جودة شعبان
مقدمة
إن الحقيقة التاريخية لتلك الحقبة وصلت بالشعب المصري وبالأمة العربية والإسلامية إلى ذروة المأساة، وهي الحقبة التي تمثلت في حكم عبد الناصر لمصر، ولم يكتب عنها الكثير, وما زالت الوثائق لا يعرف مكانها ولم يفرج عن الكثير منها، وهي لا تزال ضائعة... لكن مهما طال الانتظار فسوف تتمزق الأستار وترى الأجيال القادمة حقيقة القوى التي كانت تمسك بخيوط الدمى التي صنعتها بيديها، وقدمتها كأبطال أسطوريين؛ ليعلبوا الأدوار التي رسمت لهم حتى ولوكان في ذلك ضياع أوطانهم، واستذلال شعوبهم.
إن المذابح التي ارتكبت في عهدعبد الناصر لن يخفيها التاريخ؛ فستعري كل مذبحة حقيقة عبد الناصر؛ فإعدام علماء الأمة في 1954م, وتدبير مذبحة طرة 1957م، ونصب مجزرة 1965م لن تمر مر الكرام حتى ولو حاول الناس نسيانها فلن ينساها التاريخ، وجودة شعبان الذي بلغ من العمر ما يزيد على الثمانين ما زال شاهدًا حيًّا على هذه المذبحة؛ حيث كان أحد أطرافها.
من الميلاد إلى طريق الدعوة
ولد جودة محمود شعبان في 14/4/1926م بقرية الصنافين التابعة لمنيا القمح شرقية, وهي من القرى الهادئة, كما أن منيا القمح من المراكز التي خرّجت كثيرًا من الذين سطروا أسماءهم بمداد من نور في صفحات التاريخ أمثال الأستاذ مصطفي مشهور والدكتور أحمد الملط وغيرهم الكثير.
كان الحاج جودة وحيد والديه، والذي كان يعمل كغالبية الشعب المصري في مجال الزراعة، ثم ترك هذه المهنة وامتهن التجارة, كما أن والدته كانت ربة منزل، وبالرغم من ذلك عملوا على تنشئة ولدهم الوحيد تنشئة طيبة.
التحق بمراحل التعليم الأولية وحصل على الابتدائية, لكنه ترك التعليم وعمل مع والده في محل البقالة الذي كان يمتلكه، ضاقت به سبل العيش في قريته فخرج إلى القاهرة عام 1945م بحثًا عن عمل, فنزل شبرا الخيمة حتى وفقه الله للعمل في مصنع صباغة وتجهيز بشبرا الخيمة.
بعد مرور ثلاثة أعوام على عمله في مصنع الصباغة, التحق بالعمل المهندس صلاح العطار -والذي تخرج في كلية الفنون التطبيقية وعيّن في شركة عام 1948م- والذي عمل كمهندس مسئول عن قسم الصباغة، وهو القسم الذي كان يعمل فيه الحاج جودة عاملاً, وكان جودة بطبيعة تربيته محافظًا على الصلاة في جماعة، كما كان حسن الخلق بين زملائه، فلفت نظر المهندس صلاح العطار والذي كان أحد قادة الإخوان المسلمين.
فتقرب منه بعد أن رآه يتردد على المسجد بانتظام وتعرف عليه, ثم طلب من مدير الشركة أن يأخذ جودة معه في إدارة القسم فوافق, ومع مرور الأيام عرَّفه على دعوة الإخوان المسلمين، حتى انتظم بها وكوّن مع زملائه مجموعة مكونة من خمسة أفراد، وظل مسئولهم المهندس صلاح العطار حتى جاءت حرب فلسطين فسافر العطار، وقبل توجهه لفلسطين سلمهم للأستاذ عبد الكريم قدوس حتى كانت محنة 1948م والتي قبض على كثير من الإخوان، وكان من بينهم الأستاذ عبد الكريم.
وأصبح الحاج جودة وحيدًا لكنه اتفق مع مجموعته فيما بينهم أن يواصلوا الطريق ويتقابلوا كما كانوا يفعلون من قبل، وظلوا على ذلك حتى أفرج عن الإخوان وخروجوا من معتقلاتهم، فعادوا إلى سائر عهدهم وانتظامهم في جلساتهم.
ونشط وسط زملائه يعرفهم دعوة الله، ويكوّن منهم المجموعات حتى أعيدت للجماعة حقوقها، واختير في 17/10/1951م الأستاذ المستشار حسن الهضيبي مرشدًا عامًّا للإخوان المسلمين, والذي عمل على إعادة هيكلة النظام الخاص تحت رئاسة الأستاذ يوسف طلعت, ودعي الحاج جودة للعمل في النظام الخاص لكنه لم يشترك فيه بسبب بعض الأحداث التي حدثت له.
وفي 1950م اقترن عن طريق ابنة عمه بالسيدة زينب السيد حسن، والتي عملت معه على طريق الدعوة, وكانت تعمل مع أم أحمد في شبرا حتى اعتقلت عام 1965, وأنجب منها نادية في يونيو 1951، ثم علية في أغسطس 1955، ثم ياسر عام 1965، ثم عمرو عام 1974م، وقد اجتهدا في تربية أولادهم على نهج كتاب الله وسنة رسوله.
في مواجهة المحن
ظل الحاج جودة يعمل في شركة الصباغة, وظل داخل نطاق دعوته حتى حدثت حادثة المنشية في 26/10/1954م وفتحت السجون، وزج بالألوف من الإخوان فيها، واختطفت المباحث العائل الوحيد لأسرته وتركتها دون عائل, بل وقطعت عنهم مرتباتهم, وضيقت على زوجاتهم وأسرهم، وخططوا في محاولة منهم تشريد أسر الإخوان وتفكيك روابطهم, لكن الكثير من الإخوة والأخوات الذين لم يصبهم أذى الاعتقال حملوا على عاتقهم تكافل أسر الإخوان وتزويدهم بما يلزمهم من حاجات.
لكن عبد الناصر ونظامه الطاغي ما أن اكتشفوا هذا النظام التكافلي الذي يقوم به الإخوان والأخوات حتى وجه ضربة أخرى لصفوفهم، شملت الإخوان الذين كانوا يعيلون أسر الإخوان في قضية سميت بـ"قضية التمويل", فقبض على الحاج جودة في مارس 1955، وزج به في غياهب السجون، وحكم عليه بعشرة سنوات شاقة قضاها كلها في سجون مصر حتى خرج في مارس 1965م.
لقد جن جنون عبد الناصر عندما علم أن للإخوان تنظيمًا؛ فقد كان يظن أنه قضى على كل الإخوان، حتى إنه أصبح يصرخ في وجوه المخابرات صرخات محمومة جنونية: "إزاي يسرقوا مني جيل الثورة، قباني (بائع قطن وهو الشهيد عبد الفتاح إسماعيل)، وامرأة يعني (زينب الغزالي)"، واضطرب كيانه وساءت صحته، وخارت قواه العقلية والعصبية مما اضطره أن يذهب إلى روسيا حيث الحمامات الساخنة والجلسات الكهربائية، وبعد أن أمسك بأنفاسه في روسيا أعلن من فوق قبر لينين:
"لقد اكتشفنا مؤامرة للإخوان المسلمين، ولئن عفونا المرة الأولى، فلن نعفو المرة الثانية"، وأعطيت الأوامرالشديدة، فكان التعذيب الرهيب الذي استمر قرابة عام أثناء التحقيق، وتحضرني قصة كتبها الأستاذ أحمد رائف في كتابه "البوابة السوداء" يقول فيها: "مات أحدنا لشدة التعذيب في الزنزانة، وعندما فتح السجان باب الزنزانة صباحًا قلنا: يا أفندم مات واحد. فقال السجان: (يا أولاد الكلب بس واحد مات، حانودي وشنا فين من المسئول)".
لم يقض الأستاذ جودة وقتًا كبيرًا في الخارج حتى صدر قرار من عبد الناصر باعتقال كل من سبق اعتقاله, فاعتقل في أغسطس 1965م، وقدم للمحاكمة في قضية تنظيم السجون،، ولم يخرج إلا في أغسطس 1971، وفي هذه الفترة لم يلن ولم تخط يده تأييدًا لعبد الناصر، بل كان مثالاً للمسلم الصابر الذي اشترى آخرته بدنياه، وانتقل من سجن القلعة إلى سجن أبي زعبل، ثم مزرعة طرة.
لم يقتصر الاعتقال عليه وحده، بل شمل زوجته وأمه السيدة عالية السيد حسن، وكان عمرها 65 عامًا، ورُحِّلوا إلى سجن القناطر، وقضوا به ستة أشهر حتى أفرج عنهم، كما اعتقل ولده ياسر والذي كان عمره آنذاك أربعين يومًا، مما عرى نظام عبد الناصر في كل زمان.
مذبحة ليمان طرة 1957م وشهود عيان
بعد حادثة المنشية قام عبد الناصر بمذبحة ضد بعض العلماء أمثال الشيخ محمد فرغلي والقاضي عبد القادر عودة والأستاذ إبراهيم الطيب ويوسف طلعت وهنداوي دوير ليرسخ لنفسه في الحكم, وبعد أن استتب به الحال بعد عدوان 1956م أراد أن يغير الملكية إلى جمهورية في الدول المجاورة، فدعم انقلابًا ضد الملك حسين ملك الأردن غير أنه اكتشف، وساعد على اكتشافه إخوان الأردن، فتولد لدى عبد الناصر رغبة في الانتقام من إخوان مصر, فرتب مع بطانته القيام بمذبحة ضد العزل من الإخوان داخل المعتقلات، وخطط لذلك وحشد قواته لتصفية الإخوان في كل معتقل، وكانت البداية في سجن ليمان طرة.
يقول الأستاذ جابر رزق الفولي:
- "لقد أقيمت المذبحة في أول يونيو 1957م لمائة وثمانين من الإخوان المسلمين، هم الذين بقوا في سجن ليمان طرة بعد ترحيل إخوانهم إلى سجن المحاريق وبني سويف وأسيوطوغيرها من السجون.
لقد بلغ الطاغية عبد الناصر ورجال حكمه من الخسة واللاإنسانية أن أطلقوا الرصاص على المائة والثمانين من المسحونين داخل الزنازين وهم عزل لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (البروج: 8) واستشهد أكثر من عشرين من الإخوان، وفقد عقله أكثر من هذا العدد.
فقد استشهد فيها كلاًّ من أنور مصطفى أحمد، والسيد علي محمد، ومحمود شعبان، وأحمد حامد قرقر، ومحمود عبد الجواد العطار، وإبراهيم أبو الدهب، ورزق حسن إسماعيل وغيرهم، واستطاع عبد الناصر أن يحيط المذبحة بجدار من الصمت والتقتيم حتى لا يعرف الشعب المصري شيئًا عن المذبحة".
ويقول الشهيد محمد يوسف هواش -وهو أحذ الذين شاهدوا المذبحة: لقد سبقت المذبحة عدة مقدمات؛ ففي يوم الأربعاء 22/5 منعت صلاة العصر بصورة غاية في الاستفزاز، ويوم الخميس 23/5 منع لعب الكرة الذي كان مرخصًا به، ويوم الجمعة ظلت الزنازين مغلقة حتى صلاة الجمعة، ويوم السبت حدثت مشادة بين الضابط عبد العال سلومة وثلاثة من الإخوان بغير داع، ويوم الأحد 26/5 قال سلومة مهددًا: "فيه أوامر عالية بجر الإخوان لمعركة نِخَلَّص فيها على ثلاثين.. أربعين".
وأخذ الضابط عبد الله ماهر يحتك بالإخوان بغير مناسبة ويحاول استفزازهم بكل طريقة، ويوم 29/5 شرح الإخوان لمدير السجن ما يحدث لهم، ويوم 30/5 منعت الزيارات، ويوم 1/6 حدثت المذبحة".
ويقول الأستاذ جودة شعبان -الشاهد الحي: كنا في ليمان طرة ما يقرب من 180 من الإخوان، وكان أكبر عدد منهم في الليمان من إخوان شبرا، وكانت زياراتهم هي يوم مشهود؛ فقد كان عدد الحضور في اليوم المخصص لهم كبير, وفي أواخر مايو شعرنا بأن ضباط السجن يقومون بعمليات استفزازية ضد الإخوان، خاصة الضابط عبد العال سلومة وعبد الله ماهر.
فأخذنا نتواصى بالصبر وضبط النفس وحكمة التصرف أمام كل ما نتعرض له من معاملة المسئولين في الليمان، خاصة الضباط الذين كشفت الأحداث عن مدى حقدهم وكراهيتهم للإخوان أمثال عبد العال سلومة وعبد الله ماهر وعبد اللطيف رشدي، وكانت الأحكام للإخوان الموجودين في الليمان تتراوح بين العشر سنوات والخمس وعشرين سنة.
وكنا نطلع الجبل مثل بقية المساجين، وكانت لنا طريحة لابد من أن ننجزها، وكان من بين وسائل الضغط النفسي علينا في الليمان عملية التفتيش المستمر، وكانت تتم بصورة مستفزة، وكادت هذه المذبحة تحدث في فبراير 1956م لكن مدير السجن كان حكيمًا فحال دون ذلك، مما دفع زكريا محيي الدين وزير الداخلية آنذاك أن يقوم بنقله عقابًا له على ذلك، وجاء بمأمور آخر هو السيد والي والذي كان شديد الحنق على الإخوان المسلمين.
وقبل يوم المذبحة جاءت زيارة لمجموعة إخوان شبرا، وكانت من أكبر الزيارات، وكنت واحدًا من المطلوبين للزيارة، وقد جاء أهالينا ببعض الطعام، وكان من ضمن الذين أخذوا طعامًا الأخ عبد الغفار السيد، وفجأة ظهر الضابط عبد الله ماهر ودفع الأخ مما أوقعه في صورة مستفزة، ولم يقتصر على ذلك بل قام بضرب أم أحد الإخوان ثم أنهى الزيارة.
وسارع إلى الإدارة وقال: إن الإخوان اعتدوا عليه، وكأن الأمر مبيت، فانتفضت الإدارة لتنفذ ما اتفق عليه مع السادة من قبل، وجاءوا وقالوا: من أخذ شيئًا فليركن على جنب، فخرجت ومعي بعض الإخوة، فأمر بأخذنا إلى عنبر التأديب، وساقوا أهلنا إلى قسم المعادي مرفق معهم مذكرة يقولون فيها: إنهم أدخلوا ممنوعات للسجن.
وكان من ضمنهم والد الأخ حسن علي حسن فقال لوكيل النيابة: إننا لم ندخل ممنوعات لكنه كان طعامًا، والأمر أننا إخوان مسلمين فأفرج عنهم، وبعد أن أدخلونا عنبر التأديب لم ندر بما يحدث في الخارج، وعشنا في لحظات كلها تعذيب وتكدير, لكننا كنا قبل الحادث قد رأينا أنهم أعادوا مرضى الإخوان الموجدين في المستشفى، وشعرنا بأن شيئًا يدبر لنا فقررنا الامتناع عن الخروج للجبل حتى لا نُضرب بالرصاص بحجة أننا حاولنا الهروب، وكتبنا مذكرة نطلب فيها التحقيق معنا، ولنعرض عليهم أن حياتنا في خطر.
وكنا ما زلنا في عنبر التأديب، وثاني يوم من الزيارة سمعنا صوت رصاص منهمر وصرخات الإخوان من كل مكان، وبعد فترة صَمَت صوت الرصاص وجاءت النيابة وسمعت منا وأدانت إدارة السجن لكنها تغيرت، وفي الليلة الرابعة بعد المذبحة أخرجونا إلى سجن القناطر الخيرية وبقينا فيه ثلاثة أشهر في تعذيب وتكدير، وعلمنا أن المذبحة أسفرت عن مقتل واحد وعشرين من الإخوان وأصيب مثلهم.
وقد نقل معنا عبد العال سلومة إلى سجن القناطر الذي أذاق الإخوان أشد أنواع العذاب البدني والنفسي، حتى إن ستة من إخواننا فقدوا عقولهم أثناء وجودنا في سجن القناطر.
حياة ما بعد المحنة
خرج الحاج جودة من السجن في أغسطس 1971م، وسعى للعودة إلى عمله، وبمساعدة حسن رشدي زايد عاد إليه، وكان ذلك ردًّا لجميل قام به الحاج جودة نحو الأستاذ حسن، غير أنه بعد عامين انتقل للعمل في مجموعة مصانع الشريف، وظل به حتى بلوغه سن المعاش.
نشط في العمل الدعوي مع الإخوان الموجودين في الشريف، وقام بمشاركتهم في تنظيم الأسر والكتائب منذ عام 1986، واعتبروه مسئولاً عن منطقة عين شمس الشرقية كما انضم للمكتب الإداري لإخوان شرق وفي بعض الأحيان كان مسئولا عنه، وظل على حبه وعمله وسط الإخوان حتى رحل.
رحيله
بعد رحلة طويلة من العمل من أجل الدعوة وترسيخ مبادئها في نفوس الشباب، رحل الحاج جودة محمود شعبان يوم الخميس الموافق 4 مارس 2021م/ 21 رجب 1442م في صمت دون ضجيج، حيث يعد من أواخر الشهود على مذبحة طرة التي قام بها عبدالناصر ضد العزل من الإخوان في السجن عام 1956م.
تغمده الله بواسع رحمته
ألبوم صوره
|