جودة شعبان.. شاهد حي على مذبحة طرة 1957م
الحاج جودة شعبان
جودة محمود شعبان.. اسم قد لا يعرفه كثيرون، ولكنه أحد الشهود الأحياء على مذبحةٍ أغفلها التاريخ الحديث، وهي مذبحة سجن طرة عام 1957م.
وُلِد الحاج جودة في 14/4/1926م بقرية الصنافين التابعة لمنيا القمح - محافظة الشرقية, وكان وحيد والديه، عمل كغالبية الشعب المصري في مجال الزراعة، ثم ترك هذه المهنة وامتهن التجارة, وقد عمل والداه على تنشئته نشأةً طيبةً؛ حيث التحق بمراحل التعليم الأولية، وحصل على الابتدائية, لكنه ترك التعليم وعمل مع والده في محل البقالة الذي كان يمتلكه.
ضاقت به سبل العيش في قريته، فخرج إلى القاهرة عام 1945م بحثًا عن عمل, فنزل شبرا الخيمة حتى وفَّقه الله للعمل في مصنع صباغة وتجهيز بشبرا الخيمة، وهو الآن قد تجاوز الثمانين من عمره، أمده الله بوافر الصحة وطول العمر.. عندما تسأله عن المذبحة التي كان أحد أطرافها يقول لك: "إنها القشة التي قصمت ظهر البعير".
من القرية إلى الدعوة
بعد أن قضى ثلاثة أعوام في عمله في مصنع الصباغة التحق بالعمل المهندس صلاح العطار، والذي تخرَّج في كلية الفنون التطبيقية وعُيِّن في نفس الشركة عام 1948م كمهندس مسئول عن قسم الصباغة، وهو القسم الذي كان يعمل فيه الحاج جودة كعامل، وكان جودة بطبيعة تربيته مُحافظًا على الصلاة في جماعة، كما كان حَسَن الخلق بين زملائه، فلفت نظر المهندس صلاح العطار، والذي كان أحد قادة الإخوان المسلمين, فتقرَّب منه بعد أن رآه يتردَّد على المسجد بانتظام وتعرَّف إليه, ثم طلب من مدير الشركة أن يأخذ جودة معه في إدارة القسم فوافق.
ومع مرور الأيام عرَّفه على دعوة الإخوان المسلمين حتى انتظم بها، وكوَّن- مع زملائه- مجموعةً من خمسة أفراد، وظل مسئولهم المهندس صلاح العطار حتى جاءت حرب فلسطين، فسافر العطَّار، وقبل توجهه لفلسطين سلَّمهم للأستاذ عبد الكريم قدوس حتى كانت محنة 1948م والتي قُبض فيها على كثير من الإخوان، وكان من بينهم الأستاذ عبد الكريم.
وأصبح الحاج جودة وحيدًا، إلا أنه اتفق مع مجموعته- فيما بينهم- أن يواصلوا الطريق ويتقابلوا كما كانوا يفعلون من قبل، وظلوا على ذلك حتى أُفرج عن الإخوان وخرجوا من معتقلاتهم، فعادوا إلى سائر عهدهم وانتظامهم في جِلساتهم, ونشط وسط زملائه؛ يعرِّفهم دعوة الله، ويكوِّن منهم المجموعات حتى أعادت الجماعة حقوقها، واختير في 17/10/1951م الأستاذ المستشار حسن الهضيبي مرشدًا عامًّا للإخوان المسلمين, والذي عمل على إعادة هيكلة النظام الخاص تحت رئاسة الأستاذ يوسف طلعت, ودُعِي الحاج جودة للعمل في النظام الخاص، لكنه لم يشترك فيه بسبب بعض الأحداث التي حدثت له.
وفي 1950م تزوَّج عن طريق ابنة عمه بالسيدة زينب السيد حسن، والتي عملت معه على طريق الدعوة, وأنجب منها نادية في يونيو 1951م، ثم عَليَّة في أغسطس 1955م، ثم ياسر عام 1965م، ثم عمرو عام 1974م، وقد اجتهدا في تربية أولاده على نهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
في مواجهة المحن
ظلَّ الحاج جودة يعمل في شركة الصباغة, وظلَّ داخل نطاق دعوته حتى حدثت حادثة المنشية في 26/10/1954م، وفُتحت السجون، وزُجَّ بالألوف من الإخوان فيها، وكان كثير منهم يمثِّل العائل الوحيد لأسرته، وباعتقاله تركها دون عائل, بل وقطعت عنهم الحكومة مرتَّباتهم, وضيَّقت على أزواجهم وأُسرهم، وخطَّطوا- في محاولة منهم- لتشريد أسر الإخوان وتفكيك روابطهم, لكن الكثير من الإخوة والأخوات الذين لم يصبهم أذى الاعتقال حملوا على عاتقهم تكافل أسر الإخوان وتزويدهم بما يلزمهم من حاجات.
لكن عبدالناصر ونظامه الطاغي ما إن اكتشف هذا النظام التكافلي الذي يقوم به الإخوان والأخوات حتى وجَّه ضربةً أخرى لصفوفهم شملت الإخوان الذين كانوا يعولون أُسَر الإخوان في قضية سُمِّيت بقضية التمويل, فتم القبض على الحاج جودة في مارس 1955م، وزُجَّ به في غياهب السجون، وحُكم عليه بعشر سنوات شاقة قضاها في سجون مصر حتى خرج في مارس 1965م لكنه لم يقضِ وقتًا كبيرًا في الخارج حتى صدر قرارٌ من عبدالناصر باعتقال كل من سبق اعتقاله, فاعتُقل في أغسطس 1965م، وقُدِّم للمحاكمة في قضية تنظيم السجون، ولم يخرج إلا في أغسطس 1971م.
وفي هذه الفترة لم يَلِن ولم تَخُطَّ يدُه تأييدًا لعبد الناصر، بل كان مثالاً للمسلم الصابر الذي اشترى آخرته بدنياه، وانتقل من سجن القلعة إلى سجن أبي زعبل، ثم إلى مزرعة طرة، ولم يقتصر الاعتقال عليه وحده، بل شمل زوجته وأمَّه السيدة عالية السيد حسن، وكان عمرها 65 عامًا، ورحلتا إلى سجن القناطر، وقضيتا به ستة أشهر حتى أُفرج عنهما، كما اعتُقل ولده ياسر، والذي كان عمره آنذاك أربعين يومًا؛ مما عرَّى نظام عبد الناصر في كل زمان!!!.
المذبحة وشهود عيان
بعد حادثة المنشية قام عبدالناصر بمذبحة ضد بعض العلماء، أمثال الشيخ محمد فرغلي، والقاضي عبدالقادر عودة، والأستاذ إبراهيم الطيب، ويوسف طلعت، وهنداوي دوير؛ ليرسِّخ لنفسه في الحكم, وبعد أن استتبَّ له الحال بعد عدوان 1956م أراد أن يغيِّر الملكيَّة إلى الجمهوريِّة في الدول المجاورة، فدعم انقلابًا ضد الملك حسين (ملك الأردن)، غير أنه اكتُشف، وساعد على اكتشافه إخوان الأردن، فتولَّد لدى عبدالناصر رغبة في الانتقام من إخوان مصر, فرتَّب مع بطانته القيام بمذبحة ضد العُزَّل من الإخوان داخل المعتقلات، وخطَّط لذلك، وحشد قواته لتصفية الإخوان في كل معتقل، وكانت البداية في سجن ليمان طرة.
يقول الأستاذ جابر رزق: "لقد أقيمت المذبحة في أول يونيو 1957م لمائة وثمانين من الإخوان المسلمين هم الذين بقوا في سجن ليمان طرة بعد ترحيل إخوانهم إلى سجن المحاريق وبني سويف وأسيوط وغيرها من السجون، ولقد بلغ عبد الناصر ورجال حكمه من الخسة اللا إنسانية أن أطلقوا الرصاص على المسجونين داخل الزنازين وهم عُزَّل لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (البروج: 8).
واستُشهد أكثر من عشرين من الإخوان، وفقد عقله أكثر من هذا العدد؛ فقد استُشهد فيها كلٌّ من: أنور مصطفى أحمد، والسيد علي محمد، ومحمود شعبان، وأحمد حامد قرقر، ومحمود عبد الجواد العطار، وإبراهيم أبو الدهب، ورزق حسن إسماعيل، وغيرهم، واستطاع عبد الناصر أن يحيط المذبحة بجدارٍ من الصمت والكتمان؛ حتى لا يعرف الشعب المصري شيئًا عن المذبحة!!.
ويقول الشهيد محمد يوسف هواش - وهو أحد الذين شاهدوا المذبحة-: "لقد سبقت المذبحةَ عدة مقدمات؛ ففي يوم الأربعاء 22/5 مُنعت صلاة العصر بصورة غاية في الاستفزاز، ويوم الخميس 23/5 مُنع لعب الكرة الذي كان مُرخَّصًا، ويوم الجمعة ظلَّت الزنازين مُغلقةً حتى صلاة الجمعة، ويوم السبت حدثت مشادة بين الضابط عبد العال سلومة وثلاثة من الإخوان بغير داعٍ، ويوم الأحد 26/5 قال سلومة مُهدِّدًا: "فيه أوامر عليا بجرِّ الإخوان لمعركة نخلّص فيها على ثلاثين.. أربعين"، وأخذ الضابط عبد الله ماهر يحتكُّ بالإخوان بغير مناسبة، ويحاول استفزازهم بكل طريقة، ويوم 29/5 شرح الإخوان لمدير السجن ما يحدث لهم، ويوم 30/5 مُنِعت الزيارات، ويوم 1/6 حدثت المذبحة".
ويقول الحاج جودة شعبان- الشاهد الحيّ-: "كنا في ليمان طرة بما يقرب من 180 من الإخوان، وكان أكبر عدد منهم في الليمان من إخوان شبرا، وكان يوم زيارتهم مشهودًا؛ فقد كان عدد الحضور في اليوم المخصَّص لهم كبيرًا, وفي أواخر مايو شعرنا بأن ضباط السجن يقومون بعمليات استفزازية ضد الإخوان، خاصةً الضابط عبد العال سلومة وعبد الله ماهر، فأخذنا نتواصى بالصبر وضبط النفس وحكمة التصرف أمام كل ما نتعرَّض له من معاملة المسئولين في الليمان، خاصةً الضباط الذين كشفت الأحداث عن مدى حقدهم وكراهيتهم للإخوان، أمثال عبد العال سلومة وعبد الله ماهر وعبد اللطيف رشدي.
وكانت الأحكام للإخوان الموجودين في الليمان تتراوح بين 10 سنوات و25 سنة، وكنا نطلع الجبل مثل بقية المساجين، وكانت لنا طريحة لا بد من أن ننجزها، ومن بين وسائل الضغط النفسي علينا أيضًا في الليمان عملية التفتيش المستمر، والتي كانت تتم بصورة مستفزة، وكادت هذه المذبحة تحدث في فبراير 1956م لكن كان مدير السجن حكيمًا فحالَ دون ذلك؛ مما دفع زكريا محيي الدين - وزير الداخلية آنذاك- أن يقوم بنقله؛ عقابًا له على ذلك، وجاء بمأمور آخر هو السيد والي، والذي كان شديد الحنق والحقد على الإخوان المسلمين.
وقبل يوم المذبحة جاءت زيارة لمجموعة إخوان شبرا، وكانت من أكبر الزيارات، وكنت أحد المطلوبين للزيارة، وقد جاء أهلونا ببعض الطعام، وكان من ضمن الذين أخذوا طعامًا الأخ عبد الغفار السيد، وفجأةً ظهر الضابط عبد الله ماهر ودفع الأخ؛ مما أوقعه في صورة مستنفرة، ولم يقتصر على ذلك بل قام بضرب أمِّ أحد الإخوان ثم أنهى الزيارة، وسارع إلى الإدارة وقال إن الإخوان اعتدَوا عليه، وكأنَّ الأمر مُبيَّتٌ، فانتفضت الإدارة لتنفذ ما اتفقوا عليه ضدنا، وجاءوا وقالوا: "اللي أخذ شيء يركن على جنب"، فخرجتُ ومعي بعض الإخوة، فأُمِرَ بأخذنا إلى عنبر التأديب، وساقوا أهلنا إلى قسم المعادي، مرفقةً معهم مذكرةً يقولون فيها إنهم أدخلوا ممنوعات السجن، وكان من ضمنهم والد الأخ حسن علي حسن، فقال لوكيل النيابة: إننا لم نُدخل ممنوعات، لكنه كان طعامًا والأمر أننا إخوان مسلمون، فأفرج عنهم.
وبعد أن أدخلونا عنبر التأديب لم نعلم ما حدث في الخارج، وعشنا لحظات كلها تعذيب وتكدير, لكننا كنا- قبل الحادث- قد رأينا أنهم أعادوا مرضى الإخوان الموجودين في المستشفى، وشعرنا بشيء يُدبَّر لنا، فقررنا الامتناع عن الخروج للجبل حتى لا نُضرَبَ بالرصاص بحجة أننا حاولنا الهروب، وكتبنا مذكرةً نطلب فيها التحقيق معنا، وأنَّ حياتنا في خطر، وكنا ما زلنا في عنبر التأديب.
وثاني يوم من الزيارة سمعنا صوت رصاص منهمر وصرخات الإخوان من كل مكان، وبعد فترة صَمَت صوت الرصاص، وجاءت النيابة، وسمعت منا، وأدانت إدارة السجن، لكنها تغيرت، وفي الليلة الرابعة بعد المذبحة أخرجونا إلى سجن القناطر الخيرية، وبقينا فيه ثلاثة أشهر في تعذيب وتكدير، وقد أسفرت المذبحة عن مقتل واحد وعشرين من الإخوان وأصيب مثلهم.
كما نُقِل معنا عبد العال سلومة إلى سجن القناطر، والذي أذاق الإخوان أشدَّ أنواع العذاب البدني والنفسي، حتى إن ستةً من إخواننا فقدوا عقولهم أثناء وجودنا في سجن القناطر.
حياة ما بعد المحنة
خرج الحاج جودة من السجن في أغسطس 1971م، وسعى للعودة إلى عمله الذي عاد إليه، وبعد عامين انتقل للعمل في مجموعة مصانع الشريف، وظل بها حتى بلوغه سن المعاش.
ونشط في العمل الدعوي مع الإخوان الموجودين في الشريف، وقام بمشاركتهم في تنظيم الأسر والكتائب منذ عام 1986م، واعتبروه مسئولاً عن منطقة عين شمس، وما زال حتى الآن نهرًا من العطاء وسط شباب الدعوة، رغم كبر سنه.
المصادر
1- حوار شخصي مع الأستاذ جودة شعبان يوم 7/11/2007م.
2- يوميات محمد يوسف هواش: مجزرة القرن العشرين، دار الأنصار، الطبعة الأولى، محرم 1399هـ - ديسمبر 1978م.
3- جابر رزق: مذبحة الإخوان المسلمين في ليمان طرة، دار اللواء للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1421 هـ - 2001م.
4- محمد الصروي: الإخوان المسلمون في سجون مصر (من عام 1942م-1975م)، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1427 هـ -2006م.