا النكاح إشباع شهوة وليس المحافظة على علاقة إنسانية لإقامة حياة إنسانية مشتركة ووراء هذا الأمر الاستخفاف وزن بالمرأة مع يسر التعامل بها كسلعة.
إن نكاح البدل الذي يعتبر بدوره ظاهرة أخرى من ظواهر ارتكاس الطبيعة البشرية وانحطاطها في جاهلية العرب بعد الآن صورة من صور الجاهلية المعاصرة في المجتمعات الغربية: يمارسه الزوجان في غير حرج وفي غير اكتراث بمسئولية الولد القادم وفي غير اهتمام بنسبته إلى والده في واقع الأمر (199) .
• وكان منها نكاح الشغار وهو نكاح المرأة بالمرأة لا صداق بينما هو أن ينكح الرجل امرأة في نظير أن ينكح وليها امرأة أخرى تحت ولايته عندئذ يكون بضع كل منهما مقابل بضع الأخر و:انه عقد سلعة بأخرى ترتبط منفعة أولاهما بثانيتهما.
• وأيضا كان منها نكاح المتعة: وهو النكاح المؤقت بمدة معلومة أو مجهولة كقول الرجل لرجل آخر: أزوجك فلانة شهرا من اليوم أو حتى يحضر فلان بصداق قدره كذا فيجبه على هذا القول فإذا انتهى الشهر أو جاء فلان وقعت الفرقة ولا يصح تجديد العقد قبل انقضاء الأجل، ولو أراده الزوج وهبها ما بقي من المدة واستأنفي عقدا جديدا ونكاح المتعة من اسمه متمحض للاستمتاع وقضاء حاجة الرجل الوقتية، وليس للبناء والاستقرار وصور هذا النكاح متعددة في المجتمعات الأوربية والأمريكية.
• وشاع أيضا قبل الإسلام نكاح الخدان والصداقة وكان العرب يقولون: ما استثر فلا بأس به وما ظهر فلا لوم وصور هذا النكاح في الجاهلية المعاصرة في مجتمعات الغرب ظاهرة في الزيادة الرهيبة للطفولة غير الشيوعية وقضايا الطلاق وظاهرتها المتفاقمة في المحاكم بسبب الخيانة الزوجية وانتشار الأمراض السرية بين المراهقين والمراهقات وتقريرات الجهات المسئولة عن الصحة العامة والعلاقات الاجتماعية.
• وإذا ظهر لنا أن هذه الأنكحة في الجاهلية الغريبة قبل الإسلام تعبر عن استخفاف بقيمة المرأة من جانب الرجل وعن سوء وضعها في المجتمع إذ ذاك وهو مجتمع بدائي فإن صورة علاقة الرجل بالمرأة في مجتمعات الحضارة الغربية المعاصرة ليست أقل دلالة على امتهان القيم الإنسانية في الإنسان رجلا وامرأة واستخفافا بأوضاع الأسرة واستقرارها هناك عما كان عليه وضع جاهلية العرب قبل الإسلام.
الزواج: أسراره وأهدافه
الزواج وفطرة الكون
يقول تعالى: «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» ومعنى هذا أن «الزوجية»
ضرورة أصيلة من الضرورات التي طبع الله عليها كائنات هذا الوجود، ولسنا نقصد في هذا المقام ما يسميه علماء النفس «الغريزة الجنسية أو غريزة الوالدية» بل نقصد سرا أعمق وأوثق صلة بنواميس الكون العالم، فإن منطق الآية الكريمة يشمل كل شيء خلقه الله من نبات وحيوان وإنسان وغير ذلك مما لا نعلمه والقرآن الكريم يقول: «سبحان الذي خلق الـزواج كلها مما تنبت الأرض، ومن أنفسهم ومما لا يعلمون».
فنظام «الزواج» ليس دائرة ضيقة مقصورة على الإنسان والحيوان والنبات بل هو سنة كونية دقيقة واسعة المدى، اتخذت مكانها في أفراد الكائنات، وقسمت كل نوع قسمين وحلت في أحد القسمين بسر يخالف السر الذي حلت به في القسم الآخر على نحو ما حلت في السالب والموجب في عالم الكهرباء فالسر الذي يحمله السالب من سنة الله، غير السر الذي يحمله الموجب .. ولا تعطى سنة الله ثمرتها إلا إذا التقى السران واجتمع شمل السالب بالموجب على النحو المعروف.. فإذا لم يجتمع السران ولم يلتق السالب بالموجب ظلت السنة معطلة وظل الحنين الأزلي ينازع أفراد جنس السالب إلى أفراد جنس الموجب وظل جنس الموجب في مثل هذا الحنين يرنو إلى الالتئام بجنس السالب..
الزواج للفرد والمجتمع
والإسلام هو الشريعة الوحيدة التي قررت أصالة «الزوجية» بين أفراد الكائنات وذلك التقرير العميق يدعونا إلى عمق النظر حين نفكر في مكان «الزوجية» من ضرورات الفرد المجتمع.
وحين ينظر المرء في الأوضاع العضوية التي تحدد معالم التميز بين جسم الرجل وجسم المرأة ويفكر في وظيفة الرحم لدى الأنثى ويفكر في غير ذلك من المعالم المميزة يحكم بصفة قاطعة أن الخالق لم يرد بشيء من هذه الفروق الأصيلة أن يقضي الزوجان أي لذة جنسية بل أراد ضربا من «التكاثر» يستمر به بقاء النوع البشري للحكمة التي أرادها من حلقة.. أما اللذة الجنسية فليس من مقصود الخالق في هذه الفروق الواضحة بحال من الأحوال ولكن تلك اللذة أريدت ليساق بها الإنسان سوقا إلى تحقيق مراد الله الذي هو استمرار النوع البشري.
ولا شك أن الإنسان ولا سيما الأنثى- يعاني في هذه المهمة من ألوان المشقة والألم والضعف والمرض ما يصرفه عنها بل ينفره منها، ولقد أشار القرآن الكريم على هذه المكارة بقوله: «ووصينا الإنسان بواليده إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا» والإنسان أناني بطبعه وأدنى ما توحيه إليه هذه الأنانية هو الفرار من الألم فإذا خلى ونفسه بإزاء مهمته في حفظ النوع لما فكر فيها وإذا مارسها مرة كانت التجربة كافية لأن تصرفه وتصرف غيره عنها فاقتضت حكمة الله أن يبث فيه من حوافز الرغبة ما يشب خياله ويلهب وجدانه، ويثيره إلى إدراكها على النحو الحيواني المعروف ليحصل ما أراده سبحانه من بقاء النوع ... ومن هذا قرر القرآن الكريم أن الغاية من المباشرة الجنسية ليست تحصيل الشهوة بل إنجاب النسل في قوله تعالى: «فالآن بشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم» أي ابتغوا ما كتبه الله لكم من النسل على ما قرره علماء التفسير فبقاء النوع هو مقصد الخالق من خلق الذكر والأنثى فإذا قصر الإنسان قصده على مجرد إدراك اللذة فقد تخلف عن مقاصد الفترة، وحاد عما رسم له .. والمرء بخير ما ساير فطرته وتنظم في نواميس وجوده...
التكامل الاجتماعي
والإنسان اجتماعي... أو مدني بالطبع كما يقولون: فيه من الحيوان أنانيته وفرديته.. وفيه من المدنية ميله إلى المجتمع والاستقرار والتعاون على التطور والرقي.. وطبيعة الحيوان فيه تعارض طبيعة الإنسان...
أنانيته المفردة تعارض طبيعة التجمع.. وذلك مما جعل حياته معقدة وتاريخه حافلا بالانتقاض على أوضاع الجماعة والشذوذ عن مقتضياتها..
وكانت محاولة التوفيق بين هذين الطرفين المتعارضين من أهم أهداف المصلحين والمرسلين على مراحل التاريخ بغية تحقيق الانسجام بين الفرد والمجتمع.. ولا شك أن أنجح المحاولات التي حاولها البشر في ذلك هي المحاولات التي هدينا بها إلى نظام الأسرة على النحو الذي عهدته وما تزال تعهده المجتمعات المتحضرة القديمة والحديثة إذ هدينا للوضع الطبيعي الذي تثمر فيه فطرتنا الأصيلة ما شاء الله من ثمار طيبة للفرد والمجتمع..
والقرآن الكريم يقرر ذلك على أنه آية من آيات الله تسكن في ظلها خصائص الإنسان القلقة الحائرة حيث تصادف بها مهادها الفطري.. ويشير في عمق وحكمة إلى فضل تلك السكينة في حضانة خصائص الإنسان الاجتماعية والروحية حيث يدرج منها ما تحتاج إليه من تراحم، ومودة وإيثار وذلك إذ يقول سبحانه: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون»
فمن مدلولات الزواج أن المرء قد رسم لنفسه «مجالا خاصا لتحقيق رغباته الجنسية يجب أن لا يتخطاه إلى مجالات الآخرين.. وهو بهذا يعالج أنانيته بنفسه ويعود بنفسه التزاما حدود معينة لا يتعداها تقديرا لحرمات سواه.. ولا شك أنه بهذا يخطو خطوات سديدة موفقة نحو صلاحيته الاجتماعية..
ومن مدلولات الزاج أيضا أن الزوجين إذ يجتمعان على إيحاء عميق بالتلازم والرغبة المتبادلة في حب وفرح والتعاون المشترك الذي لا يلبث على الظروف المختلفة وإنجاب الأولاد أن يؤازره مزيد من الود والإيثار والتراحم من مدلولات الزواج أن الزوجين إذ يجتمعان على هذا الإيحاء العميق وتلك المشاعر الودودة وقد انحلت عن كل منهما عقيدة من أنانيته فاتسع بها مجال عاطفته تبعا لذلك وتراجع نطاقها عن حدوده الضيقة إلى ما وراءها حتى شمل آخرين سواه هم أبناؤه فهو يعاطفهم وهو يعافونه على نحو لم يعرفه من قبل إذا كانت عاطفته داسرة مغلقة عليه وحده.. وتلك خطوة كبيرة تعالج أنانيته وتدعم وجوده الأدبي في ميدان الصلاحية الاجتماعية.
ومن مدلولات الأسرة أيضا، أن الرجل حين يسعى في أفقه الاقتصادي ويزوزع حصيلة سعيه على هؤلاء الأبناء –أو على هؤلاء الآخرين- أنه صار يعمل لغيره، بعد أن كان يعمل لنفسه فحسب وأنه صار يؤثر غيره على نفسه بنصيب مما معه، بعد أن كان يجعل كل شيء لنفسه فقط.
وذلك شأو بعيد في تكوين الذات الاجتماعية.
فحقيقة الزواج أنه اقترن إنسانا بإنسانه اقتران جسديهما وحقيقتهما الإنسانية.
واقتران الجسدين ثماره الأولاد واستمرار بقاء النوع الإنساني.
واقتران الحقيقتين ثماره أن تربو بذور الخصائص الإنسانية الكامنة في نفس كل مهما وتتفتح في الجوانح بالسكينة والألفة ومشاعر التواد والرحمة والتواصل وهو المعنى الذي يدخل في مدلول قوله تعالى: «لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة».
فإذا كان من مهمة الإنسان في هذه الأرض أن ينجب البنين فمن أكرم مهماته أن يبدع فضائل التراحم والتواد، والتعارف، والإيثار والمواساة والتعاون ويدون أن يثمر الإنسان هذا الثمر يكون طاقة معطلة لإرساله له..وبدون هذه الفضائل لا يكون المجتمع جديرا بأي حظ.. من قداسة أو احترام.
ولا يتأنى ذلك كله على النحو الذي يتوافق مع الفطرة ويحمده المجتمع إلا إذا تم الزواج على النمط الذي شرعه لنا الله سبحانه.
وجوب الزواج في الإسلام
هذا مكان الزواج من فطرة الكائنات، ومكانة من ضرورة الإنسان والمجتمع على ما يقرره القرآن الكريم ولذا نرى الإسلام يجعله أصلا من أصوله الاجتماعية وينوه بأن سبيل الصفوة الذين يسنون للناس سبل السلام، ومناهج الخير والإصلاح فيقول الله تعالى: «ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزاجا وذرية»
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من سنن المرسلين...» ويذكر أحداهن الزواج ويجعله النبي صلى الله عليه وسلم نصف الدين في قوله: «إذا تزوج العبد ويجعله فقد استكمل نصف الدين» ولكل هذا دعا إليه القرن الكريم في مثل قوله. «وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وقد فسر الإمام القرطبي ذلك بقوله «زوجوا من لا زج له منكم فإنه طريق التعفف» ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم الشباب إلى الزواج بمثلى قوله: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج .. ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء» .ومعناه: من أحس ثورة الميل الغريزي في نفسه وكان به قدرة على تكاليف الزواج، وما يعقبه من نفقات المعيشة فليتزوج، وإلا فعليه بالصوم فإنه يكسر حدة هذا الميل ويعين على العفة...
وإزاء هذه النصوص ذهب إمام ابن حزم وجماعة من علماء المسلمين إلى أن الزواج فرض لازم للمسلم القادر، فمن تركه أو تثاقل عنه بدون عذر فهو آثم عن ترك فريضة من فرائص الإسلام وذهب فريق كبير من الأئمة والعلماء إلى أنه واجب.
الزواج كما ينظر إليه رؤساء المسيحية:
وبينما يذهب أئمة الإسلام على ضوء ما لديهم من نصوص إلى وجوب الزواج، بل يذهب الظاهرية وفيهم دواد وابن حزم إلى أنه لازم لزوم الفريضة نرى بولي الرسول يقول «أني أريد جميع الناس كما أنا (أي بدون زواج) أقول لغير المتزوجين وللأرامل أنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا» وذلك لأن غير المتزوج «يهتم فيما للرب كيف يرضي الرب وأما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يرضي امرأته» .. وكذلك شأن المرأة المتزوجة وغير المتزوجة فالأولى تهتم بالعالم وتفكر فيما يرضي زوجها، والأخرى تهتم بالشئون الإلهية وتفكر فيما رضي الله».
ومع ذلا لا بأس بالزواج إذا لم يستطع المرء أن يعصم نفسه من الخطيئة ولكن روحه بالزاج ستكون في ضيق أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب، امرأة لكن وإن تزوجت لم تخطئ وإن تزوجتن العذراء لم تخطئ ولكن مثل هؤلاء يكون لهم ضيق في الجسد، وأما أن فإني أشفق عليهم»....
فالزواج أصلا غير مرغوب فيه، لأنه يشغل عن الله –كما بينه بولس الرسول_ ولكن لا بأس م مقارفته إذا خيف الوقوع في الخطيئة فكان الزواج هو الإجراء الذي يختاره المرء أخف الضررين، عند المفاضلة بين شر يخالطه بعضا الخير وبين شر محض لا خير فيه...
الامتناع من الزواج
إثم من لم يتزوج وهو قادر:
يؤخذ مما تقدم من النصوص أن الإسلام يعتبر الزواج بالنسبة إلى الفرد ضرورة فطرية لسكن النفس وبالنسبة إلى المجتمع مهادا يدرج منه الحب والتراحم والإيثار وبالنسبة للنوع البشري سبيلا إلى حفظه بالتناسل وبالنسبة إلى هؤلاء جميعا سبيلا إلى العفة والشرف والكرامة الخاصة والعامة ولهذا يكون الامتناع منه امتناعا من هذه المزايا جميعا وخروجا عن السنن الطبيعية، والاجتماعية التي سويت فطرة المرء على مقتضاها وكان الممتنع عنه بدون عذر –إنسان جهل نفسه ورسالته وضل ما رسم له من سنن وأهداف كريمة ولذلك برء رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا النمط من الناس، فقال: «من كان موسرا لأن يتزوج ثم لم يتزوج فليس مني».
رغبات التبتل وأثرها في الامتناع من الزواج!
ولقد وقع في ظنون كبير من المجتمعات القديمة أن الصلات الجنسية لا ترشح صاحبها للصفاء الروحي والتقرب إلى الله ولذا التزام رجال الدين في تلك المجتمعات بل ألزموا لونا من الرياضة الروحية يتخلون به عن الدين وينقطعون إلى الله تعالى ومنهج تلك الرياضة الامتناع من الزاج ليأمنوا تشوش الخاطر بلذات الجسد لتكمل لهم في زعمهم داعي الصفاء المشنود فجاء الإسلام وأبطل ذلك وحرمه وجعل سبيل الصفاء التطهر هو الزواج نفسه لا الامتناع منه، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر»
ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن المسيحية المسحة حين ظهرت لم يكن في تعاليمها أن يمتنع ذوو الوظائف الدينية من الزواج، لكن كبارهم مالبثوا أن ابتدعوه لأنفسهم فأدخلوا به على دينهم ما لم يشرع لهم المسيح عليه السلام ولكنهم ظلوا على ذلك في غير عزيمة ملزمة من شاء منهم أخذ بهذه البدعة ومن شاء أعفى نفسه منها حتى كان أوائل القرن الرابع الميلادي فأصدر مجمع «الفيرا» في أسبانيا قرارا يجعل الزواج محرما على كبار رجال الدين..
وكثر الرهبان مع الأيام وآووا إلى الأديرة والصوامع في أطراف العمران وفي رءوس الجبال يطلبون الانقطاع إلى الله وتصفية النفس والتخلص من الشهوات بالبعد عن دواعيها ومثيراتها وظهر الإسلام وأعلن أنه ليس من الله ونزل فيه قوله تعالى: «ورهبانية ابتدعوها ما كتبناهم عليهم..» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا رهبانية في الإسلام» وجعل ذلك محظورا على كافة المسلمين لا يجوز أن يفارقه أحد منهم لأنه نكول عن سنة الحياة الصحيحة وكان عليه السلام يقول: «رهبانية أمتي الهجرة أي هجرة الأنانية والمعاصي سعيا لخير الجماعة –الجهاد للحق والصوم والصلاة والحج والعمرة».. وقد حدث على أيام النبي صلى الله عليه وسلم أن رهطا من المسلمين أرادوا أن يطلبوا مرضاة الله بشي من التبتل فقال أحدهم: أما أنا أصلي الليل أبدا لا أنام.. وقال غيره : وأنا أصوم الدهر كل يوم لا أفطر.. وقال آخر: وأنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم فجاءهم وقال: «انتم الذين تقولون كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر ..وأصلي وأرقد.. وأزوج النساء..وتلك سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني».
عبادة اللذة .. وأثرها في الامتناع من الزواج:
وإذ عرضنا حال هذا الصنف الذي يمتنع عن الزواج تحصيلا للصفاء والتطهر نعرض حال صنف آخر مناقض له، يمتنع عن الزواج لأن الزواج قيد يجزه عن التخوض فيما يشاء من اللذة المتجددة فقد أقبلت عوامل التطور الحديث على كثير من المجتمعات الغربية بحريات واسعة في الفكر والقول والعقيدة والسلوك الخاص وأنشأت لهم أهدافا في المال، والمنفعة واللذة الحسية تعارض ما كان لهم من أهداف روحية ومقاييس لمعاني العرض والعفة وصار لكل منهم حريته الواسعة في حياته الخاصة يفعل فيها ما يريد دون رقابة من قانون أو تحرج معروف... بل يفعل ما يريد بتحريض من العرف وعطف من المجتمع وكان من ذلك أن تفجرت الشهوات وسادة عبادة الحس، وراح جنون اللذة يستبدل بألباب كثير من أفراد تلك المجتمعات فرأوا في الزواج قيدا يجد من حرياتهم في ابتغاء ما يريدون فنبذوا حياة الأسرة وركنوا إلى المخالاة والمخاذلة كلما فترت رغبة أحدهم في خليلة أو فترت رغبتها هي فيه انصرف كل منهما عن صاحبه إلى حيث يجد اللذة في رغبة جديدة وشوق أشد...
ولا شك أن ذلك يفيض إلى قلة النسل أي إلى تناقص عدد السكان، وضعف الأمة في مقوماتها العددية ومقاوماتها المعنوية .. وكما ظهرت آثاره السيئة منذ عشرات السنين في المجتمعات الأوربية وأخذت في الازدياد والنمو الاتساع الذي يهددهم هناك بالدمار وها نحن أولاء نرى كثيرا من علماء الاجتماع يدقون نواقيس الخطر وينذرون أممهم
إذ تهمل حياة الأسرة سوء المصير بانهيار الأخلاق وانحلال روابط المجتمع وانقراض النسل، ولقد وقف المارشال بيتان غداة احتلال الألمان فرسنا في الحرب العالمية الأخيرة، ينادي قومه إلى الفضيلة ويعزو الهزيمة إلى هجر حياة الأسرة فكان مما قاله: «زنوا خطاياكم فإنها ثقيلة في الميزان إنكم نبذتم الفضيلة وكل المبادئ الروحية ولم تريدوا أطفالا فهجتم حياة الأسرة وانطلقتم وراء الشهوات تطلبونها في كل مكان فانظروا إلى أي مصير قادتكم شهواتكم»...
وقديما كانت عبادة اللذة تسرف ببعض الأفراد رجل أو امرأة في الطلاق والزواج فيطلق هذه ليتزوج تلك.. ثم لا يلبث أن يطلقها ليتزوج سواها.. وهكذا .. ما يدفعه إلى الطلاق والزواج إلا نشدان لذة جديدة في فراش جديد.. فكره الإسلام أن يكون هذا من همة المرء وأهدافه فقال عليه السلام: «تزوجوا ولا تطلقوا فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات».
وإذا كان الإسلام يكره للإنسان أن يتخذ الزواج وهو أمر مشروع وسيلة لتحصيلة اللذات فهو أشد كرها أن تتخذ الخلائل والأخدان ونحوهن لتحصيل هذه الأغراض الجسدية التي كان من ورائها ما أزعج المصلحين بأوربا على النحو الذي أوردناه وإنك لتجد هذه الكراهة الشديدة بل هذا التحريم في مثل قوله تعالى: «ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا».
ومن أجل هذا وصيانة لكرامة الجنس البشري، بصيانة تراثه الروحي ومثله الإنساني العليا، وصيانة له من الارتداد إلى حياة البداءة الحيوانية بل صيانة له من الانقراض سد الإسلام الحنيف كل ذرائع الفساد أمام هؤلاء الذواقين والذوقات الذين عبدوا اللذة، واتخذوها هدفا في الحياة وقرر لكل من يشذ في علاقاته الجنسية عن النمط المشروع عقوبة رادعة تذهب في بعض الحالات إلى الإعداد على صورة زاجرة تحفظ للمجتمع وقاره وتقمع في نفوس المستهترين كل نزوات الإفك والمجون، ناظرا في ذلك إلى تكافؤ العقوبة مع خطورة العواقب الجسمية المرتقبة لا مع جناية الأفراد بعضهم على أعراض بعض فحسب.
العامل الاقتصادي ..وأثره في الامتناع من الزواج:
وكان من أثر ما جاء به التطور الحديث أيضا من حرية واسعة في السلوك والعقيدة وأهداف في المال والمنفعة واتجاه حسي محض يعلو على الواقع المادي ولا يبالي الإيمان بالغيب أو بما وراء الجس كان من أثر ذلك أن فقد أكثر الناس إيمانهم بالله وفقد المقلون منهم، أو ذوو الدخل المحدود نفحات ذلك الإيمان التي تطلع على أربابها كل آن بأن الله هو الرزاق يرزق المؤمن من حيث لا يحتسب أي حرموا ذلك الأفق الروحي الذي كان يطلع عليهم منه الرجاء في الله من الليونة الرضا.. ويمد العزيمة بالفأل الطيب الذي يستقبل به مع كل يوم رزقها الجديد حرموا ذك كله فإذا هو ظلمات كثيفة دامسة، يتهددهم منها أشباح الفقر المخيفة .. فهل مثل هذا يقدم على زواج أو يفكر فيه؟؟
إن هذا مرض نفساني خطير لا يني صاحبه عن الزواج فحسب، بل يفقده الكثير من معالم إنسانيته وأسباب صلاحيته للحياة، فإن عزمات الأمل والتفائل مظهر التجاوب مع الحياة وسبيل الإسهام في بناء الحضارة الصالحة. وأمراض النفوس جميعا في منطق الإيمان ومنطق الواقع إن هي إلا أوهام لا تقوم على أساس ولا تمت إلى أي حقيقة بصلة فالمال كما هو مشاهد غادر ورائح لا يستقر في بيئة واحدة بل تطوف به الأيام على مختلف البيئات والأفراد، وفق سنن مقررة مواهب يهبها الله لتهيئة أسباب المغايرة والتداول وفي ذلك يقول الله تعالى: «وتلك الأيام نداولها بين الناس».
وذلك إذا كان هو منطق الإيمان والواقع فهو كذلك المنطق الذي ينبعث منه الأمل ولا مجال معه لأوهام التشاؤم والتطير ولذا نرى القرآن الكريم يعالج عقد التوجس في نفوس أتباعه الفقراء، ويحرر عزائمهم من هواجس الضعف والوهم فيردهم إلى وعد بالغنى من الله سبحانه إذا أقدم منهم على الزواج من لا روح له، وذلك قوله تعالى: «وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم ومائكم إن كونوا فقراء يغنهم الله من فضله» أي زوجوا من لا زوج له منكم، ولا تكن ظروف الفقر داعية إلى تأخيره فإن الرجاء في الله موشك أن يأتي بالسعة والرخاء.
وذلك الوعد الإلهي يتخذ في نفوس المؤمنين مكانة السنة المنجزة لا محالة لا مكانة النصيحة التي تعلل بالأماني رجما بالغيب.. ولذا كان أبو بكر خليفة النبي صلى الله عليه وسلم يقول (أنجروا ما أمركم به الله من الزواج ينجزلكم ما وعدكم من الغنى) وكان عمر بن الخطاب يقول من بعده «عجبي ممن لا يطلب الغنى في الزواج وقد قال تعالى: «إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله».
ولسنا بحاجة إلى تكرار ما أسلفناه من مضار الامتناع عن الزواج، ولكن الإنسان لا يملك نفسه من الإعجاب والعجب بالأسلوب الفطري الذي يعالج به الإسلام أزمات النفوس فيقي مجتمعه شتى أزمات العقد والانحرافات ويعطينا صورة جميلة للمجتمع المؤمن الذي يحيا في طهر وعفة ويعيش فيه المرء على موعد مع الغنى إلى صورة المجتمع الذي يحيا في دنس وتحلل ويعيش فيه المرء على موعد مع الفقر لنعقد موازنة (200) بين مجتمع الإيمان، ومجتمع الشيطان ونذكر على وجي هذه الموازنة قول الله تعالى: «الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم».
الاختيار في الزوجية
أسس الاختيار
تعتبر مسألة الاختيار في الزوجية مشكلة من المشاكل المعقدة التي تواجه الشباب المسلم في وقتنا الحاضر بسبب ما أصاب المجتمعات الإسلامية من انحراف وما طرأ على الحياة الإسلامية من عوامل نفسية وثقافية واجتماعية تتحكم في رغبات الشباب واتجاهاته وميوله في عملية الاختيار الزواج ابتعدت به عن هدى الإسلام في هذه المسالة.
هذا إلى جانب ما يعترض الشباب من صعوبات في طريقة الاختيار وفهم كل من الطرفين للآخر ومعرفة الصفات والمعايير العامة والخاصة التي تختلف من فرد إلى فرد ومن أسرة إلى أسرة.
ولما كان مستقبل الحياة الزوجية يتحدد من نقطة البدء ويتوقف نجاح الزواج أو فشله على الأسلوب الذي اتبع في اختيار كل من الشريكين للآخر فهذه بعض المعايير من حصيلة العلم النافع والتجارب المفيدة لمن يريد قيام بيت الزوجية على أساس سليمة.
1- ضرورة رؤية كل من الطرفين للآخر:
إذا كان حسن الاختيار في الزوجية هو أول الأسس في بناء البيت واستقرار الأسرة فإن رؤية كل من الطرفين المقبلين على الزواج هو الخطوة الأولى وبداية الطريق الصحيح في جميع الاتفاقات على صورة الحياة الزوجية في مقبل أيامها فكيف يستطيع كل من الطرفين أن يفهم صاحبه بدون هذه الرؤية وكيف يوجد التوافق الروحي والميل القلبي بينهما إن لم يتمكن كل من الطرفين من شاهدة شريك المستقبل؟
لهذا أجاز الإسلام التحدث والنظر إلى ما هو ضروري أن ينظر إليه قبل الخطبة حتى لا يفاجئ أحد الخاطبين أو كلاهما بصفة في صاحبه ما كان ينتظرها منه أو لا يحب أن تكون فيه فيحدث النفور الذي ينتهي بالتفريق كما حدث لامرأة ثابت بن قيس، فلم تكن قد رأته قبل ليلة الزفاف وتحدثت عن سبب نفورها منه وإرادتها الافتراق عنه فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم:
«رفعت جانب الخباء في ليلة الزفاف فأقبل في عدة من الرجال فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها وبي من الجمال ما ترى ولست أعتب عليه يا رسول الله في خلق ودين ولكني أكره الكفر في الإسلام تعني إذا لم يطلقها تخاف من الارتداء عن الإسلام حتى يفرق بينهما فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لثابت: أقبل الحديثة وطلقها تطليقه... وكان صداقها الحديقة..
فما كان سبب افتراقهما إلا عدم الرؤية فلو أنها قد رأته قبل ذلك لما كانت قبلت الزواج منه، ولما حدث ما حدث، أو كانت قبلته على ما هو عليه فلم يكن لها عذر في طلب الافتراق.
لذا، فعلى من يريد الزاج وبقصد من ورائه تكون بيت إسلامي مستقر أن ينظر ويدرس فلا يفعلا سببا من الأسباب التي يمكن أن تؤدي في المستقبل إلى نزاع أو خلاف يهدد البيت ويزلزل كيانه وهذا كله ليكون بناء الأسرة على أساس متين يبقى مدى الحياة قويا مليئًا بالسعادة والهناءة.
2- الاتفاق في المبادئ:
ويشمل الاتفاق في العقيدة والقيم والاتجاهات والميول والأفكار الأساسية والنظرة إلى الحياة بوجه عام.
فإذا لم يكن هناك توافق في هذه الجوانب فستصير الحياة الزوجية إلى تنافر وشقاق أو إلى نفاق يعود بعواقب وخيمة على الذرية والجيل الجديد..
فإذا افتراضنا جدلا أن فتاة مؤمنة من الطلائع الجديدة تزوجت شابا عصريا فإن مراسيم الزواج التي أجريت تكون في نظر الأخت المسلمة ذات معنى عميق فهي تعر أن ثمة ارتباط يباركه الله فتواجه ذلك الشعور بخشوع وإيمان أما بالنسبة إلى الشباب فإن كل ذلك لا يتعدى في نظره حدود إجراءات قانونية لعقد مدني لا تحمل في ثناياها أكثر من نظرته إلى إجراءات التعاقد على إنشاء شركة تحقق منفعة فهو لا يشعر بأدنى خشوع أو انطباعات أخرى سوى أنه قام بإجراءات قانونية يتبعها غيره من الناس.
وإذا استمرت الحياة الزوجية ورزق الزوجان أولادا، فإن الزوجة لا تعتبر وجودهم مجرد نتيجة لغريزتها البشرية بل إنها تبدأ حينئذ في محاولة صياغة فرد مسلم جديد تأمل أن يقوم فيم بعد بدور في مطالب الأمة المسلمة وحاجاتها إلى قيام مجتمع مسلم ينهض برسالتها كخير أمة أخرجت للناس أما الزوج فإن إحساسه بوجود أولئك الأولاد لا يتعدى الإحساس الذي يساور كل إنسان عادي في حبه للحصول على نسل يرى فيه صورته ويرث ثمار أتعابه في الحياة..وإذا ما كر أولئك الأولاد وأصبحوا يحتلون مراكز في المجتمع أو الدولة فإن تلك المراكز في نظر الزوجة ليست مجرد مطامع بل إنها واجبات ووظائف تحقق أهدافها أسمى وأرفعه هي واجبات الإنسان المسلم المستخلف من قبل الله بمنهج الله الذي يصلح ما أفسده المفسدون أما الزوج فإذا لم نقل إنه يعتبر تلك المراكز أهدافا في ذاتها تنتهي عندها كل آماله فلا أقل من أن يعتبرها متعة لا بد من العمل على بقائها والمحافظة عليها.
ومما لا شك فيه أن الاتفاق في جميع الجزئيات والأذواق والإحساسات من الأمور المستحيلة إذ لا يوجد شخصان من صورة واحدة فلا يتفق التوأمان من خلية واحدة في كل الأمور فكيف يتفق جنسان من خلايا مختلفة وعاشا في بيئات وأجواء عائلية مختلفة إنما مطلوب هو الاتفاق على المبادئ التي يقوم على أساسها البيت المسلم وتتوجه الحياة فيه على ضوئها وجهة إسلامية هدفها مرضاة الله وتحقيق أهداف الإنسان المسلم في الحياة وأهداف التربية الإسلامية في تنشئة جيل مسلم يعيد اللأمة المسلمة مجدها وعزتها.. إنه لابد من الاتفاق على هذه المبادئ لأنها تؤثر في حياة البيت المسلم والاختلاف فيها يؤدي يوما إلى التفرقة وإن لم يؤدي إلى التفرقة فلا يكون هناك توافق وانسجام على الأقل.
وإذا لم يكن هناك توافق وتكيف وانسجام روحي ونفسي في الحياة فلا يكون ثمة معنى للحياة بوجه عام وللحياة بوجه عام، وللحياة الزوجية بوجه خاص.
3- التوافق الروحي:
هناك قاعدة ندركها من معاشرتنا وعلاقاتنا بالناس، وهي أننا لا نجالس ولا نصاحب ولا نخالط من الناس إلا من نستريج إليهم روحيا ولا نختار الإخوان والأصدقا إلا منهم.
هذه القاعدة تنسحب على قاعدة الاختيار في الزوجية فالخاطب عندما يرى فتاة لأول مرة: إما أن تهفو إليها روحه وتجد مكانا في قلبه أو لا يحس نحوها ميلا قلبيا وامتزاجا روحيا وذلك قبل أن يختبرها وذلك مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».
فالأرواح الطيبة تتوافر مع الأرواح الطيبة والأرواح الخبيثة تنسجم مع الأرواح الخبيثة وقد قيل إن الطيور على أشكالها تقع وصدق الله العظيم «الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات والطيبون للطيبات» فذلك عدل الله في اختياره الذي ركبه في الفطرة وحققه في واقع الناس وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة وأن تمتزج النفس الطيبة بالنفس الطيبة وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج ولقد أحبت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة حبا عظيما فما كان يمكن أن يحببها الله لنبيه إن لم تكن الصديقة بين الصديق طيبة النفس زكية الروح.
فإن تم الزواج فإنه لا يمكن أن ترفرف عليه روح البهجة والسرور والسعادة مالم يسبقه هذا اللقاء الروحي.
4- الاتفاق على نوع الحياة
إذا كان الاتفاق في المبادئ يشمل الاتفاق في الجوانب العقلية والروحية والنفسية من الحياة فإن الاتفاق على نوع الحياة يشمل الاتفاق على الجوانب المادية أو الحسية من الحياة أو مظاهر الحياة بوجه عام، فالاتفاق والاختلاف هنا يؤدي إلى ما يؤدي إليه الاتفاق والاختلاف هناك.
تظهر الحاجة إلى هذا الاتفاق إذا كان هناك تفاوت في مستوى المعيشة بين أسرتي الفتى والفتاة فلو كان الفتاة من أسرة غنية والفتى من أسرة رقيقة الحال فإن انتقال الفتاة من حياة الرغد والنعيم الواسعة إلى حياة الشظف والعيش الخشن يكون صعبا وربما لا تتحمله فإن تحملت هذه الحياة أياما فلا تستطيع تحملها سنين طويلة أما إذا وافقت مبدئيا على أن تعيش مع زوجها في السراء والضراء ففي هذه الحالة تهيئ نفسها للتكيف معه حتى في أسوأ الظروف وهذا التهيؤ والاستعداد يبعثان فيها قوة التحمل وروح المواجهة لمصاعب الحياة وجهادها هذا وإذا حدث أنها تململت أو تبرمت في يوم من هذه الحياة لا يكون من حقها الاعتراض على ما تجد من النفقة القليلة لأنها وافقت على هذا وأبدت استعداها وقبولها من البداية.
5- معرفة كل من الطرفين للأخر معرفة جيدة:
إن معرفة كل طرف للأخر معرفة وثيقة يتوقف عليها إلى حد ما معرفة صورة الحياة الزوجية ومصيرها كما تفيد هذه المعرفة في إيجاد استعداد لتحمل وتقبل ما يقع من تصرفات من أحد الطرفين لا يرضى عنها الطرف الآخر ما دام قد عرفها وقبلها.
ومن هنا لا يصح أن يخفي أحد الطرفين شيئا من طبيعة ومزاجه وما لديه من ميول ورغبات لأن الذي يخفي ما عنده، إنما يخادع نفسه ففضلا عن انه لا جدوى من إخفاء صفة فبعد الزواج والمعاشرة ينكشف المستور من الصفات فقد يجد أن ما انكشف من حقيقة بعض الصفات ليست من طاقة التحمل للطرف الآخر، ولا من طباعة الصبر عليها فيتسبب بذلك في النفور والشقاق واختلاف الذي قد يؤدي إلى التفرقة.
إنه قد تستقيم الحياة الزوجية مع وجود بعض الصفات التي تقع في حدود القدرة على التحمل والصبر إلا أن هناك صفات أساسية وقيم عامة فرضها الإسلام علينا لا يمكن أن تستقيم الحياة لا في البيت ولا في المجتمع بدونها مثل الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة والاحترام الحقوق والمشاعر الإنسانية فكيف يعيش الإنسان مع الكذاب المخادع الذي لا يرعى عهدا ولا ذمة ولا يعمل حسابا لمشاعر الآخرين!؟
إذن فمن مفاتيح كشف حقيقة الآخر: المفتاح الخلقي فإذا عرفنا معاملة الشخص الآخر ومدى ما يتصف به من أخلاق حميدة أو ذميمة استطعنا أن نتوقع ما تكون عليه أخلاقه معنا في المستقبل فإذا عرفت أنه يكذب في أحد مجالات حياته فلا تقترب منه لأن الذي يكذب هناك يكذب هنا أيضا والذي يخدع الناس يخدعك أيضا والذي يسئ إلى الناس يسيء إليك يوما ما فمهما ربطت بينكما الروابط فسيء الأخلاق هنا سيء الأخلاق في كل مكان وزمان فصاحب الخلق السيئ كنافخ الكير تفوح منه رائحته الكريهة أينما ذهب وحيثما حل، وصاحب الخلق الطيب كحامل المسك تفوح عطره إينما كان ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دعى إلى مصاحبة الصالحين: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء: كحام المسك ونافخ الكير فحامل المسك: إما أن يجزيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تخد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة»
6- الانتفاع بقانون الوراثة:
أرشد الرسول الكريم المقبلين على الزواج بالدقة في الاختيار والتعرف على صفات الشخص والأسرة التي يريدون الزواج منها فقال صلى الله عليه وسلم «تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس» حتى إذا ما تبين لهم خلو الأسرة من أي ضعف وراثي جسميا كان أو عقليا أقدموا على الزواج وجنبوا أنفسهم وذريتهم عقابيل الصفات والأمراض الوراثية فالوقاية خير من العلاج.
إذ من المعلوم أن الأبناء يرثون صفات آبائهم الجسمية والعقلية، فزواج الأشخاص الأصحاء الأذكياء يؤدي بإذن الله في الغالب إلى إنجاب أطفال أصحاء أذكياء كما أن تزاوج الضعفاء والأغبياء يؤدي في الغالب إلى أطفال ضعفاء وأغبياء.
هذا فضلا عن أن قوة البنية والذكاء يضيفان على الحياة الزوجية الحيوية والنشاط فقوة البنية يؤهل إلى تحمل أعباء الحياة والقيام بتكاليف الأسرة والزواج، والذكاء هو سلاح الشخصية الذي يساعد على النجاح ويجنب الزوجين كثيرا من المتاعب التي ترجع أصلها إلى عدم نضج عقلية الزوج أو الزوجة بالدرجة الكافية التي تساعد على حل المشاكل قبل تفاقهما.
والنضج العقلي الذي تعنيه ليس بالضرورة نتيجة تعليم أو حصيلة شهادات، إنما هو استعداد فطري مع خبرات وتجارب مكتسبة.
وأخيرا ينبغي أن نلاحظ أنه قلما يجد الإنسان الذي يتحلى بجميع الصفات التي يرغب فيها لأن الإنسان المثالي لا يوجد إلا في الأنبياء والمرسلين والكمال المطلق صفة الخالق لا صفة المخلوق.
والذي ينبغي أن نبحث عنه هو الشخص الذي يتمتع بالاستعداد للتكامل وتغيير الصفات غير المرغوب والعادات غير الصحيحة فالاستعداد للتكامل والتفاهم يؤدي إلى التكامل والتفاهم.
وينبغي أن يبحث كل من الشريكين عن الطريقة التي يستطيع بها أن يعامل شريكه كما يحب أن يعامله، وهذا يقتضي التضحية ببعض المطالب الشخصية وهذا مالا بد منه في الحياة الزوجية لكي ترفرف عليها روح السعادة.
وينبغي على كل من الطرفين أن يحاول أن ينال رضى صاحبه وإدخال السرور في نفسه وأن ينسى تضحياته ولا يمتن بها عليه إذ أن كلا منهما عندما يرى الآخر متجردا من أهواء نفسه ومطالب ذاته مضحيا من أجله يزيد حبه له وكلما زاد حب كل منهما للآخر زادت بهجة حياتهما فأساس السعادة هو المحبة وأساس المحبة هو الشعور بالرضى والتقبل للهفوات وأن يهنأ بالعطاء كما ينهنأ بالأخذ بالمحبة تسهل الصعب والعمل النابع من القلب لا يترك أثرا للتعب في النفس.
هذا ولقد بين الإسلام صفات الزوجة الصالحة التي ينبغي أن تختار لبناء البيت الإسلامي.
كيف تختار الزوجة؟
إذا عرف المرء أن الزواج سنة أزلية وأنه هو نفسه فطر على ما يوائم هذه السنن فقد وقف على رأس أمره، وهدى إلى ما يصلحه ويسعد عاقبته وقد سن الزواج للنسل والسكن النفسي والالتقاء على ما يثمر المودة والرحمة ومشاعر الخير والتواصل ومن البديهي أن أفضل الزوجات هي ما يتوفر لها من خصائص النفس ومزايا الروح ما يجعلها أقرب من غيرها إلى تحقيق مقاصد الزواج الحسية والمعنوية على خير وجه...
وإذا يجب أن تنصرف جهود الإنسان العاقل إلى طلب الصفات الكريمة والمعاني الجميلة والخلق الطيب الذي يمثل الإنسانية الراقية.
الزوجة والغنى
ولكن من الناس من جهل قدر الحياة وحسبها مالا يقتني وترفا يوفر لحواس البدن ما يشتهي فراح ينشد الغنى شرطا أساسيا فيمن يخطبها. وذلك انحراف عن طبيعة الأشياء واتجاه الزواج إلى غير ما شرع له..ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: «لا توجوا النساء لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن»
الزوجة والجاه
ومهم من فتنه الجاه يجبر به نقصا أو يرفع خسيسة فراح يتحراه شرطا فيما يتزوجها... وهو كما يرى وثنية تفسد النية وتعالج العلة، بجرثومة الداء، فلا يزيده الجاه المستعار إلا مقتا وذلة وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: «من تزوج امرأة لحسبها لم يزده الله إلا دناءة»
الزوجة والجمال.
ومنهم من كانت همته لذة الحيوان فأصر أن يكون جمال الجسد شرطا فيمن يتزوجها .. وذلك إهدار لمعنى الجمال الحق فالمرأة إنسان وأجمل ما في الإنسان إنسانيته أي دينه وخلقه وصفاته المحببة فإذا أوتيت حظها من ذلك فقد أوتيت الجمال الحق ولذا يقول صلى الله عليه وسلم لمن جاء يسأله عمن يتزوج: «اظفر بذات الدين تربت يدالك».. ولقد جاءه رجل فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فقال عليه السلام: لا .. ثم أتاه الرجل ثانية فنهاه.. ثم جاءه الثالثة، فقال عليه السلام: «تزوجوا والولود فإني مكاثر بكم »... والودود هنا على ما قرره علماء المسلمين هي المودودة المحبوبة لما هي عليه من حسن الخلق ولطف التودد إلى الزوج.
وعلى هذا
-فإذا لم يكن إلا الجمال من غير خلق.. فلا
- وإذا لم يكن إلا المال من غير خلق..فلا
- وإذا لم يكن إلا الدبر والخلق . .فنعم.
- وإذا كان مع الدين والخلق مال أو جاه أو جمال فبالأولى ولكن مع ذلك يستهدف الخلق والدين أولا قبل المال والجاه والحسب.
اختيار الزوج
ما دام الزوج هو اقتران صفات بصفات فأساس قبول من جاء يخطب المرأة أو رفضه يجب أن يكون هو الأخلاق والدين.
ومن التعقيد بل من الوثنية التي تأباها السنن، ولا تستقر عليها الأوضاع أن ندع تقدير الدين والخلق إلى ما عداها من أعراض الغنى، والجاه والمنصب والجنس واللون ونحوه.. فهو إنسان وكفى... وحظه من الإنسانية هو الذي يحدد كفايته لمن جاء يخطبها ولقد وضع الإسلام الحكيم أساس هذه المفاضلة الإنسانية بقوله تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»... وعلى هذا فمن كان ذا خلق جميل وثقافة إسلامية ودين عميق وشخصية محمودة فهو كفء لأفضل امرأة من أي طبقة ومن أي جنس ومن أي لون.. وفي مستوى هذا الأفق الرفيع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه، وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»
هذا ولما كانت مسألة زواج البنت مسألة تتعلق بمصيرها ومستقبلها كله فعلى الآباء أن يلتزموا جانب الأناة والحذر والحيطة ليبعدوا بناتهم عن الشرور والمشاكل التي تنتج عن سوء الاختيار ولهذا نبه الرسول صلى الله عليه وسلم الآباء إلى حسن الاختيار لبناتهم فقال: «النكاح رق فلينظر أحكم أين يضع كريمته؟»
الخلاصة: إن الآباء وأولياء الأمور مسئولون عن تزويج أبنائهم فأب الفتاة ينبغي أن يختار لابنته زوجا صالحا أو أن يساعدها في هذا الاختيار ثم عليه أن يبذل من المال اللازم إن اقتضى الأمر وكان قادرا على تزويج بنته ممن يرى فيه الصلاح.
وإذا كان الأبناء مسئولين عن تصرفاتهم بعد البلوغ بمقدار إدراكهم وإحاطتهم للأمور الحاضرة والمستقبلة فإن مسئولية الآباء عن تصرفات أبنائهم الخاطئة أكبر، لأن خطأهم ناتج عن عدم إرشادهم ومساعدتهم لرؤية الحقائق ولأن جماح الشباب والحب الأعمى قد يجعلان الإنسان أعمى عن رؤية الحقائق والأخطار المحدق به.
الخطبة
ولكن الإسلام مع هذا شرع الخطبة قبل الزواج ليتعرف كل من الخاطبين مدى ما للآخر من ملامح النفس أو ملامح البدن الظاهرة حتى إذا أقدم على إتماما الزوج أقدم وقد وقع صاحبه من نفسه موقعا يرضاه وإلا انصرف عنه وقد كفى كل منهما عاقبة زواج غير مأمون.
وقد روي البخاري ومسلم وغيرهما أن المغيرة بن شعبة خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» أي فإنه أحرى أن تحصل بينكما الموافقة والملائمة.
ولم يحدد رسول الله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة القدرة الذي يراه من مخطوبته إذ المعروف أن الإسلام لا يجز للرجل أن ينظر من المرأة الأجنبية إلى غير الوجه والكفين أما ما عداهما فلم يجزه إذ لا تتعلق به ضرورة من ضرورات الآداب أو المعيشة فضلا عما فيه من الإثارة ودواعي الفضول والفساد مما لا يرضاه الإسلام لمروءات أهله ولكن الإسلام استثنى من ذلك ظروف الخطبة قال عليه الصلاة والسلام: «إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن ينظر منها بعض ما يدعوه إلى زواجها فليفعل».
فللخاطب أن يرى مخطوبته في الملابس التي تظهر بها لأبيها وأخياه ومحارمها بلا حرج .. بل له أن –في نطاق الحديث الشريف أن يصحبها مع أبيها أو أحد محارمها وهي بزيها الشرعي إلى ما اعتادت أن تذهب إليه من الزيارات أو الأماكن المباحة لينظر عقلها وذوقها وملامح شخصيتها فإنه داخل في مفهوم «البعضية» التي تضمها قوله عليه السلام: «فقدر أن ينظر منها بعض ما يدعوه إلى زواجها» وهي بعضية إذا أباحت للخاطب أن يرى نحو الذراعين والرأس فأولى أن تبيح له معرفة الخلق والفضيلة ومدى لباقتها في بعض أنواع التصرف فإن ذلك أحرى كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم – أن يؤدم بينهما.
وذلك طرف من سماحة شرع الإسلام في الخطبة ويسره واعتداله بين الأطراف المتناقضة ولكن ما يدعو إلى الأسف أن من المسلمين من تزمت فرفض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبح للخاطب حتى مجرد الرؤية.. ومنهم من قلد الغربيين فأباح يته وعرضه فيخلو الخاطب بخطيبته أو يخرج معها دون محرم بلا قيد ولا شرط ويكون من عواقب ذلك ما يكون فقد يرخص العرض وتبتذل العفة ويسقط عن الفتاة بهاء الكرامة وقد تبوء من أمرها بعاقبة مذلة وحزن مقيم.
والخير فيما اختار لنا الإسلام..وعلى العاقل الحكيم أن يستقبل كل أمره في ذلك على بصيرة وحذر وأناة، فلا يمكن خاطبا من حقه إلا بعد أن يدرسه ويطمئن إلى دينه وخلقه وعقله ويتبين جده في الأمر وصدق رغبته فيما يريد.. والله الموفق.
حق المرأة في اختيار زوجها
إذا انتهت الخطبة بإتمام عقد الزواج برضا الطرفين فبها ونعمت...
وإلا فاللمرأة ثيبا أو بكرا كمال الحرية في رفض من لا تريده .. ولا حق لأبينها وليها أن يجبرها على ما لا تريده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تزوج الأيم حتى تسـأمر ولا البكر حتى تستأن ....» والأيم هي الثيب التي طلقها زوجها أو مات عنها..والاستئمار هو طلب الأمر، فلا يعقد عليها حتى تشاور ويطلب الأمر منها .. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البكر تستأذن، قلت إن البكر تستأذن وتستحي قال: إذنها صمتها» أي إذا سككتت ولم تعارض فذلك هو الإذن منها فإذا زوجت الثيب دون أن تستأمر فالعقد باطل وإذا زوجت البكر دون أن تستأذن فهي بالخيار: إن شاءت أمضت العقد، وإن شاءت أبطلته.
ومما جاء في الثيب أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد زواجها.
ومما جاء في البكر أن فتاة بكرا ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها عليه السلام.. أي جعل لها الخيار في إبطال العقد أو إمضائه..
وجاءت فتاة إليه صلى الله عليه وسلم فقالت: «إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته فجعل الأمر إليها، أي أخبرها أن أمرها بيدها إن شاءت أقرت ما صنع أبوها، وإن شاءت أبطلته فقالت: «لقد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء»
وذلك في بابه أول وأسمى ما نالت المرأة من الحرية والكرامة والاعتراف بشخصيتها وحقها في قبول أو رفض أي خاطب يتقدم لخطبتها في الوقت الذي كانت تباع فيه كالسلعة وتورث كالمتاع وتعلن في المعابد على أنها أحبولة الشيطان ولا يرعي لشخصيتها أي اعتبار.
المهر
ومن الحقوق التي أوجبها الإسلام للمرأة، أن يدفع لها زوجها مهرا قدرا من المال وذلك في قوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة».
والصدقات جمع صدقة، وهي المهر ... والنحلة كلمة فيها معنى العطاء المفروض قال الإمام القرطبي: «فالصداق عطية م الله تعالى للمرأة»
وق كانت مهور النساء في الجاهلية تصير إلى أوليائهن دون أن يكون لهن فيها شيء فلما جاء الإسلام جعل هذا المهر حقا خالصا لها، إذ هو فريضة الله تعالى لها لا لوليها وهو سبحانه يقول: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة» فأضاف الصدقات إلى ضمير النساء لا إلى ضمير الأولياء.. وعلى هذا فليس لأبيها أو وليها أن يأخذه منها كله أو بعضه على نحو ما كان في الجاهلية وكذلك ليس لزوجها أن يأخذ منه شيئا قل أو كثر بل هو ملك خالص لها من دون الناس جميعا تتصرف فيه بمحض مشيئتها بما ترى أنه الخير لها. ولا يلزمها أن تتجهز إلى زوجها بشيء منه إطلاقا إلا أن تفعل ذلك بطيبة من نفسها.
وفي هذا المهر علاوة على أنه حق معنى التكرمة للمرأة إذا لم يرض لها الإسلام أن تتحول إلى بيت زوجها إلا بعد أن يبذل من الألطاف ما تقر به عينها ويعبر به هو عن مبلغ حرص عليها ورغبته فيها.
ومما تحسن الإشارة إليه في ها المقام أن المرأة الغربية لم تظفر بمثل ذلك إلى اليوم فإن العرف ما زال يجري عندهم على ما كان عليه قديما أيام الرومان واليونان القدامى إذ يوجب العرف على والد الفتاة أن يعد لها مهرا «دوطة» ويقدم لمن يتزوجها فتصير تلك الدوطة حقا خالصا للزوج ولا حق لها هي فيه، أو تكون في بعض النظم أمرا مشتركا بنيهما.
هذا وقد دعا الإسلام إلى عدم المغالاة في المهر بما يشق على الزوج تحمله، ورغب في السير الذي يخف به المؤونة وترتاح إليه النفوس، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم الزواج بركة وأيسره مؤونة وقال عليه السلام: «خير الصداق أيسره».
ويسر الصداق أمر اعتباري يختلف باختلاف ما قسم للمرء من رزق فقد يكون مبلغ ما سهلا على شخص وشاقا على آخر باعتبار درجة كل منهما في الزق وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زوجته أم حبيبة وهي بأرض الحبشة فأراد النجاشي أن يقدم مكرمة فدفع المهر لها عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف درهم أو مائتي دينار، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك كثير لأنه بالنسبة للملوك يسير ولكنه عليه السلام حينما جاءه شاب فقير يقول له « إني تزوجت على مائة وستين درهما استكثرها وقال له: «كأنكم تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل».
الفصل الثاني العلاقات الأسرية في ضوء القرآن الكريم
قداسة الروابط بين أفراد البيت
إن السمة الأولى المميزة لطبيعة أي نظام أو تجمع بشري يقوم على قاعدة الإسلام وأحكامه هي خضوع أفراده واستسلامهم الكامل المتمثل في العمل بأحكام الله جميعا وبذلك تتحقق فيهم صفة الإسلام والعبودية لله.. هذه العبودية التي تمثلها وتكيفها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وتتمثل في الشرائع القانونية سواء.
- فليس عبد الله من لا يعتقد بواحدانية الله سبحانه «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد، فإياي فارهبون وله ما في السموات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون؟»
والتوحيد هو القاعدة الأساسية التي تنبق منها كل القيم والموازين كما ينبثق منها منهج الحياة كله في المجتمع المسلم وهو الذي يربط كل حركة وكل نشاط، وكل خالجة وكل انفعال بمعنى العبادة لله التي هي غاية كل نشاط إنساني في ضمير المسلم وفي حياته كلها.
لهذا ليس عبدا لله وحده من يتقدم بالشعائر التعبدية لأحد غير الله «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين».
وليس عبدا لله وحده من يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى الله عن الطريق الذي بلغنا الله به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم «أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله» «وما أتاكم الرسول فخذوه ما نهاكم عنه فانتهوا»
وعلى أساس هذه النظرية الكلية لمعنى العبادة كما تحددها معاني القرآن نجد أن معنى الإسلام يتغلغل حاكما كل لحظة ولمحة من حياة المسلم، فمها كان قدر المسلم في الحياة وحيثما وجد نفسه في أحوالها وجب عليه أن يخضع وينزل على أحكام الله فيها أن يعبد الله بالانقياد والطاعة لله في كل مجالات حياته.
ولئن كان من العبادة شعائر مفروضة ومسنونة أدعى وأخلص لذكر الله وطاعته فهناك وجوه أخرى للعبادة وراء ذلك من خلال ابتاع شرع الله في مختلف أشكال الحياة وأنظمتها: فإذا تكامل إيمان المرء وخلصت عبوديته لله سرت روح الدين في حياته الأسرية وانتظمت كل عمل من أعماله فيها وحملت أعماله إذا ابتغى بها وجه ربه صفة القداسة.
وقد نزلت أحكام القرآن الكريم وتوجيهاته صريحة في إضفاء صفة القداسة على حياة الأسرة وعلاقات أفرادها فلو تأملنا في الآية التي تقول في سورة النساء: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين أحسانا» تجد أنها تبدأ بالأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن إشراك شيء به تبدأ بحرف عطف يربط بين هذا الأمر وهذا النهي والأوامر السابقة بتنظيم الأسرة في نفس السورة فيدل هذا الربط بين الموضوعين على الوحدة الكلية الشاملة المتكاملة في هذا الدين إذ بلى الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك الأمر بالإحسان إلى الوالدين...
إلى تلك المجموعات من الاسرة الخاصة والأسرة الإنسانية.
فمن الملاحظ في طريقة القرآن في الأحكام المتعلقة بالمعاملات بعامة والأسرة بخاصة والعدل في المعاشرة أنه يربط هذه الأحكام والتوجيهات بالله وملكيته للسماوات والأرض وقدرته على الذهاب بالناس استبدال غيرهم بهم مما يدل على ضخامة الأمر وعلاقته بحقيقته الألوهية الهائلة ومن ثم يستجيش تقوى الله في الضمائر فالرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة في الله، هي رابطة الأسرة. لهذا فقد وصف الله هذه الرابطة وهذه العلاقة بالميثاق الغليظ فقال تعالى «وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا».. إنه ميثاق النكاح باسم الله وعلى سنة الله وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته وقداسته قلب مؤمن إذ يخاطب الله الذين آمنوا بصفة الإيمان فيهم ويدعوهم أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ.
والذي ينظر في تشريعات الأسة في القرآن والسنة فيكل وضع من أوضاعها وكل حالة من حالاتها وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات وفي ربط هذا الشأن بالله مباشرة في كل موضع يدرك إدراكا كاملا ضخامة شأن الأسرة والعلاقات بين أفرادها في النظام الإسلامي وقيمة هذا الأمر عند الله إذ يجمع بين تقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا نساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكما رقيبا» كما يجمع بين عبادة الله والإحسان للوالدين في سورة الإسراء وفي غيرها: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا» وبين الشكر لله والشكر للوالدين في سورة لقمان: «ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير» وبعد أن قرن الله سبحانه شكر الوالدين بشكره تعالى جاء التعقيب تذكيرا بيوم القيامة والحساب حيث ينفع رصيد الشكر المذخور.
ومن مظاهر الاحتفال بشأن العلاقات الزوجية والعائلية في النظام الإسلامي هي اتجاه القرآن الكريم لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة بالله، واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة والشعورية لا كما كان ينظر إليها في العقائد الوثنية وعند أتباع الديانات المحرفة البعيدة عن فطرة الله التي فطر الناس عليها على أنها رجس من عمل الشيطان!!
وهكذا نجد أن الإسلام يضع الزواج في مرتبة القداسة ويحيط العلاقات الأسرية بين أفراد البيت بهذه القداسة التي تكفل الاستقرار والاستمرار وفي سبيل هذه الغاية يدفعها إلى مقام طاعة الله.
فلو فهمت الزوجة أن طاعتها للزوج طاعة لله، ولو فهم الزوج أن إسعاده لزوجته وإحسانه عشرتها طاعة لله ولو تربى الأولاد على أن طاعة الوالدين وبرهما طاعة لله ولو تقدم كل منهم بسلوكه في الأسرة منبثقا من هذا الفهم لبارك الله لهم وبارك عليهم وجمع بينهم في خير.
وتظهر أهمية النظرة الإسلامية في العلاقات الأسرية على أنها روابط مقدسة وما تحققه من نتائج في تماسك البيت في دراسات بعض علماء الاجتماع للأسرة فوجدوا أنه لا يسود فيها الاستقرار والهدوء والثبات إلا إذا قامت على أساس الدين الذي يعطي للروابط بين الأفراد القداسة التي تربط بينهم بروابط الرحمة والمحبة أما في العصر الحديث فقد أدت الحياة المادية في حضارة الغرب إلى تفكك نظام البيت وتدهور الحياة الأسرية، فقد أصبحت الروابط الأسرية مجرد عقود مدنية الهدف منها تحصيل لذة ومنفعة شخصية.
وإننا إذ نضع هذه الحقيقة أمام من يريد بناء بيت مسلم فعليه أن يبدأ أولا بفهم الأساس الرباني الذي يقوم عليه الزواج والبيت في نظام الإسلام وأن يستشعر بكل الأسرية وما ينشأ عن قيام الأسرة من روابط حتى إذا ما وفقه الله إلى اختيار الزوجة الصالحة استطاع بإخلاص النية وعون الله بعد بنائه بها أن يقيم يبتا مسلما تتحقق في روابطه معاني القداسة والطهارة.
حقوق الزوجة
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزوجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون»
لكي ندرك جمال هذه الآية نذكر أنه لم يكن للمرأة من الأهلية في كثير من الحضارات ما يجعلها من أرباب الحقوق .. بل ضمن عليها رجال بعض الأديان أن تكون إنسانا فاعتبروها حيوانا نجسا لا روح له.. أو أنها إنسان لا حيوان لكنها إنسان خلق لخدمة الرجل فإذا نظرنا إلى الآية الكريمة من زاوية تلك الأحكام القاسية عرفنا أصالة الإسلام في تقرير الحق بشأن المرأة فهي آية من آيات الله لا حيوان نجس خلقت من أنفس الرجال لا من طينة أخرى فهي من الرجل والرجل منها وقد خلقها الله لتكون زوجة لا لتكون خادمة وذلك قوله سبحانه «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا» وقد خلق تلك الزوجة ليسكن إليها الزوج والسكن أمر نفساني وسر وجداني يجد فيه المرء سعادة الشمل والمجتمع وأنس الخلوة التي لا تكلف فيها وقد ألقى في كل منهما سر الحنين إلى صاحبه والإقبال عليه فهو يدلي إليها بمودته ورحمته، وهي تدلي إليه بمثل ذلك وهو معنى قوله تعالى: «لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة»...
على تلك الأسس الفطرية الجميلة شرع الإسلام مركز المرأة في الحياة ورسم علاقتها بالرجل وقرر ما بين الزوج والزوجة من أصول التعاون على رسالة الزوجية ونحن موردون من ذلك ما لابد منه للرجل المسلم الذي يريد أن يقيم بيته علاقته بزوجته على أصول الإسلام إن شاء الله.
هذا وقد جرى أكثر العلماء في كلامهم عن حق كل من الزوجين على الآخر بتقديم الكلام على حق الزوجة مما يدل على مدى اهتمامهم بأمرهم ومراعاة أنها الجانب الأضعف والأحوج إلى العطف والرحمة وحسن الرعاية.
وقد حث القرآن الكريم الرجال على القيام بحقوق أزواجهم سواء أكانت هذه الحقوق واجبة أم مستحبة وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال أن يستوصوا بالنساء خيرا ولذلك حاول كثير من العلماء حصر حقوق النساء على أزواجهن فيما يلي:
النفقة
لا تلزم الزوجة ولو كانت ذات مال أن تنفق على نفسها شيئا من مالها قليلا أو كثيرا إلا أن تتطوع به عن طيبة نفس والزوج ملزم بنفقة زوجته من حين عقد الزواج: يعد لها المسكن والمتاع ويوفر لها الطعام والشراب والكسوة بالمعروف».... وعلم من الحديث:
- (أ) نفقة الطعام والكسوة ولم يذكر الحديث المسكن والفراش والغطاء ونحوها لأنه قد ورد بالقرآن الكريم في قوله سبحانه: «أسكنوهن م حيث سكنتم من وجدكم» أي على قدر ما يطيقه كل منكم فإذا لزمه السكن فقد لزمه الفراش والغطاء بما يدفع ضرر الأرض والبرد ونحوهما.
- (ب) إن نفقه الطعام والكسوة تقدر بطاقة الزوج وقدرته المالية: فالغني ينفق من سعته والمقل على قدره لقوله سبحانه: «لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله» وهو مقتضى قوله عليه السلام:
رزقهن وكسوتهم بالمعروف».
فإذا قصر الموسر مثلا أن يكسو زوجته الحرير حكم عيه بذلك وفاء أمر الله ورسوله من حقها سئل الزهري عن لبس النساء للحرير فقال: «أخبرني أنس بن مالك أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم برد حرير».
إحسان العشرة
وفي إحسان عشرة الزوجة يقول الله تعالى: «وعاشروهن بالمعروف» ويقول سبحانه: «ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن» أي أنه يطلب التوسيع عليهن في المعاملة ويحرم ما يضرهن فمن استقام على ذلك مع زوجته فهو المسلم المقيم لحدود الله ومن ضيق عليها وضارها بسوء خلقه وشراسة طبعه، فليس ذلك من الإسلام في شيء.. وفي هذا المعنى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خياركم خياركم لنسائهم» ويقول في حديث آخر:
خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»
(أ) ومن حسن المعاشرة ألا يألو جهدا في الترفية عنها بما يدخل عليها السرور . .قالت عائشة رضي الله عنها: كنت ألعب بالنبات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته» والبنات هي اللعب على هيئة التماثيل الصغيرة ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يحضر تلك اللعب ويطلع علها مع ما فيها من مماثلة للأصنام الكبار التي جاء لتحطيمها قال: «كان لي صواحب يلعبن معي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن- أي يستخفين – فيسر بهن إلي فيلعبن معي».
ومن حسن العشرة أن يكون طلق الوجه مع زوجته يحس اختيار الكلمة الحلوة ويشكرها على ما تؤديه من خدمة له ولأولادها فإنها غير مكلفة شرعا بشيء من ذلك ويحاول أن يسري نها إذا غضبت ويخفف عنها إذا تعبت.
ولو أنك مازحت زوجتك تبتغي إدخال السرور عليها لوجه الله لكان ذلك حسنة توضع في ميزانك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك» والمراد هنا المداعبة فوضع اللقمة من الزوج في فم امرأته لا يليق إلا أن يكون في مداعبة أو مرض.
وهكذا يستطيع المسلم الفاهم غير المعقد وغير المكبل بأغلال المفاهيم الخاطئة أن يجعل من مخدعه هو وزوجته محارب تعبد باستمتاع بعضها ببعض ومؤانسة بعضهما لبعض.
وكان النبي يسابق السيدة عائشة فتسبقه أو يسبقها وكان عليه السلام يجمع نساءه كل ليلة فيتبسط معهن في الحديث ويلاطفهن حتى تنصرف كل منهن إلى مضجعها وهي قرير العين.
ويستطيع كل إنسان في ضوء المسامحة أن يعرف كيف يلاطف زوجته بما يسرا ويرفه عنها وإذا كان الرسول عليه السلام يدع التحرج في ملاطفة زوجته باللعب التي تشبه الأصنام فأحرى أن تسعنا الملاطفة فيها لا شبهة فيه والعبرة بكياسة المرأة ولطف حسه وذوقه ووقوفه عند حدود الله.
(ب) ومن حسن عشرتها حسن الظن بها وترك التجسس عليها وعدم تتبع عثراتها فمن الأزواج من تذهب به الغيرة إلى سوء الظن الذي يقوده إلى تأويل كثير من كلماتها أو حركاتها تأويلا سيئا يفسد عليه عيشة معها ويدعوه إلى التجسس عليها ومفاجأتها في البيت لينظر ما تفعل أو لينظر من يكون معها وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما نقل عنه جابر رضي الله عنه –قال: «نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يطلب عثرتهم» والتخون أن يطن وقوع الخيانة من زوجته والمراد أن يطرقها مفاجأة ليعرف ما تكون عليه من عثرات فحسن الظن بها وإشعارها بكمال الثقة أولى.
وهذا من آداب الإسلام التي تفرد بها: حسن الظن بالزوجة وعدم الاستسلام لمثيرات الغيرة.
(ث) هذا ويدخل في حسن المعاشرة المحافظة على حياتها إذ أن جمال المرأة في حيائها وكذلك المحافظة على حقوقها الزوجية من إعطاء حقها في الفراش.
(ج) عدم كشف سرها لأحد لأن ذلك ينذر بالقطيعة ويخلق الحقد والضغينة ولأنه يعتبر من سوء الخلق ولهذا كله فقد منع الإسلام كشف سرها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها»
(ح) السماح لها بزيارة أهلها إذا أرادت ذلك والسماح لأهلها بزيارتها في بيتها في أوقات معلومة لأن ذلك من صلة الرحم وهي واجب في الإسلام فإذا هي أرادت هذه الصلة فمعنى ذلك أنها تريد أداء حق من حقوق الإسلام عليها.
(خ) مساعدتها ومعاونتها عند الحاجة كما كان يفعل الرسول الكريم مع نسائه ولا سيما في الحالات المرضية.
(د) احترام ملكيتها الخاصة وألا يتصرف فيها إلا بإذنها.
تعليمها ما تحتاجه من أمور الدين
الرجل مسئول عن امرأته أمام الله، لأنه راعيها وكل راع مسئول عن رعيته كما جاء في الحديث الصحيح فيعلمها مالم تتعلمه من الطهارة والوضوء وأحكام الحيض والنفاس والاستحاضة وأمور الصلاة والصيام وقراءة القرآن وذكر الله وواجبها نحو أهلها وجيرانها وأقاربها وكيف تلبس ملابس شرعية وكيف تجتنب الخلوة بالرجال وكيف تخاطب الرجال وتحادثهم إن دعا إلى ذلك داع إلى آخر ما يطلب منها شرعا فإن لم يستطع فعليه أن يسأل العلماء ويبلغها فإن لم يفعل وجب عليه أن يأذن لها لتخرج وتتعلم فإن لم يأذن لها وجب عليها الخروج بغير إذنه بالنسبة لتعلم الأمور الواجبة والمحرمة فإذا تعلمت الواجب والمحرم فلا تخرج لطلب العلم إلا بإذنه.
حقوق الزوج
سبق لنا أن عرفنا حقوق الزوجة على زوجها وأدركنا مسئولية الزوج عن زوجته وأن عليه أن يهيئ لها المال والمسكن ووسائل الراحة المادية كما عليه أن يحسن عشرته ويكرم صحبتها ويقوم بكل أسباب الراحة النفسية والاستقرار والبهجة والسرور.
فالرجل في نظام الإسلام هو المكلف أن يسعى ويكد ويتعب من أجل زوجته وأبنائه حاضرا ومستقبلا فيتاجر أو يزرع أو يصنع أو يعمل أي عمل آخر يتعيشون منه وهو المطلوب منه بعد ذلك أن يقوم بالواجبات الاجتماعية فيشارك في التعمير والبناء وأنواع المجاملات والمساعدات المالية وعليه ضريبة الدم يزود بها عن يحاض دينه وماله وأهله ووطنه وعليه أعباء الحكم وإدارة الأعمال والمنشآت والمؤسسات والشركات والحفاظ على الأمن ومطاردة اللصوص والقتلة وجميع المجرمين وهو المكلف أصلا بالبحث والاختراع والاكتشاف للوصول بأمته إلى المكانة العليا.
مرفوع الجانب موفورة الكرامة في رفاهية من العيش.
إن أحمال الرجل ثقيلة وتكاليفه شاقة..
والمرأة لم يطالبها الشرع بشيء من ذلك كله إنما المطلوب منها أمران لا ثالث لهما إن كانت زوجة:
- أن تعيش لزوجها سكنا ورحمة وودا حتى يجد بجانبها السعادة والاستقرار.
- أن تقوم بدور الأمل كاملا مع أولادها حتى تسلمهم للمجتمع رجالا صالحين عاملين.
ونفصل هذين الواجبين على المرأة نحو زوجها في الآتي:
معرفة مكانته:
وهذه المكانة التي للرجل على المرأة يقررها القرآن الكريم في آيتين، إذ يقول الله تعالى: «ولهن مثل الذي عليهن وللرجال عليهن درجة» وقال القرطبي: درجة أي منزلة فزيادة درجة الرجل بقله وقوته على الإنفاق وبالدية والميراث والجهاد إلى أن قال: «فدرجة» تقتضي التفضيل وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه ولهذا قال عليه السلام: «لو أمرت أحدا بالسجود لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها إلى أن قال: «وقال ابن عباس: الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة. والتوسع للنساء في المال والخلق أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه.
وإذا يقول تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم» قال ابن الجوزي في زاد المسير في معنى تفضيل الرجل على المرأة: وفضل الرجل على المرأة بزيادة العقل وتوفير الحظ في الميراث والغنيمة والجمعة والجماعات والخلافة والإمارة والجهاد وجعل الطلاق إليه إلى غير ذلك وفي معنى قوله تعالى «وبما أنفقوا من أموالهم يقول ابن كثير أي من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فالرجل أفضل من المرأة وله الفضل عليها والإفضاء فناسب أن يكون قيما عليها.
ومن هنا تتضح مكانة الرجل كما يقررها الخالق في كتابه العزيز وهي المكانة والدرجة التي يجب على المرأة أن تحيط بها علما لتسلك مع زوجها السلوك الذي يرضاه الله ولتكون دافعا لها في أن لا تتبرم به ولا تمله ولا تنكر فضله عليها إن كانت مسلمة الوجه لله.
فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة».
وعن حصين بن محصن رضي الله عنه أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لها: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم قال: فأين أنت منه؟ (201) قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه (202) قال: فكيف أنت له (203) فإنه جنتك ونارك»
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أعظم حقا على المرأة ؟ قال: زوجها قلت: فأي الناس أعظم حقا على الرجل قال: أمه.
وهنا نقابل جميل يعطي المرأة جزاء ما تقدم فبينهما زوجها أعظم الناس حقا عليها.
إذا بها أعظم الناس حقا على أبنها وهكذا العدل الإلهي المطلق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ينظر الله تبارك وتعالى إلى امرأة لا تشكر لزوجها (204) وهي لا تستغني عنه».
الطاعة وحسن العشرة
جعل الله سبحانه وتعالى الرجل قواما على المرأة ورئيسا لها، فطاعة المرأة لزوجها واجبة عليه وتعذب عليه في الدنيا والآخرة إذا لم ترجع عنه وتعتذر لزوجها حتى يسامحها وحالة الزوجة مع زوجها كحالة الولد مع أبيه بل حق زوجها أكبر بنص حديث «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد» والمرأة الصالحة هي التي تدرك ذلك وتعيه وعيا تاما وتخشى الله في زوجها وتراقبه سبحانه وتعالى في كل صغير وكبيرة مخافة أن يغضب عليها، ولذا قال تعالى:
(فالصالحات قانتان حافظات للغيب بما حفظ الله)
والمعنى أن النساء الصالحات مطيعات لأزواجهن حافظات لغيبتهم إذا غابوا فيحفظن أنفسهم ويحفظن أموال أزواجهن وأولادهم حتى يعودوا وذلك بتوفيق الله لهن وحفظه فالطاعة للزوج أول صفات المرأة المسلمة الصالحة.
والطاعة شيء يدخل في حسن العشرة وقد تطيع المرأة وهي لا تحسن العشرة بل تحسن أن تطيع فيما تؤمر به ولا تبحث عما رواء ذلك مع أن حسن العشرة هام جدا في الحياة الزوجية.
وحسن العشرة ذوق وفن وتربية اجتماعية عالية وبه دوام المحبة الألفة والرحمة وكثيرا ما تحل المشكلات المستعصية بالبسمة الحانية، والنظرة الودود، والمجاملة الرقيقة والأسلوب المهذب والخضوع اللين.
والمرأة التي تطيع زوجها وتحت عشرته تكسب ثقته ودوام حبه وشعوره بالسعادة مع زوجته فيعطي زوجته أضعاف أضعاف ما تعطيه حتى يصل الأمر إلى الزوجة في الحقيقة هي التي تجعل زوجها ملبيا كل رغباتها، بل سعيدا كل السعادة هو يلبي هذه الرغبات فيئول الأمر إلى أن الزوج هو الذي يطيع زوجته وكلما أسبغت المرأة على زوجها من عواطفها ورقتها وحسن اهتمامها به ملكت عليه قلبه وأشعرته بأن سعادته الحق لا تكون إلا معها وقليل من النساء يفهمن ذلك ومن يفهمن لا يعلمن غالبا ولذلك يهرب الرجل.
والطاعة أمر عام يدخل تحته تنفيذ كل أوامر الزوج في غير معصية الله والابتعاد عن كل شيء لا يرضاه أو ينهى عنه ويمنع منه.
فلا تدخل أحدا بيته على بإذنه ولو كان أقرب الناس إليها أو إليه.
ولا تخرج من بيته إلا بإذنه ولو كانت ذاهبة لأبيها وأمها. ولا تتصرف في ماله إلا بإذن خاص أو إذن عام كأن يقول لها تصرفي كيف تشائين فما تحت يدك من مال هذا في الأمور الكبيرة والمبالغ المرموقة أما في التوافه فلا شيء عليها كأن تعطي سائله أو جارة قليلا من الطعام أو المال أو الملابس القديمة ونحو ذلك.
ولا يجوز أن تصوم نفلا إلا بإذنه ولو صامت فاحتاجها جنسيا وجب أن تستجيب له وتفطر وكذلك لا تعتمر نفلا ولا تحد نفلا إلا بإذنه.
أما العمرة والحج الواجبات فإنها تستأذن مجاملة فقط فإن لم يأذن حجت واعتمرت بدون إذن لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
جاء في الوصايا التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أنه أوصى بالنساء خيرا إلى أن قال: «ألاَ إنَّ لكم على نسائكم حقا ولنساِئكم عليكم حقًا فحقكم عليِهن ألا يوطَئنَ فرُشكم (205) من تكرهون، ولا يأذَن في بيوتكم لمنْ تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهنَّ في كِسوتهن وطعامهن».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد (206) إلا بإذن ولا تأذن في بيته إلا بإذنه».
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه (207) فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبد آبق (208) من مواليه حتى يرجع وامرأة عصت زوجها حتى ترجع».
وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المرأة إذا خرجت من بيتها وزجها كاره لعنها كل ملك في السماء وكل شيء مرت عليه غير الجن والإنس حتى ترجع..»
أن تزين لزوجها
إن الطفل النظيف المرجل الشعر المهندم الثياب الطيب الرائحة يحبه كل من يراه.
والحجرة المنسقة المزينة بالزهور والصور الطبيعية والكاسي الوثيرة، والبساط اللين تريح الأعصاب وتجعل الجلوس فيها نوعا من المتعة.
والبقعة الخضراء حين يجري فيها جدول الماء وتتدلى عليها أغصان الأشجار وتسمع فيها تغاريد الطيور هي مكان شاعري يبعث الحب، ويجعل للحياة طعم النعيم.
والزوجة التي يراها زوجها متزينة له متعطرة من أجله، منظفة بيتها ودارها منظمة كل شئونها تستقبله ببسمتها وتربط وجدانه بحلاوة مقابلتها وكلامها تمسح متاعبه بعطفها وحنانها وحسن تصرفها، وتهيئ له الجو الهادئ المناسب لوقت راحته وتوفر له مطالبه التي اعتادها حين يدخل وحين يخرج سواء بنفسها أو بمساعدة الخدم إن مثل هذه الزوجة متاع الدنيا وحوريتها وبهجة الحياة وبلسمها ونور البيت وجماله ،ولو وقفت الدنيا كلها من جانب ووقفت هذه المرأة من جانب لاختار جمع الرجال هذه المرأة لأن بيدها مفاتيج السعادة وكنز الحياة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة».
والمرأة الصالحة فسرت صفاتها في حديث آخر بأنها التي إذا نظرت إليها سرتك وإن أقسمت عليها أبرتك وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك.
وقد كانت المرأة المسلمة حريصة كل الحرص على التزين في كل جزء من جسمها وشعرها ومن تترك الزينة يعرف الناس أنها في حالة حزن إما لموت زوجها أو نفوره منها أو إهماله لها أ ولموت أحد أقاربها. والله تعالى أخبر في القرآن الكريم أن المرأة تعشق الزينة من صغرها وتنشأ فيها فترك الزينة ينافي طبيعتها قال تعالى:
(أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)
فالله يرد على الكافرين الذين يقولون: إن الملائكة بنات الله فيقول لهم ألم تجدوا إلا هذا الصنف لتنسبوه إلى الله وهو الصنف الضعيف الذي ينشأ في الزينة والحلية ولا هم له سواها؟ وهو ضعيف أيضا عند المخاصمة لا يستطيع أن يحج غيره من الرجال ويفحمه كما يفعل الرجال.. وهذه شهادة من الله العالم بطبيعة المرأة والخالق لها.
وفي حديث رواه البخاري خلاصته: أن سلمان الفارسي كان أخا في الله لأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فلم يجده ووجد امرأته متبذلة بغير زينة على غير المعهود من المرأة المتزوجة فسألها عن السبب فأخبرته أن أبا الدرداء لا يهتم بالدنيا ولا بالنساء إنما هو صوام قاوم فلما وصل أبو الدرداء أعد طعاما لسلمان فلم يأكل منه حتى أفطر أبو الدرداء وأكل معه ولما جاء الليل أراد أن يقوم أول الليل فمنعه سليمان حتى الثلث الأخير من الليل ثم قال له: إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعطي كل ذي حق حقه فذهب أبو الدرداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بقول سلمان فقال صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان»
وهذه امرأة عربية ننصح ابنتها ليلة زفافها فروي عنها أنها قالت لها: إنك خرجت من العش الذي فيه درجت فصرت إلى فراش لم تعرفيه وقرين لم تألفيه.
فكوني له أرضا يكن لك سماء وكونه له مهادا يكن لك عمادا. وكوني له أمة يكن لك عبدا ولا تلحفى به فيقلاك (209) ولا تباعدي عنه فينساك إن دنا منك فدنى منه، وإن تأي فبعدي عنه. واحفظي أنفه سمعه، وغيبته فلا يشمن إلا طيبا ولا يسمع إلا حسنا ولا يرى إلا جميلا واعلمي أن أطيب الطيب الماء.
وقال الأصمعي: رأيت في البادية امرأة عليها قميص أحمر وهي مختضبة، وبيدها سبحة فقلت: ما أبعد هذا من هذا «يعني السبحة لا تتفق مع التزين والتجميل فقالت:
ولله مني جانب لا أضيعه وللهو عندي والبطالة جانب
فعلمت أنها امرأة لها زوج تنزين له.
• ومن حق الزوج على زوجته:
أن لا تشتط عليه في طلب مالا يقدر عليه من النفقة ولا تمن عليه إن كانت تنزل عن مالها بشيء من نفقه البيت فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة دخلت على زوجها في أمر النفقة وكلفته مالا يطيق لا يقبل الله منها صرفا ولا عدلا إلا أن تتوب وترجع وتطلع منه على طاقته» (210)
وروي عنه أيضا أنه قال: «لو أن جميع ما في الأرض من ذهب وفضة حملته المرأة إلى بيت زوجها ثم ضربت على رأس زوجها يوما من الأيام تقول: من أنت إنما المال مالي حبط عملها ولو كانت من أعبد الناس إلا أن تتوب وترجع وتعتذر إلى زوجها (211)
• ونحب أن لا تختم هذه العجالة عن هدي الإسلام في حقوق الزوج على زوجته، قبل أن تضع هذه الملاحظات أمام نظر كل زوجة مسلمة تتشوف إلى معرفة مالها وما عليها من واجبات حتى تلزم حدود الله في علاقتها بزوجها وحتى تتقدس هذه العلاقات ويباركها الله.
- المرأة قبل الزواج مسئول عنها أبوها وأمها وأخوها ومن يعولها وبعد الزواج تنتقل هذه المسئولية إلى الزوج فإن عصت الله قبل الزواج وجب على أبيها وأمها وأخيها نهيها عن المنكر ومقاطعتها إن أصرت على المعصية كترك الصلاة والتبرج ووجب على زوجها تأديبها وإجبارها على ترك المعصية حسب الترتيب السابق من الوعظ ثم الهجر في المضاجع ثم الضرب (212) .
- إن المرأة بعد الزواج لا يجوز شرعا أن يتدخل أبوها وأمها وأقاربها في الشئون الخاصة بها مع زوجها على سبيل الإفساد بينهما فإن ذلك حرام، ولو صدر أمر من أبيها وأمر من زوجها فإن الواجب عليها تنفيذ أمر زوجها لأنها انتقلت إليه وصارت الولاية له عليها وأمرها بيده دون أهلها.
- خدمة المرأة لنفسها ولزوجها تابعة لعرف البيئة ومهما يكن من أمر فإن أحدا لم يقل: إن الزوجة عليها أن تخدم أهل زوجها وإجبارها على خدمتهم حرام وظلم سواء كان المخدوم والد الزوج أو أمه أو أخاه أو أخته وكثيرا ما نرى الزوجة تخدم عائلة زوجها ومع ذلك نجد أم الزوج تحرض زوجها عليها وتدبر المكائد لها.
- من حق الزوجة أن تسكن في بيت ومسكن لا يشاركها فيه أحد لأن حرية المرأة مع زوجها وحياتها معه شيء يخصهما فلينتبه الأزواج وأهلهم لذلك فإن أكثر الناس يعيش في خطأ وبعد كبير عن الإسلام
- احترام الزوجة أهل زوجها أمر واجب عليها مثل أبيه وأمه وجده وعمته وخالته وهم شرعا أحق بماله وأولى به من أهل زوجته فمحاولة الزوجة إقحام أهلها على زوجها وإبعاد أهله عنه يعتبر جريمة تعاقب عليها الزوجة في الدنيا والآخرة وعلى الزوج أن يكون في كل أموره رجلا لا تركه المرأة ولا تسخره فيما يغضب الله، ويجعله سخرية بين الناس.
تنظيم علاقة الآباء بالأبناء
إذا كان تنظيم العلاقات بين الزوجين يعتبر أساس البيت فإن تنظيم علاقة الآباء بالأبناء يعتبر بمثابة النتيجة من المقدمة فكما أولى الإسلام عناية الخاصة بالتنظيم الأول، فقد اهتم بالتنظيم الثاني حتى تقوم الأسرة المسلمة مستقرة الدعائم قوية البنيان...
فكلما كان الزوجان صالحين موقفين في الحياة الزوجية متحابين متعاونين نشأ الأولاد مباركين من الله، محفوظين من همزات الشياطين، بعيدين عن أسباب النكد والضغط النفسي، والعقد والانحراف والزيغ والأخلاق الذميمة لأن صلاح الأبوين يعود بالخير على الأولاد ولو مات الأبوان والأولاد صغار.
والعلاقة بين الآباء والأنباء تقوم على تبادل الواجبات فلكل واجبات نحو الآخر، فهناك واجبات الآباء نحو الأبناء، وهناك واجبات الأبناء نحو الآباء ولنبدأ واجبات الآباء نحو الأبناء وهناك واجبات الأبناء محو الآباء ولنبدأ بواجب الآباء نحو أبنائهم فقد أدى جهل الوالدين بالمبادئ العامة للإسلام وأهدافه الخاصة في بناء الحياة إلى سوء التوجيه وفساد التقدير الذي أخرج إلى المجتمعات الإسلامية أجيالا فاسدة لا تمت في أخلاقها وسلوكها وأهدافها في الحياة إلى الإسلام نصله لما كنا في مرحلة إعادة بناء المجتمع المسلم وكان الشباب هو عصب أي مجتمع وروحه الدافقة وبسواعده يقوم البناء فقد أصبح الواجب الأول للأسرة المسلمة هو تكوين جيل مسلم ينهض بأعباء البناء وتتحقق به الآمال..
واجب الآباء نحو الأبناء
اهتم الإسلام كثيرا بالأبناء فهم ثمرة الحياة الزوجية وأمل الأمة فوجد الآباء إلى إحسان تربيتهم والعناية بهم وحضهم على ذلك فقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما نحل والد ولده من نحلة أفضل من أدب حسن» والنحلة هي العطية ولما كان الأولاد في الآخرة شفعاء لآبائهم وأمهاتهم إن ماتوا صغارا وحسناتهم يوضع مثلها في ميزان آبائهم وأمهاتهم إن كبروا صالحين وعاشوا مؤمنين ولهم شفاعتهم إن ماتوا شهداء مقربين إلى الله رب العالمين...
فقد قرر الإسلام لهم حقوقا: بعضها واجب وبعضها مستحب، أهمها النفقة التسوية بينهم في المعاملة، والتربية والتعليم..
• الثقافة
نفقة الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا واجبة على الوالد حتى تشتد عود الذكر ويستطيع أن يعول نفسه، وحتى تتزوج الأنثى والأب الذي يقصر في الإنفاق على أولاده آثم، لأنه يعرضهم بذلك إلى الضياع والتشرد، لقول الرسول الكريم: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» وقوله: عليه السلام: «إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته». وهذه الأحاديث يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع ومسئول عن رعيته».
وقد جعل الإسلام نفقة الرجل على أسرته وأهل بيته مقدمة على أي نوع آخر من أنواع النفقة فقال صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»
وحرصا من الإسلام على عفة المرأة وحيائها ورقتها وجمالها، فقد جعل ثواب الآباء في النفقة على الإناث عظيما فقال صلى الله عليه وسلم: «من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه» وفي رواية أخرى قال: «من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين وأشار بإصبعيه: السبابة والتي تليها»... والمراد من الحديث أن من قام برعاية بنتين أو أختين أو غيرهما فأنفق عليهما وأحسن أدبها جعله الله يوم القيامة في منزلة الجار الملاصق للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وهذا دليل رفع درجاته عند الله بسبب ذلك.
• التسوية في المعاملة.
إن إيثار بعض الأبناء على البعض يعود على الأولاد بأسوأ العواقب لما يولده من روح الحقد والحسد في نفوسهم، وما ينزعه من عواطف الحب والمودة فيما بينهم وفيما بينهم وبين الآباء من جهة أخرى، هذا إلى جانب ما قد تسببه التفرقة في المعاملة من إصابة بالعقد والأمراض النفسية التي تعرضهم للانحراف.
إن إيثار بعض الأبناء بعض الأبناء على البعض ولا سيما إيثار البنين على البنات كما يحدث عادة في مجتمعاتنا بعد أن حادت عن أخلاق الإسلام إلى أخلاق الجاهلية من أقبح الفعال وأرذل الخلال التي حاربها الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا في أولادكم».
والأصل في هذا الموضوع ما رواه النعمان بن بشير فقال «إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما (213) كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه».
وجاء في رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أفعلت هذا بولدك كلهم قال: لا قال: «اتقوا الله واعدلوا في أولادكم» قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة. وفي راوية قال: «فلا تشهدني، إذا فإني لا أشهد على جور» وجاء في شرح الإمام النووي للحديث قوله: «وفي هذا الحديث أنه ينبغي أن يسوي بين أولاد في الهبة ويهب لكل واحد مهم مثل الآخر ولا يفضل ويسوى على الراجح بين الذكر والأنثى وهذا هو الصحيح المشهور لظاهر الحديث الذي لم يفرق بينهما ».
وإذا رجعنا إلى الأحاديث الواردة في الموضوع لأدركنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد لمس جانبا خطيرا في علاج المفاضلة بين الأولاد حيث بين أن الأب في حاجة إلى برهم جميعا وأن المفاضلة نوع من الجور الذي يسبب البغضاء بين الأولاد، كما أنه يسبب قطيعة الرحم وقد يسبب عقوق الأب ومعلوم أن الإسلام حرص حرصا كبيرا على توفير أسباب الوئام في الأسرة الواحدة فحض على صلة الرحم وجعل القطيعة من الكبائر وحض على بر الوالدين، وجعل العقوق من الكبائر فكل شيء يؤدي إلى القطيعة والعقوق يأخذ حكمهما لذلك لا يشك إنسان في أن تفضيل أحد الأولاد إذا كان سيؤدي إلى القطيعة أو العقوق أو إليهما حرام وظلم وخروج عن أصول الواجب نحو الأسرة الواحدة وكثيرا ما يحدث التمزق في الأسرة والتناحر والتقاتل أحيانا بسبب وقوع الأبوين أو أحدهما في غلطة التفضيل سواء التفضيل في العطف أو التفضيل في العطاء المادي.
وقصة إخوة يوسف مع يوسف ومع أبيهم معلومة وهم الذين تربوا في بيت رسول الله من سلالة الأنبياء والمرسلين.
أما إذا كان التفضيل يسيرا غير مؤثر أو كان يرضى باقي الأولاد رضاء حقيقيا أو كان له سبب ومبرر مثل عجز أحد الأولاد لمرضه، أو شدة ضعفه، أو عزوف الناس عن التزوج بإحدى البنات أو كان أحد الولدين بارا والآخر عاقا، أو كان أحدهما متدينا والآخر فاسقًا مستهترًا هنا يقال: إن التفضيل مكروه أو مباح.
وهذا كله في الهبة والعطاء والمتميز الواضح في حال حياة الواهب الصحيح أما إن كان العطاء لا أثر له كما يعطي الوالد مصروفا لأحد أبنائه قرشين مثلا ويعطي آخر ثلاثة وأخر أربعة حسب اعتبارات السن أو الحاجة، أو كثرة الغياب في المدرسة ونحو ذلك فلا شيء فيه لأنه ليس مما يؤثر في النفوس ويولد الحقد فإن كان مما يؤثر فعلى الوالد أن يتصرف التصرف الذي لا يؤثر وليحذر الأب والأم كل الحذر من تدليل الذكور على حساب الإناث ومن إعطائهم أكثر بشكل مؤثر في نفوس البنات، فإن ذلك حرام كما سبق ولا يدخل في ذلك تربية الأولاد والإنفاق عليهم، فإن الواجب على الوالد إعداد البنين والبنات للحياة حسب قدرتهم والدور الذي ينتظره كل منهم في المستقبل فإذا استطاع تعليم لود تعليما عاليا وعجز عن تعليم الآخر أو كان الآخر غير مستعد للسير في خط التعليم إلى آخره فلا شيء على الأب ولا يقال له إن هذا له حق في المال بقدر ما نقص من نفقة بسبب عدم تعليمه لأنه يراعي حالة الأب وحالة الابن أو البنت فما دام لم يقصر فلا شيء عليه.
كما أن الكلام لا علاقة له بما يوصي به الأب لأحد أبنائه أو إحدى بناته بعد موته لأن الشرع أبطل الوصية للوارث إلا إذا أذن بها الورثة (214)
• التربية والتعليم:
إن تربية الأولاد وتعليمهم في مرحلة مبكرة تربية صحيحة من أهم واجبات الآباء أو واجبات البيت عموما نحو الأولاد والمجتمع باعتبار أن البيت هو مدرسة الأطفال الأولى، فإذا لم يقم بوظيفته فلا تعوضها أية مدرسة أو مؤسسة أخرى فليست المهارة في إنجاب الأطفال بل المهارة كل المهارة في تربيتهم وتكوينهم رجالا تنتظرهم أمتهم، وإذا كانت كثرة النسل من المطالب الحيوية الأمة فإن صناعة الرجال من هذه الكثرة من أشد هذه المطالب إلحاحا على أمة تزيد استئناف رسالتها كخير أمة أخرجت للناس.
وإذا كان التربويون قد تواضعوا على أن الطفل يتقبل من آبائه أكثر مما يتقبل من معلمه وأن ما تربى عليه واكتسبه من عادات في صغره من الصعب إزالته عنه في كبره ولذلك يجب الاعتناء به والحرص على تعليمه بحيث لا يلقن إلا العقائد والأفكار الصحيحة، ولا يفعل والداه بمرأى منه ما يخالف الدين والأخلاق الكريمة وآداب المعاشرة السليمة إذا كان التربويون قد تواضعوا على ذلك فإن الإسلام قد سبق وجعل من التربية حقا للطفل على والديه، فقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة».
فالتربية الحسنة حق للآباء والأمهات والتربية الحسنة كما يعنيها الإسلام هي التربية المتفقة مع المنهج القرآني وأهدافه في صياغة الشخصية المسلمة وهي أمانة في عنق الوالدين، إن قصروا فيها ووقع الأبناء في المعاصي.
وانحرفوا عن طريق الله، فإنهم يعذبون على ذلك يوم القيامة فعلى الوالدين أن يعرفوا أبناءهم بربهم وبنبيهم وبكتاب الله، وباليوم الآخر وما فيه، وبرسل الله وكتبه، ليؤمنوا بذلك، وعليهم أن يزرعوا في أنفسهم تقديس وتعظيم بشعائر الله تعالى، وكل ما جاء به الدين من عبادات وأخلاق ومعاملات وعليهم أن يعلموهم التطهر من النجاسات والوضوء والصلاة ويجبروهم عليها بالكلمة وهم أبناء سبع، ويضربوهم عليها وهم أبناء عشر فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع».
وعليهم أن يؤدبوهم بآداب الشرع ويغرسوا في نفوسهم حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وحب الصالحين، وعليهم أن يمنعوهم من الوقوع في المنكر وما حرمه الله تعالى ونهى عنه كتاب الله وسنة رسوله. فعن أبي حفص عمر بن أبي سلمه ربيب (215) رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت غلاما في حجر (216) وكانت يدي تطيش (217) في الصفحة (218) فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام، سم الله تعالى، وكل بيمينك وكل مما يليك»... فما زالت تلك طعمتي (219) بعد.
وعلى الآباء أن يتدرجوا في التعليم حسب سن الأولاد ويبدأوا بالأهم، والأفضل أن يكون التعليم عن طريق القصة، وعن طريق التقليد في الأمور العملية كالوضوء والصلاة.
وللبت أن تتعلم الأمور الخاصة بالنساء مثل الحيض والنفاس وأمثالها من أمها.
وعلى الوالدين كعليم أبنائهم ما يعتبر من الأمور الضرورية حسب تطور العصر الذي يعيشون فيه وحسب طاقة كل منهم مثل القراءة والكتابة والسباحة والرماية والتخصص في صنعة أو مهنة تؤهلهم للعيش الحر الكريم.
وعلى الآباء أن يوجهوا أبنائهم ويرشدونهم في تخير أصدقائهم ولا يدعوهم يصاحبون الأشرار والفاسدين والعصاة فإن الأخلاق تعدي والمرء على دين خليله، وصاحب السوء لا خير فيه لنفسه فلا يكون فيه خير لغيره والوقاية خير من العلاج.
واجب الأبناء نحو الآباء
ليت الأبناء قدروا حق الآباء عرفوا فضلهم عليهم حق معرفته وواجبهم نحوهم حتى يقابلوا الإحسان بالإحسان والفضل بالفضل، والواجب بالواجب ولكن أني لهم ذلك إن أقل الواجب عليهم: الطاعة والبر والإحسان مقابل إنعامهم عليهم وتعبهم من أجلهم وهم صغار، وكيف لا يجب على الإنسان أن يطيع والديه وقد حملته أمه وهنا على وهن ووضعته وهنا على وهن، وحملته حين كان جنينا في بطنها وحملته بعد أن وضعته في حضنها أيام وشهور وكم سهرت عليه لراحته واستيقظت من نومها لصياحه، ومرضت لمرضه وبكت لبكائه والأب كم كد وجد وتعب من أجل ولده رعاية لنموه ومحافظة على صحته وحياته...
فإذا كان الأمر كذلك أليس من الواجب معاونتهما ودفع الأذى عنها والإنفاق عليهما ولا سيما إذا كانا قد ضعفا وعجزا أو مرضا وشاخا وأخذا ينظران إليه نظرة من يطلب الوفاء ورد الجميل، فهل يقابل النعمة بالنعمة والإحسان بالإحسان أم يسيء إليهما بعد إحسانها إليه؟
إذن فلا غرو، أن شرع الله واجب الإحسان إليهما والبر بهما بعد واجب توحيده وعبادته، وجعل الإحسان إليهما قضاء وإلزاما فقال تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا» وقال تعالى: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا»
لقد جعل الله مرتبة الإحسان إلى الوالدين بعد توحيده وعبادته ولم يقدم على الوالدين مخلوقا ولذلك قال الإمام النيسابوري في تفسيره: وإنما جعل الإحسان إلى الوالدين تاليا لعبادة الله لوجوه منها:
- أنهما سبب وجود الولد، كما أنهما سبب التربية، فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين.
- ومنها: أن إنعامهما يشبه إنعام الله تعالى من أنهما لا يطلبان بذلك ثناء ولا ثوابا.
- ومنها: أنه تعالى لا يمل من إنعامه على العبد وإن أتى بأعظم الجرائم فكذا الوالدان لا يقطعان عنه مواد كرمهما وإن كان غير بار بهما.
- ومنها: أنه لا كمال للولد إلا ويطلبه الوالد لأجله ويريده عليه كما أنه تعالى، لا يرضى لعباده إلا الخير ومن غاية شفقة الوالدين: أنهما لا يحسدان ولدهما إذا كان خيرا منهما بخلاف غيرهما فإن لا يرضى أن يكون غيره خيرا منه.
ولهذا حكم رسول صلى الله عليه وسلم بأن الولد وماله ملك لأبية فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فدعا أباه فهبط جبريل عليه السلام فقال: إن الشيخ قد قال في نفسه شيئا لم تسمعه أذناه.
فلما قدم فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما ادعى ولده.
فقال: سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو إحدى خالاته؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعنا من هذا وأخبرني عن شيء قلته في نفسك ولم تسمعه أذناك!
قال الرجل: لا يزال الله يزيدنا بك بصيرة ويقينا نعم.
قال: هات.. فأنشأ الرجل في خطاب ولده:
غذوتك مولودا وعلتك يافعًا تعل بما أحنو عليك وتنهل (220)
إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ
تخاف الردي نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت حت مؤجل
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل (221)
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذا لم ترى حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن علي بمال دون ذلك تبخل
فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما سمع بهذا حجر ولا مدر إلا بكى، وأخذ بتلابيب الولد أي بمجامع ثيابه وقال: أنت ومالك لأبيك.
• من معاني البر والعقوق:
قال الإمام القرطبي: بر الوالدين: موافقتهما على أغراضهما وعلى هذا إذا أمر أحدهما ولده بأمر وجبت طاعته فيه إذا لم يكن ذلك الأمر معصية وعن سعيد بن أبي برده قال: سمعت أبي يحدث أنه شهد رجلا يمانيا يطوف بالبيت وقد حمل أمه وراء ظهره ويقول:
أنا لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال يا ابن عمر: أتراني جزيتها؟ قال لا ولا بزفرة واحدة!!
وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه أبصر رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي فقال أبو هريرة: لا تسمه باسمه، ولا تمشي أمامه، ولا تجلس قبله».
وسئل الفضيل بن عياض عن بر الوالدين فقال: ألا تقوم إلى خدمتها وأنت كسلان وقيل: ألا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر إليهما شزرا ولا يريا منك مخالفة في ظاهر أو باطن وأن تترحم عليهما ما عاشا وتدعو لهما إذا ماتا.
ومن البر الإنفاق عليهما إذا احتاجا إلى نفقة والتوسعة عليهما إن كانت حالتهما أقل من حالة ابنهما أو بنتهما وأن يرحم أباه وأمه من الأعمال الوضيعة ويكفيهما النفقة.
وعقوق الولدين: هو إهمال حقوقهما والخروج عن طاعتهما وفعل مالا يرضيهما وإيذاؤهما ولو بكلمة مرة أو نظرة شزرة فمن أفعل شيئا من هذا استحق سخط الله تعالى، وحرم تأييده وتوفيقه وارتكب إثما من أكبر الكبائر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأكبر الكبائر قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور والزنا» وقال صلى الله عليه وسلم: «من الكبائر أن تسب الرجل والديه قالوا: وهل يسب الرجل أباه؟ فقال: نعم يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه»...
حق الأم في البر أكبر من حق الأب
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك: قال ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من. قال: أبوك.
قال الإمام القرطبي: فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد به الأم دون الأب، فهذه ثلاث مشقات يخلو منها الأب.
• من بر الوالدين استئذانهما للجهاد:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فاستئأذنه في الجهاد «فقال أحي والداك؟ قال: نعم قال: فقيهما فجاهد».
وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك أحد في اليمن؟ قال: أبواي قال: أذنا لك؟ قال: لا قال: فارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذن لك فجاهد وإلا فبرهما ويستدل الإمام القرطبي من هذه الأحاديث وغيرها على قوله: من الإحسان إليهما والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما.
وهذا دليل على وجوب استئذان الأبوين للجهاد إذا لم يتعين الجهاد إذا لم يتعين الجهاد عليه لأنه حين يتعين يصير فرض عين لا فرضا كفائيًا وهو يصير فرض عين في الأحوال الثلاثة الآتية:
- أن يهاجم العدو بلده
- أن يختاره الإمام المسلم للقتال
- أن يكون الجيش الذي يدافع عن بلد إسلامي غير كاف ويستطيع أن يساعد هذا الجيش.
• بر الوالدين بعد وفاتهما:
ولا يقتصر البر بالوالدين في حياتهما فلهما هذا الحق على أولادهما بعد موتهما أيضا وذلك بالاستغفار لهما والدعاء لها بالرحمة والعفو ودخول الجنة والنجاة من عذاب القبر ومن نار جهنم فقد قال تعالى: «وقل رب ارحمها كما ربياني صغيرا وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكر أن عمل المرء ينقطع بموته إلا من ثلاث ذكر منها الولد الصالح الذي يدعو له ويصل الوالدين بعد الموت ثواب صدقة الأبناء عنهما فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: «إن أبي مات ولم يرص أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال نعم كما ينفعهما الصلاة لهما وقراءة القرآن والصيام وجميع الطاعات عند أهل السنة، فذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي إلى ذلك.
ولا يخفى على الأبناء أن من الواجب عليهم سداد الديون عن الوالدين بعد موتهما..
ومن برد بالوالدين بعد موتهما صلة أقرابهما أصدقائهما فعن أبي بردة رضي الله عنه قال قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال أتدري لم أنيتك؟ قال لا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده» وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك أخاء وود فأحببت أن أصل ذاك»... عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله يقول: إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه».
وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من نبي سلمة فقال: يا رسول الله هي بقى من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما (222) والاستغفار لهما (223) وإنفاذ عهدهما من بعدهما (224) وصلة الرحم التي توصل إلا بهما (225) وإكرام صديقهما».
الفصل الثالث أسرار التربية السليمة
الطفل هو أغلى ما يملك الإنسان في هذه الحياة بعد الإيمان بالله، وهو قطعة منه، ولهذا قال الشاعر:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
والطفل امتداد لحياة الإنسان وعمله على الأرض وفرع من شجرته...
والطفل يولد على فطرة الإيمان والتوحيد وأبوية يمكن أن ينحرفا به إلى الشرك والكفر فيشقى وتشقى به أمته... ولمكانة الطفل العظيمة في قلب والده ولأنهما مسئولان عنه وعن تربيته أمام الله يوم الحساب صار من الواجب عليهما أن يبذلا أقصى العناية والرعاية لينشأ أولادهما على حب الله ورسوله وحب والديه وحب المؤمنين وحب الخير لأمته المسلمة التي تنشد جيلا قويا بإيمانه وأخلاقه يحقق آمالها ويستعيد قوتها وعزتها.
أسس التربية السليمة
يبدأ العمل التربوي الإسلامي في تكوين الشخصية المسلمة في وقت مبكر: منذ اللحظة الأولى في أبناء البيت المسلم حيث تنبت الناشئة وتدرج منذ اختيار الزوجين إذ من أصلابهما ومن دمائهما يجي الطفل ومعه وراثات واستعدادات ، ومنهما تتكون بيئة الأسرة التي يجد فيها الطفل عالمه ومقومات سلوكه فلا يقع سمعه أول ما يقع إلا على ما يصدر منهما، ولا يشاهد أول ما يشاهد إلا صورتهما ولا يستقي أول ما يستقي من قيم واتجاهات إلا من معين روحهما وفكرهما وقديما قال بعض السلف: «لولا المربي ما عرفت ربي».
لهذا يحث الإسلام على حسن اختيار المرء لزوجته لأن الولد فرع لها وللفرع حكم الأصل وإن الفرع بأصله يطيب بطيب فقال تعالى: «إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض» وقال تعالى: «والذين آمنوا واتبعوا ذريتهم بإيمان وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين».
كما يحث على أن يأكل المسلم من الحلال ويطعم زوجته من الحلال أيضا لأن النطفة تنشا من الدم، والدم ينشأ من الغذاء وكل لحم نبت من حرام فالنار أولى به، ومن خلق للنار، عمل عمل أهل النار ولا تربية حينئذ تفلح ولا تهذيب ينفع ويحض المسلم على الدعاء عند الجماعة بأن يجنب الله ما يرزقانه الشيطان وأن تعلق الأم رجاءها بالله تعالى عند شعورها بالحمل أن يكون جنينها في المستقبل تقيا صالحا ويستحب أن تخالف الأم هواها في مشتهياتها أحيانا في أثناء الوحم، فالجنيني جزء من منها يتأثر مما تتأثر منه من قوة الإرادة أو ضعفها.
وسن الإسلام الأذان يصوت خفيض في أذان الوليد اليمني وإقامة الصلاة في أذنه اليسرى.
ولما كان اسم المرء كالزى له إيحاءاته وأثره على دينه وسلوكه وخلقه فقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتسمى أبناء المسلمين بأسماء جميلة ومعبرة عن عقائد الإسلام وقيمه فكان عليه السلام يغير الاسم القبيح فغير اسم العاصي وعزيز والحكم وغيرها من الأسماء القبيحة قال العلماء أما العاصي، فإنما غيره لمعنى العصيان وإنما سمة المؤمن الطاعة والاستسلام لله وإما العزيز إنما غيره لأن العزة لله، وشعار العبد الذلة لله والاستكانة له وأما الحكم هو الحاكم الذي لا رد لحكمه، وهذه الصفة لا تليق إلا بالله تعالى فمن أسمائه الحسنى الحكم.
ولكن تحقق التربية أهدافها لا بد من تقوم على الأسس التالية:
- أن تخضع لقاعدة النمو: فنحن لا نستطيع أن نعلم الطفل كل شيء في أي مرحلة أو أن نطالبه بأي سلوك في أي سن إذ من الضروري مراعاة مسايرة النمو الطبيعي للطفل ذلك أن نمو الطفل يمر بمراحل لكل مرحلة طبيعتها وخصائصها الأمر الذي يقتضي اختلافا في أساليب التربية والتعليم بحسب كل مرحلة، فمثلا الأساليب والوسائل التي ينبغي أن تستعمل في مرحلة الطفولة غير الأساليب والوسائل التي يجب أن تستعمل في مرحلة المراهقة إذ أنها يجب أن تكون حسية بقدر الإمكان في المرحلة الأولى وأن تكون عقلية إداركية في المرحلة الثانية، وقد يقتضي الأمر الجمع بين الوسيلتين في بعض الموضوعات التعليمية.
- أن تراعي الفروق الفردية بين الذكور والإناث من جهة وبين أفراد الجنس الواحد من جهة أخرى هذه الفروق قد تكون في الإحساس وقد يكون في القدرات العقلية وقد تكون في الميول وغيرها.
- أن يراعى تكامل الطبيعة الإنسانية ومكوناتها النفسية والعقلية والجسمية وما بينهما من تفاعل فالضعف في جانب من هذه الجوانب يؤدي إلى ذبول الجوانب الأخرى فهناك من الآباء من يهتمون بتربية الأجسام ويهملون مطالب النفس والعقل والروح فيكون نتاج التربية حينئذ عبارة عن حيوانات تخرج إلى المجتمع بكل ما عندها من أثره وشهوانية لا تملك عطاء ولا تقدر على بناء إن لم تكن عوامل هدم وتخريب.
- مراعاة أن الطبيعة الإنسانية ليس خيرا محضا وليس شرا محصنا فقد خلق الله الإنسان مستعدا للخير والشر معا فقال تعالى: «وهديناه النجدين» وقال: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها» وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» فالصبي كما يقول الإمام الغزالي رضي الله عنه: «أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة وهو قابل لكل ما ينقش فيه، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة مربيه والمقيم عليه».
- الاستفادة من مرونة الطبيعة الإنسانية فالإنسان قابل لتكوين عادات جديدة وإزالة عادات قديمة وسهولة ذلك تختلف بحسب عمر الإنسان ومدى قابليته للتشكيل من جهة وبين أسالبي التغيير من جهة أخرى.
- التربية الاجتماعية يجب أن تتم في بيئة ووسط اجتماعي فجيب تخير البيئة الصالحة للطفل للتوفر له فيها القدرة الطبيعة كما يجب أن لا نتركه لإخوان السوء وندله على الأخيار منهم عونا على الاستقامة والصلاح والبر والتقوى.
مبادئ الصحة النفسية للطفل
إذ كنا لا نغفل بناء أجسام أطفالنا بناء صحيا، بتحري شروط التغذية الكاملة وإعطائهم حقهم في الأنشطة الرياضية والترويجي وتعوديهم على النظافة وإبعادهم عن الأماكن الموبوءة.
إذا كان ذلك كذلك فلا يجب أن نغفل هذه المبادئ في الصحة النفسية للطفل:
أولا: سلامة الجو العائلي من الخصومات المستمرة إذ أن الخصومة المستمرة بين الوالدين تؤثر تأثرا كبيرا في نفسية الطفل فإذا أحس أحد الوالدين أو كليهما بأن الحياة الزوجية أصبحت لا تطاق لأي سبب من الأسباب فهذا الشعور يؤدي إلى السخط والضيق من الحياة المنزلية الذي يمنعه من إضفاء حنان الأبوة وعواطفها على جو البيت، عندئذ لا يجد الأبناء حبا ولا عطفا بل يشعرون بالنبذ والإهمال والسخط فيتكون لديهم شعور بالحرمان من عاطفة الأبوة قد يتسبب في العقد النفسية التي تؤدي إلى اضطراب الشخصية.
ثانيا: تحقيق الحاجات النفسية الأولية للطفل: ومن أهمها الشعور بالأمن الذي يجده الطفل في الحب والتقبل من الوالدين واستقرار معاملاتهم له.
ثالثا: تجنب الأساليب الخاطئة في التربية وأهمها:
- الحرمان من رعاية الأم وغيابها عنه لأي سبب من الأسباب.
- شعور الطفل بأنه غير مرغوب فيه أو منبوذ وذلك نتيجة الإهمال وعدم تحقيق رغباته والتهديد المستمر بالطرد من البيت أو عقابه للأمور التافهة وهذا هو السبب في بعضا لحالات المرضية التي نجدها عند بعض الأطفال مثل الثورة والعناد والعدوان والخروج على النظام.
- إفراط الأبوين في التسامح والتساهل والصفح وهذا يؤدي إلى عدم النضج الانفعالي للأولاد وعدم أخذهم الأمور بجدية وتحملهم نتائج الفشل في الحياة لأنهم ينتظرون من الناس أن يكونوا كالأبوين في الصفح وعدم العقاب والحساب.
- التدليل والإفراط في رعاية الأطفال وحمايتهم أو الصرامة والقسوة من جانب الوالدين.
- الطموح الزائد من الآباء فقد يرغب بعض الآباء في أن يحتل ابنه مركزا معينا دون مراعاة لاستعداداته وإمكانياته وميوله وقدراته ونتيجة لهذا يضغط الوالد على ابنه في العمل والمذاكرة فيضجر الطفل يتكون لديه انفعال مضاد لهذا الاتجاه.
مبادئ التربية العقلية
العقل في الإنسان هو مناط التكليف لذلك اهتم المنهج القرآني بتنمية القدرات العقلية وإيقاظها لأن تقدم المسلمين العلمي والحضاري متوقفان عليها.
والتربية العقلية في عمومها هي تنمية القدرات العقلية المختلفة بحسب ما تسمح به الاستعدادات الفطرية والوراثية لدى كل فرد ولكي تحقق هذه التربية أهدافها يراعي ما يلي:
- أن يخضع تقدم المعلومات لقاعدة النمو ومستوى الإدراك لأنه إذا كانت المعلومات أو طريقة تقديمها للطفل فوق مستواه أدى ذلك إلى عدم فهمه لها وإعاقة نموه العقلي وإلى عدم ثقته بنفسه.
- ألا تتركه بعد تقديم المعلومات إلا بعد أن نتيقن أنه قد أدركها واستوعبها حتى أصبحت واضحة في ذهنه فإن التفريط في هذا يؤدي بالطفل إلى عدم القدرة على التميز بين المعلومات والخلط بينها فلا يستطيع استخدامها في مواضعها عند الزوم.
- استخدام الطريقة النقدية وذلك بيان أوجه الكمال والنقص فيما يقدم من معلومات وتشجيع الطفل على تحديد ذلك بنفسه.
- تقديم المعلومات الصحيحة الموثقة، ليكون بناء الثقافة في ذهن الطفل سليما من أساسه وذلك بالرجوع إلى مصادر أهل الثقة.
- بيان طرق التفكير الصحيحة للوصول إلى الحقائق والتميز بين التفكير العلمي والتفكير الخرافي.
- تدريب الأبناء على تطبيق المعلومات وحل المشكلات في الحياة العملية فالمجهود الذي نبذله في عملية تعليم الأبناء إن لم يظهر أثره في حياتهم يعتبر مجهودا ضائعا.
- إثارة انتباه الأبناء إلى الطبيعة وظواهرها المنيرة هذه الإثارة تدفع عقولهم إلى البحث عن الحقيقة وعن السنن التي تجري بها هذه الظواهر المدهشة وهذا بدوره ينشط العقل ويوقطه من سباته ونومه وغفلته.
- تشجيع الطفل على البحث عن الحق بطريقة موضوعية ليقوم التزامه به واتباعه له على أساس وطيد لا يتزعزع أمام شكوك المبطلين.
- توجيه نشاط الطفل العقلي وتركيزه في أعمال عقليه باستمرار وأن يكون هذا التوجيه خاضعا للأسس التربوية ويتعلق بهذه النقطة تخليص الطفل من القلق والصراع النفس والتشتت الذهني والمشكلات الأسرية والنفسية الأخرى وكل ما يشكل عائقا أمام فاعلية الذكاء ونشاطه وتركيزه وكل ما يتسبب في تعويق نمو عقل الطفل نموا سليما وإرهاقه وتبديد حيويته ونشاطه.
ويجب أن يعلم الآباء والأمهات أن التعليم في الإسلام لا يقتصر على علم معين من العلوم ولا ناحية من نواحي الحياة بل يشمل كل علم وكل خبرة دينية ودنيوية تتصل بحياة الأولاد المختلفة.
مبادئ التربية الروحية
لا يبلغ الإنسان رقية ولا يبلغ حقيقة الإنسان في كيانه إلا بصورة روحية وتزكية طاقاتها وعقد الصلة الدائمة بنيهما وبين الملأ الأعلى...
وفي الإسلام ليس من العسير اتصال البشر بعالم الغيب ففي روح الإنسان طاقة ربانية تصله بهذا العالم فلقد نفخ الله من روحه في الإنسان، فكان ذلك الروح سر امتيازه وتفضيله وتعدد آفاقه ومواهبه، هذا التكوين فيه إشارة إلى أفق آخر من آفاق الغيب يتصل به الإنسان ويتجاوب معه ويتعرض لما شاء الله من رحماته ونفحاته القدسية..
وقصة نشأة الإنسان وغاية وجوده تنص على أن الأرض إن هي إلا مستقر مؤقت للإنسان: «ولكن في الأرض مستقر ومتاع إلى حين»...
هبط إليها من الملأ الأعلى وعما قليل سيرحل عنها إلى حيث يشاء الله:
«وقال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون»«وإن إلى ربك المنتهى».
فإذا تمثل وجدان المسلم ذلك استطاع أن يتبين دستور الإقامة المؤقتة ومنهجها الذي التزم به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى به صحبه وأمته، إذ أخذ بمنكبي عبد الله بن عمر يوما فقال له: «كن في الدنيا غريب أو عابر سبيل».... بحضور هذه الحقيقة في وجدان المسلم دوما وعيشه فيها يكون على صلة لا تنقطع بالملأ الأعلى...
وعلينا دائما أن نركز هذه الحقيقة في قلوبنا وقلوب أولادنا وسبيلنا إلى ذلك هو العمل بمنهج القرآن والحياة في أجوائه وآفاقه...
ومنهج للقرآن في تزكية الروح وتربيتها يقوم على ما يلي:
- 1- البدء بتأصيل الإيمان بالله الواحد تأصيل معرفة وحب وتقوى وثقة وطمأنينة ولا تدرك الروح هذا الزاد إلا بفتح نوافذ التفكير في آيات الخلق فإذا معالم الجلال والجمال بادية في آثار القدرة من العلم والحكمة والحق والمجد، والعظمة والإحسان والعدل والكرم والود والبر والخير والرحمة إلى غير ذلك.
- 2- هذه العقيدة السليمة تتقاضى صاحبها أن يحقق في ذاته معاني العبودية الحقة لله بالصلاة والذكر والصوم والحج والزكاة فالعبادة صلة مباشرة بين العبد وربه وتربية على الإحساس بقرب الله والحج والزكاة تطهير وإحساس بالفضل والنعمة.. هذه الحياة الروحية لابد أن ينشأ عنها وجدان قوي لا ينفك عنها بحال يحب الإيمان ويكره الكفر، يلهم الإنسان غايته العليا التي يجب أن تتعلق بها همته، وأن نتعقد بها جهوده، فلا يرى باطلا إلا جرد نفسه لمجاهدته ولا يرى حقا إلى جرد نفسه لدعمه وتأييده فهو عامل للخير مكافح للشر ما دام قد أوتي حظه من معرفة الله.
وهذه الطريقة يسوقها لنا القرآن الكريم في منهج تربية لقمان لأبيه، إذ بدأ أولا بغرس عقيدة التوحيد في نفس ابنه وذلك بنهيه عن الشرك بالله فقال تعالى: «وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم» ويتبع ذلك يذكر أوصاف يصور بها له عظمة الله وعلمه وقدرته وقوته تصويرا يرتجف له الوجدان البشري فقال: «يا بني إنها إن تلك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير».
وبعد انتهائه من أمر العقيدة يأمره بتحقيق معاني العبودية لله: بالصلاة وعمل الخير والأمر به والنهي عن المنكر واتباع الآداب الاجتماعية الحميدة والصبر على ما يصيبه في سبيل ذلك م نصب ووصب وجهد وتعب فقال: «يا بني أقم الصلاة لذكري وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصغر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير».
ونلاحظ هنا ميزة رئيسية في التربية الإسلامية وهي أنها تربط بين التربية الروحية وبين التربية الأخلاقية والاجتماعية أو بين العقيدة وبين سلوك الإنسان بوجه عام.
مبادئ التربية الخلقية
لا تستقيم الحياة الإنسانية ولا يستمر للمجتمعات البشرية بقاء ولا وجود بغير الأخلاق إذ لو سادت في الحياة الاجتماعية الخيانة والرشوة والفاحشة والكذب والظلم وعدم الإخلاص والتعاون والمحبة والرحمة فكيف تستقيم حياة الجماعة والحالة هه؟ وكيف يشعر الناس بالأمن والسكينة؟
وكيف يستريح بعضهم إلى بعض في المعاملة والمصاحبة؟... لا شك أنها لا تستقيم بأي حال من الأحوال.
لذلك بعث الله الرسول الكريم ليعلن على الناس كافة «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»... وبهذا يحصر الرسول صلى الله عليه وسلم هدف الرسالة كله في إتمام مكارم الأخلاق التي اتسع جمالها ليشمل الكون كله: فدخل في نطاق الأخلاق الإسلامية علاقة الإنسان بالله وتنظمها العبادة وعلاقة الإنسان بالإنسان وتنظمها الشريعة، وعلاقته بالكائنات الحية وتدخل في قسم الآداب العامة.. لأن الإسلام يأمر بالأدب مع الله ومع الناس ومع الحيوانات ومع الملائكة.
وإذا كانت التربية الأخلاقية تهدف إلى بناء شخصية خلقية أو شخصية إنسانية كاملة فإن خطورة شأن هذا الهدف تظهر بوضوح في تربية الأطفال وهم صغار لأن بناء الشخصية ينبغي أن يبدأ مع بناء الجسم واللحم ويتطور معه ويكتمل حتى تصبح الأخلاق طبيعة ثانية للطفل في كبره...
ومن هنا يبدو بوضوح دور الآباء في بناء هذه الشخصية ومسئولياتهم إزاءها...
وهنا مبادئ في التربية الأخلاقية لابد من قيام الآباء بتطبيقها وهي:
- بث روح الثقة في نفس الطفل .. الثقة في نفسه وبغيره من المؤمنين ولا سيما بالمربي والثقة بأن الإنسان صانع سلوكه ويستطيع تغيره وتبديله إذا شاء.
- بث روح الحب والتعاطف بين الطفل وبين أفراد البيت من جهة وبينه وبين الناس من جهة أخرى وخاصة أهل العلم والتقوى والجهاد.
- تكوين شعور لدى الطفل بأن المبادئ الخلقية نابعة من داخل الإنسان أصلها الدين وليست قوانين مفروضة عليهم من الآباء أو المجتمع لأنها مبادئ إنسانية ميز الله بها الإنسان عن غيره من الحيوانات وإنها ضرورة اجتماعية لا تقوم للمجتمع قائمة بدونها.
- إن التربية الخلقية لا تتم ولا تقوم لها قائمة بدون تربية قوة الإرادة فتكوين قوة الإرادة هو المبدأ الأساسي في التربية الأخلاقية، فلا يستطيع الإنسان أن يكون له موقف في الحياة يليق بمكانته في الوجود بدون أن يملك قوة الإرادة ومظاهر قوة الإرادة هي الشجاعة في مواجهة الحياة وضروبها المختلفة حلوها ومرها والثبات على مبادئ الخير التي يؤمن بها مهما كلفه ذلك من تضحيات.
- خلق إحساس خلقي في نفس الطفل باحترام إنسانيته وعدم زجره وعقابه على كل صغيرة وكبيرة وإذا كان لابد من الزجر والعقاب فينبغي أن يكون بأخف ما يمكن حتى لا تتبلد أحاسيس الطفل.
- تطبيع الطفل تطبيعا خلقيا يجعل الأخلاق طبيعة ثانية وعادة لا يستطيعون مخالفتها لأن النفس لا تخالف عاداتها بسهولة.
• طرق التربية الأخلاقية:
أولا: القدوة الحسنة يتميز الطفل بقدرة فائقة على التقليد والمحاكاة فينبغي أن يكون الكبار قدوة حسنة يحاكيها الأطفال حيث يتعلم الأطفال في المرحلة الأولى من حياتهم سلوكهم عن طريق تسجيلهم لكل ما يرونه من سلوك الوالدين وما يلاحظونه من حركاتهم وقد يظن الكبار أن الأطفال لا يدركون معاني أعمالهم حقا قد لا يدركون مغزى ما يفعلون إلا أنهم سيفسرونه فيما بعد ويدركون ما فيه من معاني الحسن والقبح.
ثانيا: تقديم الحقائق الموضوعية عن المبادئ الخلقية بالاعتماد على الاقتناع النظري للأطفال والنتائج العلمية والحقائق التاريخية في عواقب الانحراف ومضار سوء الخلق.. كيف أن الغش والكذب والرشوة نصيب المجتمعات بالانحلال وكيف أن عدم إتقان العمل والبطالة يعودان على صاحبهما بالفقر والإفلاس وعلى المجتمع بالتخلف والضعف وكيف أن شيوع الفاحشة والخمر يضر النسل ويصيب العقل .. وفي قصص القرآن عبرة.
ثالثا: طريقة الممارسة والتدريب العملي بإتاحة الفرص والمواقف الأخلاقية التي يختار فيها الأطفال تطبيق مبادئ خلقية معينة ويكافأون على ذلك إما بالتأييد والتشجيع أو بوسائل مادية مناسبة لكل طفل.
• مراتب التربية الأخلاقية:
وتبدأ بتحديد الصورة الأخلاقية في ذهن الأطفال ثم بث الوعي بالمبادئ والصور الأخلاقية على أساس المعايير العقلية للسلوك الأخلاقي وتنهى بخلق الشعور العاطفي والانسجام بين المبادئ الخلقية وبين الجانب النظري من جهة وبين التطبيق العملي من جهة أخرى.
مع نهاية فصول هذا الباب نوصي بهذه الكتب:
- المرأة في التصور الإسلامي.. للأستاذ عبد المتعال الجبري
- المرأة بين الفقه والقانون .. لفضيلة الدكتور مصطفى السباعي.
- السلوك الاجتماعي في الإسلام.. للشيخ حسن أيوب.
- تحفة المودود في أحكام المولود.. للإمام بن قيم الجوزية.
- موعظة المؤمنين .. للعلامة جمال الدين القاسمي.
- منهج القرآن في التربية.. للأستاذ محمد شديد.
- منهج التربية الإسلامية (جزءان) .. للأستاذ محمد قطب.
الباب الثالث الأخوات المسلمات مكانة ودورًا
• نظرة تاريخية.
• واجبات الأخت المسلمة.
• منهج تكوين الأخت المسلمة ثقافيا وروحيا.
• مواقف للأخت المسلمة.
الفصل الأول نظرة تاريخية
«وددت لو أبلغ هذه الدعوة للطفل في بطن أمه».
تقديرا لمسئولية الدعوة إلى الله، وخضوعا لأمر الله تبارك وتعالى، صدع الإمام الشهيد حسن البنا بأمر ربه، وكانت صيحته المدوية داعيا إلى الله إلى الإسلام كمنهج حياة.
فكان أول عمل قام به عند ما استقر به المقام كمدرس بمدينة الإسماعيلية مهد دعوة الإخوان المسلمين الأول، وهو في صدر شبابه وكان عمره 22 اثنين وعشرين عاما- أن نادى في الناس جميعا أن يعودوا إلى الإسلام الصافي الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتكونت أول شعبية للإخوان المسلمين سنة 1928.
وما من شك في أن دعوة الإخوان المسلمين هي صدى الدعوة الأولى ونداء موجه إلى الرجل والمرأة على السواء.
ولهذا كان واضحا في ذهن الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله أن دور المرأة في الإسلام دور خطير له أثره البعيد في تكوين الرجال.
والدعائم الأساسية التي ارتكزت عليها دعوة الإخوان المسلمين هي:
تكوين الفرد المسلم، والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم ثم نخرج من هذا المجتمع المسلم الحكومة المسلمة.
وفي شهر رمضان المبارك 1248 وفي ليلة 17 منه وتفاؤلا بغزوة بدر الكبرى ثم افتتاح أول مسجد للإخوان المسلمين في الإسماعيلية ثم تبعه بناء مدرسة فوق المسجد سميت «معهد حراء الإسلامي» ولما استقر العمل بالمعهد تم إنشاء مدرسة للبنات أطلق عليها اسم: «مدرسة أمهات المؤمنين». ووضع لهذه المدرسة منهاج عصري إسلامي: يجمع بين أدب الإسلام وتوجيه السامي للفتيات والأمهات والزوجات وبين مقتضيات العصر ومطالبه من العلوم النظرية والعملية.
وقد أدت المدرسة رسالتها فاستتبع ذلك إنشاء قسم للأخوات المسلمات، يتألف من نساء الإخوان المسلمين وبناتهن وقريباتهن ويقوم بالتدريس فيه مدرسات المدرسة وأطلق عليه الإمام الشهيد حسن البنا في هذا الوقت اسم «فرقة الأخوات المسلمات».
ووضعت لهن لائحة خاصة تنظم طرائق السير ووسائل نشر الدعوة الإسلامية بين السيدات والفتيات المسلمات من بيوت الإخوان وغيرهن.
• وقد جاء بمذكرات «الدعوة والداعية» ما يلي( )
وللذكرى نثبت هنا «أول لائحة لقسم الأخوات المسلمات وكان عليها العمل بالإسماعيلية والقاهرة بعد ذلك:
في غرة المحرم 1352 الهجرية الموافق 26 من أبريل سنة 1933 تألفت في الإسماعيلية والقاهرة بعد ذلك:
في غرة المحرم 1352 الهجرية الموافق 26من أبريل سنة 1933 تألفت في الإسماعيلية فرقة أدبية إسلامية تسمى «فرقة الأخوات المسلمات».
(أ) الغرض من تكوين هذه الفرقة:
التمسك بالآداب الإسلامية والدعوة إلى الفضيلة وبيان أضرار الخرافات الشائعة بين المسلمات.
(ب) وسائل التفرقة:
الدروس والمحاضرات في المجتمعات الغاضة بالسيدات والنصح الشخصي والكتابة والنشر.
(ج) نظام الفرقة:
- تعتبر عضوا في الفرقة كل مسلمة تود العمل على مبادئها وتقسم قسمها وهو: «على عهد الله وميثاقه أن أتمسك بآداب الإسلام وأن أدعو إلى الفضيلة ما استطعت».
- رئيس الفرقة هو المرشد العام لجمعيات الإخوان المسلمين ويتصل بأعضائها وكيل عنه تكون صلة بينهم وبينه
- كل أعضاء الفرقة ومنهن الوكيلة أخوات في الدرجة والمبدأ وتوزع الأعمال التي تستدعي تحقيق الفكرة عليهن كل فيما يخصه.
- يعقد أعضاء الفرقة اجتماعا أسبوعيا خاصا بهن، ويدون فيه ما قمن به من الأعمال خلال الأسبوع الماضي وما يرونه في الأسبوع الآتي، وفي حالة ما إذا كثر عدد الأعضاء يصح أن يقتصر هذا الاجتماع على المكلفات بالأعمال منهن.
- تحصل اشتراكات مالية اختيارية حسب القدرة، وتحفظ في عهده إحدى الأخوات للإنفاق منها على مشروعات الفرقة.
- يصح تعميم هذا النظام في غير الإسماعيلية وفي حدود هذه اللائحة.
- يعمل بهذه اللائحة بمجرد التصديق عليها من أعضاء الفرقة التأسيسية والتوقيع منهن بما يفيد ذلك.
الأخوات المسلمات في القاهرة
يعد انتقال إدارة الإخوان المسلمين إلى القاهرة والتي نشرت جريدة الإخوان نبأه بعددها الثلاثين في الخميس 15 من ذي القعدة 1352 الهجرية الموافق 1933 تقريبا تكونت في القاهرة «فرقة الأخوات المسلمات». يتحمل عبء العمل فيها نساء بيوت الإخوان وقريباتهن.
واختيرت السيدة الصالحة الحاجة «لبيبة أحمد» رئيسة لها ولفرق الأخوات في الإسماعيلية وبور سعيد.
وقد وجهت بعد اختيارها كلمة طيبة نشرتها المجلة جاء فيها:
أخواتي وبناتي:
أحمد إليكن الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وأحييكن بتحية الإسلام فالسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.
كم أنا سعيدة مسرورة بأن أتقبل هذه الدعوة من حضرة المرشد العام للإخوان المسلمين للتشرف بخدمة مبادئكن والتقدم لرياسة فرقكن وإني مع ضعفي عن احتمال هذا العبء وعجزي عن القيام بهذه المهمة، أعتقد أني سأجد من غيرتكن ومعاونتكن ما يجعلنا نصل إلى الغاية التي ننشدها من نشر تعاليم الإسلام وبث آدابه ومبادئه في نفس الفتاة المسلمة والأسرة المسلمة والله المستعان.
ومضت الحاجة لبيبة أحمد في ندائها للأخوات تقول:
المرأة أستاذ العالم
إن الأمة كما ترون في تدهور خلقي وخلل اجتماعي بدت أعراضه في كل مظاهر الحياة في المنزل وفي الشارع وفي المصنع والمتجر، وفي كل بيئة وفي كل وسط ودوام هذا الحال يؤدي بنا إلى أوخم العواقب، وأحط النتائج.
وأساس إصلاح الأسرة، وأول إصلاح الأسرة إصلاح الفتاة لأن المرأة أستاذ العالم، ولأن المرأة التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بيسارها.
وإن على الفتاة المسلمة أن تفهم أن مهمتها من أقدس المهمات وأن أثرها في حياة أمتها أعمق الآثار وأن في مقدورها أن تصلح الأمة إذا وجهت عنايتها لهذا الإصلاح.
لهذا نحن نريد أن نصلح أنفسنا وأعتقد أن في تعاليم الإسلام وأحكامه إن علمناها وعملنا بها ما يكفل هذا الإصلاح المنشود.
وإذا فهيا يا أخواتي وبناتي تصلح أنفسنا لنفهم الإسلام ونعمل به ونبث تعاليمه في نفس المرأة المسلمة فإن صلحنا صلحت بصلاحنا الأسرة، وكان ذلك صلاح أمتنا جمعاء.
ذلك ما أردت أن أبينه لكن منهاجا لعملنا الذي ألزمنا أنفسنا والله أسأل أن يوفقنا إلى ما فيه الخير لأمتنا العزيزة المفداة «لبيبة أحمد».
• السبب في اهتمام الإخوان بالمرأة المسلمة:
السبب الرئيسي هو السبب الذي من أجله بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء في بيعة العقبة الأولى الثاني هذه واحدة أما الثانية فهي المساواة الكاملة في الثواب والعقاب على العمل الذي وضحته الآية الكريمة
في قوله تعالى: «من عمل صالحا، من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»
ولكي يسير العمل سليما ومتمشيا مع آداب الإسلام وأحكامه، كان لابد من أن يكون قسم الأخوات المسلمات منفصلا بمكانه وإدارته وكل شئونه عن شئون وإدارة الإخوان ولكنه في النهاية يخضع لنظم الإخوان المسلمين كفرع من فروع النشاط التي تحكمها أنظمة الإخوان.
وقد اقتضت ظروف الحاجة لبيبة أحمد –الرئيسية العامة للأخوات أن تقيم بالحجاز مما أدى إلى فتور نشاط الأخوات المسلمات ثم تعددت الهيئات النسوية الإسلامية تعمل كلها جاهدة في سبيل الغاية الإصلاحية المشتركة كل ذلك حدا بلفيق من الأخوات المسلمات إلى إحياء الفكرة من جديد والنهوض بها تحت إشراف المركز العام للإخوان المسلمين ووافق مكتب الإرشاد العام على ذلك.
وتكونت أول لجنة تنفيذية للأخوات المسلمات في 12 من ربيع الآخر 1363 الموافق من أبريل 1944 واتخذت مقرا لها المنزل رقم 17 بشارع سنجر الخازن بالحلمية الجديدة بالقاهرة.
وبعد ان انتشرت فكرة الأخوات المسلمات بالقطر المصري وثبت أو كادت تثبت إلى خارج القطر إن شاء الله واتسعت تبعا لذلك نواحي النشاط رأى المركز العام للإخوان المسلمين إعادة تنظيم قسم الأخوات المسلمات على أساس يضمن نهوضه برسالته في حدود بنود اللائحة الداخلية للنظام الأساسي للأخوات المسلمات كما يلي:
1- المساهمة في المشروعات الاجتماعية النافعة بالقدر الذي يتناسب مع ظروفهن وجهودهن وفي محيطهن ومن هذه المشروعات: المستوصفات ودور الطفولة ورعاية اليتامى والمدارس وتنظيم مساعدة الأسر الفقيرة إلخ..
2- المعاونة في حدود ظروف الأخوات المسلمات وجهودهن في تحقيق البرنامج الإصلاحي الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين العامة، ولا زالت بعض هذه المؤسسات حتى الآن، بعد ن استولت عليها الحكومة الغاشمة وقتئذ عقب حل الإخوان والأخوات سنة 1954 مثل دار التربية الإسلامية للفتاة بشارع بستان الفاضل بالمنيرة بالقاهرة.
3- وفي 2من صفر 1371 الهجرية الموافق 2 من نوفمبر 1951 أعيد اعتماد اللائحة الداخلية لقسم الأخوات المسلمات ومما جاء فيها زيادة عما سبق:
- يحسن كلما أمكن لك أن يكون مقر شعب الأخوات المسلمات ودروسهن هو دور شعب الإخوان المسلمين أو بيوتهن أو المساجد التي يشرفون عليها بشرط أن يلاحظ إخلاء الدور من الإخوان تماما كلما كان هناك اجتماع أو درس للأخوات.
- يسند الإشراف على هذا القسم للمرشد العام للإخوان المسلمين رأسا، ولفضيلته أن ينتدب من الإخوان العاملين سكرتير اتصال لتنظيم الأعمال الإدارية بالقسم وتتصل الهيئة العامة بالمركز العام للإخوان المسلمين عن طريق السكرتير الذي انتدبه فضيلة المرشد العام وتتصل بالأخوات عن طريق الشعب.
وحتى تاريخ اعتماد هذه اللائحة المعدلة سنة 1951 كانت شعب الأخوات المسلمات وفروعها في كل أنحاء القطر المصري أكثر من 150 شعبة.
بعض ذكريات قسم الأخوات مع الإمام الشهيد
ترجع أولى هذه الذكريات إلى تكوين أول مجموعة من المثقفات من خريجات الجامعة والمعاهد وطالباتها وعدد غير قليل من الموظفات كالمدرسات والطبيبات وغيرهن.
وكان اهتماما الإمام الشهيد بهذه المجموعة بالغا، باعتبارها نونة صالحة لقيادات قسم الأخوات المسلمات وركيزة طيبة لفهم الإسلام والعمل على نشرة بمضمونه السليم بين النساء.
وتعهد الإمام الشهيد هذه المجمعة بالدروس والمحاضرات التي كان يلقيها بنفسه عليهن بشكل دوري أسبوعي تقريبا حرصا منه على نشر الوعي الإسلامي الصحيح بين هذه النوعية من النساء واستمر ذلك فترة تقارب العام واستمر قسم الأخوات المسلمات يؤدي رسالته على أكمل وجه، حتى أعلنت الحكومة المصرية سنة 1948 الحرب على الإخوان وأصدرت قراراها المشئوم بحل الإخوان المسلمين والأخوات المسلمات وكان الحل بداية لمؤامرة اغتيال الإمام الشهيد حسن البناء وبتدبير من رئي الحكومة محمود فهمي النقراشي والطاغية فاروق وفق مخطط استعماري صهيوني صليبي.
ومن الذكريات الطيبة التي لا تنسى أني رافقت الإمام الشهيد رضي الله عنه مدة ست سنوات تقريبا وسافرت معه في بعض رحلاته بالوجه البحري والإسكندرية لتنظيم فروع قسم الأخوات المسلمات ومنشآته.
وأذكر مرة أني قدمت لفضيلته مذكرة أرجو فها إعفائي من العمل بقسم الأخوات المسلمات لأتفرغ لبعض النشاط الإخواني على اعتبار أن بقسم الأخوات المسلمات من العناصر ما يسد مكاني فأخذ المذكرة ولمح ما يبدو على وجهي من الجدية في الطلب فابتسم ابتسامته المشرقة وكتب على المذكرة بالمداد الأحمر هذه العبارة:
«الأستاذ محمود الجوهري سكرتير الأخوات المسلمات حق الممات» ووقع بإمضائه وأعطاها لي.
ولم أملك وقتها إلا التسليم والرضا وأجبته «حاضر يا فندم».
أثر الأخوات المسلمات على المرأة المصرية
يتضح ذلك من اتساع نشاط قسم الأخوات المسلمات في حدود لائحة نظام القسم واستمرار هذا الاتساع والإقبال المتزايد الملموس في القاهرة والإسكندرية وجميع محافظات الوجه البحري وبعض محافظات الوجه القبلي والنداء المنشور بمجلة الإخوان المسلمين بالعدد الصادر في أواخر شوال 1361 الموافق أواخر 1942 من الأخت المسلمة منيرة محمد نصر ثم الرد عليه من الأخت المسلمة نعيمة محمد وصفي المنشور بالعدد السادس من مجلة الإخوان المسلمين الصادر في 28 شوال 1363 الموافق 28 ديسمبر 1944 للسكرتيرة الثانية لقسم الأخوات المسلمات تدعو فيه كل مسلمة للعمل مع الأخوات المسلمات حتى تجتمع نفوس الأمة رجالا ونساء على غاية واحدة ومنهاج واحد هو القرآن الكريم ولا يزال هذا الأثر باقيا وسيستمر استمرار الحياة لأن منهاجهن وهو القرآن الكريم باق بقاء الحياة.
يضاف إلى ذلك الجهد الجبار الذي بذلته لجنة الزيارات المكونة من الأخوات:
- (1) زينب الشعشاعي حرم فضيلة الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي رحمه الله واعظ قسم الأخوات.
- (2) فاطمة عبد الهادي الشهيد محمد يوسف هواش
- (3) أمينة على الشهيرة بأمينة الجوهري حرم محمود الجوهري.
زارت هذه اللجنة معظم فروع الأخوات المسلمات بالوجه البحري والإسكندرية وبعض مدن الصعيد عدة مرات من أجل هدفين:
الأول: إلقاء المحاضرات التي تشرح دعوة الأخوات المسلمات
والثاني: والوقوف على مدى نواحي النشاط الأخرى كالمؤسسات وغيرها.
وفي 30 من المحرم 1365الموافق 4 من يناير سنة 1946 أقام قسم الأخوات المسلمات حفلا بمناسبة ذكرى الهجرة النبوية الشريفة بدار المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية ووجه الدعوة إلى عدد غير قليل من النساء كان فناء الدار غاصا بعدد كبير شهد الحفل تحت رياسة شرفية لحرم المرحوم السيد خشبة باشا.
وفي مجلة الإخوان المسلمين الصادرة في أول ربيع الآخر 1365 الموافق 5مارس 1946 نشر احتجاج قسم الأخوات موجها اللوم إلى المندوب السامي البريطاني بالقاهرة وقتئذ على اعتداء جنود الجيش البريطاني المحتل على المصريين الآمنين.
المعرض السنوي الخيري لقسم الأخوات المسلمات
تحت هذا العنوان نشرت جريدة الإخوان المسلمين اليومية بالعدد رقم 771 بتاريخ الاثنين 7 من المحرم 1368 الموافق 8 نوفمبر 1948 ما يلي:
يفتتح قسم الأخوات المسلمات المعرض السنوي الثالث لدار التربية الإسلامية للفتاة ابتداء من يوم الأربعاء 9 من المحرم 1368 الموافق 10 من نوفمبر 1948 ويستمر أسبوعا ويخصص إيراده لتنفيذ أغراض الدار الخيرية.
الوصايا العشر
تحت هذا العنوان في صفحة الأسرة بجريدة الإخوان اليومية كتبت إحدى الأخوات عجالة عن «دعائم البيت المسلم» متضمنة وصايا عشر موجهة إلى الزوجة حتى ترفرف على البيت المسلم السعادة وموجزها:
- الاتجاه إلى طاعة الله ورسوله ومحبتهما.
- الأدب الكامل قبل الجمال وعدم التصرف في مال الزوج إلا بإذنه.
- يجب أن ينحصر اهتمام الزوجة في واجبات بيتها وإصلاح شأنه
- دوام الحياء من الزوج وطاعته، والسكوت عند كلامه والاستماع إليه واحترامه
- إكرام أهل الزوج وأقاربه.
- القناعة بما وهب الله الزوج من رزق.
- تقديم حق الزوج على كل الحقوق بعد حق الله ورسوله.
- ألا تمن عليه بما لها أو جمالها أو حسبها.
- ألا تخر من البيت إلا بإذنه.
- أن تغار على زوجها وتحافظ على شعوره وكرامته.
ونشرت مجلة الإخوان على فترات متتابعة مقالات وأراء للأخت المسلمة في الشئون المختلفة وصد حملات الجمعيات النسائية العاملة بتوجيه استعماري لإخراج المرأة المسلمة من رسالتها.
وقد امتد أثر قسم الأخوات وذاع أمره حتى وصل إلى أمريكا فقد جاه بالعدد رقم 744 من جريدة