محنة 65 في عيون الشعراء
الشاعر الطبيب: د. جابر الحاج- طبيب أنف وأذن وحنجرة، أحد الأطباء الشعراء المبدعين، عاش مع الإخوان قبل المحن وإن لم ينضم إليهم، وعايشهم في المحنة، وكان شاهد عيان على تلك المأساة الرهيبة، وبعد خروجه كتب عن المحنة كتبًا متعددةً يؤرخ فيها لتلك الحقبة المظلمة.
تميز شعرُه بأنه يكاد يكون قد وقفه على التأريخ لمحنة الإسلام والمسلمين في العصر الحديث، منذ سقوط الخلافة الإسلامية، حتى المأساة الدامية محنة الإخوان المسلمين حمَلَة الدعوة في العصر الحديث، يؤرخ بشعره للمحنة ويصف أحداثها بدقة المؤرخ الأمين، وتفصيل شاهد العيان لا يكذب ولا يميل، حتى كاد أن يجعل منها ملحمةً كاملةً تروي أحداثها من البدء إلى الختام، ونعيش مع بعض قصائد تلك الملحمة المثيرة:
يبدأ الشاعر مع حمَلَة الدعوة وهم يتشاورون في حال الأمة البائسة، وعزمهم على التقدم لإنقاذها بنور الدعوة الربانية..
أرى الشيوعية الحمراء قد هبت
- والحكم في مصر يحرسها ويحميها
ويسخرون من الإسلام في سفه
- والحكم في مصر يحرسها ويحميها
ومصر يحكمها قهر ومعتقل
- يكيل إعلامهم إفكًا وتشويها
ويتجاوب معه الشهيد محمد هواش محددًا الطريق:
الأمر يحتاج تجديدًا لدعوتنا
- نعيد توضيحها فهمًا وتنبيهًا
الملحدون لهم حكمٌ يساندهم
- ودعوة الله ترجو من يواسيها
نغشى المساجد ندعو الناس في حرص
- وننذر القوم إعذارًا وتوجيهًا
ويتفق معه الشهيد عبد الفتاح إسماعيل:
لن نستطيع نكوصًا عن رسالتنا
- يحيا الشباب بها حبًا وتفقيهًا
هذا أقل قليل نحو دعوتنا
- نصونها بالتلاقي من أعاديها
إذا استقامت لنا الأحوال واصلنا
- ونستمر بها والله يحميها
وانطلق الدعاة يتحركون هم وإخوانهم من الدعاة، يجمِّعون الشباب ويربُّونهم على الإسلام تربيةً عقائديةً مستمَدَّةً من كتاب الله وسنة رسوله الكريم:
جمِّعوا الشباب على القرآن في حذر
- يتلون آياته فهمًا وتفسيرا
ند المساجد يلقى بعضهم بعضًا
- صلوا لرب الورى حمدًا وتكبيرا
صلوا وصاموا وقاموا يبتغون تقى
- والله طهَّرهم بالدين تطهيرا
يبكون.. أمتهم زادت متاعبُها
- والحاكمون أرادوا الشعب مقهورا
إن كان حكمُ البلاد غدًا لشرذمة
- خانوا العهود وقادوا الأمر تزويرا
بارت تجارتهم من سوء ما صنعوا
- وكان إعلامهم إفكًا وتزويرا
يارب خلِّص عبادك من تخبُّطهم
- وارحمنا يا ربنا واجعل لنا نورا
ولكنَّ يدَ الظلم كانت أسبق قبل أن تكتمل الحركة وتنضج الثمرة، فساقوا الشباب المؤمن إلى السجون والمعتقلات، يُذيقونهم أشدَّ ألوان العذاب، وأبشعَ أنواع البطش والتنكيل، ويتساءل الشاعر شاهد العيان:
أين الضمير؟!
- ولى وغاب
أين العدالة؟!
- في مصر صارت كالسراب
أين الرجال؟!
- سيقوا لأنياب الكلاب
- يُجرون من ناب لناب
المؤمنون يعلَّقون ويُجلدون والعابدون يسفَّهون ويُحرقون
والأتقياء يقيَّدون ويُسحَلون
- والمفسدون على الأرائك ينعمون
ويتساءل الشاعر مذهولاًَ:
لحساب مَن هذا الجنون؟!
- لحساب روسيا أم لأرباب المجون؟!
ومن السجون ينتقل بنا الشاعر إلى المحاكمات، وما بها من مهازل وأحداث، ويبدأ بممثل الادعاء الذي جاوز الحد في الاتهام وجعله سبابًا وقذفًا ونهشًا في أعراض الأطهار الصالحين:
هؤلاء الواقفـون أمـامكـم
- هم شر قوم أجرموا في حقنا
هذا هو التحقيق يثبت جرمهم
- قد بيَّتوا بالغدر قتل زعـيمنا
كيف استباحوا قتل أعظم قائد
- أهدته مصر لكي يجدد مجدنا!!
لا ترحموهم واجعلوهم عبرةً
- إعـدامهم عـدلٌ وإنقـاذٌ لنا
ويشير ممثل الادعاء إلى الاعترافات المكتوبة تحت السياط والقهر وبين جدران مكاتب التحقيق، وهي اعترافات عجيبة مضحكة:
قالوا مع التفصيل عن شركائهم
- وأدلة الإجرام ثبتت عندنا
خلطوا على الدين السياسة فتنةً
- وتآمروا سرًّا لحكم بلادنا
يتسلقون الدين كي يتمكنوا
- ويقتلون بحقدهم أبطالنا
جموا السلاح وقد وجدنا عندهم
- منها جبالاً فوق كل ظنوننا
وقد اكتشفنا أن من أهدافهم
- تدمير مصر وحرق كل زروعنا
حتى الكَبَاري فكروا في نسفها
- ليعيش في عصر البداوة جيلُنا
وكذا البنوك فقد أعدوا هدمها
- حكموا بإعدامٍ لكل بنوكنا
ونصل إلى بطل المسرحية الهزلية الفريق الدجوي الذي لم يدرس قانونًا، وعيَّنوه رئيسًا للمحكمة:
جاء اعتراف المذنبين موضِّحًا
- قلب النظام لصالح الغوغاء
ولقد أردتم قتل أعظم قائد
- أمل الشيوخ ومنقذ الأبناء
جاء اعتراف الكل يثبت أنكم
- ستعرِّضون بلادنا لفناء
لم يبقَ شكٌّ والأمور تكشفت
- وقد استبحتم صفحنا بغباء
نملي لكم فتعاندون بخسَّةٍ
- إحسانَ بطل الثورة البيضاء
فبلمِكم وعدائِكم لرئيسنا
- تَصلَون نار الثورة الحمراء
ثم تبدأ أسئلة المحكمة للمتهمين، وها هي زينب الغزالي تقف في ساحة المحكمة وتواجه رئيسها الهمام، وممثل الادعاء المستأسد، وهو مشهد مصوَّر وقريب جدًّا من الواقع الحقيقي:
الدجوي إلى زينب الغزالي:
لقد اعترفت بما يؤيد جرمهم
- من غير تعذيب ولا إيذاء
أنا لم أقل شيئًا يطابق ذرةً
- مما تقول لفتنة الشرفاء
وبرغم كل جحيمهم وعذابهم
- جئنا هنا بشجاعةٍ وإباء
يكفي الجحيم الناصري وحسبكم
- ما نالنا من فتنة وبلاء
ولقد رميتم بالخيانة إخوةً
- يتصرفون بحكمة الحكماء
إن التآمر جاء من تدبيركم
- لتجيء أحكام بغير قضاء
ممثل الادعاء:
إن تنكري فالقول جاء مؤيدًا
- بكلام "قطب" قاله برضاء
أتكذبين القطب في أقواله
- أوليس فيكم قمةَ الأمناء؟!
أنا لا أكذبه وأعلم أنكم
- عباد إفك في أحطِّ بناء
الدجوي:
أتهاجمين العدل في محرابه
- وتمارسين صناعة الخطباء
أنا ما سمعت من الرجال تهجمًا
- واليوم فاجأنا هجوم نساء
إن اعترافك في القضية واضح
- من غير تعذيب ولا إغراء
ممثل الادعاء:
قانون ثورتنا يحتم شنقها
- والعدل لا تبقَى مع الأحياء
السجن لا يكفي لنردع غيرها
- ونزيل جرأتها بغير رجاء
ويختتم هذا المشهد بالحكم بالمؤبد على الداعية الصابرة.
وينتقل بنا الشاعر إلى مشهد ختامي مؤثر، مشهد الدجوي وهو يحاكم الشهداء الثلاثة، ويكاد يختفي الدجوي هنا، ويعرض لنا كلمات الشهداء الثلاثة في مواجهة الظلم والطغيان:
الدجوي يخاطب سيد قطب:
لقد كونت تنظيمًا كبيرًا
- لقتل رئيسنا خير البرايا
وتقلِب حكم مصر بحرق زرع
- وتحطيم الكباري والرعايا
ويأتي جواب سيد قطب مناجاةً لربه، يصف له حاله وإخوانه، طالبًا منه النصرة والتأييد:
ربنا.. يا ربنا.. يا ربنا
- لولاك ما جئنا ولا كنا هنا
قمنا نجمع حول دينك شعبنا
- فأبى طواغيت المفاسد تركَنا
وجنودهم يا ربنا مكروا بنا
- صبوا العذاب وقرَّروا إزهاقَنا
لكنَّ فضلك يا إلهي زادنا
- وعظيم عونك في اللقاء عتادنا
أنت المعين على الشدائد فارعَنا
- وانصر لنا يا ربنا وانصر بنا
أما الشهيد عبد الفتاح إسماعيل فيعرض موجزًا للقضية وملابساتها مبرأةً من افتراءات الطغاة:
كل تفكيري لديني لا لقتل الحاكمين
- كل همي نحو إسلامٍ يعيد الشاردين
كل ليلي في بكاء لضياع المسلمين
- هنا في مصر قامت دولة المتألهين
يزعمون بناء شعب قادر حر أمين
- كيف يبني من تباروا في ركاب الهادمين؟!
كيف يصلح من تمادوا في سبيل المفسدين
- واجتمعنا واتفقنا أن نعين الجائعين
للأرامل واليتامى من ضحايا الظالمين
- وتدارسنا وكنا للصلاة محافظين
وانتظمنا في المساجد في صفوف الساجدين
- لم نفكر في عَداء الحاكمين المسرفين
كل ما نرجوه أن يتوبوا صادقين
- فأذاقونا عذابًا في السجون معلَّقين
وتلقفنا وحوش صاعدين ونازلين
- بين أكباد غلاظ أو كلاب ناهشين
وظننا أن نجيء إلى قضاة عادلين
- فانتقلنا من طغاة لطغاة آخرين
أما الشهيد محمد يوسف هواش- الذي اعترض على محكمة لا تطبق شرع الله- أن تحاكمه، والمبيِّتة النية على قتله وإخوانه فيقول:
ماذا أقول لمن أبدى كراهيتي
- وأصدر الحكم بين الكاف والنون
في السجن مذبحة واليوم مقصلة
- ترنو لرأسي بتصريح ومضمون
إن كان عمري يضاف لعمر طاغية
- فسوف يقتل ظلمًا فوق مليون
الموت آتٍ وإن عاشوا لآلاف
- والله يقضي بعدل في الملايين
يا رب تعلم أنا لم نخن أحدًا
- أنقِذ عبادك من حكم المجانين
المصدر : إخون أون لاين