عندما غابت الشمس

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


عندما غابت الشمس

كتاب للأستاذ / عبدالحليم خفاجي


المقدمة

عبد-الحليم-خفاجى.jpg
الفضل لله عالي وحده ، ثم لاثنين من الأخوات في إخراج هذه المذكرات ، من الظلمات إلي النور ، في وقت كان يجبن فيه عن التضحية أشجع الرجال .. الأولي هي الأخت أم جهاد زوجة أحد الأخوة المعتقلين ، والثانية هي الأخت نفيسة زوجة الشهيد أحمد نصير .. الأولي غامرت بتهريبها إلي خارج المعتقل ، رغم سلسلة التفتيشات التي يتعرض لها الزوار والمعتقلين علي السواء .. والثانية لم تتردد في الاحتفاظ بالكشاكيل الخمسة التي سُرَّبت إليها تباعًا ، رغم أنه لم يكن قد مضي علي استشهاد زوجها بالمعتقل عدة أشهر ، وكان بيتها لذلك هو أصلح مكان للحفظ بعد أن خفت الرقابة عليه . ولولا هاتين الأختين المجاهدتين لطويت الفكرة في الصدور .. فلله الفضل والمنة .. إن ربي لطيف لما يشاء ..

وبعد ..

فلقد ترسب في نفسي اقتناع جازم سنة 1969 وما بعدها حتى تاريخ وفاة عبد الناصر سنة 1970 أننا باقون خلف الجدران حتى نلقي الله ، وكان هذا الاعتقاد الذي تعددت شواهده لدينا وراء مغامرة كتابة هذه المذكرات ، التي لن يصيبني منها أي سوء سوى التعجيل بالشهادة ، وهي حيرّ عندي من الموت البطيء . ظهرت بوادر هذه النية الشريرة بفتح الزنازين علينا ليلاً ونهارًا لأول مرة بعد أربعة عشر عامًا من السجن والاعتقال ، وذلك علي سبيل التخدير للحيلولة دون حدوث أي انفجار داخلي ، في وقت بدأ النظام فيه ضعيفاً بعد هزيمة سنة 1967 ومحتاجًا إلي دعم الدول العربية بعد مؤتمر الخرطوم ، وإلي مساندة الرأي العام الإسلامي ، ولا يريد تعكير صفو هذه العلاقات بأي عمل يشتم منه رائحة معاداة الروح الإسلامية في الأمة ، فكان في فتح الزنازين والاكتفاء بإغلاق أبواب العنابر الخارجية إلهاء لنا عن التفكير في أي عنف ، بما يوحي به الفتح من قرب تصفية الأوضاع الاستثنائية ، خاصة بعد صدور بيان 30 مارس المخصص للكلام عن الحريات ..

وكانت الثورة تبذل جهداً مستميتاً للتوفيق بين نية البطش والتنكيل بالحركة الإسلامية ، وبين ضرورة الظهور بوجه ديمقراطي إنساني ، أو حتى إسلامي إذا اقتضي الحال .. ففي الوقت الذي بطشت فيه بمظاهرات الطلبة المطالبة بالحريات في الإسكندرية في فبراير 1968 ، أصدرت بيان 30 مارس ، الذي يفيض إنسانية وكرامة ، حتى استحق وصف بيان الحريات ، واستأهل لذلك أن يخلد في متحف الثورة .. وفي الوقت الذي اضطر فيه عبد الناصر إلي إعلان تصفية المعتقلات أمام المؤتمر الطارئ للاتحاد الاشتراكي . لم ينس أن يستدرك ويستسني القلة ، الذين يعتبرهم الجيش العقائدي للإخوان ، والذين لا يشكل وجودهم في السجون والمعتقلات أي تشويه لوجه لثورة الديمقراطي .. الثورة التي لا مكان فيها لأعداء الشعب ، والتي كانت فيها الحرية كل الحرية للشعب .. وفي الوقت الذي شغل عبد الناصر فيه الأمة بالاستفتاءات الكثيرة كان لا ينسي أن يضيف أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة .. ليكون لقبر الحريات وجه جديد من وجوه الشرعية . وعندما تفاقم الأمر واشتدت مظاهرات العمال بحلوان في نوفمبر 1968 اضطر إلي أن يكون أكثر تطوراً أمام المؤتمر القومي في اجتماعه الطارئ ، فأعلن هذه المرة بحسم كبير إلغاء جميع الإجراءات الاستثنائية ، حتى في مصر معتقل واحد عن غير طريق القضاء .. وكان في هذا الإعلان صادقاً في الظاهر – علي الأقل - ؛ لأن التنفيذ كان يتم علي الورق ، حيث صدر في نفس ساعة إلغاء الإجراءات الاستثنائية قرار جمهوري رقم 10/10/1986 "باعتقال المعتقلين " ، والقرار صادر من رئيس الجمهورية باعتباره الرئيس الأعلى للقضاء ، لا بصفته رئيساً للسلطة التنفيذية صاحب القرارات الاستثنائية المشؤومة .. فكان القرار الجديد قضائي ، والاعتقال أصبح قانونياً ، وإلي هذه الأمور من آخر اللعب بالألفاظ وبالشعوب ، في الوقت الذي لم يتغير فيه أي شيء في المعتقلات .

في هذا الجو الغريب لم تكن الكتابة بالأمر الهين ، ولا عواقبها بالوخيمة فحسب ، في نظام لا يحترم الإنسان إلا بالشعارات ، وفي ظل قائد معتقل شرير – هو عبد العال سلومه – عريق في إحصاء حركات وسكنات بل وأنفاس المعتقلين .. فكان لابد من فرض حالة طوارئ شديدة علي نفسي ، وحسبي بفتح الزنازين فرصة ومغنمًا .. ومع هذا فلم يسلم الأمر من مآزق كادت تودي بي قبل تحقيق الهدف . فكنت أتخير الكتابة في أوقات السحر ، أو بعد الفجر ، أو في وقت الظهيرة ، وأتخير الأماكن المهجورة ، أو حجرة قائد العنبر ليلاً ، أو سطوح المرافق من مغسل وفرن ومطبخ ، أو ما شابه ذلك ، وفي كل الأحوال أترك كتاباً أدبياً مفتوحاً أمامي ؛ أُرْضِي به الفضول من يفاجئني بالسؤال .. ولقد حرَّمت النوم علي عيني بعد الفجر ؛ خشية التفتيشات المفاجئة ، التي تشمل أغلب أيام الأسبوع ، بحثاً عن الأوراق والأقلام ، وقبل أن تصل فرقة التفتيش إلي العنبر أكون قد أدخلت الكشكول في علية صفيح أعددتها سلفاً ، وطرحت بها فوق ظهر المعتقل ، وبعدها أستوي علي " نمرتي " آمنًا ، وعندما تحين فرصة لعب كرة القدم بفناء المعتقل أتعمد قذف الكرة عالياً فوق السطوح ، لأكون أول من يتطوع بإحضارها ، ومعها صيدي الثمين مشدوداً تحت الثياب ..

وأخطر ما واجهني من مأزق كان أثناء إحدى غارات الفانتوم علي مصانع حلوان القريبة من المعتقل ، حيث بقيت في مكاني فوق السطوح ، مستغرقاً في الكتابة ، مستفيداً من حالة الذعر التي عمت الجميع ، ومن صفارات السجانة المدوية لسرعة إدخال المعتقلين إلي الزنازين .. لم أشعر إلا وأرجل قائد المعتقل والضباط من ورائه تهرول من جانبي ، متجهة إلي سور السطح لمعاينة أماكن ضرب الغارة ، فأسرعت بلملمة أوراقي وانفلتُّ هابطاً من حيث صعدوا ، دون أن يشعر بي أحد .. ولكن محنتي الحقيقية كانت تبدأ فور فراغي من كتابة كل كشكول ، إذ كيف أخترق به الحواجز البوليسية ، إلي خارج أسوار الدولة البوليسية ، قبل الشروع في الكتابة من جديد .. لم يكن أمامي إلا انتظار الأعياد الإسلامية ، والمناسبات الوطنية ، حيث يترخصون في تسلم الأطعمة ، في مختلف الأوعية ، بشرط سرعة إعادتها فارغة داخل علبها الكرتونية .. وبنفس السرعة أكون قد نجحت في إلصاق الكشكول في قاع الكرتونة ، مستخدماً " النشا " والأوراق ، بحيث يبدو القاع طبيعياً ، بمساعدة من أثق بهم من الشباب من آل " البرديني " .. وكم تصببت عرقاً كلما شاهدت السجان وهو يمعن في فحص علبة الكرتون ، إلي أن يمر المشهد بسلام فأخر ساجداً لله ..

وعندما ضاقت بنا السبل ذات مرة ، ولم نجد منفذاً عن طريق الزيارات تَصَنّعَ أبو جهاد المرض ؛ ليدخل المستشفي ، حيث زارته أم جهاد بها ، واستطاع أن يغافل السجان ويدس لها الكشكول في صدرها ، ولم يتشكك أحد ، وإلا لقامت إحدى السجانات المخصصة لهذا الغرض لتفتيشها . وأخيراً نفذت إرادة الله بخروج جميع المذكرات ، ومن ورائها خروج كل المعتقلين ، والتقيت بها في العافية ، وازددت حمداً وشكراً لله ، خاصة حين قيض لي أخي الدكتور عبد الله رشوان ؛ ليتولي حفظها مرة أخري ، قبل سفري إلي الكويت .. ولما استتب لي الأمر بالكويت وأنجزت كتاب الحوار مع الشيوعيين ، فاتحت أخي الشيخ حلمي الكاشف لإحضار المذكرات معه من القاهرة في إحدى سفرياته ، وبصَّرته بالعواقب ، فما زاد علي أن قال :

أليست عملاً للدعوة في سبيل الله ؟ قلت : بلي إن شاء الله . قال : إذن لا يهم ما يصيبني . وجاء أخي بلال التل – مدير تحرير جريدة اللواء الأردنية – لزيارتي برفقة الأخ أحمد رائف ، لإجراء تحقيق صحفي معي حول كتاب الحوار ، وأثناء الزيارة اطلع علي المذكرات ، ورغب في نشرها ، فرحبت بذلك حباً في هذا الشاب الغيور علي دعوته ، وتم النشر بحمد الله علي مدار ستين حلقة أسبوعية ، بعدها سعدنا بالضيافة في بلد التاريخ الإسلامي العريق والأمجاد الزاخرة .. ولم أنس في غمرة ذلك كله دور الأختين المجاهدتين ، فهما صاحبتا الثواب الأكبر – إن شاء الله - ، وابتسمت وأنا أتذكر ذلك الضابط الصغير ، الذي هاله أن تسمي الأخت الضعيفة ابنتها جهاد بعد أن وضعتها عقب اعتقال زوجها ، وأجري تحقيقاً شديداً معها في مبني المباحث عن دوافع هذه التسمية ، وهددها بسوء المصير إذا لم تغير هذا الاسم .. وربط الله علي قلب هذه الأخت الوحيدة في دولة الطواغيت ، ولم يتزعزع إيمانها .. وكافأها الله علي ذلك في الدنيا برؤية هذا الجهاد . أما يوم القيامة فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون .

عبد الحليم خفاجي

بالجماعة الإسلامية بجنوب ألمانيا الغربية – بميونيخ

27 رجب 1399هـ 22 يونيو 1979 م


الباب الأول : خارج الأسوار

الفصل الأول

استيقظت من نومي في تمام الساعة الواحدة صباحًا مبكراً عن عادتي .. وجدت " النمرة " المجاورة لي خالية ومنسقة .. أدركت أن أخي محمد بيومي قد سبق إلي قيام الليل .. تشجعت ونفض بقايا النوم من عيني ، وكوَّرت غطائي تحت قدمي ، وجلست أسرح الطرف في أرجاء الزنزانة الكبيرة رقم 5 عنبر 4 بمعتقل طره السياسي .. لا جديد تحت السقف .. نفس المنظر الذي ألفت رؤيته منذ أربعة عشر عامًا أو يزيد ، حتى تاريخ كتابة هذه السطور في 28 ذي القعدة سنة 1389هـ - 6 فبراير 1970 - .. نفس الأجساد المرصوصة المتدثرة بالبطاطين الثقيلة لمقاومة ليل الشتاء الطويل ، كأنها توابيت متجاورة وُضِعَتْ بعناية في مقبرة جماعية من مقابر قدماء المصريين .. جاء بي إلي مقبرة الأحياء هذه للمرة الثانية قرار جمهوري مشؤوم ، صدر في 6 سبتمبر سنة 1965 لا يقضي باعتقال من حامت حولهم شبهة ، أو من وجَّهت إليهم قرارات اتهام في قضية معينة لمدة محددة .. بل كان القرار الثوري ينص علي اعتقال كل من سبق اعتقاله منذ قيام الثورة 1952 م حتى تاريخ صدور هذا القرار !! وقد اقتضي تنفيذ هذا القرار الحكيم اعتقال ما يربو علي الخمسين ألف شخص في أيام معدودات .. " بضربة معلم " ، اكتظت بهم معتقلات القلعة ، والسجن الحربي ، وأبي زعبل ، والفيوم ، وقنا ، والاردى ، ومعتقل طره السياسي الذي مازلت أقبع فيه بعد زيارة خاطفة لمعتقل أبي زعبل استمرت ثلاث سنوات .. ولا تعجب لقولي : خاطفة ؛ فالزمن هنا بلا حساب ...

وفي الأيام الأولي للاعتقال كانوا يتفضلون علينا بالخروج من المقابر مرة واحدة كل أسبوع8 ليوم الحشر في طرقات أحد العنابر ، للاستماع كرهًا إلي الحاضرين المسخرين لتوعيتنا ، وعمل غسيل مخ لنا .

طغاة :

ولازلت أذكر سؤالاً وجيهاً من المعتقلين إلي السيد / كمال رفعت محاضرنا في ذلك اليوم الأغر :

- لماذا اعتقلتم هذه الآلاف المؤلفة ، مع أن المتهمين بعمل التنظيم لا يتعدون المئات ؟

- ولماذا تستمرون في اعتقالنا حتى اليوم ، وقد انتهت التحقيقات وصدرت الأحكام دون أن يوجه إلينا سؤالّ ؟ ..

فكان جوابه الفصيح :

أما سبب اعتقالكم : فلأنكم كنتم ستفرحون إذا نجحت حركة الإخوان !! أما بقاؤكم حتى اليوم فهو لمصلحتكم !! ومن عجب أن نتلقى نفس الجواب من كل مسؤول يزور أي معتقل ، ومن كل قائد لكل معتقل ، حتى أصبح السؤال وجوابه محور تندر بيننا ... ويزداد عجبنا من هذا الجواب الموحد علي مدار السنين ، ويأتينا صوت من الغيب بمفتاح التفسير لألغاز هذه النفوس .. " أتواصوا به .. بل هم قوم طاغون ... " .

الموت سعادة :

صدرت الأحكام بالسجن والأشغال والإعدام .. وَرُحَّلَ المحكوم عليهم إلي عالم السجون .. والباقون إلي عالم المعتقلات .. إلا الذين اختصهم الله بكرامة الشهادة علي أعواد المشانق .. أو في حومة الوغى ، فلم يضمهم سجن ولا معتقل إذ كانوا أسعد حظاً من الجميع ، فسبقوا إلي جنة عرضها كعرض السماء والأرض ..

إنهم يبررون الجريمة :

والآن وقد سكن غضب السلطة ، وشفيت صدور فوقها ، لم يعد بد من تصفية المعتقلات بالتدريج ... حتى إذا ما تبقي منا خمسمائة معتقل أو يزيدون أغلقت علينا الأبواب ، بدعوى أننا نشكل خطورة مستمرة علي أمن الدولة ، باعتبارنا الجيش العقائدي للإخوان – علي حد تعبير جمال عبد الناصر أمام المؤتمر القومي في جلسته الطارئة ، التي أعقبت انتفاضة الطلبة والعمال بحلوان في فبراير سنة 1968م – ونحن نعلم مقدمًا أن هذا مجرد تبرير للجريمة المستمرة ، وحاسة الشعب المسلم لا يغيب عنها شيء .. وثقتنا في الله تعصمنا من متاهات الظنون . مضي علي اعتقالي – حتى اليوم – أربع سنوات ونصف .. ولكن الأمر يختلف كثيراً هذه المرة عن سابقتها ، التي استمرت عشر سنوات عجاف بين عدد من السجون .. كنت أُعامل خلالها كمسجون من نوع فريد ، لا هو بالمسجون السياسي ، ولا بالمسجون العادي .. بل كان يطبق علينا – أنا وجميع إخواني المحكوم عليهم الموزعين علي سجن ليمان طره ، وأسيوط ، والمنيا ، وبني سويف ، وقنا ، والواحات – أسوأ ما في الوضعين .

بحبوبة !

ولا أريد أن أستبق الحوادث ، فأقارن بين حياة السجن وحياة المعتقل ، وحسبي الآن أن انطلق من الواقع المحيط بي .. فالحجرة التي سكنت فيها تسمي غرفة ، ولا تسمي زنزانة ، كما هو الشأن في السجون ، وذلك لفارق المساحة طبعاً .. بها ثلاثة وأربعون معتقلاً ، تزدحم بهم عن آخرها .. ورغم هذا فنحن نحمد الله في كل وقت علي نعمة العدد القليل .. لأنها كانت تتسع في الأيام الأولي للاعتقال بأعجوبة لمائة وعشرين أو يزيدون من بني آدم ، يُحَشَروُن فيها كأعواد الكبريت – وكنت أحد أعواد هذه العلبة الغريبة – ويضم هذا المعقل وحده اثنين وعشرين علبة من هذا النوع ...

لا داعي للتداعي .. المهم أنني اليوم معتقل وكفي :

استيقظت هذه الليلة مبكراً عن عادتي .. وتفاءلت بالذكري والمناسبة .. إنها ليلة الجمعة المباركة ، وإنه يوم 6 فبراير سنة 1932 تاريخ ميلادي بقرية " مرصفا " – أو بالتاريخ الهجري 27 رمضان سنة 1350هـ ، فنحن كما يقول مالك بن نبي عالم سنة 1300 هجرية ، ولسنا عام 1900 ميلادية - .

مغامرة :

قمت أتحسس طريقي في الظلام – مثلما أتحسسها الآن إلي الكتابة - ؛ لأتفادى الأقفاص والأحذية و" التواتو " التي تملأ ممر الغرفة .. وتذكرت وعداً قطعته علي نفسي لأخ كريم بتسجيل قصة حياتي .. وصليت ركعتين ، دعوت بعدهما بدعاء الاستخارة ، ثم انطلقت متأبطاً حقيبتي التي اعتُقِلَت معي ، والتي كانت تحمل قبل الاعتقال أوراق التحقيق ، وملفات بحكم عملي ، كمفتش تحقيقات بالتربية والتعليم في فترة الانفصال بين السجن والاعتقال ، وقدرها تسعة أشهر وعدة ليال ، لكنها هذه المرة تحمل مصحفاً ، وعدة كشاكيل بيضاء ، وثلاثة أقلام وممحاة .. ولا تسل كيف تم تهريب هذه الممنوعات .. أعني هذه المفرقعات .. ولا كيف سأنجو بها من التفتيشات .. ولا ماذا سأقول إذا ضبطت معي .. ولا ماذا سيُفعل بي مهما قلت .. فأنا علي أبواب مغامرة كبيرة ، استعنت فيها بالله وحده .. دوافعها في نفسي معروفة ، ومخاطرها في إيماني محسوبة ، وليس بعد تخليص نيتي ، ودعاء استخارتي خوف من النتيجة بحول الله وقوته ، لا بحولي وقوتي ..

مغامران :

أنا الآن متسلل إلي حجرة قائد العنبر .. أجلس علي مكتب الضابط ، في تمام الساعة الثانية والدقيقة العشرين صباحاً .. الحجرة خالية تمامًا إلا من الحارس الذي يغط في نوم عميق ، وقد تكور علي الأرض ببزته العسكرية ، محتضناً سلاحه هرباً من برد الصالة القارس .. هو الآخر يغامر بالنوم في نوبة خفارته .. كلّ منا يغامر بطريقته الخاصة ..

قصة ليست ككل القصص :

الآن أبدأ بعون الله في كتابة القصة ؛ تلبية لرغبة كريمة ، أفطن إلي دوافعها النبيلة وأهدافها البعيدة ، فضلاً عن إسهام الكتابة في إخراجي من الواقع المحيط إلي عالم الذكريات والآمال الفسيح .. ولا أدري أيهما أعجب وأحق بالاهتمام .. أهو العمر الأول السابق علي السجن والاعتقال ومقداره ثلاثة وعشرون عامًا .. أم هذا العمر الثاني في أقبية السجون والمعتقلات ، والذي دام خمسة عشر عامًا حتى اليوم ، خلتها قروناً قد خلت .

لا أريد أن أظلم الحقيقة :

أظلم الحقيقة إن قلت : لا أدري .. فلا شيء أعظم من لحظات جهاد في سبيل الله ، فكيف إذا كانت سنوات عديدة ؟ .. ولكنها صيغة تقريب بين العمرين ، وما كان في كل منهما من جهاد وعبر .. ويبقي العمر الثاني في تفرده لا يطاوله شيء .. وإن ظل العمران معًا يمداني بذخيرة حية لا تنضب ، ففيهما تضرب جذور كل نعمة تفيأتها .. وتتفتح علي أغصانها زهور كل أمل أعيش فيه وأعمل له ..

الكتابة عن العمر الثاني :

أنتقل اليوم إلي الكتابة عن العمر الثاني مباشرة ، لأنه ألصق بالاهتمامات العامة للقارئ ، وأقدم له بذكر بعض الحوادث التي قادتنا إلي الاهتمام بالقضايا الكبرى للأمة ، ومن ثم إلي أقبية السجون والمعتقلات .. وأعدك يا أخي القارئ أن أعود بك إلي الكلام عن العمر الأول يوماً ما – إن شاء الله – إن خرجنا من الكتابة عن العمر الثاني سالمين ، لأنني أتهيب الكتابة فيه ، وأنا في العافية ، أكثر من تهيبي إياها وأنا في بطن الحوت .. ولسان خالي يقول : اللهم أعني علي أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم .. وأعدك أيضاً بمتعة من نوع خاص .. بل بما هو أكثر من المتعة .. بالعبرة وبسلامة العاقبة أيضًا .. وخذ عنوانه من الآن – قصص في حياتي - ، أما عن العمر الثاني فقد أعياني عنوانه .. وأي عنوان أختاره يظل دون الحقيقة المرة بكثير .. لأن أي عنوان ضخم إنما يعبر عن جزء منها ، وأوضع هذه المهمة الصعبة علي عاتق القارئ النبيه ، وعلي عاتق من يستطيع أن يتحمل المسؤولية أمام القراء .. ومن حقه علي أن أبصره ألا يتورط في ذلك ، فإن يوم الساعة له أكثر من اسم .. كذلك الشأن في كل حقيقة كبرى .. وما اختياري – عندما غابت الشمس – إلا مجرد محاولة علي الطريق ..

خارج الأسوار :

والآن لا معدي لك يا أخي القارئ عن معايشتي بعض الشيء خارج الأسوار .. ستصحبني أولاً إلي الريف .. أنت معي الآن في قرية مرصفا – إحدى قرى مدينة بنها محافظة القليوبية - ، وفي الدار الأثيرة عندي .. دار خالي الشيخ مراد بين كل من أحبهم منذ كنت طفلاً رضيعاً .. رصيدهم من الحب في قلبي دائماً في ازدياد .. زهور نفوسهم متفتحة علي الدوام ، ولكل منها شذاها الخاص في أوانه المناسب من فصول الزمن .. تحتار كيف تفاضل بينها في الحسن ، وأنت تتقلب بين صورها العبقة بالنعمة والجمال .. تتربع جدتي علي عرش قلبي في هذه الباقة ذات العطر الندى .

أشياء كثيرة تغيرت في حياتي منذ أن انتقلنا إلي هذه الديار ، بعد وفاة والدتي أصبحت لا أذهب إلي دارنا المهجورة ، إلا لتنسم عبير الذكريات الخالية .. في رؤيتي لكتبي التي تشغل دولابًا بالحائط ، وفي النخلة التي استطالت معتمدة علي نفسها ، وفي شجرة التوت التي زرعتها بيدي ، وأصبحت الآن تظلل نصف الدار .. وبعد أن ترتوي مشاعري من حديث الحجرات الخاوية ، أصعد إلي الدور الثاني لأتحسس أوراق شجرة العنب بيدي ، أبثها حنيني ، وألقي نظرة إلي بعيد حيث تنتشر خضرة الحقول ، وفيها أشجار النخيل ، وتصحبني فلة الحزينة في هذه الجولة ، وهي تكاد تطير من الفرح ، ولا تكف عن الدوران حولي ، وبين الحين والحين تقفز علي كتفي بقوائمها كأنها تحتضني بعد طول غياب .. فهي تعيش بمفردها في الدار ، وأنا أربت عليها ، وعيني تطفر بالدمع وفاء مني لوفائها .. بعد ذلك أعرج علي بيوت أعمامي الملاصقة لبيتنا .. ثم تسبقني قدماي إلي بيوت أصحاب الصبا .. كان هذا هو دأبي كلما وصلت إلي القرية في عطلة الأسبوع ، من مدينة بنها ، حيث أقيم مع والدي للدراسة بمدارسها . أما إجازة الصيف فأقضيها كاملة بين أحضان القرية ولا أبغي بها بديلاً .

سرحوا جيش مصر :

لكن أين أصحاب الصبا الذين لم يكونوا يفترقون ساعة من نهار ؟ لقد لفتهم مشاغل الحياة .. هل أنا المسئول عن انفراط عقدهم ؟ أما أنها هي الحياة التي حملتهم كثيراً من المسئوليات قبل جيلهم ؟ لقد كنا نطلق علي أنفسنا – الجيش المصري – ولا نفتر عن ارتياد النواحي والدروب ، ولم تترك طريقاً ولا ترعة ولا ساقية مهجورة ولا مولداً يقام إلا وكانت لنا فيها جولات ، وقفت أمام جذع النخلة الرابض أمام مسجد أبو حشيش بناحيتنا .. إنه علي حاله لم يتغير .. يحكي قصة جلوسنا عليه ذات يوم – أعني جلوس كل أفراد الجيش المصري – حيث أخذنا قراراً تاريخياً بتسريح الجيش ، وودعنا الأيام التي عشناها معاً في أسعد حال . منذ هذا اليوم وأنا دائم الحنين لعمل شيء جديد لهؤلاء الأصحاب .. شيء آخر غير اللعب المتواصل ، والاستحمام في الترع والسواقي ، واصطياد الأسماك ، والجري في الحقول ، والتسلق علي النخيل والأشجار ، والعراك مع النواحي الأخرى ، والسهر في الموالد والأفراح ، إذ لم تعد أرجلنا خفيفة إلي هذه المراتع .. لقد تقلصت خطواتنا بالتدريج عن كثير منها .

شيء لم يتغير :

لم يكن يغيب عني قبل أن أحضر لقضاء عطلة الصيف في القرية أن كل هذه التغييرات قد حدثت .. حدثت في نفسي أصحابي .. وفي الحياة من حولنا .. وكان يعزيني في ذلك كله إحساسي بأن شيئاً ما في داخلي لم يتغير .. وأن هذا الشيء ثابت كاسم القرية علي مدار الأجيال .. إنه الحب .. الحب لأصحابي ولأهلي ولمحاط الذكريات العزيزة عندي .. فالتغير لا يصيب الروح إلا عندما نفسد الروح بأيدينا .. ونغشي أنوارها بكسف من ظلام أعمالنا . بهذا الحب المقيم أحسست بالتزام من نوع جديد نحو الأهل والأصحاب والمكان .. والتزام يجعل الحياة كلها جنة وارفة الظلال في عيوننا .. وتجعل قلوبنا كلها متصلة بخيوط من نور تضيء كل زاوية في حياتنا ، ويجعل للحب بيننا مستوي جديداً لا يزول .


الفصل الثاني : ( خرجت الفكرة إلي النور وعرفت كيف تنتشر المبادئ )

كان ذلك في صيف 1948 حين طرحت الفكرة علي عدد من طلبة القرية كنت أسأل من أقابله .. ما رأيك في إنشاء ناد للطلبة ، يقوم علي تثقيف الأهالي ، وتبصيرهم ، وتحقيق بعض المشاريع التعاونية بينهم .. وبهذا نشغل أوقاتنا بما يفيد ، ونؤدي الواجب علينا ؟ وكان الرد دائماً :

- أعتقد أن الفكرة خيالية جداً ، لأن أغلب طلبة القرية من الأزهر الشريف ، الذين ينصرفون إلي العمل بالزراعة في إجازة الصيف ، بحكم مسئولياتهم العائلية ، التي تختلف عن مسؤولية زملائهم من طلبة المدارس .. لن تجد بعدهم من يتسع وقته للنشاط ، سوى صغار التلاميذ ممن لا يقوم بهم أي مشروع .. ثم إن هناك عقبات أخري حول مقر النادي ، وجمع الاشتراكات وصرفها . وعلي أحسن الفروض فهي فكرة سابقة لأوانها .. وما عثرت في جولاتي كلها علي طالب واحد يؤمن معي بالفكرة ، أو يشجعني علي الاستمرار فيها .. ولم يزعزع شيء من ذلك شيئاً من إيماني بها ..

خالي يؤازرني ولكن ..

كان خالي الشيخ مراد يرقب مسعاي هنا وهناك ، ويتابع لقاءاتي بهذا وذاك ، وسألني بابتسامته الحانية عن حصيلة السعي ، فأفضيت إليه بكل الاعتراضات .. وعددت له ما سيعود علي القرية من فوائد .. وكشفت له عن السر الكبير في نفسي ، وهو نية تجنيد الطلبة بعد ذلك في جمع تبرعات ، تكفي لشراء جَرَّاء وماكينة ماء لري الأراضي لتطوير الزراعة ، لنرفع عن الناس إصرهم ، والأغلال التي عليهم ، ولتكتمل الصورة أخيراً بإضاءة ليل القرية . أضاءت ابتسامته روحي حيث أشرقت بنور الحب الأبوي ، وهو يزكي الفكرة .. أخيراً عثرت علي من يشد أزري .. إنه خالي دائمًا .. أجده حيث أفتقد الآخرين .. لكن فرحتي لم تطل .. فهذا صوته الصادق يتناول أعز أهداف النادي بالتعطيل .. وأجدني مشدوداً بالقلب إلي حبه ، وبالعقل إلي حججه القوية ، حتى عندما أمسك الفضل من قوله ظل صدي صوته يتردد في صدري يطامن من أحلامي :

- يا بني ، إنها فكرة قيمة وعملية ، إذا كانت في التثقيف والرياضة وإضاءة القرية .. أما إن جاوزت ذلك إلي شراء جَرَّار للحرث وماكينة للماء فإن ضررها سيكون أكبر من نفعها .. بل ربما لا يكون لها نفعّ علي الإطلاق ؛ لأنها ستتسبب في تبطيل عدد كبير من الفلاحين ، الذين يتكسبون من عمل أيديهم في الحرث والري .. إنه مشروع مفيد حقاً ولكن لأصحاب الأراضي وليس للعمال عندهم .. فهل فكر في مصير هؤلاء البؤساء عندما تحل الآلات محلهم .. ألست معي أن هذا المشروع يحتاج إلي سلطة الدولة ؛ لتكون أقدر علي تلافي نتائجه الاجتماعية ؟ .

فعل منطق الحق ودرس من أبي :

- يا له من منطق قوي ، صدمني بقدر ما أقنعني في الوقت نفسه .. وكذلك يفعل الحق في تغيير النفوس ، ولو كان أمراً ، إذا نطق به رجل صادق .. لقد خرج تفكيري علي التو من حيز القرية المحدود ، إلي محيط الأمة الواسع .. حقاً لماذا لا تقوم الدولة بذلك ؟ لماذا لا يقوم أحد الأحزاب السياسية بتبني هذا الاتجاه الإصلاحي ؟ ما الذي يشل الأحزاب جميعاً عن مثل هذا العمل ؟ لماذا لا يبدأون من القرية ، وهي في أيديهم ، وليست في أيدي الانجليز ؟ أي شيء في نفوسهم يصرفهم عنها ؟ كان والدي علي حق إذن ، عندما رفض الانتماء إلي أي حزب منهم ، إنه يعتبر صوته الانتخابي شهادة أمام الله ، وأمانة لا يعطيه إلا لأصلح المرشحين ، دون نظر إلي لونه الحزبي ، وغالبًا ما يكون من المستقلين .. لقد تعلمت من تصرف أبي الصامت شيئاً بليغاً . من كل ذلك أصبحت أحس أنني أعمل في حيز القرية بنصف خواطري وأحلامي ، أما النصف الآخر فقد ادخرته للمدينة ، عندما يبدأ العام الدراسي ، وترتفع هتافات الطلبة بالجلاء بالدماء ؛ لأجعلهم يدركون معي من أين يبدأ الجلاء الحقيقي .

الحل الصحيح :

- عاودت مقابلة الطلبة بعد هذا الحديث القصير العميق ، إلا أنه لم يحدث أي تغيير .. فجأة لمع ذهني بالحل الصحيح .. إنه يعمل .. والعمل الذكي .. ولو كان صغيراً .. يسهل مهمة الإقناع بالفكرة ولو كانت كبيرة .. وبدأت الخطوة العملية بالدعوة لإقامة حفل في منزل الناحية ، يذاع بالميكروفون ، وكلمة الميكرفون لها وقعها علي السمع في القرية ، فهي كقولك الإذاعة أو التلفزيون في المدينة ، وفوق ذلك فسيقوم الشيخ زين والشيخ يونس بإحياء الليلة بالقرآن الكريم ، والتواشيح الدينية ، وأنا أعرف أيضاً سحر في نفوس الأهالي .. أما ما هو أخص بالطلاب فهو ما سيتخلل التواشيح والطرب من كلمات ، لمن شاء أن يحجز لنفسه مكانًا بين الخطباء .. من هنا أخذت الآراء الصلبة تلين ، وبدأت الاستجابة بدفع اشتراكات الحفل ، وتسلمت الخمس قروش الأولي من مأمون أبو قدوسة ، تحت ظل شجرة توت أبو عجاج المقابلة لمسجد أبو حشيش بناحية المشايخ .. نفس المكان الذي تم فيه تسريح " الجيش المصري " منذ سنوات .. الآن بدأت تطيب نفسي .

وفي الموعد المحدد للتنسيق بين كلمات الخطباء .. اكتظت دار مأمون الواقعة بـ " الجرن البحري " بالطلبة ، يأتون من كل فج ، ويتسابقون علي دفع اشتراك الحفل وحجز الخطابة .. وازدادت دهشتي لحضور وفد من طلبة عائلة حشيش سمعوا بالحفل .. جاء أصحاب الجلابيب البيضاء يعتبون علينا عدم دعوتهم إليها .. ولم يكن يمر بخاطري دعوة أحد من طلبة هذه العائلة التي تستعلي علي البلد بأموالها وروابطها الحزبية ، والتي طالما سمعنا القصص عن مظالمها .. وبالجملة فهي لا تعايش القرية حياتها العادية .. في الوقت الذي تعيش فيه القرية مع هذه العائلة أفراحها وأتراحها ، فإن منهم أحد أعلنت القرية كلها الحداد عليه ، وأجَّلت أفراحها إلي حين يعود الفرح إلي بيت واحد منهم .. حال أنه لا يتأجل لهذه العائلة فرح لموت أي واحد من القرية مهما كان فضله ..

علي باب الدوَّار :

- لا أدري كيف تدرَّج الحديث بين الطلبة إلي فكرة النادي ، وأن تكون الحفلة هي مناسبة قيامه وباكورة إنتاجه .. وتحمس أبناء حشيش للفكرة ، ودعونا لعقد اجتماع في الدوار ؛ لانتخاب مجلس إدارة النادي ، والبحث في نشاطه وقيامه قبل موعد الحفل .. وفي الموعد المحدد وجدناهم في استقبالنا ، وكانت هذه أول مرة يدخل فيها أبناء القرية إلي هذا المكان ، الذي لم يكن من السهل علي كثير من أهالي البلدة مجرد المرور من أمامه ، دون أن يترجلوا من علي رواحلهم ، أو يُقَبَّلوا أيادي الجالسين من كبار هذه العائلة ممن يُسَمُّون بـ " البكوات " .. وعلي باب الدوار تذكرت قصة قديمة حكاها لي والدي عن جده لأمه الشيخ عثمان ، وعندما مرَّ راكباً علي " البكوات " ، وكيف لم يمهلوه إذ أنزلوه بجبته وعمامته في – مخمرة – من الطين ، ولم يشفع له سنه ولا علمه ، وتذكرت كيف كان يوجد بفناء هذا الدار مشنقة للإرهاب .. فامتلأ صدري ألماً وحذراً ، من أن يكون وراء دعوتهم لنا خدعة جديدة ، خاصة وأنه لم يغب عن بالي تفاصيل سهرة رمضان ، والتي دعونا إليها قبل ذلك بأعوام ثم غدروا بنا ..

كبر الأجسام ونوع النفوس :

لذلك كنت أحس بالفرح والانقباض في وقت واحد .. ولكن معرفتي السابقة بأبناء الفقراء فيهم أزال الوحشة من نفسي ، بدأ الاجتماع في حجرة استقبال فخمة .. دارت فيها فناجين القهوة ، وحرص أبناء العائلة علي الجلوس جميعًا في مواجهتنا ، فتذكرت علي التو يوم أن جلسنا متقابلين في تلك السهرة الرمضانية ، ثم انقضوا بالعصي أن أطفأوا الأنوار .. كنَّا يومها أطفالاً ، وهم الذين دعونا لعرض ألعبنا عندهم ، وأعدوا إحدى الزرائب لهذه السهرة ، وأحكموا إغلاق أبوابها ، ريثما تمت خدعتهم ، لولا أن الله سلم واستطعنا الهرب بجلودنا .. واليوم يعيد التاريخ نفسه ولكن في حجرة استقبال أنيقة .. تري أي نوع من الأسلحة سينقضون بها علينا .. وأية أنوار يريدون أن يطفئوا ؟ لا شيء يدعوني إلي التفاؤل ، فالنفوس لا تتغير لمجرد أن الأجسام قد كبرت ، ما لم تكتسب قيماً جديدة ، ولا يبدو أن ثمة بريق لهذه القيم .. كيف وهم يعيشون بنفسية آبائهم المتعصبين لحزب الوفد ، والذين يستحوذون علي أصوات البلدة لصالح الحزب في كل انتخاب .

وقام النادي :

وقد صحت تخوفاتي عندما بدأنا في الخطوات العملية ، إذ أثاروا كثيراً من الإشكالات حول طريقة الانتخاب ، وأصحاب الحق في الإدلاء بالأصوات ، بهدف استبعاد بعض الطلبة من الاشتراك في التصويب ، وغير ذلك من الاعتراضات التي اضطرتنا أن نزمع الانصراف والاستقلال بعملنا ، لولا أن دخل علينا خضر بك حشيش أحد كبار هذه العائلة ليسترضينا كي لا ننصرف ، فبقينا بعد أن أخذنا حذرنا لأية مناورة ، حتى لا يفلت منصب رئيس النادي ، ولا أمين الصندوق ، ولا أمين المكتبة من أيدينا ، وما وراء ذلك فقد تساهلنا في التصويت ليكون لأبناء حشيش منصب وكيل النادي ، والسكرتير ، وقام النادي برئاسة الأخ سند أبو قدوسة .. ورفضنا بحزم اقتراحًا من أبناء العائلة نفسها بأن تقوم الحفلة في الدوار ، أو أن يكون مقر النادي مستقبلاً عندهم .. وآثرنا أن يكون نشاطنا في قلب القرية بإمكانياتنا البسيطة .. وجاء يوم الحفلة بمنزل ناحية المشايخ ، وكان هو يوم الإعلان عن مولد النادي أيضًا .. وكنت من أسعد الجميع بهذا اليوم .. لا لأن الفكرة الخيالية قد تحققت وحسب ، بل لأن الدرس الذي خرجت به من هذه التجربة البسيطة قد لازمني طيلة حياتي ، وهو ألا يتوقع دائمًا إيمان الآخرين بفكرته ، وأن العقبات التي يصادفها هي ضريبة إيمانه بها ، ومحك صدقه مع نفسه ومناسبة تفرده بفكرته ، وهي لذلك في حياة الدعاة إلي كل جديد تعتبر أشياء طبيعية لا غرابة فيها ، إن لم تكن ضرورية .

ذلك أنه لا يمكن أن يتساوي الغير معك في التقدير ، والإيمان بالفكرة ، إلا إذا كان هو أنت في جميع مراحلك ، وكل تجاربك ودوافعك النفسية والفكرية ، وهو ما يستحيل أن يكون .. فالرؤية التي تنبثق أمام بصيرة فرد قد لا يستطيع أن ينقلها بسهولة أمام أبصار الآخرين ، حتى يضحي هو من أجلها ، ويبذل الجهد والعرق ، ويبتكر أيضًا من حكمة الأساليب ما يقرب به إيمانه إليهم ، فيدخل إلي بصائرهم من خلال أبصارهم ، وإلي نفوسهم من خلال حواسهم .. وسيظل طبيعياً في حياة المجتمعات البشرية أن الذي يقدم الحياة هو الفرد الواحد المؤمن بفكرته ، إذا أُلهم الصواب في العمل ، وأحسن الدخول علي النفوس من مداخلها المحبوبة .. وإذا كانت هذه هي العبرة التي خرج بها من تلك التجربة بقريتنا فإن عبرة أخري قد اكتسبتها من تكرار الفكرة مع بدء العام الدراسي بكفر السراي ، حيث نقطن بهذا الحي من مدينة بنها التي تبعد عن قريتنا ثمانية كيلومترات ..

معتقل طره السياسي

حجرة قائد العنبر

يوم الخميس 3 صفر 1390هـ أبريل 1970م بعد الفجر


الفصل الثالث : ( الوقوف أمام الموت - كيف عرفت حدود العمل السليم ؟ )

ما أكثر ما ينسي الإنسان في غمرة مجري الحياة أحداثاً معينة يراها هينة لا تستحق الذكر ، مع أنها كانت سبباً في تغير مجري حياته ، أو كانت كفيلة بذلك .. لو لم يهملها .. وليس كتعرض الإنسان للموت برهانًا علي ذلك ، فالمرء يحكي قصة نجاته من الموت وهو باسم ، ضاحك متندر ، مع أنه لحظة الكرب العظيم لم تكن لديه حيلة ولا تدبر ، بعد أن لاحت له حياته كشريط سريع ضيق أمام عينيه .. حتى إذا ما انقشعت الغمة نسي هذا الموقف العصيب ، ونسي ما كان فيه من عهود ومواثيق ، وعادت حياته سيرتها الأولي .. أما احتمال ورود الموت في موقف كهذا فهو عنده عين الحال ، أو ضرب من التشاؤم ، يبادر بطرد أشباحه عن الخيال يرعوى الإنسان أو يستفيق ، أو أن يصيخ لصوت الفطرة الذي أظهرته المحنة القاسية ، فيكون له مما مر عليه عزم جديد لحياة جديدة ..

إن مقابلة الموت هي لحظة تفجير .. لكل ما تراكم في داخل الإنسان من أفكار ومعتقدات وأماني في عمره السابق .. لحظة رهيبة حقاً .. سريعة وعميقة وشاملة .. لحظة تنزع الحياة القشرية عن قلبه ، وتمسك بتلابيبه ؛ لكي يقف قليلاً ويكف عن اللهث وراء السراب ، ليأخذ الفرصة كاملة لسماع صوت الفطرة وحده دون حائل من زخرف أو ضجيج .. طالما أراد هذا الصوت تذكيره في خلوة مع النفس ، ولكنه كان يبادر بالهرب منه ، ويسرع إلي الانغماس في المنسيات من مسرات وحفلات .. ولكن أمام الموت يزول السراب ، وتبرز الحقيقة ، وتلتقي الفطر جميعاً ، وتتوحد في دعائها لله وحده ، وطلبها النجاة منه وحده .

الخصم والحكم :

إن حكمة الله تقتضي حدوث هذا التفجير في حياة كل إنسان . ولو مرة واحدة ، ولا أكاد أتصور إنساناً خلت حياته من هذا القدر الإلهي عدة مرات .. إن الله برحمته يريدها لنا سبباً لمراجعة شاملة وعميقة وسريعة .. يريدها سبباً قويًا لإعادة تقييم حياتنا ، وإصدار الحكم النهائي علي أنفسنا من أنفسنا .. نحن الخصم والحكم .. لا لجاجة ولا مراء .. فليس هناك طرف آخر يغري هوانا بذلك علي حساب الحق .. أنت الطرف الأول والثاني في قضية أنت شاهدها الوحيد ، وأنت الحكم أيضاً .. كانت رؤيتك فيها واضحة لله وحده ، دون من في الأرض جميعاً ، وكان تعلقك بأسباب السماء ، وطرق أبواب العالم العلوي قويًا .. وأخيراً .. كانت شهادتك علي نفسك صادقة ، بما جددت من عزم وقطعت من مواثيق .. إنها لحظة فاصلة ، باطنها فيه الرحمة ، وإن كان ظاهرها من قبله العذاب ..

ومع هذا فالقيل جداً من الناس من يستفيد من هذه الفرصة القدرية ، فيلتقط هذا الخيط السماوي لينسج منه رداءه الجديد ..

حادثة اختصرت الزمن ..

شملتني هذه الخواطر وأنا أهم بكتابة ما دار بيني وبين أصدقاء الدراسة بكفر السراي ببنها ، عند مفاتحتهم في إنشاء ناد للشباب علي غرار نادي قرينا ، علي أمل أن يكون للنادي الجديد مجال أوسع في قضايا الوطن ، بحكم ما يموج به العام الدراسي من غليان مع قضية كل عام ( الجلاء ووحدة وادي النيل ) .. جئت أطير إليهم بالفكرة وكلي ثقة في نجاحها أيضًا مهما ظهرت العقبات .. فالنجاح في القرية يغري بالنجاح في المدينة ، لكي حادثة الموت التي تعرضت لها والتي فجرت كوامن أعماقي قد أكسبتني حالة نفسية جديدة ، ورؤية فكرية بعيدة عن تلكما اللتين حضرت بهما علي التو من القرية .. ولقد اختصرت هذه الحادثة عامل الزمن في إحداث هذا التغيير في نفسي ، فلا أستطيع أن أطلب منك يا أخي القارئ مشاركتي في هذه الرؤية ، إلا بعد أشركك معي أولاً في لحظة انقطاع كل أسباب الأرض حين الموت بالغرق .. فأخذك معي أولاً إلي شاطئ النيل في يوم الفيضان ، وأنزلك معي في خضم التيار لتصارع الموت الزاخر ، حتى تخور وتفقد الأمل تمامًا ، وتلوح أمامك حياتك كشريط سريع ضيق ، كان أكثره زيفًا وسرابًا ، وتجد نفسك مفلسًا من رصيد الإيمان بالآخرة والعمل ، ويختلط اليأس بالندم ، أسألك إن كنت حياً .. هل أنت اليوم مثلك بالأمس .. تفكر أو تشعر بمثل ما كنت تفكر أو تشعر ؟ وما لم يكن لذلك مردوده من العمل ففيم كانت هذه التجربة القاسية إذن ؟! .

من الذي أغري الآخر ؟ ..

لا أدري هل أنا الذي أغريت صديقي عبد الحق ، أم هو الذي أغراني بعبور النهر فخواطرنا دائمًا واحدة .. لم يكن القرار عفويًا بل كان مع سبق الإصرار ، حيث بتنا ليلتنا علي عزم عبوره عقب صلاة الفجر مباشرة .. ومع تباشير صباح يوم 26 أغسطس سنة 1948 وهو يوم عيد الفيضان ؛ حيث تكون المياه في أعلي مستوي لها ، وبجوار مصلي الشيخ سيد راضي بجوار كوبري بنها ، والمياه تفيض علي شاطئ النهر ، وتكاد تدخل البيوت ، قضينا علي التردد بخلع الملابس وتسليمها لإخواننا الصغار الذين أيقظناهم من نومهم لهذه المهمة ، ثم دلفنا إلي النهر حيث تصورنا أن مجرد سيرنا مع التيار سينقلنا بدون جهد حتى الشجرة الواقعة علي الشاطئ المقابل أمام كفر الجزار باعتبارها هدف لنا .. وما هي إلا دقائق حتى حملنا التيار إلي منتصف النهر تمامًا ، في الوقت الذي ابتعد بنا عن كفر الجزار كله بجميع أشجاره ، فلم نعد نراه إلا من بعيد وسط الضباب ، وعبثاً نحاول أن نواجه حركتنا تجاه أي نقطة علي الشاطئ الآخر .. لم نفطن أن سرعة التيار وسط النهر تختلف تمامًا عن سرعته بجوار الشاطئ ، إلا بعد فوات الأوان .. إنني الآن كمن يركب فوق سطح القطار .. لكنه سطح يغوص براكبه شيئاً فشيئاً إلي الأعماق .. تبادلت مع عبد الحق النصائح لمواجهة الموقف .. ثم لم نلبث أن ابتعدنا عن بعضنا ، وانقطع الحديث بيننا ، ولم أعد أري غير رأسه من بعيد تطمئني أنه مازال علي قيد الحياة ، عجزت تمامًا عن الخروج من قبضة التيار سواء بالعودة أو الاسمرار ، وكل شيء علي الشاطئين يبتعد وتبهت معالمه ، ويصير أشباحًا ورائي .. جرَّبت جميع حيل السباحة ، وكلها فشلت .. ولم أعد أقوى علي تحريك ساق أو ذراع .. وتحولت إلي قشة فوق السطح يفعل بها التيار ما يشاء .. حتى رأس عبد الحق التي كان يشجعني مرآها لم أعد قادراً علي تحديد موقعها وسط الضباب ، بدأت أشق عملية مقاومة بالانسياب الهادئ في بطن النهر وبين محاولتي البقاء علي سطحه أكبر وقت ممكن .. ليس سوي رأسي أطل بها علي الحياة بإعياء شديد ..

وتدخلت السماء :

يا رب .. كلمة نطقت بها كل ذرة في كياني .. لم أر السماء بهذا القرب من قبل ، وكيف كنت أغفل عنها وأحسبها بعيدة ؟ . إنها تكاد تطبق علي الماء .. صوتي يرن في أصدائها .. حديثي ودعائي لله مباشر بلا حاجز من زمان أو مكان .. كل كياني يستغيث بالله .. الشيطان يقنَّطني من رحمته سبحانه .. يوسوس إليَّ .. بأن الاستجابة لها قوانين طبيعية .. هل ستمتد إليك يد من السماء تنشلك .. وأنت في خضم الموت ، وتغوص بالفعل نحو القاع ؟! تعلقت ببعض آيات من القرآن .. ما أشد وقع كل حرف فيها .. كيف لم يكن لها هذا الوطء الشديد علي قلبي وأنا علي ظهر الأرض ؟! إنها الآن هي الوجود الحق كله .. بالشهادتين ، حياتي الماضية تمر كشريط ضيق أمام عيني .. تمنيت لو كانت خيراً مما كنت .. اشتد بي الكرب لدرجة أعجز تمامًا عن نقله إلي عبارات .. لحظة اليأس المطلق لا يمكن تصويرها .. يا رب ، يا واسع الرحمة .. يا من تجيب المضطر إذا دعاك .. أنقذني .. أعاهدك أن أبدأ حياة جديدة .. سيكون عمري الجديد هبة منك لك .. لم تصدق عيناي أن الله قد استجاب لدعائي حين لاح علي البعد شراع يشق تيار الماء نحوي .. يا لها لحظة يعجز الإنسان عن وصفها .. يا للرحمة المهداة .. يا لشعوري العميق بحقيقة حب الله في قلبي .. يا لإحساسي الغامر بالسعادة .. لقد أعطاني اقتراب الشراع قوة أغالب بها التيار .. وأعجب كيف واتتني بعد أن نفد معينها منذ لحظات .. إنه الأمل القريب يقهر اليأس ، والفرح الشديد يطرد الحزن والحب لله يذهب بالخوف .. إنها طاقة جديدة من عالم الروح بددت كل ضعف ووهن .

تبخر الحلم :

- لا أدري كيف تبخر الحلم الجميل في لحظة فقد مر الشراع من جواري دون أن يكترث ربان المركب بي ، ولم يكن حظي منه إلا الشتم والسباب لجرأتي علي نزول البحر ، وقد شلت المفاجأة تفكيري وأعماني الغضب ، فلم أطلب منه النجدة ، علي أمل أن يكف عن سيل الشتائم ، فأجد فُرجة لطلب العون .. ولكن ضاعت الفرصة وتجاوزني المركب وباعد بيننا تيار الماء بسرعة القطار .. وعندئذ شعرت بالعجز التام ، وتهالكت ، ففقدت السيطرة علي جسمي مرة واحدة ، فالموت بات محققاً أمامي ، عبثاً أحاول أن أحتفظ برأسي فوق الماء .. إنها تغوص رغماً عني .. نجحت أن أبقي أنفي خارج الماء يلتقط أنفاسه الأخيرة .. يا لهذه الميتة الشنيعة ليتني متُّ علي أرض فلسطين .. هنيئاً لكم شهداء القتال إن لموتكم مذاقاً حلواً أحسه الآن .. لأنكم اخترتم ذلك وأقدمتم عليه .. لكنني أموت حتف أنفي .. ما أسوأ الموت بلا عمل يحبب إلي الإنسان لقاء ربه .. يا رحمة الله الواسعة . أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .. إنا لله وإنا إليه راجعون .. ما هذا ؟! أحقاً أري شجراً يمتد من داخل الماء ، أم أن عيني تدور ويغشي علي من الموت ؟! إنها حقيقة تزداد وضوحاً كلما اقتربت منها .. ما هي إلا أمتار حتى أصل إليها .. لأنها ثابتة علي سطح الماء لا تتحرك ، ما أسرع ما وصلت إليها وأمسكت بها .. إنها طرف عود من الغاب الأخضر .. لا يوجد غيره في المنطقة كلها .. إنه سفينة إنقاذ كاملة .. ها أنذا أدور حوله برفق خشية أن تقتلعه يدي .. ثم مددت رجلي في حذر .. لقد تحقق ظني .. عندما لامست أرض جزيرة غطاها الماء .. لولا هذا الشجر الأخضر لكانت جثتي هي التي ترقد في هذا المكان .. إنها لحظة شكر لله جعلتني أنتفض كفرخ القطا حين تنشق عنه البيضة ويستقبل الحياة .. وقفت ممسكاً بعود الغاب ، والمياه تغمر نصف جسمي ، وأشعة الشمس تطارد فلول الضباب .. يا كل شيء جميل في عيني .. يا كل شيء ، ولد من جديد مثلي .. لبثت مكاني أردد الشكر لله ، وأجدد العهد معه ، حتى ارتوت روحي الظمأى من معين النور ، وحين سطعت الشمس علي صفحة النهر أخذت أتلفت بحثاً عن عبد الحق .. لاحت رأسه من بعيد تقترب من الشاطئ الآخر في مواجهة قرية – وروره – وها هم أهلها يشجعونه ويهونون عليه المسافة .. ثم لم تلبث الأيدي الطيبة أن امتدت إليه وأخرجته من الماء .. وها هو قد تمدد علي الشاطئ في إعياء شديد .. أعطاني هذا المنظر مدداً جديداً من الطاقة ، بعد أن تبيّن لي أن الجزيرة التي أقف عليها أقرب إلي الشاطئ .. استجمعت قوتي وسبحت إليهم ، وأمدني تشجيعهم المتواصل بقوة جديدة ، وكابدت حتى وصلت إلي أيديهم التي انتشلتني ، لأجد نفسي ممدداً بجوار عبد الحق علي رمال الشاطئ .. ذاك الفراش الوثير .

والتقت أفكارنا :

- تعجبت صديقنا عوني جنيدي من قصتنا ، وعاش معنا مشاعر هذه التجربة بل المحنة الشديدة ، هو ثالثنا في كل شيء .. إلا في نزول النهر .. حتى نعتنا زملاؤنا بالفرسان الثلاثة ، ولما استأنفنا حديث النادي كان من السهل أن تلتقي أفكارنا علي توسيع أهدافه ؛ بحيث تشمل الرياضة ، وقضايا الأمة الراهنة ، وشيئاً آخر أحضرناه معنا من النهر خاص بقضية المصير ، وألا يسير النادي أعرجاً علي قضية واحدة دون بقية القضايا .. الشمول طابعه ، وإن كانت هناك أولوية فهي للإيمان الصحيح ، الذي ينير الطريق لحل مشاكل الأرض .. لا انفصال بين السماء والأرض ، ولا بين الموت والحياة ، ولا بين الجسم والروح في طريق العمل السليم .. بهذا الوعي المبكر بدأنا الدعوة لفكرة النادي .. وكان طبيعياً أن يحمل اسم نادي الطلبة الثقافي .. وأن يكون أول عمل للنادي بعد قيامه برئاسة عوني ، وأمانة صندوق عبد الحق ، هو قيام كل منا بإعداد خطبة جُمْعَة عن الإيمان بالله ، وحقيقة الموت ، وأثرهما في أسلوب الحياة ، نقوم بإلقائها علي التوالي في مسجد سيدي راشد المهجور ، والذي لا يؤمه إلا عدد قليل من المصلين ، ريثما نتمرس علي مواجهة الجمهور ، وبعد ذلك ننتقل بها علي التوالي أيضًا إلي المساجد الكبيرة بكفر السراي أو بقريتنا التي تعوَّدا زيارتي بها .

وقام النادي :

وجاء يوم الاحتفال الرسمي بافتتاح النادي محققاً للكثير من أحلامنا .. فهذه لائحة النادي مفصَّلة ، وهذه مطبعة خاصة بالنادي ، تقوم بطبع تذاكر الدعوة ، صنعناها بأيدينا ، واشترينا لها الحروف والأحبار .. وها هي المكتبة تمتلأ بالكتب والمجلات .. وها هي جدرانه مزينة بصور الزعماء الوطنيين ، بعد استبعاد صور كل الزعماء السياسيين ؛ فقد كانوا جميعاً في قفص الاتهام عندنا ؛ لعجزهم عن توحيد كلمتهم في القضية الوطنية المزمنة ، فضلاً عن شعورنا بوجود هوَّة عاطفية بيننا وبينهم ، واتفقت كلمتنا علي الذين يمثلون تاريخنا الإسلامي والوطني معاً . مثل : جمال الدين الأفغاني ، مصطفي كامل ، محمد فريد ، محمد عبده ، طلعت حرب ، رشيد رضا .

وما هو إلا شهر بعد الاحتفال الكبير حتى كان للنادي مورد مستمر من إلقاء الدروس للطلبة بأجر زهيد مكننا من شراء الكتب والأثاث ، وكثير من أدوات التسلية . وكان صيفاً مليئاً بالنشاط ، الذي عاد أثره علي كل طلبة الحي ، وعلي الأهل من ورائهم ، وما أن بدأ العام الدراسي الجديد حتى انتقل ثقل العمل إلي داخل المدارس من خلال الاضطرابات والمظاهرات التي لا تني تتجدد مطالبة بالجلاء ووحدة وادي النيل ، وكنت أري مع من يرون أن تغيير الرءوس الحاكمة أولاً هو بداية الطريق .. حين يكون علي القمة لون جديد من الرجال .

الفصل الرابع : ( القاهرة مفتاح القضية - كيف نحول تاريخنا إلي وسائل تربوية ؟ )

انقضي عام مليء بالنشاط ، كنت خلاله دائب الحركة ، دائم الطيران من فنن إلي فنن بين نادي مرصفا ونادي كفر السراي ببنها .. كل منهما يشبع زاوية في نفسي ، ويفتح مجالاً معيناً لنشاطي ، إلا أن حديث خالي عن الجَرّار الزراعي وماكينة المياه ومصير العمال الزراعيين ظل يشغل بالي ، وكان صداه وراء إحساسي الدائم بأن كلاً من الناديين لا يستطيع أن يتجاوز التثقيف أو بعض الخدمات إلي العمل الجذري في تغيير الأوضاع الاجتماعية .. ذلك يحتاج إلي سلطة .. والسلطة سبيلها الأحزاب ، إذن فستظل أدوار النوادي محدودة ، مهما تكامل فهمنا عن الإصلاح ، ومهما قدمنا من خدمات محلية .. هل نفكر في الارتباط بحزب من الأحزاب ؟ تلك مشكلة كبيرة في طريقنا .. أكلما كبرت الأماني كبرت العقبات أمامها ؟ .. يا لها من معادلة صعبة .. إن ثقتنا معدومة في الأحزاب جميعاً .. والاضطرابات المستمرة علي مدار كل عام دراسي خير برهان علي ذلك .. زعماء المظاهرات الطلابية أقرب إلي نفسي من زعماء الأحزاب السياسية .. إذن فلا مفر من الجمع بين دور النادي المحلية وبين " الإضرابات " المدرسية ، التي تربطني بقضايا الأمة ، وتشفي صدري بعض الشيء بزلزلة أركان السلطة . ومع أن الإضرابات هي الأخرى محدودة الأثر إلا أنها وسيلة إحراج مستمرة يخشاها الحزب الحاكم ، ويعمل لها ألف حساب .. فنحن بها نخيف الحكومة التي تخيف الشعب كله ، ونحس من خلال المظاهرات أننا سلطة فوق سلطة الأحزاب جميعاً ، لأننا نؤثر في النهاية في سمعة أي حزب منها ، وبالتالي في شعبيته .. هذه هي مقدرتنا ، وإن لم يتضح السبيل بعد لتحقيقها .. فكل السبل غائمة في عيني ، متعرجة تحت قدمي .. ترضيني الإضرابات حتى حين .. وما أن تذهب طرائق قدداً حتى ينشغل فكري بالتفكير في كل حين .. أخيراً عثرت علي مفتاح القضية .. إنه في القاهرة .

القاهرة أو العالم السحري :

فالقاهرة وحدها هي التي تملك التغيير ، بدليل أن جميع إضرابات الأقاليم تقصد دائماً إلي محطات السكة الحديد لركوب القطارات إليها .. وهي منتهي أمل كل مظاهرة أو إضراب ، ولها قدرة عجيبة علي امتصاص جميع المظاهرات بمجرد وصولها إلي أبوابها ، إذ سرعان ما تتبدد في شوارعها الضخمة ... ثم تعود فلول الطلبة في نهاية اليوم الثاني دون مقابلة أحد المسئولين . قررت أن وزميلي عوني أن نرتاد هذا العالم السحري ، وأن نغامر بالسفر مع إحدى المظاهرات إلي القاهرة ، وأزلنا مخاوف والدي من مغبتها حتى اطمأن ومنحنا عشرة قروش لنفقات الطريق .. وإلي محطة السكة الحديد كنت في مقدمة الطلبة الذين هجموا علي القطار من كل صوب ، وقصدت مباشرة مع عوني إلي صالونات الدرجة الأولي ، التي لا نحلم في غير هذا اليوم أن نسير في طرقاتها .. ولما تحرك القطار أخذت الهتافات تدوي من جميع العربات مطالبة بالجلاء ووحدة وادي النيل ، ولم نكف عن ذلك ولا عن التلويح بالأيدي من الشبابيك لكل من نراه من أفراد الشعب ، حتى انتهي بنا القطار إلي محطة باب الحديد .. وهناك لم يكن همنا إلا تحديد موعد قطار العودة ، تاركين لكل طالب الحرية بعد ذلك . ذهبت أنا وعوني لتونا إلي أحد أزقة شارع محمد علي ، وأمام بيت معين توقفنا حتى تحققنا من الرقم ، ثم صعدنا مباشرة إلي غرفة فوق السطوح ، حيث زميلنا الشيخ عبد الحق محروس الطالب بالأزهر .. ولم يصدق عينيه حين رآنا ، وكنا بدورنا أكثر سعادة برؤيته .. ها نحن ثلاثتنا في قلب القاهرة ، تلك العاصمة الغامضة التي كانت تثير خيالنا ، والتي تملك مفتاح الحل لجميع المشكلات .. ذلك اللغز المحير ، الذي يملك رجالها إشقاء الناس أو إسعادهم في القرى والمدن ، والذين يملكون أيضاً أن يحاربوا الانجليز أو يكتفوا بالمفاوضات معهم .. والذين لا تراهم إلا في صور الصحف ، وغاية قدرتنا أن نُسمعهم أصواتنا وهم في أبراجهم العالية .. ها نحن قد اقتربنا خطوة منهم ، وأصبحنا في قلب هذا اللغز الكبير ، دون أن نقابل أحداً إلا الشيخ عبد الحق .. وحسبنا هو مكسبنا في هذا اليوم ، وقد زين لنا عبد الحق القيام بجولة في القاهرة لزيارة جميع معالمها الإسلامية ومساجدها التاريخية ..الأزهر الشريف ، والقلعة ، مسجد السلطان حسن ، ومسجد الرفاعى ، ومسجد ابن طولون ، وأبو الذهب ، والظاهر بيبرس وغير ذلك من بيوت أثرية ، ومآذن مهشمة من قصف مدافع نابليون عندما ثارت القاهرة في وجهه .. كان يستفيض في شرح تاريخ كل معلم ، وفي مميزاته الفنية ، وفي كل ما يتعلق بالفترة التاريخية التي شيد فيها ، وقد أهاج الذكريات في نفوسنا ، وأجج مشاعرنا ، وأشعل الحنين في قلوبنا إلي جانب التاريخ المجيد .. ولقد نجح عبد الحق أن يجعل هذا اليوم ماثلاً في نفوسنا علي الدوام ، باعتباره أثمن ما خرجنا به من هذه الرحلة ..

وأدركت مدي ما يمكن أن تؤديه هذه المعالم من دون تربوي هام أو أُحسن تحريك تاريخنا العظيم من خلالها في نفوس الأجيال ، وأنها يمكن أن تسهم بدور كبير في علاج واقعنا المهين ..

في قلب الأحداث :

انقضي العام الدراسي الحافل بحصولنا علي الثانوية العامة ، والتحاقنا أنا وعوني بمدرسة المعلمين العليا بالأورمان بالجيزة. فالتعليم بها بالمجان ، ولا قدرة لنا علي دفع مصاريف إحدى الكليات في ذلك الوقت .. كان هذا اليوم له ما بعده في حياتي .. لقد جاء في وقته المناسب ، حيث سنعيش في القاهرة في قلب الأحداث ، قريباً من صديقنا الحميم عبد الحق .. الذي جعل لليوم الواحد الذي أمضيناه معه قيمة الأسابيع والشهور ، فكيف إذا كنا معًا طيلة العام ، وآن لي أن أبدأ حياة الاعتماد علي النفس ، والاستقلال عن حياتي العائلية ، وأن أباشر مسؤوليتي في توجيه دفة حياتي ، وهو ما كنت أوق إليه من بعيد ، لأنه نداء الفطرة .. غير أن قرار عوني بالسفر يومياً بالقطار إلي بنها قد قلل من بهجتنا ، وإن لم يحل دون نشاطنا بعد ذلك ..

نعمة ..

طار بي الوفد الأبوي الرحيم المكون من أبي وخالي مراد إلي القاهرة ، لتدبير سكن بالجيزة قريباً من معهدي .. ساقتنا الأقدار إلي التعرف علي الأستاذ أحمد حين جلسنا أمام محل بشر المرصفي بشارع فاروق قرب العتبة للاستراحة من عناء يوم طويل في البحث عن سكن في عزبة دولار الواقعة غرب مبني الجامعة ، والأستاذ أحمد بليسانس الحقوق ، تنطق ملامحه بالبِشر ويفيض بالحيوية .. تأنس إليه وتثق فيه بمجرد الحديث معه . فيه لباقة أهل القانون ، وشهامة أهل الريف ، ووعي ابن المدينة ، ترجع أصول عائلته إلي قريتنا ، وللمقيمين منهم في القرية حتى اليوم مكانتهم الأدبية في نفوس الجميع ، لمسارعتهم في الواجبات .. والشيء من معدنه لا يستغرب .. هوّن علينا مشكلة السكن ، ودعانا لزيارة مسكنه في حي " بين السرايات " المجاور للجامعة ، لنعاين حجرة مناسبة في شقة يسكنها الطلبة في الطابق الثاني من البيت نفسه الذي يقيم فيه مع أسرته بالطابق الأول .. أنسانا ترحابهم بنا متاعب الأمس ، وشعرنا علي التو أننا بين أهلنا .. حقّاًً إن القرابة نعمة كبيرة من الله لنا .. تعين علي خير كثير لو أحسنا صيانة هذه النعمة وأدينا حقوقنا كاملة ..

أسرة الأستاذ أحمد تتكون من : عمته الحاجة فاطمة ، وهي سيدة مطلقة متوسطة الطول والعمر ، طيبة الروح ، هادئة الملامح ، عليها سمة الصلاح ، توفرت علي أبناء أخيها بعد موت والديهم ، وشقيقه خيري طالب بالمدرسة الثانوية ، وشقيقته سعاد ذات الإثنى عشر ربيعاً ، وكانت ترحب بنا ، وتنتقل بيننا في ردائها الأرجواني ، كأنها عصفورة الجنة .. سبقتنا إلي الحجرة وقامت بتنظيفها وهي مشرقة بالسعادة ..

وكيف لا يعود الوفد الأبوي الرحيم مطمئناً بعد ذلك ، وقد أصبحت في رعاية عائلتي الجديدة ، خاصة بعد أن وفقنا إلي زميل للسكن معي بالحجرة في سنتي الدراسية نفسها وهو محمد أمين رشدي ، يقاسمني عبء الإيجار الشهري وقدره جنيهان ونصف .. كلّ منا له سرير ومنضدة .. أما وابور الغاز والأطباق فهي مشتركة بيننا ، وكان الجانب المالي أهم ما تم ترتيبه قبل عودة الوفد إلي بنها .. وبعد الموازنة بين الأعباء الكثيرة التي ألقيت علي مرتب والدي الصغير الذي لا يتعدي تسعة جنيهات اتفقنا علي تخصيص جنيهان شهرياً لنفقاتي .. وهل أطمع في أكثر من ربع الراتب تقريباً بمفردي .. لو لم يقم خالي بالقسط الأكبر من نفقات السفر حتى الآن لطار راتب والدي كله ، ولعاد خاوي الوفاض .. كل هذا ماثل أمامي ، فكيف أفكر في طلب المزيد من المال ؟! عليّ أن أصبر وأتدبر الأمر . ويا له من أمر يعجز صندوق النقد الدولي نفسه عن تدبيره !! فبعد دفع نصيبي في أجرة السكن وخصم قيمة المواصلات الشهرية لزيارة أسرتي ببنها يكون المتبقي هو نصف جنيه لا غير .. يفترض فيه أن يفي بمطالب الشهر ، وبشراء ما يلزم من كتب وأدوات دراسية .. وعليَّ أن أستخدم وجبة الغداء المجانية التي يقدمها المعهد ، وسلة الخبز التي أحضرها معي كل شهر في تحقيق التوازن بين الدخل والمنصرف ..


الفصل الخامس : ( أسرار القاهرة والوقوع في الحب - هل أخطأ الإخوان في قتل أحمد ماهر ؟ )

لم تقلل ظروفي الاقتصادية من إحساسي بالسعادة في حياتي الجديدة ، وكان أول ما بهرني فيها لمبة الكهرباء التي لم تدخل حياتي من قبل ، فكنت أدسها تحت غطائي في الليالي الشاتية وطرقت أذني دقات ساعة الجامعة .. إنها هذه المرة تأتيني عبر الهواء مباشرة ، دون الحاجة إلي إعلان المذيع عنها ، وهكذا بدأ تعاملي المباشر مع عمران العاصمة ، تري متى يبدأ التعامل المباشر مع عمارها أيضاً .. أعني الذين يملكون الكلمة فيها ؟! لأدع هذا للأيام ، ولأذهب لأداء حق الشكر لعائلتي الجديدة .. واستقبلتني الحاجة بحنان الأم ، وخيري بروح الأخ ، وسعاد بعاطفة الأخت .. كانا كطائرين صغيرين لا يكفان عن التغريد من حولي .. أطلعاني علي الدروس والهوايات ، وعلمت أن جميع المواد التي يدرسها سعاد بالفرنسية ، وأنها تجيد التحدث بها ، فأدهشني ذلك منها رغم صغر سنها .. لم أشعر كم أمضيت من الوقت بينهم ، فأوقات السعادة مهما طالت قصيرة .. عدت إلي حجرتي مشغولاً بصدي تغريد هذه العصفورة الجميلة في نفسي ، وبصدي ذكائها في تفكيري ، ولا أدري ما الذي جذبني إليها علي وجه التحديد .. أنكرت ذلك من نفسي في البداية .. ثم عدت إلي التفكير فيما أنكرته عليها .. ما سر الارتياح إلي الحديث معها ، والحنين إلي زيارتهم مرة ثانية ؟! ما معني هذا ؟! لن أستطيع أن أزورهم ثانية بنفس القلب الخالي .. الذي ذهبت به أول مرة ؟! هذه حقيقة .. أيّاً كان تفسيرها ، مثلما عدت إلي زميلي بالحجرة بغير الوجه الذي تركته به ..

أسوأ لحظة :

مع مرور الأيام وتجدد الزيارات كان كل شيء يزداد وضوحاً وتحديداً في نفسي ، فليس هناك أسوأ من لحظة التردد في العمل ، أو في المشاعر .. لحظة الحسم تريح .. قد حسمت أشياء كثيرة في حياتي ، وكان آخرها حظ قلبي حين وجد شاطئ الأمان .. كنت قبل ذلك أطل علي عالم المرأة من بعيد ، أو أعيش فيه بخيالي ، وأوجد في طبيعتي الريفية وقيمي النظيفة حافظاً لي من التدني إلي الصغائر ، فإذا فكرت أو قدَّرت فليس إلا من زاوية الزواج ، أري الفتاة يعجبني أمرها ، فأتمنى أن لو رزقني الله زوجة مثلها ، ولا أراني بيني وبين نفسي متشهياً لاهتبالها في الحرام .. وما أكثر المثيرات التي كانت تصك السمع ، وتؤذي البصر ، فتحرك الأماني ، وأمام العجز عن تحقيقها يضيق الصدر ويحرج ، ويبحث المرء لهذا التوتر عن مخرج ، وقد يصيب وقد يخطئ ، أما أن أقع في حد نمن حدود الله فهذا ما لا تجنح إليه أهوائي علي أية حال ، خشية أن أخرّ بإيماني من السماء في مكان سحيق ، وأضع نصب عيني دائماً حديثاً للرسول الكريم سمعته من والدي : " لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يقع في حد من حدود الله " .

الوقوع في الحب :

وبين الخطأ والصواب لا أنفك عن منغصات اللمم ، التي أتقوى عليها بالمجاهدات المقدورة من غض البصر ، أو صيام ، أو دعاء المضطر ، وليس أعون علي ذلك كله من صديق وفي .. إذا كان هو هذا غالب حالي من قبل ، فإن تعلف قلبي اليوم بحب حقيقي مقترن يعزم علي الزواج متى أمكنتني الظروف كان حلاً جديداً لنفس المشكلة عندما ظهرت في إطار جديد .. ولن يكون لمشكلة المراهقة القاسية حل واحد في كل الظروف ، بل يتنوع معها ، وكان هذا هو قدري منها .. أصبحت سعاد هي بؤرة اهتمامي ومحور انشغالي .. ولا أبتعد عن الحي إلا ويشدني طيفها الحبيب إلي العودة إليها بتلهف .. أختلق الأسباب للتردد عليهم متمثلاً قول الشاعر :

كم جـئت ليلي بأسـباب ملـفقة مـا كان أكثر أسـبابي وعـلاتي

لم يكن يداخلني شعور بالإثم ؛ لعزمي الأكيد علي التقدم لأهلها في الوقت المناسب ، لأنه لم يتم أي لقاء بيننا خارج نطاق العائلة ، وإنما هي الزيارة الطبيعية والكلام الطيب الذي تشهد علي نقائه كل ذرة هواء حولنا .. والحب الصادق لا يحتاج لغير ضوء الشمس ونقاء الهواء .. ولكن قضي الله أن السعادة لا تخلص لنا علي هذه الأرض .. فلابد من الشوائب والمنغصات .. إننا لسنا في دار النعيم حيث السعادة الحقة والأبدية .. أما هنا فالسعادة لها ضريبة متجددة العطاء ، وإلا تعرضت زهرة الربيع للذبول والفناء .

كنت كلما قدمت لأحد أفراد هذه الأسرة هدية أشعر أنني قدمتها في الحقيقة إلي سعاد ، ولكن أنَّي لي ذلك ونصف الجنيه المقرر لمطالبي الشهرية يقف أمامي بالمرصاد ، ويخنق إرادتي ويشل يدي .. لقد كثرت الأعباء علي هذا النصف المسكين .. وإنني أحتاج إلي معجزة لأحقق به حاجة جسمي من غذاء ، وحاجة عقلي من أدوات دراسية ، وحاجة قلبي من هدايا وكرم ، ولا مفر من التضحية بإحداها ، يا له من موقف بالغ الصعوبة عندما يخيّر الإنسان بين الضروريات . وكانت ضرورات العقل هي أول شهيدة علي مسرح الحب ، وأخذ المشكلات برقاب بعضها حتى غَرِقْتُ في بحر الديون .. يا رب ، أما من معجزة تنقذني بها كما أنقذني من الغرق من ماء النيل قبل عام ، وامتدت يدي بدعاء المضطر إلي السماء إلي من يعلم النوايا في الصدور .. واستجاب الله دعائي وأهبط عليّ رحمته في صورة الصديق الوفي الشيخ عبد الحق بجبته التي تتطاير من حوله كأنها جناحي ملك هبط من السماء .

وحلها الشيخ :

أحس بفراسة المؤمن ما أعانيه .. وتصارحنا فقال :

- هون عليك ، ولنعالج الأمور بحكمة ، ولنبدأ الحل من أيسرها وأخفها علينا .. من المشكلة المالية .

- أتمزح يا عبد الحق .. أم أن نوادر الشيخ عبد العزيز البشري التي قصصتها علينا أثرت فيك ؟ وإن كانت تنقصك عصاه .

قال : بل أعني ما أقول .. وهاك البرهان وأخرج من جيبه مبلغاً من المال سلمه لي .

قلت : من أين لك هذا الفائض ، وظروفك المالية لا تختلف عن ظروفي ؟! فهل نحل المشكلة بالمشكلة ؟!

- ضحك وقال لي : ليس إلي هذا الحد .. فسكني بزقاق السكري بباب الخلق أقل نفقة من سكنك في حجرة بالكهرباء ، ويقوم بدل جراية الأزهر ببعض التعويض ، وعند اشتداد الأزمة أشد رحالي إلي الأهل ببنها لتمضية بقية أيام الشهر معهم .. ثم إنني أخيراً أثق فيك ، وفي حسن تقديرك .. وكنت أتوقع أن أجدك كذلك ؛ لأنك لم تألف هذه الحياة الجديدة ، فلك عذرك حتى تتمرس عليها .. وكلمة أخيرة أهمسها في أذنك وهو أنني لا أحب ..

فضحكنا وحمدنا الله ، وتناصحنا ، ووعدته برد المبلغ عند تحسن الأحوال ، فابتسم وقال : أنا أعلم أنها لن تتحسن إلا بعد الزواج .. ولا داعي لأن تقول لي : فنظرة إلي ميسرة ، بل فنظرة إلي سنة التخرج ..

بين شقي الرحى :

كنا نتحدث متكئين علي شباك الغرفة المطل علي ساحة خالية أمامنا إلي الشرق منا ، كان دائماً بيننا أكثر من سبب للحديث : النادي .. الانجليز .. المظاهرات .. الصراعات الفكرية .. وكان من الطبيعي أن ينعطف بنا الحديث إلي الإخوان المسلمين فقلت له :

- أتري تلك الساحة الخالية أمامنا بحجراتها المهجورة ؟ إنها كانت شعبة للإخوان المسلمين ، قبل أن تُعطل الحكومة نشاطهم ، وتصادر ممتلكاتهم .. والحجرتان المجاورتان لي من يمين وشمال يسكنها طلبة الإخوان بمختلف كليات الجامعة .. فأخوك واقع بين شقي الرحى . فابتسم وقال :

- ولكن كيف تجدهم علي الطبيعة ؟

- دماثة أخلاقهم – استقامتهم – تفوقهم العلمي – تعاونهم فيما بينهم – برّهم بغيرهم ، صدَّقني لا أجد عيباً في أحد منهم ، حتى أني لأسعد بقضاء أوقاتي بينهم ، الشيء الوحيد الذي لا أشترك معهم فيه هو جدلهم الطويل حول موقفهم من طلب الحكومة تغيير اسم الجماعة كثمن لعودتها .. فمنهم المؤيد ومنهم المعارض ..

- كن علي حذر في معاملتك وعلاقتك معهم ، فالبلد علي وشك الفوران بأحداث كبيرة .. ولنتعاطف معهم من بعيد ، فهم ، ولا شك – خير من جميع الأحزاب السياسية .

- إذا كنت تتفق معي في أنهم يجمعون خير ما في الأحزاب السياسية من أماني وطنية ، وخير ما في الطرق الصوفية من تربية إسلامية .. أترانا بهذا قد عثرنا علي الحلقة المفقودة ؟

- أفهم قصدك تعني ربط النادي بنشاط هذه الجماعة باعتبارها قوة سياسية نظيفة يكون علي يديها تغيير الأوضاع في البلد ..

- هذا ما أعنيه فعلاً .. ولكن ليس علي إطلاقه .. ولكن يكون بيننا نوع من الارتباط لا يصل إلي الاندماج .

- ولماذا ؟! فإما ارتباط أو لا ارتباط .. أي شكل من الارتباط سيصل بعد مدة وجيزة إلي مداه ..

- السبب هو أن صورتهم المضيئة عليها عندي بعض الغبار .. لا أحد ينكر جمال دعوتهم إلي الإسلام وهو غاية آمالنا جميعاً .. ولا أحد يجهل دورهم المشرق في حرب فلسطين ، ولا أحد يدَّعي أنه لم يشم رائحة الخيانة في حل جماعتهم وقتل مرشدهم .. ولكن كل هذه الأضواء لم تسمح من ذاكرتي مأساة مقل أحمد ماهر – رئيس الوزراء – علي يد واحد منهم ..

- ألم تقرأ أنه كان يريد أن يجر البلد إلي حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل ؟.

- أنت مغرم بترديد عبارة الشيخ المراغي ، مع أني أعتقد أنه لنا فيها أكثر من ناقة أو جمل ، فماذا كانت ستخسر مصر أكثر مما خسرته فعلاً علي مدار سنين الحرب من قبل أحمد ماهر كان عملاً ذكياً ، جاء في الأيام الأخيرة من الحرب ، بعد أن تحقق الجميع من هزيمة الألمان ، وكان ذلك سيعطي مصر مركزاً قوياً عند تقسيم الغنائم ، باعتبارها شريكة في الحرب ، أما الآن فهي ليست أكثر من دائنة لبريطانيا التي انتصرت .. إنها غلطة لا أستطيع نسيانها ، وهي محسوبة علي الإخوان .

- حتى إن صحت تحليلاتك السياسية فهو تصرف فردي .. لم تأمر به قيادتهم ، من الإنصاف أن نبرئ الجماعة .

- التصرف الفردي هو روح عامة ..

- علي كل حال هذا أمر سابق لأوانه .. الإخوان الآن في محنة ، وعند عودة جماعتهم إلي النشاط يكون لنا معهم حديث صريح ، لتجلية هذه المواقف ، قبل أن نفكر في اتخاذ أي قرار .. ثم قال : هذا عن نادي بنها ، وماذا عن ناديكم بمرصفا ؟ .

- الطريق أمامه مفتوح لخطوة أخري لا تتاح لنادي بنها .. ولذلك أري من الحكمة الاقتصار عليها الآن .. وهي محاولة ضمه لرابطة أبناء مرصفا بالقاهرة ، ومركزها شارع راتب بشبرا ، لتستفيد القرية من مراكز أعضاء الرابطة العلمية والوظيفة والمالية ...

- من الآن حتى تحين أجازة الصيف ستلد الليالي الحبالى كل عجيب ، فلا تشغل بالك الآن بشيء غير الدراسة .. عدني بذلك ..

- لك ذلك إن شاء الله ..

الفصل السادس : ( الولادة من جديدة وتربية المحن - لهيب الأحداث ومفهوم السعادة )

لم تضع الليالي الحبالى حملها – كما تنبأ صديقي عبد الحق – في القاهرة ، بل وضعته في حجري وبين يدي غرة .. ولم تهب ريحها الصرصر العاتية علي مصر ، بل هبت علي حياتي من البر والبحر .. وخلفتني ووراءها شخصاً آخر يفصله عن الأمس القريب هوَّةّ زمنية ونفسية كبيرة .. شخصاً قد ولد من جديد .. ولادة روح من خلال مخاض الأحداث المتتابعة ..

المزاح والحقيقة :

وكانت الشرارة الأولي حين سألني صديقي عوني جنيدي عقب خروجنا من امتحان مادة الكيمياء العملي في نهاية العام الدراسي .

- ألا تعجب من تشابهنا في كل شيء حتى في الكشف عن الملح الأخضر ..

قلت : يبدو أن إدارة المعهد قد علمت بحرصنا علي توحيد نوع ملابسنا ، ولون كراساتنا ، وطراز أقلامنا ، فاحترمت مشاعرنا ساعة الامتحان في لون الملح كذلك .. يبقي أن نكون عند حسن ظنها فتتشابه نتيجة الكشف بأنه كبريتات نحاس . قال : لا .. بل كربونات صوديوم قلت : إذن فقد حان يوم افتراقنا .. فالنتيجة عندي مختلفة .. لأن أحد المعيدين قد تطوع بمساعدتي فعجلت بشطب ما كنت جازمًا بصوابه .. وضاع الوقت الباقي في التحقق من قول المعيد دون جدوى .. فإن كانت الدائرة عليَّ في تلك المادة فسأجعلها تدور علي مصيري في المعهد كله لأبدأ حياة جديدة كنت أتوق إليها دون انتظار أو تواني .

- ماذا تقول يا عبد الحليم ؟

- مجرد مزاح ..

وبعد أسابيع انقلب المزاح إلي حقيقة ، وانقلبت معه حياتي كلها ..

الإصرار :

وخضت معركة الحياة في سبيل دراسة القانون في المساء ، وتدبير العمل في الصباح .. وحمى وطيس الأسفار بين القاهرة وبعض العواصم ، لتقديم هنا ومقابلة هناك ، ولاستخراج العديد من الأوراق والمستندات .. وكلما نضب معين عزمي نفخ فيه عبد الحق من روحه ، بتذكيري بما تعاهدنا عليه من مبدأ الاستقلال في توجيه دفة حياتنا وآثاره العديدة علي أمانينا ، كلما نضب معين جيبي بادر فنفحني كل مصروفه ، وكل ما تقع عليه يده من حلال .. وما تواني عن بذل الطاقة في كل أشكالها ، ولو بالحد الأدنى منها .. والحد الأدنى عند عبد الحق هو سعي الليل والنهار ، وَتَحمُّلْ الأذى والأخطار ، وطرق كل باب .. وما أكثر القصص التي تضحك ، والمآزق التي تبكي ، فكم من قريب تنكر لنا ، أو بعيد تجهمنا ، ونحن في لهيب الأحداث لا يزيدنا اشتعالها إلا نقاء وصلابة ، وإلا استعصامًا بحبل الله المتين .. ويعجب والدي لهذا التحول المفاجئ في حياتي .. ويحار في تفسير هذا الإصرار ، وقد أعيته الحيل في ثنينا عن عزمنا بكل الأسلحة الأبوية ، ولو بأقساها علي نفس الأب .. بقبض يده عنا لصرفنا عن الاستمرار في خطتنا للنهاية .. وإذ خفت حدة ثورته وجدت نهزة لسؤاله .

وهدأ الأب ..

ما كل هذه الثورة يا أبي والأمر جد يسير ؟

- أتري ضياع مستقبلك يا بني أمر يسير .. لقد أجهدت الأسرة كلها وراءك عامًا كاملاً بلا طائل .. لقد اخترت لك طريق السعادة ولكنك أبيته . قلت : يا أبي إن مفتاح السعادة في يدي دائمًا ، وما حرصت علي طاعة الله ، وليس في لون معين من ألوان الدراسة أو العمل ومادمت علي عهدي مع الله فستظل عينه ترعاني وتضمن مستقبلي .. يا أبي دعني وشأني ، وتفرغ لإخوتي ، فقد بلغت ست التكليف .. زودني برضاك عني ودعائك لي .. وهذا حسبي .

تعجب والدي من هذا المنطق ، بأثر هذه الآية الكريمة عليه حين بدأ ينصرف عن ملاحقتي ، وفي عينيه من بعيد بريق الخوف ودمعة الرجاء ..

وتحقق الحلم :

وجاءت اللحظة التي طالما عشت فيها بخيالي علي طول شهور الصيف العاصف ، فقد كنت أسائل نفسي ، وهب سيحقق الأمل الذي أملته ، فأجدني ، مسؤولاً عن حياتي ناجحاً في الجمع بين العمل في الصباح والكلية في المساء .. لطالما تخيلت نفسي في المسكن الجديد وفي الطريق إلي الكلية .. وقد سكنت جميع العواصف من حولي ، وبدأت بذور الثقة تنبت الأزهار والرياحين في صدر كل من أساء الظن بي .. وها هو الأمل قد أصبح حقيقة ، ويا لهذه اللحظة السعيدة التي أنقل فيها متاعي القليل المكون من السرير والمنضدة والكرسي والصندوق علي عربة كارو من مسكن عمي أحمد عبد السميع بالحسينية إلي حيث يسكن عبد الحق بزقاق السكري بالغُورية .. والزقاق يتفرع من حارة الجدَّاوى ، التي تبدأ من خلف محكمة الاستئناف بباب الخلق ، مارة بدرب سعادة .. وتتجه إلي الشرق في التواءات كثيرة حتى تنتهي إلي أزقة كثيرة تصلها بشارع الغورية .. وأحد هذه الأزقة المسدودة هو زقاق السكري .. ويقع البيت في منتصف الزقاق .. ويحمل علي كاهله كل معالم مصر القديمة .. وفي شقة بالدور الثالث منه يسكن صديقي عبد الحق في حجرة منها .. وفي نهاية الممر بين الحجرات يوجد مخزن مستطيل ، ينتهي بشباك يطل علي الزقاق به بقايا زجاج ، زحفت عليه أوراق الكرتون والصحف حتى خنقت بقاياه .. وفي هذا المخزن وضعت متاعي ، وكان السرير وحده يشغل مساحة المخزن يفصله عن الشباك منضدة عليها مصباح غازي أستذكر عليه دروسي ..

في رحاب الكلية :

بدأت أباشر حياتي الجديدة التي طال حنيني إليها .. وأول ما فعلته هو المسارعة بالذهاب إلي الكلية ، لأغتسل في رحابها مما علق بروحي من غبار العواصف .. إن للوصول بعد المشقة حلاوة وعمقاً في المشاعر لا يحسها إلا من كابد .. السعادة ثمرة طبيعية للكد والنصب والمعاناة ، غنها راحة الروح ونموها .. وكأني بالذي يجد رغباته في متناول يده دائمًا .. كأني به وقد حرم الإحساس بهذه النعمة مهما اغترف من الملذات .. فاللذة شيء والسعادة شيء آخر .. اللذة : هي تذوق الجسم للنعم ، والسعادة : هي تذوق الروح لآلاء النعم ، اللذة وقتية والسعادة دائمة باقية ما بقي الصبر والشكر ديدنًا لصاحبها . كان شعوري حين دلفت قدماي من باب الكلية هو شعور القائد المنتصر ، وقد فتحت المدينة أخيراً علي يديه ، وها هو يدخلها واثقاً مطمئناً ، بخطوات وئيدة ، وابتسامة عريضة نابعة من القلب السعيد ..

تربية المحن :

لاشك أنني أختلف تمامًا عن أي طالب يجلس بجواري ، جاء من بيته مباشرة إلي قاعة المحاضرة .. إننا متشابهان في الظاهر فقط ، وإن كانت المسافة بعيدة بين روحي وروحه وعزمي وعزمه ، وتذوقي للدراسة وتذوقه ، وأخيراً بين أهدافي وأهدافه .. إننا عالمان مختلفان يجلسان علي مقعد واحد وفي أيديهما كتاب واحد .. وهذه فضيلة التربية بالمحن .. إنها مدرسة ربانية تختصر الزمن وتصل إلي اللُب من أقصر طريق .. ولاشك أن حياة عريضة قصيرة خير من حياة طويلة ضيقة .. وبعد أن ملأت رأسي بعبير الدراسة الجامعية ، وجدتني قادراً علي اقتحام العقبة الثانية .. عقبة العمل .

في لجنة التعليم :

وفي اليوم التالي وقبل أن تسفر عروس السماء عن وجهها كنت أهبط من سلم القطار في محطة قليوب .. وخطاب التعيين أميناً لتوريدات مدرسة قليوب الثانوية للبنين في جيبي . شققت طريقي إلي المدرسة وسط تيار الطلبة المتدفق ، كواحد منهم ، وإن اختلفت غايتي عن غايتهم .. كان خيالي يسبقني إلي درجة الشطط في جميع احتمالات هذا اللون الجديد من العمل ، الذي سيفرض عليَّ احتكاكاً واسع المدى مع الطلبة والمدرسين ، والفراشين ، ومع موظفي المنطقة التعليمية ، ومع أولياء الأمور .. تمنيت في هذه اللحظة أن لو كنت قد وفَّقت قبل هذا اليوم إلي عمل كتابي في أية مصلحة مهجورة ؛ كي لا اضطر إلي مثل هذا القدر من العلاقات .. وكلما اقتربت من باب المدرسة كلما ثقلت الخواطر في رأسي ، وتقاصرت خطواتي ، وزاد اضطرابي ، وتصبب عرقي ، حتى لكأني في نهاية شوط من أشواط السباق .. وبكل صعوبة وصلت إلي حجرة سكرتير المدرسة ، ومددت إليه يداً مرتعشة بكتاب التعيين ، فأخذ يلتهم الكتاب بألف عين ، ثم يصعد الطرف فيّ ، ثم يعود إلي قراءته مرة أخري ، ثم انتفض واقفاً ومرحباً ، وقبل أن أرد تحيته بأحسن منها .. رأيته قد أسرع بلملمة أوراقه ، وبتأبط حقيبته ، وانطلق كالصاروخ نحو باب الحجرة مردداً : تسلم يا عزيزي العمل .. فها هو المكتب بجميع أدراجه الممتلئة بالأوراق والملفات ، وها هم الطلبة أمامك ، أوصيك بسرعة إنجاز معاملاتهم ، وحذار أن تضيع ورقة واحدة من هذه الأوراق .. أما أنا فذاهب لتوى إلي مدرستي الجديدة التي نقلت إليها ، ولقد سعدت برؤيتك يا عزيزي ، تفضل لتحل محلي ، يا خير خلف لخير سلف وإلي اللقاء .

وانتظم سلك الحياة :

وقفت مبهوتاً بهذه المفاجأة .. أقلب الطرف في الطلبة المحيطين بالمكتب ، وفي الأوراق المكدسة أمامي .. والطلبة بدورهم ينظرون إليَّ من طرف خفي ، ويتعجبون من كلام الموظف ومن اندفاعه خارجاً من باب الحجرة كالصاروخ الموجه .. لبثت برهة – حائراً – كأنها الدهر .. ولمست نفس الحيرة علي وجه الطلبة .. ولم ينقذنا من هذه الورطة إلا عودة الموظف مرة أخري مقهقهاً بأعلى صوته لرؤيتنا علي هذا الحال ، فأخذ يطمئنني بأن ما حدث هو مجرد مداعبة ، وأن التسليم والتسلم سيستغرق عدة أيام ، يتم من خلالها التعرف علي كل شيء بالمدرسة . وبالفعل لم يغادر مصطفي أفندي كمال المدرسة إلا وقد وثق صلتي بكل شيء فيها من أشخاص وأشياء .. وقد نجح بروحه المعطاءة أن يحبب إليَّ العمل ، وأن يترك في نفسي أثراً طيباً .. وانتظم بعهد ذلك سلك حياتي بين العمل والدراسة .. والأوقات التي كنت اقتنصها بين هذه الحركة الدائبة بين الترامات والقطارات كانت تكفيني لمتابعة المحاضرات .. أما يوم الجمعة الذي يخلص لي كاملاً من بين أيام الأسبوع فكنت التهم فيه الكتب التهامًا .. وكان صحن الأزهر الشريف هو مكاني المفضل للاستذكار ، وأحياناً ما أعرج علي أحد المساجد الأثرية المنتشرة في شارع الغورية .


الفصل السابع : ( الفرق بين الزمن والإحساس به والحيرة في أمر الإخوان المسلمين )

أما آن لروحي الظمأى أن ترتوي ، ولقلبي المعنَّي أن ينال حقه في رؤية سعاد ، التي زاد حنيني لمحياها الصبوح ، ولقد فرضت عليّ الأيام بعداً مصطنعاً ، لم يكن حصيلته إلا زيادة الوجد ، وغلبة الشوق إليها . ولم تكد قدماي تطأ أرض الذكريات التي غبت عنها زمناً طويلاً في حسي حتى غمرتني السعادة ، فالزمن شيء والإحساس شيء آخر . فالحس هو الذي يجعل لحظة الشقاء طويلة مهما قصرت ، ولحظة السعادة قصيرة مهما طالت .

وها هو قلبي يقوى وجيبه ، والخواطر تتوارد ، والأطياف الحبيبة تتراقص أمام عيني ، ثم تقع علي بيت أبي خالد الذي كنت أقطنه .. إن الخطوة الواحدة التي تقربني من هذا البيت لها سحرها في نفسي .. إن سعادة العمر تغمرني وأنا أدق باب الجنة ، حيث تقيم أسرة سعاد .. ولكن لا مجيب ، يا لواقع الصدمة علي نفسي حين علمت من الجيران أنهم رحلوا إلي عاصمة محافظتهم حيث عمل الأستاذ أحمد بعد تخرجه من الجامعة .

شجرة بلا جذور :

وحان يوم السفر إلي القرية لتضميد جراح أحبابي الذين كانوا يتابعون معركتي بقلوب واجفة وأكف ضارعة .. إنني بدون قريتي شجرة بلا جذور .. وهكذا سرت كالقائد المنتصر ، الذي يطهر جميع المواقع من كل ما كان مصدر خوف أو قلق ، حتى خلصت له الأرض جميعاً .. إلا موقع واحد في صدر أبي لم يمكنني الاقتراب منه ، لأن شكه في قدرتي علي تحمل هذه المسؤوليات علاجه الوحيد هو الزمن ، وسيظل الزمن في غير صالحي حتى ظهر نتيجة الامتحان في آخر العام الدراسي .. خاصة وأن زيارته التفتيشية إلي سكني بزقاق السكري ذات ليلة مطيرة قد ضاعفت من مخاوفه من بقائي في هذه المقابر المظلمة علي حد قوله ، ولم يفلح القول :- سل عن الجار قبل الدار – في تلطيف شيء من حزنه .. ولا توسلاتي في حمله علي المبيت معي تلك الليلة .

شخصية جديدة :

لم تنل حادثة عودة أبي مكتئباً من نفسي ، فقد كانت الثقة دثاري ، والرضي ملء إهابي ، لقد اكتسبت بالفعل من غمار التجارب شخصية جديدة ، مؤداها أن ما أراه صوابًا وحقاً بموازيني المهتدية بنور السماء فهو وحده الصواب ولو خالف مألوف الناس جميعاً .

النوادي مشكلتي :

رغم كل تلك العواصف فقد كانت النوادي هي شغلنا الدائم ، نشارك في نشاطها ، وفي حل المشاكل التي تعترضها ، كنت أحس أن مشاكل النوادي هي بلسم جراحي من مشاكل الحياة .. وجاءت دراسة الحقوق لتجعلني أكثر اقتراباً من قلب أهداف النوادي الاجتماعية .. وكأني أدرس القانون لأصبه واقعاً اجتماعياً في حياة الناس عن طريق النوادي .. وقام الاهتمام بالنوادي بدور الحافز المتجدد وراء شغفي بتحصيل القانون . وجاءت الفرصة لربط نادي الطلبة بمرصفا برابطة أهل البلدة بالقاهرة ، التي أقامها الذين يشغلون مختلف المناصب الكبيرة والأعمال المختلفة .. كم كنت أتمني من قديم أن يتم الالتقاء بين نادي القرية ورابطة مرصفا بالقاهرة ؛ لتوسيع رقعة التعاون بين الآباء والأبناء لما فيه الصالح بين القرية والعاصمة .. ولكن مؤشر نجاح الفكرة هو في قيام الرابطة بتنفيذ الملاحظات الجوهرية التي كنا نأخذها عليها ، والتي سيؤدي السكوت عليها إلي ذبول نشاطها ، في الوقت الذي لو روعيت لأدت إلي دفع دماء الحياة فيها وفي النادي معاً .

اجتماع تقليدي :

لذلك سارعت إلي حضور الاجتماع السنوي للرابطة ؛ لأبثهم بأمانة خواطر أبنائهم الطلبة في خطوات الإصلاح الواجبة في داخل الرابطة أولاً ، ثم في داخل القرية ثانياً ، وبدأ الاجتماع في منزل القاضي محمد الحسيني حشيش رئيس الرابطة بشارع " راتب " بشبرا ، بدأ الاجتماع بالمقدمات التقليدية التي لم تخرج عن كيل المدح والثناء للباكوات وعلي رأسهم السيد القاضي .. ثم تلي ذلك إعلان شكلي عن انتهاء مدة مجلس الإدارة ، وطلب القيام بانتخاب المجلس الجديد .. فأسرع الحاضرون بإبداء إصرارهم علي التمسك بمجلس الإدارة القديم ، واعتبر ذلك تجديداً لانتخابهم بالإجماع .. وعلي ذلك فقد قام السيد القاضي بإخراج الخطاب المعد سلفاً من جيبه لهذه المناسبة ، وقام بتلاوته علي الحاضرين ، وشكرهم علي ثقتهم الغالية ، وجدد المعهد علي بذل الجهد للنهوض بالأهداف النبيلة للرابطة ، وفي مقدمتها تحقيق مشروع بناء المقابر وتجميله ؛ بحيث يكون دفن أبناء البلدة ميسراً بمقابر الخفير بالقاهرة ، بدل مشقة الجثة إلي البلدة .. وأعقبه المداحون بالشعر والثناء من كل لون .. وانتظرت علي مضض دوري في إلقاء كلمة نادي الطلبة في الاجتماع .. ولمعرفتي بمزاج أهل القرية الأدبي فقد استهللت كلمتي بأبيات من الشعر نظمتها في طريقي إلي الاجتماع قائلاً :

وسـعتِ مرصـفـا خيـراً هتـونا وحق علي الـفـضـائل أن تكونا

وطالع يمن سـعـدك كـل سـعـد وأبـرق بالـنـوال الآمـلـونـا

فلن يـك في سـمـاء النيل حـفـل يضـارع مـا أراه ومـا تـرونا

فضج الحاضرون بالاستحسان واستعادوها مني ، واعتبرت ذلك مقدمة نفسية لازمة ، لربط مشاعري بمشاعرهم قبل الدخول في الاقتراحات المحرجة لمجلس الإدارة ، والتي استهللتها قائلاً : أنا ابنكم ، وأقول بين آبائي ما أراه حقّاً وصواباً بشجاعة الأبناء وأدبهم مع الآباء . مثل هذا الاجتماع السنوي لا يجب أن يخرج عن هدفه المحدد ، وهو تقديم كشف حساب عن العام الماضي ، ثم بيان بمشروعات العام المقبل ، من خلال إجراءات انتخاب دقيقة وسليمة لا مجال فيها للمحاباة .. وأعتقد أننا أخطأنا الطريق حين قلبنا اجتماع العمل إلي مباراة أدبية ، ولو اقترن الأدب بالعمل لهان الأمر .. وأريد أن يتكلم عن نفسه .. فللقرية عليكم حقوق كثيرة ، هي حقوق الأم علي أبنائها .. ونريد أن نتكلم في النور ، ولا نتستر وراء الجندي المجهول .. جئتكم ممثلاً لنادي الطلبة بالبلدة ، أحمل إليكم امتداداً طبيعياً لكم .. ثم عدد الاقتراحات حول طريقة تجديد انتخاب مجلس الإدارة ، وكيفية عمل الصندوق ، وإقامة مكتبة تضم مؤلفات أبناء القرية .. وأخيراً مطالبة بعض الأغنياء منهم بالتبرع بقطعة أرض لبناء مستشفي للقرية عليها .. وعند كل اقتراح كانت ترفع أكف أبناء القرية من الطبقة المتوسطة بالتصفيق . وتضيق صدور أعضاء مجلس الإدارة ، الذين أُخِذوا بهذه المفاجأة ، ويبدو أنهم أشاروا علي سكرتير الرابطة بشيء جعله يقوم ويهمس في أذني :

- نرجو أن تكف عن الاسترسال ؛ لأن البكاوات قد غضبوا . فالتفت علي الفور إلي جمهور الحاضرين قائلاً :

- أترون أن أنهي كلمتي ؟ فارتفعت الأصوات مشفوعة بدوى التصفيق :

- أكمل .. أكمل .

- نعم سأكمل ؛ لأنكم أصحاب الحق الأول .

وتوتر الجو عقب انتهاء الكلمة.. وقام رجل من علماء الأزهر هو أبو الفتوح الشيخ ؛ ليلطف من أثر كلمتي مزكياً ما حوته من اقتراحات عملية .

وخاب الأمل :

خاب أملنا في الخروج بنادي القرية إلي محيط أوسع .. وكان توالي الأحداث السياسية ، وتصاعد الأفكار الاجتماعية ، يشدنا شداً إلي محاولة الخروج بنادي مرصفا ونادي كفر السراي من عزلتهما المحلية إلي دائرة أوسع من النشاط ، بعد أن أدركنا أن مفتاح كل الحلول المحلية والوطنية معًا يكمن بالقاهرة ، ففي العاصمة قيادات كل الأعمال السياسية والاجتماعية ، ومنها تمتد الفروع إلي مختلف المدن والقرى .. ولقد أدي ضياع أملنا في ارتباط نادي القرية برابطة القاهرة .. إلي بحثنا عن طريق آخر أكثر فاعلية وأبعد أثراً .. ولم يكن أمامنا إلا مختلف الأحزاب السياسية والطرق الصوفية .. ولنا من كل منها موقف نفسي أو فكري معين .. فكثيراً ما تحاورنا في داخل النوادي في تقييمها ، وكان من السهل أن نتفق في الرأي العام نحوها .

لكن الأمر كان يختلف إذا تطرق الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين .. إنها تحيرنا .. ما نحب فيها أكثر مما نكره ، ونعجب هل ندرجها في قائمة الأحزاب السياسية ، أم في قائمة الطرق الصوفية ، أم في قائمة الجمعيات الخيرية ، أم في النوادي الرياضية ، أم في قائمة المؤسسات الثقافية ، أم في قائمة التشكيلات العسكرية ؛ لأن فيها من كل ذلك ؟! بكينا لقتل مرشدهم ولم نكن نعرفه ، وحزنا لحل جماعتهم ولم يكن لنا صلة بها . وفرحنا في مصرع فهمي النقراشي ، ولم نقف علي تفاصيل الحدث .. نحب الكثير من الزملاء المنتمين إليها ونكره البعض .. وكنا أمام حيرتنا في أمرها ، نفضل إرجاء إصدار الحكم عليهم دائماً .. حتى كانت واقعة رابطة أبناء مرصفا ، وأملنا الذي تبخر في الانضمام إليها بعد إصلاح شأنها ، حتى إن أمانينا كانت تتسع لتري نادي الطلبة بكفر السراي ببنها وقد استفاد هو الآخر من هذا الارتباط .. كانت براءة الشباب لا تجعل للخير وطناً ولا زمانًا .. وكان نادي بنها بالتالي يتابع ما يجري مع رفيقه بمرصفا .. وإذ علموا بالنتيجة .. بادروا إلي عقد اجتماع عاجل ، فوضوني فيه أنا وعبد الحق بعمل جولة علي مختلف الجمعيات الإسلامية بالقاهرة ، وتقديم تقرير مفصل عنها ؛ لنقرر علي ضوئه الانضمام إلي أقربها تمسياً مع آمالنا .. ولم ينسوا أن يحذرونا من عدم تضييع الأوقات ، بالمرور علي أي حزب ؛ لأنها جميعاً بعيدة عن نفوسنا .

كانت هذه هي نشاطات إجازة الصيف الجديد .. فأين هذا الصيف السعيد الظافر الذي ابتدأ بنجاحي في نهاية العام الدراسي .. من ذلك الصيف العاصف ؟ إنني الآن أسعد إنسان علي وجه الأرض ، لولا أن هذه السعادة يشوبها بُعد أسرة سعاد عني .

الفصل الثامن : ( أصبحت من محبي الإخوان ومن محبي الوفد - إلغاء النحاس لمعاهدة 1936 )

عاد أحمد شقيق سعاد بمفرده للعمل بالقاهرة ريثما تلحق به أسرته .. كنت أجد في زياراتي له عزاء لقلبي المعنَّي ، وتنسماً لعبير ليلي .. وفي يوم عجيب الأصيل صمَّت أذني عن سماع بقية حديثه ، لقد تكلفت الهدوء بعد سماع نبأ وصول الأسرة ، وإن كان كل شيء في كياني قد اضطرب .. وإن ألف يد تشدني للذهاب إليهم مرحبًا .. إن قطار الشوق قد انطلق في داخلي ، ولا قدرة علي إيقافه دون حدوث رجة ضخمة تتصادم فيها الرؤوس والعربات ..

إن الجامعة كلها تغلي ضد معاهدة 1936 وغليان مشاعري أشد .. فيالحظة اللقاء الحبيبة أقبلي ، لطالما عشت في خيالي ورداً وريحانًا ، وفي لساني شعراً وتغريداً ، وفي أذني لحنًا وتنغيمًا .. لقد فعل الحرمان فعله في سنوات البعاد ، فكنت أجد في تحملي لجميع المشاق نوعًا من السلوى .. هل سوى الحرمان باعثاً للطيور علي التغريد ، وحاثاً للهمم علي تخطي العقبات . ولو خلت الحياة من شيء يُطلب ، وهدف يُسعي إليه لفقدت معناها الجميل ، فكلما تحقق فيها أمل تبدي أمل جديد ، فالنمو في الأحياء والترقي في النفوس هما جمال الحياة وحقيقتها ، حتى إن الذين اطمأنت قلوبهم بذكر الله يظل شوقهم إلي لقائه يحدوهم ويحثهم علي بذل المزيد ، ولا يقنعون بما هو دون النفس والمال .. وقد يكون في تأخير أمانينا خير لأنفسنا ، فتقذف في سبيل أهدافها بلؤلؤ بحرها العميق من الفكر والعقل المبدع في طريق تبدي شوقها الدفين إلي عالم الظهور .. فإذا كانت النفس تكتسب كل هذا في غياب الحبيب فهل تطفئ لحظة اللقاء هذا اللهيب أم تؤجج ناره من جديد ؟! هذا ما ذهب فيه الشعراء كل مذهب . وحسبي الآن أن أرتوي من نبع حديثها الرقراق ، فالخيال في طريقه إلي ميلاد الحقيقة ..

القلق علي الحبيب :

قصدت المسجد القريب من البيت الموعود ، أستعيد فيه روحي الذاهبة بالوقوف بين يدي الله في الصلاة أشهده فيها علي طهر غايتي ، وأستعينه علي تيسير خطواتي نحو يوم المزيد من الحلال .. ضغطت جرس الباب ، وفُتح باب من الجنة علي أجمل حورية وقعت عليها عيناي .. لقد أصبحت سعاد شيئاً آخر غير تلك التلميذة الصغيرة التي كنت أعرفها .. لقد اعتراني الخجل وكدت أنكرها .. وسرعان ما التفَّت الأسرة الطيبة حولي في حب فياض ، وشوق باد في عيونهم جميعًا وفي أحاديثهم المرحة والسعيدة .. وسعاد الملائكية هي ريحانة هذا الجمع السعيد ، تنثر الدرر من ثنايا لؤلؤها النضيد .. ولم تقلل السعادة من شعوري بالخطر العظيم .. لقد كنت مطمئناً فيما مضي إلي أن سعاد إلي عالم الطفولة أقرب ، وأنني لذلك في مأمن من أي مزاحم حتى تكبر وتكبر معها إمكاناتي للتقدم إليها .. أما اليوم فقد اختل توازن هذا الأمل ؛ حيث ثقلت أعطاف الغصن الرطيب .. لقد تأكدت مخاوفي حين علمت أنهم فضلوا لها الدراسة في البيت أمانًا من المتعرضين لها بالمديح . مكثت أقص عليهم أخبار تلك الشهور العصبية التي مرّت عليّ وكيف انتهت بسلام إلي تحقيق الكثير من آمالي في الجمع بين العمل والدراسة .

وأصبحت مع الإخوان المسلمين من المحبين ..

أتذكرون محمد الشناوي وفارس محيجل جاريَّ السابقين في السكن ، عندما كنت بالمعلمين العليا إنهما الآن شريكي في السكن مرة أخري ؛ لأن قيام جامعة إبراهيم باشا – عين شمس حاليًا – قد شطر المعلمين العليا شطرين .. اعتبر أحدهما نواة لكلية العلوم بالعباسية ، والشطر الآخر نواة لكلية الآداب بشبرا ، وهكذا جمعني القدر السكن معهما بالعباسية ، وكنت قد أمضيت العام السابق في زقاق السكري مع صديقي الحميم عبد الحق ، وقد وفر عليَّ سكني الجديد وقتاً كبيراً كان يضيع في المواصلات ، لقربه من كليتي ، ولم أفضل علي هؤلاء الصحب الكرام أحداً بعد عبد الحق .. وحياتي تسير مع هؤلاء الزملاء سيراً طيباً ، وقد حببت إليَّ صحبتهم جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمون إليها ، وإن كنت أقتصر في مشاركتهم علي حضور بعض المحاضرات في مركزهم العام بحي الظاهر ، الذي أذنت الحكومة لهم بفتحه في الصيف ؛ لقاء مساعدتهم لها في الانتخابات الماضية ، ولي من وراء هذا الحضور إلي المركز العام حينا وإلي شعبة العباسية حينًا آخر قصد خاص هو تقديم دراسة وافية لهم ، ضمن سلسلة دراسات أقوم بها أن وصديقي عبد الحق في مختلف الجمعيات ، لحساب نادي الطلبة الثقافي ببنها ، تمهيداً للانضمام إلي الهيئة التي يقع عليها اختيارنا ، وزملائي في السكن من الإخوان يضعوني بدورهم في درجة الأخ المحب لا الأخ العامل ، وأنا فعلاً محب لهم .. أما الأحزاب السياسية فقد استبعدناها من حسابنا تمامًا ؛ لأنها مضيعة للدين والدنيا معًا .

لماذا سكنت المطبخ ؟

لقد قصصت الكثير من الأحداث ، والعديد من طرائف الروتين في العمل والدراسة ، ولكن الشيء الذي لم أقله لسعاد وأسرتها هو أنني أحتل مكان المطبخ في هذه الشقة الجميلة ، بعد أن هيأته للسكن ، وقد كان وراء قبولي لهذا المكان الأسباب نفسها التي جعلتني أسكن في زقاق السكري من قبل مع عبد الحق .. الرفيق قبل الطريق ، والجار قبل الدار ، وقد جاء سكني معهم متأخراً ، بعد أن اكتمل عدد الشقة .. ولم يكن سوي المطبخ بنصف القيمة الإيجارية للحجرة .. قبلته سعيداً بزمالتهم متمثلاً قول الشاعرة :

وبيـت تـخـفق الأريـاح فـيـه أحـب إلـيَّ من قـصـر منـيف

أمضيت علي هذا الحال وقتاً قصيراً جداً بميزان السعادة ، تجددت فيه كل ذرة في روحي ، وربت كل مشاعري ، وعدت أقوى عزماً علي تحمل أية مسؤولية تلقي علي عاتقي ، مادمت أري وجه سعاد مشرقاً بالسرور .

في انتظار الحوادث ..

ولم يكن عجيبًا أن أضيف فوق أعبائي هذه عبثاً آخر بالتحاقي بمعهد المعلمين بقسم اللغة الانجليزية المسائي بالزيتون ، حتى أجد في مهنة التدريس امتيازاً لا يتوفر للذين يعملون في السلك الإداري .. وقسمَّت ليالي الأسبوع بين الكلية ، والمركز العام للإخوان ، ومعهد المعلمين وما قد تفرضه المناسبات الوطنية من إسهام ، خاصة وأن بوادر هذا العام تنذر بأحداث سياسية كبيرة .. فقد بدأت الهيئات الوطنية ترمي بثقلها في تفجير الموقف .. وكنت أري أن ما أُعلن عنه من عقد مؤتمر وطني كبير يضم الإخوان المسلمين ، والحزب الوطني ، وحزب مصر الفتاة ، وأنصار السلام بشارع سعد زغلول علي غير رغبة حكومة الوفد الحاكمة ، يقرب يوم الفصل مع الحكومة والسراي ؛ لأن هزيمة حرب فلسطين مازالت تكوي المشاعر ، وتلتمس لها المقاصد الوطنية ، التي يري فيها الشرف الوطني علاجاً لجراحه . غادرت البيت بعد أن وعدت أسرتي الجديدة بتفصيلات ما سيحدث في هذا المؤتمر الوطني ، الذي تجمعت فيه لأول مرة عدة قوي وطنية فعالة ، خلفاً لقوي الأحزاب التقليدية ، التي فقدت احترامها في نفوس الطبقة المثقفة من الشعب ، ولم يبق فيها سوي حزب الوفد الحاكم ، الذي يجاهد لاستعادة شعبيته المتسربة ..

المؤتمر الوطني :

وفي اليوم المحدد أقيم سرادق ضخم ، وتوسط شارع سعد زغلول القريب من مبني " البرلمان " ، وتلألأت الأضواء في جميع الأركان ، وأحالت الليل البهيم إلي نهار بهيج ، وعلي منصة في الوسط محاطة من جميع النواحي .. بجمهرة الطلبة الجامعيين المنتمين إلي مختلف الهيئات الوطنية ، وبقليل ممن لا ينتمون مثلي إلي أي هيئة ، وقف الخطباء يتبارون في تقديم الحلول العلمية لقضية الساعة – الجلاء ووحدة وادي النيل – وكل خطيب يطبع بصمات هيئته علي مشاعرنا بذكاء ، وكان أول المتحدثين صالح عشماوي من الإخوان المسلمين ، ثم فتحي رضوان من الحزب الوطني ، ثم تلاهما شخص لا أذكر اسمه عن جمعية أنصار الإسلام ، ثم أحمد حسين عن حزب مصر الفتاة .. وتركزت مطالب الجميع في وجوب إلغاء معاهدة 1936 ، ولما تعرض أحمد حسين في كلمته للحكومة بالتجريح هجم رجال الشرطة علي المؤتمرين وفرقوهم بالهراوات والعصي ، وكل ما امتدت إليه الأيدي ، واستطعت أنا وزملاء السكن أن ننجو من قبضة الشرطة ، ونولي الأدبار سالمين .. وعدت بنفس حيري من أجل تحرير الوطن من الداخل أولاً من مثل هذه العقليات ، التي لا تفرق بين مؤتمر وطني جاد وغيره من المهاترات ، والتي لا تفهم سوى لغة القوة أسلوباً ومنهجاً للتفاهم مع المواطنين .

إلغاء المعاهدة :

إذا كان هذا هو رد الفعل السريع في نفسي وفي نفوس المؤتمرين في هذا اليوم ، إلا أن الأيام قد حملت لنا بعد ذلك شهادة براءة الحكومة من هذه الاتهامات .. جعلتني وغيري أننا أسرفنا في الظنون ، وجعلتنا نغتفر للسلطة ما أصابنا في هذا اليوم من أذي ومن تخييب للآمال .. فكلمة واحدة من الشرطة قد كشفت عن تجاوبها مع أماني الشعب ، ووفرت عليها العديد من المعارك المحلية .. لم أصدق أذني وأنا أستمع إلي المذياع وهو يذيع هذه الكلمة السحرية ، التي كانت قميص عثمان منذ ساعات .. لكن صوت المذياع يدوي بها في كل مكان ، والناس تتقاطر هنا وهناك غير مصدقين ما يسمعون ، ولكنها حقيقة تسمعها القلوب قبل الآذان .. وتهتز لها أركان الأمة كلها .. إنه نبأ إلغاء الحكومة لمعاهدة 1936 .. تجولت في الشوارع أشارك الناس بهجتهم ودهشتهم ، وهم يستمعون إلي بيان مصطفي النحاس باشا رئيس الوزراء في عبارته التاريخية " من أجل مصر وقعت معاهدة 1936 ، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها " .

واجتمعت الأمة :

يا لها من ضربة قاصمة للانجليز .. ويا له من موقف وطني رائع ، توج به حزب الوفد تاريخه الطويل ، وأكد بحق جدارته بالشعبية الكبيرة التي ظفر بها في استقطاب جميع الاتجاهات الوطنية ، والتجمعات الحزبية التقليدية في حزب واحد كبير ، يقف حزب الوفد علي قمته .. وأن المطلب الذي كان يطالب به الجميع عشية عقد المؤتمر الوطني الذي فرقته الشرطة قد جاءهم سهلاً علي يد من كان يتصدي لهم بالهراوات .. لقد كفَّر هذا الموقف الجريء عن كل خطيئة ، كنا نحصيها علي حزب الوفد من قبل ، وإن بقيت في الصدور شكوك فهي حول مدي استعداد الحكومة للسير في الطريق حتى النهاية .. لكن هذه مهمة كل الاتجاهات الوطنية ، إذا اشتركت في دفع هذه البداية السليمة إلي غايتها الكبيرة دون التوقف عند الخلافات الصغيرة .. هذا ما طالعته علي جميع الوجوه .. الكل متفائل وسعيد .. موجة مفاجئة من الحب جمعت أبناء الأمة في صعيد واحد ، وجعلتهم يلتقون علي هدف واحد .

هكذا تفعل الزعامة حين تبرأ من العجز ، وتعلو علي المصالح الشخصية .. لم يكن النحاس باشا في يوم من الأيام أقوى منه في هذا اليوم ، ولا أكثر شعبية .. العمل الوطني أقوي من السوط في الإقناع . لقد بدأت الأمة كلها تغلي بالاستعداد لملاقاة الانجليز علي ضفاف القنال .. وبدأت الجامعات في التدريب العسكري .. وبدأت جماعة الإخوان المسلمين تدريب شبابها من خلال المعسكرات الجامعية .. وأصبح كل شيء من حولي يؤكد أن أحداث ضخمة علي وشك الانفجار .


الفصل التاسع : ( ارتبط اسم الإخوان بالقنال والفداء - أصابت الحرائق كل المقدسات من معتقدات وأشخاص وحكومات )

بدأنا نسمع عن عمليات جريئة ، يقوم بها الفدائيون ضد الانجليز علي ضفاف القنال ، وأصبحت كلمة الفدائيين مرادفة للإخوان المسلمين .. فأمام التضحية بالنفس والمال لا يصح إلا الصحيح ، ولا يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس .. فحين يحل العمل محل الكلام يصير الصمت أبلغ من التعبير ، وأزيز الرصاص أقوي من هدير الحناجر . كل الهيئات الوطنية حرصت علي أن تحظي بشرف الاشتراك في المعركة ، لكن كان للإخوان المسلمين وحدهم شرف القيام بأجرأ العمليات الحربية مثل نسف القطارات ، واقتحام المعسكرات ، وتدمير أمنع مخازن الذخيرة بأبي سلطان ، مما أطار صواب الإمبراطورية العجوز ، وكان لهم أيضاً شرف الاستمرار حتى النهاية ، فارتبطت كل العمليات باسمهم ، وكانت طلائع شهدائهم تزيدنا استعذاباً للموت ، وإكباراً لهذا الشباب المؤمن .. وإعجاباً بهذه الجماعة الفتية ، التي ردت لهذه الأمة كرامتها ، وصانت حرمتها ..

ووثقنا بالجيش ..

وارتفع الهمس بأن بعض ضباط الجيش يقومون بتدريب الفدائيين سراً وبمدهم بالسلاح . وقد أعادت هذه الأنباء ثقتنا في الجيش ، الذي كنا نظنه في قبضة السراي والانجليز ضد الشعب ، أو كنا ننظر إليه علي أنه مجرد جيش للزينة والاستعراضات ، ولكن تيار العمل الوطني وضع الجيش في مكانه الصحيح من أماني الشعب ، وهذا مغنم كبير أيضاً . إن الجهاد العملي يصحح النفوس ، ويميز الصفوف ، ويبرز الأهداف .

واحتارت الحكومة :

لقد التهب الشعور الوطني في كل مكان ، وكانت الجامعة هي مرآة هذه الروح المتأججة ، وأصبحت الحكومة في مأزق شديد ، بين مجاراة هذا التيار الشعبي الجارف ، وبين حرصها علي السيطرة عليه ، وتوجيهه حتى لا يفلت من قبضتها . لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما يخفيه الغد ، فالأمة كلها مسيرة إلي قدرها المحتوم .. إن رغبة عارمة تجتاحني للاشتراك في معسكرات التدريب .. غير أن ذلك يتعارض مع مواعيد عملي .. أحسست آنذاك أنني مشدود بخيط شديد إلي الأرض .. خيط الوظيفة .. كل الأعذار التي قدمتها لنفسي لم تفلح في تخفيف الآلام عن صدري .. لكن رؤيتي المفاجئة لعبد الحق في زى الفدائيين عقب خروجي من إحدى المحاضرات المسائية قد حمل العزاء والاندهاش إلي نفسي ..

- ما هذا يا عبد الحق ؟ لماذا أخفي تدريبك عني ؟

- لا وقت للعتاب .. فقد جئتك مودعاً بعد أن أتممت تدريبي بمعسكر الأزهر الشريف بالدراسة ، ولأزودك أيضًا بهذا المبلغ الذي فاض عن حاجتي ، لأن مرتبك الصغير ينوء بالتزامات كثيرة ، بقي هذا الجنية الذي سنشترك معًا في إنفاقه الليلة علي الطيبات ، فربما كان آخر لقاء في الدنيا . أخذتني هذه المفاجأة من جميع جوانبها الإيمانية والوطنية والأخوية .. وشعرت برؤية عبد الحق في زيَّه العسكري أننا قد عثرنا علي بداية الطريق الصحيح . ودعته في آخر الليل متمنياً له شهادة كريمة ، تكون مقدمة لاستشهادي في معركة قادمة .. فقد أحيا بإقدامه هذا ذابل الأمل في نفسي ، وأزاح ثقل الألم عن صدري ، فانتصار أحدنا علي الظروف المثبطة هو انتصار نفسي لنا معًا ، كذلك كان يشعر عبد الحق نفسه يوم أن تخطيت كل العقبات أمامي من قبل ، وكذلك أشعر اليوم حين تغلب عبد الحق علي عقبات من نوع آخر .

لماذا غضب عوني ؟

وأنا في طريقي إلي العمل في صباح اليوم التالي وقع بصري علي صديقنا الحميم عوني جنيدي رئيس نادي الطلبة .. كان في طريقه إلي كلية العلوم ، قادماً لتوه من بنها في القطار . أخبرته بقصة عبد الحق ، ليبادر بتوديعه قبل سفر الكتيبة ، لكنه فاجأني بالثورة والغضب لهذا النبأ ؛ وقال : كيف لم تمنعه من ذلك ؟ إنك تجني عليه بدفعه إلي معركة خاسرة .. سأذهب لتوى لا لتوديعه بل لمنعه من السفر بأي وسيلة . قلت : أأنت الذي تقول هذا أو تفعل ذلك ؟

- نعم .. لا أقوله نيلاً من مبدأ الجهاد ، ولكن من وحي الثقة المفقودة في الحكومة .

- حتى مع فرحة الشعب بإلغاء المعاهدة ؟

- أجل .. حتى مع فرحة الشعب ، فالفرح شيء ، والثقة شيء آخر ، فكل حكومة تمثل علي مسرح السياسة فصلاً جديداً ، لا ندري علي وجه الدقة أبعاده الخفية ، وظني أن الحكومة الحالية لا يمكن أن تقدم علي مثل هذه الخطوة بعيداً عن علم القصر ، والقصر الفاسد – كما تعلم – أول من يستفيد من وجود الانجليز .. إنني أشم في هذه العملية من رائحة الدهاء أكثر مما أشم من رائحة الصدق .. ونحن الشباب البريء نبذل أرواحنا سخية لأغراض مجهولة لنا تمامًا ، ستتكشف في النهاية عن مساومات وتسويات بعد أن تراق نسبة محسوبة من الدماء الزكية علي طاولة القمار . إن أعماق الحكومة تأبي التورط إلي ما هو أكثر من حد الأمان .. والأمان عند حكومتنا الرشيدة هو المحافظة علي كراسي الحكم .. وأنا لا أصدق أن أصحاب القصور والإقطاعيات ومدمني الملذات يمكن أن يجعلوا ذلك كله قربانًا لمعركة حقيقية .

ولكني أقنعته ..

- يا أخي لا يغيب عني ما ذكرت .. لكني إلي الموضوع من زاويتين مغايرتين تمامًا لتقدير الحكومة .. الأولي منها تتعلق بنية عبد الحق ومن معه من الشباب .. فحسبهم أن يظفروا بالشهادة ، وأن يبعثوا يوم القيامة علي نياتهم .. فقضية كل إنسان مع الله هي قضية فردية في الدرجة الأولي ، وإن استقامت نجا ولو فسد الناس جميعًا .. فعبد الحق بهذا قد عرف طريق النجاة .. أما الزاوية الثانية فهي فيما ستقدمه هذه الدماء الزكية من فتح جديد في نفوس الشباب نحو الحركة الإسلامية ، التي استقطبت عواطفنا جميعًا يومًا ما عندما خاض شبابها حرب فلسطين .. أما اليوم فإن اضطلاعها بعبء تدريب الفدائيين في كل الجامعات سيسكبها مشاعر جديدة ، وهذا عين ما نتمناه لهم ، وإن لم نكن في تنظيماتهم .. فحب هذا اللون من الناس أمر طبيعي لدي الفطرة السليمة ، ودماء شهدائهم سنفتح الطريق إلي كسب قلوب هذا الجيل للإسلام ، ودماء عبد الحق معهم لن تضيع بل تعمل عملاً كبيراً .

صمت عوني صمتاً حزينًا ، ثم قال :

- أتأتي معي لرؤية عبد الحق ؟

- عملي يمنعني .. قلتها علي استحياء .. كأني أقصد الأعمال المنزلية .. فما كنت أود أن يمنعني شيء عن هذه الحركة .

لم يسافر عبد الحق ..

في اليوم المحدد لسفر عبد الحق فوجئت بدخوله عليًَّ في مسكني صامتًا حزيناً ، وجلس دون أن يلقي السلام علي الكرسي اليتيم بالحجرة .. أدركت علي التو ما قام به عوني نحو تعطيل سفره ، وإن لم أعرف تفاصيل ما قام به والد عبد الحق إلا فيما بعد .. أخذت أسرَّي عنه ، لكنه لم يستجيب لمزاحي .. وأغراني صمته بأن أواصل الحديث تخفيفاً لأحزانه .

- يا أخي حسبك أن لك ثواب النية .. ولعل الله يدخرك لما هو أكبر من ذلك .. فما أكثر ما تعطلت أمانينا ثم كان الخير في تعطيلها .. وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم .. أتذكر يوم أن عزمنا علي التضحية بأنفسنا سنة 1948 ، باغتيال منصور اليهودي تاجر القماش الشهير ببنها .. ولما فشلنا اكتفينا بحصار محله لصرف الناس عن الشراء منه .. ولما فشلنا أيضاً لجأنا إلي الخطابات نمطر بها كل الجهات المسؤولة ندلل فيها علي صهيونية هذا الرجل لوجود نجمة إسرائيل المسدسة في أعلى عماراته المواجهة لمبني المديرية ، وظننا يومها أن هذه الخطابات ستقلب الدنيا ، وأننا سنستيقظ ذات صباح علي رؤيته مسوقاً إلي الجحيم ، ثم تطور وعينا مع الأيام حتى وصلنا إلي مستوي العمل الفدائي .. ولعله أيضاً مجرد خطوة علي طريق الجهاد الطويل مع الباطل في الداخل والخارج .. لماذا هذا الحزن ؟ هل انتهت فرص الجهاد من الدنيا ؟! . ألست معي أن فساد الأوضاع في الداخل تحتاج هي الأخرى بل وفي الدرجة الأولي لدماء الشهداء .. وأن هذا الرصيد من الشباب المؤمن لا يجب أن ينفق كله في معركة واحدة .. فابتسم بصعوبة ، وأغرتني ابتسامته بالممازحة .. فقلت له : صدقني لقد كنت شهيداً علي قدر من التعلق بالدنيا .. فزادت ابتسامته وقال :

- كيف ذلك ؟

- بدليل ما التهمته معي من حلوي الوداع بالجنيه الميمون .. فضحك وقال :

- بل بدليل ما سأسترده منك من مبالغ تبرعت لك بها من قبل ، وأطلقت يدك فيها .

- هذا صحيح .. ولاشك أننا سنعيش بقية الشهر علي ما تبقي معي في شظف من العيش ، وربما علي الطوي .

التهب الشعور فصبت الحكومة البنزين ..

أخذت الأنباء تتوالي عن سير المعركة علي ضفاف القنال .. وأنباء أخري عن تشديد قبضة الحكومة علي العمل الفدائي .. وعن تباطئها في تزويد عساكر بلوكات النظام المحاضرين في مبني الإسماعيلية بالسلاح الكافي لفك حصار الانجليز .. مما أدي إلي استشهاد عدد كبير من هؤلاء العساكر . ارتفعت درجة الغليان الشعبي لهذا الحادث الأليم .. ازداد الإحساس بأن القاتل الحقيقي لأبنائنا هو في قلب القاهرة .. وعادت إلي الأذهان مأساة الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين . لكل الحكومة الذكية هداها تفكيرها السقيم إلي امتصاص موجة الغضب بإقامة حفل ساهر لكوكب الشرق – صاحبة العصمة الآنسة أم كلثوم – في ليلة 26 يناير .. بهذه البساطة ألقت البنزين علي النار .. شعرت ليلتها بكلمات عوني تطن في أذني : الهزل .. العفن .. الخنافس الاستعمارية التي لا تفرق بين معاول الهدم وعوامل البناء .. الغصة في حلوقنا لهذا التناقض بين الكلام والعمل .. الكلام عن الحرب وتحرير الوطن .. والعمل للهزيمة ونشر الضياع .. فقدنا حتى نخوة الجاهلية التي دفعت امرؤ القيس إلي هجر الخمر غداة علي الثأر لأبيه .

إن النيران المستعمرة في صدري وصدور الناس علي الحكومة والقصر والفساد هذه الليلة بالذات تنسينا مأساة احتلال الانجليز للوطن .. تطهير البيت من الداخل أولي من تطهير حيطانه من الخارج . بت ليلتي مؤرق الجفن ، محرق الحشا ، مثقل الأنفاس علي صياح المعجبين بكوكب الشرق .. ولما تجف دماء الشهداء علي أرض مبني المحافظة ، ولما تجف معها تلك الليلة دموع الثكالى وأنات الأطفال الميتمين .

واحترقت القاهرة :

سقطت همومي فجأة كقناع من ورق أمام رؤيتي لألسنة اللهب في السماء ترتفع هنا وهناك فور عودتي من عملي وقبل أن تطأ قدمي أرض باب الحديد .. الناس يجرون هنا وهناك .. يا للعجب .. القاهرة تحترق !! لقد نفس الشعب عن غضبته وعبّر عن سخطه بإحراق كل الملاهي والبارات ؛ انتقامًا لشهداء محافظة الإسماعيلية .. هل الأمر سيقف عند هذا الحد أم ما أري هو مقدمة لثورة شعبية ستطيح بالحكم الحاضر ؟ إنني وأنا أسترجع أحداث هذا اليوم داخل جدران معتقل طره السياسي ، بعد ثمانية عشر عامًا وأربعة أشهر من وقوعه ، أقول للذين أتعبوا أنفسهم في تحليل أحداث هذا اليوم للكشف عن الأصابع الخفية ، أو لتقدير الخسائر الختامية .. أقول لهم : لا تجردوا هذا من العواطف الإنسانية ، ولا تعفوا المسؤولين من المسؤولية .

في خضم الحرائق عثرت علي زميل الدراسة الثانوية أحمد حماد ، الذي ألتحق بكلية الفنون ، تذكرنا علي عجل ما كنا نتبارى فيه هو بالرسومات الوطنية ، وأنا بالتعليق عليها شعراً ، ثم نحتكم إلي من يقدر تطابق الرسم مع المعني .. كنا ننفس عن صدورنا بالورقة والقلم .. واليوم سننفس عن صدورنا بأسلوب أكبر وأعنف .. قلت له :

1 ألا تري يا حماد أننا نشهد الآن فصلاً كان يكمن في صدورنا ضد الانجليز ، وها نحن قد اضطررنا الآن إلي أن نوجه الخنجر إلي صدورنا ؟!

2 إنني أري اليوم بكياني كله لا ببصري فقط .. فالحرائق قد أصابت كل المقدسات عندنا .. من أشخاص ومعتقدات وحكومات ، لا أعتقد أن جيلاً سيشهد ما نشهده هذه الأيام بأبصارنا وبقلوبنا .. لم تلبث أيدينا أن امتدت مع الشعب الغاضب ، وكانت بادرة عملنا بتدمير سينما ريفولي وأحد البارات الموجهة لها .. وكانت الغضبة الشعبية تلتزم دُور اللهو والفساد في البداية ، ثم تطورت فشملت كل شيء في النهاية .

وبدأنا العمل ..

وبعاطفة خاصة نحو جماعة الإخوان المسلمين سارعت أنا وحماد بإسكات الهتافات الصادرة من بعض العمال ، بعد أن تبين لنا عدم صلتهم بالإخوان ؛ خشية أن تلصق هذه الأعمال بهم ، ولم تكن هذه الهتافات تخلوا من دلالة .. فهي تكشف عن شعور المحبة نحو هذه الجماعة ، التي يتمني الجميع أن تكون هي سفينة إنقاذهم .. اتفقنا علي أن نعمل معًا بلا هتافات حزبية ، وبعد أن نحدد أنا وحماد الأماكن .. تعاهدنا علي تحري أماكن الفساد ، وعلي أن نتنزه عن أي غرض .. وقد كانوا عند حسن الظن بهم ، ولم نترخص لهم إلا في محل الأمريكيين ، ليأكلوا ما طاب لهم قبل أن يحيلوه تراباً . مع غرب شمس يوم 26 يناير كانت عربات الجيش كالسهام حولنا فخشينا مغبة الاستمرار .. وآثرنا الانصراف .. تاركين القاهرة تسبح في الظلام علي ألسنة النيران .. وتفاديت في عودتي طريق الجيش . اتخذت أطول الطرق إلي بيتي وأقصرها إلي قلبي .. طريق بيت سعاد ؛ لأكون أول من يقص علي مسمع أسرتها تفاصيل الأحداث .. ولم يكن هناك من وسيلة مواصلات سوى أقدامي ، أسير عليها من شارع فؤاد في قلب القاهرة حتى روض الفرج ، ثم إلي شارع شبرا حتى باب الحديد .. ومن كوبري الليمون ركبت القطار حتى محطة الدمرداش حيث سكني .

وجاء دور الفكر ..

كانت دهشة سعاد كبيرة لدخولي عليهم حاسر الرأس ، في حلة غارقة في الخمر ، من أثر إلقاء صناديقها في النيران .. الجروح تملأ جبهتي ويدي ورقبتي من أثر تساقط زجاج المحلات المهشمة .. زاد تلهف الأسرة لسماع الحديث ، خاصة عندما صعدنا سطح البيت لمراقبة ألسنة اللهب المتصاعدة في سماء القاهرة ، وأنا أتولي شرح مواقع النيران وتفاصيل ما تحتها من دمار .. وشرح ما كان يجيش بصدور الثائرين من مشاعر ، وما كان يدور في رؤوسهم من أفكار . عدت لسكني قرير العين بكل ما جرى .. أليس من حق الشعب أن يؤدب الحكومة أيضًا .. هذه هي وسيلته العاجزة عندما يفتقد التربية السليمة .. تمامًا مثلما يجني الأب ثمرة تقصيره في تربية أبنائه عقوقاً وجحوداً .. لابد من القدوة الحسنة ؟أولاً قبل الحساب أو الجزاء .

تري ماذا سيقول زملائي في العمل عندما أقص عليهم ما جري ؟ تري ماذا ستقول صحافة الغد ؟ كيف ستكون تصريحات الحكومة ؟ ما موقف الجيش بالضبط مما جري ؟ ماذا ستفعل الحكومة بالإخوان المسلمين ؟ هل ستلصق ما جري بهم لتوقف نشاطهم في القتال ؟ ذهبت السكرة وجاءت الفكرة كما يقولون .. عشرات الاحتمالات في نفسي .. تلهفت علي طلوع الصباح .. وكان أول ما فعلته عند وصولي لباب الحديد في طريقي إلي عملي هو الإسراع بشراء جريدة الأهرام ، وقرأت العنوان العريض – الخونة يحرقون القاهرة – لم أصدق عيني وأنا أقرأ العنوان .. فما وقعت عيناي علي منظر أبعث للآسي وأمض للنفس وأجرح للفؤاد من هذا العنوان في تلك الساعة .. لن تتخلي صحافتنا عن التضليل حتى في أحلك اللحظات ، كأنها في حرب مع عواطف الشعب .. لبثت في شرودي لحظات .. أسفت علي العقلية الحاكمة ، التي لا تقوى علي التفسير الصحيح للأحداث .. إنهم لا ينظرون إلي الدنيا إلا من تحت أرجل كراسي الحكم . كراسي الحكم التي لم تدم إلا ليلة واحدة ، بعد أحداث هذا اليوم ، إذ سرعان ما سقطت الوزارة ، وكان هذا اليوم هو آخر عهد حزب الوفد بالحياة السياسية .. وإذا كانت خراطيم المياه قد أطفأت النيران المشتعلة في جميع أنحاء القاهرة ، فإن نيرانًا أخري قد شبت في الصدور ، لا سبيل إلي إطفائها إلا بالدماء ، لقد نبتت بذرة الثورة في القلوب جميعًا ، برغم الهدوء المريب الذي ساد الحياة عقب تشكيل وزارة جديدة وبرغم تعطيل العمل الفدائي علي ضفاف القنال .

الفصل العاشر : ( وتحولت النوادي إلي شعب )

بعد إيقاف العمل الفدائي علي ضفاف القنال في أعقاب حريق القاهرة ، وبعد تشكيل الوزارة الجديدة ، عاشت البلد في فترة سكون مريب مشوب بالقلق والترقب .. ووجدنا في فترة الهدوء التي تسبق العاصفة هذه فرصتنا أنا وعبد الحق لزيارة الأهل ، والاجتماع بطلبة النادي بكفر السراي ، لتقديم تقريرنا الأخير عن الهيئات الوطنية والجماعات الإسلامية من واقع مراكزها الرئيسية بالقاهرة .. وهو التقرير الذي حمَّلنا أعضاء النادي أمانة القيام به منذ بدأ العام الدراسي ، حتى يتم علي ضوئه ارتباطنا النهائي بإحدى هذه الهيئات أو الجمعيات .. وبلورت الزيارات التي قمنا بها ، والأحداث التي اشتركنا فيها ، رَأَيَنَا الأخير فيها ، بل وفي غيرها ممن لا يمتون إلي الوطنية أو الإسلام بصلة .. كنا نسابق الزمن ونشعر أن ميراث هذا الرجل المريض أصبح وشيكاً ، والكل يعد نفسه وينظم صفوفه ليكون هو الوارث الوحيد .. وحان يوم عملنا السريع في جانب الوارث الصحيح . وشهدت حجرة جلوس بيت عبد الحق الاجتماع الطارئ لجميع أعضاء النادي ؛ لمناقشة هذا التقرير ، ثم لأخذ القرار الأخير ..

قلنا :

الإخوة أعضاء النادي ، لم تكن الزيارات فقط هي التي بلورت رَأَيَنَا ، بل اشتركت الأحداث الساخنة معنا في ذلك .. ونبدأ من نقطة الالتقاء بإخراج جميع الأحزاب السياسية التقليدية من حسابنا .

هذه الجمعيات ..

وقد بدأنا بأحسن الطرق الصوفية سمعة وهي الطريقة الشاذلية الحصافية .. وما وجدنا فيها بغيتنا ، فشيخنا رجل صالح أضاع وقت الزيارة كله في الكلام عن أرض اشتراها ، ويعاني من تسجيلها في الشهر العقاري . أما جمعية شباب محمد فكان رئيسها مشغولاً بمراجعة كتيب تحت الطبع ، وعبثاً حاول عبد الحق بأن يظفر منه بأي تعريف بنشاط الجمعية ، فكان يعتذر لانشغاله ، فلما أغلظ له عبد الحق القول أحاله علي السكرتير الذي كان مشغولاً بدوره ، واكتفي بتسليمه كتيباً صغيراً عن أهداف الجمعية ونشاطها بعد أن تقاضي ثمنه .. أما جمعية الشبان المسلمين فهي خير من كل ما سبقها ، ودون ما نحلم به بكثير ؛ فاهتمامها الرئيسي بالرياضة ، والثانوي بالمحاضرات الثقافية .. وثمة جمعيات أخري كثيرة ، تحارب علي شكل الزى أولاً ، ومضمون السلوك ثانياً ، تحارب الفرد وتبارك السلطة ، معاركها كثيرة علي الأشياء الصغيرة . والكل يبتعد عن السياسة ، ويؤثر السلامة بالبعد عن أسباب الخوف والندامة ..

وهذه الأحزاب ..

أما عن حزب مصر الفتاة .. فإن أول ما ينفرنا منه اسمه الذي يشعرنا بالتخنث والإقليمية ، اسم تنفر منه فطرتنا ، شعاراتهم كثيرة ، وحماسهم كبير وعملهم قليل .. وقد تبخروا علي ضفاف القنال ، بعد الطلقات الأولي من بدء المعركة ، وتبخروا من ميدان العمل ليكونوا فرسان الكلام . أما الحزب الوطني .. فهو الوحيد القريب إلي قلوبنا من بين الأحزاب جميعًا ، ونحن لا نعتبره حزباً بالمعني التقليدي .. إن لنا نحوه عاطفة خاصة لتاريخه النظيف ، الذي بدأ علي أيدي مصطفي كامل ومحمد فريد ، وقد حرصنا علي زيارة قبريهما وترحمنا عليهما ، ولكن هذا الحزب اليوم قد اختفي من الحياة ، وتركز في شخص رئيسه فهو الحزب والرئيس معًا ، ويستمد ثقله السياسي من تاريخ زعمائه الأحرار ، ومن عدم تلوثه بالسلطة حتى الآن . أما الحزب الشيوعي .. فكل شيء في كياننا ينفر منه ، وإن كانت معلوماتنا عنه قليلة وغامضة .. لم يقابل عبد الحق أحداً منهم ، ولكن الظروف قابلتني بواحد منهم في كليتي ، وبواحد آخر من قريتنا بعمل في مصانع نسيج شبرا الخيمة ، ولم تنفتح لهما خلية واحدة في نفسي ؛ لعدم إيمانهما بالله ، ولولائهما الشديد لروسيا .. هذا الحزب نبت غريب في بلادنا ..

هل بقي بعد ذلك شيء ؟

قال أعضاء النادي : نعم بقي أهم شيء .. تقريركما عن جماعة الإخوان المسلمين . قلنا : إن كان بالإمكان عمل تقرير لإقناع الناس بطلوع الشمس فإنه يمكننا أن نقدم لكم تقريراً عن حقيقة هذه الجماعة .. كل هيئة وطنية أو جمعية إسلامية تطلب منا جهداً للوصول إلي مقرها أو إلي المعلومات الواضحة عنها . أما جماعة الإخوان المسلمين فكانت تقابلنا في كل مكان بأعمالها .. تمامًا مثلما تُقَابِلَنًَا أشعة الشمس في كل خطوة من خطواتنا .. إذا كانت لكل هيئة وطنية أو لكل جمعية إسلامية مزية في شيء فإننا نري أن جماعة الإخوان تجمع مزايا الجميع . ونعتقد أننا بذلك قد وجدنا الحلقة المفقودة ، التي كنا نبحث عنها بين الأحزاب والجمعيات الإسلامية .. هي شيء جديد تمامًا في الأهداف والوسائل ، وفي نوعية الرجال الصواب ، حتى نقوي جبهة الحق في صراعها مع الباطل ، الذي عشش في وادي النيل سنينًا طويلة .. البلد تترقب أحداثاً ضخامًا في كل لحظة ، وحرام علينا أن لا نجعل الإسلام في مقدمة أحداث المستقبل .

وتحول النادي إلي شعبة :

كانت الاستجابة تامة ومفرحة من جميع الطلبة ، الذين بادروا بقلب النادي إلي شُعبة الإخوان المسلمين ، وإلي استمرار عوني جنيدي نائبًا للشُعبة بدل رئاسة النادي وأُخذت قرارات وقتية بتطهير مكتبة النادي من الكتب والمجلات الصفراء .. وتم التخلص من أدوات التسلية المنافية لآداب الشرع كورق اللعب والنرد .. ولم نقم من جلستنا هذه حتى انتظم سلكنا في أُسر ، لكل أسرة نقيب ، وبقي الأخ عبد الحق أمينًا لصندوق الشُعبة ، وصادرنا أموال النادي لحساب الشُعبة ، وتواصينا بالمناداة بصفة الأخوة دون غيرها من الألقاب ، وانصرفنا علي موعد جديد لترتيب العمل المحلي لنشر الدعوة الإسلامية ، ولمتابعة خطوات الجماعة في سياستها العليا ؛ لمعرفة مدي مشاركتنا فيها ، من الطوائف أننا كنا قد تعودنا أثناء فترة النادي أن تختص ثلاثتنا عبد الحق وعوني وأنا بشرب المرطبات من أموال النادي دون بقية الأعضاء ، باعتبارنا أصحاب فكرة إنشائه ، وأحببنا بعد أن تحول إلي شُعبة أن نختبر عبد الحق أمين الصندوق الشُعبة حاليًا والنادي سابقاً . فذهبنا إلي بيته لنستأنف شرب المرطبات علي غرار ما قد سلف ، ولكنه اعتذر قائلاً : كان ذلك فيما مضي ، أما الآن فالمال مال الله ، لن يُصرف مليم منه إلا بحقه .. فازداد سرورنا وشكرنا نعمة الله علينا ..

وما إن عدنا إلي القاهرة حتى أسرعت لزيارة أخي رفعت القويسني أنشط أعضاء نادي قريتنا ، فاستقبلني ببشاشته المعهودة ، وزف إليّ نبأ تحول نادي مرصفا إلي شُعبة للإخوان ، بعد أن علموا بتفاصيل ما جري في نادي كفر السراي ... فكانت مفاجأة طيبة لم أكن أتوقعها ، لأنني كنت أمهد لهذه النتيجة بزيارتي هذه وإذا بهذا النبأ السعيد يضاعف من سعادتنا ومن شكرنا لله .. وافترقنا علي أمل أن تشهد أشهر الصيف القادمة تعاونًا بين الشُعبتين ، يفوق ما كان بينهما كناديين من قبل ، وأكثر تفاعلاً مع قضايا الأمة وأعظم نفعاً ..


الفصل الحادي عشر : ( وقامت ثورة 23 يوليو )

انطلقت الألسنة منددة بما آل إليه حال الوطن من سوء ، بعد حظر النشاط الفدائي علي ضفاف القنال في أعقاب حريق القاهرة .. وكثرت التكهنات عن الأيادي الخفية وراء هذا الحريق ، فمن قائل السراي .. ومن قائل الانجليز .. وتناقل الناس باستياء شديد أخبار الحفل الساهر ، الذي أقامه الملك فاروق لولي عهده الطفل أحمد فؤاد ، دعي إليه ضباط الجيش في ليلة الحريق نفسها .. وأخذ توالي الأحداث يلقي بالبنزين علي النار فتزداد اشتعالاً . فجاء زواج غالي المسيحي من الأميرة فتحية لغمًا موقوتاً فجّر مظاهرات الطلبة ضد السراي ، وضد شخص فاروق ، الذي نزعت صِوَرِه من قاعات الجامعة ، وديست بالأقدام ، وهُتف بسقوطه علنًا لأول مرة .. وأخذت الصحف تنفخ في رماد الأحداث كلما همدت نيرانها ، فتتوهج جذوتها من جديد .. فهذه جريدة الاشتراكية – لسان حال حزب مصر الفتاة – تفتح صدرها لسلسلة مقالات نارية بقلم سيد قطب عن فساد الأوضاع وضرورة التغيير .. وفي مرة خصصت صفحتين كاملتين لصور المسولين ، والعجزة ، وأصحاب العاهات ، وتحتها عبارة رعاياك يا مولاي ، إظهاراً للتناقض الفاضح بين طبقات الأمة ، وختمت عمرها القصير بالدعوة السافرة إلي الثورة وصدَّرت بها صفحاتها .. وكانت جريدة المصري تساندها في ذلك بطريقة أكثر هدوءاً وروية ، فعندما نشرت صورة نجيب الهلالي – رئيس الوزراء الجديد – وهو راكع يُقَبَّل يد الأمير فوزية حققت بهذا النشر ما تحققه المقالات النارية ، وأظهرت ما آل إليه الحكم من ضعف وهوان ..

قوة نفسية :

وكانت منشورات الضباط الأحرار تعمل عملها في بث روح الثورة في النفوس ، بما توحيه من اطمئنان بأن الجيش لن يُستخدم بسهولة ضد الشعب ، إذا ما أزفت الآزفة .. والكل كان يستمد من وجود الإخوان المسلمين في الميدان قوة نفسية ومادية كبيرة ، بل وأملاً أكبر في أن يحدث علي أيديهم موقف عملي لإنقاذ البلاد من شفير النهاية .

الفرحة الكبرى :

وبينما كان الشعب يعيش في تلك الدوامة ، ويتابع – بلا مبالاة وبسلبية كاملة – أخبار تشكيل الوزارة الجديدة برئاسة نجيب الهلالي ، إذا بإرسال الإذاعة يتوقف فجأة ، ليعلن بعد ذلك نبأ قيام الجيش بحركة مباركة لتطهير البلاد من الفساد .. ويالها من فرحة عظيمة ، لم يفرح الإنسان مثلها من قبل ، كادت تخرجه عن حدود المعقول .. فالناس تقفز وتجري هنا وهناك من وقع الخبر .. والكل يبحث عن أقرب مذياع لَيَلَتَهِم بأذنيه كل حرف من المذياع .. الدهشة في كل مكان .. الفرحة تطل من العيون .. لا يكاد أحد يصدق ما تسمع أذناه من بيانات الجيش التي تندد بفساد الحكم ، وتعد بالقضاء علي الإقطاع والاستعمار ، وبإقامة جيش وطني قوى ، وبحياة نيابية سليمة .. لقد حركت هذه الأهداف أوتار القلوب ، ولمست العلة في النفوس ، ولم يتوقف أحد يومها طويلاً أمام وصف هذا الحدث الكبير ، هل هو ثورة شعب أم حركة جيش ، فالواقع الملموس أغني عن التنظير .. المهم أن الشعب قد بدأ يتحرر من كوابيس كثيرة ، وأن كل الهيئات الوطنية كانت تنتظر هذه الساعة ، أم كنا أمام حركة جيش انبثقت من ثورة الشعب ، فإن المهم أنه لم يكن هناك خلاف علي أهمية ما حدث ولا علي قيمة ما أعلنته الثورة من أهداف ومبادئ ..

الزواج السعيد :

زادت شعبية حركة الجيش بما صاحبها من همس بأن الإخوان المسلمين كانوا وراء قيامها ، وأن كثيراً من الضباط الأحرار كانوا في تنظيمات الجماعة ، وأن جماعة الإخوان المسلمين هي الهيئة الوطنية الوحيدة التي كانت علي علم مسبق بموعد قيام الحركة ، بل وأسهمت في ذلك بحراسة البنوك والمنشآت الحيوية ، وأن الضباط الأحرار أقسموا علي المصحف الشريف في أحد مراكز الإخوان بأن يعملوا علي تطبيق الشريعة الإسلامية في جميع شؤون الحياة و .... و .....إلخ . وهكذا لم تترك الفرحة الحقيقية شعبة من شعاب النفس إلا ملأتها . وكان هذا الزواج السعيد بين الإخوان والثورة ، من دواعي إكبار الشعب كله للإخوان ، الذين استطاعوا في صمت أن يقوموا من خلال الجيش بأكبر عمل له ما بعده في تاريخ الأمة العربية ، ومستقبل العالم الإسلامي ، لأن ما يجري في مصر يصل صداه إلي أبعد مكان في العالم ..

شيء واحد ..

لذلك شهدت هذه الفترة إقبالاً شديداً من أفراد الشعب علي شُعَب الإخوان المسلمين ، تعبيراً حقيقياً عن الإعجاب والقدير ، وليس جرياً وراء مغنم السلطة . اعتبرت أن هذه النتيجة الكبيرة هي خير شافع عندي لما كنت ألحظه من نقص في العقلية المنهجية التي صادفتها لدي بعض الإخوان في مواجهة المشكلات الاقتصادية للمجتمع ، فإيمانهم المطلق بشمول الإسلام كان علي حساب بعض التفاصيل في تلك القضية الملحة ، مما أعطي غيرهم فرصة الظهور كفرسان لهذا الميدان .. وأملت أن يجيء استكمال هذا النقص من خلال ما أعلن عنه من تشكيل لجنة 25 عضواً لوضع دستور جديد للأمة ، شارك فيه الإخوان بأعضاء بارزين كالأستاذ عبد القادر عودة ، وحسن عشماوي ، ولاشك أن بلورة الشعارات في خطوط عملية إسلامية قد جاء ، مما سيضيق الهوة بين العاطفة والفعل فيصيران شيئاً واحداً هو الإيمان الذي يربو بالفعل ، أو هو العمل الذي يزكو بالإيمان .

اليقين :

وقد قوَّي هذا اليقين ما ردده رجال الثورة في خطبهم ، من إشادة صريحة بالإخوان كمادة للثورة وسند لها .. كل هذا مقرونًا بزيارتهم للمركز العام وبعض الشعَّب ، وقبر الإمام الشهيد حسن البنا ، مما لم يعد معه شك في صدق الهمسات القديمة . برغم إغراءات الحب الكامن في قلبي لجماعة الإخوان التي ارتفعت أسهمها في نفسي بقيام الثورة ، إلا أني لم أدع للظروف أن تثنيني عن قراري . واكتفيت بمركز الأخ العادي في الأُسر العادية ، واعتذرت عن كل مسؤولية طلبت منى في إحدى الشعبتين اللتين كانتا ناديين للطلبة قبل ذلك .. لأن أية خطوة بعد ذلك تتطلب بيعة لقائد الجماعة ، علي بذل النفس والمال ، والسمع والطاعة في المنشط والمكره ، وغير ذلك من الالتزامات ، التي كنت أشفق علي نفسي أن أرددها بلساني دون أن تتلبس بكياني كله . وكنت لذلك أراها أمانة كبرى لا يجب أن يقدم عليها إنسان إلا بحقها ، وإلا أساء للحركة من حيث ظن أنه قد أحسن ، وخير له أن يظل في دائرة المحبين من أن يكون في عداد العاملين الذين يقولون ما لا يفعلون ، حتى أبلغ درجة الرضا عن النفس ، تقربني من تحمل مثل هذه المسؤولية أمام الله .

أفراح لم تتم :

كانت الأحداث سريعة ومتلاحقة ، وكانت تصرفات رجال الثورة في المجال الداخلي تستقطب مشاعر الإخوان ، مرة بالتأييد ، ومرة بالمعارضة ، حتى انتهي الأمر بفريق من الإخوان بالجنوح إلي تأييد كل الخطوات مهما اعتورها من نقص ؛ تقديراً للظروف المحيطة بالثورة ، ريثما تتاح لهم تحقيق الآمال الكبيرة ، ولم يخالجهم شك في حرص رجال الثورة علي ذلك ، ولعبت الصلات القديمة والعواطف الشخصية وبريق السلطة الدور النفسي في الحياة بهذا الأمل ، ولم يروا نُذر الشر تقترب ، كما رآها التيار الأساسي في الإخوان وعلي رأسهم الإمام حسن الهضيبي . وشعر كلا الفريقين بالحاجة الماسة إلي عدم الاقتصار علي ملاحقة الأحداث ثم الحكم عليها ، بل أن يسبقوها بتقديم الحلول الإسلامية المدروسة لكل مشكلة في المجتمع .. فبادروا بتشكيل لجان أبحاث لهذا الغرض ، حتى لا يتسبب تأخيرهم في ذلك بإظهارهم بمظهر الوصي علي الثورة ، الذي يأمر وينهي دون الارتكاز علي حيثيات مقنعة ، تحفظ لهم مكان الريادة الفكرية . .

وتصور الفريق الموالي للثورة أنهم يتعاملون مع إخوان لهم سيصبرون عليهم ، ويتعاونون معهم في مجال البحث عن الحلول الإسلامية للمشكلات المطروحة .. ولم يتوقعوا منهم غدراً ، فمالوا إليهم كل الميل .. وأوجست الجماعة منهم خيفة ، بعد أن وجدتهم يضيقون بالنقد ، ويهملون التوصيات ، ويأتون من التصرفات والأقوال ما ينذر بالشر . بدأت الجماعة تدرك خطورة ترك مبادئها في يد غيرها لينوب عنها في تطبيقها ، وهي التي كان بإمكانها أن تتحمل مسؤولياتها كاملة من أول يوم في الثورة ، ولكنها آثرت أن تجعل نفسها في الظل ؛ لتفادى محاذير سياسية ودولية كثيرة ، ريثما يتهيأ لها الجو . وها هي اليوم تجني بدل الورد أشواكاً ..

طريق الصدام :

أخذت دواعي الاصطدام بين الإخوان والثورة تتكاثر ، وتسير في خط بياني صاعد ن بدأ بانتقاد التصرفات الشخصية لبعض رجال الثورة ، وباستنكار مباذل قطار الرحمة الذي اكتظ بالراقصات والممثلات ، لجمع التبرعات لفلسطين ، وسعرت فيه القبلة والهمسة .. ثم جاء قانون الإصلاح الزراعي فرفع من حرارة الخلاف حول الحد الأدنى للإعفاء من التأميم .. ثم ازداد التوتر برفض الإخوان لحل الأحزاب ، وتعطيل الحياة النيابية ، واستشعارهم الخطر المرتقب علي الحرية ، وطالبوا بتصحيح مسار الأحزاب لا القضاء عليها . كان هذا هو الموقف الرسمي ممثلاً في مذكرات المرشد العام ، وفي خطبه في المركز العام ، وفي لومه لجمهور الإخوان الذين انساقوا وراء عواطفهم ، وحذًَّرهم بأن الدور سيكون عليهم ، كما كان هناك اعتراض علي تشكيل محكمة الغدر ومحاكم الثورة ، ويرون أن القضاء العادي كفيل بإقرار العدل ، وعقاب المسيء ، وأن التهاون في فتح باب المحاكم الاستثنائية سيجر البلد إلي مزيد من الديكتاتورية والقضاء علي الحرية .. وأخيراً وصل الخلاف إلي قمته بالموقف من معاهدة الجلاء . بدأ شيخ المأساة يخيم علي نفوس الأمة . فها هي نُذر الشر تزداد ، وسكين الثورة في طريقها إلي الاصطدام بزبد الإخوان .. وها هي عوامل الشقاق بين الإخوان أنفسهم تضع جميع الأحلام الوردية علي جسر من الشوك فوق نهر من الدماء والدموع .


الفصل الثاني عشر : ( اختلف الإخوان مع الثورة فوقفت مصر علي أبواب الفتنة )

لم أكن استشعر جدية الأسباب التي أسرعت بالخلاف بين الإخوان والثورة .. إن وراء هذه الظواهر أسبابًا نفسية بعيدة ، تتخذ من هذه الموضوعات سببًا واهيًا للظهور بمظهر الخلافات العقائدية ، فهل كان رجال الثورة علي حق عندما اتهموا الإخوان بمحاولة الوصاية علي الثورة ، أم كان الإخوان علي حق عندما اتهموا رجال الثورة بالتنكر لعهودهم قبل قيام الثورة ؟ كان من الممكن أن يتعاطف الشعب مع رجال الثورة لو وجدهم قد أقاموا من أنفسهم حراسًا علي المبادئ القويمة ، أو قدموا في مناهجهم البديل الإسلامي لأهداف الإخوان ، لكنهم قد انساقوا إلي عداوة الإسلام نفسه ، فلم يفرقوا بينه وبين الإخوان .

شبح الحرب الأهلية :

أصبحت هذه المأساة المخيمة علي سماء الأمة موجودة بصورتها المصغرة داخل كل نفس ، لم يكن من الصعب علي أي فرد من أفراد الشعب أن يدرك أن هوة الخلاف تتسع كل يوم ، وأن روابط الثقة بين الإخوان والثورة تزداد تمزقاً .. وأن الصراع بينهما تخطَّي مرحلة الوسائل إلي الأهداف نفسها ، وعندما تضيع الثقة وتختلف الأهداف يكون أمل الوفاق معدومًا ، ويُطلّ شبح الحرب الأهلية علي الجميع .. ولاشك أنه شبح رهيب يملك فيه طرف واحد كل أسباب القوة .. ولقد أخذ الطرف الأول فرصته كاملة علي مدار عشرين عامًا ، قال فيها ما شاء ، وفعل فيها ما استطاع ، وكان منطق الحق بسيطًا وواضحًا في نفوس الذين تصدوا لغطرسة القوة هذا العمر الطويل .. وأكدت الأيام والأحداث صحة موقفهم ، وسلامة منطقهم ، ولم يكن يعوزهم الدليل ولكنهم لم يستطيعوا تقديمه .. إلي هذا كانت الأمور من الوضوح في نفسي حين كتبت هذه السطور في قلب المعتقل .. ولكنني أري اليوم من أمانة الحق ذاته أن أضيف إلي هذا التعميم بعض الوثائق التي أذن الله لها أن تري النور ..

أسس تعامل الإخوان مع الثورة :

فقد نشرت صحف اليوم أخبار ما اندثر بالأمس حول أسباب ذلك الصراع الأليم وموقف الإخوان المسلمين الرسمي من الثورة ، كما جاء في مقال الأستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتير الجماعة في ذلك الوقت ، حيث قال لرجال الثورة :

نحدد موقفنا من الثورة ومن أية حكومة علي الأسس الآتية :

أولاً : إما أن تعلن السلطة قيام دولة الإسلام ، وتنفيذ أحكام القرآن ، فنعلن ولاءنا ، ونذيب وجودنا في وجودها ، باعتبار أن رسالتنا قد تحققت بقيام الحكم الإسلامي ..

ثانياً : وإما أن تتابع الخطوات الإسلامية تحت أسماء وعناوين إصلاحية ، إن كانوا يحذرون الجهر بالإسلام كمنع القمار باسم حماية الثورة القومية ، وأخذ الزكاة باسم التكافل الاجتماعي ، وإعلان وتحقيق الجهاد باسم التربية العسكرية وهكذا .. وعندئذ نلتزم بتأييد الحكم ومناصرته ، مع استمرار تشكيلاتنا لإتمام الرسالة في غير ضرار ولا مناوأة للسلطة .

ثالثاً : وإما أن تكتفي السلطة بالناحية السلبية ، لا تتقدم لخدمة الإسلام ، ولا تستحدث تشريعًا للخروج عليه بالمفاسد والانحراف ، فنلتزم نحن السلبية نحوها ، لا ننشط في دعمها ولا نظاهر أحداً عليها .

رابعًا : فإن أبت السلطة كل ذلك ، واستأنفت حملاتها في تشجيع الانحراف والتنكيل بأهل الدعوة فنكون مضطرين – علي الرغم منا – إلي الدفاع عن أنفسنا ودعوتنا .

وانفجر الصراع :

أسباب دولية ، وأسباب نفسية كانت وراء اختيار رجال الثورة للبند الرابع من هذا البلاغ ، فنشبت الحرب ضروسًا بين الطائفتين ، أو أصح صُبَّت علي إحدى الطائفتين ، بدأت كما هي العادة بقذف التهم وتشويه الصورة ... فقالوا وأعادوا عن مخازن السلاح ، وأساليب الإرهاب ، والاتصال بالانجليز ، والتحالف مع الشيوعيين ، وخدمة أحلام الصهيونية ، وقد قيض الله لذلك من الحجج والوثائق فيما بعد ما رد به سهامهم إلي نحورهم ، وما أبلج به صبح دعاته ، وأنار وجوههم ، ورفع منارة دعوتهم .. وليست هذه المذكرات السريعة هي مجال ذلك لأن لها هدفاً آخر . ظلت هذه الحرب خفية غير معلنة ، حتى فجرتها أحداث الجامعة في يناير 1954 وما تلتها من أحداث مارس من نفس العام ، وأخيراً وصلت إلي نقطة اللاعودة بحادث المنشية المدبر في 26 أكتوبر من العام نفسه الذي قامت علي أثرها الاعتقالات والمحاكمات والإعدامات ..

محنة للشباب :

كانت المحنة شديدة وقاسية علي نفوسنا نحن الشباب ، ولما تتفتح زهرة الآمال في صدورنا بعد أن حَوَّلنا النادي إلي شُعبة للإخوان بالأمس القريب .. فجأة وجدنا أنفسنا في خضم الأحداث ، تعيشها يومًا بيوم وساعة بساعة .. فقد أُجْبِرَنا علي أن نكره رجالاً كنا نعدهم ذخيرة الوطن الحية ، وعلي أن نأسى لفريق من الإخوان انشقوا علي جماعتهم .. وكانت أمواج الأحداث تشددنا بالمد تارة ، وتبعدنا تارة أخري . وبين المد والجزر تحين منا التفاتة إلي مصالحنا الخاصة لإصلاح ما تصدع منها ، ريثما بالمقدرة علي خوض الأحداث من جديد .. فستأنف ما انقطع من الدراسة ، أو ندخل في مناقشات سياسية وفكرية لا تنتهي ، أو نكرر الزيارات للشُعبة لإطلاعهم علي تفاصيل ما يجري في القاهرة .. ولم نكف ثلاثتنا – أنا وعبد الحق وعوني – عن اللقاءات الدورية ، لمتابعة ما يجري وفهمه قبل أن تعلن الحرب ، ثم لمشاركتنا فيها بعد إعلانها ..

التفكير بالزواج :

كانت قلوبنا وسط هذه الأحداث الثائرة مطمئنة ، وخطواتنا واثقة ، وتفكيرنا هادئاً .. نؤدي كل ما علينا من حقوق نحو ربنا ، ونحو أمتنا ، ونحو أنفسنا ، ونحفظ التوازن بين ذلك كله ، وعندما اهتز الميزان ذات يوم بادرنا باللقاء للتشاور ، وكان الأمر يخصنا أنا وعبد الحق فقط هذه المرة ، هبط عليّ مسكني في شارع " النوتي " بالعباسية ، وعلي وجهه ابتسامة التحفز لمغامرة جديدة من مغامراتنا التي تعودنا بها مجابهة عادات المجتمع المريض .. قال في هدوء :

أم تتشوق لمنازلة جديدة لعادات هذا المجتمع المريض وقيمه الخاطئة .. طبعًا بعيداً عن معركة السياسة ..

كأني بك قد عزمت علي الزواج .. قلت ذلك استناداً إلي أحاديث سابقة جر بيننا في هذا الشأن ..

قال : نعم ، فقد أصبح الزواج بالنسبة لي مندوباً إن لم يكن فرضاً .. فالفتنة من حولي طاغية .. والطهارة أول أسلحتنا .

قلت : صدقني إذا قلت : إنني كنت قد عزمت علي مفاتحتك في هذا الشأن ، لأن كثرة المتقدمين إلي سعاد ثم رفض أسرتها قد وضعني في موقف حرج أمام أسرتها التي تعطيني كل ترحيب .. هذا فضلاً عن مشاركتي إياك في ضرورة إحصان أنفسنا ، وخوض معركة من نوع جديد لنزيل ضغط الواقع الفاسد عنا بأسلوبنا الخاص .

قال : أحمد الله ؛ لأن التقاء خواطرنا سييسر مهمتنا ، ويقوى عزيمتنا ، وأذكرك بمعني قول الرسول الكريم : ثلاثة حق علي الله عونهم ، منهم المتزوج يريد إحصانًا ..

قلت : حسبنا أن نعيش في النور ، وليفعل المجتمع بنا ما يشاء .. وظروفنا المالية قادرة علي الوفاء بالتزامات أسرة بسيطة نظيفة ، علي مستوي السواد الأعظم من الطبقة العاملة بمصر .. وهذا خير لديننا من الصراع النفسي أو الانحراف .

ولكي نعطي دعوتنا كل طاقتنا بعد ذلك دون أن يشدنا إلي الأرض شيء .. فلنرضي الله ولنغضب الناس جميعاً .. وأخذنا نتدبر إمكانياتنا المادية وظروفنا العائلية .. وتواعدنا علي اللقاء بعد أسبوع لمعرفة نتيجة سعينا . هو لدي أي أسرة تقبل منطقه ، وأنا لدي أسرة سعاد إذا قبلت منطقي ..

وتلاقينا ..

وفي الموعد المحدد قص عليّ ما كان من أمر توفيقه إلي إحدى الأُسر البسيطة ببلدة " ميت حلفا " قرب قليوب ، وما كان من تقدير رب الأسرة له ، وعزمه علي تزويجه بأبسط المهور ، إيمانًا منه بأن شخصية الشاب المسلم لا يعادلها ملء الأرض ذهبًا ، واستجابة لتوصية الرسول الكريم : " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، وإلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير .. " ولم يوقف رب الأسرة في شيء مما يقدسه ، شريطة أن كون موافقة أسرة عبد الحق كاملة ، وأن تكون هذه الخطوة الجريئة محل رضا والديه .. وقصصت عليه بدوري ما كان من أمر رسالتي المطولة ، التي ضمنتها رغبتي بعد مناقشة جميع الاحتمالات ، التي يمكن أن تثور في ذهن الأسرة أو في ذهن سعاد خاصة حول ظروفي وإمكانياتي ، وأسباب التعجيل بهذا الأمر قبل تخرجي من الجامعة ، وعلة التفضيل ، وكل تفصيل أرتضيه لحياتي في المستقبل ، وكيف أن الأستاذ أحمد قد استقبل خطوتي بتقدير وترحاب ، وجعل موافقته النهائية باستطلاع أُوُلِي الأمر في الأسرة .. كم أحتفظ لنفسي بخطاب خاص بسعاد في حال الموافقة ، أحثها فيه علي الالتحاق بالأخوات المسلمات .. وبدأنا نعد أنفسنا لمواجهة العاصفة التي ستهب علينا من أسرتنا ، عندما يصل إلي علمهم إقدامنا علي هذه الخطوات ، ونحن مجرد طلبة لا نملك من أنمر دنيانا شيئًا ن وأعددنا لهذه المواجهة ما تمرسنا عليه من عزم وإصرار ، مقرونين بمنطقنا الإسلامي المستعلي علي عبودية غير الله في الأرض من مال أو عادات أو أوضاع ساقطة .. وأحسسنا بنشوة الاقتراب من يوم هذه المعارك ، لنسجل المخدر يحتاج إلي صدمات كهربائية تسرع في برئة من الأسقام ، وأن الخطوة الجريئة هي خير من ألف خُطبة حماسية ، ومن ألف مقالة بليغة . وصحَّ بعد ذلك ما توقعناه ، وفتحنا علي أنفسنا جبهة جديدة ، فوق جبهة الأحداث السياسية التي تتفاقم يومًا بعد يوم .

الجهة الثالثة :

هدَّأتُ من ثائرة أبي الذي اعترض علي تقدمي لهذه الأسرة الكريمة ، بمثل ظروفي الراهنة ، ويدي الخاويتين ، وأن كرامتنا كانت تقتضي الانتظار حتى أتخرج ، والظفر بوظيفة لائقة ، وبسكن مناسب ، ومهر يليق ، وبع إقامة الأفراح والليالي الملاح وإرسال الدعوات .. وقلت له : أو لو كان كل ذلك علي حساب ديننا في هذه الفترة .. لماذا لم تتابع أنت ووالد عبد الحق علاقتنا بالله في مثل هذا السن الخطير ، قبل أن تتابعا سنة التخرج ونوع الوظيفة ؟! لك يا أبي من شواهد خطواتنا السابقة ما يطمئنك – إن شاء الله – بنجاحنا في الخطوات اللاحقة ، ومن عرِفنا من الناس ونحن نغالب الباطل وأعاننا علي ذلك كان أهلاً للخير ، وموازين المال والجاه لا تكبر في صدورنا .. ولم أتركه حتى فصلت له إمكان إقامة حياة أسرية بسيطة ، قائمة علي الطهارة ، وستكون عظيمة البركة في الدنيا والآخرة .. وكانت ثقته الكبيرة في تقديراتي ، ووقوفه علي توفيق الله لنا فيما سبق وراء سهولة إقناعه ورضائه عني ، عليَّ أن انتظر شفاءه من المرض ؛ ليقوي علي مساندتي . وأحسست بسعادة الدنيا وهو يمازحني قائلاً : يا بني ، إن حياتك حقل تجارب ، وأنت وإخوانك نوع غريب من الشباب ، لا أدري ماذا فعل حسن البنا بكم ؟! قلت ضاحكاً : بل ماذا فعل الإسلام بنا وبحسن البنا نفسه – رضي الله عنه - ؟ أما مستقبلنا فهو أسعد مستقبل عرفه الشباب .. عز الدنيا .. ونعيم الآخرة .

كارثة !!!

قبل أن تمضي ثلاثة أسابيع علي هذه الآمال المتفتحة ، وأنا في انتظار ما يسفر عنه قرار أسرة سعاد ، وفي متابعة ما يجري مع صديقي عبد الحق .. كل ذلك من خلال دخولنا في خضم الأحداث المتفاقمة بين الإخوان والثورة .. إذا يناظر المدرسة التي أعمل بها يطلبني علي عجل .. تلطف معي وأنبأني في حنان الأب بمرض والدي الشديد ، قائلا : اترك ما في يداك من عمل وانصرف علي الفور للاطمئنان عليه . دارت الدنيا في عيني ، هاجمتني الأفكار السوداء وأنا في الطريق إلي بنها .. وهالني أن وجدت البيت مغلقاً وأن الأسرة قد سافرت لوها إلي القرية .. وجدت زملاء والدي يزحمون السيارة المتجهة إلي قريتنا ، وقد دهشوا لرؤيتي وغمروني بحبهم وبملاطفتهم ، التي لم تفلح في إخفاء الحزن البادي من عيونهم .. مالي أقاوم شبح الحقيقة لأبعده عن نفسي .. لكن محاولتي توقفت عقب وصولنا مباشرة ، وسماعي لصوت الأسطى أبو الخير يناديني من بعيد :

البقاء لله يا عبد الحليم .

إن لله وإن إليه راجعون ..

حمدت الله الذي ألهمني الاسترجاع ، وبعدها سارع زملاء أبي في مواساتي .. اخترقت في طريقي إلي الدار صفين من النساء المتشحات بالسواد ، وقد ارتفع عويلهن لرؤيتي .. ثقلت قدماي عن حملي .. تجلدت حتى دخلت بيت عمي ، وارتكزت علي حقيبتي وانخرطت في البكاء .. لم يفلح الصوت المؤمن الوقور الذي يذكرني بالله ، ويستثير رجولتي في إيقاف دمعي المنهمر ، وإن حفظ لصاحبه الود في أعماق نفسي .. فإذا كانت الكلمة الطيبة صدقة ، فإنها في مثل هذه النوائب شيئاً كثيراً يضاعف من قيمتها .. شعرت في هذه اللحظة بحب عميق لأبي لم أشعر بمثله من قبل . استجبت لرغبة ملاك طاهر كلامه يفعل السحر في نفسي هو خالي ، ورافقته إلي المأتم لاستقبال وفود المعزين . وكان في مقدمتهم عبد الحق وعوني .. وحانت فرصة لعبد الحق ليهمس في أذني :

أعانك الله في تحمل هذه المصيبة ، وأنا أَحِلُكَ من اتفاقنا

الخاص بالزواج وحسبك ما تنوء به الآن من أعباء أرجو الله أن أقف بجانبك فيها . 

فليفعل الله ما يشاء فقد رضينا به رباً .. ويهمني ألا تتوقف أنت عن المضي حتى النهاية .

أي فراغ كبير ذلك الذي شعرت به بعد وفاة والدي .. فراغ هائل لم أشعر به من قبل ، حتى يوم أن توفيت والدتي .. لقد شعرت يوم وفاتها أني كالتائه في الصحراء ، أو كالغريق في البحر ، ولكن للصحراء في حسي نهاية بالعمران .. هو أبي وللبحر شاطئ أمان هو أبي .. أما الآن فقد كانت الكارثة كبيرة وحقيقية من جميع زواياها علي نفسي .. ورغم حدب جدتي علي إخوتي – وسكنها معهم بعد سفر زوجة أبي لأهلها – ورغم رعاية خالي لجميع شؤونهم المالية والدراسية ، إلا أنه كان عليّ أن استشعر المسؤولية في الدرجة الأولي ، وأن أتابع مصالحهم ما بين بنها ومرصفا كل أسبوع ، وأن يتيح ذلك المزيد من المشاركة في نشاط شُعبة القرية ومعايشة مشاكلها .

روح جديدة :

وكانت أسعد لحظاتنا عندما نجتمع في رحاب الشُعبة ؛ لدراسة برامج العمل مع مختلف المستويات ، ولمتابعة أحداث القاهرة الساخنة بين الإخوان والثورة . وقد أوجدت الشُعبة روحاً جديدة في القرية ، سرت في شعابها فبددت ظلمات كثيرة كانت تطبق علي حياة الناس منذ سنوات طويلة .. لم يكن عجيباً أن تزول بين أعضائها الثارات والإحن ، وكل جاهلية العصبيات الضيقة .. فالإسلام أنعم علينا بهما أخوة صادقة برغم ما بين عائلتينا من ثارات .. هنا نبت جديد يسقي من ماء غير آسن .. كان من حظنا الجميل أن الشُعبة بدأت ناضجة وكبيرة مرة واحدة ، وأنها ضمت جميع الطلبة من كل المعاهد ، وتحظي بحب أهالي البلدة ، الذين شعروا بالتغيير الذي أحدثه هذا الجيل الجديد فيها ، اللهم إلا قلة ممن ساءهم أن يكون هذا الانتشار علي حساب سلطانهم الحزبي القديم ، فسارعوا إلي قيادة زمام هيئة التحرير التي أنشأتها الثورة بعد حل الأحزاب ؛ لكي يزاولوا من خلالها أهدافهم الحزبية القديمة .

مسؤولية العاصمة :

كان من الطبيعي ألا تكون شُعبة مرصفا بمنجاة عما يحدث في القاهرة ، إنها مسؤولية دائما في الخير والشر علي السواء ، وهي مسؤوليتها اليوم عما أصاب القطر المصري كله من تمزق وصراع من جراء الخلاف الناشب بين الثورة والإخوان . فكل بلدة كان فيها صراع بين الإخوان وهيئة التحرير ، وكان فيها أيضًا في الوقت نفسه انقسامات داخل صفوف الإخوان أنفسهم .

آرائي الخاصة في هذا الصراع ، أو في مسلك بعض قادة الجماعة لم تقلل من إيماني بالحركة الإسلامية ككل ، ولم تخل بالثقة في مرشدها ؛ لأني كنت أعتبر أن مجرد ظهور الإسلام من خلال تجمع سياسي ، يستقطب آمال المثقفين ، ويشارك في الأحداث الكبرى في الأمة – مجرد وجود ذلك – يعتبر حدثاً تاريخياً ضخمًا مهما كانت أخطاؤه . وأن مجرد التفكير في القضاء عليه يعتبر جريمة في حق الإسلام نفسه ، ولا يمكن أن يقدم عليه صادق الوطنية بل صادق العقيدة .. لذلك كان تفكيري ينحصر دائماً في إصلاح ذات البين ، أو في تطهير الصفوف ، أو في أي أمر آخر دون إطفاء هذا النور الوليد ، الذي طال احتجاجه بفعل الاستعمار عن أوطاننا ، وأنه لخير للاستعمار أن يقوم ألف حزب سياسي ، أو أي حكومة مستقلة ، إلا حزب يتخذ الإسلام منهجاً ، وإلا حكومة راحت تنظر إلي الإسلام نظرة الجد ..

وغابت الشمس :

وكان من الواضح أن الإخوان في صراعهم قد انتقلوا إلي خط الدفاع الثاني . فبعد أن كان خط دفاعهم الأول هو المطالبة بتحكيم الإسلام ، إذ بهم يستشعرون الخطر من سقوط قلاع الحرية والديمقراطية بعد حل الأحزاب ؛ لذلك قاموا علي الفور بتبني المطالبة بالحريات ، والحياة النيابية السليمة ، ورفض أي خطوات إصلاحية من موقع الديكتاتورية ، مهما أثارت لُعَاب الشعب ، حتى ولو كانت هذه الخطوة هي حلم المصريين الأكبر في إخراج الانجليز . ولم يلبث الطوق الشرير أن أحاط بحياة الشعب كلها ، وعلي رأسهم جمهور الإخوان المسلمين ، عندما وصل التصادم إلي الذروة عقب خُطبة الجمعة نواب صفوي ضيف الإخوان في جامعة القاهرة في أوائل يناير سنة 1954 ، وماجرَّ ذلك من صدام مع الحرس الوطني بالجامعة ، واتخذت الثورة من هذا الحادث ذريعة للمسارعة بإغلاق الجامعة ، وحل الإخوان المسلمين ، واعتقال قادتهم بالسجن الحربي ، واتهامهم بالاتصال بالانجليز ، وبتدبير انقلاب مسلح ، ورد الإخوان علي ذلك بحملات شديدة من المنشورات التي تفضح الحقائق ، وتؤكد أن شمس الحرية إذا غابت عن مصر فستدخل الأمة الإسلامية كلها في ليل طويل .


الفصل الثالث عشر : ( ثار الشعب ضد جمال فأحني رأسه - خناجر الضباط تفعل فعل الانجليز )

ظن عبد الناصر بعد أن زج بالإخوان المسلمين في السجون والمعتقلات أن الطريق أصبحت أمامه ممهدة لحكم مصر حكمًا منفرداً بطريقة الضغط علي الأزرار .. ولكن الأمة هبت ثائرة في وجه هذه النزعة الديكتاتورية ، واستشعرت مصيرها المجهول إن فقدت حماية الإخوان للثورة ، فالأمة تحب الثورة في ظل كفالة الإخوان المسلمين لها ورقابتهم عليها . أما حين تزول هذه الكفالة فإنه يزول معها كل عوامل الثقة وكل شعور بالأمان .. هذه هي الحقيقة وراء الهبة الشعبية ، والمظاهرات العارمة في أنحاء البلاد ، منددة بالاستبداد مطالبة برجوع الجيش إلي ثكناته ، وقيام نظام نيابي سليم .

من خلف الأسوار :

ولم تتخل قيادة الجماعة عن أمانة التوجيه والنصح للسلطة ، حتى من وراء الأسوار ، فقد تسرب إلي الصحافة خطاب الأستاذ الهضيبي ، والذي وجهه إلي رئيس الجمهورية من داخل السجن والذي جاء فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله .

السيد الرئيس اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيس الجمهورية ، ورئيس مجلس قيادة الثورة ، ورئيس مجلس الوزراء .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. أما بعد ..

فإن مجلس قيادة الثورة قد أصدر قرارا في 12 يناير سنة 1954 بأن يجري علي جماعة الإخوان المسلمين قانون حل الأحزاب السياسية .. ومع ما في هذا القرار من مخالفة لمنطوق القانون ومفهومه ، فقد صدر بيان نسب إلينا فيه أفحش الوقائع ، وأكثرها اجتراء علي الحق . وقد حيل بيننا وبين مناقشته والرد عليه ن واعتُقلنا ولم نُخبر بأمر الاعتقال ولا بأسبابه . وقيل يومئذ : إن التحقيق في الوقائع التي ذكرت به سيجري علنا ، واستبشرنا بهذا القول ؛ لأننا انتظرنا أن تتاح لنا فرصة الرد عليه ، لنبين أن ما اشتمل عليه كله – علي الصورة التي جاءت به – لا حقيقة له ، فيعرف كل إنسان قدره ن ويقف عند حده ، ولكن ذلك لم يحصل . وإلي أن تتاح الفرصة فإننا ندعوكم وندعو كل من اتهمنا وندعو أنفسنا إلي ما أمر الله – تعالي – به رسوله – عليه الصلاة والسلام – حين قال الرابطة المتينة :

وقد استمرت حركة الاعتقالات شهرين كاملين ، حتى امتلأت المعتقلات والسجون بطائفة من أطهر رجالات البلد وشبابها ، بلغوا عدة ألوف ، لكثير منهم مواقف في الدفاع عن البلاد . وعن حرياتها ، شهد به الأعداء قبل الأصدقاء ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، ولم يكتفوا بالكلام كما يفعل كثير من الناس . أما كيفية الاعتقالات ومعاملة المعتقلين فلن نعرض لها هنا . وقد بدت في مصر بوادر حركة إن صحت فسوف تغير من شؤونها وأنظمتها ، وقرار حل الإخوان وإن أَنْزَلَ اللافتات عن دورهم فإنه لم يغير الحقيقة الواقعة وهي : أن الإخوان المسلمين لا يمكن حلُّهم ؛ لأن الرابطة التي تربط بينهم – وهي الاعتصام بحبل الله المتين – أقوي من كل قوة .. ومازالت هذه الرابطة قائمة ولن تزال كذلك بإذن الله .

مصر ليست لأحد ..

ومصر ليست ملكًا لفئة معينة ، ولاحق لأحد في أن يفرض وصايته عليها ن ولا أن يتصرف في شؤونها دون الرجوع إليها ، والنزول علي إرادتها ؛ لذلك كان من أوجب الواجبات علي الإخوان المسلمين أن يذكروهم بأنه لا يمكن أن يُبَتُّ في شؤون البلاد في غيبتهم . وكل ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر في استقرار الأحوال ، ولا يفيد البلاد شيء .. وأن ما دعوتم إليه من الاتحاد وجمع الصفوف ، لا يتفق وهذه الأحوال ؛ فإن البلاد لا يمكن أن تتحد وتجتمع صفوفها وهذه المظالم وأمثالها قائمة : نسأل الله – تعالي – أن يقي بلادنا كل سوء ، وأن يسلك بنا سبيل الصدق في القول والعمل ، وأن يهدينا إلي الحق وإلي صراط مستقيم والسلام عليكم ورحمة الله

حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين


هم والانجليز شيء واحد :

التقت شجاعة القيادة التي قامت بواجبها من داخل السجن ، مع إرادة الشعب الثائر ، والذي لم يكُف عن المظاهرات التي اشتد أوارها بعد إطلاق الرصاص علي طلبة الجامعة عند كوبري قصر النيل .. لم يحل أزيز الرصاص ولا رؤية الدماء المراقة تقدم المظاهرات ، واحتشادها بساحة عابدين الواقعة أمام مقر رئيس الجمهورية ؛ مطالبة بالإفراج عن المعتقلين ، ونتيجة العسكريين عن الحكم ، ومحاكمة الذين أطلقوا الرصاص ، وإقامة دولة الإسلام ، وملوحة بالمناديل المضمخة بالدماء ، والتي أعادت علي الفور إلي ذاكرتنا قصة شهداء كوبري قصر النيل برصاص الانجليز أيام الاحتلال .. فهذه الطعنة لا تختلف في شيء عما فعله الانجليز علي الكوبري نفسه مع فارق كبير ، وهو هدم قدرة أحد علي إحياء هذه الذكري السنوية كما كنا نفعل من قبل ..

الاستنجاد بعودة :

لم يقف الجيش هو الآخر مكتوف الأيدي ، بل دفعته وطنيته إلي أن يقف إلي جانب الشعب ، فتحرك سلاح الفرسان ليقبض علي مناصرة الفتنة في قيادة الثورة .. وأصبح كل شيء مهيئاً لإشارة واحدة من رجل مصر القوى في ذلك الوقت وهو الشهيد عبد القادر عودة وكيل جماعة الإخوان ، والذي تحمل مسؤولية قيادتها كاملة بعد اعتقال مرشدها ، والذي كانت كلمة واحدة منه للجموع المحتشدة بساحة عابدين ، أو لرجال الجيش الثائرين كافية بإنهاء كل شيء ، ولكنه آثر السعي في توحيد صف الذئاب ، وإصلاح ذات البين بينها وبين الغنم ، فخرج رجال الثورة متشابكي الأيدي وأطلوا علي الجموع من شرفة قصر عابدين ، ولما تكلم فيهم محمد نجيب وهداً من ثائرتهم عجز بعد ذلك عن صرف جموعهم إلا بعد أن استنجد بالشهيد عبد القادر عودة ، الذي صرف هذا البحر الزاخر بكلمة واحدة منه .

فليسقط العلم :

أحنى عبد الناصر رأسه لهذه العاصفة الشعبية ، التي لم تهدأ حتى أجرت رجال الثورة بعد ذلك علي الإفراج عن المعتقلين ، والتخلي عن الحكم للمدنيين ، وعودة الجيش إلي ثكناته .. وقبل أن يسترد الشعب أنفاسه بهذه النتيجة السارة ، فوجئ الجميع بمظاهرات نقابة عمال السكة الحديد والمواصلات ، تطالب ببقاء رجال الثورة في الحكم ، وعدم التخلي عن المكاسب الشعبية ، واتجهت إلي مجلس الدولة حيث اعتدت علي رجل القانون السنهوري باشا في ذلك اليوم واتخذ رجال الثورة من ذلك ذريعة للعدول عن قراراتهم ؛ استجابة للمطالب الشعبية ، وأكثر من هذا اتخاذهم منها ذريعة أيضاً للتنكر للشروط التي خرج علي أساسها الإخوان من المعتقلات ، من إقامة حياة نيابية سليمة ، وصيانة الحريات ، والاعتذار العلني المكتوب عن التهم التي ألصقت بهم .. واعتبر عبد الناصر أن زيارته هو وصلاح سالم لفضيلة المرشد العام في بيته بعد الإفراج عنه يحمل الاعتذار الضمني . أما عن الحريات والحياة النيابية فهم في سبيل تدعيمها .. ولم تكن نية الغدر خافية علي قيادة الجماعة ، ولكن كانت تأمل أن يزداد رجال الثورة شعوراً بالمسؤولية بعد ما جري من إحداث .ا

الهضيبي ينصح :

لما مرت فترة الإنذار المعقولة ، ولم يعد في التأخير مصلحة وجّه فضيلة المرشد العام في غرة رمضان 1373هـ - 4 مايو سنة 1954 – إلي جمال عبد الناصر الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين ، ومن دعا بدعوته إلي يوم الدين .. السيد رئيس مجلس الوزراء .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد ..

فإنكم – دون شك – تذكرون أنكم اتفقتم معنا علي إنهاء الوضع الشاذ الذي أوجد حل جماعة الإخوان المسلمين ، يوم دعوتم الإخوان إلي تناسي الماضي ، والتعفية علي آثاره .. ورأيتم أن خير البلاد ومصلحتها في أن يبدأ الإخوان ورجال القيادة عهدا جديدا من التعاون ، وقد سلمتم يومئذ بوجوب إلغاء قرار حل جماعة الإخوان المسلمين ، وبالإفراج عن جميع المعتقلين ، وبرفع الأثر الذي ترتب علي بين الحل رفعًا صريحًا ، يغنينا عن التعرض لمناقشة البيان ، وبصرف النظر عن أن المسائل الخاصة بالجماعة لم ينته الرأي فيها إلي ما اتفق عليه ، فإن مصلحة الوطن تقتضينا أن نبذل لكم من رأينا في مشاكله ما نري أنه يدعو إلي اطمئنان الناس كافة ، ويحقق الاستقرار الذي لا يمكن بدونه أن يتم شيء من إصلاح الأمور الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الشؤون علي وجهه الصحيح . والدين النصيحة لله ، ورسوله ، وأئمة المسلمين ، كما قال الرسول – عليه السلام - ، ومن حقنا أن نؤدي لكم الواجب علينا من ذلك .

إن مصر اليوم تجتاز مرحلة من أدق المراحل التي مرت بها .. فنحن جميعا نهدف إلي تحرير البلاد ، وإخراج الانجليز منها ، ولن نخرجهم الخطب والبيانات ، وإنما يخرجهم كفاح شاق طويل ، ليس هذا موضع بيانه .. ونحن لا نريد الدفاع عن أنفسنا فحسب ضد إسرائيل ، التي استأسدت علينا في الآونة الأخيرة ، بل نريد إخراجها من فلسطين ، ولا تزال الحرب بيننا قائمة – وإن كنا في هدنة – وأول ما يجب علينا أن نتخذ العدة لذلك ، وأن نعد جيشنا لمهمته الأصلية وواجبه الأول . وإن مصر لتحتاج إلي الاستقرار ، وهو أمر لا ينال بالكلام ، ولا يدرك بالشدة ، ولكنه ينال حينما يشعر الناس شعوراً حقيقياً بأنهم حماة الثورة ، وحماة ما اتجهت إليه من دروب الإصلاح ، والثورة لابد للمحافظة عليها من أن تحوطها القلوب وتذود عنها . أما القوة وحدها فإنها لا تحقق الغاية المقصودة . ويدرك الاستقرار كذلك بالعدل والإصلاح والرفق ، غنه لا يغني واحد من هذه عن الآخرة ، وإن للاستقرار وسائل أحب أن أضع تحت ناظركم منها ما يأتي :

1 – إعادة الحياة النيابية :

لا ريب أن الحياة النيابية هي الأساس السليم لكل حكم في العصر الحاضر وإذا كانت تجارب الماضي قد أظهرتنا علي بعض العيوب ، فمن واجبنا أن نخلي حياتنا النيابية من العيوب ، وأن نجعلها أقرب ما تكون إلي الكمال . والأمة لا تتعلم بإلغاء الحياة النيابية في فترة الانتقال ، وإنما بممارسة الحياة النيابية بالفعل ، فلنشرع فوراً فيما يؤدي بنا إليها في أقرب وقت .

2- إلغاء الإجراءات الاستثنائية .. والأحكام العرفية :

فإن الإجراءات الاستثنائية إذا أفادت الهدوء المؤقت ، والاستقرار الظاهر فإنها تخلق حالة الغليان ، وتذكر النار تحت الرماد ، ولن يؤمن علي مستقبل الوطن إذا اشتعلت فيه النيران .

3 – إطلاق الحريات :

وأود أن تطلقوا الحريات جميعًا ، وعلي الأخص الصحافة ، فإن في ذلك خير مصر وأمتها وسلامتها . ولقد رأيتكم تأخذون علي الناس أنهم لم يقولوا لفاروق : (لا) ، حيث يجب أن تقال ، وأنتم الآن بفرض الرقابة علي الصحف تمنعون الناس أن يقولوا لكم : (لا) ، حيث يجب أن تقال ، وما هكذا تربي الأمة علي نصرة الحق ن وخذلان الباطل ، ونحن لا نسلم بأن تتجاوز الصحافة حدودها ، ولا أن يطلق لها العنان لتلبس الحق بالباطل ، وإنما يجب أن تترك لتقول الحق في حدود القانون ، فإذا تجاوزته حق عليها العقاب .. وقد تجدون في معارضة الصحف لكم خيراً كثيراً .

وغني عن القول أن إطلاق حريات المعتقلين ، وبعض المحكوم عليهم من المحاكم الاستثنائية أمر توحي به ضرورة جمع الشمل ، وتوحيد الكلمة ن ويوجبه الحق والعدل . أما الإصلاح فمجاله واسع ، وفي رأينا أن إصلاح النفوس أولي من كل إصلاح ؛ لأنه أساس لكل إصلاح والله نسأل أن يرزقنا الصدق في القول والعمل ، وأن يعصمنا من الزلل ، وأن يهدينا جميعًا سواء السبيل .. إنه سميع مجيب .. والسلام عليكم ورحمة والله .

كان جمال عبد الناصر لا يخفي عليه إلي أين يتجه الولاء الشعبي ن وهذا هو وحده الذي يعنيه قبل منطق الحق ، أو صيانة الحريات ، وما دامت أمامه فرصة سانحة لاستقطاب هذا الشعور الشعبي – بضربة معلم – فإنه بذلك سيقضي علي أي صوت يرتفع قد يحد من سلطانه المطلق . وجاءته هذه الفرصة بعد خطاب الهضيبي بشهر واحد ، حين وَقَّعَ عبد الناصر معاهدة الجلاء في 18 يونيو 1954 ، وانفجر علي أثرها الشعور الشعبي ، وتطايرت شظاياه في كل اتجاه .. واشتدت المحنة علي الإخوان ، ولكنها كانت علي فضيلة المرشد أشد ، حيث انفتح عليه من داخل صفوف الإخوان باب جديد من المتاعب .

الفصل الرابع عشر : ( طوفان الغوغائية ومحنة القائد المفكر - لماذا رفض الإخوان معاهدة الثورة مع الانجليز - الهضيبي يرفض التراجع وعبد الناصر يراوغ )

بادر الإخوان المسلمون عشية توقيع المعاهدة مع الانجليز بتقديم مذكرة إلي الحكومة ، ذات شقين : الأول : خاص بالمآخذ الموضوعية ؛ تحسبًا لألاعيب الانجليز في المستقبل ، والثاني : خاص بأهمية عرضها علي برلمان منتخب انتخابًا حراً ، يمثل الأمة أصدق تمثيل ؛ ليكون للبلد قاعدة دستورية معروفة ، في كل ما يتعلق بقضاياها المصيرية اليوم غداً ، ودون الارتكاز علي الغوغائية في كسب التأييد الشعبي في أخطر قضايا الأمة ، فلا ينفرد بتقديرها فرد واحد لا يعلم أهل الرأي عن خلفياته شيئًا .. ولكن رأي الإخوان هذا كان نغمة نشازاً في آذان رجال الثورة ، الذين أسكرهم هوس التأييد الشعبي للمعاهدة ، التي عزفت لحن التحرر الوطني من كابوس الاحتلال البغيض علي أدق أوتار القلوب .. حتى بدأ صاحب الرأي السديد كأنه من أنصار بقاء الاحتلال .. لم يكن هناك أحد علي استعداد لأن ينظر أبعد من تحت قدميه ، حسبه أن يظفر اليوم بأي شيء ، ولو علي حساب حياته كلها غداً .. كان شعار القطيع سمّني اليوم واذبحني غداً . وهذه في العادة هي نفسية الشعوب حين لا تستثار في الاتجاه الصحيح ، وفي قلب هذا الطوفان الشعبي تكون قادة الأمة ومفكريها ، الذين ألفوا منطق الدراسة والتحليل ، والاستفادة من التجارب ، وتغليب موازين الرأي الموضوعية علي المشاعر السوقية التي قال فيها شوقي في مسرحية كليوباترا :

أســمع الشـعـب ديـون كـيـف يوحــون إلـيـه

مـلأ الجـو هـتـافًُــا بـحـياتـي قـاتـلـيــه

أثر الـبـهتـان فــيـه وانـطـلي الـزور عـليـه

يـا لـه مـن ببـغــاء عــقلــه فـي أذنـيــه

التحدي :

وضعت الأقدار عبء معارضة هذه النزعة الفردية علي عاتق الإخوان المسلمين وحدهم . لقد جعلوا لإزاحة كابوس الديكتاتورية عن الشعب الأولوية علي كل أمر .. أما جميع الأحزاب السياسية التقليدية فقد توارت بالحجاب فور صدور قانون حل الأحزاب ، وتخلت راضية عن زمام المعارضة للإخوان في هذه الفترة العصيبة ، التي سيكون ثمن الرأي فيها هو السجون والمعتقلات ، وأعواد المشانق ، وتشريد العائلات ، وتيتيم الأطفال .. أما لو كانت المعارضة بالمساجلات الكلامية ، والمواقف العنترية ، والمناورات السياسية ، والمهارات الإعلامية ، وبالأدب الرمزي ، ومن داخل الصالونات الفنية ، وبالمصايف السرية فهم فرسان هذا الميدان . أما اليوم فقد خلا الميدان لنوع جديد من الرجال يصل إلي الهدف من أقصر طريق وبأوضح أسلوب ، وبكل التضحيات التي قد تصل إلي الموت .. التضحيات في منطقهم جهاد بالنفس والمال ، حياة مع سيد الشهداء حمزة ، في جنة عرضها كعرض السماء والأرض .. الفرد الواحد منهم حزب قائم بذاته ، فكيف إذا كانوا عدة آلاف تضمنهم جماعة واحدة ؟! ثم كيف برجال الثورة إذا جاءهم النذير من قائد هذه الجماعة نفسه ؟! لقد وضع كل فرد من الشعب يده علي قلبه إشفاقاً من مغبة هذا التحدي الصريح للثورة ، التي تمتلك الحديد والنار ، حتى اهتز من هول الموقف كثير من الإخوان أنفسهم ، فنظروا إلي الهضيبي نظرة رجل متشدد أكثر من اللازم ، ليس فيه مرونة السياسة .. لكن شيئاً من ذلك لم يثن الرجل ، الذي اختاره حسن البنا بنفسه عن قول الحق تحت أي ظرف ..

ليس خيراً لمصر :

فعن المعاهدة قال : " كنت أتمني أن أجد في الاتفاق الذي وقَّع أمس الأول في القاهرة بالأحرف الأولي ما يحقق مطالب مصر ، ولكني لم أجد أية مصلحة في عقده ، بل هو يحوي كل إضرار بمصالح مصر والدول العربية عامة .. أما ما نص عليه الاتفاق من جلاء الجنود البريطانيين عن منطقة قناة السويس خلال عشرين شهراً من وقت التصديق علي المعاهدة ، فهذا كان متفقاً علي أن يتم في عام 1956 بموجب معاهدة سنة 1936 ، التي ألغتها مصر ، وإذا فرض أن الانجليز كانوا يأبون الخروج عنه نهاية تلك المدة . فإن بقاءهم يكون بلا سند قانوني ، فما المصلحة في منحهم هذا السند للبقاء والعودة .. ؟ .

الانجليز يعودون :

فقد أعطي الاتفاق المذكور الانجليز حقاً في العودة إلي احتلال القناة ، إذا هوجمت إحدى الدول الموقعة علي معاهدة الدفاع المشترك ، الذي عقد ضمن نطاق الجامعة العربية أو تركيا . ولم يكن لهم هذا الحق من قبل ، وتركيا كثيرة الأحلاف والأعداء معًا ، مما يربطنا ويربط الدول العربية معنا بالمعسكر الغربي في كل حرب .. بل إن الاتفاق حين أباح للانجليز العودة إلي مصر لم يحدد لخروجهم بعد ذلك أمداً ، والانجليز أصحاب حيل ومكائد ، لا يعجزون عن أن يجدوا المبررات التي يتذرعون بها لبقاء احتلالهم .

القناة قاعدة انجليزية :

عن الاتفاق قد اعترف للانجليز بقناة السويس كقاعدة عسكرية ، وأباح لهم احتلال أجزاء منها لم تبين ، فاعترف بشرعية القاعدة ، مع أن معاهدة سنة 1936 لا تعطيهم الحق في إنشائها حتى يتعللوا الآن بوجودها ، وهكذا أقررنا باحتلالهم بوثيقة دون مصلحة لنا فيها .

ومن الأمور الخطيرة في الاتفاق ، أن مصر وضعت بموجبه مطاراتها في جميع أنحاء البلاد ، وفي كل وقت من أوقات السلم والحرب تحت تصرف السلاح الجوي البريطاني ، والطيران هو السلاح الرئيسي في هذه الأيام . أما إدارة القاعدة والإشراف عليها فلا يجوز أن نخدع أنفسنا بالقول بأنه سيكون بواسطة مدنيين ، فهم في الواقع عسكريون تابعون للحكومة البريطانية مباشرة ، ومن قال غير ذلك فقد غالط نفسه ..

العود إلي الحلقة المفرغة :

لقد كسبت بريطانيا بهذه الاتفاقية امتداداً للمعاهدة الملغاة خمس سنوات أخري ، ولا تنتهي الأوضاع بعدها . بل تعود إلي الحلقة المفرغة .. التشاور بشأن التدابير التي ينبغي اتخاذها بعد انتهاء مدة الاتفاق ، أسلوب التشاور مع بريطانيا أسلوب سبق أن عرفناه ولمسنا نتائجه . وبهذه المعاهدة أضافت بريطانيا حلقة جديدة غلي الحلقات التي تطوق بها البلاد العربية ، بمعاهدات وأحلاف عسكرية ، والتي كان آخرها المعاهدة الليبية ، وقد استغلت بريطانيا في ذلك ضعف بعض الحكومات وعدم تمثيلها لشعوبها ، فسارعت في ذلك إلي سياسة إغفال إرادة الشعب ، مما سيلحق بها أفدح الأضرار .

الإخوان يرفضون الاتفاقية :

ولذلك يعلن الإخوان المسلمون رفضهم هذا الاتفاق ، ويصرون علي أن اتفاقاً ما بين الحكومة المصرية وأية حكومة أجنبية لا يجوز أن يتم دون أن يعرض علي برلمان منتخب انتخابًا حراً نزيهًا ، يمثل إرادة الشعب المصري أصدق تمثيل ، كما يجب رفع الرقابة عن الصحافة ، حتى يقول كل إنسان رأيه في هذه الاتفاقية ، دون حد من إرادته وحريته . فما كان لأحد أن يتحكم في مصائر الشعب دون الرجوع إليه " .

عبد الناصر يراوغ :

الآن وقد ظهر المستور وتحددت الأمور أصبح الصدام بين الإخوان المسلمين والثورة محتومًا .. وإن كانت مسألة وقت .. فما كان لعبد الناصر أن يتراجع عن خطوة وضع فيها مستقبل الثورة ، وما كان للهضيبي أن يتراجع عن أمانة إبلاغ الحق ؛ لأن فيه مستقبل الدعوة . وتوهم عبد الناصر أنه قادر علي إحداث شق في صفوف الجماعة ، يعجل بنهايتها ، وينجح في فصل رأسها عن جسدها ، أو علي الأقل الاستبدال هذا الرأس ببعض شباب الإخوان ، فدعاهم إلي بيته علي مائدة متواضعة ، أكد لهم فيها أنه لم يتخل عن العمل للإسلام يومًا واحداً ، وإنما تحكمه ظروف دولية معقدة ، وأن سياسة الهضيبي ستؤدي إلي نتائج خطيرة ، ما لم يضع لها شباب الجماعة حداً .. وما كان لعبد الناصر أن يحدث شقاً في شعبة واحدة من شعب الإخوان لو لم يمكن من ذلك صديقه المرحوم عبد الرحمن السندى رئيس التنظيم الخاص بالإخوان ، حيث استغل عبد الناصر صلته القديمة بعبد الرحمن وهي صلة الجندي بالقائد في تسهيل دخوله في صفوف الإخوان . وحيث إن القلوب بيد الله ، فلا تثريب علي المراقب للأمور أن يظن أن عبد الناصر قد استغل هذه الصلة القديمة في عبد الرحمن ، أو أن عبد الرحمن نفسه قد خدع فيه ، أو أن الظروف والملابسات كانت أقوى من تقدير عبد الرحمن للموقف ؛ إذ ظل عبد الرحمن علي اعتقاده فترة طويلة بأن عبد الناصر هو هو نفسه ، الذي أقسم أمامه علي المصحف ، هو وكمال الدين حسين والبغدادي في حجرة في بيته بحي الجمالية علي العمل للإسلام في صفوف هذه الجماعة قبل الثورة ، ورئيساً لمجلس الوزراء .. لاشك أن هذه الصلة السابقة لها أثرها في إحداث البلبلة في نفس عبد الرحمن السندى أولاً ، ثم في صفوف الجماعة ثانيًا .. وطالما سمعه كثير من الإخوة يدافع عن عبد الناصر ، ويلتمس للثورة المعاذير ، ويقول لهم : لا تسيئوا الظن بأخيكم ولا يعلم إلا الله ماذا يدور بينهما إلي الحد الذي جعل عبد الرحمن الذكي يقتنع بذلك ، ويميل إليه علي حساب التزامه بالجماعة ، مما وَسَّعَ من دائرة الشقاق في صفوف الإخوان ، حتى امتد إلي الشعب ، ومما زرع اليأس في النفوس من مغبة الشقاق ، ومما التبست معه الأمور علي البعض ، فظن النقص في سياسة الهضيبي ، إلي آخر سلسلة الفتن التي حسم الهضيبي أمرها ، بإصدار قرار يفصل أربعة من زعماء التنظيم الخاص علي رأسهم عبد الرحمن السندى ، وأوكل مهمة التنظيم الخاص للشهيد يوسف طلعت من بعده ..

وحميت المعركة :

حمي وطيس المعركة بين الإخوان المسلمين – بعد هذه العملية الجراحية في جسم الجماعة – وبين الثورة ، ولكن من خلال جسم صحيح أقوى علي تحمل الصراع ، وانهمرت المنشورات والمجلات السرية علي الشعب ، تهاجم بنود المعاهدة ، وتبصَّر بعواقب ضياع الحياة النيابية ، ووأد الحرية ت وتُطمئن الشعب بان الإخوان لن يتخلوا عن رسالتهم حتى النهاية .. وأخذت الحكومة تكيد للجماعة بطريقتها الخاصة في الإيذاء ، من تفتيشات واعتقالات متفرقة ، وبث الدعاية ضد الإخوان بكل الوسائل .. وأصبح الكل يترقب نهاية مأساوية يستوي فيها الغالب والمغلوب .. وأراد الأستاذ الهضيبي أن يُغلب صالح الأمة علي الآلام الشخصية ، فأعذر إلي الله بخطاب أخير لمركز التدبير جاء فيه :

" السيد جمال عبد الناصر ، رئيس مجلس الوزراء " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. أما بعد ،

فإني لازلت أحييك بتحية الإسلام ، وأقرؤك السلام ، ولازلت ترد علي التحية بالشتائم ، واتهام السرائر ، واختلاق الوقائع ، وإخفاء الحقائق ، والكلام المعاد الذي سبق لكم قوله ، والاعتذار عنه ، وليس ذلك من أدب الإسلام ، ولا من شيم الكرام ، ولست أطمع إلي نصحك بأن تلزم الحق ؛ فذلك أمر عسير ، وأنت حر في أن تلقي الله تعالي علي ما تريد أن تلقاه عليه . ولكن أريد أن أبصرك بأن هذه الأمة قد ضاقت بخنق حريتها ، وكتم أنفاسها ، وأنها في حاجة إلي بصيص من نور ، يجعلها نؤمن بأنكم تسلكون بها سبيل الخير ، وأن غيركم يسلكون بها سبل الشر والهدم والتدمير إلي آخر ما تنسبونه إليهم .

إن الأمة في حاجة الآن إلي القوت الضروري ، القوت الذي يزيل عن نفسها الهم والغم والكرب .. إنها في حاجة الآن إلي حرية القول ن فمهما قلتم : إنكم أغدقتم عليها من خير ، فإنها لن تصدق ، إلا إذا سمحتم لها بأن تقول : أين الخير ن وسمحتم لها بأن تراه . ومهما قلتم ك إنكم تحكمونها حكمًا ديمقراطياً : فإنها لن تصدق ؛ لأنها محرومة من نعمة الكلام ، والتعبير عن الرأي . وإذا حققتم ذلك بالكذب والبهتان والاختلاق .. ولا نتهم لكم سريرة ، ولا نبادلكم فيما تضمرون وتدخرون في أنفسكم ، ولا نجاري بعض وزرائك فيما يكتبون من غثاثة وإسفاف . الوقائع التي ترضونها أو تصدر عنكم ، أما أن تعطوا أنفسكم الحق في الكلام وتحرموا الناس منه ، وأما أنكم تفرضون آرائكم – علي الأمة فشيء لا يعقله ولا ترضاه الأمة .

أيها السيد :

إن الأمة قد ضاقت بحرمانها من حريتها ، فأعيدوا إليها حقها في الحياة . وإذا كان الغضب علي الهضيبي وعلي الإخوان المسلمين قد أخذ منكم كل مأخذ فلكم الحق أن تغضبوا – وهذا شأنكم – ن ولكن لا حق لكم في أن تحرَّضوا الناس علي الإخوان المسلمين وتغرروهم بهم ، وليس ذلك من كياسة رؤساء الوزراء في شيء ، فإنه يؤدي إلي شر مستطير وبلاء كبير . ومن واجبكم أن تحافظوا علي الناس مخطئهم ومصيبهم ، وان تجمعوا شمل الأمة علي كلمة سواء . وإنكم – لاشك – تعلمون أن الإخوان المسلمين حملة عقيدة ، ليس من الهين أن يتركوها ، ولا أن يتركوا الدفاع عنها ، ما وجدوا إلي الدفاع سبيلاً . فإغراء بعض الأمة بهم ، وتحريضهم عليهم من الأمور التي لا تؤمن عواقبها . وإنني أؤكد لكم أن في وسعك أن تمشي ليلاً ونهارًا وحدك بلا حراس وفي أي مكان دون أن نخشى أن تمتد إليك يد أحد من الإخوان المسلمين بما تكره .. أما أن يمد أنصارك أيديهم بالسوء إليهم استجابة إلي إغرائك فإن مسؤوليتك عند الله عظيمة . ولعل الذي حملك علي إبداء العداوة والبغضاء للإخوان المسلمين هو أنهم عارضوا المعاهدة .. فالإخوان المسلمين لن يؤمنوا بها دون أن تناقش في برلمان منتخب انتخابًا حراً ، يمثل الأمة أكمل تمثيل . وخير لكم وللآمة ألا تخدعوا أنفسكم عن الحقائق ، فإن الأمة قد بلغت من حسن الرأي ومن النضج مبلغًا يسمح لها بألا يتصرف أحد في شؤونها دون الرجوع إليها والأخذ برأيها ، والله يتولاكم بتوفيقه .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين

الفصل الخامس عشر : ( ودخلت قريتنا في صراع الإخوان مع الثورة - الهضيبي يكتب شارحًا أسباب الخلاف )

دخلت شُعبة قريتنا أتون المعركة المستعمرة بين الإخوان المسلمين والثورة ، بأسلوبها الخاص في شرح وتوضيح الحقائق للناس ، في الوقت الذي كانت تُعَبَّر فيه هيئة التحرير بالقرية عن وجهة نظر الحكومة .. ولولا ما كان بيننا من تفاهم وصِلاَت قرابة لنشب الصراع الذي لا ُتؤمَن عواقبه ، حتى أن بعض أبناء عائلة حشيش – الذين كانوا يفكرون بعقلية آبائهم الحزبية في بدء إنشاء فكرة النادي – قد أصبحوا اليوم بعد أن أنضجتهم الأحداث أكثر قربًا من أغراض الشُعبة ، فضلاً عن مسارعة بعضهم إلي العمل الإسلامي معنا ، رغم استمرار تصدر آبائهم لهيئة التحرير ، فكانوا بذلك صمام أمان يبادر بمدنا بالمعلومات والتحذيرات في الوقت المناسب ...ثم إن حب الناس الفطري للإسلام كان يجعلهم يشعرون أنهم أقرب إلي الإخوان منهم إلي قيادة الثورة نفسها ، ولولا تخوفهم من مغبة معاداة الثورة ، أو تحينهم لمصلحة علي يديها لكانوا في موكب الإخوان المسلمين سابقين .. كانت قلوبهم مع عليَّ وسيوفهم مع معاوية .

كانت هذه الحقيقة النفسية في طبيعة الشعب المصري تمنع كثيراً من الشر أن يستفحل ، وتفعل كثيراً من الخير في السر ، حتى أن الحكومة كانت تشك في تسلل كثير من الإخوان إلي فروع هيئة التحرير في البلاد .. لأن معركة واحدة لها خطرها لم تقع علي المستوي الشعبي بين أي شُعبة للإخوان وبين هيئة التحرير في أي بلد ، برغم دفع أجهزة الدولة السرية لذلك ، ورغم شحن النفوس المتواصل بتصريحات المسؤولين المسمومة ..

وحمي الإخوان احتفال الثورة :

وعندما استعدت القرية لاستقبال عضوين من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، هما كمال الدين حسين وزكريا محيي الدين ، لوضع حجر الأساس للمجمع الصحي ونقطة الشرطة ، انطلقت إشاعة مغرضة بأن شُعبة الإخوان ستقوم بنسف الحفل بمن فيه .. وعلي الفور اتصل بنا المسؤولون عن هيئة التحرير بالقرية للوقوف علي الحقيقة ، واتفقنا معًا علي أن نحتاط للأمر ، خشية أن يقوم أحد أجهزة الدولة الثورية بذلك ؛ ليغرقنا جميعًا في المصائب التي تمزق أواصر المحبة في القرية .. وكان الحل في أن يقوم شباب الإخوان بحراسة الاحتفال في ملابسهم الكشفية ، وبعد تعليق شارة هيئة التحرير ذات اللون الأسود والأحمر والأبيض علي صدورهم ، خوفاً من تسلل أي شخص غريب عن البلدة إلي الحفل ، وهذا أقصي ما يقدمه الإخوان من جانبهم من مشاركة في استقبال أعضاء مجلس الثورة ومن معهم ، باعتبارهم ضيوفاً علي البلدة من خلال تنظيم الهتافات بحيث لا تخرج عن عبارات الترحيب العامة ، دون التطرق إلي هتافات الإخوان أو هتافات هيئة التحرير ، ومبالغة في الدقة فقد وزعنا الهتافات مكتوبة علي رؤساء المجموعات ؛ حتى لا يتجاوزونها في ترحيبهم بالقادمين .. وكان هذه هو شرط الإخوان لمسؤوليتهم الكاملة عن الحفلة ، حتى لا يحدث أي شيء ينسب فيما بعد إليهم .. ومر اليوم بسلام باستثناء بعض الهتافات الشاذة التي ارتفعت فجأة وسط الاحتفال .. ولم يتجاوب معها أحد ، بل ارتفعت الأصوات بإنزال صاحب الهتاف من مكانه ، وتبين أنه أحد المخبرين المرافقين لركب رجال الثورة ، ولم ينجح والحمد لله في إثارة أي فتنة .

حرب المنشورات :

كان الصراع ساخنًا بين الرؤوس .. هادئاً بين صفوف الشعب ؛ لأن موجة عامة من التعاطف مع الإخوان كانت تظلل البلاد في ترقبها لنهاية هذا الصراع ، وأملها بأن ينجح الإخوان في إزاحة هذا الكابوس عن الأمة .. لذلك كانت تصريحات الإخوان ومنشوراتهم وآراؤهم أشد وطأ علي نفوسهم من سيل الإعلام الحكومي .. وكانوا لذلك يسارقون السلطة في تلقف المنشورات ، وترويجها ضد الاتفاقية ، ومن أجل الحياة النيابية .. وكانت ثقة الشعب كله قوية في أن النصر سيكون حليف دعاة الإسلام في النهاية .. وكان حظ الإخوان أنفسهم بالقرية من هذه الثقة كبير ، مما عجل بدخولنا معمعة المنشورات دون نظر للعواقب .. وشمَّر كل شباب الشُعبة لنسخ أكبر عدد من المنشورات التي تصلنا تباعًا من المركز العام . وأمضينا ليلة طويلة في نسخ أعداد كبيرة لأكثر من منشور ، ثم إلصاقها علي الأبواب والحيطان قبل بزوغ الفجر ، واستيقظت القرية علي هذا المنظر الفريد ، الذي لم تشهده من قبل ، حتى أن خفر الليل الموكل بحراسة بيت العمدة وجد المنشور في فوهة بندقيته .. وفي اليوم التالي جردت حملة من شرطة البندر لتفتيش بيوت القرية بعد إغلاق الشُعبة ، وأخذ محتوياتها ، وإلقاء القبض علي بعض الإخوان ، وهروب البعض الآخر في الحقول والحدائق .. وأثناء تفتيش منزل سعد الشيخ عثروا علي خطاب مرسل من القاهرة من الأخ رفعت الصياد ، يتحدث فيه عن نهاية الثورة المحتوم ، وقطع رأس الأفعى ، فاشتد غضبهم وأبرقوا للقاهرة للقبض علي رفعت ، لكنه ظل هاربًا إلي أن وقع حادث إطلاق الرصاص علي عبد الناصر بالمنشية .. وكانت واقعة المنشورات هي آخر عهد قريتنا بشمس الشُعبة . وهي آخر عهد الشيخ أبو الفتوح نائب الشُعبة بالقرية ، وبالحياة في مصر كلها ، حيث كان معاراً بالكويت ولم يعد حتى اليوم ، ولم يصل منه ما يفيد أنه علي قيد الحياة .

خيم علي القرية جو حزين ، لما أصاب فلذات أكبادها علي يد رجال السلطة .. وأحسست بدوري بالأسى يعتصر قلبي ، لبطش الحكومة الشديد الذي سيجر إلي بطشها بالإسلام نفسه بعد ذلك . كان هذا الجو المتوتر ، والاحتكاكات المتفرقة بين الشرطة وبعض الشعب ، والاعتقالات الفردية ، والمنشورات المنهمرة هو طابع هذه الفترة القلقة التي تنذر بشر مستطير .. وكان هناك شعور قوي بأن هذا الحال لن يدوم طويلاً بين الإخوان والثورة ، وأن أحدهما سيعاجل الآخر .. ويبدو أن هذه الحقيقة كانت وراء هذا الخطاب الأخير من المرشد العام لجميع الإخوان في 11 من المحرم 1374 ، حيث صارحهم فيه بدور الإخوان الواضح ، وبصَّرهم بما يحاك لهم من شر ، ودعاهم إلي الموت في سبيل دعوتهم دون تفريط فيها .. وكأنه بهذا يقدم الحساب الختامي ، أو يلقي خطاب وداع شمس الحرية والكرامة لأرض مصر .

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الإخوان ، السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأحمد الله تعالي إليكم وأصلي وأسلم علي نبيه الكريم وبعد .. فقد كنت أود أن ألقاكم وأتحدث إليكم ، وأستمع إلي حديثكم ، لولا أن ظروفاً قهرية ألمت بي ، فأبعدتني عنكم ، ولم تدع لي أن أحقق ما تعودونه من الأمل في لقائكم . وإني أحدثكم بكلمتين ، وأرجو أن يكون كلامي دائماً تحت نظركم وأنتم تنظرون في الأمور .

أولاً : لقد بدا لي في أثناء شهر رمضان الماضي أن أعتمر وأزور البلاد العربية السعودية ، فنُبهت إلي أنه في مثل هذه الظروف يستأذن الملك سعود ، فأذن ورحب ، كما كنت أعتزم زيارة البلاد العربية الأخرى فشاء الله ألا تُهيأ هذه الرحلة ، وألا تُيسر أسبابها إلا في ثاني أيام العيد ، وقد قمت بهذه الزيارة التي أفادتني كثيراً ، وبصرتني بسير الدعوة ، وما يجب لها من العمل والتنظيم ، والأسباب التي تتقدم بها ، والعوامل المختلفة التي تؤثر في سيرها ، وألخص لكم في كلمات قليلة هذا الذي رأيته ..

دعوة لليقظة :

أن دعوة الإخوان المسلمين قد أيقظت العالم الإسلامي ن وهزت أركان الاستعمار فيه ، وزلزلت أقدام المستبدين ، وأخذ المسلمون ينظرون في شؤونهم علي ما يقضي به فهمهم للإسلام ، وهم محتاجون إلي الكثير من الجهد حتى يفهموا الإسلام علي حقيقته . ومن أكبر العوامل التي تؤثر علي سير الدعوة ، وتعطلها وتشوه مقاصدها ، ألب المستعمرين عليها ، لأن الإخوان المسلمين بما أيقظوا من العالم الإسلامي ، وبما وقفوا في وجه كل معاهدة تمكن للمستعمرين أدنى تمكين من أرضهم قد استحقوا عندهم العمل لإحباط هذه الدعوة بكل وسيلة . وهم لا يطعنون علي الإسلام ذاته ؛ مداراة لأهل البلاد التي يحتلونها ، ولكنهم يطعنون علي الإخوان المسلمين القائمين بالدعوة ، ويوزعون لبعض أهالي البلاد الذين لهم مطامع عندهم ، والذين يستهويهم الحكم في أن يكونوا سواعدهم في اضطهاد الإخوان المسلمين ، والشناعة عليهم ، ورميهم بالنقائض . وهذا الذي فعله الإخوان المسلمون من معارضة كل اتفاق مع المستعمرين ، ليس شهوة عندهم ، وإنما هو أصل دينهم ، فإن أحكام الإسلام تقتضي أنه إذا وطأت أقدام العدو أرض المسلمين علي كل واحد منهم – صغيراً وكبيراً ، الرجل أو المرأة في ذلك سواء – أن ينهضوا لدفع العدو ، وأياً كان ، حتى يعيدوه إلي عقر داره ، وإذا كانت ليست لنا قدرة علي ذلك حتى الآن ، وإلي أن يمنحنا الله القوة لدفعهم أو يوجد من أسباب ضعفهم ما يمكننا من ذلك ، فليس لنا أن نرضي بوجودهم علي أرض الإسلام ، بمقتضي اتفاقات نعقدها معهم ، ولا أن نرضي بأي ارتباط كان ، فإذا أُجلوا عن أرض الإسلام فللمسلمين أن يرتبطوا بالاتفاقات التي تقتضيها مصلحة الإسلام ، و‘ذا كانت بعض الحكومات تضطر إلي قبول مثل هذه الاتفاقات فمما يخالف هذا الأصل أن يرضي الإخوان المسلمون به أو يوافقوا عليه . ويجب علي الإخوان المسلمين أن يحافظوا كل المحافظة علي هذا الأصل ، حتى لا يقعوا فيما وقع غيرهم مختارين أو مضطرين إلي مخالفة الأصل الذي قدمته لكم .

العقبة الثانية :

أما السبب الثاني الذي يقف عقبة في سبيل الدعوة : هم أولئك الذين أشرت إليهم من أبناء الإسلام ، والذين لا يفهمون الإسلام حق الفهم ، ولا يعرفونه أنه كامل شامل ، يلبي حاجات المجتمع الإسلامي وغيرها ، وينظم حياته تنظيماً دقيقاً لا يعتوره قصور . ولما كان الإخوان المسلمون قوة منتظمة ذات عقيدة ثابتة ، فالناس يطلبون ودها ، أو يعادونها ، فالذي في الحكم يريد أن يؤيد الإخوان المسلمون علي خصومه ، والذي في خارج الحكم يود أن يؤيده الإخوان المسلمون علي من في الحكم ليحل محلهم ، والإخوان المسلمون علي ما أوصاهم به ربهم .. لا يؤيدون جزافاً ، ولا يعارضون جزافاً ، وإنما هم تبع للحق أينما كان ، ولو كان مع خصومهم ، وضد الباطل أينما كانوا ، ولو كان أصدقائهم ، لذلك يكون الإخوان دائمًا غير ما تعوده الحزبيون من مواقفهم ، فتارة يكونون مع هذا ، وتارة يكونون مع ذاك ، كما يستوجبه الحق والعدل . ولذلك فهم يتعرضون لسخط الناس ، وهناك عليه نفسه من أرضي الناس بسخط الله .

وهناك أسباب تتعلق بالدعوات التي تطرأ آونة بعد أخري علي بلاد الإسلام ، فتضطرب لها أفكار المسلمين ، وأسباب أخري ليست بذات بال بالنسبة للسببين اللذين ذكرتهما ، ومرجع التغلب عليهما إلي ما نقوم به نحن من جهود في تقريب مفاهيم الإسلام للناس حتى يروها حقيقتها . ونسأل الله تعالي أن يقوينا علي العمل في سبيله والإخلاص لذاته .

ثانيًا : إنكم – لاشك – ستعرضون لموقف الإخوان المسلمين من الحكومة ، ومواقف الحكومة منهم ، ولا أريد أن أذكركم بما قام به الإخوان المسلمين في الانقلاب الذي تم بخلع الملك ، ولا بما أديتموه لرجال الانقلاب ، حتى تماسكوا وثبتت أقدامهم ، ولا أريد أن أذكركم بما قلته في جلسات الهيئة التأسيسية من أن أحداً لم يعرض علينا التعاون معه في شؤون البلاد ، ولا ما ذكرته لكم مما ادعي علينا من علاقة مع الانجليز .. لست أريد أن أذكركم بذلك . ولكني آتي إلي قرار حل الإخوان المسلمين واعتقالهم ، وإسناد شتى التهم إليهم ، ثم الإفراج عنهم من غير تحقيق ولا سؤال ولا جواب ، وأريد أن أقول إن رجال الانقلاب بعثوا لنا قبيل الإفراج عنا بمن يقول : إنهم آسفون علي ما كان منهم في حق الإخوان المسلمين . وإنهم يطلبون منا أن ننسي الماضي ، وأن نتعاون معهم علي ما فيه مصلحة البلاد . فقلنا : إننا مستعدون للتعاون علي ما فيه خير البلاد ، وفي الحدود التي تقلبها دعوة الإخوان المسلمين ، وما أكثرها . وإن من حقهم أن يفرجوا عنا بلا كلام ، ولكن وهم يطلبون التعاون معنا فإننا نرجو أن يفرج عن جميع المعتقلين ، وقد بلغنا بعد ذلك أن بعض المعتقلين من الضباط قدم للمحاكمة ، وكلمناهم في ذلك ، وأن يلغي قرار حل الإخوان المسلمين ، وأن تذكروا كلمة تنسخ أثر الكلام الذي قيل في تبرير الحل والاعتقال ؛ لأنه من غير المعقول أن نكون متعاونين والتهمة منسوبة إلينا ، فقبل هذا كله بلا تردد ، وحمد لنا ما أبدينا من استعداد لتناسي الماضي بلا كلام ، واتفق معنا علي أن يتم ذلك ، وأن نجلس في بحر 48 ساعة للاتفاق علي ما نتعاون عليه .

وخرجنا في مساء 25 مارس 1954 وحالما وصلت إلي منزلي زارني البكباشي جمال عبد الناصر والصاغ صلاح سالم ، واستبشرنا بذلك ، واعتبرنا أن ما قالوه من ضرورة التعاون أمر لاشك فيه ، وكانت الأمور إذ ذاك مضطربة بينهم وبين الرئيس محمد نجيب ، فسعينا في رجائهم بالانتظار ؛ حتى نعرف حقيقة الخلاف ، والبواعث التي دعت إليه ، وذهبنا وقابلنا البكباشي جمال عبد الناصر ، وفي اليوم التالي زرنا الرئيس محمد نجيب وعرضنا عليهم الانتظار فلم نوفق ، ولم يطلب أحد منا التدخل ، ثم مضينا في المطالبة بما وعدنا به ، فلم يحقق منه شيء ، إلا الإفراج عن الإخوان المسلمين ، وبقي بعضهم في المعتقلات . وكانت قد ألفت لجنة للالتقاء برجال الحكومة ، والتفاهم معهم علي هذه المسائل فوجدنا إعراضًا .

تضييق :

وبعد شهرين في أَخْذ وَرَدّ ، وَجَدتُ أن الوقت قد يقتضي أن أغَيَّر الجو قليلاً ، فبدأت رحلتي إلي البلاد العربية ، وعدت فوجدت الأمور أكثر تأزمًا من قبل ، ووجدت الشائعات تقول : إن الإخوان لا يتعاونون مع رجال الانقلاب ، وتهديدات بحلهم ، وتنقلات لموظفين بالجملة ، واتهامات باطلة ، ومصادرة لجميع ألوان النشاط حتى الرياضي ، ومنع لصلاة العيد في فضاء المدينة ، واعتقال بعضهم لخطباء المساجد ، وتفتيش بيوت الإخوان ، واعتقال بعضهم .. ووجهت إلينا حملة صحفية ظالمة ، ولم يسمح لنا بالكتابة ولا بالقول في محالفنا ، وكنا قد أصدرنا مجلة الإخوان المسلمين فضيُق عليها ، وشطبت منها المقالات والتعليقات والأنباء حتى الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، فأوقفناها مضطرين ؛ لأنها أصبحت لا تعبر عن شؤون الدعوة في قليل أو كثير ، وكان مما وقع منهم في محافلهم أن جعلوا يحرضون بعض الناس علي الإخوان المسلمين ويغرونهم بهم ، وأخذت الجرائد – وهي لا تكتب إلا ما تبيح الحكومة نشره – تشكك الناس في الإسلام ، ودأب خطباؤهم في محافلهم علي مثل ذلك ، متمثلين ببعض الدول التي تدَّعي الحكم بالإسلام وهي أبعد ما تكون عنه .

وكان مما نسبوه إليّ أني تحدثت في سوريا ولبنان والأردن عنهم بسوء ، ولقد كنت أكرم علي نفسي وأعز من أن أذكرهم بشيء ، وأتحدى من يقول ذلك بأن يقدم دليلاً عليه أو جريدة نشرت شيئاً مما زعموه . هذا وجدته عند عودتي ، ولا أظن أن إنسانًا عنده مسحة من عقل يستطيع أن يجمل الإخوان المسلمين تبعة ذلك ، ولا أن يجد مبرراً له عند رجال الحكومة .

لكل رأيه ..

ولعل ما ذكرناه من رأينا في المعاهدة – إذ كنا بسوريا – وما أصدره المركز العام من رأي كذلك في المعاهدة ، هو الذي أغضب الحكومة ، وجعلها تصف الإخوان المسلمين بما وصفتهم به ، من أنهم خونة وعمال هدم وتخريب ، شأنهم في ذلك شأن الشيوعيين والصهيونيين ، فإن يكن الأمر قاصراً علي ذلك فإني قد أبنت لكم أن الإخوان المسلمين لم يفعلوا ذلك إلا بناء علي أصل ديني أخذوا به في جميع البلاد الشرقية ، وأخذوا به كلما همت الحكومة أن تتفق مع الانجليز في مصر ، فقد أنكروا معاهدة 1936 ، كما أنكروا المحاولات التي أعقبت ذلك وكان الغرض منها إحلال معاهدة محل أخري .. وقد كنا نظن أن هذه المعارضة مما تلجأ الحكومة لاستحداثها ، لو لم تكن حدثت ، حتى تقوى مركزها في مفاوضة لم تتم ، وإذا كانت الحكومة مضطرة فإننا لسنا مضطرين للموافقة علي المعاهدة \ن وينبغي أن يكون لكل رأيه فيها ، كما أن للحكومة رأيها ، وكل إنسان يتحمل تبعة رأيه ، وليس علينا إلا البلاغ ، وليس من حق احد أن يقضي في مستقبل أمة دون أن يرجع إليها ويتقيد برأيها .

اسألوا الحكومة :

ومع كل ذلك ، ومع أن المظالم واقعة علينا باستمرار من قبل المعاهدة ومن بعدها ، فإني أرجو منكم أن توفدوا للحكومة من يسألها : أي شيء طلبت من الإخوان المسلمين أن يتعاونوا معها فيه ولم يقبلوا ؟! وأي شيء اتفقوا فيه علي التعاون مع الحكومة وَعُطَّلَ هذا الاتفاق ؟! وأي شيء يريدون من الإخوان المسلمين ؟! .

فإذا جاءكم الجواب فاعرضوه علي دعوتكم ، واقبلوا منه ما تقبله الدعوة ، وستجدون الإخوان المسلمين - بإذن الله – أول من يتعاون عليه . وفي الوقت نفسه أرجو أن تطلبوا منهم أن يمنحونا مثل حقهم في الكلام ، مطروحاً منه الشتائم التي لا نقرها حتى بالنسبة لمن يشتمنا .

أيها الإخوان ، إن من شان الدعوات ألا تترخص في شيء من أصولها ، فكونوا مستعدين للموت في سبيل دعوتهم ، فإن من مبادئنا : " الموت في سبيل الله أسمي أمانينا " ، والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين

11 من المحرم 1374هـ 9 من سبتمبر 1954م

الفصل السادس عشر : ( تمثيلية المنشية ومحاولة اغتيال عبد الناصر - ودخلنا مرحلة السجون والمحاكم الصورية )

أذن الله أن أنهي دراستي الجامعية وسط هذه العواصف السياسية ، ومن خلال ظروف مالية شاقة عن دفع الرسوم الإضافية ، التي لا تتعدى الثلاث جنيهات ونصف ، ولم يشفع لي حصولي علي مجانية التفوق في السنوات الثلاث الأخيرة من دخول قاعة المحاضرات طوال العام الدراسي ، وكان الحرس الجامعي يشدد في تنفيذ التعليمات ؛ تخوفاً من قيام أية مظاهرات ، ومن ثم لم أجد ثغرة أدخل منها إلي الكلية ، ولو مرة واحدة . ولم تقف الأزمة المالية عند هذا الحد ، بل تجاوزته إلي استحالة شراء أي كتاب مقرر ، فاكتفيت بالملخصات التي أعددتها لجميع المواد من كتب الزملاء .. وتفاقمت الأزمة بمرض أخي صبحي ، الذي هبط بحياتنا إلي تحت مستوي الكفاف ، ولم تفلح الديون المتواصلة في إعادة التوازن مرة أخري ، وأصبح خطها البياني في صعود . وكانت حالة الإفلاس المادي التي أعانيها شبيهة بحالة الإفلاس السياسي الذي تعيشه مصر كلها ، إذ لم يكن هناك أي أمل في خطوة واحدة إلي الأمام ، بل تزداد الأمور سوءاً مع الأيام .. وليس هناك أقسي علي النفس من محنة تذهب بالمال والآمال معاً .. وعندما أعود بذاكرتي إلي هذه الأيام أراها كانت كثيفة الضباب علي نفسي ، أكاد أختنق فيها من كل شيء حولي ، وخاصة من استبطائي للإخوان في عدم إقدامهم علي خطوة حاسمة ، تتناسب والجو النفسي الذي هيأته حرب المنشورات والتصريحات ، بعد أن بات واضحاً لكل ذي عينين أن الحكومة تعد العدة للفتك بهم .. وقد لعبت الإذاعات الأجنبية دورها في تضخيم قوة الإخوان ؛ لتظهرهم كأعوان للاستعمار من جهة ، ولتغري الثورة بهم من جهة أخري .. ومن الطريف أن إسرائيل لم تنس دورها في هذه اللعبة ، لتثأر لنفسها من تاريخهم في فلسطين ، أما الشيوعيين – ملوك الانتهازية – فقد تكلموا في منشوراتهم عن الجبهة الوطنية بين قوة الشيوعية وقوة الإخوان ؛ وذلك لحسر موجة التعاطف الشعبي عن الإخوان ، ولتزويد الثورة بمبرر قوى لضرب الإخوان ، بعد تشويههم ، ولإظهار أنفسهم بمظهر القوة الوطنية التي تؤثر في الأحداث ، ويعمل لها ألف حساب ، ولإشعار الإخوان أنهم كانوا معهم فيما لو كانت الجولة لهم .. ولكن كيف تفلت هذه الفرصة من المسيحيين المتطرفين الذي بدأوا أيضاً يحملون وهي فرصة قد لا تتكرر علي مدار القرون .. لقد فضح حادث تصادم قطار الصعيد احد القسس الذي كان يحمل حقيبة منشورات باسم الإخوان المسلمين ، وقد تبعثرت فوق جثث الضحايا .. وهكذا اشرأبت أعناق الشياطين ، وخرجت الأفاعي من جحورها ، ولا يعلم إلا الله كيف ينجو الحق من بينهم .

من أطلق النار علي عبد الناصر ؟

لم يعد لحياتي الخاصة مذاقها الحلو في نفسي ، بعد أن عانيت أشباح المصائب وهي تزحف علي مصر ، ولكن لابد مما ليس منه بد .. لابد من السعي هنا وهناك للتعيين الجامعي بالمؤهل الجامعي ، وأمام إعلان من الكلية البحرية بطلب دفعة خريجي الحقوق للتعيين كنواب أحكام لم أتردد في تقديم الطلب بعد توفر الشروط .. وتم توقيع الكشف الطبي علي المقبولين ، وبعد أيام تسلمنا خطابات استدعاء لعمل مقابلات ختامية بمقر الكلية بالإسكندرية .. وفي صباح يوم 27 أكتوبر سنة 1954 وقبل أن تتحرك السيارة من القرية إلي محطة القطار ببنها ، سمعت لغطاً بين الركاب عن حادث وقع بالمس بالمنشية لجمال عبد الناصر .. ومنهم عرفت التفاصيل قبل أن أقف عليها بعد ذلك عن طريق الإذاعة .. ثمانية رصاصات أطلقت علي جمال عبد الناصر من عضو بجماعة الإخوان المسلمين !! إذن لقد احترق الريشتاخ الألماني وبدأ الليل الطويل ؟ .

وبدأت الاعتقالات :

ركبت قطار الإسكندرية بصدر مشحون بالأسى ، ورأس مثقل بالخواطر والظنون .. جميع المحطات مكتظة بالجماهير تستقبل عبد الناصر علي طريق عودته إلي القاهرة .. وشغلني خاطر معقول فيما لو كان لدي الإخوان نية حقيقية للاغتيال ، أو ما يكون منطقياً أن يستوثق لتنفيذ الخطة بتصيده في أي محطة من محطات الوجه البحري الكثيرة ، التي مر عليها قطار الإسكندرية غلي القاهرة ؟! خاصة وأن يد الإخوان حتى هذه الساعة مازالت طليقة لم توضع جميعها في القيد بعد .. صحيح أن الاعتقالات قد بدأت في أعقاب الحادث الذي لم يمر عليه حتى الآن 24 ساعة ، ولكن مازالت قوة الإخوان موجودة في كل مكان ، ورؤوسها مازالت تفكر .. ألم أكن أتجول منذ قليل بحقيبتي بين الجماهير المحتشدة علي المحطة ؟! يقيني أن النية لو كانت مبيتة لما حال شيء دون تنفيذها .. غنها نفس قصة الريشتاخ الألماني الذي أحرقه هتلر للتخلص من خصومه .

علي أبواب القدر المحتوم :

أخيراً نجحت في عقد صلح بين جميع الخواطر المتضاربة ، وبين مشاعري المتحيرة ، مؤداه أنه مهما كانت عواقب الأحداث الأليمة التي علي وشك أن تغرق القطر المصري في خضمها .. ومهما كانت تضحيات الدعوة علي الطريق فإن قدراً ربانياً يراد لتحديد المسؤوليات ، وإلقاء التبعات ، فإنه لجدير بإيماننا أن يعبرها إلي دائرة القدر لتتفاءل وتطمئن دائماً وأبداً (

الأمة تسير اليوم نحو قدرها المحتوم .. إن درسًا صعبًا وعامًا سيصب فوق رؤوس الجميع .. سيدخل الكل بوتقة كبيرة ، تنصهر فيها جميع الشعارات والدعاوى ؛ ليخرج في النهاية بعث جديد ، ليس هو الذي في السلطة الآن بالتأكيد ، ولا بالذي في المعارضة بالتأكيد أيضاً .. إن فترة مخاض حضاري ضخمة ستمر علي هذه البلاد ، ستنزف فيها كثيراً من الدماء ، وتعاني كثيراً من المتاعب ، ولكنها في النهاية ستضع المولود الجديد ..

قطع علي خواطري صوت يناديني من مؤخرة عربة القطار .. إنه البيطار زميلي السابق بالمعلمين العليا ، لم أره منذ أربع سنوات .. كنت دائمًا انعي عليه انحرافه الذي يضيع عليه فرصًا كبيرة لآخرته ودنياه .. وكانت مواهبه مدفونة وراء سلوكه المعوج وحياته الضائعة .. وكان طبيعياً أن يرسب في السنة الولي بالمعلمين رغم ذكائه الملموس ..

- أهلاً يا بيطار ، أين أنت الآن ؟ .. وماذا فعلت بك الأيام ، أو ماذا فعلت أنت بها ؟ ..

- أفهم قصدك .. غيَّر فكرتك عني .. فقد تغير كل شيء في حياتي بعد أن ولدت من جديد .

- وكيف كان ذلك ؟

- سأوفر عليك التفكير .. تبت إلي الله من حياة الضياع التي عشتها ، بعد التحاقي بشُعبة الإخوان المسلمين بالجيزة .. خرجت من الظلام إلي النور ، ومن الموت إلي الحياة ، ومن التخلف والرسوب إلي النجاح بتفوق .. اعني بامتياز مع مرتبة الشرف الأولي في بكالوريوس العلوم هذا العام .. ورفضت تعييني عميداً بالكلية وفضلت التقدم للكلية البحرية التي أعلنت عن حاجتها إلي خريجي علوم .

- كم كنت ضنينًا بك في حزب الشيطان ، وكم أصبحت سعيداً بك اليوم في حزب الله ..

- إذن فأنت كذلك علي صلة بالإخوان ..

- وفي طريقي إلي الكلية البحرية أيضاً .. وإن كنت أشعر أن هذا الحادث الغريب سيقوي صلتي بهم عن ذي قبل .. فربما أصبحت أخاً عاملاً لا محبًا فقط ..

- تقصد حادث المنشية ؟

- طبعًا .. وهل هناك حادث غريب غيره .. ولا يعلم إلا الله ماذا يبيَّتون للأمة من بعده ..

- هون عليك .. فالمحن طريق الدعوات .. فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .. لا أشك لحظة واحدة أن العاقبة لشريعة الله مهما أظلمت الدنيا .. الإسلام اليوم هو قدر العالم كله ..

وبدأت المحاكمات ..

أخيراً وصل القطار إلي الإسكندرية ، ولم تنقطع صلتنا علي مدار الأسبوع الذي أمضيناه في المقابلات مع المسؤولين بالبحرية .. وعدنا في انتظار خطابات الالتحاق .. وكانت أنباء محاكمات الإخوان تغطي صفحات الجرائد .. وفي المساء تتكفل الإذاعة بالجانب المسموح منها ، بعرض ما دار في الجلسات .. ولقد أضافت هذه الجلسات إلي نفسي شيئًا جديداً خاصًا بما يفعله الإيمان في نفس صاحبه .. لا شيء سوي الإيمان بالله واليوم الآخر ، وقد أُعطي الأستاذ الهضيبي ثبات الجبال ، وصلابة الصخر ، وإبراهيم الطيب زئير الأسد ، ويوسف طلعت روح المرح والفكاهة .. جميعهم كانوا أكبر من الدنيا بما فيها من الوعد والوعيد .. هم ومن كان علي شاكلتهم من الإخوان .. كل ما قيل في المحاكمات عن الحكم بشريعة الله ، وعن فساد الأوضاع ، وعن إطلاق الحريات ، وقيام الحياة النيابية ، سبق له أن قيل بأكثر من أسلوب من مناسبة علي مدار فترة الصراع بين الثورة والإخوان .. ولعل الفرصة المناداة به والإقناع به كانت أكبر وأيسر منها الآن أمام هيئة المحكمة .. لكن الجديد في المحاكمات ، والذي لم يكن في تقدير القائمين عليها ، هو أنها كشفت عن عنصر الإيمان واليقين في النفوس ، وهذا هو أخص ما تحتاجه الأمة في بناء الأجيال قبل حاجتها غلي النظريات .. والرجال أولاً .. والنظريات ثانيًا .. أما النظريات بلا رجال .. فهي الجحيم بعينه .. جحيم المجادلات .. جحيم الشهوات .. جحيم العنصريات .. جحيم العبوديات لغير الله إلي آخر سلسلة الشرور والآثام التي يخلفها غياب القلب الحي الذي هو عند الله أوسع من السماوات والأرض .. وكانت المحاكمات بذلك فتحًا جديداً في النفوس ، حببت إلينا منازلة الباطل في أكثر من ميدان ، ولم تزرع الخوف والهلع وإيثار السلامة كما ظن جهلة النفوس وفقراء الروح .

وبدأنا العمل :

لذلك اشتد ساعدنا في العمل ، لرأب صدع البيوت التي غُيب عائلوها ؛ فنهضنا لجمع التبرعات من هنا وهناك ؛ لسد حاجة الأسر التي تُركت بلا موارد .. كانت كل وسائل التخويف الإعلامي في آذاننا كطنين الذباب ، لقد وعينا درس الإيمان منهم بالأمس .. وفتحنا بيوتنا ليقاسمنا فيها إخواننا الهاربون من الأحكام ، برغم صدور القوانين التي تعاقب بالأشغال الشاقة كل من يأوي هاربًا من العدالة .. ولم تتوقف المنشورات كذلك عن فضح أساليبهم الهمجية في معاملة المقبوض عليهم .. كانت معركة مستعرة عليهم ، رغم أن الصوت العالي فيها كان لطوف واحد .. غلا أن العمل الصامت فيها كان للطرف الأقوى .

أخذت نصيبي من جهاد هذه الفترة ، بإيواء إخواني الهاربين ، وعرف الأخ عبد السلام الخوجة ، والأخ رفعت القويسني ، المحكوم عليهما بعشرات سنوات غيابيًا طريقهم إلي بيتي .. وجاء في أثرهم إخوة آخرون ، وكان ذلك أهون علي نفسي من رؤية أسرة عبد السلام بلا مورد ، بعد أن غاب عائلهم الوحيد ، وخلَّف وراءه ستة من الأطفال وأمهم . ولم تعد القروش التي أجمعها تكفي لمواجهة الأعباء المتزايد كل يوم .. ففي كل شارع مأساة إنسانية توجب علي قلب كل مسلم أن يتحرك . وتفتحت القلوب المؤمنة من كل صوب ، وأحاطت بهذه العائلات ترعاها وتمدها بأسباب الحياة .. وانتظمت بذلك شبكة جديدة لتمويل الأسر وإيواء الهاربين ، وبث المنشورات علي مدار القطر المصري كله ..

كانت الحكومة قد طوت صفحة المحاكمات ، وأصدرت الأحكام ، ونفذت الإعدام شنقًا في الشهداء ، وحصلت في اليوم التالي للتنفيذ علي قرض أمريكي مقدار 44 مليونًا من الدولارات ، زينت بها صدور الصحف الثورية بلا حياء ، إيذانًا بحياة الرخاء والاستقرار .. فماذا ستقول للشعب وللسادة أصحاب القروض مرة أخري بعد اكتشاف هذا التنظيم الجديد ، الذي لا يقل خطورة عن سابقه ، والذي توحي دماء الشباب فيه بأنه أكثر استعداداً لملاقاة الأهوال .. لأنهم فعلوا ما فعلوا عن علم كامل بما جري لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان . ولم يكن أمام الحكومة بد لحفظ هيبتها من فكرة المحاكمات السرية . وهكذا بدأت موجة قبض واعتقالات جديدة في شهري مارس وأبريل سنة 1955 لكل أعضاء التنظيم الجديد الذي أطلقوا عليه " جهاز التمويل "

وكان الاعتقال ..

كان قدري بين جنود هذا التنظيم الجديد بتهمة :

إيواء الهاربين ، وتمويل الأسر ، وتوزيع المنشورات ، وتزوير بطاقات مدرسية .

كنت قبل اعتقالي بشهرين قد انتقلت من سكني بالعباسية بالقاهرة ، لأنه أصبح مراقباً من البوليس ، واستأجرت شقة صغيرة بقليوب البلد ؛ لتكون بعيدة عن العيون ، يقيم معي فيها أخَوَىَّ " توفيق " التلميذ بمدرسة قليوب الثانوية ، و" صبحي " المريض الذي أعياني مرضه حتى اضطررت إلي بيع جزء من دارنا الريفية ؛ لمواجهة نفقات علاجه ، فضلاً عن الإسهام في تمويل العائلات .. بعت هذا الجزء العزيز وسط استنكار الأهل ، وبكاء العمات والخالات اللائي استهولن هذا الصنيع ولكن هيهات أن تثنينا نزعات العواطف عن واجبات الضمير . أصبحت هذه الشقة أكثر أمنا لإخواني المحكوم عليهم غيابيًا ، ولكن مشكلتهم خارج الشقة لم تقِل ؛ لأن الشرطة تبحث عنهم مما يعرضهم للقبض ، وكان الحل في عمل بطاقات شخصية جديدة بأسماء حركية .. فرفعت القويسني ، وعبد السلام الخوجة ، وصلاح إمام الجامعيون أصبحوا : عبد السميع فايز منصور ، ومحمد عبد القادر منتصر ، إسماعيل غانم غالب الطلبة بمختلف المدارس الثانوية . وكانت إحدى هذه البطاقات هي مفتاح القضية التي حوكمت فيها ، فعندما داهمت المباحث إحدى الشقق بالسنبلاوين ، وألقت القبض علي من فيها ، وجدوا بينهم محمد عبد القادر منتصر الطالب بالسعيدية الثانوية ، وعجز هذا الطالب عن توضيح سبب وجوده في هذا المكان بعيداً عن الدراسة بالقاهرة .. وكشف الاتصال بالمدرسة عن عدم وجود هذا الاسم بين طلبة المدرسة كلهم ، ولم يعجزهم أن يعرفوا أنه زميلي عبد السلام ، ولا أن يصلوا إلي سكني الجديد بقليوب ..

كان توفيق يعد طعام الغداء في ذلك اليوم عندما سمعنا طرقاً علي الباب ..

- افتح يا توفيق .. تري من سيسعدنا بالزيارة اليوم من إخواننا ؟ ..

- إنه صوت منصور فراش المدرسة .

- لم يتعود أن يأتيني في هذا الوقت .. فماذا جري في المدرسة ؟ ذهبت بنفسي وفتحت الباب فبادرني منصوراً مازحًا وهو يشير إلي مجموعة تقف بعيداً عن الباب .. علي الدرجات السفلي من السلم .

- أصدقاؤك يسألون عنك ، فتطوعت بإحضارهم لأحظى بالغداء معهم .

ورغم أن وجوههم كانت غريبة عني ، إلا أنني لم أتردد في الترحيب بهم ، فربما كانوا مجموعة أخري من الإخوة الهاربين ، ولن يصعب عليَّ معرفة الحقيقة بعد الجلوس معهم ، رحبت بهم قائلاً :

- تفضلوا أهلاً وسهلاً .. إصعدوا .. فصعدوا علي الفور ومددت يدي للسلام .. وامتدت أيديهم بإشهار المسدسات في وجهي .. قائلين

- لا تتحرك من مكانك .. ودخلوا الشقة مسرعين ، كأنهم يقتحمون حصنًا ، ووراءهم عدد من المخبرين ، وانتشر ضباط المباحث الثلاثة ومعهم المخبرون في كل ركن .. وأخذوا يلقون بالأوامر إلي هذا المخبر وذاك .. قف هنا .. اجعل وجهك للشباك .. راقب السور الخارجي .. ولم أسمع بقية الأوامر والتعليمات التي انهمرت كالمطر .. ووجم منصور المسكين الذي ألجمته المفاجأة ، ووقف توفيق وصبحي في ذهول .. وقبل أي سؤال أخذوا في تفتيش كل ركن من الشقة .. فلم بعثروا إلا علي قصيدة هجاء كنت أضعها تحت الوسادة .. آذاهم ما فيها من مساس بعبد الناصر .. أمروني بارتداء حِلتي للذهاب معهم . نبهوا علي المخبرين بالقبض علي كل رواد الشقة .. وقف توفيق وصبحي يبكيان في صالة الشقة ، كطائرين صغيرين فقدا الأب والأم ، وأخيراً الأخ الذي كان يقوم مقامهما .. وسألاني في براءة :

- ماذا نفعل .. فقبلتهما بين عينهما ، وظفرت دمعة من عيني وأنا أمد لهما يدي بكل ما معي من نقود لم تزد عن نصف جنيه ، وقلت لتوفيق : لقد أصبحت رجلاً لا أخشى عليك شيئًا .. اتصل بخالك ليدبر أمركم ، وبهذا اليوم الأحد 10 أبريل 1955 ختمت أخر صفحة في عمري الأول ، حيث دخلت في العمر الثاني الذي بلغ حتى اليوم خمسة عشر عامًا منذ وضعت قدمي في العربة السوداء في طريقها إلي مبني المباحث العامة بالقاهرة .


الباب الثاني : إلي السجن الحربي


الفصل الأول : ( رسل الموت والعبور إلي العالم الآخر - في السجن الحربي شاهدت القيامة مجسدة )

العربة السوداء :

انطلقت بنا عربة المباحث العامة السوداء ، كأنها عربة الموت في طريقها إلي القاهرة ، وأحسست وهي تبدأ في الانطلاق من أمام مبني مستشفي قليوب الأميري أن غيابي عن هذه البلدة سيطول ، ولما يمض علي سكناي بها شهران .. وانطبعت في ذهني المشاهد الأخيرة لهذه الساعة الفاصلة بين الدنيا والعالم الآخر .. مشهد غلامين يتيمين في المدينة خلفتهما ورائي يبكيان ، وسط زمرة من المخبرين بين جدران أربعة ، وليس تحتها كنز لهما .. ومشهد فريق من طلبة الثانوية التي كنت أعمل بها ، وهم مشدوهين لرؤية الموكب الصامت المريب ، الذي يتجه إلي العربة السوداء ، القابعة في خبث خارج حدود البلدة كلها ، متوارية عن الأنظار تحت ظلال الأشجار .. وأردت ألا أشعرهم بعجزي عن مباشرة أخلاقي المستعلية عن الخطوب المدلهمة ، فرفعت يدي لهم بالتحية ، مشفوعة بابتسامة توحي بالاطمئنان والثقة ، ردوها عليّ خفية دون أن تتحرك لهم شفاه ..

الغذاء الشهي :

جلست في مقعد السيارة الخلفي ، ويتأبطني ضابطان عن يمين وشمال ، وأُركب منصور فراش المدرسة في المقعد الأمامي بين المخبر والسائق ، وعبثًا حاول المسكين أن يتذرع شتى الحيل للانصراف ، ولكنهم انتهروه واصطحبوه عنوة إلي مبني المباحث العامة بالقاهرة .. وكم تلقي من مداعبات ثقيلة علي مدار الطريق ، فيما كان يؤمل من غذاء شهي مع مَنْ ظنهم زملائي بالجامعة ، وإذا بالمفاجأة تعقد لسانه ، وتملؤه بالذعر كان باديًا علي أذنيه المحمرتين كأنهما جمرتان ركَّبتا في رأسه ، مما كان ينتزع مني الابتسامة رغم ما أنا فيه من بلاء .. وقديمًا قالوا : شُّر البلية ما يضحك ..

طبيب أم مريض ؟!

كان يكتنفني إحساس كبير بالرضي ، وإصرار علي التحدي ، وشعور مريح بالتسليم للقضاء والقدر ، برغم أن هذا الاعتقال قد جاء قبل أوانه .. فلطالما كنت أرجئ تحملي لمسؤوليات الدعوة ليوم أفرغ فيه من مستوي معين من الدراسة ، وأخلص فيه من نوع معين من المشكلات ، حتى لا أكون كلاً علي الجماعة .. ولم يكن يعزيني استشهاد بعض الإخوة بقول للإمام الشهيد في الجماعة بأنها كالمستشفي ، ننقه فيه من أدراننا ، فماذا لو دخلت المستشفي كطبيب قبل أن أكون مريضًا ؟! هكذا كنت أقول لنفسي .. ولكني شاءت إرادة الله أن أدخلها مريضًا ، وبأسرع مما كنت أتوقع ، وهذا ما يداخلني ببعض الخشبة من ظروف الضعف والوهن ، لكن سرعان ما أعود من غفوتي ، فأستعصم بالله من وسوسة الشيطان الرجيم ، مؤملاً ألا يطول أمد هذا الاختبار العصيب ..

القاهرة ميتة :

لم تفلح الأغاني المبتذلة التي كان يرددها أحد الضباط علي مدار الطريق في جذب انتباهي إليه ، فقد كنت منفصلاً عن عالمه تمامًا ، بل وعن عالم القاهرة اللاهي بكل مشاهده من حولي .. أو ليست هذه هي القاهرة التي كانت تثير خيالي ؟! ما لي أراها اليوم لا روح فيها ! وأري كل ما فيها كسوق كبير للعب الأطفال والأراجيح ، وإن كانت لعبًا غريبة لا تجذب القلب إليها ! حقاً إن السعادة تنبع من حولنا من داخلنا .

ليس الشعر وحده :

أفقت من خواطري علي دخولنا إلي المبني الكئيب ، الذي يشيع اسمه الرعب في النفوس . وهناك تسلمني أيادي أخري ، نيط بها مرحلة أولية من مراحل التحقيق والعذاب .. وانصرفت العربة برسل الموت لحال سبيلها ، تبحث عن صيد آخر .. أصعدوني إلي الدور الثاني من المبني ، حيث الوجوه العابسة ، والحركة المذعورة داخل ردهات معتمة ، تناثرت علي جانبيها مقاعد خشبية مهملة ، تنتظر عليها الفريسة قدرها المحتوم ، المخبأ لها خلف الأبواب المغلقة .. ومرة أخري أجدني أغالب ابتسامة تكاد تفلت منى لرؤية منصور المسكين ، وهو في غيبوبة مما يري ويسمع .. وكانت دهشتي حين نودي عليه ، ثم غيب وراء أحد الأبواب لعدة دقائق ، خرج بعدها شاحب الوجه ، زائغ البصر ، يلتفت يمنة ويسرة كالمجنون إلي أن دفعوا به إلي سلم الخروج ، وبقيت وحدي أنتظر مصيري المجهول .. ولم يطل بي الانتظار ، مثلما لا يطول بالمقبور انتظار دخول فتاني القبر : منكر ونكير ، وهو مازال يسمع نعال مشيعيه .. أُدخلت كالقذيفة نفس الحجرة التي أخرج منها منصور لتوه ، واستقبلني وجهان عابسان صامتان ... تعمدا إهمالي والانشغال بالضحية التي تتلوي بين أيديهما من شدة الألم ..

إنهما يأمرانه بخلع قميصه ، ولأنهما يعلمان أنه مستحيل عليه أن يفعل فقد أخذا يساعدانه علي ذلك ، والأخ يئن ويتوجع ، ويعلو صراخه ؛ لأن القميص قد اختلط بلحمه وغار في جميع الجروح ، التي أحالت لونه الأبيض إلي الأحمر الفاني .. لا أثر تحت القميص للظهر ، وإنما هي عجينة حمراء ، كانت ظهراً يومًا ما .. فطِنت إلي مغزى هذا الاستعراض ، وإن سخرت في قرارة نفسي من هذا الأسلوب الصبياني في الإرهاب .. وبعد فراغهما من هذا المشهد الصامت ، أمراني أن أسدد البصر إلي صورة معلقة عن يميني وسألاني في جفاء :

- لمن هذه الصورة ؟

- للرئيس جمال عبد الناصر .

- هل تنطبق عليه الأوصاف البذيئة التي وردت في قصيدتك ؟

- لقد فتشتم كل ركن في البيت ، فهل عثرتم علي قصيدة غيرها ؟ .. وهل رأيتم شاعرًا لم ينظم إلا قصيدة واحدة ؟! كنت أحاول قدر طاقتي أن أوفق بين الصدق والإفلات من أيديهم .. دون أم أُحَمَّل نفسي مسؤولية الاعتراف الصريح بنظمي لها ، ودون أن أبدأ مواقف الجهاد بالكذب .. فعمدت إلي تحريك المنطق لأترك لهم باب الاستنتاج مفتوحًا في صالحي .. ومن ذلك قولي لهم :

- إن اعترافي بنظم القصيدة لن يؤخر أو يقدم في الحكم الذي سيصدر ضدي ، فأنا أعلم مقدمًا ما سأتعرض له من أحكام لإيوائي إخواني الهاربين ، ولعمل البطاقات الشخصية لهم ، ولمعونتي لبعض بيوتهم ، ولم أتنصل من شيء من ذلك فماذا عليّ لو أضفت عليها قرض الشعر ، فالقصيدة مجرد منشور من عشرات المنشورات التي نقرأها فكانت هذه الردود المقنعة لها أثرها المنطقي في بلبلة المحقق ، لأن كل ما كنت أخشاه هو ما سيصب عليَّ من عذاب ، لو تيقنوا أني قائلها ، دون نظر إلي أثرها في الحكم .

- صمت الضابط قليلاً ثم قال :

- انظر إلي صورة الرئيس ولا تحول بصرك عنها ..

صوبت بصري إليها ريثما أخذ في قراءة القصيدة بيتاً بيتاً بصوت مرتفع ، وعند كل معني لاذع يتوقف يسألني في زمجرة وغيظ..

- هل هو كذلك ؟! تكلم .. فأقول :

- يسأل من نظمها عن ذلك .

الفن في المعركة :

وأخذ يقرأ وأنا أسرح بخاطري في ضيق إلي اللحظة التي نظمتها فيها ، وأعجب من تصاريف القدر التي دفعتني إلي ذلك ، رغم أنه قد مضي عليّ أكثر من خمس سنوات لم أنظم بيتًا واحداً ، حيث انقطعت تمامًا عن ذلك مع بدء مرحلتي الجامعية .. ولكن هوايتي لأغاني الموسيقار محمد عبد الوهاب هي التي جرت عليّ ذلك ، ووضعتني في هذا المأزق العصيب ، حيث أنفت من تردادها وإخواني يصلون نار المحنة ، إذ صارت في أذني وقراً ، فكل شيء جميل مرهون بشروط معينة ، إذا فقدت صار قبيحاً .. لذلك نظمت هذه الأبيات لأتغنى بها ، وأواكب بالفن الرفيع معركة الحق مع الباطل ، دون أن تتخلف معاني الأغنية عن واجب الساعة ..

وخرجت مع أخي :

وحتى عندما حققت ذلك بهذا النظم أحسست من جديد أن نظم الشعر في موقف كهذا .. في الوقت الذي يبذل فيه المجاهدون أرواحهم وأموالهم إنما هو تعويض عن عجزي عن اللحوق بهم .. وأنه في هذا المقام صفة نقص ، إن وقفت عند هذا الحد ، وأدركت لماذا نزَّه الله عنه رسوله ، الذي أوتي الكمال في القول والفعل ، فأي حاجة لديه إذن لم تشبع ، وأي هدف لم يصل إليه حتى يكون له في الشعر مندوحة .. الشعر من صفاتنا أم المعصوم فما ينبغي له ..

فرغ الضابط من قراءة القصيدة ، وتوعدني شراً ، وأمر بإخراجي فوراً وهذا الأخ المسلوخ ، وحمدت الله أن انتهي المشهد الأول عند هذا الحد بهذا السؤال اليتيم .. جلسنا متجاورين صامتين ، كأن علي رؤوسنا الطير ، وحركة المخبرين من حولنا لا تنقطع ، حتى إذا ما حانت صلاة العشاء سمح لنا الحارس بأداء الصلاة .. ووجدتها فرصة لسؤال الأخ همسًا عن حاله وعما وراء انتظارنا .. فبادرتني ابتسامته الصافية ..

أنا أخوك محيي علم الدين من شُعبة روض الفرض بشبرا .

أنا طالب بليسانس الحقوق .. كمن مطمئناً ولا تجزع .. رغم جراحي فأنا في كامل السعادة والاطمئنان . ونصر الله قريب .

فازددت إعجابًا بهذا الذي يسرَّي عني ، وهو أحوج ما يكون إلي هذه التسرية ووجدتني أتضاءل أمام إيمانه الراسخ ، وابتسامته الراضية ، وشعرت أن أي عبارة تشجيع مني لا يمكن أن تضيف جديداً إلي روحه العالية .. ومع هذا فلم يكن بد من تبادل التصبر والاستبشار . ما أعجب الحب في الله !! لقد أضاء ظلمة نفوسنا فستضاء بها المكان ورحب . وفرصة أخري قصيرة أتاحها لنا تناول العشاء الذي اشتراه محيي لنا وللمخبرين أيضاً .. منها علمت انه علي هذا الحال منذ ثلاث ليال ، فتحققت من المأزق الذي سأتعرض له عندما يرحل محيي من هذا المكان ، وهو يتوقع ذلك بين لحظة وأخري ..إن حافظة نقودي ليس بها إلا نصف قرش تُرك سهواُ بها ، فكيف أنفق علي طعامي وطعام المخبرين إذا قُدَّر لي أن أبقي هنا عدة أيام آخر .. ولم أجد حرجًا من مصارحة محيي بذلك |لإقراضي خمسة قروش أتدبر بها أمري ، فبادر بتقديم خمسة وعشرين قرشاً هي كل ثروته تقريبًا ، مشفوعة بالاعتذار الشديد لشعوره بعدم كفايتها .. وخشيت ألا يكون قد ترك لنفسه شيئًا بعدما أخبرني بعدم أهمية النقود له ابتداء من الليلة ، حيث تقرر رحيله إلي السجن الحربي ، وهناك لا يسمح بحوزة نقود ولا غيرها ، حيث يجرد الواحد من كل شيء ، وحتى من حياته أحيانًا ..

وجاءت المفاجأة في أعقاب هذا الحديث ، أن تم ترحيلنا تباعًا في نفس الليلة والساعة إلي السجن الحربي .. ذلك المكان الرهيب ، الذي فاقت سمعته الكريهة كل ما وصفته كتب التاريخ علي مدار العصور .. إن له شبهًا بشيء واحد ليس علي هذه الأرض .. بالجحيم الموكل بها زبانية العذاب .. نعم .. لقد أتيح لي أن أري مشاهد القيامة مجسدة في هذا المكان ، وأن أري درجات العذاب الأليم ، وإن لم يتح لهؤلاء الزبانية أن يروا روضات الجنة الثاوية في صدورنا وسط كل هذا السعير .


الفصل الثاني : ( ظنوني ضابط مباحث فنجوت من الاستقبال الجهنمي - تعلمت الدرس الأول فقد دخلنا الإسلام من باب الفقه الأصغر)

لقد تمرد عليّ قلمي أكثر من أسبوعين قبل أن أخط ذكريات الأسابيع التي قضيتها بالسجن الحربي .. وكأني به يشفق علي القارئ من رؤية هذه الصفحة السوداء من تاريخ الإنسان ، أو كأني بكل ذرة في نفسي تتأبي وتستعصي علي قلمي أن ينكأ جراحها ، أو يثير كوامنها ، فأقامت الحواجز المصطنعة أمامه يومًا بعد يوم لتصرفه عن عزمه .. أو كأني بهما معًا قد تظاهرا عليّ ؛ خشية من ذكر تفاصيل ما جري معي ومع غيري ، سواء قبل أن تطأ قدماي السجن الحربي ، أم بعد مغادرته إلي مختلف السجون بعد صدور الأحكام .. ذلك أنني دخلت السجن الحربي في أبريل سنة 1955 ضمن موجة اعتقالات جديدة بدأت في شهر مارس من نفس العام أطلقوا عليها " تنظيم التمويل " حيث كان عمل هذا التنظيم الأساسي مركزاً في سد حاجة الأسر التي فقدت عائلها في موجة الاعتقالات الأولي ، التي أعقبت حادث المنشية في أكتوبر سنة 1954 .. وهم الذين فتكت بهم جميع أجهزة الأمن في ساحة السجن الحربي ، بكل مخزونها بالإيمان ، أم كان عن الذين جاءوا من بعدنا في شهر يوليو سنة 1955 حيث اكتشفت السلطات تنظيمًا ثالثاً تكون في أعقاب القبض علي تنظيم التمويل ، وكان هذا الأخير يقوم علي طلبة الجامعات ، ويتميز بالعزم علي الدخول في معركة مسلحة مع السلطة ، لفك أسر التنظيمين السابقين ، بعد أن عاينوا المعاملة الوحشية لتنظيم التمويل ، الذي كان يقوم بأغراض إنسانية ، مما جعلهم لا يفكرون في إعادة كرَّة التمويل ، في مواجهة الطغيان بما يستحقه من ردع بالقوة .. وقد أطلقت السلطات علي هذا التنظيم اسم " جهاز العنف " .. ورأت لستر كرامتها في الداخل والخارج أن تكتم أمر التنظيمين الآخرين ، وأن تقدمهما للمحاكمات السرية ، دون أي ضجة إعلامية .. وصبت جنون غضبها ووحشيتها علي " جهاز العنف " هذا في قصص يشيب لها الولدان .. وكان حظي في التنظيم الوسط ، وهو الخاص بالتمويل ، الذي كان أخف محنة وابتلاء من سابقه ولاحقه .. هذه الملاحم هي سر تمرد قلمي .. ومع هذا فإن كتابتي ستقصر علي ما حدث معي فقط ، أو ما وقع تحت سمعي وبصري ، دون الاسترسال إلي أبعد من ذلك ، ففيم الخشية إذن أيها القلم المتمرد .. وفيم التأبي إذن أيتها النفس اللوامة ؟

البوابة السوداء :

نقلتني إلي أبواب السجن الحربي عربة أخري ، أشد سواداً من أختها في هزيع من الليل أشد حلوكة من فائته .. وقبل أن تتحرك السيارة من مبني المباحث العامة جري حديث قصير بيني وبين أحد الضباط المرافقين ، حاولت فيه أن أتنصل من إحدى التهم الموجهة إلي ، فما أسرع أن قذفني بحقيبة يده في وجهي ، فغلي الدم في عروقي ، وقررت لساعتي ألا أكرر المحاولة مع أي أحد ؛ كي لا تتكرر الإهانة مرة أخري ، حتى ولو تحملت أكثر من التهم الموجهة إليّ .. وأعماني الغضب عن رؤية أي منظر من مناظر القاهرة في طريقنا إلي ثكنات الجيش بالعباسية . عبرنا نقط المراقبة والتفتيش حتى وصلنا إلي أبواب السجن الحربي .. وبعد محادثة تليفونية من الضابط المرافق كشف فيها عن مهمته ، سمح لثلاثتنا بالدخول من البوابة السوداء ، التي تفتح علي الجحيم ، وكان من حظي أن زبانية البوابة التي تستقبل كل قادم جديد بهجوم وحشي بكل ما تصل إليه أيديهم وأرجلهم ، فضلاً عن كعوب بنادقهم .. كان من حظي أنهم ظنوا ثلاثتنا من ضباط المباحث ، حيث كان كل منا يحمل حقيبة يده ، ونسير متجاورين أنا في الوسط وهما عن يمين وشمال ، حتى وصلنا إلي مكاتب التحقيق ليتم تسليمي لإدارة السجن الحربي ، لكن زبانية البوابة تشككوا في أمري ، وعز عليهم أن تضيع منهم هذه الفرصة فجاء أحدهم علي عجل ليستفسر من أحد الضباط ، فلما تبين أني من المعتقلين أشار لزملائه عليّ من كل صوب ، لولا تدخل أحد الضباط لإيقاف هذا السيل ريثما يتم تسليمي .. لست أدري من أين واتتني هذه القوة لصد هذا الهجوم الغاشم ، ولست أدري كيف نبت هذا الإصرار في نفسي ، وكيف شعرت بمزيد من التحدي والاستخفاف ..

ويبدو أن راحتي النفسية إزاء ما قمت به من مشاركة رمزية في هذا الجهاد كانت وراء تحملي لأي ألم حسي .. فآلامنا الحسية هي آلام نفسية في الدرجة الأولي ، فإذا سلمت النفس من الصراع والندم ، وذل المعصية ، وأسر الحاجة ، وفقر الإيمان كانت قادرة علي التصدي للجبال ، ووافتها قوة ليست من عالمنا .. والخشية في نفسي هي من فترات الضعف الروحي ، التي قد تفتح في نفسي بابًا إلي الألم الحسي .. ومع هذا فإن مشكلتي مع الألم الحسي هينة ، لأنها لن تخرج عن دائرة التعذيب العام المنصب علي الجميع ، وهو غير التعذيب الخاص الذي يجري أثناء التحقيق .. فليس في تحقيقاتي الخاصة ما يحملني علي الاعتراف بشيء جديد .. ففي ذهني أن الحكم بعدد من السنوات هي مسألة مفروغ منها بالنسبة لي عن أعمالي التي أتحمل مسؤوليتها راضيًا ولن أتنصل منها .. كانت هذه الخواطر تدور في رأسي ، وأنا أشهد منظر التسليم والتسلم ، من خلال العيون المتنمرة من ضباط السجن الحربي ، الذين سيتولون التحقيق معي ، وكذلك من خلال تلمظ الذئاب المفترسة بالسياط في أيديها ، في انتظار اللحظة الفاصلة ، وضباط المباحث يبذلون جهداً في دفعها عن الباب ، فتذهب للفتك بضحية أخري يتعالي صراخها , لا تلبث أن تعود أشد تعطشاً لدماء جديدة .. وأنا أتابع التدافع بألف عين وألف أذن ، وبشيء جديد في داخلي ن هو الإصرار والتحفز أيضًا .. شيء لم أكتشفه بهذا العمق من قبل .

حفل الاستقبال :

انصرف ضباط المباحث ، وبقيت وحدي بين أصحاب الحلل الصفراء ، ذوي الوجوه المنتفخة ، والملامح القاسية ، والعيون لجاحظة بنظراتها الجامدة ، والرقاب الغليظة المركبة علي أجسام فيلة ، فوق نفوس كريهة .. إنهم مجموعة ضباط السجن الحربي التي ستتولى التحقيق معي .. تمنيت ساعتها لو طال بقاء رجال المباحث العامة قليلاً .. لقد شعرت أنني أكثر تعاطفاً معهم من هذه الكائنات الممسوخة التي لا تحسن الكلام .. كان من بينهم ضابط ضئيل الجسم كأنه قرد ، تلمع الرتب العسكرية علي كتفيه ، عرفت فيما بعد أنه سيف اليزل ، بدأ تحقيقه معي بحفل الاستقبال المعتاد ، بأن فتح الباب لهذه الذئاب العاوية ، فدخلت كالمسعورة بالسياط والعصي وكعوب البنادق والأيدي والأرجل ، وأنا أتقي هذا السيل المنهمر ، بحقيبة يدي تارة وبالاحتماء بمكتب الضابط تارة أخري ، ولكن القرد القابع لا يلبث أن يقضي علي محاولة التشبث بكل هدوء ، ويدفعني إلي هذا الأتون مرة أخري ، حيث تقع الضربات المميتة علي أي مكان في جسمي ، إلي أن توقفت حفلة الاستقبال بعد وقت لا أدري كم طوله .. ومع هذا فهي تعتبر حفلة بسيطة ، إذا قورنت بما كان يصنع مع غيري ، فقد ابتدأ حفل الاستقبال الشهيد إبراهيم الطيب بتكسير عظام ساعديه علي حافة المكتب ، من خلال أجمل عبارات الترحيب ..

بعد حفل الاستقبال بدأت مراسم التحقيق بإخراجي من هذا المكان ، وسوقي ضربًا إلي مكان مظلم ، وبعد دقائق مشحونة بالحركة والأوامر خرج سيف اليزل من وكره ، ليستقبل الركب الطائر القادم من أعماق الظلام ، يسبقه غبار وفرقعة السياط والسباب ، ولم ألبث أن تبينت هذه الأشباح الطائرة التي وقفت أمامه ، صامتة كأنها التماثيل .. اثنان من عساكر السجن الحربي يسوقان أمامهما شخصًا محلوق الرأس ، شبه عاري ، تنزف دماءه كأنه أرنب مسلوخ .. سادت لحظة صمت وهيبة قطعها صوت المحقق الخشن :

- أنظر إلي هذا الولد أتعرفه ؟

- نظرت إلي هذا الولد ، ولم أصدق عيني ، ويا هول ما رأيت ، إنه زميلي عبد السلام الخوجة .. واشتد عجبي من رؤيته في حالة من الذعر تمنعه من أي كلام وقبل أن أرد علي أي سؤال كان قد اتجه بسؤال آخر إلي عبد السلام قائلاً له :

- كم أعطاك من المال ؟

- جنيهين ونصف يا فندم .

- وماذا قال لك وهو يسلمك النقود ؟

- هذا المبلغ أرسلني به الإخوان .

يا لغرابة ما أسمع .. ماذا دهي عبد السلام .. إن شيئًا من ذلك لم يحدث علي الإطلاق .. أي شيطان رجيم قد مسخ زميلي وصديقي ، وجعله يلقي بهذه الكذبة البلقاء بكل سهولة ويسر ، كأنها وقائع صحيحة .. لابد أنه في كرب عظيم .. أو لعله يوحي إليَّ أن أقول ذلك درءاً لشر أكبر .. يا له من اختيار صعب أن أصدقه أو أكذبه .. لما في أحدهما من تعذيب الجسم ، ولما في الآخر من عذاب الضمير .. وعمل ذهني بسرعة البرق فأجبت علي الفور :

- نعم أعطيته النقود وقلت له ذلك ..

وهنا بدأ الارتياح علي وجه المحقق ، فتغيرت لهجته ، ولانت ملامحه ، وهو يستزيدني من التفاصيل :

مَنْ هؤلاء الإخوان الذين زودوك بهذه المبالغ ؟ اذكرهم لنا بالاسم .. وكم كان إجمالي المبلغ قبل أن تقوم بتوزيعه علي الآخرين بما فيهم عبد السلام ؟ وكم مرة قمت بذلك ؟ و ..و .. فقطعت عليه استرساله قائلاً :

- إنما قلت له ذلك ليتقبل مني هذه المساعدة عن طيب خاطر ، بعد صدور الحكم عليه غيابيًا بالسجن عشر سنوات وفصله من عمله .

ولم أكد أتم عبارتي حتى فوجئت بضربة قاتلة علي رأسي من قبضة المحقق ، جعلت الشرر يتطاير من عيني ، وكانت هذه اللكمة إيذانا للزبانية بالانقضاض لتستحل دمي بكل ما لديها من وحشية ، فألقوني علي الأرض ومرغوني في التراب ، وداسوني بالأحذية الغليظة العمياء ، ثم جاء دور السياط لتلهب كل مكان في جسمي ، ثم عادوا الكرة بذلك كله مجتمعًا ، فلا أدري أي الآلام أدفع عن نفسي ، فكنت إذا أصابتني سهام .. تكسرت النصال علي النصال ..

الدرس الأول :

ودخل شيء من التنظيم علي هذه المعركة الهوجاء ، بدأ بكتم أنفاسي ، وخلع حذائي ، ثم أهووا علي قدمي العاريتين بالسياط ، التي خلتها قد اقتلعت مخي من رأسي ، وعز عليّ أن أستغيث أو أصرخ ، فأخذ صدري يغلي كالمرجل أسمعه يفور ويهدر ، والاستعانة بالله في هذا المقام رحمة مهداة ، وتفريغ لشحنة الصدر ، ولكني خشيت أن يظنوها ضعفًا .. فاتجهت ببصري الحديد إلي السماء وهمست لنفسي : اشهد يا رب علي ما يفعلون بالمؤمنين .. المؤمنين .. كلمة جديدة علي روحي تمامًا في هذه الساعة .. ليست جديدة علي لساني ولا أذني ، ولكنها جديدة علي قلبي ، أنطقها وأسمعها به ، ورغم ما أعطتني من الراحة والأمام إلا أنني شعرت بالحاجة إلي تعمق حقيقتها في كياني أكثر من أي وقت مضي .. كان الفضل في ذلك لتلك السياط ، ولشفا الموت الذي اقتربت منه .. ها آنذا أتحرج من الاتجاه ببصري إلي السماء ، خشية أن يكون في ذلك تحديداً للذات الإلهية يأباه التنزيه .. وها آنذا لا أصبر علي أن أترك بصري شارداً إلي المجهول .. هنا ضعفت في تربيتي الإيمانية ، اكتشفته تحت السياط ، كانت اهتماماتنا التشريعية والسياسية تغطي علي أم القضايا في صدورنا ، فلا تأخذ حقها من العناية والتأصيل ، لقد كانت تلك القضية هي الفقه الأكبر عند أبي حنيفة والسلف الصالح – رضي الله عنهم - .. أما نحن فقد دخلنا الإسلام من باب الفقه الأصغر ، بحثًا عن العدالة والمساواة ، وعدم الاستغلال ، وغير ذلك ، ولا بأس من ذلك علي أن نعمل ليدخل الإيمان في قلوبنا ، لنصل إلي الغاية الصحيحة لهذه المعركة الخالدة في النفوس ..

وقد وصلت إليها سريعًا تحت وقع السياط .. السياط التي أعادت ترتيب القضايا في حياتي .. الإيمان بالله واليوم الآخر أولاً ، وقضايا الشريعة العادلة ثانيًا .. وهكذا أخذت الدرس الأول في تلك المدرسة الربانية ، التي لم يضع منهجها بشر .. لئن عشت ليكونن لي مع قضايا الإيمان شأن آخر أكثر وضوحًا وتحديداً ، يفوق تحديد قضايا الشريعة .. يا رب لا تمتني علي هذا الحال .. أدعوك من كل قلبي .. امنحني فرصة أخري .. أرجعنا نعمل صالحنا غير الذي كنا نعمل إنا موقنون .. ثم وصلنا إلي المشهد الأخير ، عندما هداهم تفكيرهم الشيطاني إلي أن يأمروا أحد المعتقلين بجلدي بالسوط ، ولما تلكأ ألهبوا ظهره ورأسه بالسياط ، فلم يجد بداً من ذلك بصعوبة ومعاناة باديتين علي ملامحه ، ولكنني خففت من صراعه النفسي بانطلاقي في أغوار ظلام السجن غير ملتفت إلي نداءات التوقف من الزبانية ، مما اضطرهم إلي إلهاب الأخ المسكين ليتبعني بالسوط ، ولكن شاء الله أن يلهيهم عنَّا بفريسة جديدة انشغلوا بها ، فأوقفونا ووجوهنا لحائط السور ، ضمن صف طويل من الواقفين علي هذا الحال أيامًا وليالي ، إلي أن يتم توقيع كل منهم علي محضر التحقيق .

- وجاء وقوفي علي قيد خطوات مع أخ مكوم علي الأرض ، تنزف دماؤه حتى لكأنه جثة تتنفس ، يصدر منها كفحيح الأفعى ، أزعجني أول الأمر ثم تبينته كلامًا موجها لي في همس وإعياء .. وماذا عساى أن أفعل له وأنا في هذا الحال ، وركزت سمعي نحو صوته الذي يأتيني بصعوبة ، ولم أصدق ما أسمع .. إن الكلام موجة لي مباشرة .

- قواك الله يا أخي .. لا تجزع ولا تضعف .. لن يمر عليك أسوأ من هذا اليوم .. المحن طريق الدعوات .. نصر الله قريب .. أنا أخوك في الله عبد الغني دومة .. أنا بخير وسعيد والحمد لله .

فعلت كلماته فعل السحر في نفسي .. وعجبت لهذه الجرأة التي قد تكلفه البقية الباقية من حياته .. شدت كلماته من أزري ، لأن ما حدث معي هو مجرد لعب إذا ما قيس بما جري مع الأخ المؤمن .. سرت في نفسي قوة جديدة ، فلم أعد أبالي باللكمات والركلات التي تأتيني من خلفي من أرتال الجنود في ذهابهم وإيابهم علينا .. فالواقفين أمام السور كلاً مباح لجميع عساكر السجن الحربي ..

أغرب هواية !!!

كنت أسمع أصوات التعذيب من خلفي .. وسرعان ما تكونت لدي هواية من نوع غريب ، هي محاولة تمييز أنواع التعذيب من وقع الأصوات .. هذا صوت مصلوب علي العروسة ، تؤكده فرقعة السياط .

هذا صوت مخنوق ، يصدر من مغمور ، في نافورة المياه ، فيه حشرجة الموت وخشخشة الماء .. هذه الصرخات المتقطعة العنيفة أظنها من صعق التيار الكهربائي .. قلت في نفسي : ليتهم يعترفون بأي شيء ولو أدي الاعتراف إلي الموت ، ففي الموت لقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وهو أمر يتمناه المؤمن وإن كانت بشريته لا تحتمل التعذيب .. ثم لا ألبث أن أشعر بالانتشاء والانتصار كلما وجدت هذه الوسائل الجهنمية تعجز عن انتزاع توسل أو استعطاف ، بل كانت التسبيحات والتهليلات تشق عنان السماء .. وكانت الله أكبر .. ويا رب ، ولا إله إلا الله هي موسيقي الروح ونشيد السماء .. وقلما كنت أسمع صوتًا يستجدي ، وكان ذلك يعطيني علي الفور إحساسًا بأن صاحبه ضعيف الصلة بالإخوان ، أو أنه جاء علي سبيل الخطأ .. إنه نموذج للنفس العادية قبل أن تعرف عظمة الإيمان تمامًا مثل حال سحرة فرعون قبل أن يؤمنوا بما جاء به موسي ، كانوا أحرص الناس علي الحياة ، وكانوا عبيداً للدنيا والجاه .. يود أحدهم لو يعمر ألف سنة .. وليس كذلك حالهم بعد الإيمان .

ويأتيني صوت من بعيد يقطع عليّ هذه الخواطر .. صوت كنت أطرب له من قبل ذلك . أما الآن فقد شعرت بمقدار الجرم في سماعه ، لأنه لم يعد صوت طرب بل صوت للتخدير والإلهاء ، وطمس الحقائق ، إنه صوت كوكب الشرق صاحبة العصمة الآنسة أم كلثوم .. ورغاء القطيع وثغاؤه يشق عنان السماء بالتشجيع والاستحسان .

ونادوا عليّ ..

سمعت اسمي يُنَادَي عليه ..: وعندما يُنَادَي علي أي شخص تسرع إليه الذئاب المدربة لتسوقه بالسياط إلي المكاتب .. وجدتني أمام الضابط القرد ، وأمامه صديقي عبد السلام صامتًا ، ألقيت عليه السلام فلم يرد ، بدا الضابط في توجيه أسئلته المعادة عن إيوائي للهاربين ، وعن القصيدة ، ولكنه هذه المرة يعتبرها من قبيل توزيع المنشورات .. وسؤال عن البطاقات الشخصية التي عملتها لإخواني ، ووقف عند المعونات المالية ، وحاول أن يكرر قصة الجنيهين ونصف .. من الذين سلموني المبلغ ؟ ما هي أسماؤهم ؟ كم كان إجمالي المبلغ قبل التوزيع ؟ كم مرة قمت بذلك ؟ فلم تتغير إجابتي عن ذي قبل ، فاستشاط غضبًا ، وهجم علينا أنا وعبد السلام بالكرسي يضربنا به في كل مكان ، وكلما حاولنا تفادي الضربات أوقفنا ووجوهنا للحائط ، وانهال به علي رؤوسنا .. حتى سالت دماؤنا .. وعلي الدماء تتفتح شهية الذئاب . إن لها حاسة شم قوية نحو الدماء ، فدخلت علينا من كل فج وانتهي المشهد بتوقيعنا علي محضر التحقيق ، وبعده تسلمتنا الذئاب الجائعة سوقًا بالسياط وجرياً في الظلام علي غير هدي ، حتى أوصلتنا إلي سجن 4 وهو مبني مستقل ، يجاوره مبني مشابه هو سجن 3 ، وبجوارهما مبني ثالث مخصص للمرضي يسمي الشفخانة ، وهذه المباني الثلاث تقف كالأقزام بجوار المبني الضخم العملاق الذي يسمي السجن الكبير بأدواره الثلاثة ، التي تضم آلاف المعتقلين من القضايا السابقة ..

وفي سجن 4 يقابلك استقبال آخر من الزبانية الموكلين به علي نفس المستوي الوحشي أثناء تسليم الأمانات ، وأثناء حلق الشعر .. ودخلت في دوامة جديدة ، وجدتني في نهايتها ملقي علي أرض الزنزانة رقم 3 ، فخلعت حذائي وتوسدته ، وتمددت بكامل ملابسي ، ورحت في نوم عميق .


الفصل الثالث : ( نمت في حراسة الحاسة السادسة - ما معني قول القاضي رفعت الجلسة ؟ )

كنت واهمًا في أمل الظفر بنومة مريحة فوق أرض الزنزانة بعد هذه الليلة العصيبة ، إذ فتح باب الزنزانة بركلة قوية من حذاء غليظ ، فقمت مذعورا علي منظر – جاويش – محنق غليظ ، بيده سوط طويل قد لف طرفه الرفيع علي يده اليسري ، ابتسم ابتسامة ساخرة ، كشفت عن أنياب كاشرة ، قبل أن يهوي بالسوط علي رأسي لأعي التعليمات جيداً ..

- اسمع يا ولد .. يا ابن .. إياك أن تنام في أي لحظة من الليل أو النهار ، وكن في حالة انتباه عسكري في أي وقت أفتح فيه الباب ، وإلا مزقت رأسك بهذا السوط ، ثم زم شفتيه وهوي به علي رأسي ووجهي علي سبيل التأكيد ..

أساليب ثورية :

وبعد انصرافه فشلت كل محاولات مقاومة النوم خشية أن أصبح نهبًا للسوط ، وتذكرت لتوى منظراً رأيته وأنا طالب بالمعلمين العليا ، لفأر ألقوه طعامًا لثعبان من ثعابين التجارب ولم يقترب منه الثعبان لأكثر من يومين لم ينم خلالها الفأر المسكين ، وكلما ثقلت رأسه بالنوم وأغمض عينيه لحظة انتفض مذعوراً حتى بلغ منه الكرب أشده ، وكان يغفو وهو أمام الثعبان ثم يفتح عينيه بأقصى صعوبة مع أي حركة للثعبان ، حتى تمزقت قلوبنا من هذا المنظر ، وتمنينا لو ابتلعه الثعبان لنستريح ويستريح .. وعلمت أيضًا فيما بعد أنهم اتبعوا نفس الوسيلة مع الأستاذ الهضيبي قبل موعد تقديمه للمحاكمة العلنية ، إذ رتبوا دوريات الدخول عليه بالزنزانة كل عدة دقائق علي مدار الليل والنهارن حتى يجعلوا منه أمثولة أمام المحكمة ، ولكن الله أحبط كيدهم .. وعلمت أيضًا فيما بعد أنهم أصبوا ألوانا من العذاب علي قيادات تنظيم الجامعات ، بسبب موقفهم الجريء في المحاكمة ، واستهانتهم بهيئة المحكمة والنظام الذي تمثله ، وبلغ من ضراوة التعذيب أن تساقط عدد كبير منهم كأعجاز نخل خاوية ، بعد يوم عصيب من الضرب والزحف عرايا ، وإرهاقهم بصعود السلالم ونزولها علي أيديهم وأرجلهم ، ثم رصهم لتسير كتيبة الضرب فوق ظهورهم بالأحذية الغليظة بخطوات عسكرية ..

يحكي لي شاهد عيان أن أقسي ما كان في ختام المعمعة هو عجز بعض الإخوان عن مقاومة النوم ، حتى إن بعضهم كان يغفو للحظات بين وآخر من أوضاع التعذيب ، لكن محنة بعضهم جاءت وهم وقوف حيث ستعرضه الإغفاءة للسقوط علي الأرض فيداس بالأحذية العمياء ، وينكل به أشد تنكيل ، ولم يجد وسيلة مقاومة محنة النوم إلا بالتوسل إلي احد الزبانية ليلهبه بالسوط ؛ لتغطي آلام الجسم علي كابوس النوم ، لينجو من السقوط علي الأرض بعواقبه الوخيمة ، فبعض الشر أهون من بعض .. ومن ثم فالحرمان من النوم كان وسيلة تعذيب خطيرة ، عرفوا كيف يستغلونها ، وهو تطور في الأساليب – الثورية – وصلوا به إلي تشويه الروح بعد أن قضوا وترهم من تشويه الجسد .. وكانت غلبة النعاس علينا رحمة مهداة لنا ، وسط هذه الأهوال ، امتن الله به علي أهل بدر :- إذ يغشيكم النعاس أمنة منه – وله المنة به علي المجاهدين في كل عصر ..

الحاسة السادسة :

كان طبيعيًا إذن أن تفشل كل محاولاتي في مقاومة النوم ، رغم هذا الوعيد من السجان ، فأخذت حذري بارتداء حُلَّتِي كاملة ، بما فيها ذلك الحذاء ، ثم توسدت حقيبتي ونمت ممدداً علي هذا الحال ؛ ليسهل عليّ القيام مع أول طرقة علي الباب ... ورحت في نوم عميق لعدة دقائق ، أفقت بعدها نشيطًا ، بإحساس قوى بقرب مجيء الحارس ، وسرعان ما صح توقعي بفتحه المفاجئ للباب ، فإذا به يجدني في وقفة عسكرية ، لا أثر فيها للنوم علي عيني ، فحياني بضربات السياط وانصرف .. وما يكاد يغلق الباب حتى أروح في نوم عميق لفترة تطول أو تقصر ، حسب إحساسي الروحي باقتراب الخطر ، حيث أهب من نومي فجأة بإحساس قوي بقرب مجيء الحارس ، وبعد لحظات يصح توقعي وتتكرر القصة .. وتعجبت من هذه الظاهرة الروحية ، التي منحني الله بها الأمن ، فلم أعد أخشي طوارئ الحارس ن إذ قامت هذه الحاسة الروحية علي حراستي من أي مفاجأة .. وكان تتبعي لهذه الظاهرة فيه من المتعة والاندهاش ما أنساني هول ما أنا فيه ، وما أشعرني بمعية الله لي أكثر من أي وقت مضي .. وكنت أتمني لو ظل الباب مقفولاً علي الدوام ، فغلق الزنزانة وسط هذا الجحيم هو مصدر الأمان الوحيد .. وأشرق الصباح وأنا علي هذا الحال ، في محاورة الحارس ، فلم يظفر بي نائمًا ولو مرة واحدة في تلك الليلة الطويلة ..

الضحك عبادة :

تبينت معالم الزنزانة علي ضوء الصباح ، فوقعت عيناي علي آيات كريمة من القرآن ، وعلي بعض الأدعية المأثورة ، مخطوطة فوق الجدران ، فكانت بلسما لروحي " فالكلمة الطيبة هي نبي الله فيك " كما قال عيسي – عليه السلام – لأحد الحواريين .. واعتبرتها أيضًا تحية القلب المؤمن بظهر الغيب ، ولم يكف لساني عن ترديدها ، حتى انشرح صدري ، وأطمأن خاطري إلي فشل وعجز هؤلاء الذين يريدون أن يقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، كما اكتشفت وجود قصرية من الجلد الأسود في ركن الزنزانة ، تستخدم كمبولة ، وإناء للشرب أيضًا .. وعند استلام الطعام نقف صفوفًا صامتة تتلقي السياط المنهمرة ، والويل لمن يضبط وهو يهمس لأخيه وكنت أغمض عيني ، كي لا أري العسكري وهو مستخدم يديه كمغرفة في توزيع الطعام حتى لا تعافه نفسي .. ولما علم " جاويش " السجن أنني وَقَّعْتَ علي محضر التحقيق بالمكاتب ، نقلني إلي زنزانة 71- بالدور الثاني مع ستة آخرين ؛ لأن استمرار الحبس الانفرادي قاصر علي من هم قيد التحقيق .. وكان وجودي بين عدد من الإخوة هو والإفراج سواء ، حيث شعرت بسعادة أنستني التفكير بالخروج .. وكانت المفاجأة أن وجدت بينهم ذلك الأخ الذي أرغمه علي جلدي أثناء التحقيق ، وغفرت له ذلك عندما تبينت من التعارف أن اسمه أحمد الجلاد .. كان معي في الزنزانة الإخوة الشيخ سعيد عوض سلو ، وعبد الله حسن أيوب ، وأحمد عبد الحليم ، وأنور مصطفي .

كنا نمضي سحابة النهار في التسبيح ن والاستغفار ، وقراءة القرآن ، بفضل إرشادات الأخ الشيخ سعيد عوض سلو . وكان لا يترخص لنا بالضحك أو المرح ؛ إذ يعتبرهما تهاونًا لا يليق مع الله في مثل هذا البلاء الشديد وكنت أقول له :

- ليس علي هذا الحد يا أخ سعيد ، فإني أعتبر الضحك وسط أهوالهم عبادة .. ألا تري أن التبختر والفخر يبغضهما الله إلا في ميدان القتال .. وأن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما رأي أبا دجانة وهو يتبختر بسيفه بين الصفوف قال ما معناه : إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا المقام .. صدقني إذ قلت لك : إني أري الضحك آية من الله مهداة إلينا في هذا المكان .. أنا شخصيًا لا أري سببًا معينًا يدعوني إلي الضحك ، وأعتقد أن الإخوة جميعهم كذلك .. ولكن تذكرنا لمناظر التحقيق ولغباء المحققين والجنود علي السواء يجعلنا نسترسل في الضحك ونغرق فيه .. فاجعلنا يا أخي ساعة وساعة .. وهل نملك الحياد أمام حالة " الجاويش " الذي أفرغ معجون الأسنان رغيف من الخبز ، وهو يلتهمه متصوراً انه قشطة ، يتناولها الإخوان خلسة كل صباح ، أو نملك الحياد أمام حال الجندي الذي يقلل من شأن من يحمل الدكتوراه ويقول له : ظننتك حصلت علي " الكولوريا " يعني " البكالوريا " .. أو ذلك الذي يسأل عن تمام الزنزانة ، فإن قالوا له : سبعة ، قال لهم في غضب وأين خامسكم ؟! ألا تري في اختيارهم للتعامل معنا عدداً من الحيوانات تنقصها الذيول شيئًا طريفاً ، يدعو إلي الضحك ، خصوصًا عندما يتسابقون في الشر ، للظفر بعلاوة الإجرام ؟ .. ويكاد يقتنع الشيخ سعيد بكلامي ، وبتأمين الإخوة عليه ، ثم يستدرك قائلاً : - يكفينا ما ضاع من وقت في هذا الكلام ، وشدوا عزيمتكم في ترديد هذا الدعاء مائة مرة ، يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث .. وكنا نحبه ونسرع في الاستجابة لرغبته ، بترديد الأدعية والأذكار سحابة النهار ..

كله بره الزنازين ..

كانت لحظات فتح الزنازين لاستلام الطعام ، أو الذهاب إلي دورة المياه ، أو للاستدعاء للتحقيق ، هي أشد اللحظات علي نفوسنا ؛ لأن أي سبب لفتح الزنازين يكون دائمًا مقرونًا بالإيذاء الشديد ، الذي أصبحت السياط هي أخفها محنة ... وكانت عبارة " كله بره الزنازين " من رقيب السجن كافية لتدفق المئات خارج أبوابها في لمح البصر ، حتى ولو جاء النداء في جوف الليل القارص ، ولا مجال هنا للاعتذار بمرض ، أو كبر سن ، أو بأي عذر كان فالسياط العمياء الصماء لا ترق لحال ، ولا تسمع لشكاة .. وقلت في نفسي : لو كان نداء " الله أكبر " يحدث في نفوسنا ما تحدثه " كله بره الزنازين " لفتح الله علينا أبواب السماء ، ولفتح بنا أبواب الأرض .. ويقيني أنه كان كذلك في صدر الإسلام ، مما حدا بأحد الصحابة أن يتبرع ببستانه لله ، لأنه شغله يومًا تكبيرة الإحرام ، ومما جعل بعض الصحابة يُعَزُّونَ أخاهم علي فوات إقامة الصلاة .. هكذا كانوا يسارعون بقوة من داخلهم ، وهكذا صرنا نتحرك بسائق من خارجنا .. ولذا اختلف واقعنا عن واقعهم .. فإذا ما توالي النداء بالنزول إلي فناء السجن كنا كشلال هادر يصب في لحظات في صفوفه منتظمة ، لا تسمع فيها إلا همسًا .. وهكذا يفعل الخوف بالإنسان حين يفتقد ذاتية الحركة نحو هدفه ، بدافع من الشوق والحب ..

تبت يا سعدية :

ألفنا هذه الحياة ونسينا الدنيا وما فيها ، وكأننا منذ ولدنا نعيش في هذا الجحيم ، ولولا الركون إلي الله واستشعارنا معاني الجهاد في سبيله لطارت منا الأفئدة ، ولطاش صواب العقول ، أو لتحجرت القلوب .. ولكن ها هي القلوب من حولي تزداد لينًا ورقة مع كل يوم يمر علينا علي هذا الحال .. فبينما هي شديدة التأثر لما يقع علي الإخوان من إيذاء ، إذا بها قوية كالصخر حين تكون هي محل الاختبار ... فالشجاعة والرحمة صنوان في قلب المؤمن .. وكان طبيعيًا إذن أن أفزع في جوف الليل علي صوت بكاء إخوان الزنزانة من حولي ، ثم تبينت أنه بكاء إشفاق ، لا بكاء خوف وجزع ، وعرفت السبب من ذلك الصوت الذي يصعد من إحدى الزنازين الأرضية ، فيشق سكون الليل الساجي في صراخ متواصل .. " تبت يا سعدية .. سامحيني يا سعدية " .. إنه صوت الضابط الطيار ذي الجسم الفارغ ، الذي قبض عليه منذ يومين بسبب شكوى كيدية من زوجته سعدية عن صلته بالإخوان .. وأكبر دليل علي كذب دعواها هو انهيار هذا البطل السريع أمام أول دفعة من التعذيب .. ولقد تحمل في شجاعة ما مر عليه لمدة يوم ، علي أمل أن يظفر بمقابلة أحد زملائه الضباط ، فيخبره بما فعل زبانية الإجرام من الجنود .. وكان حظه سعيداً أو سيئًا عندما مر عليه الضابط الطبيب المنوط بالسجن ، فأدي الطيار له التحية العسكرية متظلمًا مما وقع عليه ، بعد أن كشف عن إصاباته في التعذيب .. فابتسم الطبيب الضابط في سخرية ، ورفع يده بكل برودة وقسوة وصفعه بها ، وكانت هذه الصفعة إيذانًا بالانهيار ، وتوالي سقوط هذه العمارة الشامخة طابقًا إثر طابق ، حتى ذهبت قامته الطويلة وتغيرت ملامحه الوجيهة ، فكنا لا نراه إلا راكعاً ، أو ساجداً ، أمام أي عسكري يمر عليه ، واستمرأ المجرمون التشفي في هذه الرتبة العسكرية ، فكانوا يخصونه بالإهانات وبالأوامر الحقيرة .. حتى وصلوه إلي حافة الجنون ، وكان ما كان منه في تلك الليلة العصيبة ، التي أخذ يهذي فيها طوال الليل مما أرق القلوب الرحيمة ، وأطلق الألسنة به بالدعاء ، وتمني أخ في الزنزانة لو استطاع أن يحمل عنه جزءاً من العذاب ليخلي سبيله .. وربما كان ما جري له من مشاهدته لما يجري في زنزانة 24 الشهيرة المواجهة له والمخصصة لتعليق الإخوة كالذبائح ، أو من مشاهدته لما يجري بالثلاجة بالزنزانة 25 ..

الإعداد للمحكمة :

ما هي إلا ليال حتى قمنا فزعين من نومنا مرة أخري ، علي سماع أصوات استغاثة جماعية ، تنبعث من فناء السجن وأخذ كل منا يتساءل .. تري ماذا حدث في البلد ، حتى يقبضوا علي هذه الأعداد الهائلة مرة واحدة ، ويصبوا عليها التعذيب بهذا الشكل الجماعي ؟! ولم يتحرك لهذا الحدث إلا واحد منا هو أقدامنا وروداً علي الزنزانة ، حيث قال :

- ألزموا أماكنكم يا إخوة ، ولا تنظروا من ثقب الباب فتتسببوا في فتحة علينا فهم يعدون الإخوة للمحكمة غداً ، قبل تسلمهم الادعاءات ، حتى لا يفكر أحد منهم في تغيير حرف واحد من محضر التحقيق الذي وقعَّ عليه .

- ولذلك فهم أعدوا لأمثالك مستوي أرقي من السياط .. فعندما تسمع القاضي يقول : رفعت الجلسة للاستراحة .. إعلم أنها للاستراحة من شجاعة أمثالك بوسائل أخري أشد في "بدروم" المحكمة تحت منصة القاضي مباشرة ، وبعد أن تعي الدرس جيداً تستأنف المحكمة جلساتها .

- أنا لا أصدق ما تقول !!

- وصدق أيضًا أن هناك من هم أشجع منك ، ولم يرهبهم كل ذلك من فضح الأساليب الهمجية .. وقد حدث هذا فكشفوا عن ظهورهم في ساحة المحكمة . وأظهروا روح التحدي والاستهانة بالطغيان .. أتدرون ماذا كانت النتيجة ؟ وهل سمعتم عن أبي جهل جديد اسمه حمزة البسيوني ؟ إنه مدير السجون الحربية الذي يلتقط تليفونيًا جلسات المحاكمة ، وهو في مكتبه بالسجن ، ثم يسجل أسماء الذين لم يستفيدوا من كل ما مر عليهم ؛ ليكون في استقبالهم عند عودتهم .. لا تعجبوا لكلامي ، لأن الأعجب منه أن الأحكام معدة سلفًا ، حتى ولو سبح المتهمون بحمد النظام .. وإخوانكم يذهبون وهم يعلمون هذا ، ولكنهم يرون الشجاعة وقول الحق والتبليغ عن الله ورفع راية الإسلام أمانة في كل مكان ، وهي أوجب ما تكون أمام استعلاء الباطل وجبروته ، وحسبهم أن تسجل مواقفهم المضيئة في صفحاتهم .. وما النصر بعد ذلك إلا من عند الله .. النصر الذي وعد الله الذين ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا .

أين الأخ الحبيّب ؟؟

وجاء يومي كما يقولون دون تحضير أو ادعاء – حسب مفهوم زبانية السجن – فلم تكن قضيتنا علي مستوي ذلك ، أو لعل الله قد أنساهم أو أشغلهم :. وأمام مكاتب التحقيق تسلمنا الادعاءات بعد أن وزع المحقق الأحكام علي فريق منا – أنتم ستأخذون عشر سنوات سجن .. وأنتم عشرة أشغال .. وأنتم .. وظنناه في البداية يمزح ثم وقف صفوف الإخوان صائحًا أين الأخ الحبَّيب .. أين صاحب الخطاب الغرامي ؟ .. فتعجب الجميع من هذا النداء الحبيب وابتسمت عيونهم ، لمعرفة ما وراء هذا النداء ، الذي يبدو أن المحقق يصر عليه ،ـ لأنه كرر النداء مشفوعًا بغمزة من عينيه تفيد أنه يعرفه .. وتلفت الإخوان في حذر لمعرفة المقصود بهذا النداء ، وسكتَّ ولم أرد ؛ لعله ينصرف إلي أمر آخر ويقلع عن هذا الإصرار .. لكن يبدو أنه علي إصراره وقبل أن يحقق غرضه بذكر اسمي بادرته قائلاً :

- نعم .. أنا هنا .. فضحك في خبث وهو ينظر إلي الإخوان ويقول :

- أنت إذًا صاحب الخطاب الغرامي ؟

- نعم .. أعددته لفتاة أنوي الزواج بها ، انصحها فيه بالانضمام إلي قسم الأخوات ، لتثقف ثقافة إسلامية ، وكنت انتظر موافقة أهلها علي الزواج قبل إرساله لها .

فتغاضي عن إجابتي وأراد إحراجي بسؤال آخر :

- قل لنا : الحب حلال أم حرام ؟

- حلال إذا كان حبًا هادفًا إلي زواج ، وحرام إذا كان حبًا عابثًا .

- هل الإخوان يحبون ؟

- نعم ولكن حبهم هادف .

قطعت عليه السبيل بإجاباتي المباشرة التي لم يكن يتوقعها ، فتوعدني قائلاً :

- سنعطيك شهر عسل محترم .

- أنا مؤمن بقضاء الله وقدره .

وانتهت المناظرة العجيبة ، التي أدخلت بعض التسوية علي قلوب الإخوان وقد احتفظ رجال المباحث بهذا الخطاب ، الذي عثروا عليه في أثناء تفتيش شقتي ، كدليل علي صلتي بالإخوان لما فيه من دعوة المخطوبة إلي التزود برسائل الإخوان ؛ لأنهم لم يعثروا علي اسمي في أي شُعبة ، وليكون في الوقت نفسه ظرفًا مشدداً في الحكم .


الفصل الرابع : ( تحدثت العيون وانهمرت دمعة الوفاء - صدرت الأحكام .. فاحتار البوليس الحربي )

في اليوم التالي لتسلمنا الادعاءات نقلنا بعربات البوليس الحربي إلي المحكمة المنعقدة في مبني سينما الكلية الحربية برئاسة اللواء صلاح حتاتة . ولم يفت رجال البوليس الحربي نصيبهم من إيذائنا ، والتزم كلّ منا كرسيه المخصص له في الأتوبيس بحيث لا يتحاور اثنان .. جلسنا في صمت تام ، لا يقطعه إلا صيحات رجال البوليس الحربي وشتائمهم ، ووقع أحذيتهم الغليظة ، وبين لحظة وأخري يهوي أحدهم علي أي واحد منا بما في يده علي سبيل الإرهاب تارة ، أو أخذاً بشبهة حديث تارة أخري ، جو مشحون بالقلق والتوتر ، ولكنه مشحون بالإصرار والتحدي ، والرضا بالقضاء والقدر أيضًا .

كنت ألحظ ذلك في بريق العيون التي تكلمنا بها كثيراً وفي ارتفاع الجباه في الملامح الباسمة .. وكنت جالسًا بدوري لا يشغلني أمر المحاكمة في شيء ، حيث قدرت سلفًا نصيبي فيها من الحكم . حتى يوم أن استطاع أحد إخواني أن يحاذيني في فناء السجن بشتى الحيل ، ليهمس في أذني بتصنع الولاء للحكومة ، والمطالبة بالتجاوز عن خطئي ، لم استسغ منه هذا المنطق وشكرت عاطفته وأفهمته أنني لن أغير كلمة واحدة مما قلته في التحقيق .. لذلك جلست غير منشغل بشيء ، سوى مراقبة الطريق ، حتى عندما وزعوا علينا كتيبات بأقلام كبار المفكرين تنال من الإخوان وتحط من شأنهم ، جلست أقرأ مستهجنًا أسلوبهم الفج في اختيار المكان والزمان المناسبين للقراءة .

دمعة وفاء :

قطع عليَّ سكوتي صوت أحد رجال البوليس الحربي وهو يجوب ممر العربة باحثًا عني .. مردداً اسمي .. يا للطامة الكبرى .. هل ثمة توصية خاصة بي .. لإعادة تحضيري للمحاكمة في تلك الحجرة المظلمة ، التي سمعنا عن وجودها تحت منصة القاضي ، والتي تقشعر جلودنا مما يحدث فيها .. تجاهلت نداءه لعله ييأس ويبحث عني في عربة أخري .. ولكن إصراره واضح ولا مفر من الرد ، فاستجمعت كل قوتي وقلت :

- نعم أنا عبد الحليم خفاجي .. قلتها وأنا أتحفز لتقبل الضربات الغاشمة عند رؤيته قادمًا نحوي .. دنا مني ثم همس في أذني :

- تعرف سيد مرزوق وعلي بدوي .. و ..

- لا أعرفهم .. وسرح فكري فيما عساه قد أصابهم .. إنهم أصدقائي من طلبة قليوب الثانوية ويسكنون بالقناطر الخيرية .. إن أحدهم دلني علي محطة صوت الحق ، التي تذيع ضد مصر ، فهل لذلك دخل في القبض عليهم أم ماذا ؟ أدرك الشرطي سر إنكاري فقال :

- غنهم يعرفونك جيداً وآنت تعرفهم .. كن مطمئنًا .. إنهم يحملون إليك تحياتهم ، ويطمئنوك علي إخوتك ، فقد زارهم في بيتك .. ولقد كلفوني بعمل أي شيء لك ، فاطلب ما شئت أو اكتب رسالة لأهلك .. أحسست وأنا أستمع إليه كأن شعاعًا من النور قد ألقي فجأة علي الظلام المحيط بي .. وأن يداً حانية قد ضمدت كل جراح نفسي .. وأن لمحة الوفاء هذه أثمن عندي من ملء الأرض ذهبًا .. وشعرت بحب مماثل للرقيب زكريا ، الذي أعاد إلي إيماني بوجود الخير في الدنيا رغم غلبة الشر ..

وشكرته واعتذرت عن تعريضه لأي خطر .. ولما انصرف وجدت دموع الحب والوفاء تفيض من عيني بدرجة لم أعهدها من قبل ، من قبل ، وفشلت تمامًا في إيقاف انهمارها ؛ خشية أن يفسرها إخواني تفسيراً آخر .. ولم تتوقف هذه الدموع إلا بعد أن غسلت روحي تمامًا .

المفارقة الطيبة ..

كان عددنا في ذلك اليوم 314 أخاً ، وهم مجموع جهاز التمويل ، وهو عدد المسلمين نفسه في غزوة بدر .. شعرنا لهذه المفارقة الطيبة بأثر جميل في نفوسنا ، كانت مقاعد قاعة المحكمة خالية من الجمهور ؛ لأن المحاكمات سرية ، إلا أن ذلك لم يمنع المدعي العام أن يستهل مرافعته بقوله : يا قضاة الشعب ، مشيراً بيده إلي الجمهور الوهمي .. وللحقيقة فقد كنت ألحظ ابتسامة خفيفة علي وجهه ، تفيد أنه غير مقتنع بما يقول . وأمام هيئة المحكمة لم يخرج ما قلته عما جاء في التحقيق بزيادة طفيفة ، كانت مفاجأة غريبة لي اضطرتني إلي الدفاع عنها بإصرار ، وذلك عندما هاجمني رئيس المحكمة قائلاً :

- قل لنا من كان سيشترك معك في نسف مجلس الدولة ؟ لقد دهشت من هذا الاتهام الذي لم يدر بخلدي ! وبعد أخذ ورد ومطالبة مني بالدليل إذا به يشير إلي الوراق التي ضبطت عندي أثناء تفتيش البيت ، وقد جاءت عبارة مجلس الدولة مكتوبة علي هامش هذه الأوراق ، فبينت له أنها تشير إلي إحدى مواد الدراسة ، التي كانت مقررة علينا بالسنة الثانية بكلية الحقوق ، واستشهدت علي ذلك بالمدعي العام نفسه باعتباره دارس القانون الوحيد في هيئة المحكمة الموقرة .

وفي وقت وجيز تمت محاكمة هذا العدد الكبير ، وعدنا إلي السجن الحربي ، انتظاراً للنطق بالحكم ، وقبل أن يتم تسليمنا لإدارة السجن ظهر أمامي الرقيب زكريا مرة أخري ، بإصرار أكبر بأن أكتب لأهلي رسالة علي الأقل ، وقد أحضر معه الورقة من أجل ذلك .. فقلت له

- إن كنت مصراً فإن لي طلبًا واحداً أسألك عنه يوم أن يأذن الله بالتقاء الوجوه في ظروف أفضل .. قال بجد :

- اطلب ما شئت .

- تعاهد الله أمامي ألا تمتد يدك بسوء إلي أي أخ طائعًا مختاراً ، وأن تمنع زملاءك من ذلك ما استطعت ، لان القضية كبيرة ، والحقائق غائبة عنكم والفرصة كلها متاحة لطرف واحد .. وهذا أفضل ما تقدمه لي في محنتي .

- أعاهد الله علي ذلك .. وستجدني عند حسن ظنك .

- إذاً فإلي اللقاء ، والله علي ما تقول شهيد .

وافترقنا لم أره من يومها حتى تاريخ كتابة هذه السطور ، وإن كنت أحتفظ له في قلبي بالحب والعرفان ، حتى يأذن القدر باللقاء فالإسلام دين الوفاء .


درس جديد في الإيمان :

عدنا بعد أيام نحن أعضاء جهاز التمويل بموكب البوليس الحربي نفسه ، وبكامل عددنا البالغ ثلاثمائة وأربعة عشر فرداً ، للاستماع إلي منطوق الأحكام المعدة سلفًا ، ودخل هذا الصف الطويل من باب وخرج من باب آخر مروراً بالمنصة التي تجلس عليها هيئة المحكمة ، بعد أداء التحية العسكرية لها عند سماع الحكم .. وأشفعت منطوق الحكم بسجني عشر سنوات مع الأشغال الشاقة ، بالتحية العسكرية ، وبقولي : حسبنا الله ونعم الوكيل .. خرجت من الباب الثاني أكثر اطمئنانًا ورضي . وفي أقل من ساعة تم توزيع الأحكام ، التي تراوحت بين السجن والأشغال الشاقة والإعدام ، ولم يظفر بالبراءة أو وقف التنفيذ سوي عدد قليل .. وفي طريق عودتنا إلي السجن الحربي كنا في عرس حقيقي ، من شيوع المرح وكثرة الضحك والمناداة علي بعضنا في مختلف العربات للاطمئنان علي نوع الأحكام ، وتساهل معنا الحراس تعاطفًا مع ظروفنا ، وكانوا مثلنا متلهفين علي معرفة حكم هذا الأخ أو ذاك .. ربما لإبلاغ من أوصاهم من الأهل بذلك .. لكن ما بال فريقًا من الإخوان مازال منخرطًا في البكاء .. نحن نعرف السبب ونحترم مشاعرهم ، أما الحراس فهم الذين أخذهم العجب وأدهشهم الأمر ، وأعياهم الاقتناع بسبب الضحك أو البكاء فكان الحارس عندما يتقدم لمواساة من يبكي ويسأله عن الحكم الصادر عليه . يجيبه الأخ البراءة أو وقف التنفيذ ، فإذا ما ذهب لتهنئة من يمرحون ويضحكون علم أن أحكامهم السجن أو الأشغال أو الإعدام .. رأيت الحيرة علي وجوه الجنود ، وكنت مثلهم لهذه الظاهرة الربانية في التأليف بين الأرواح حتى لم يعد لأحكام البشر بينها وزن علي الإطلاق .. فصاحب البراءة يبكي في خجل لحرمانه من شرف الابتلاء في سبيل الله ، وصاحب الأحكام يسعد بمعاينة فضل الله .. كان هذا المنظر درسًا جديداً لي في عالم الإيمان .

أعادوا تسكيننا من جديد بعد تصنيفنا حسب الأحكام .. وبهذا كان نصيبي بالزنزانة 9 مع مجموعة من المحكوم عليهم بالأشغال .. وعادت معاملة السجن القاسية كما كانت باستثناء توقف إجراءات التحقيق حيث لا وارد جديد . بدأنا ننصهر في حياتنا الجديدة ، بإحساس كبير بالجسد الواحد ، وقد نما هذا الشعور خاصة بعد صدور الأحكام ، وقد قوى من استعدادنا للوقوف في وجه أي خطر ، فها نحن جميعًا ندير ظهورنا للدنيا ، ونستعد لخوض ميادين جديدة ، لا عون لنا عليها من كل أسباب الأرض ، من أهل أو مال أو سلطان ، ولا سند لنا فيها إلا الله وما حبانا من نعمة الإخاء فيه .

الليلة الجامعة :

ونجح الإخوان بالسجن الكبير في الاتصال بالموجودين بسجن 4 ، أو بسجن 3 ، أو بالمستشفي ، ونجح من يعملون في الخدمات في نقل تعليماتهم إلي الجميع ، وكان أول عام لنا في صلاة التسابيح في وقت واحد في جميع الزنازين ، ولم أكن قد سمعت عنها من قبل ، كانت بالفعل شيئًا جديداً ومناسباً تمامًا لواقع الحال ، فأديناها بشعور كبير بالارتياح رغم طولها .. وتكرر اللقاء الجماعي علي مائدة الرحمن في ليلة أخري علي ترديد دعاء الكرب العظيم المأثور عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، بعد سوء مقابلة زعماء ثقيف له بالطائف ، إذ استند إلي ظهر بستان وقال : اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني علي الناس .. يا أرحم الراحمين .. إلي من تكلني .. إلي بعيد يتجهمني ، أو إلي عدو ملكته أمري ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل عليّ غضبك ، أو ينزل بي سخطك ، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، لك العتبى حتى ترضي ، ولا حول ولا قوة إلا بك .. فاهتز له عرش الرحمن وجاءه ملك الجبال يقول له : إن الله يقرئك السلام .. ويقول لك : مرني أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " بل إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله .. اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " .

خفت القيود ولم تعد الصلة بين الإخوان متعذرة في جميع أرجاء السجن .. واستطعت بدوري أن أدبر لقائي بأخي عبد الحق محروس ، عند عربة توزيع الخبز علي مندوبي أقسام السجن ، وجاء عبد الحق مع مندوبي السجن الكبير ، وشددت علي يده في صمت ، وكان قد حكم عليه بدوره بعشر سنوات سجن مع وقف التنفيذ في إحدى القضايا .. وغمرتني هذه اللحظة بسعادة دائمة لأيام طويلة .. ومن عجيب أن أنجح في مقابلة عبد الحق وهو في بني آخر ، وأن أعجز حتى اليوم عن مقابلة رفعت القويسني ، أو عفيفي القاضي ، أو سعد الشيخ أو غيرهم من أعضاء شُعبة قريتنا ، ومنهم من هو معي في المبني نفسه ، لأن الزنازين مغلقة علي الدوام ، والحركة متاحة فقط لمن يعملون في طلب الخدمات .. ولكن الأمل في مقابلتهم والحديث معهم يزداد مع اقتراب أيام عيد الفطر ، حيث ترفع السياط وتفتح الزنازين ويؤذن لنا بالتزاور .. إنها أيام من الجنة تقترب منا ، سنحس فيها قبل الناس جميعًا ، وفي الدنيا قبل الآخرة بنعمة قوله تعالي : مفتحة لهم الأبواب " .


الفصل الخامس : ( الهتاف المحظور يدوي في جنبات السجن - بماذا كافأ عبد الناصر منقذه من حصار الفالوجة ؟ )

دوت أركان السجن بنشيد الانتصار الرباني في صبيحة يوم العيد .. وقد تركت الأبواب مفتوحة من بعد الفجر ، دون السماح بالخروج منها إلي ما بعد الانتهاء من وقت الصلاة والفراغ من التكبير .. التكبير الذي لا يستطيع أحد منا أن يلفظ بكلماته في غير اليوم .. حيث يشتبه مع شعار الإخوان الذي تعمل له الحكومة ألف حساب .. ولكننا اليوم قفي أمان من أي شر ، فكان لوقعه الجميل أثر كبير في نفوسنا ، أعاد إليها يقينها في الله القاهر فوق عباده . من كل مكان في السجن تلتقط أرواحنا قبل آذاننا – الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله .. الله أكبر .. ولله الحمد .

وتهيأنا بلبس حللنا كاملة ، حتى الذين كانت تمنعهم الجروح والأربطة جاهدوا للظهور في أحسن زينة .. ويا لها من لحظة ملائكية عندما انطلقنا خارج الزنازين يعانق بعضنا بعضًا ، أو عندما نري من أثقلتهم الأربطة أو أثخنتهم الجراح ، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعمي عقبي الدار .. لم تشهد عيناي مثل هذه المشاهد الربانية من قبل .. كأنما شفت الأجساد ، فلم يعد موجود سوي الأرواح المشرقة النقية ، ترفرف في ملكوت السماء .. ولم تلبث هذه الأرواح الطاهرة أن انتظمت في صفين متقابلين للتهنئة بالعيد ، ولكن الصفوف تضطرب وتهتز أمام العناق الطويل ، والأشواق الحارة ، والحب الصادق ، والدموع الفياضة .. عالم جديد غريب من صفاء أهل الجنة ، وتراحمهم ، وتوادهم .. وتمت سعادتي بلقاء رفعت وعبد السلام وعفيفي وغيرهم من طلائع النور .. لقد رأيت الشيطان يهرب من نفوس زبانية التعذيب فتطأطئ رؤوسها خجلاً أمام زحف النور ، ويسارعون بدورهم إلي عناق الإخوان ، والاعتذار لهم بالأوامر العسكرية .. رأيت أحد السجانة ينتحي جانبًا ، وينتحب في صمت ، يا الله إن لهم قلوبًا كقلوبنا ، ولكن الشيطان سلكهم في سقر مثل فرعون مثل فرعون من قبل ، وهو يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار فبئس الورد المورود ، ولقد تحرك قلب أحد هؤلاء العتلات فنطق لسانه باللغة التي يفهمها قائلاً :

- إن فيكم يا أولاد الكلب فضيلة قذرة وهي أنكم تحبون بعضكم البعض .

جزاء سنمار :

انقضت أيام العيد ، وعاد كل شيء علي ما كان عليه .. وبدأنا نتهيأ للترحيل للسجون .. كان كل منا يتعجل هذا اليوم ، ويعيش فيه بخياله مع إخوانه الذين سبقوه إليها .. ولكن ما يجري في صبيحة هذا اليوم من استفزاز ، وإرهاب ، وإخراج فوري لنا من الزنازين ، تاركين كل أمتعتنا وراءنا ، والسياط العمياء تنوشنا ، وتسوقنا إلي ساحة السجن الكبير ؛ حيث تم حشد جميع الإخوان من جميع مباني السجن ، في صفوف متراصة صامتة لا تتكلم ، بحيث لا تسمع إلا همسًا من هذه الآلاف العديدة ، والزبانية تجري مذعورة هنا وهناك ، ورتبًا عسكرية تدخل وتخرج ، فتزيد الجو توتراً ورهبة ، والانتظار الطويل في شمس يونيه منذ الصباح إلي ما بعد الظهر ، والشمس القوية مسلطة فوق رؤوسنا الحليقة ، مما جعل البعض يتساقطون من الإعياء ، والويل لمن يسقط ، فلابد له من أن يفيق ثانية علي لهيب السياط .. كل هذا لا يتفق وجو الترحيل إلي السجون .. فما الذي جري .. هذا هو سؤال كل واحد لنفسه ، فليس في مقدور أحد أن يسأله لأحد آخر ، وإلا ذهب السائل والمسؤول وراء الشمس .. وربما كان الذهاب وراءها أهون من وقوفها هي فوق رؤوسنا حتى تصبب عرقنا كيوم الحشر .. ألم نسمع أنه في يوم الحشر يتمني الناس أن ينصرفوا من هوله وشدته ولو إلي النار ؟! وها نحن اليوم كذلك تري أن الانصراف إلي أي شكل من أشكال التعذيب المعهود من هذا العذاب الجديد .

هل كانت وقفة الحشر هذه في الدنيا ضرورية في تربيتنا الإيمانية ، لتكتمل في تصورنا ومشاعرنا كل مشاهد القيامة بين جدران السجن الحربي .. وإذا ما يجري في ملك الله هو بإرادته أولاً وأخيراً ، وليس عبثاً فإني أري فيما مر علينا مصداق ذلك . بدأ السبب يتضح عندما نصبت العروسة في مركز هذا الحشد البشري .. ثم نودي علي ثلاثة جُرَّدوا من ملابسهم ، وصلبوا عليها ، ثم جلدوا ، وارتفع صباح الأول والثاني أثناء الجلد ، أما الثالث فلم ينطق ببنت شفة ، مما أثلج صدورنا ، وخفف عنا هول الموقف ، حتى لكأننا نحن الذين قمنا بجلد عساكر السجن الحربي ، لما شعرنا به من اعتزاز بهذه الشجاعة ، ثم زال عجبنا عندما علمنا التفاصيل .. فالأول : أحد جنود السجن قام بتهريب خطابات إلي أهل المعتقلين الآخرين ، والثاني : أحد اليهود المتهمين في قضايا التجسس .. والثالث – الذي لم يئن ولم يتوجع -: هو معروف الحضري ، الرجل الأسطورة ، الذي سجل علي أرض فلسطين أروع البطولات ، كان منها اختراق الحصار المفروض علي الجيش المصري بالفالوجة بقافلة من أربعين جملاً ، حملت المؤن والعتاد لجمال عبد الناصر ورفاقه في هذه المحنة ، ومكنتهم من الصمود في وجه اليهود ، وعدم الاستسلام ، ودخل معروف بسبب ذلك في اشتباك مع إحدى الدوريات اليهودية حتى جرح وأسر ، ولم يتهاون لحظة في حق دينه وأمته ، وكان مثلاً مشرفًا للضابط المصري المسلم في الحرب والأسر .. وكان لذلك ذا رصيد كبير في نفوس الجيش المصري ، وبالتالي في نفس صديقه عبد الناصر قبل أن يختار معروف الجندية في معسكر الإيمان ، فلقي جزاء سنمار .

يوم الرحيل :

حمدنا الله أن جاء يوم الرحيل إلي السجون والليمانات في 5 يونيه 1954 ، وخلت الشهرين اللذين أمضيتهما بالسجن الحربي عامين كاملين .. تسلمنا الأمانات ، وبالتالي فقد تسلمت الخمسة والعشرين قرشًا اليتيمة .. وعز عليّ أن أقابل الأخ عفيفي القاضي ، والطالب بالسنة الأولي كلية الآداب ، محكومًا عليه بخمس سنوات سجن ؛ لإيوائه الأخ إبراهيم ربيع ، فقررت إعطاءه المبلغ كاملاً للتسرية عنه ، قائلاً له :

- ضع هذا المبلغ في أمانتك عندما تصل للسجن .. تقبله هدية مني ، وقد جاءني كذلك هدية من أخ سابق قابلته ليلة اعتقالي بالمباحث العامة .

- وأنت ؟

- لست في حاجة إليه .. فضلاً عن معرفتي بكثير من الإخوة بالليمان .. أما أنت فحديث عهد بالقضية كلها ، ريثما تتبين معالم حياتك الجديدة .

- أحتفظ به ، وخذ منى مثله ، لنتساوى في السراء والضراء . وأصر علي ذلك ، واحترمت إرادته .

وما هي إلا ساعة من زمان حتى وصلت العربات لنقل المحكوم عليهم بالسجن ، لترحيلهم إلي سجون المنيا وأسيوط وبني سويف ، وأعقبتها عربات أخري مخصصة للمائة المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة ؛ لترحيلهم إلي ليمان طره ، بعد وضع كل أخ وسجان في كلبش واحد .. وبدأت اللوريات تتحرك من أمام البوابة السوداء مرة أخري في اتجاه الصحراء .. وألقينا نظرة أخيرة وأسيفة علي مبني السجن الحربي ، الذي بناه الانجليز في الحرب العالمية الثانية لعقاب العسكريين ، فجعلته الثورة للشعب .. ونظرة أخري ألقيناها من شغاف قلوبنا علي تبة الشهداء الرابضة في مواجهة البوابة السوداء ، تشهد عليها يوم القيامة كيف سمحت لمصاصي الدماء - حمزة البسيوني مدير السجن الحربي ، ومساعده محمود عبد الجواد – بالخروج تحت جنح الليل بالجثث العديدة للشهداء ليواروهم فيها .

نظرة عن شمال ملؤها الحزن والأسى علي المبني الذي دنس أرض الوطن وتاريخه المجيد ، ونظرة عن يمين ملؤها الإكبار والإجلال لطلائع النور الأحياء عند ربهم ، فأرواحهم الزكية تلوح لنا بمناديل الجنة الخضراء ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا . نظرتان عميقتان إلي حيث تغرب شمس وتشرق أخري ، ونحن في طريقنا إلي عالمنا الجديد في ليمان طره .



الباب الثالث : في الليمان


الفصل الأول : ( ودخلنا عالم الأهوال الجديد وقبور الأحياء - درس جديد في الإيثار وترتيب الأولويات )

قطع بنا رتل العربات طريقًا صحراويًا خارج مدينة القاهرة ، مارًا بمقابر الخفير ، متواريًا عن أعين الناس ، شعور من يسرقون شعبًا في وضوح النهار ، حتى وصلنا في النهاية إلي بوابة ضخمة ، تذكرنا ببوابات الحصون القديمة ، هي بوابة ليمان طره .. وبعد أن نظر حارس البوابة من كوة في الباب ، عاد وفتح بابًا جانبيًا يسمح بدخول ضابط الحملة ، وبعد دقائق فتح الباب الكبير علي مصراعيه ، بما فيه من كُوَي وأبواب ، ليستقبل هذا الحدث الكبير ، ودخل الإخوان في طابور طويل إلي مكان فسيح أمام كاتب الإدارة ، جلسنا فيه القرفصاء ، صفين متجاورين ، في انتظار عملية التسليم والتسلم ، قبل الولوج في العالم الجديد ، الذي كنا نسمع عن أهواله منذ نعومة أظفارنا .. فأصبحنا اليوم نزلائه ..

التعليمات :

وقف أمامنا ضابط منتفخ البطن ، مهمل الثياب ، ممتلئ الجسم ، متوسط الطول ، تبدو عليه أمارات الطيبة ، ظنناه لأول مرة أحد الرقباء .. ثم تبين أنه المقدم عطوة وكيل الليمان .. أخذ يبصرنا بالتعليمات ..

- النقود هنا ممنوعة ، فأخرجوا كل ما معكم لوضعها في الأمانات ، حتى لا تعرضوا أنفسكم للجزاء .

- اخلعوا كل ما علي أجسامكم من ملابس مدنية .. أو ما في أرجلكم من أحذية ، أو ما في أيديكم من ساعات ، أو ما علي أعينكم من نظارات ، وضعوها في صُرَرْ موضحًا عليها عناوين الأهل ؛ لإرسالها إليهم .

- ليتخير كل منكم حلة زرقاء من هذا الكوم من ملابس السجن .. وقميصًا وسروالاً من هذا الكوم الأبيض بدل الملابس الداخلية ؛ لأن الملابس الداخلية المدنية هنا ممنوعة ، فلا تعرضوا أنفسكم للجزاء . • حانت مني التفاتة إلي جاري في الصف ، وهو يتابع التعليمات فإذا به عبد المنعم معبد المحكوم عليه بالإعدام ، والذي لم يعلم بتخفيف الحكم إلي الأشغال المؤبدة إلا ساعة ترحيلنا اليوم من الحربي إلي الليمان ، بعد إخراجه من الحبس الإنفرادى ؛ انتظاراً للتنفيذ .. فقررت أن أهبه كل ما معي من نقود لا فضل لي فيها ، وكان خمسين قرشًا ، ليضعها في أمانته ، فلما اعتذر أردت قسمتها بيننا فاعتذر ، وأصر علي أن آخذ ربع مبلغه لتتساوي ، ولم أجد بدا من تلبية رغبته ، فارتفع رصيدي إلي الخمسة والسبعين قرشًا . كان عطوة قد فرغ من تعليماته ، وفوض الأخ علي رياض في الإشراف علي التنفيذ .. فنبهنا الأخ إلي أمور أخري تخصنا ، وقال :

الدرس الجديد :

- معنا عدد من الإخوة ليس معهم نقود ، ومن المصلحة ترك مبلغ في أمانات كل واحد ، تحسبًا لجميع الاحتمالات ، فقد لا نستطيع أن نتقابل بسهولة بعد ذلك ، فعلي القادر أن يتبرع ، وعلي الخالي أن يسجل اسمه .. فخجلت من نفسي أن أتبرع بجزء من مبلغ جاءني كله من عند الله ، فأسرعت بالتبرع بالخمسة والسبعين قرشًا كاملة ، وسجلت اسمي ، في سجل الخالين ، علي أمل أن أتساوي مع أصحاب الحدود الدنيا ، فتكون أماناتي ثلاثين قرشًا مثلاً .. فكانت المفاجأة أن كان نصيبي بعد التوزيع جنيهًا كاملاً ، بزيادة قدرها ربع جنيه جديد .. هذه الواقعة البسيطة التي ابتدأت بمشاطرة أخي محيي علم الدين لما معه بالمباحث العامة ، ثم تكرار العملية مع عفيفي بالسجن الحربي ، ومع عبد المنعم بالليمان أعطتني درسًا جديداً في معاني الإيثار وثمراته المباركة .

هرعنا إلي ملابس السجن نتجاذبها ، ونتبارى في لبسها في مرح واغتباط واستعراض .. وسادنا جو من المرح ونحن في هذه الملابس التنكرية ، غطي علي الإحساس بالخوف من المجهول .. فمازالت أعماقنا لا تأخذ كل ما يجري مأخذ الجد .. وكان شعورنا أننا في رحلة أو في معسكر كشفي قد يطول أمده قليلاً ، ولكن كل دقائقه في الميزان .. حتى يأتي وعد الله .. لم يتغير المرح حتى بعد أن قام أمين المخزن بتسليم كل أخ " بُرشًا " متآكلاً وبطانيتين تفوح منهما الروائح الكريهة ، ليس فيهما من البطانية إلا أسمها ، فهي يابسة مهترئة مما علق بها من القاذورات والزيوت من كثرة استعمالها قبل ذلك .. ثم أدخلونا مكانًا يسمي " الإيراد " عبارة عن صفين من الزنازين ، بينهما ممر ينتهي ببوابة ضخمة ، يقف عليها سجان الإيراد .. بكل زنزانة " جردل " للماء ، وآخر للبول ، و " قروانة " لاستلام الطعام لخمسة من النزلاء ، واستقر بي الحال مع الإخوة أنور مصطفي – العربجي – ومحمد السيد عفيفي – الطالب – ومحمد قوارة – عامل مطبعة ، ومحمد المصري – طالب بالجامعة .. وعلمنا أن التعليمات تقضي ببقاء الإيراد الجديد عدة أيام في هذا المكان ، ريثما يتم الكشف عليهم طبيًا ، وتصنيفهم علي ضوء هذا الكشف في أعمال الجبل .. وما أن أغلقت علينا أبواب الزنزانات ؛ حتى شعرت بشعور غريب لم اشعر به في أي زنزانة دخلتها من قبل .

قبور الأحياء :

هذا الشعور جاء من الطريقة الجهنمية التي بنيت بها الزنازين ، فجدرانها مرتفعة تشبه الأبراج ، وليس لها أي منفذ للضوء سوي كوة تعلو قرب السقف ، وباب الزنزانة كأنه باب قبر ، وهناك كوة أخري في وسط السقف ، مغطاة بطبقات من السلك ؛ لتعمل علي تجديد الهواء مع كوة الباب ، وفوق السلك غطاء خشبي مرتفع قليلاً ، بحيث يسمح للهواء أن يسمر ، ولا يسمح لضوء الشمس بالتسلل في أي وقت ، والجدران مطلية بالسواد .. فجو الزنزانة مظلم بالليل والنهار ، فضلاً عن شعور نزلائها بأنهم في قاع جب .. ويتخذ حراس الليل مواقعهم فوق ظهور هذه الزنازين .. وعندما يكلموننا من كوة السقف للسؤال عن مصير بعض أقربائهم ، يأتيهم ردنا من مكان سحيق ، أو من جوف القبور ، ولكننا سكان قبور تزعجهم نداءات الحراس طوال الليل ووقع أحذيتهم الغليظة .. فهذه الزنازين هي بحق قبور الأحياء ، وهي أوقع من " منزل الأموات " التي أطلقها دستوفسكي علي نزلاء سجنه .

تمثيلية :

- وحيث إن للبيئة دخلاً في تشكيل ثقافة الإنسان ، فقد أوحي إلينا القبر بتمثيلية – أرواح الشهداء – ووزعنا الأدوار علينا جميعًا ، بحيث يعبر كل واحد عن عصر من عصور التاريخ ، وكنت أمثل عصرنا الحديث كأحد شهداء الإخوان – وجري الحوار طريفًا ، مليئاً بالمفارقات المضحكة ، بسبب المتغيرات الحضارية في المصطلحات والأساليب ، بحيث كنت أجد صعوبة في إفهام الشهداء الأربعة معني الترام والطيارة ، وفي شرح عمل الكهرباء ، وكيف عذبوا بها البعض منا ، وكيف مات البعض منا برصاص البنادق .. وهكذا أخذنا نسمر حتى اَحَلْنَا حفرة القبر إلي روضة من رياض الجنة ، وتشاء الأقدار أن يستشهد ثلاثة من هؤلاء الإخوة في مثل هذا الشهر بعد عامين ، في مذبحة الليمان الشهيرة التي سيأتي ذكرها إن شاء الله .

- وعندما فتحت علينا الأبواب في صباح اليوم التالي ، للذهاب إلي الحمام لتوزيع " اليمك " كانت فرحتنا غامرة بالتقائنا جميعًا في الممر الفاصل بين صفي الزنازين ن ولولا " تسليكنا " لسجان البوابة وسجان الإيراد وغيرهما لما تم ذلك ؛ لأن التعليمات تقضي بفتح كل زنزانة علي حدة .. وفهمنا معني " التسليك " و " اليمك " وبدأنا نفهم أن للسجون لغة تعامل أخري ، مليئة بالرموز والشفرات ، مرتكزة علي قاعدة صلبة من كلمات تركية عتيقة مثل : " دوغرى " " كينجي " " شنجي " " برنجي " " صابك " وغيرها ، ومن بعيد وعلي سطح مبني مرتفع يطل علي عنبر الإيراد الملاصق لعنبر التأديب ، وقف ثلاثة من الإخوة يلوحون لنا .. فبادلناهم التحية ، ولما أطمئنوا قذفوا لنا بلفافة كبيرة بداخلها بطة ، أرادت كل زنزانة أن تؤثر الأخرى بها ولكن الأخ المسؤول رأي توزيعها علي المائة فرد ، فالعبرة بما فيها من معني لا بقيمتها الغذائية .. كان هذا المبني المرتفع الذي أشرف منه الإخوة الثلاثة هو المستشفي المخصص للمرضي من النزلاء ، وكان هؤلاء الإخوة الثلاثة هم : سيد قطب ، ومحمد الهواش ، وآخر لا أذكره .. اللقاء الكبير ..

بعد العرض علي الطبيب والتصنيف ، جاء وقت التقائنا إلي عنبر الإخوان المحكوم عليهم في القضايا السابقة .. واصطف إخوان العنبر رقم 1 في صفين ، لاستقبالنا بالأشواق والأحضان من باب العنبر وعلي درج السلم ، حتى الدور الثالث المخصص للإخوان ن وتعانقت القلوب والأرواح قبل الأبدان ، وكأننا متعارفون منذ سنين طويلة ، وكانت فرحتنا مزدوجة باللقاء وبالخروج من مقابر الأحياء .. لم أكن أظن أن أحداً علي ظهر الأرض أسعد منا في هذه الأيام ، ولا أذكر أن التفكير في الإفراج قد خطر ببالي .. ففي أتون مواقف الجهاد ينعم الله علي جنوده بأعظم منة ، وهي نعمة النفوس المطمئنة ، ولا أكون مبالغًا إذا قلت : إن نوعًا من الإشفاق كان يداخل قلوبنا من فجأة الإفراج قبل أن ترتوي نفوسنا من عالمها الفردوسي .. فنحن هنا نعترف من معين الإيمان أولاً ، ومن بلورة قضايانا المنهجية والحركية ثانيًا ، في هذا المصنع الرباني الذي تأخذ فيه الأولويات ترتيبا جذريًا ، خلاف ما ألفناه من معاهدنا الدنيا قبل ذلك .

ولكن نبدأ حياتنا الجديدة علي نور ، فقد حرص إخواننا بعد انقضاء فترة الضيافة علي إطلاعنا علي الأحداث التي حدثت في الليمان قبل حضورنا بأسابيع قليلة ، والتي كانت وراء الإسراع بترحيل عدد كبير من الإخوان إلي سجن الواحات الخارجية .


الفصل الثاني : ( أعلن الإخوان الإضراب العام فأضرب كل الليمان - لماذا رفض صالح أبو رقيق لغة التهديد ؟ )

قال الراوي : حدثت لدينا أحداث في الأشهر القليلة الماضية ، بعضها يسر ، وبعضها لا يسر . أما تلك التي يسركم معرفتها ، ولعلكم قرأتم عنها في الصحف قبل اعتقالكم ، فقد كانت في النصف الثاني من فبراير ، عندما تقرر رفع القيود الحديدية من أرجل المساجين ، ومن حول خصورهم ، حيث كانت تقيد رجلا كل مسجون بقيد متصل مع حزام حديدي حول الخصر بسلسلة . ويختلف وزن الحديد من مسجون لآخر ، حسب المدة المحكوم به عليه . فلكل مسجون معاملة خاصة ومتدرجة .. وكان التلاعب في الأوزان ، والتحايل لخلعها في غير أوقات العمل ، مصدر احتكاكات كثيرة مع إدارة الليمان . وانتهت هذه القصة الطويلة من حياة السجون والليمان بحضور المشير عبد الحكيم عامر إلي الليمان ، وقيامه بكسر حديد أحد المساجين بنفسه ، في حفل عام ، إيذانا بإنهاء هذه المشكلة .. وكان للخلاص من الحديد فرحة في عنابر الليمان الأربعة تعادل الإفراج . ولم نكد نستروح الحياة بعد السلاسل ، حتى دهمتنا أحداث لا تسر ، بََطَلَها هذا العطوة وكيل الليمان ، الذي استقبلكم بكلامه المعسول . لقد درج ضباط السجن علي حَبْكّ مؤامرات ضد بعضهم البعض ، وكدنا نحن الإخوان أن نصير جميعًا ضحية مكائدهم ، " لولا أن الله سلم " وكان عطوة هو الرأس المدبر لها .

- نحن لا نصدق ما تقول عن عطوة .. لقد حبب إلينا استقباله حياة الليمان .

- لأنكم لم تروا الوجه الآخر من شخصية الأفعى .. ففي سبيل حلمه بمنصب مدير الليمان لا يهمه أن يقدم مئات الضحايا قربانًا لطموحه الصغير . وهذا ما قد كاد أن يحدث في الليمان قبل وصولكم هنا . استفزازات ..

تبدأ القصة من حيث دأب المقدم عطوة علي دوام الكيد للواء حسن سيد أحمد مدير الليمان ، علي أمل أن يحل محله في منصبه يومًا . وتفتق ذهنه عن خلق الإشكالات التي تضعف مركزه . كان اللواء حسن سيد أحمد واضح التعاطف مع الإخوان .. وكم دفع عنا أخطار كثيرة .. ولعل في إحباطه لمؤامرة عطوة دليلاً جديداً علي ذلك .. قام عطوة أثناء وجود الإخوان بالجبل بحملة تفتيش علي زنازينهم ، المنبثة في جميع أدوار العنابر ؛ لأن السياسة العليا كانت تري عدم تسكين الإخوان في مكان واحد ، جمع في هذه الجولة التفتيشية كل ما كان لنا من أمتعة ؛ بحجة أنها أشياء ممنوعة ، كما قام بتمزيق ما عثر عليه من ملابس داخلية .. واقترن ذلك بعد قيام " النوباتجية " – " بتوزيع " " اليمك " كالمعتاد . تشاور الإخوان بعد عودتهم الجبل ، واستقروا علي الإضراب ؛ احتجاجًا علي هذه المعاملة السيئة من جانب الإدارة ، وانتقلت عدوي الإضراب إلي جميع النزلاء في العنابر الأربعة من المساجين العاديين ، وعددهم يزيد علي الأربعة آلاف ، وكان هذا الإضراب العام هو الحدث الأول من نوعه في تاريخ الليمان . اجتماع اللواء حسن سيد أحمد في اليوم التالي بالإخوان ، وخطب فينا قائلاً :

- إنني لا أستطيع في تعاملي معكم أن أنفصل عن واجبي كرجل أمن ، مطالب بحفظ النظام ، ولا عن شعوري بالتعاطف معكم في محنتكم كمواطن يعرف قدركم .. ومخاطبتي لكم اليوم من خلال صفتي الثانية . وأطالبكم بالعدول عن الإضراب ، وإتباع أساليب أخري أهدأ .. ولا يجب أن يغيب عنكم أن الليمان يتبع وزارة الحربية ، وأن حركة كهذه يمكن للمغرضين تصويرها علي أنها تمرد عسكري . ومن الحكمة تسوية أمورنا محليًا ؛ لأن عجزي عن ذلك سيكون مدعاة لتدخل جهات أخري أعلي مني ، مثل البوليس الحربي والسجن الحربي ، وإدارات أخري .

فك الإضراب :

وقد نكأت هذه العبارة الأخيرة جراح الإخوان ، فثار بعض الإخوة لذلك ، ومنهم الحاج صالح أبو رقيق عضو مكتب الإرشاد بالجماعة ، الذي اعترض في شدة علي الجانب التهديدي من الكلام قائلاً :

- نحن لا يهمنا السجن الحربي ولا نهدد به .. وإنني مستعد للذهاب إليه عشر مرات .. وعليك كمدير للَّيمان أن تعالج الأمور بروح الإنصاف الخالية من أي تهديد .. فالإضراب حق مشروع للتعبير ، مشروع في كل البلاد الحرة ، وإلا ضاعت كثير من الحقوق ..

- وتكلم أيضًُا الأخ رشاد المنيس ضابط البوليس ، وفتحي البوز المحامي ، وغيرهما ، ووعدهم مدير الليمان بعدم تكرار مثل واقعة التفتيش هذه في المستقبل ، وأن لا يكون هناك أي استفزاز . وعلي ذلك قام الإخوان بفك الإضراب ، ومن ورائهم قام الأربعة آلاف مسجون بذلك .

- وتفاديًا تكرار اشتراك المساجين مع الإخوان في أي موقف في المستقبل ، قامت الإدارة بناء علي تعليمات الجهات العليا بتجميع الإخوان جميعًا في دور 3 ، عنبر 1 ، واشتهر العنبر في ذلك الوقت باسم عنبر الإخوان ، وصادف هذا التجمع هوى كبيراً لدينا .. كبسة ..

ولكن هل وقفت مؤامرات عطوة عند هذا الحد ؟! – والكلام للراوي :- بالطبع لا . إذ وجد في أسلوب توزيع العمل في الجبل منفذاً لتحقيق أغراضه .. فأماكن قطع الأحجار من الجبل تسمي مصالب ، ولا ندري سر هذه التسمية ، وكل فرقة من فرق العمل عليها اسم مثل : " 1جمالة " " 2جمالة " " 3جمالة " وهكذا لا ندري سر تسمية الرجال بالجمالة أيضًا .. وتنتهي الفرق بفرقة للحجارة ، وأخري للتماثيل .. ولم يكن للإخوان فرقة محددة ، بل يتوزعون علي أغلب هذه الفرق . فأراد عطوة أن يحرج الإخوان ، ويقوي من فرص الاحتكاك المباشر بالإدارة ، وذلك بتجميعهم في فرقة واحدة هي " 2 جمالة " ؛ ليكونوا مسؤولين بصورة مباشرة عن كمية محددة من الإنتاج . فطن الإخوان إلي أبعاد تفكيره . ورفضوا محاولات مأمور الجبل في إقناعهم بقبول الوضع الجديد ، مما أدي إلي أن يقوم المأمور بضرب نوبة كبسة ، استعد الحرس فيها بالسلاح ، وتوتر الجو ، مما استدعي حضور اللواء حسن سيد أحمد مدير الليمان علي عجل ، وسرعان ما اجتمع بالإخوان في العريشة ، وهي بناء كبير مسقف في مدخل الجبل ، يستظل فيه الضباط والسجانة أثناء عملية التتميم علي المساجين قبل العودة إلي الليمان عقب انتهاء العمل .. لولا حاجتهم هم إلي الظل أثناء قيامهم بالتتميم لأنجزوا عملهم في حر الشمس ..

تمرد :

حاول مدير الليمان أن يرضي الإخوان بقرار عطوة ، باعتباره المسؤول المباشر عن الجبل ، ولكنهم رفضوا ، فوجه إليهم سؤالاً :

- هل نعتبركم ممتنعين عن العمل ، وهو يعتبر بلغة العسكريين تمرداً ؟

- لا .. لسنا ممتنعين عن العمل .. نعني عن مبدأ العمل ، ولكن نعترض علي سياسة العمل .

- إذن ستعودون إلي العمل ؟

- لا .. حتى تستقيم الأوضاع . وهنا تدخل رئيس كتيبة الحراسة ، وكان من المتعاطفين معنا – والكلام للراوي – وقال :

- أناشدكم بالله والإسلام والإخوة أن تعملوا علي حل أموركم بحكمة ، ولا تزيدوها تعقيداً ، ولا تكونوا ضحية دسائس تحاك . ولا أستطيع التصريح أكثر من هذا ..

ومرة أخري كان مدير الليمان حكيمًَا ، عندما أعطانا مهلة لمدة ليلة للتفكير في الأمر في جو أهدأ .. وبعد تدارسنا للأمر قررنا العودة إلي العمل من خلال الوضع الجديد بطريقة شكلية ، كان عددنا ثلاثمائة أخ ، مطلوب منا تشوين عربتين من عربات السكة الحديد – ستتعودون لغة الجبل بعد ذلك ، وستعرفون أن التشوين معناه ملء العربتين بالحجارة المقطوعة من الجبل – كنا نقوم بإنجاز العمل بأسلوب التعريش ، الذي يترك فراغات كبيرة بين الأحجار ، بحيث يكون الحجم الخارجي حسب المواصفات .. وهكذا تسربت مؤامرة عطوة بين فراغات الأحجار ، وتغاضت الإدارة من جانبها ، ولم تشدد في استلام المقطوعية .. كما أمكن للإخوان الاستفادة من القطار الذي تحمل فيه الحجارة في تنظيم شبكة من المراسلات الخارجية ، عن طريق الأخ حسين بيومي أحد عمال القطار ، إلي أن قبض عليه ، وحكم عليه بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة .. ومنذ شهر تقريبًا – والكلام للراوي – أي : في شهر مايو سنة 1955 ، وكنا في شهر رمضان ، ضبطت إدارة السجن خطابًا من اثنتي عشر صفحة ، موجهًا من الأخ عبد اللطيف البحراوي إلي الإخوان في الخارج ، ينظم لهم طريقة العمل ، ويلوح بنهاية النظام ، وكان هذا الخطاب مفتاح قضية جديدة بالسجن الحربي الآن ، دخلته منذ أيام .

إلي سجن الواحات :

وكان هذا الحادث بالذات وراء التعجيل بترحيل عدد كبير من الإخوان إلي سجن الواحات الخارجة ، المعد كمنفي لكل المغضوب عليهم من مختلف السجون .. وكان في حضوركم إلينا خير تعويض عما افتقدناه برحيلهم ، وكان حظكم أنكم حضرتم علي أرض ممهدة ، بعد ما مر عليها من العواصف ، وبعد أن خلت من كثير من الأشواك .. وغداً سترون ملامح الحياة الجديدة عن قرب من خلال فرقة "2 جمالة " إن شاء الله ..


الفصل الثالث : ( صورة عن تنظيم الإخوان في ليمان طره - وكيف تحول السجان إلي سجين !! )

بدأت أتبين ملامح الحياة الجديدة ، التي سيقدر لي أن أحياها بين هؤلاء الإخوة ، الذين اتسع قلبي لحبهم جميعًا ، وبين هؤلاء المسجونين والسجانة ، الذين اتسع فكري لدراسة عالمهم الغريب علي الطبيعة ، خاصة وأن مادة تخصصي في الدراسة كانت في علم الإجرام والعقاب .. وضع الإخوان يختلف كثيراً في الليمان عن مثيله في السجن الحربي حيث سمحت طبيعة الظروف بقدر من التنظيم الإداري بينهم ، في شكل مسؤول عام علي رأس لجنة إدارية تضم الإخوة المسؤولين عن الثقافة ، والمالية ، والعمل بالجبل ، وانتظمت كل زنزانتين في أسرة علي رأسها نقيب ، ويتصل مجموع النقباء بالمسؤول الثقافي . وأخذت فريضة مالية علي من تصلهم أمانات ؛ لتوفير حد أدنى معقول من المال لمن لا مورد لهم مثلي ..

الإخوان يشغلون الدور الثالث من العنبر . أما الدور الرابع : فهو مخصص لخدمات المطبخ والفرن من المساجين ، والدور الثاني : لبعض القضايا السياسية الخاصة بمحكمة الثورة واليهود المحكوم عليهم في قضايا التجسس . والدور الأول : للحالات المرضية ، والدور الثالث المخصص للإخوان به زنزانة كبيرة تضم كل المحكوم عليهم في قضايا شيوعية .. ومجموع الأدوار الأربعة تكون مبني ضخمًا ، محاطًا بسور شاهق ، عليه أبراج الحراسة في كل ركن من أركانه ، وللسور بوابة ضخمة ، عليها سجان بدفتر كبير ، لتسجيل حركة الدخول والخروج . ويتكون الليمان من أربعة عنابر قوتها جميعًا حوالي أربعة آلاف مسجون .

ويحيط بالعنابر الأربعة سور كبير محيط بأسوارها الداخلية ، وببقية المرافق من مبني للإيراد ، وآخر للتأديب ، والمستشفي ، والورش ، والمطبخ ، والفرن ، ومسجد مهجور غير مسموح بالصلاة فيه ، وبجوار السور تقع مساكن الضباط ، وعن بُعْدَ تقع مساكن السجانة ، يفصلها عن الليمان شارع للمارة ، وهي أقرب إلي العشش منها إلي البيوت .. أما عن العمل بالورش ، فهو لمن امضوا ثلاث سنوات في قطع الأحجار بالجبل ، وكان سلوكهم حسنًا ؛ إذ يصير لهم الحق في التحول إلي العمل بالورش ، ليقترب بهذا من طبيعة عمل السجون ، وكأنه بهذا يقضي مدة سجن فقط ، بعد أن زالت عنه صفة الأشغال الشاقة .. أمامنا إذن ثلاث سنوات عجاف قبل أن نحلم بهذا اليوم ..

اعلموا يا حثالة المجتمع ..

تسلمنا حلل العمل الجرباء الممزقة التي استعملت قبل ذلك مراراً .. وشعرنا بسعادة واعتزاز ونحن نرتديها في الصباح إيمانًا واحتسابًا ، وكان تغيير أشكالنا فيها مدعاة للون جديد من المرح والنكت ، وارتفعت نداءات السجانة .

- العمل .. العمل .. انزل إلي العمل ..

وكنا سابقين في النزول إلي العمل ، وصادفتنا أول مشكلة في دورة المياه ، إذ وجدنا المساجين تزدحم علي عدد قليل من العيون المكشوفة ، بلا حياء ولا آدمية ، ويتبادل الجالس الحديث مع المنتظر لدوره وجهًا لوجه ، ووجدنا هرجًا وفوضي في اختلاط تفريغ المباول ، بالذين يملأون جرادل الشرب ، بأولئك الذين يغسلون جرادل " اليمك " لاستلام الطعام . كل هذا في مكان واحد ، ويكاد يكون تحت حنفية واحدة .. ومع الأيام استطاع إخواننا السابقون أن يخصصوا لنا عدداً معينًا من الدورات ، لصون آدميتنا ببعض الستائر ، وبفرض شيء من النظام في أولويات الإشغال .. وخرجنا من بوابة العنبر في طابور منتظم ، في طريقنا إلي ساحة الليمان ، حيث ، يتجمع الذين يعملون في الجبل من جميع العنابر .. وكأننا نصطف في فناء مدرسة ، باستثناءات كثيرة ، وهي أننا هنا نجلس القرفصاء ؛ انتظارًا لاكتمال العدد ، ولا يسمح لنا بالوقوف ، لأن فيه تكريمًا لا يليق بطريدي العدالة ، كما ينتشر السجانة هنا بأجسامهم الفارعة وعصيهم الغليظة بدل منظر المدرسين المهذب ، وعلي حافة الطابور يصطف عدد من الخيالة – الفرسان – ليتقدموا الموكب ويحيطون من كل جانب .. ويرتفع صوت مأمور الجبل بالأمر للرقيب عوض :

- قوم يا عوض .. فينادي عوض بدوره علي الجميع قائلاً :

- دوغرى .. ويبدأ هذا الفيلق الضخم في التحرك نحو الجبل ..

ولكن أمر هذا الفيلق قد تحسن عن ذي قبل .. فقد كان كل ذلك يرسف في الحديد ذهابًا وإيابًا قبل عملية تكسير الحديد ، أي إلغائه ، وألغي ا معه أيضًا ذلك الإنذار اليومي الذي كان يقرأه الرقيب عوض قبل تتحرك ، وهو بيان من نوع فريد يقول فيه :

" اعلموا يا حثالة المجتمع أنكم تحت حراسة مشددة ، وكل من يحاول الهرب أو الشروع فيه يعرض نفسه للخطر ؛ إذ للمحافظين عليه الحق في إطلاق الأعيرة النارية فيمثل هذه الحالات " وكان عوض يعطي ظهره للإخوان وهو يقرأ هذا البيان اليومي من دفتر عتيق ، وعندما ترتفع ضحكات الإخوان لسماعه ، يستدير إليهم قائلاً .. هذا الكلام ليس لكم .. وما أن يخرج هذا الموكب من بوابة الليمان الخلفية حتى يصطف علي الجانبين " جنزير " من كتيبة الحراسة المزودة بالسلاح .. ويسير الركب تتقدمه الفرسان ، وتحفه الفرسان أيضًا ، علاوة علي " الجنزير " ويتخلله السجانة بنداءاتهم الغليظة وعصيهم الأغلظ .. منظر فريد من مواكب العبيد التي كنا نسمع عنها في أوروبا . ويتوقف سير الموكب أكثر من مرة في الطريق ، ليعاد التتميم علي الفرق بعد جلوسهم القرفصاء ، كنوع من الإذلال .. وعند الوصول إلي الجبل تتكرر الجلسة نفسها والتتميم نفسه قبل أن تتجه كل فرقة إلي " مصلبها " .. ويأخذ أفراد الكتيبة المسلحون مواقعهم علي رؤوس الجبل ، وينتشرون في دائرة كبيرة تحيط بميدان العمل .

مسجون حر وطليق سجين ..

كنت ألمح السعادة واضحة في عيون الإخوان جميعًا ، ونحن نتبارى ونتنافس في العمل داخل فرقتنا " 2جمالة " وشعرت بنشوة غامرة ونحن نتدافع لحمل الأحجار علي أكتافنا قربي إلي الله ، وابتغاء مرضاته ـ ودعونا كثيرًا ونحن في هذا المقام أن يتقبل الله منا جهدنا ، ويخلص نياتنا ، ويمدنا بقوة من عنده .. ولكن العقلاء منا نبهونا انه ليس في أعمال السخرة المفروضة علينا ، والتي نؤديها كرهًا لا طوعًا ، ليس في هذه الأعمال نتنافس ونتدافع ، وإن كنا سعداء بقدر الله علينا ، ولكن علي ألا نحقق أمل الإدارة في تسخيرنا ، بل مقاومة السخرة هي الواجبة في هذا المقام ، وأداء العمل بصورة شكلية أوجب من أدائه علي الوجه الأكمل .. لابد أن نحبط كيدهم ما استطعنا إلي ذلك سبيلاً .. وإلا نجحوا في تحطيمنا علي المدى الطويل . كان هذا المنطق له وجاهته أيضًا في نفسي ، جعلني أقبل علي مضض حمل أحجار صغيرة في وقت طويل .. وأقتنع برؤية الإخوة وهم يتفننون في تعريش الحجار ، بحيث يكون التسليم مطابقًا للحجم المطلوب وان كان في الداخل خاويًا .. ثم وجدتني أشارك في ذلك بعد ذلك أيضًا .. وأكثر من هذا أننا كنا نسلم التشوينة أكثر من مرة علي أنها عمل اليوم الجديد ..

وغدا عملنا اليومي علي هذا الوجه متعة متجددة الحلقات ، نجحنا في ترتيب الاستفادة علي جميع مراحله .. فما يكاد يغادر الطابور بوابو الليمان ، حتى ترتفع الدندنة بالقرآن الكريم بين صفوف الإخوان ؛ لأن الكثيرين تزاملوا مثنى مثنى في الحفظ والتسميع .. وفي الجبل كنا نعمل بالتناوب ، بحيث يستريح فريق منا ويعمل آخر .. وفي فترة الراحة نصبت " الكيكات " للجلوس في ظلها ، وعملت البرامج ، وتم التعارف ، ونوقشت القضايا ، ووجهت المساجين ، وأقبلوا علينا .. حتى إذا ما حان وقت الظهر ارتفع صوت المؤذن للصلاة ، ولم يكن هذا مسموحًا به من قبل ، وأقبل الجميع علي الصلاة في هذا المكان الذي لم يتشرف بهذا النور من قبل ، وتفتحت المواهب الفنية علي أصوات المطارق والأزاميل بالأناشيد والتواشيح الجميلة ، التي يلقيها الشيخ أحمد حسين ونردّدها وراءه .. " والله لتفرجن ، ولو بالتومجن .. " إلي أن يختم موشحته الجميلة ، التي تصف قصة معتقل بالمطلع الأخير .. " أكلنا اللحمة والزقفليم " ، ونقوم نحن ونردّدها معه .. و " الزقفليم " وصف أطلقه الإخوان علي " اليمك " المطبوخ ، بعد أن أعيتهم الحيل في معرفة نوع هذه الخلطة الخضراء ذات الرائحة النفاذة ، المعجونة بالأرز ، والتي تلتقط من داخلها جذور جميع النباتات ، فتكون الاسم من الحروف الأولي لكل الأصناف المتوقعة ..

كنت أحس أن حياتي اليومية برغم هذا الطلاء الظاهري من التعب والنصب ، عبارة عن سلسلة متصلة من السعادة . وسبحان القادر علي جعل السعادة من نصيب المحرومين من متاع الدنيا القليل ، وعلي جعل حياة الشقاء من نصيب الذين يرفلون في النعيم .. فالسجن الحقيقي من داخل الإنسان . فكم من مسجون حر وكم من طليق سجين !! .


الفصل الرابع : ( كل من في السجن يفتح قلبه للإخوان )

سمعنا الكثير من قصص السلاسل الحديدية والأغلال قبل إلغائها ، حيث كان سقوط أي نزيل من الجبل أو حدوث زلة قدم له كفيلة بجر المربوطين في السلسلة كلهم وراءه ، فيصيبهم ما يصيبهم من قتل وعاهات ، وكان توالي هذه الظاهرة دافعًا لبعض المساجين إلي تفضيل التضحية بكف يده مختاراً تحت عجلات قطار الحجارة ؛ ليحصل علي إعفاء طبي من العمل ، وينقذ بقية جسمه من هلاك محقق علي مدار السنين الثلاثة المخصصة للجبل !! كانت هيبتنا لدي الإدارة قائمة ، وكانت مسارعة الجميع في راحتنا من ضباط وسجانة ومسجونين يسبغ علي حياتنا كثيراً من الارتياح .. أليس أن هذا الضابط يقترب منا حتى يحاذينا بالحصان أثناء طابور الجبل ، ثم يهمس لنا في وجل : شدوا حيلكم يا رجاله . ويعتبر هذه العبارة هي ورده اليومي لنا ، وكان لها بالفعل تأثيرها الطيب علينا ..

وأليس أن هذا السجان الذي يشتد في إيذاء المسجونين يترقب فرصة ليأتي معتذراً إلينا عما يفعل ، راجيًا ألا نسيء الظن بإيمانه ولا بإنسانيته ؛ لأننا لا نفهم طبيعة هذه الحسالة ، وأن أقل تهاون يؤدي إلي عواقب وخيمة . ويستشهد علي قوله بالقصص العديدة .. وأليس أن المسجونين أنفسهم قد بدأوا يتشبهون بنا في أسلوب حياتهم ، وأفضي الكثير منهم بمشاكله إلينا يلتمس عندنا الحل الشافي أو الرأي السديد المتفق مع الشرع . ويعتذر إلينا بدوره بالوسط الذي يساعده علي حياة الطهارة .. وأليس أن هذا المشتهر بالخطف يعاملنا نحن بكل أمانة وشرف .. لقد بدأنا نستشعر المسؤولية عن هذه النفوس جميعًا .. فجميعهم في قبضة الخوف وضياع الثقة يعملون ، وفي أمواج الحياة تتخبط مراكبهم الضائعة بلا أشرعة في بحر لجي بلا شطآن .. وأصبح وجودنا بينهم هو شاطئ الأمان الذي ألقي كل منهم عليه همومه ، وألتقط آماله ، وأفضي بذات نفسه ، واستعد أن يفعل من أجلنا المستحيل ..

ملامح حياة جديدة ..

من وحي هذه الروح اتفقت الخواطر علي تجاهل كل التعليمات التي تنال من آدمية الإنسان ، وتحط من كرامة المسجونين . وبدأت تظهر علي السطح ملامح حياة جديدة من السجن مكانًا للتهذيب والإصلاح ، بعد أن كان مكانًا للتأديب فقط ، وليس من بقية الشعار نصيب . فالاستحمام الجماعي أصبح بالسراويل بعد أن كان ممنوعًا .. ودورات المياه أصبحت ذات أبواب ودسر .. والكهرباء دخلت الزنازين ، وطلاء جدران الزنازين الأسود تغير إلي مختلف الألوان المتفتحة ، وحديد الكباري وممرات الأدوار لم تعد تطلي بالقار ، وارتفعت هامة المسجونين أثناء حديثهم مع الضباط أو السجانة ، بعد أن كان هذا ممنوعًا ، وكان عبارة – عينك يا مذنب – أقوي ردع للذي يتجاسر ويرفع عينيه أثناء الحديث ، إذ تقضي التعليمات أن يتكلم وعيناه في الأرض .. وانتهت كذلك قصة خلع الأحذية قبل الدخول علي أي مسؤول ؛ لأن التعليمات كانت تفرض الدخول حافيًا ، وغير ذلك من تقاليد السجون العتيقة التي أخذت تذوب أمام وجود الإخوان ، وبسبب الروح الجديدة التي دبت في الليمان ، وإن كان بعض هذه التعليمات لم يتغير إلا بعد صراعات وتصادمات كثيرة لها قصص طريفة . أذكر منها قصة واحدة سببها بسيطًا ، وتسببت في سوء العلاقة مع الإدارة لإصرارنا عليها ، ذلك أننا كنا نحرص كلما اقتربنا من أبواب الليمان بعد العودة من العمل علي أن نسير في مشية عسكرية ، وكان لا يريحهم أن يرونا كذلك ، ويخشون من تفسيرها لدي الجهات العليا ، وأقل تفسير لها أننا نعود من العمل في غاية الارتياح لا في غاية الإرهاق والتعب كما تهدف السلطات .. فضلاً عن أن ليس النظارات السوداء لحماية أعيننا من الشمس ومن غبار الجبل الذي يضعف البصر ممنوعة ؛ لأن إضعاف البصر مقصود لذاته . وكان من الممكن أن تمر هذه المشكلة بسلام ولو مؤقتًا ، ولكننا لا نفعل إلا ما نعتقده ، حتى ولو كنا بين شقي الرحى – وما أبريء نفسي – فقد كنت يومها أري الإصرار علي ذلك هو والجهاد المقدس سواء ، ولم يكن من السهل أن تتلخص نفوسنا من مشاعر سوء الظن بالإدارة بوجه عام ، حتى ولو كان بينها صوت مخلص .. وربما كان لعنصر الشباب دخل في إخفات صوت الحكمة ؛ لأن الشباب الذين كانت تتراوح أعمارهم بين 16 إلي 24 سنة يشكلون حوالي 90 بالمائة من المحكوم عليهم من الإخوان في جميع السجون .

الأيام الأخيرة :

كانت احتفالات عيد الأضحى هي آخر ما علق بذهني في هذا المكان .. وإكرامًا للعيد وزعوا علينا أرزًا مستقلاً في " قروانة " لكل خمسة ، وكانت اللحمة من نوع جيد تختلف عن قطع الكاوتش التي كانت تأتينا قبل ذلك ، فلم يكن يوزع إلا الكاوتش والعظام ، ونعجب كيف تسرق اللحمة بانتظام وبطريقة جريئة ، حتى أني كنت أتقزز من شكلها فأقوم بغسلها بالصابونة ، ثم أغطها بالطبيخ لتكتسب حرارته ، وكثير من الإخوان كانوا لا يقربونها ، وهي علي العموم لحمة ثيران كبيرة السن ، لا أدري من أين تأتيهم بانتظام .. لقد كانت فرحتنا بالأرز وباللحمة الجديدة هي من مباهج العيد فعلاً .. ويتعطل العمل في يوم العيد فقط .. وكان بالنسبة لنا كأنه أسبوع كامل ملأناه بالمهرجانات لرياضية والمسابقات والتمثيليات ، وتم كل ذلك في سرعة مذهلة ، وفي عمل فني هادف ورائع ، وكنا علي المستوي الإنساني الذي ينبع من ديننا ، فلم نحرم فئة من الاشتراك معنا حتى الشيوعيين .

وأثار ذلك إعجاب ودهشة الجميع ، وخاصة الصحافة ممثلة في أبي الخير نجيب رئيس تحرير جريدة الجمهور المصري ، والمحكوم عليه من محكمة الثورة بالأشغال 15 عامًا ، قال لي :

- إني في عزمي بعد الإفراج عني أن أؤلف كتابًا عن الإخوان عنوانه – الإخوان المسلمون أتعبوني – ثم سكت ونظر إليّ مبتسمًا وقال :

- ما رأيك في عنوان الكتاب ؟ ..

- قلت : المهم مضمونة .. قال مازال للعنوان بقية توحي بالمضمون .. قلت خيراً . قال : أما بقية العنوان فهو : " لني بحثت فيهم عن ضال واحد فلم أجد " فشكرته علي هذه المجاملة ، ورجوت الله أن نكون عند حسن ظنه .. وقد كان الإخوان بالفعل في ذلك الوقت قوة نفسية وخلقية ضخمة ، تفرض الاحترام علي الجميع ، وكانوا في تفتح دائم وفي نشاط متفجر ، قبل أن تعمل السنون والضغوط عملها في تغيير بعض هذه الصور الفياضة بالإشراق ، فتخرجها من السجون صوراً حزينة مثقلة بالهموم ..

ينغص فرحتي بالعيد إلا استغلال الشيوعيين ، لعطفنا عليهم بإشراكهم في المهرجانات ، إذ صوروا ذلك في منشوراتهم علي أنه قد تكونت جبهة بينهم وبين الإخوان من داخل الليمان .. لم أكد أرتشف عبير هذه الحياة بالليمان حتى قطعها علينا صوت ينادي علي اسمي ضمن عدد من الإخوان لننزل بالنمرة .. ولم نعرف السر إلا عندما وضعنا بالإيراد مرة أخري ، وهناك التقينا بعدد آخر قادم من مختلف السجون ن تمهيداً لترحيلنا جميعًا إلي مكان بعيد ، باعتبار أن وجودنا بين العمران خطر علي الأمن ، وكان تلهفنا إلي سرعة الوصول علي هذا المنفي كبيراً عندما علمنا أنه بالواحات الخارجة .



الباب الرابع : معسكر جناح بالواحات الخارجة


الفصل الأول : ( قدر الله أن نكتشف ذواتنا في الصحراء )

كل أدوات التعبير تعجز – في تقديري – عن تصوير روعة اللقاء الأخوي بالذين أُحْضِرُوا من مختلف السجون ؛ لنفيهم معنا إلي سجن الواحات .. وكانت صدورنا زاخرة بأعجب المشاعر ، وقلوبنا مترعة بأروع آيات الحب والإيمان .. لم يكن لقاء أجسام علي الأرض ، بل تحليق أرواح في السماء .. يتميز القادمون من السجون بملابسهم الخضراء عن ملابس الليمان الزرقاء ، وتعانق الأزرق والأخضر ، والكل في فرح غامر بنعمة هذا اللقاء وبخبر الترحيل إلي الواحات .. لاشك أن قدراً ربانيًا يريده الله بوجود هذا الجمع ببطن الصحراء .. وغاية أحلامنا البشرية أن نكون في أحضان الطبيعة البكر ؛ حيث نكتشف فيها فطرتنا التي كادت تحجبها المدينة بستار كثيف من المشاغل .. إن فترة نقاهة من صخب الحياة المادية ستتاح لنا ؛ لنُصنع هناك من جديد في مصنع الرجال علي عين الله . ما ضرّ أجهزة الدولة أن يوجد علي أرض الوطن مثل هذا الشباب النظيف المؤمن ، الذي خاض الأهوال ولم يتنكر لدعوته .. ولم تتغير إشراقة الرضي في وجهه .. ولم يتزعزع قلبه المطمئن ..

وجاء سيد قطب :

بالغت إدارة الليمان في عزلنا عزلاً تامًا ؛ حتى لا ينجح أحد في الاتصال بنا قبل الترحيل .. ومع هذا " فالتسليك بالسيجارة " كفيل بفتح أبواب الليمان نفسه ، فالسيجارة في السجون سلاح رهيب ، وجاء أول كسر لطوق العزلة علي يد الأستاذ سيد قطب – عليه رحمة الله - .. جاء ليتعرف علينا وليودعنا ، بقامته الربعة ، وهامته الشامخة ، وملامحه الجادة الراضية ، ونظراته الودودة النافذة . وظني أن حضوره إلينا هو الاستثناء الوحيد من قاعدة التسليك ، لما يحظي به من احترام وحب جميع المسجونين والسجانة علي السواء ..

ملك السجن :

لكن مازال هذا السجين الذي أحرقته السنون .. كيف استطاع هو الآخر أن يكون هو الاستثناء الثاني من قاعدة التسليك ، فيخترق هذا الستار الحديدي ليودعنا ، ولا أحد منا يعرفه . إنه يعتنق كل أخ يقابله بحرارة زائدة ، والدموع تنهمر من عينيه .. زالت دهشتنا عندما عرفنا قصته .. وتعجب هو بدوره كيف لم نسمع بقصة ملك السجن حتى الآن .. فَسِرُّ سلطاني يكمن في الأحكام الكثيرة الصادرة ضدي ، والتي بلغ مجموعها مائة وعشرين عامًا حتى الآن .. ولا يعلم إلا الله كم تصير في المستقبل ..

- كيف كان ذلك يا عم عبد الرازق ؟

- قال صاحب الخمسين عامًا والذي تقرأ في تجاعيد وجهه كل ما مر علي الليمان من أحداث ، برغم بنيته القوية .

- كان ذلك منذ أكثر من ثلاثين عامًا ، حين حكم عليّ بالسجن ثلاثة سنوات في إحدى القضايا الصغيرة . كنت أبلغ من العمر سبعة عشر عامًا .. ورفض الرضوخ لأي إهانة أدخلني في عراكات كثيرة ، قدمت بسببها في قضايا من داخل السجن . ثم تطورت الأحكام والاشتباكات ، فأصبحت القضايا من داخل الليمان . وليس بعد الليمان درجة أعلي من السجون ، وليس بعد الأشغال الشاقة عقوبة أشد .. ووصلت إلي القمة في هذا الشأن ومازال رصيدي من الأحكام في ازدياد .

واعتبرت نفسي في عداد الأموات ، واسترحت لهذه النهاية ، وانتهي معها الحرس علي الحياة أو الخوف من النتائج ، وأصبح من أسهل الأمور عندي أن أتعرض لأي حكم جديد ، إذا لزم الأمر ن لأستمتع بازدياد رصيدي .. ويحدث أحيانًا أن أتعرض لضباط الإدارة بالمخدرات ، لكي أقدم إلي المحاكمة ، فأحظى برؤية دنيا الناس في طريقي إلي المحاكمة ، فضلاً عما يتيحه الخروج من تهريب الممنوعات .. فالكل الآن يتحاشاني أو يعطف عليّ ، المهم أن أمري مطاع ، وكل صعب مذلل أمامي .. فانا ملك السجن بجدارة ..

- وربما عطفت الثورة علي ظروفك وأفرجت عنك .

- في هذه الحالة أرفض ، لأني لا أحب أن أعيش نكره بلا سلطان ، وليس لي أهل اعرفهم أو يعرفونني ، ففيم هذه البهدلة ؟ .. أنا هنا سعيد والحمد لله .

- لقد عقدت الدهشة ألسنتنا ، ولم نجد الكلمات التي نهون بها علي هذا الرجل العجيب .. إن التغيير يأتي من الأمل ، ولم يعد ينفع في عزائه أي كلام ، اللهم إلا فيما يرجوه في آخرته .. ولم أجد في جعبتي حديثًا يصلح في هذا المقام سوي قولي له :

- كن مطمئنًا يا عم عبد الرازق ، فإن هذه الأوضاع الظالمة ستزول ، وإن الحياة الفاسدة التي زجت بأمثالك في هذه الظلمات ستتبدل بإذن الله ، وإن شمس الإسلام ستشرق من جديد وفي القريب .. وها هم طلائع النور أمامك يمتلئون بشراًُ وأملاً في نصر الله ، وتغير أحوال المسلمين ، وخاصة أولئك الذين طحنتهم السجون . ويجب ألا تيأس من روح الله ، وثق أنك لن تؤدي من هذه السنين الطويلة شيئًا مذكوراً .. لبثت علي هذا الحال أتعثر في عباراتي .. أراها – بيني وبين نفسي – عبارات عاجزة وفاترة .. ويبدو أن الرجل قد أدرك بفراسته فراغ عباراتنا جميعًا من الروح ، فابتسم إلينا في إشفاق وحب وقال :

- أنا أخوكم في الله ، قد عرفت الطريق إلي ربي علي يد أخي وحبيبي صلاح شادي الذي جئت – فضلاً عن التعرف عليكم وتوديعكم – لأحمّلكم تحياتي له وسلامي عليه .. وقد هان بمعرفتي لربي كل شيء ، وأنا أعفيكم من شُقة التفكير في أمري ، وقد برأني الله من حياتي القديمة ، وإن كنت أعيش في هذه الغابة علي سمعتي فيها . وتعلمت من صلاح أن كل نعيم دون الجنة حقير ، وأن كل بلاء دون النار عافية .. وأنا وأنتم ومن في الخارج نعيش مأساة واحدة ، هي مسألة الحرمان من معرفة الله بواسع رحمته .. والحمد لله الذي أراني المستقبل المنير في وجوهكم المشرقة .. وسنتقابل عما قريب عند الله .. في الحياة الطاهرة الأبدية .. قلنا في انفعال وتأثر :

- وفي الدنيا أيضًا – إن شاء الله – بعد تحقيق النصر .. فابتسم والحارس ينتزعه منا ، والدموع تظفر من عينيه ، وقال :

- إن شاء الله .. اختطفه الحارس قبل أن نعانقه جميعًا ، وظلت عينيه علينا لا تتحول ولا يحس بجذب السجان له ، حتى خرج بظهره من الإيراد .

أحسست بعد أن غاب أن دموعه الصامتة قد أحرقت كل قطرة في دمي ، وقد أشعلت كل خلية في تفكيري ، وظللت شارداً لفترة طويلة ، وأنا أعيش مأساة إنسان ليس لها حل .. وصغرت في صدري كل نظريات الجريمة والعقاب التي شقشقنا بها كثيراً بين جدران الكلية ؛ لأن أصحابها لم يعانوا السجن يومًا واحداً ، ويقيني أنها لن تفعل في نفس عبد الرازق ما تفعله لحظة صدق مع الله أنارت قلبه علي يد رجل مخلص . لحظة جعلته يغير حياته كلها بإرادته ، مع أنه مازال في أتون الليمان ، فكيف إذا كانت الحياة من حوله تعين علي الخير ؟! .

بالواحات :

وعند الأصيل وصلت المقطورة ، وبها عربتان خاليتان من المقاعد ، من النوع الذي يستخدم في نقل المواشي ، لكل عربة باب واحد وقضبان حديدية ضيقة محل الشبابيك ، بحيث لا يُري من بداخلها .. دخلت المقطورة بالعربتين إلي داخل أسوار الليمان علي الخط الحديدي المخصص لأمثال هذه الحالات .. دلفنا داخل العربتين في طابور طويل يختلط فيه الأزرق بالأخضر ، والأمتعة علي أكتافنا والحراس من أمامنا ، ثم أحكمت علينا ا|لأبواب .. وما أن سار بنا القطار ، حتى دوت هتافات الإخوان من العنبر ، وهم يلوحون لنا بالأيادي والمناديل ..

- الله أكبر ولله الحمد ..

- الله أكبر في سبيل الله دخلنا السجون .. الله أكبر وليكن بعد الحوادث ما يكون .. وتوالت هتافاتهم وأناشيدهم الحماسية .. فرددّنا التحية بأحسن منها ، قائلين – بعد التهليل والتكبير -:

- مرحبًا بالواحات في سبيل الإله . إن سُجنَّا أو نفينا . لن يدب الوهن فينا .. عهدنا لله باقٍ . وحمى وطيس الهتافات ، وارتجت لها جنبات الليمان ، والضباط والسجانة يجرون هنا وهناك في حركات مذعورة ، ولا يدرون ماذا يفعلون لإسكات إخواننا أو إسكاتنا ، حتى ابتعدت بنا المقطورة في طريقها إلي إلحاقنا بقطار الصعيد الذي يتحرك بليل ، كي لا يحس بنا أحد . وما أن شعرنا أن المقطورة بالعربتين تمران من داخل ثكنات الجيش بالعباسية ، وأنها علي مسافة قصيرة من السجن الحربي ، حتى تكررت الهتافات واشتد الحماس عن ذي قبل لحاجة في نقس يعقوب طبعًَا .. وتكررت نفس الهتافات بعد إلحاق العربتين بقطار الصعيد السريع ، وزدنا عليها هتافات تمس المسؤولين مباشرة ، بعد أن تجمع جمهور المحطة من كل صوب ، وكانت المحطة مكتظة بالشرطة ورجال الأمن بمختلف الرتب العسكرية .. وقد أثار منظرهم حماسنا كذلك ، فأفرغنا ما في جعبتنا من هتافات بسقوط جمال عبد الناصر والنظام الديكتاتوري .. وكان فيما قلناه عن جمال سالم : من علمك القضاء يا معتوه .. في ذمة الله يا عودة .. في ذمة الله يا فرعلي .. لن ننساكم يا شهداء السجن الحربي .. أضعت السودان برقصتك يا رقَّاص . فتقاطر الجمهور علينا ، وأخذوا يلوحون لنا ، وأحيانًا يصفقون ، فانهمرت عليهم عصي رجال الشرطة لإبعادهم .. فارتفعت هتافاتنا ..

أنت من الشعب يا بوليس .. فتركت هذه الهتافات أثرها فيهم ؛ فخفَّ إيذاؤهم للناس .. وهكذا أمضينا الوقت ، حتى حان موعد تحرك القطار في ترديد كل أنواع الهتافات العدائية لعبد الناصر وزبانيته ، وفي الأناشيد الحماسية ، وختمناها بالترحيب بالواحات في سبيل الإله . وصار هذا دأبنا في كل محطة يقف عليها القطار في طريق الصعيد الطويل ، ونشاهد فيها الاستعدادات البوليسية نفسها .. وحرص الضابط العظيم المسؤول عن الحملة علي إبعاد الشبهة عن نفسه ، فكلف حراس كل عربة بأن يتجمعوا في آخرها ، ويأخذوا في الهتافات المضادة لنا ولصالح النظام القائم ، كلما ارتفعت أصواتنا بالهتافات والأناشيد التي كانت كالرعد ، فلا تكاد تسمع بجوارها هتافات الحراس ..

ووصلنا معسكر جناح ..

انتهي بنا الطريق الطويل بجوار النيل إلي محطة المواصلة ، حيث نزلنا بها تاركين القطار ليواصل رحلته إلي آخر الصعيد .. ومن المواصلة ركبنا قطار شركة الدلتا الصغير ، الذي ضرب بنا في الصحراء الغربية في اتجاه الواحات الخارجة .. وقطع بنا ساعات بين الرمال والصخور والوديان حتى وصلنا مدينة الخارجة مع الليل ، ووجدنا في انتظارنا سربًا من عربات اللوري ، لنقلنا إلي سجن جناح الذي يبعد عن مدينة الخارجة بحوالي عشرين كيلومتراً .. نزلنا من القطار صامتين متوجسين شراً مما فعلناه أثناء الطريق ، ولكن الله سلم ، وانطلقت بنا العربات تحت جنح الظلام متوغلة في الصحراء في اتجاه الجنوب .. وانتشرت علي صفحة الرمال هنا وهناك بلا التزام بطريق محدد ، فافترشت مساحة واسعة من الصحراء .. فتارة تقترب من بعضها البعض ، وتارة تبتعد وتنساب كحبات الزئبق علي لوح من الزجاج ، ولكنها حبات ترسل عيونها أشعة متعثرة هابطة وصاعدة علي الكثبان الرملية ، أو كأنها حشرات ليلية ذات قرون استشعار مضيئة . أحسست بسحر الصحراء ونسيمها العليل وصمتها المهيب .. ولم يكن هذا إحساسي وحدي ؛ إذ كنت ألحظ هذا الاستغراق علي وجوه الجميع . عشنا لحظات سكون ، كلها تأمل وفكر . لم يعد ثمة مكان للموج الهادر ، ولا للعواصف المزمجرة التي كانت ترج الطريق ..

قطع علينا سباحتنا وتأملاتنا عمود طويل من النور لا ح لنا من بعيد ، يصل السماء بالأرض في بطن الصحراء ، فعلمنا أننا بدأنا نطل علي موقع السجن . وكلما اقتربنا ازدادت معالم هذا العمود وضوحًا ، حتى برزت لنا من بين الظلام أضواء كثيرة باهرة متناثرة ، حول سور كبير من السلك الشائك ، تنتشر عليه أبراج الحراسة الشاهقة ، وتلوح من داخل السور بقع بيضاء وسط غلالة كبيرة من النور ، تبينا بعد اقترابنا منها أنها الخيام التي يتكون منها السجون . وارتفع صياح الحراس من فوق أبراج الحراسة عندما اقتربت العربات من السور ، وظلت النداءات تتوالي ، واحد تمام ، اثنين تمام ، ثلاثة تمام . وهكذا ، حتى وقفت العربات أمام السجن الشهير باسم " معسكر جناح " .


الفصل الثاني : ( الإخوان يحولون المعتقل إلي معسكر تدريبي لهم - والشيوعيين يطعنون بعضهم بتهمة الخيانة )

وقفنا صفوفًا متراصة بملابسنا الزرقاء والخضراء ، وأمتعتنا بأيدينا أو علي عواتقنا ، أمام البوابة الكبيرة التي تقع في السور الشائك الذي يحيط بالمعسكر من جهة الجنوب ، وهي تفتح وتغلق بواسطة عمود من الخشب مستعرض ، في أحد طرفيه ثقل من الصخر ، ومن الطرف الآخر حبل ، لجذبه إلي أسفل عند غلق البوابة . شاهدنا علي الجانب الآخر من هذه البوابة فناءً كبيراً مزدحمًا بأعداد كبيرة من الإخوان ، يسبحون في الأضواء المتلألئة بملابسهم الملائكية البيضاء ، في انتظار وصولنا ، وما أن وقع بصرهم علينا حتى زلزلوا أرجاء السجن بالهتافات والأناشيد الإسلامية ، وهم يلوحون لنا بأذرعتهم النحاسية ، فانحلت عقدة الحذر والتوجس في نفوسنا ، ورددّنا التحية بأحسن منها في حماس كبير رجعَّته وديان الصحراء . ولم يصمد عمود البوابة الخشبي أمام وهج الإيمان وحرارة العواطف المتبادلة ، فاستحي وارتفع مؤذنًا بانسياب النهرين الأزرق والأخضر في أحضان البحر الأبيض الكبير ، في مشهد عجيب ، لم تقع عيني علي مثله من قبل ، ولم يتذوق بشر مثل هذا الحب العميق الذي ألَّف الله به بين هذه القلوب ، التي تجتمع علي غير أرحام ولا أنساب ولا مصالح بينها ، إلا أن تكون كلمة الله هي العليا .

كما قال الإنجيل :

كانت ليلة قصيرة علي طولها ، أعدت لنا فيها أماكن السكن بالخيام ، وأقيمت الموائد الحافلة بالطيبات ، وأخذنا في التعارف ، وكان يكفي فيه كلما التقي اثنان أو أكثر أن يقول الأخ : أنا أخوك في الله فلان .. من شعبة كذا .. أعمل كذا ، ريثما يتسع الوقت بعد ذلك لمزيد من التفاصيل ، وظللنا علي هذا الحال ، تسبح أرواحنا في آفاق علوية ، حتى مطلع الفجر ، حيث انتظمت الصلاة ذلك اللؤلؤ المنثور الأبيض والأخضر والأزرق ن في صفوف منتظمة كالبنيان المرصوص ، وأخذتني روعة الموقف ، وقلت في نفسي : أين ذهبت تلك السياط الغاشمة هي وأدوات التعذيب مجتمعه ، التي كانت كفيلة بتفتيت الجبال ؟! إني أراها اليوم كفصل هزلي مر ، ولم يكن له سلطان علي القلوب التي قضي الله أن يؤلف بينها . وكما جاء في الإنجيل : ما يجمعه الرب لا يفرقه العبد .

ليس سجنًا ..

جاء الصباح بلون جديد من التعارف ، طابعه تبادل الزيارات بين الخيام ، فوفود المقيمين من كل منطقة تترى لتهنئة الوافدين من أبناء المنطقة الأخرى ؛ لأن إخوان المعسكر التزموا في تنظيمهم الإداري نفس التقسيم الإداري للقطر المصري ؛ بحيث يسكن إخوان كل منطقة في خيام متجاورة . لم يشغلني هذا الجو الساحر عن رغبتي في سرعة التعرف علي معالم هذا المكان مع إشراقة شمس يوم جديد .. ورافقني في جولتي أحد الإخوة السابقين وقد أخذني حديثه الطلي ، وهو يوقفني علي كل شيء داخل الأسوار الشائكة وخارجها .. كان يقول وقلبي يسمع :

- أنت الآن في معسكر كبير ، ولست في سجن .. أرادوه سجنًا نائيًا في لهيب الصحراء ، وأراد الله أمراً آخر .. ويمكرون ويمكر الله .. اعتبر أن الإخوان قد أقاموا لأنفسهم ، بعد أن لم يكن في استطاعتهم في يوم من الأيام أن يظفروا بمثل هذه الإمكانيات ، ولا بمثل هذا العدد الضخم . وضحك وهو يقول : ولا بمثل هذه المدة الطويلة أيضًا ..

- كلمة معسكر هي الشائعة علي كل لسان الآن ، بما في ذلك السجانة والحراس ورجال الإدارة . وإن كان أهالي الواحة القريبون منا والذين يفدون علي السور الشائك ليبيعونا من ورائه الطيور والبيض والتمر يطلقون عليه اسم " الكمب " .

أقسام المعسكر :

هذه الأكشاك من الصاج هي مكاتب الإدارة ، وهي كما تري في جنوب المعسكر أمام البوابة .. من حسن حظنا أن المعسكر يقع في بطن ربوة عالية إلي الشمال منه تحجب عنا الكثير من رمال الزوابع ، وإن كان ما يصلنا بعد ذلك يملأ المعسكر بالكثبان الرملية المتحركة ، ويتسبب في هدم بعض الخيام ، ويحجب الرؤية لعدة ساعات .. فكيف إذا لم تكن هذه الربوة في مكانها إذن .. كان مصيرنا سيكون كمصير قمبيز القائد الفارسي الذي دفن في رمال الصحراء الغربية هو وجيشه الكبير .. انظر إلي مجموعة الخيام الملاصقة للبوابة : إنها مساكن الكتيبة التي تتناوب الحراسة في أبراج السور الشائك .. وتلك الخيام الواقعة شرقها خاصة بالسجانة . هذا الصف الطويل من أكشاك الصاج علي يسار الداخل من البوابة هي مرافق السجن ، أعني المعسكر ، من مخازن وورش ومطبخ وفرن ..

مع الشيوعيين :

هذه الخيام الأربع علي يمين الداخل من البوابة مخصصة للشيوعيين .. فقلت في نفسي : لعل الفرصة تتاح لي هنا لأستكمل ما بدأته في الليمان من محاولات في التعرف علي أفكارهم ، لذلك لم أنتظر محدثي حتى يوضح لي أن الصف الثاني من الخيام مخصص للمسجونين العاديين ، الذين يعملون في المرافق ، بل أسرعت به إلي خيام الشيوعيين مباشرة ، وإن لم يصادف ذلك ارتياحًا لديه عرفت سره فيما بعد .. دخلت أول خيمة في طريقي ، فاستقبلني الزملاء بترحاب ودهشة ، وعرفت سر الدهشة من الزميل " أ . ط " أحد زعماء حزب حدتو الذين يختصون بخيمتين من الخيام الأربع ، حيث قال لي :

- إن الإخوان قد اتخذوا قراراً بمقاطعتنا ، ولا يسمحون بأي شكل من الأشكال التعاون معنا ، سوى ما تسمح به ضرورة التعامل مع مرافق المعسكر ..

- أنا أعتبر نفسي ضيفًا علي الجميع .. وباحثًا عن الحقيقة عند الجميع ، وأقدر في الوقت نفسه الاعتبارات التي قد تدعو أي فريق إلي اتخاذ بعض القرارات ، وإن كان ظني أن هذه الاعتبارات مؤقتة ، وسأحرص من جانبي علي لقائكم متى أحب ، من خلال حرصي علي عدم الاصطدام بمشاعر إخواني ، وعلي عدم الخروج علي أوضاعهم الإدارية ، لكن واجبي أن أظل أعمل علي دفع القرارات في الاتجاه السليم .. - وبعد مناقشات طفيفة أخذ الزميل " أ . ط " يحذرني من الذهاب إلي الخيمتين المجاورتين من الشيوعيين – قلت له :

- لماذا ؟؟

- لأنهم ينتمون إلي الحزب الشيوعي المصري ، وهو حزب مشبوه ، يعمل علي تخريب الحركة الشيوعية ، أو بمعني أدق علي إجهاضها ، باصطناع المواقف الثورية في غير أوانها ..

- وأنتم إلي أي حزب تنتمون ؟؟

- نحن أعضاء في حزب حدتو ، أي : الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني .. وواضح من الاسم أننا نلتزم الأسلوب الديمقراطي في الوصول إلي أهدافنا ..

- إذن الاختلاف بينكن هي في وسيلة العمل فقط ، وليس في الأهداف .

- نعم ..

- صدقني يا زميل إذا قلت لك : إنك أغريتني بسرعة زيارتهم بعد أن كنت سأكتفي بلقائكم ، ولا دخل لي فيما بينكم من خلاف ، ودعني أسبر كل شيء بنفسي ..

- وفي خيام الحزب الشيوعي المصري استقبلنا الزميل عبد الرحيم بترحاب ، وجرت مناقشات طفيفة كسابقتها ، ولم ينس أن يحذرني قبل انصرافي من التعرف علي خيام حزب حدتو . قلت له :

- لماذا ؟

- لأنها حركة استعمارية تدعي انتماءها إلي الحركات الثورية ، أقامها الاستعمار ، ومازال يغذيها لبلبلة الفكر الثوري واستقطابه وتخريبه من الداخل ، لأنهم لا يلتزمون منطق النظرية الماركسية في العمل .

- أشكرك يا زميلي علي هذه النصيحة .. وإني قادم لتوي من عندهم .. في قلب الصحراء :

عدنا إلي التجول في خيام الإخوان .. قال محدثي :

قبل أن نبدأ الجولة أذكرك بأن بلدة " باريس " تقع قرب هذا المعسكر بحوالي سبعين كيلومتر .. فعجبت من اسم " باريس " ، ولم يعلم محدثي سر تسميتها بهذا الاسم ، وقلنا : لعله اسم مصري قديم قد حُرف . وقال محدثي : لا تنس أيضًا أن الأخ فهيم مسعود ابن عمدة "باريس" قد استشهد في السجن الحربي ، ومازال أهله يأتون إلينا للسؤال عنه ، ولم نخبرهم بالحقيقة ؛ إشفاقًا لأنه ابنهم الوحيد ..

- وكيف قبضوا عليه من هنا ؟ .

- كان طالبًا في الجامعة ، وعلي اتصال بشُعبة الإخوان بحي الظاهر بالقاهرة .. قلت في نفسي : إن دعوة وصل نورها إلي قلب الصحراء لا يمكن أن تموت بإذن الله . واستمر محدثي .. وهذا الطريق اللاصق لسور المعسكر الغربي هو طريق الأربعين الشهير ، التي تمر منه قوافل الجمال من السودان إلي مصر .. وعلي مقربة منا من جهة الشرق وادٍ عميق ، يقال : إنه مجري قديم لأحد الأنهار ، ومازالت الآثار المصرية موجودة علي حافة الوادي ، وأشهرها قصر الزيان ، وستتمكن من رؤيته عندما تخرج معنا لجلب الماء من العين التي تمد المعسكر بالماء علي بعد كيلومتر جنوبًا .. والآن أعود بك إلي مساكن الإخوان .. تقسيمات الإخوان ..

التزم الإخوان بنفس التقسيم الإداري الخارجي لمناطق القطر في العمل للدعوة الإسلامية . ومن ثَمَّ فقد خصصت عدة خيام لكل منطقة ، فهذه خيام منطقة الشرقية ، وهذه خيام منطقة العباسية ، منطقة البحيرة ، ومنطقة الجيزة والإسكندرية ، .. وهكذا ، وتلك الخيمة مخصصة للعسكريين من ضباط الجيش والطيران والبحرية والبوليس من الإخوان .. وتوجد خيمة أخري مستثناه من هذا التقسيم ، وهي مواجهة للمسجد مباشرة ، والمخصصة لأعضاء مكتب الإرشاد ، وبها الدكتور كمال خليفة ، والدكتور حسين كما الدين الأستاذ بكلية الهندسة ، والدكتور خميس حميدة الصيدلي ، والأستاذ عمر التلمساني المحامي ، والحاج صالح أبو رقيق المستشار بالجامعة العربية ، والسيد محمد حامد أبو النصر من رجالات الصعيد المعدودين .. وكلهم أصحاب سبق في الدعوة ، ولا ينقص أعضاء المكتب سوي الأستاذ عبد العزيز عطية ، وهو موجود حاليًا بسجن بني سويف . وقد لا تعلم أنه كان مدرسًا للإمام حسن البنا بكلية دار العلوم ، وأصبح تلميذاً له في مدرسة الدعوة ..

هذا المكان الفسيح الجميل الذي أدينا فيه صلاة الفجر هو المسجد ، وهو كما تري يتكون من عدة خيام موصولة ببعضها ، والأرض مفروشة بقماش الخيام .. وهو في الواقع رئة المعسكر ، حيث تؤدي فيه الصلوات ، وتلقي المحاضرات ، وتقام الاحتفالات ، وتنظم فصول الدراسة في الصباح ، ولا يكاد يخلو ساعة من ليل أو نهار من القائمين والعاكفين والركع السجود .. وكان الماء يشكل مشكلة كبيرة لنا ، وبدأنا في التغلب عليها ؛ حيث كنا نذهب صفوفًا بيدنا الأواني لملئها من العين مباشرة ، ثم بالتفاهم مع إدارة السجن أمكن تدبير عدد من البراميل لملئها ودحرجتها من العين حتى الخيام ، ثم تطور الأمر حتى وصلنا إلي عربة الماء التي تمر علي الخيام كل صباح ، ويدرس الإخوة المهندسون الآن مشروع مد أنابيب من العين حتى السجن ، ثم رفع المياه بالمضخة في صهريج ، يعمل علي توزيع المياه علي كل خيمة عن طريق الحنفيات ، وبجوار كل خيمة عشة ملحقة تستعمل كمطبخ ومخزن في نفس الوقت .

شكرت محدثي علي هذا التعريف الواضح ، وطلبت المزيد من المعلومات عن نظام الحياة بصفة عامة بين الإخوان فقال :

اجتماع القيادة :

- من الناحية الإدارية ، فلكل خيمة أمير ، تنتخبه كل شهرين ، ولها وزيران واحد للتموين ، وآخر للمالية ، توجدهما بطريقتها الخاصة .. بالتعيين من الأمير ، أو بالانتخاب .. يجتمع مجلس الأمراء بالمسجد بإشراف أحد أعضاء مكتب الإرشاد ؛ باعتباره مسؤولاً عامًا عن المعسكر ، وهذا المجلس يتولي إدارة جميع المرافق ، وتعيين المسؤولين عنها . ويتولي الإخوان خدمة أنفسهم بأنفسهم ، بل ومسؤولية توفير الحياة المطمئنة لجميع فئات السجن أيضًا .. كذلك يقوم مجلس الأمراء بتعيين المسؤول الإداري ، الذي يشرف علي المسؤولين عن المرافق ، ويقوم بتنظيم طلب العمل في كل مرفق ، كما يعمل كحلقة وصل بيننا وبين الإدارة باعتباره ممثلنا لديها .. يوميًا قبل صلاة المغرب يحصل التتميم علي جميع الإخوان في الفناء الواقع أمام المسجد ، حيث تأتي كل خيمة وعلي رأسها أميرها ، وبعد اكتمال العدد يتولي المسؤول الإداري إلقاء التعليمات وإبداء الملاحظات ، وجميع التوجيهات ، مختتمًا ببيانه بحكمة اليوم . وفي الختام نردّد وراءه الهتافات الإخوانية ..

- نشاطنا الرياضي والثقافي مازال في بدايته ، فالاختصاصيون قد وفروا جميع الأجهزة الرياضية ، وتم تخطيط الملاعب ، وستتكون عدة نواد تتنافس ، يضمها اتحاد عام . كما تلقي المحاضرات بطريقة دورية في المسجد من المختصين في جميع الشؤون العلمية ؛ لأن المعسكر يضم أكبر التخصصات في كل فرع من فروع المعرفة . كما توجد مجلة شهرية اسمها " البشري " ، تعتبر مرآة للحركة الثقافية .. وستشاهدون الليلة إحدى المسرحيات من تأليف عبد الرحمن البنان وإخراج الرائد جمال ربيع .. كما بدأت الطاقات تتفتح والجهود تبذل لإخراج المزيد من الأبحاث الفقهية والأدبية ومن كل صور الإنتاج .. وثمة موضوعات مثارة بين الإخوان ، بعضها هام ، وبعضها يثير الحرج ، يري البعض أهمية تناولها ، وعلي رأسهم فريق الشباب المسلم ، الذين كانوا يصدرون سلاسل من الكتيبات للتعريف بالقضايا الإسلامية ، ويري البعض الآخر تأجيل في تناولها ، وعلي رأسهم من كانوا مسؤولين عن التنظيم الخاص بالجماعة .. والموضوع محل أخذ ورد ، لم يستقر الإخوان فيه علي رأي بعد .. وأنا بدوري أنصحك بعدم الخوض فيها .

- قلت في لهفة :

- أرجو أن توضح لي هذه الموضوعات ، وكن مطمئنًا إلي تقديري ، أنها أهم ما يعنيني في هذا المكان .


الفصل الثالث : ( حتى لا يحدث شرخ في جدار الحب - حوار حول الجهاز الخاص والبرامج المفضلة )

قال مرافقي بعد تردد وإشفاق :

يثير هؤلاء الشباب الجدل حول ما أسموه بأخطاء الجماعة ، وضرورة تقييم حركتنا في الفترة السابقة علي دخول السجن ، بدعوى أن وجودنا في هذا المكان فرصة قدرية لا تعوض ، حتى تكون الجماعة علي بينة من أمرها في المستقبل .. كما يطالبون أيضًا بعمل برامج ومناهج واضحة تسير عليها الجماعة في جميع المجالات ، بديلاً لمرحلة العموميات والشعارات .. والأمر كما تري ظاهر الصحة والحرص علي مصلحة الجماعة ، حتى أنك لا تجد اثنين يختلفان علي أهميته ، وإلا أن هذا الحرص الظاهر يخفي أغراضًا أخري ، ويشف عن رواسب في النفوس رسبتها ظروف التحقيقات ومواقف المحاكمات ، بدليل ما يقترن بكلامهم من بُعد عن الموضوعية ، كاد أن يكون تجريحًا للأشخاص ، مما يدعونا إلي النأي عن هذه المزالق في الوقت الحاضر .. هذه نصيحة الإخوة المسؤولين في هذا المعسكر ..

بين الخطأ والتقييم ..

لن أشأ أن أُعقب علي هذا الحديث ، فقد أغنتني الفرحة في أعماقي عن أي كلام .. لقد وجدت ضالتي في هذا الجو المتفتح .ز إن كل ما حذر منه محدثي هو بالضبط عين ما كانت تهتف به أعماقي قبل دخولي السجن .. البرامج المحددة .. المفاهيم الواضحة .. يا لها من كلمات لها وقع السحر في نفس صاحب العقيدة ؛ لحاجته إليها في مواجهة مفتوني النظريات والمفاهيم الأرضية .. والشيء الجديد الذي لا مراء في أهميته أيضًا هو بحث أخطاء الجماعة ، أو بعبارة أخري أكثر تهذيبًا إعادة تقييم الحركة في هدأة من الأحداث .. حبذا لو فطن هذا الشباب إلي اختيار العبارات الموفقة ، فالفرق كبير بين الأخطاء والتقييم .. " والملافظ سعد " كما كانت تقول جدتي .. ومهما أحاطت الظنون بهذه الآراء فإنها ستؤول إلي خير وإلي عمل جديد إذا تذرع أصحابها بالصب ، وانطووا علي الصدق ، وستكون الثمرات الطيبة خير عوض عن أشواك الطريق .. ومن جانبي فلن أسارع برمي أحد بالظنون ، حتى أقف علي الحقيقة بنفسي من أفواه أصحابها ..

عواطف بلا أقدام ..

يممت وجهي شطر هؤلاء الشباب الذين يتسمون بالحيوية والتفتح علي جميع القضايا العصرية ، والذين يتصفون باللباقة والأناقة ، حتى لكأنهم خلية نحل لا تهدأ .. وجري ذكر تلك الموضوعات بيننا ، فأعادوها علي مسمعي بمزيد من التفصيل ، مستشهدين علي هذه الحاجة الماسة إلي المناهج بما كانوا يعانونه في المرحلة الجامعية من افتقار إليها ، لسد بغية المفكرين من الطلبة والمدرسين ..

- ألا تري معنا أن لجوء بعض الأخوة إلي القوة في مواجهة زملائهم بالجامعة كان تعبيراً عن عجز فكري أدخلنا في مشكلات كثيرة .. ولا يغير من هذه الحقيقة أن سيطرتنا كانت كاملة علي جميع الاتحادات الطلابية في كل الجامعات ، فإنما هي العاطفة المشبوهة في كل المصريين نحو الإسلام ودعاته ، ولكنها عاطفة لا تقف علي قدمين ثابتين من المناهج المحددة في كل ميدان اجتماعي ، وبالتالي فهي سريعة الزوال ؛ لارتباطها بالأشخاص قبل الموضوعات ، وما لم تغذ هذه العواطف بالدراسة الموضوعية فإنها ستخمد بمجرد زوال المراكز القيادية أو بالسجن والاعتقال ..

- تدخل في الحديث شاب آخر قائلا :

- اسألني عن واقعة أخري ، فقد كنت قريبًا من مواقع المسؤولية في الجماعة .. فعندما قامت الثورة طلبت الثورة من الجماعة تزويدها بمنهج إسلامي شامل لوزارة التربية والتعليم .. ومرت الأيام دون أن تتقدم بذلك .. فهل هذه مسؤوليتنا أم مسؤولية الثورة ؟

- قلت : ربما جاء الطلب في خضم الصراعات التي كانت دائرة بينهما فاحترق بشررها .

- قال : ربما ، ولكننا مسؤولون عن إقامة الحجة علي الغير ، بصرف النظر عن الملابسات .. لجنة الدستور والجهاز الخاص ..

وأردف محدثي :

- إليك مثلاً من لجنة الدستور التي تشكلت فور قيام الثورة ، وكان يمثل الإخوان فيها ثلاثة من كبار الجماعة ، تعلقت بهم أبصار كل من كان باللجنة .. وظلت أبصارهم معلقة دون أن ترتد بشيء .. صبراً .. كأني بك ستقول : ربما لم يعطوا فسحة كاملة من الوقت .. وأقول : لماذا لا تكون الجماعة مستعدة سلفًا لأمثال هذه المفاجآت بالدراسة الكافية ؟ ألست معي في أن حاجتنا شديدة إلي مرحلة جديدة من العمل ، لا تعتبر تكراراً علي الإطلاق للمرحلة السابقة ؟ هذا هو ما نفكر في وضع أسسه من الآن .. هذه حدود قضيتنا الأولي .. والقضية الثانية تتعلق بالنظام الخاص المسلح ، الذي كاد أن يكون عقيدة عند فريق من الإخوان ، لا لشيء ، إلا لأن الإمام الشهيد حسن البنا قد أقامه ، مع أن الجهاز ارتكب بعض الأخطاء ..

وكان مقتضي الحكمة ألا نجمد علي أساليب معينة في العمل تجاوزنا زمنها وظروفها الملابسة ، وأن نظل نسعى لاكتشاف الأساليب الجديدة المشروعة ..

هل هناك غرابة في هذا الاهتمام .. إذا لم يسكن ذلك هنا فمتى وأين يكون ؟ ولماذا يقف بقية الإخوة من هذه القضايا موقفًا سلبيًا ؟

هؤلاء هم رجال الجهاز الخاص :

برأس مثقل بالأفكار ن وقلب مفعم بالأمل ، مليء بالثقة ، ذهبت للقاء الفريق الثاني من الإخوان ، ممن يمثلون النظام الخاص .. وقابلتني النفوس الراضية نفسها ، والوجوه الباسمة ، والقلوب الحانية الفياضة بالحب والإيمان والصدق البادي في حديثها ، وفي سلوكها العملي بيننا ، وفي المعسكر كل من عُين لي علي أنه من رجال النظام الخاص كنت أري في سابق مسلكه بيننا صورة السلف الصالح ، في إقباله علي الله بقيام الليل وصيام النهار ، وفي ملازمته للقرآن ، وفي أخذ نفسه بالجد ، وتفريغ قلبه من مشاغل المال والأهل والولد ، في ثقة تامة بالله ، ويقين بالآخرة ، وتسليم بقضاء الله وقدره .. وبأن الله يصنع ما يشاء لدعوته ويختار ، بعد أن استفرغوا الوسع وبذلوا الجهد البشري المقدور .. هذه فضيلة أخلاقية كانوا يتفوقون بها عن غير افتعال ولا تكلف علي الفريق الثقافي . والحكم هنا وهناك علي الأغلب لا علي الكل ، وكان رجال النظام يتميزون بصفة أخري ، هي صفة التقدير والاحترام البالغين لقادة الجماعة من أعضاء مكتب الإرشاد لذلك وجد فيهم المكتب الرجال الذين يمكن الاعتماد علي حسن سمعهم وطاعتهم ، وكانوا لذلك جديرين بتحمل أعباء العمل والمسؤوليات داخل المعسكر ، فكان يضع فيهم ثقته في المواقف الصعبة .. وجعلتهم التجارب الكثيرة أقرب إلي قلوبهم ، بينما كانوا يجدون في متصدري الشباب ندَّية ومحاورة تقترب من الحساب وتأبي المسلمات ..

- أما عن المناهج الواضحة فهي بغية الجميع .. والشعور بالحاجة إليها هو شعور عام لدي الجميع ، أنبته تضخم الجماعة ، وتزايد مسؤولياتها ن وخروجها من النطاق المحلي إلي المستوي العالمي . وفي النفس عتاب علي الإخوة الذين ينفثون في هذه الموضوعات ن ويكثرون من لوم الجماعة علي هذا القصور .. ولكن لا أعتبره قصوراً .. إنها طبيعة النمو الذي يمر به كل حي .. لم يكن معقولاً أن تولد الجماعة كاملة في تصورها للأشياء بين يوم وليلة .. إن تقدم الأيام ، وتنوع الأحداث قد زاد من مسؤولياتها تجاه الإسلام فهمًا وعملاً .. ولا أخفي عنك سراً إذا قلت لك : إن هذه الجماعة قد نمت بسرعة قبل الأوان ، مما أربك حركتها ، بل وأزيدك علمًا بأن بعض الأحزاب السياسية كان يتعجل نموها وتضخمها ، ليسهل ترديها في الأخطاء . ولذلك فقد فوجئنا ذات يوم بسيل من الأعضاء الجدد يدخلون الجماعة ، وجميعهم كانوا من حزب سياسي واحد هو حزب الوفد ، وقاموا علي الفور بجميع التزامات الأخ المسلم ، علي أمل أن يتاح لهم التسلل إلي المراكز القيادية في الجماعة .. كانت حيلة سياسية بارعة ، ولكن وقانا الله شرها .. أتدري كيف ؟

- أخبرني ..

- بأن شرح الله صدورهم للعمل للإسلام بعد أن عايشوا الجماعة عن قرب ، وأدركوا مسؤولياتهم نحو دينهم . وقليل منهم من عاد أدراجه ثانية .

وهم مسؤولون:

أخيراً وقع المحظور المحبوب ، وحدث النمو الكبير ، وأسهمت الأحداث السياسية علي أرض فلسطين والقنال في رفع أسهم الجماعة ، وبالتالي في تضخمها . وكان كل هذا لا علي حساب النضج المنهجي فحسب ، بل والنضج التربوي أيضًا .. لقد عجزنا بالفعل عن تدبير العدد الكافي من نقباء الأسر لتربية الأعداد الكبيرة ، التي زحفت بقلوب مفتوحة وعزيمة صادقة نحو أبواب الشُّعَب .. وكان أملنا أن يتولي هؤلاء الشباب سد هذه الثغرة التي يوسعونها اليوم بالحديث عن المناهج .. مَنْ غيرهم أولي بالقيام بهذا العمل ؟ إنهم دائموا الأسف علي خلو الجماعة من البرامج . وما هي الجماعة ؟ أليست هي أنا وأنت وهو ؟ لماذا يستقلون جهدهم ، وينتظرون غيرهم ليعمل لهم ؟! لماذا يرتادون هم هذه المجالات وينشئوا اللجان لذلك ؟! لاشك أن وجودنا في هذا المكان هي فرصة قدرية لا تعوض ، وعليهم قبل غيرهم الاستفادة منها ..

أبحاث وأشياء أخري :

قلت : علمت أن بعضهم قد سلك قد طريق الاعتماد علي النفس في بحث هذه الموضوعات ، وأن الأخ الدكتور السباعي يعكف علي كتابة بحث عن السمع والطاعة ، والأخ محمد عبد العزيز أعد بالفعل بحثًا في الشورى .. والأخ محمود الحوانكي يعد بحثًا عن النظام الخاص .. وهكذا .. قال : هذا جميل ويحقق الخير للجميع .. ودعني أسألك سؤالاً أخيرا

- تفضل .

- ما هي المناهج المحددة الواضحة التي قامت عليها ثورة 23يوليو ؟

- ليس سوي المبادئ الستة المعروفة

- دعني أسألك سؤالاً آخر :

- تفضل .

- ماذا كان منهج الثورة الفرنسية حين قامت ؟

- قامت تحت شعارات الحرية .. والإخاء .. والمساواة ..

- ألا تري معي إذن أننا نضخم المسائل ، حتى ليخيل للسامع أن تقصيراً كبيراً قد اقترفته الجماعة .. نرضي من غيرنا ما لا نرضاه لأنفسنا .. ألا تكفينا آيات القرآن الكريم كله ، وأحاديث الرسول الكريم منهجًا محدداً واضحًا شاملاً لكل شؤون حياتنا الحالية والمستقبلية والأخروية ؟ وإذا كان هناك وجه للحاجة ، فهو إعادة التذكير بقضايانا التشريعية ، علي ضوء المتغيرات الحديثة ، كأن تسمي الأموال بالنظام الاقتصادي ، أو تعطي لقضية الشورى بعداً نيابيًا أو انتخابيًا .. كل هذه ليست قضايا جوهرية إلي الحد الذي نختلف عليها ، والباب مفتوح لكل من يريد تزويد الجماعة بالجديد فيها ، مادام هذا الجديد يدور علي الأصول التشريعية نفسها في فلك الإسلام .

- ودعني أصارحك بشيء أخير في صدري .. أليس من الحكمة البعد عن التفصيلات الفقهية التي تثير جدلاً ، والاكتفاء في مرحلة الدعوة هذه بالأصول الواضحة والأركان الأساسية فيما لا يتعارض مع الشعائر التعبدية ؟ ثم من قال : أن الجماعة لم يكن لها منهج ورأي واضح محدد في كل قضية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية يعاني منها الوطن .. وهذه وسائلها ومطبوعاتها ومنشوراتها تعلن علي الملأ ذلك ، وهذا وجودنا بالسجن ينطق بالجواب .. إن إخواننا يحمَّلون العبارات مما تحتمل ويحملون الأيام ما لا تطيق .. لهذه الأسباب كان الجهاز الخاص ..

قلت : وماذا عن النظام الخاص ؟

قال : أؤكد لك أيضًا أن أحداً لا يختلف معهم حول مصيره ، ولا يوجد من ذوي الرأي من يعتبره عقيدة لا يمكن النيل منها .. وتحدث بنفسك مع من تحب ممن كانوا بالنظام الخاص لتري صدق كلامي .. الكل يؤمن بحق كل مرحلة في أسلوب عملها المشروع ، فإذا كانت المرحلة السابقة قد استوجبت تكوين النظام الخاص تحت ضغط الاعتبارات السياسية التي كانت تمر بها البلاد ، من وجود الانجليز ، والجهاد علي أرض فلسطين والقنال ، وتحت ضغط الاعتبارات المصلحية لتأمين الجماعة ، في مواجهة الأحزاب والقصر عليها ، فإن ذلك كله قد انتهي الآن ، وتغيرت الظروف ، ولا يوجد عاقل يتشبث بشيء في فراغ .. إننا اليوم في فراغ ، ولا يعلم إلا الله متى نخرج من هذا المكان ، ولا كيف ستكون الأوضاع ، ولا طبيعة الظروف حينذاك .. كل ذلك سيكفيه المستقبل . وقد سبق لي ولغيري أن أكدنا لهم هذه المعاني . فلماذا هذا الإصرار علي خلق مشكلة من العدم ، قد تتسبب في تغيير قلوبنا ؟! لنحتفظ بما هو أقوى وأخطر من عشرات الأنظمة الخاصة .. بأخوتنا في الله ، وحب قلوبنا . هذا هو سلاحنا الرهيب في مواجهة ظروفنا ...

وماذا عن الأخطاء ؟ ..

قال : أما عن أخطاء الجماعة ، فإني أقول لك أيضًا : إن البدايات التي سلكوها قد عطلت قصدهم الطيب . وربما لقلة خبرتهم في هذه المسائل .. فهم في سبيل تقييم أعمال الجماعة قد تورطوا – بحسن نية – في تجريح بعض الأشخاص ، ولم يستفيدوا من منهج القرآن الكريم الذي لم يذكر اسم فرعون مصر ، ولا أسماء أصحاب الكهف ، مركزاً علي العبرة بالموضوع دون الأشخاص .. جع للمخطئ فرصة ليعود .. أما إذا لاحقته بذكر اسمه في نادٍ ، فقد أعنت الشيطان عليه ، ودفعته دفعًا إلي التحدي والعناد .. كان من هدي الرسول الكريم أن يقول : ما بال أقوام فعلوا كذا .. أو قالوا كذا .. دون تعيين ذواتهم ، طالما أن النوايا الحسنة كانت وراء المواقف والتصرفات ، ولم يكن في الأمر قصد ارتكاب الأخطاء .. ثم إن خطأ جوهرياً لم يحدث في مواقف الجماعة الرسمية ، وربما أخطأ بعض الأفراد .. ومن الإنصاف ألا ننسب أخطاءهم إلي الجماعة ، بل نحاسبهم بذواتهم عليها .. وهكذا تري كم يلزم المتحدث من الدقة حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الأعمال .

لذلك يا أخي فأنا مع من يري تأجيل هذه الموضوعات إلي الخارج ؛ حيث يتسنى وجود كل الأطراف في ظروف حركة أفضل .. وعلينا هنا أن ننمي روابطنا القلبية ، ونعتبر أنفسنا في خلوة مع الله ، نتزود فيها بالعبادة والعلم .. وليعطنا إخواننا فيها فوق ثمار عقولهم المتفتحة وطاقتهم المبدعة ..

مطلوب جلسة مفتوحة :

- قلت له : مع أنك نجحت في إقناعي بالكثير .. إلا أنني أختلف معك في خاتمة الحديث .ز إننا اليوم أمام واقع موجود .. وأمام مشكلة في بدايتها .. لا يمكن حلها بالأماني ، ولا بالصمت . وكل عوامل التخويف يمكن التغلب عليها بقدر من الثقة بالنفس .. إن جلسة عامة مفتوحة منضبطة هي صمام الأمان في نظري ضد سريان الهمس وتصاعد الشكوك .. ولم أترك محدثي إلا بعد أن وعدني بدراسة هذا الاقتراح بجدية ..

كان الحوار يجري بين الفريقين في يسر وهدوء ، لا يخدشان جدار الإخوة والحب ، حتى لا يكاد يحس بذلك أحد ، فالأمور لم تتعد نطاق الاستفسارات والاقتراحات ، أو العتاب بما لا يعكر صفو الحياة الهانئة .. وكنت أجد قلبي عامراً بالحب للفريقين معًا .. ورأي فيهما كلاً متكاملاً .. فالتجرد والصدق والفدائية في جانب رجال النظام ، يكمله تفتح الفكر وتنوع الثقافة وتدفق الحيوية والدبلوماسية والظُرْف في جانب الشباب .. لذلك كنت أعجب لغياب هذه الحقيقة البسيطة عن الجميع .. وكنت أخشي إذا طال غيابها أن ينشرح جدار الحب بينهما .. كان يطيب لي أن أري في محور منهم صورة محبوبة تطل عليّ من تاريخ الأندلسيين وعلمهم وظُرْفِهم ومن عقلية المعتزلة وفلسفتهم .. وأري في المحور الآخر صورة محبوبة كذلك لجهاد أحمد بن حنبل وابن القيم وغيرهم .. إن في الأمر لبسًا بسيطًا لا يلبث أن يزول ، لتنعم الحركة الإسلامية بالنموذج الوسط الذي يجمع خير ما في الجانبين .. لكن ما هو الشيء المفقود الذي سيد فجوة بينهما ويزيل هذا اللبس ؟ هذا هو السؤال الذي كنت أطرحه علي نفسي ، وأبحث له عن جواب ..

الإخلاص موجود ، والإمكانيات ضخمة ، والمكان مناسب .. ومع هذا فقد طال الحديث في هذه الموضوعات ، حتى بت أخشي علي النفوس أن تتغير ، وعلي جدار الحب أن ينشرخ بينها .. ومع هذا أفقد الأمل في أن يجد الجميع ذلك الشيء المفقود .

المربع السياسي :

كانت ثقتي بالفريقين المتنازعين وسهولة نزولهما علي ما فيه مصلحة الجماعة وخير الدعوة المطلقة .. وكلما اقتربت من المستوي القيادي هنا وهناك كلما ارتفع ترمومتر هذه الثقة .. واعتقدت أن كل فريق يستهدف مصلحة الجماعة وخير الدعوة من خلال تصوره الخاص ، وأنهم لن يلبثوا في النهاية أن يصلوا إلي حل وسط ، حتى ولو كان هذا الحل هو صرف النظر عن هذه المواضيع كلية ، مع ما سيكون في هذا القرار من مرارة في نفسي ؛ لأن معناه تأخير نمو الحركة الإسلامية . كانت هذه الخلافات تتواري خجلاً في أنوار الأخوة الباهرة ، وكانت تمشي بيننا علي استحياء ، ولذلك فَقَدْ فَقَدَ الكثيرون الإحساس بخطورة استمرارها ، وقنعوا بالواقع السعيد ، ولم يعجلوا بحلها ، وزادت أنواع النشاطات الثقافية والفنية والرياضية من هذا الاطمئنان .. وكان الحب في القلوب أقوى من منغصات النفوس ، فسهل التعاون علي النهوض بالحياة في المعسكر وتطوير مرافقه .. وقد امتصت هذه المجالات الكثير من الطاقات التي كانت تتبدد في المناقشات .. ولكن ليل الصحراء كان لهم بالمرصاد ، فطيب نسيمه ، وسحر سمائه ، كانا يجددان الطاقات .. ولم تبخل الصحراء بمكان جميل للقاء هذه الطاقات وعقد الندوات ، مكان هو عبارة عن المربع الخالي ، الواقع بين آخر صفوف الخيام من جهة الشمال وبين السور الشائك المحيط بالسجن . كان هذا المكان مسرحًا ليلّيًا ، ومتنزها في الأصيل .. وفي الليالي القمرية يحلو فيه السهر إلي ساعة متأخرة من الليل ، في مناقشات مستمرة حول حاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها ، وحول محنة مصر ومخرجها ، وحول العالم ومشاكله ، وأخيراً حول الجماعة ومناهجها وأخطاء الجهاز فيها ، حتى أطلق الجميع عليه اسم المربع السياسي . ولعب هذا المربع السياسي دوراً كبيراً في حياة المعسكر ، ومازال مجرد ذكره يعيد إلي الأذهان صورة الندوات المبعثرة علي الرمال الصفراء ، كأنها أحواض من الزهر الأبيض في بستان من الذهب .

المدينة الفاضلة :

وكان النهار بدوره لهذه الطاقة المتجددة بالمرصاد ، يستخدمها في تطوير الحياة داخل المعسكر وتجميلها .. ولم يكن علي هذا الأمر خلاف .. حتى أصبح المعسكر نموذجًا للمدينة الفاضلة ، التي تغنَّي بها الحكماء .. فلقد أقيم الميس العام في الطرف الشرقي من المعسكر بجوار السور الشائك من عدة خيام ؛ ليقدم الواجبات الثلاث لجميع الإخوان ؛ لتوفير مشقة الإعداد داخل الخيام من خلال حرية كل خيمة في الاختيار ، كما أقيم البوفيه داخل الميس العام ؛ ليقدم مختلف المشروبات بثمن زهيد .. ونظمت العملة النقدية ؛ بحيث تم طبع فئة العشرة قروش وأخري فئة الخمسة ، تحمل كل منها خاتمًا بشعار الإخوان ، هذا فضلاً عن عملة من الصفيح مضلعة ، تحمل هلالين ، قيمتها قرشان ، وأخري بهلال واحد ، قيمتها قرش ، وثالثة صغيرة عليها هلال قيمتها نصف قرش .. وعلي امتداد الميس العام في اتجاه السور الشمالي أقيم المستشفي من خيمتين تحت إشراف أطباء الإخوان ؛ لتقديم الرعاية الطبية لكل الموجودين بالسجن من سجانة ومسجونين بمختلف فئاتهم . وعندما حدثت مشاجرة بين الحزبين الشيوعيين ؛ لاختلافهما حول موقفهما من الثورة ، بادرنا بعلاج المصابين منهم بالمستشفي ..

مزارع :

أما عن الزراعة .. فكانت هي بهجة المعسكر ، بعد أن تفنن الإخوان في توفير مخصبات التربة من مخلفات الفرن والمطبخ ودورة المياه حتى حولوا هذا الرمل الأصفر إلي عنبر أسود ، أنبت كل أصناف الخضروات ، فضلاً عن المزارع الخاصة حول الخيام ، فقد أقيمت مزرعة عامة بجوار فنطاس الماء ، كان مطبخ السجن يعتمد عليها في الكثير من الوجبات . وكان برج الحمام يقف شامخًا بجوار كل خيمة ، ولم تكن تخلو خيمة واحدة من هواية تربية الحمام ، وسرعان ما أصبحت أسراب الحمام تجوب سماء المعسكر ، أو تفترش أرضه في الصباح كاللؤلؤ المنثور ، أو تحتضن ظهور الخيام في الأصيل .. حتى الأرانب كانت لها سوق رائجة حول الخيام .. وكثرت القطط والكلاب التي قضت علي العقارب والجرابيع والحيات .. أما الدواجن ، لم يسمح مجلس الأمراء بوجودها بين الخيام ، وخصص لها مزرعة جماعية خلف مرافق السجن ، يشرف عليها بعض الإخوة البيطريين والزراعيين .

وللرياضة مكانها ..

أما الرياضة .. فقد رأت عصرها الذهبي بإنشاء ثلاثة نواد رياضية : نادي الجهاد برئاسة الأخ صلاح شادي ضابط الشرطة السابق ، ورئيس تنظيم ضباط الشرطة بالإخوان ، ونادي النصر برئاسة الأخ محمود عبده ، أحد قواد حرب فلسطين ، وأحد رجال التعليم القلائل ، ونادي الفتح برئاسة المهندس صلاح العطار أحد الأبطال الذين اخترقوا حصار الفالوجة ، وأنقذوا الجيش المصري المحاضر .. كانت النوادي الثلاثة تضم مختلف الألعاب الرياضية ، وتقوم بينها المنافسة الحامية علي مدار فترة الدورة الرياضية التي ينظمها الاتحاد ، وتختتم كل دورة باحتفال كبير ، يشترك فيه قائد السجن وضباط الإدارة ورجالها ، ويشاركون أعضاء مكتب الإرشاد في توزيع الجوائز .. ومازال ماثلاً في أذهاننا جميعًا آخر احتفال جري في هذا المعسكر ، حيث كان يتقدم الاستعراض الرياضي المرحوم الشيخ أحمد نار ، بقامته الفارعة وزيه العربي الجذاب ، ماداً ذراعيه للأمام ن يحمل عليهما مصحفًا ضخمًا مفتوحًا ، ووراءه أعلام النوادي الثلاثة ، يتقدمها علم الاتحاد العام مزينًا بشعارات الإخوان ، وخلف الجميع سارت طوابير النوادي الثلاثة .. كل نادٍ بزيه الرياضي المتميز ، والفرقة الموسيقية في زيها الأنيق تدق المارشات من فوق منصة مخصصة لها في وسط الملعب ، وكانت خاتمة الحفل قلعة كبيرة من ثلاثة أدوار من الإخوان وقف علي قمتها أحد الإخوان ، بيده علم عليه شعار الإخوان ، وهتافات الإخوان من فوقها ، وتجاوبت معه جنبات المعسكر في صوت هادر كالرعد ، لا عهد للصحراء به من قبل .

والمياه عصب الحياة قد حلت مشكلتها ، وامتدت المواسير بين الخيام . كما نظمت الحراسة الليلية بين جميع الإخوان ، حتى أصبحت حراسة السجن لنا ثانوية . أما عن الجانب الثقافي .. فقد كانت مشاعله كثيرة .. فهذه مجلة البشري العلمية الشهرية ، ومجلة الواحة الأدبية ، ومجلة المنفي السياسية ، وكل مجلة تسد حاجة من الحاجات وتقف علي ثغرة .. ونشطت المحاضرات في المسجد في مختلف الموضوعات ، نظراً لوجود درجات عالية في مختلف التخصصات . كل هذا بجوار خاطرة الصباح بعد صلاة الفجر من أحد أعضاء مكتب الإرشاد .

مدرسة في المعسكر :

كما أقام الإخوان مدرسة في الصباح ، بهيئة تدريس كاملة ، لكل المستويات العلمية ، مقرها المسجد ، ومواعيدها من الصباح حتى قرب الظهر .. كما نشطت جلسات العلم الحرة في رياض سلفنا الصالح ، وكان لي حظ الاشتراك في أسرة ابن القيم ، التي أخذت علي نفسها قراءة أكبر من مؤلفات هذا العالم الجليل مثل كتاب " مدارج السالكين وأعلام الموقعين " وكتاب " الروح " وقد أدت هذه الكتب القيمة دورها الهام في نفسي ، في تعميق الصلة بين دور العقل ودور القلب في طريق العمل المستقيم والسلوك الحميد المستنير بالوحي .. وكانت المكتبة العامة تمد الجميع بالمراجع القيمة . وللفن دور :

وحظي الجانب الفني باهتمام كبير ؛ حيث أقيم مسرح ما بين الميس والمستشفي ، مُثَّلت عليه كثير من الروايات ، من تأليف الإخوة الأدباء ، أذكر منها مسرحية " انزل يا باشا " للأخ عبد الرحمن البنان ، ومسرحية " أهل الكهف " للأخ محمد نصير ، وغير ذلك من التمثيليات الفكاهية .. وتكونت فرقة موسيقية كاملة بكامل الأدوات الموسيقية ، لافتتاح الحفلات ، ولإحياء المناسبات السعيدة عند الإخوان . وكان لكل خيمة يوم سمرها الأسبوعي تقريبًا ، وانهمر الإنتاج الفني من أشعار ومنلوجات وأزجال ، وكنت أشارك ببعض أغاني محمد عبد الوهاب ذات المستوي الرفيع معني ولحنًُا . وهكذا أخذت تسير موكب الحياة في بحر الصحراء الهادئ ، لا يؤثر فيها ضربات الموج عن يمين وشمال . حتى إذا ما أهلَّ شهر رمضان العظيم كانت له فرحة كبيرة ، وكان له حالة طوارئ كاملة في جميع ألوان النشاط ، فالنهار والليل لا يختلفان ، لكثرة ما فيهما من صنوف العبادات وقراءة القرآن ودروس العلم ، حتى لكأن المسجد قطعة من الجنة بروحها وريحانها .. فإذا ما أهلت العشر الأواخر من الشهر ضربت المعتكفات في كل شبر في سور المسجد الداخلي ؛ إحياءً لهذه السنة المباركة التي سنها الرسول الكريم ، وكانت هذه أول مرة في حياتي أري فيها وأدرك سر الاعتكاف ، بعد أن أكرمني الله بذوق حلاوته في روحي .

حكمة الاختلاف ومداه :

كان أمر الحياة في داخل المعسكر عجيبًا في نفسي فلقد رأيت بنفسي كيف بُذِلَت الجهود الجبارة لإحالة الصحراء الفاحلة إلي واحة وارفة الظل ، وكيف أهبط الله علي هذه البقعة من الصحراء المن والسلوى ، وكيف صارت قطعة من الجنة في نفوسنا .. بالقطع لم يكن في تقدير المسؤولين في الدولة هذه النتيجة ، بل كانوا يتصورن أن الحر والفقر سيقضيان علي ما تبقي في نفوسنا من روح الجهاد ، وعلي ما تبقي في أجسامنا من مقاومة ، بعد حمامات العذاب ، ولكن الله أراد غير ما أرادوه ، وكانت هذه النتيجة مفاجأة لنا ولهم معًا ، ونفعنا البعد السحيق في بطن الصحراء في إقامة هذا اللون من الحياة ، بعيداً عن العيون ، وتجاوب معنا في إقامتها كثير من ضباط السجن ؛ لأنهم كانوا أشبه بالمسجونين معنا في هذا الوادي السحيق .. وأهم من ذلك كله سيطرة الشعور العام بحلاوة هذه الحياة الربانية ، التي يسري فيها نور السماء في الأعمال والأنشطة . فبالرغم من أن الجهود المبذولة كبيرة في جميع المرافق بما لا يمثل له في أي مجتمع بشري مماثل ، مهما تشدق بالشعارات ، إلا أن روح الأخوة واستصحاب الغاية الكبرى والترابط في السراء والضراء كان يجعل الجهد البدني متعة من لون جديد ، نتسابق جميعًا عليها ، مثلما نتسابق بعد الفراغ من أعمالنا علي جلسات للعلم والعبادة والفن الرفيع .. تمنيت لو سادت هذه الروح كل قرية في مصر ، وتمنيت لو صححت الأهداف في حياة كل مجتمع بشري – صغر أم كبر - ؛ بحيث لا تستغرقه الوسائل علي حساب الغايات ، فكل النشاط المادي من زراعة وتجارة وعمل بكافة أشكاله وسائل لغاية أكبر منها وأرحب وأسعد .. غاية تلقي ظلالها علي الوسائل فتكسبها الرحابة واليسر كذلك ..

وإنني بمعايشة هذا الواقع اقتربت كثيراً من تصور طبيعة مجتمعاتنا الإسلامية الأولي ، التي كانت تفيض بالسعادة والبشر والأمن والاستقرار إلي آخر قاموس المعاني الإنسانية ، التي تحلم بها البشرية نظريًا ، دون أن تظفر بها في عالم الواقع حتى اليوم ، فمازالت شعارات الإخاء والمساواة والحرية وعدم الاستغلال والكفاية والعدل وغيرها ، مازالت منذ قيام الثورة الفرنسية وحتى اليوم أحلامًا في الهواء ، تمني بها الشعوب علي لسان كل حاكم ، وفي كتابات كل ثائر ، دون أن تنجح في تحقيقها في الحياة بالفعل .. لأنها تفتقد التميز الصحيح بين الأهداف والوسائل ، وقد قلبت الأمور حين جعلت الوسائل غايات ، فضاع الاثنان معًا .. ولم تصل إلا إلي سراب إثر سراب .. لكم هنا .. في هذا السجن .. وبين هذه المجموعة من العاملين للإسلام وجدت الترتيب الصحيح بين الغابات والوسائل .. وذقت بسبب ذلك طعم الحياة السعيدة .. وقد غطي هذا الإحساس الجميل في نفسي علي آلام الاختلاف في الآراء ؛ ليقيني أنني اكتشفت في طبيعة هذه الحياة الفريدة ما هو أعظم من المبادئ والنظريات .

جنبًا إلي جنب ..

وسار الخلاف حول المناهج ودور الجهاز الخاص جنبًا إلي جنب مع تطور الحياة المشتركة بين الجميع ، وأخذ البعض من مغبة ذلك .. ولم يكن تخوفهم من وجوده ، بل من تجاوزه لحدوده .. أما الوجود في ذاته فهو أمر طبيعي ، لا تتقدم حياة أي مجتمع بدونه .. وذلك أنني كنت أري مع من يرون أن هذا الخلاف خير وبركة ، وأنه سنة من سنن الله في نمو الكائنات وترقيها ، شريطة أن يتحول هذا الخلاف إلي شيء جديد بعد زمن وشروط مناسبين ، أما إذا لم يحدث هذا التحول بأن طال أمده أو فقد شروطه ، فأنه ينقلب صراعًا مدمراً لأطراف الموضوع .. فالخلاف وإن كان لازمًا في الابتداء ، فهو عظيم الخطر في الانتهاء ؛ لأنه ينتهي إما بتحقيق النمو والترقي إذا روعيت شروطه ، وإما بالدمار عند مخالفتها ، ونسميه في عالم المادة بالتفاعل في ظل نسب معينة ودرجة حرارة معينة ووعاء مخصوص للحصول علي مركب جديد مغاير في الصفات للعناصر الأصلية .. قد تحتاج العملية لعامل مساعد .. ولكنها بالقطع تترك وراءها مخلفات . كما نسميه في عالم النبات بانقسام الخلية ، من بعدها يستغلظ النبات ويستوي علي سوقه ، وينقض عنه ما استنفد دوره من أوراق وأغصان . ونسميه في عالم البشر بالجدل أو الحوار وآدابه للوصول إلي قضية جديدة . وكل من التفاعل أو الانقسام أو الحوار هو حركة متوازية ، عند توفر الشروط تؤدي إلي النمو والتقدم . وعندما تفقدها تنقلب إلي صراع وشقاق ، يعوق الحركة أو يدمر الظاهر .. والاختلاف في عالم الأشياء جبري ، أما في عالم البشر فهو إرادي يستوجب المسؤولية عنه .

درس من السلف :

بهذا المنظار الحكيم وعينا سر الاختلاف في حياة الصدر الأول من المؤمنين ، وأدركنا حكمته ومغزاه ، فقد اقتضت إرادة الله أن يختلف المسلمون الأوائل علي توزيع الغنائم ، وحول موقفهم من الأسري ن وأن يضطربوا في حديث الإفك ، رغم تمتعهم جميعًا بالإخلاص في البحث عن الحق ، ومع هذا فلم تتفق كلمتهم إلا بعد نزول الوحي بالنص الواجب في هذا المقام .. وبهذا وعوا درس الاختلاف جيداً ن وعلموا أنه يحدث عادة في البداية ، قبل أن نتداركه بالحلول المناسبة والقواعد المتطورة ، وبأن فترة الاختلاف هذه تُخرج من نفوسنا ومن مجتمعاتنا أثمن ما فيها من إيجابيات ، وأخبث ما فيها من سلبيات ؛ لكي تقف علي عوامل وأسباب الضعف الكامن فينا من قريب ، ولكي نشعر بنعمة الاتحاد بعد ذلك وبضرورة وقيمة النص الرباني في حياتنا .. ولقد أثبت التاريخ أن المجتمع الإسلامي الأول خطي خطواته القدرية إلي الأمام في هذه القضايا ، ولم يتكرر الاختلاف علي هذه الأسباب مرة أخري ..

حتى بعد أن انقطع وانتقل الرسول إلي الرفيق الأعلى ؛ اختلف الصحابة حول الخليفة ، وحول حروب الردة .. واختلفوا حول الفتوحات ، وحول تقسيم الأرض المفتوحة عنوة .. ولكن وعيهم السابق بدروس الاختلاف وهدي القرآن فيها جعلهم يصلون بسرعة إلي الحلول بأنفسهم ، لأنه لم يعد هناك وحي ينزل ، ولكن هناك قلوب مؤمنة وعقول مفكرة ، تعمل وتجتهد ، ولا تترك للشيطان فرصة لينجح في تحويل الاختلافات الطبيعية إلي صراعات أبدية ، تذهب بريحهم جميعًا .. لذلك بادروا بالوصول إلي الرأي الموحد والقاعدة العملية ، وعرفوا حقيقة الإجماع وقيمته ، حتى صار الإجماع دليلاً رابعًا من أدلة الشرع في استنباط الأحكام التي تواكب المجتمع وترقيه ، وبرهنوا بذلك أن اختلافاتهم كانت خلافات رجال مؤمنين ، يستهدفون الحق ، ويصلون إليه بالصبر والحب ، وصدق فيهم قول الرسول الكريم بأن أمته لن تجتمع علي باطل ، ولم يجعل الله للشيطان عليهم سبيلاً ..


الفصل الرابع : ( الإخوان المسلمون هل هم جماعة المسلمين أم جماعة من المسلمين ؟ - تفاصيل خطة الهروب الكبير التي دمرت معسكر الإخوان )

عندما حمى وطيس المربع السياسي في المعسكر أخذت كثير من الروابط تهتز ، ولما خشي المسؤولون من مغبة السكوت استجابوا لنصيحة العقلاء ، بالبحث عن حل حاسم ، أسوة بسلفنا الصالح وعزيمتهم ؛ حتى لا يتحول الخلاف المشروع إلي نزاع وشقاق .. وعمد أعضاء مكتب الإرشاد إلي الرؤوس ، فعقدوا معهم جلسة مطولة ، انتهت بالاتفاق علي أن يقدموا أبحاثًا في جميع هذه القضايا ، تكون محل دراسة عملية من جميع المختصين بالمعسكر ؛ للوصول من ورائها إلي نتيجة مفيدة للحركة ، وتعهدوا للمكتب بالكف عن الكلام أو السعي بهذه الآراء بين الإخوان ؛ حتى لا تتبلبل النفوس . واستبشر الجميع بهذه الخطوة .. وسكنت العواصف ، وهبَّ النسيم ، وانزوي الكلام ، وأطلَّ العمل ، وبدأ الجميع يرقب نشاط البحث ، بل ويعين علي ذلك بما يستطيع من مراجع أو معلومات ، وظهرت البواكير علي يد محمود الحوانكي وعبد العزيز أحمد ، حين قدما أبحاثهما إلي المكتب . عشنا أيامًا هادئة معبقة بعطر الإخوة .. الصمت فيها أعذب لحن في الأذن .. والابتسامة أقوى سلاح في الإقناع .. اقتربت القلوب من بعضها ..ازددنا فيها حمداً لله علي نعمة الأخوة التي تجبّ في يسر كل العقبات .

وهل يرضي الشيطان ؟!

لكن كيف يرضي الشيطان بهذه النتيجة وهو لنا بالمرصاد ، والصلة بينه وبين الشوائب والمخلفات قائمة .. تضيق وتنكمش في مثل هذه الأوقات ، ولكنها موجودة تتربص وتنتظر الفرص وتبحث عن الثغرات .. ولا يملك المسؤولون عن الجماعة أن يمنعوا الشوائب من الاتصال ، ولكن أقصي ما يمكن عمله هو أخذ الحذر من مراكز الفتن هذه ، والعاصم هو الله .. لقد تشجعت الشوائب علي الاتصال بالرائد بهجت ضابط المخابرات ، وبأعوانه من ضباط السجن ، وقُضي الأمر .. كانوا مستكينين في ظل وحدة الصف ، وقبل أي خلاف ، فلما تلقفت آذانهم الصم ونفوسهم المرضي بعض هذه المعاني الهادفة من الغيورين علي البناء ، وجدوا فيها فرصتهم ومبررهم في الانفلات ، ولم يتوقع أحد من أطراف الخلاف الجادين نوع الخطر الذي يمكن أن يأتي من قبلهم في المستقبل ، بدليل أن حرصهم علي الجماعة قد دعاهم إلي الاستجابة السريعة لرغبة أعضاء المكتب في تقديم الأبحاث في الوقت المناسب .. ولكن ها هي المخلفات أو الشوائب قد أثبتت أنها تحتاج لوقت أطول ، ولأسلوب آخر لتفادي ضررها والوقاية من سمومها ، حتى بعد أن يتكون المركب في حياتها الطبيعية وفي كامل سلطانها لفصلت مثل هذه الشوائب ، أو أبعدتها ، أو تحصنت من شرها ، ولكنها في واقعها هذه مجبرة علي أن تظل تحمل هذه السموم في جوفها ؛ لأن للشيطان مصلحة في ذلك .. تمامًا مثلما كانت له مصلحة سابقة في بثهم داخل زنازين السجن الحربي ، أثناء التحقيقات ؛ لمعرفة ما يدور بين الإخوان ، ولكننا كنا نكشفهم بسهولة من فلتات اللسان ، ومن تثاقلهم عن العبادة .. ومَنْ يدري ربما أمعن الشيطان في خبث ، فأصدر علي بعضهم أحكاماً بالسجن ليكونوا شوكة في حلوقنا حتى حين .. إن هناك من توحي تصرفاتهم بذلك .. لصلتهم الحميمة بالشيطان ..

ومن نكد الأيام للحـر أن يري عدوًا له ما من صداقـته بدُّ


الهروب الكبير :

لقد واتت أعوان الشيطان الفرصة الذهبية بفكرة الهروب الكبير إلي السودان ، ليملأوا الدنيا صياحًا ، وليكنأوا ما التأم من جراح .. ومع أن الهرب لم يتم ، إلا أن الإعداد له والسرية التي أحاطت مراحل تنفيذه جعلت للمشروع جدية تقترب من التنفيذ .. وهذا ما جعل له صدّي بعيداً ، سواء فيما بيننا أو لدي الحكومة . ذلك أن الرائد جمال ربيع – ضابط المخابرات السابق ، والمحكوم عليه – شرع في التجميع سرًا لهذه الفكرة ، بعد أن حصل من رجال الكتيبة علي خريطة عسكرية ، دري عليها جميع الاحتمالات ، حتى احتمال مفاجأة الطيران لنا أثناء الطريق الذي يبلغ سبعمائة كيلومتراً حتى حدود السودان .. كما درس فكرة الاستيلاء علي كل حرس السجن وكل فئاته ومؤنه ، وقطع الخطوط التليفونية عن عاصمة الوادي .. وجنَّد معه لهذه الفكرة العديد من الإخوان ذوي الخبرة العسكرية ، ممن لهم سابقة جهاد في فلسطين ، أو علي ضفاف القنال ، مدعيًا أن هذا العمل يتم بموافقة المسؤول العام الدكتور حسين كمال الدين .. ولكن الأخ أبو الفتوح عفيفي شكَّ في الأمر ، وأبلغ الأمر لمكتب الإرشاد فنفوا علمهم بهذا العمل الخطير .. وبادر الدكتور حسين كمال الدين بالمرور علي الخيام معلمنا عدم مرافقته علي الفكرة ، ومبينًا ما فيها من تسرع وثغرات قد تؤدي بحياة الإخوان جميعًا .. ونال الإخوة العسكريون قسطًا كبيرًا من لوم إخوانهم ، وانصبَّ اللوم الأكبر علي الرائد جمال ربيع الذي استغل اسم المسؤول العام في هذا الموضوع .. واختلط اللوم بالكلام عن أخطاء التنظيم الخاص ومناهج الجماعة ، وكان أعوان الشيطان بين مغال في لوم العسكريين وبين متعاطف معهم . المهم أن يشقوا صف الجماعة بأي موضوع ، وفي أي اتجاه . وهذا مطلب أساسي يسلك الشيطان إليه أي سبيل .. ولو تزيي أعوانه كل يوم بزى جديد . بهذا الجو المتوتر ختمنا عام 1955 م ، ولم يظهر فيه أي أثر للأبحاث التي قدمها بعض الإخوان ؛ حيث وئدت هذه البداية الطيبة في مهدها بسبب فكرة الهروب .

وانتعش الأمل ..

وما أن أشرقت علينا عروس الصحراء في تاجها الذهبي وغلالتها الوردية ، معلنة بداية عام جديد هو عام 1956 م ، حتى تجدد الأمل في قلوبنا ، بعد أن أغفت الأحداث قليلاً ، لتتيح فرصة أوسع لمكتب الإرشاد لأن يعمل وأن يستشعر المسؤولية ، أكثر من أي وقت مضي . لقد فتح أبوابه لاستقبال الاقتراحات من الجميع ، ودعا كل أخ أن يشارك فيها ، حتى يمكن وضع بداية جديدة لحياتنا ، يرضي عنها الجميع .. وجاءت البشري في طابور التمام علي لسان المسؤول الإداري معلنًا قرار مكتب الإرشاد بإنشاء لجان للأبحاث مقرها المسجد ، لبحث القضايا الفكرية والحركية بحثًا أمينًا ، فيه خلاصة تجاربنا ، وعصارة مستوياتنا العلمية ، ونوع تصورنا للمستقبل .. وسرعان ما تكونت اللجان ، وأقبل عليها الإخوان بقلوب مفتوحة ورغبة قوية .. فهذه لجنة الهدف والوسيلة .. ولجنة الحقوق والحريات .. اللجنة الاقتصادية .. اللجنة الإدارية ولجنة شؤون الأخوات وهكذا .. عمَّت المعسكر فرحة حقيقية ، وسار الجميع إلي بعضهم بورود الحب ، ورياحينه وانفتحت مغاليق القلوب ، وزاد البشر ، وانطلقت الهمم من عقالها .. وما هي إلا أيام حتى كان العمل في هذه اللجان يسير قدمًا بخطي واسعة ..

دوامة ..

لكن كيف يرضي الشيطان وأعوانه عن هذه النتائج الطيبة ؟! وكيف تقر أعينهم برؤية القلوب موحدة وهم الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ؟! فكيف يتسنى لهم " وقد شاطت سهامهم السابقة " أن يجدوا في عمل اللجان فرصتهم المواتية وهي لجان علمية تبحث في القضايا بطريقة متجردة .. قديمًا قالوا : من أراد عيبًا وجده .. التقط أعوان الشيطان بدهاء الخيط من إحدى اللجان ، وهي علي وجه التحديد لجنة الهدف والوسيلة ؛ ليثيروا زوبعة حول بعض النشاط التي افتتحت اللجنة عملها به . كانت توصية المكتب للإخوان بألا ينشغلوا بما يجري داخل اللجان من نقاش واختلاف في وجهات النظر حتى تخرج إليهم كل لجنة في النهاية برأيها الموحد فالحرية مطلقة داخل المسجد مقيدة خارجه ؛ حتى توفر الجو الهادئ للبحث العلمي السليم .. ولكن أني لأصحاب الهوى أن يلتزموا ، وهم الذين يتربصون بالجماعة ويتحينون الفرص .. وجاءتهم الفرصة حين نشروا بمجلة البشري البحث المقدم للجنة الهدف والوسيلة من عضوين بها تحت عنوان من نحن ؟ قبل الكلام عن الأهداف والوسائل .. هل نحن جماعة المسلمين أم جماعة من المسلمين ؟ .. ولم يكن هذا السؤال بذي بال وكان من الممكن أن يمر بسهولة ولا يثير الانتباه .. وكان بإمكان اللجنة أن تتجه مباشرة إلي دراسة الأهداف والوسائل دون إثارة هذه النقطة الشكلية ..

كما أن تقرير اللجنة كان طبيعيًا ، حيث جاء فيه بأننا جماعة من المسلمين ، تدعو إلي تحكيم الإسلام ، شأن غيرنا من الجماعات . ولم ترتب اللجنة علي هذه الإجابة أية نتائج ، لكن أعوان الشيطان أخذوا يطلبون لهذه الفتوى ، بعد أن نجحوا أولاً في نشرها بالمجلة ، وبالتالي حركوا اهتمام المجتمع كله بها ، مخالفين توصية أعضاء المكتب ، ومتنكرين لتقاليد عمل اللجان ، وأخذوا يخرجون عليها نتائج لم تخطر ببال القائلين بها أنفسهم ، مما ألجأ العقلاء بالمعسكر إلي مناقشتهم تارة ، أو طلب الكف عن الحديث تارة أخري .. فإذا ما أغلظ أحد في طلب الكف عن الكلام أثاروا عاصفة من الاحتجاج علي ضياع أدب الحوار .. وهكذا نجحوا في خلق دوامة جديدة بدأت تتسع مع الأيام .

حوار مع أعوان الشيطان :

وكان لابد لي أن ألتقي بأحد أعوان الشيطان ، وأسأله في ألم :

- يا أخي ، ما هذه الضجة المصطنعة ؟ وماذا ترتب علي نتيجة هذا السؤال ؟

- إنها ليست ضجة ، وإنما هو تأصيل للمسائل وتقعيد لها .. فكوننا جماعة من المسلمين معناها ببساطة أننا لسنا الجماعة الإسلامية الوحيدة التي تعمل للإسلام .. وهذا معناه أيضًا أن فضيلة المرشد العام ليس إمامًا للمسلمين .. وليس له حق إقامة الحدود ، وأن مخالفته في وجهة النظر والخروج عليه ليس معناه خروجا علي الجماعة .

- قلت : إنك تثير موضوعات ليس لها وجود .. فمن الناحية الموضوعية ، وبصرف النظر عن الإجابة عن هذا السؤال البيزنطي ، فإنه لا اعتراض علي كل ما قلته ، ويشهد الله أني لم أقابل أحدًا ينادي بعكس ما تقوله ، ولم يكن ثمة داع لتحصيل الحاصل ، فالمهم أن تتيح الفرصة للَّجنة لتبحث بقية الموضوعات .. ولنفترض أنها لم تبدأ بهذا السؤال المنكود .

- قال : لا أوافقك علي تبسيط المسائل والتهوين من شأن هذه القضايا . ودعني أزيدك إيضاحًا ..

- إذا اقتنعنا بأننا جماعة من المسلمين ، ولسنا جماعة المسلمين ، فإنه ينبت لدينا سؤال آخر إذاً .. أين جماعة المسلمين ؟

حوار مع أعوان الشيطان وزوبعة تدمر كل شيء :

استمر محدثي يقول : لابد من أن جماعة المسلمين موجودة ، سنجدها موجودة في شكل الدولة القائمة برئيسها الحالي ، حتى وإن جاء إلي الحكم بطريق الانقلاب ، فإنه يسمي في الفقه الإمام المتغلب ، ومعني هذا " مرة أخري " أن جمال عبد الناصر هو الإمام المتغلب ، الذي له علينا حق الطاعة ، والخروج عليه يعتبر خروجًا علي الإمام .. وهذه أحد أخطاء النظام الخاص المسلح ، الذي تسبب في خروج جماعة من المسلمين علي جماعة المسلمين .. فوجوده خطأ منذ البداية وفي المستقبل .

- لقد فهمت الآن أنك تبحث عن سند فقهي ، يبرر موقف الذين نالوا من دور الجهاز الخاص في المحاكمات ، أو الذين أطلعوا الحكومة علي أشخاصه ، أو دلوا علي إمكانياته .. فكانت هذه الفتوى هي قميص عثمان .

- لاشك أن ذلك كان عن موقف عقائدي من الجهاز الخاص ، ولم يكن نتيجة ضعف أو خور كما يصوره البعض ، ولهذا فإن الأمر يستلزم التخلص منه في المستقبل .

- قلت : ولماذا كل هذا العنت والنصب .. وكل من له صلة بهذا الموضوع متفق علي أن وجوده كان وليد ظروف تاريخية كحرب فلسطين والقنال . ومناورات القصر والأحزاب .. تمامًا مثلما كان الضباط الأحرار تنظيم خاص بالجيش .. وكل ذلك قد انتهي ، والمستقبل وحده سيلد أنظمته الجديدة .. وهذه القضية قد تجاوزناها ، وما أقيمت اللجان إلا لتكون فاتحة مرحلة جديدة .. مرحلة علمية موضوعية .. بعيدة عن المهاترات ..

تركت محدثي بعد أن اكتشفت خبيئة نفوس أعوان الشيطان ، وأنهم يستغلون ما يثيره العقلاء من وجهات نظر ، لينقذوا منها إلي أغراض بعيدة .. وأن هؤلاء الأعوان يبذلون جهداً ماكرًا لاستقطاب من علي شاكلتهم ، وأن هناك أشباحًا تطاردهم وتعميهم عن السير علي الطريق المستقيم ، وأن الشيطان من ورائهم ، يخطط لهم ويعدهم ويمنيهم .. وأن مزيدًا من الحذر أن يأخذ الإخوان أنفسهم به من هؤلاء الذين يعايشوننا كرهًا ؛ حتى لا يتجاوزوا مرحلة الكلام إلي مرحلة الأعمال المحرجة ، والتي قد توقع المعسكر كله في الفتن والصراع .. هكذا كنا نتواصى في مواجهتهم .. ولم يطل بنا الترقب .. فقد تحقق ما كنا نخشاه ، حين تعرض مجهول بليل للشيخ فارس فريح بوتد من الخشب علي رأسه ، انتقامًا مما قاله في خطبة الجمعة عن أخطاء الجهاز .. وهب المعسكر علي صوت الاستغاثة .. واهتم المسؤولون في اليوم التالي بالأمر ، وشكلوا لجنة للتحقيق الفوري في الحادث ، قبل أن يضخمه المغرضون ، ولمعرفة الفاعل الحقيقي بعد أن طبل أعوان الشيطان وزمروا للحادث . وخرجت اللجنة بعد بحث دقيق واستقصاء بأن هذا الحادث من صنع أعوان الشيطان أنفسهم ، وإن لم تجد علي هذا الشك دليلاً .. لكن الملابسات أقنعتنا جميعًا بذلك . المهم أنهم نجحوا بهذا الحادث الصغير في وضع نهاية للجان الأبحاث مرة أخري ، بل ولكثير من الدروس والمحاضرات ، باستثناء درس السيرة للأخ سيد ورد ، وعادت لأيام المعسكر سيرتها الأولي ، وللمربع السياسي نشاطه القديم ..

الزوبعة :

وذات ليلة خرجنا من خيامنا نهرول علي إثر سماع زمجرة شديدة ، هزت أركان المعسكر ، مقرونة بصفير حاد كأنه نفخ الصور ، ولم نكد نطل برؤوسنا من الأبواب حتى صفعتنا سياط الرمال والحصى .. فاستدرنا لنعود أدراجنا ، لنحتمي منها ، فوجدنا الأنوار قد أطفئت في جميع الخيام ، وانقطع التيار عن الأسوار المحيطة ، فازداد الجو ظلامًا ، وتهاوت الخيام علي رؤوسنا واحدة بعد الأخرى .. وتنادي الإخوان من كل ركن ، ولكن ضاعت أصواتهم وسط عويل الرياح ، عبثًا حاول البعض التشبث بحبال الخيام ، ولكنها تهاوت وألقت بهم جانبًا .. وتعذرت الرؤية تمامًا ، وأصبحنا نتحرك كالأشباح هنا وهناك ، وأحطنا أجسامنا كلها ، وبخاصة فتحات الرأس ، بالأقمشة ، وكاد يختنق الكثيرون منا من صعوبة التنفس .. واشتد صياح الحراس من فوق أبراج الحراسة ، ولكن لا يكاد يصل إلي أذن أحد ..

ولم تكتف الرياح بما أتلفت ودمرت ، بل وزادت محنتنا بما حملته إلينا من هوام الصحراء ، وبما غطت به أرض المعسكر من كثبان رملية ، دفنت تحتها الكثير من أمتعتنا .. وأصبحنا قاب قوسين أو أدنى من مصير جيش قمبيز ، لولا أن الله سلم . أمضينا الليلة كلها علي هذا الحال ، وأصبحنا ، فإذا بكل شيء قد أصبح حطامًا أو دفينًا . ولا أعلي إذا قلت : إني في قلب هذه الزوبعة سعيداً مغتبطًا ، أطرب لصوتها العالي ولرائحتها النفاذة .. ولما أتت عليه من خيام ، ولما دفنت من متاع ، لكي نعيد بناء كل ذلك بدعائم لا تقوى عليها الأعاصير .. وهكذا أخذنا الدرس الأول من الصحراء .


الفصل الخامس : ( بين خطوة التأميم ومحنة التأييد )

لم يتوقع الشباب المسلم حين أثار الجدل حول القضايا الفكرية والحركية أن يخرج الأمر من أيديهم ، وأن يضطروا إلي الابتعاد كثيراً عن الموضوعات الأصلية ، ليلاحقوا التصرفات الصغيرة ، التي أثارها أعوان الشيطان المتحمسين لوجهة نظرهم ، من اتصالات مشبوهة وتباطؤ عن الواجبات وتطير مع الأحداث ، كذلك لم يتوقع المسؤولون عن الجميع أن ينبري لهؤلاء المفرّطين من يبارزهم بالقطيعة ، أو يغلظ لهم القول ، بدعوي الحماس لوحدة الصف والغيرة علي الدعوة .. وقد عاني الجميع من شوائب الفريقين المخالفين لمنطق الاعتدال ، الذي يلتزمه الجميع ، ويوصي به مكتب الإرشاد ، فالإفراط كالتفريط ، كلاهما يؤدي إلي نتيجة واحدة ، هي البعد عن الاعتدال ، وكلاهما ينبعث من قاعدة نفسية واحدة ، هي إتباع الهوى والظن ، وهما آفة كل مجتمع لا تعززه التربية والسلطان معًا .. وكان الإمام البنا " رضي الله عنه " يحذر من كلا الفريقين ، ويقول بأن المتقدم خطوة عن المجموع كالمتأخر عنه خطوة .. كلاهما يحرف الصف . وقد تحقق هذا القول السديد بيننا ، حين ظهر رد فعل التفريط في صورة الإفراط من بعض الأشخاص الذين لم يكونوا أقل ضرراً .. فعندما تكونت – لجنة التوفيق – من الإخوة صلاح العطار ، فتحي البوز ، علي العوض ، د. علي العوض كانت محل تقدير الجميع .. وقد بذلت جهدًا مشكورًا ، حتى توصلت إلي صيغة مناسبة لإنهاء الخلاف ، ولما اجتمع الإخوان بالميس العام عقب صلاة العشاء ، وتهيأ ممثل اللجنة لتلاوة القرارات هبَّ أحد المتحمسين بسؤال :

- هل قرارات اللجنة ستخضع للمناقشة ؟

- بالطبع لا ؛ لأنها خلاصة مناقشات من يهمهم الأمر .

- إذاً أعلن انسحابي من الاجتماع احتجاجًا علي ذلك .. وخرج ولم يتبعه أحد ، واستفتح ممثل اللجنة قراءة القرارات بقوله : إن اللجنة اجتمعت بطرفي الخلاف .. وهنا انبري آخر قائلاً : ليس ثمة أطراف ، بل هناك طرف واحد هو الجماعة ، والآخرون مجرد أفراد خرجوا عليها ثم عادوا . وانبري معترض ثالث باقتراح تجديد البيعة . وانتهره آخرون ، وساد الهرج والمرج ، ولم تفلح كلمة الأستاذ عمر التلمساني بدعوته إلي النقد الموضوعي في تلطيف الجو . فأعلن عضو المكتب الشيخ أحمد شريت تأجيل الاجتماع لمدة أسبوع لاستقبال الاقتراحات .. ومعني هذا أن الاجتماع قد فشل ، وأن هؤلاء المفرطين قد قضوا علي فكرة التوفيق في مهدها ليُدخلوا المجتمع في دوامة الخلاف .. لقد نابوا عن أعوان الشيطان بجهلهم في إنجاز المهمة .. ومن عجيب أمر الخلافات في أي مجتمع بشري أو دولي أن القيادة الفعلية تنتقل من أيدي العقلاء والحكماء إلي أيدي الدهماء أو العناصر الدَّنِيَّا في الفهم والسلوك . لأنها هي التي تثير المشكلة تلو المشكلة ، ودور العقلاء ينحصر في ملاحقتهم بحثًا عن الحل ، وبهذا تتحول العقول والهمم من مجال التخطيط لبلوغ الغايات في ظل الاتحاد والاستقرار إلي مجال البحث عن حلول لمشكلات الصغار ، الذين يفتقدون الغاية والتخطيط ، فأي نكسة تلك قد أصابت التقدم في الطريق الصحيح .. ولولا أن رحمة الله تتدارك البشر بأسباب ربانية كثيرة لذهبت ريح الجميع .. وكان لنا العذر الذي استدر رحمة الله علينا ، فلسنا دولة تملك السلطان ، ولسنا متروكين لنعيش أيام السجن في أمان ، فكانت رعاية الله متممة لعجزنا علي الدوام .. وجاءت الرحمة الإلهية سريعًا في صورة دفعة جديدة من الخيام المختلفة الأشكال والأحجام في شهر مايو سنة 1956 ، فكانت متنفسًا للجميع حيث زادت من حجم المعسكر في اتجاه السور الشمالي في مواجهة المربع السياسي ، وسرعان ما امتصت هذه الخيام الكثير من أسباب التعب .


السكن الجدي :

كنت ممن فضلوا الانتقال إلي هذه الخيام الجديدة ، حبًا في التغيير . وسكنت في " هايك " مع إخوة كرام هم : محمد عاكف ، محمد سعيد المهدي ، محمود زينهم ، صلاح إمام .. وكان الأخ مهدي هو أنشطنا في تجميل " الهايك " بالزراعة من حوله ، وبتزيينه للحمام ، ويحفر سراديب الأرانب .. وتباري الجميع في تجميل هذا الحي السكني الجديد ، ولم ينغص جماله إلا سكن الدكتور خميس حميدة أحد أعضاء المكتب في خيمة انفرادية فيه ؛ حيث صارت منتدى لكل من هب ودب ؛ ليسبغوا علي تصرفاتهم بعض الشرعية بالتفافهم حول وكيل الجماعة وكان بدوره يحنو عليهم إلي درجة ذاب فيها الفاصل بين الخطأ والصواب في تصرفاتهم وقد استاء الإخوان لهذا الوضع ، وألحوا عليه كثيرًا بضرورة وجوده مع أعضاء المكتب سدًا لباب الفتن ..

تأميم القناة :

بدأت الأيام تعمل عملها في تضميد الجراح بعد فشل اجتماع لجنة التوفيق .. وأسرع في برء النفوس ما شاع في المعسكر من قرب الإفراج عنا . وتوالت الأنباء في خطابات الأهل تارة ، وعلي ألسنة الرسميين من إدارة السجن تارة أخري .. حتى إن إدارة السجن طلبت منا التخفيف من بعض الأمتعة ، بإرسالها مع الأهل في الزيارات .. وقويت الإرهاصات بحضور أفواج الزوار بتصاريح مجانية لأول مرة ، وبأعداد كبيرة ، اضطرتنا إلي استقبالهم جماعيًا في الميس العام ليومين متتاليين للدفعة الواحدة ، يتناول فيها الزوار طعام الإفطار والغداء مع أبنائهم المسجونين في جلسات عائلية سعيدة .. وتناثرت الأطفال بين الخيام كالزهور ، وترخصت إدارة السجن في مبيتهم مع أبنائهم لليوم التالي من الزيارة ، وكنا نقيم للأطفال حفلات ومباريات خاصة ، تحول المعسكر إلي روضة غناء ، تصدح فيها البلابل وتشقشق العصافير . كذلك سمحت الإدارة لنا لأول مرة بالإذاعة . كما حضر في هذه الأثناء عدد من ضباط الجيش لزيارة المعسكر ، اجتمعوا بالمسؤولين من الإخوان " خاصة الإخوان العسكريين " .. وتكلم فيهم الأخ المقدم فؤاد جاسر قائلا : كان خلافنا مع الثورة لمصلحة الوطن . وقال الأستاذ عمر التلمساني لهم : نحن نؤيد كل عمل وطني بلا حدود .

وهكذا قويت الآمال في طي صفحة السجون .. وعكس هذا الجو أثره علي النفوس ، فاصطلح المتدابرون ، واقترب المتباعدون بغير لجان ولا قرارات .. وقد تواترت الأخبار الرسمية بأن خبر الإفراج عن المسجونين السياسيين سيعلن في خطاب 26 يوليو بميدان المنشية بالإسكندرية . وتصادف أن تعطل المذياع في هذا اليوم ، فحرص الأخ الرائد أركان حرب حسين حمودة علي سماع الخطاب من مذياع الكتيبة ، وعاد إلينا بهذه المفاجأة الكبيرة التي أنستنا الكلام عن الإفراج .. مفاجأة قرار تأميم قناة السويس .. عرتنا الدهشة .. وأدركنا ما ستقدم عليه البلد من تطورات .

الشباب ملتزمون :

حتى هذا اليوم -26 يوليو سنة 1956- ولمدة عشرين يومًا بعده ، كان كل من في المعسكر من أهل الرأي ، عددهم أكثر من ثلاثمائة ، يدينون بالتزام فكرة جماعة الإخوان المسلمين ، وبوضعية أعضاء مكتب الإرشاد كقادة ومسؤولين عن مجتمع سجن الواحات .. كانت كل الأحداث تجري خلال هذه المسلمات ، ولم يؤثر في هذه الحقيقة صدور بعض التصرفات الصغيرة من قلة من الأشخاص .. وكان الشباب المسلم بدوره حريصًا علي نفي تهمة عدم الالتزام عن نفسه ، بالتبرؤ من التصرفات الصغيرة من بعض الأفراد المنتسبين إليهم . وجاءت خطوة التأميم فرصة سانحة لهم ، ليبرهنوا من خلالها علي صدق ارتباطهم بالجماعة وقادتها ، وعلي تميزهم عمن يسيؤون بالتصرفات المنفردة .. لذلك فقد حرصوا جهدهم علي التوفيق بين اقتناعهم بقيمة الخطوة من الناحية الوطنية ، وبين التعبير عن هذا الاقتناع في إطار الجماعة التي يمثلها في هذا المكان قادة المكتب .. وهذا سر مبادرة ممثليهم للاجتماع بأعضاء المكتب لشرح وجهة نظرهم في الإسراع بتأييد هذه الخطوة الوطنية ، بدعوى قيمتها السياسية أولاً ، وأهميتها الاقتصادية ثانيًا ، فضلاً عن إسهام التأييد في تخفيف التوتر بين الإخوان والحكومة ، وإعادة قدر من الثقة المفقودة .

هذا هو منطق مكتب الإرشاد :

وكان أعضاء المكتب يصدرون عن فهم وسلوك مغايرين لوجهة نظر الشباب المسلم ، ويعبرون بذلك عن الرأي العام الواعي في الإخوان .. فهم في تحدثهم باسم الإسلام يمثلون ميزان الحق المطلق ، الذي لا يميل مع الهوى ، ولا يتأثر بالظروف ، ولا يجنح لعرض قاصد أو غرض قريب .. حتى ولو وقفوا مع الحق ضد أنفسهم فالإسلام أمانة كبرى .. وعلي من يتخذه منهجًا لحياته أن يوطد نفسه علي ذلك ، فكيف إذا كان المتحدث اليوم هم قادة الجماعة التي تتخذه لها منهجًا .. وانبعاثًا من هذه الحقيقة يلزم التوفر علي دراسة خطوة التأميم من جانب المختصين من الجماعة ، بجميع أبعادها السياسية والاقتصادية ، بميزان الحق والتجرد ، بصرف النظر عن مردودها علينا بالخير أو بالشر ، بمزيد من الثقة بيننا وبين الثورة ، أو بمزيد من الحرب والصراع ، وشيء من هذه الدراسة الجادة لا تتوفر إمكانياته لنا في هذا المكان . حتى الصحف العادية نحصل عليها بجهد كبير وبدون انتظام .. حتى المذياع " وهو الشيء الوحيد الذي يربطنا بالعالم الخارجي " قد تعطل .. وإذا كان جمهور الشعب يساق بعواطفه وراء السلطة بالتأييد المطلق لكل الخطوات رغبًا ورهبًا ، فليس هذا منطق رجال نذروا أنفسهم لإظهار موازين الحق وإعلاء كلمة الله .. وإذا كان ثمة مسؤولية ، فهي علي الذين جردونا من كل إمكانيات إعطاء كلمة الرأي السديد . إذا كان هناك وجه لتفاعلنا مع الأحداث الدائرة ، فهو في مطالبتنا للمسؤولين بتوفير أسباب المشاركة الواعية ، من حرية اتصال ، وإمكانيات . وهيهات أن يقتنع أحد منهم بذلك .. والثقة مع الثورة لا تكتسب بالتأييد الجماهيري الرخيص ، وإنما بأسلوب آخر جاد ، يعرف فيه كل طرف ماله وما عليه ، وحدود التعاون في المستقبل ، وأمامنا هنا نموذج للتأييد الرخيص الذي يدرج عليه حزب حدتو الشيوعي في كل مناسبة وطنية ، ولم تلتفت إليهم الحكومة يومًا واحدًا ، ولم يغب عنها أن هذا مجرد تكتيك حزبي .. وربما تكشف الدراسة الجادة أخيرًا أن خطوة التأميم قد أضرت بالبلد ؛ لأن امتياز شركة قناة السويس سيقضي تلقائيًا سنة 1968 . وقد يكون انتظار مرور هذه السنوات أولي من التعجل المحفوف بالاحتمالات ، وقد يكون هذا التعجل محل رضي ممن يعملون في السياسة الدولية من وراء الكواليس ، فما يخفي في السياسة أكبر مما يظهر علي السطح للشعوب . وفي النهاية فإن حريتنا حق لنا ، وليست محل مساومة عليها .. فالإفراج عنا قضية مستقلة عن قضية التأميم .. كان هذا هو منطق مكتب الإرشاد ومنطق من خلفه من الرأي العام للإخوان .

اجتماعات وتأييد :

ورغبة منه في الإمساك بزمام الحماس فقد وعد بسرعة الدراسة لاتخاذ القرار .. ولما أحست مجموعة الشباب المسلم أن حلمهم في التوفيق بين رغبتهم في التأييد ورغبتهم في الالتزام أصبح مستحيلاً قاموا بعمل اجتماع في خيمة الدكتور منير أبو حسين للتشاور في الأمر .. وخشية أن يتمخض اجتماعهم عن شر ، فقد أشار بعض الأخوة علي أعضاء المكتب بالدعوة إلي اجتماع عام وعاجل في المسجد ، لطرح القضية علي جميع الإخوان .. وفي يوم 14 أغسطس اجتمع أعضاء المكتب ، وطال اجتماعهم من الصباح حتى المساء ، في الوقت نفسه الذي كان يجتمع فيه الشباب الذين كانوا يتهيبون الإقدام علي أي تصرف ، بعيداً عن موافقة أعضاء المكتب ، ولكن أحد فئران السفينة كسر حاجز الهيبة بإرسال برقية تهنئة وتأييد للحكومة ، فتشجعوا بدورهم بعد أن طال انتظارهم لرأي المكتب ، وأرسلوا واحداً منهم بكشف به 37 اسمًا إلي ضابط المخابرات بهجت في مقره بالواحة ، وقد حملت سيارة السجن الشخص المذكور ومعه كشف المؤيدين لموقف الحكومة .. من تأميم القناة . ومن بناء الجيش الوطني القوى ، ومن موقف الحكومة إزاء إسرائيل ، وبعثها للأمة العربية . أسفر اجتماع أعضاء المكتب عن قرار بتشكيل لجنة من صلاح حمودة رئيسًا وعضوية سيد أبو سالم ، ومحمد عبد العزيز نصار ، وعبد الحليم خفاجي ، لدراسة خطوة التأميم ، وتقديم تقرير مفصل عن جميع الأبعاد والاحتمالات .. وجاء قرار تشكيل اللجنة هذا بعد حدوث أول تصدع حقيقي في حياة المعسكر ، بأن برز في حياتنا " ولأول مرة " مجموعة تتصرف بطريقة مستقلة من خلال قيادة مستقلة .. وهكذا أدي الخلاف إلي أن تقود العناصر الدنيا سلوك الشباب الواعي الذين بدأوا خطهم بالكلام عن المناهج والنظام ، وانتهوا إلي التأييد العشوائي لخطوات الحكام .

كانت خطوة التأميم في الواقع هي أول شيء لفت نظرنا علي ما يجري في خارج عالمنا الخاص .. عالم المعسكر المعزول عن الحياة ؛ حيث لم تكن لدينا وسائل اتصال من صحافة أو إذاعة .. ولولا أن حسين حمودة سمع بالتأميم من مذياع الكتيبة لمرت هذه الخطوة كما مر غيرها من قبل ، مثل صفقة الأسلحة التشيكية ، دون أن يحس بها أحد . فرغت اللجنة من إعداد بحث وافٍ يقع في حوالي مائة صفحة ، تلاه الأخ عبد المنعم السنباطي علي الإخوان بالمسجد ، في عشر محاضرات أسهمت في تجلية هذه القضية من جميع النواحي .

لا ينفع الندم :

أحس فريق المؤيدين أن غلطتهم كانت كبيرة ، وأن خطوتهم كانت صغيرة ، وأن تبريراتهم ضعيفة ، فحرصوا علي ألا يتصرفوا مستقبلاً إلا من خلال الموازين الفكرية والحركية السليمة .. لذلك فما أن لاحت لهم فرصة 28 أكتوبر 1956 الذي حدد موعدا للإضراب العام في العالم العربي مؤازرة لثورة الجزائر ، حتى أعدوا برقية لمكتب الجامعة العربية ولمكتب تحرير الجزائر يتبرعون فيها بغذاء يوم للثورة ، وبينما هم في أخذ ورد مع الدكتور حسين كمال الدين المسؤول العام إذا بأنباء الحدث الكبير تربح المعسكر وتعطي علي ما عداها من مناسبات .. حدث العدوان الثلاثي علي بورسعيد . وتكررت الرغبة نفسها في التأييد والتباحث بشأنه مع المكتب بدعوى أن الحرب قضية كبرى ، لا يجب التوقف إزائها ببحث أو دراسة .. ونجح المؤيدون في إلهاب مشاعر أبطال حرب فلسطين والقنال من الإخوان ، وعلي رأسهم الأستاذ محمود عبده أحد قواد الفدائيين في حرب فلسطين .. طغت مشاعر القنال علي كل تفكير .. لكن أعضاء المكتب لم يفقدوا توازنهم العقائدي أمام هذه الموجات العاطفية .. أعترف أنني لم أكن أوافقهم علي ذلك .. ولكن لم أكن لأخالفهم بعمل أي تصرف فردي .. فمنطقي أن الاجتماع علي خطأ خير من التفرق علي صواب ، وربما زاد من توجس أعضاء المكتب رؤيتهم للشيطان سافرًا هذه المرة ، بعد أن حضر إلي السجن بإيعاز من المؤيدين .. لأن ضابط المخابرات بهجت توجه مباشرة إلي خيمة أعضاء المكتب لزيارتهم ، ولإحراجهم بطلب تأييد خطوة التطوع للحرب ، فوعدوه بدراسة بقية الموضوع في ظرف 24 ساعة . ولما عاد إليهم في اليوم التالي طلبوا منه أن تعمل الحكومة علي سرعة اجتماع الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين ، وعلي رأسها أعضاء مكتب الإرشاد بقيادة الأستاذ حسن الهضيبي ، المرشد العام ؛ حتى يكون لقرارهم فاعليته في هذا الموقف المصيري الذي تجتازه الأمة والذي لا يصلح فيه التهريج والمزايدات السياسية ، في الوقت الذي يقتل فيه أبناؤنا وتخرب ديارنا .

وما كان للنظرة العجلي ، ولا للحماس الوقتي للمؤيدين ، ولا لضابط المخابرات المتربص ، أن يستسيغ هذا المنطق الحكيم . فأسرعوا بالبرقية التالية موقعًا عليها من 86 أخًا .

السيد الرئيس جمال عبد الناصر ..

بما أن الوطن وطننا جميعًا .

نحن الإخوان المسلمون الذين شاركناكم الجهاد المقدس في حرب فلسطين والقنال .. ولنا علي أرضها دماء عزيزة وشهداء كرام ، نمد لكم يدًا صادقة لا نبغي بها إلا رضاء الله ومصلحة الوطن .. ونناشدكم بأن نكون في الصفوف الأمامية وَنُحَمَّلْكُمْ أمام الله والتاريخ تبعة حرماننا من أداء هذه الفريضة المقدسة ، ونحن فداء الوطن في كل لحظة .. والسلام .

معتقل طره السياسي

27 رجب 1390هـ الموافق 28/9/1970 م


الفصل السادس : ( مؤيدون ومعارضون للثورة )

هبطت علي المعسكر سحابة داكنة من الحزن بعد إرسال هذه المجموعة لبرقية التأييد إلي الحكومة ، لا لأن هذه البرقية قد عمقت الانشقاق في الصف فحسب ، بل ولما تلوثت به من دخول أصابع المخابرات فيها ، ولجرأة ضباط الإدارة علي استباحة حرمات مساكننا ، بعد أن كانوا لا يستطيعون التعامل معنا إلا من خلال الأخ المسؤول الإداري الممثل للجميع ، أو من خلال أعضاء مكتب الإرشاد . الآن سهل عليهم كثرة التردد علي خيام المؤيدين ، وسهل كذلك تردد المؤيدين عليهم بالمكاتب ، مما قضي علي الكثير من هيبة الجماعة ، وفتح الباب للكثير من التصرفات الصغيرة .. ليس ذلك فحسب .. بل ولما أوحي به هذا التأييد من بداية معركة سافرة مع المسؤولين من رجال الأمن الذين مهدوا ودفعوا للوصول إلي هذه النتيجة ، التي لم تكن في حسبان من أثاروا نقاط الخلاف في البداية ، فلم يكن في حسابهم أن مخلفات التفاعل ستكون من المواد السامة ، وأنهم سيكونون أول المصابين بسمومها . ولم يكن في تقديرهم أن زمام المعركة بعد ذلك سيكون بيد ضباط الإدارة ورجال الأمن ، وأننا سنكتوي جميعًا بنارها ، لأنها لن تصبح بعد اليوم بسبب الخلاف المشروع في الرأي حول المنهج والنظام الخاص ، بل بسبب الموقف من التأييد والمعارضة لكل خطوات الثورة .

باب الجحيم :

وبدأنا بدورنا نبذل أقصي جهدنا للحيلولة دون وصول هذا اليوم الأسود الذي أصبح ينتظر كل من وضعوا تحت لافتة المعارضين للثورة .. ويا لها من كلمة فتحت علينا بابًا من الجحيم .. هبَّت علينا منه ريح السموم .. سموم أصحاب الحلل الصفراء والنفوس الصفراء .. قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة .. جعلوا من قصة التأييد والمعارضة هدفًا في ذاتها ، ليقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وليجعلوا منها – بُعْبُعًا – يخيف السلطان ، يعيشون بها ، ويرتفعون عليها ويحققون حلم الاستعمار في وأد الدعوة في مهدها . دخلنا في سباق مع الزمن .. نحن لرأب الصدع وتوحيد الكلمة وتبصرة الذين يخلطون بين موازين الحق ومجاراة الثورة .. الحق حاكم والثورة محكوم عليها .. وخطوات الثورة في الداخل والخارج موزونة به .. تارة تخطيء وتارة تصيب وواجبنا أن نقول للمحسن : أحسنت ، وأن نقول للمسيء : أسأت .. وللإحسان شروط في الأهداف والوسائل ، وللإساءة علامات .. وضغط السجن علينا لا يعفينا من هذه المسؤولية الربانية المنوطة بهذه الجماعة .. كلنا يحب العافية ، ولكن ليس علي حساب الموازين والأصول .. واستجاب عقلاء المؤيدين لهذا المنطق بعد أن عاينوا خروج الثعابين من الشقوق ، وبدأوا يتجاوبون مع الساعين بالإصلاح بين الناس ، ممن أطلق عليهم المعسكر " حمام السلام " وامتدت موجة التجاوب إلي القاعدة وانتظر الجميع ما يسفر عنه طيران " حمام السلام " ما بين أعضاء المكتب من جهة ورؤوس المؤيدين والدكتور خميس من جهة أخري ؛ لوضع قواعد التفاعل مع إحداث الأمة ومدي قدرتنا علي القيام بمسؤولياتنا أمامها .. ولاحت بشائر الخير علي الأسارير المنفرجة ، وكان لي فوق هذا الاستبشار حظ آخر من الفرح بسماع اسمي في قائمة الزيارات .. واستنكرت هذا المزاح من المنادي ، فأنا أعلم أن أحدًا من أهلي لا تسمح ظروفه المالية بزيارتي في هذا الوادي السحيق ، وأن أحدًا من أصدقائي لا تسمح ظروفه السياسية بذلك .. ولكن وجود اسمي في قائمة الزيارات الرسمية ضاعف من دهشتي ، وضاعف من رغبتي في سرعة الخروج لملاقاة هذا الزائر العجيب .. ولم يكن زائرًا عجيبًا فحسب ، بل وحبيبًا حقًا .. فعندما وجدت نفسي وجهًا لوجه أمام أخي " عبد الحق محروس " صديق العمر المغامر الوفي أحسست بسعادة الدنيا ، وأيقنت بأن الإسلام يصنع المعجزات ، ويصنع الروابط العجيبة بين نفوس المؤمنين .. وتعانقنا طويلاً .. وعادت بنا الذكريات الجميلة إلي عالمها الوردي البهيج من عالم الطفولة السعيدة ، إلي عالم الصبا الندي ، إلي عالم الشباب الغني .. يالتلك الأيام الخالية .. أيام البراءة والطهر والحب الصادق للوجود بأسره .. أرضه وسمائه .. إنسه وحيوانه ونباته .. أيام الأحلام الجميلة والآمال العريضة والحركة التي لا تفتر .. إن شخصية عبد الحق تثير كل هذا في نفسي .. تذكرني بأول جمعية أنشأناها للحديث بالعربية الفصحى .. وبأول نادي أنشأناه للطلبة .. وبأول تحد للمجتمع للجمع بين العمل في الصباح والدراسة في المساء .. وبأول سباحة علي آثار قاهرة المعز لدين الله ، وبأول خوض في غمار الأحداث السياسية من اشتراك في معسكرات الفدائيين ، أو من اشتراك في حريق القاهرة .. وبأول عزم علي الزواج بإمكانياتنا الطلابية في سبيل العفة والإحصان رغم اعتراض كل الأهل .. وأخيراً بأول شُعبة أقمناها فيها للإخوان المسلمين في قريتنا وفي كفر السراي ببنها .. وتذكرني أيضًا بآخر مرة رأيته فيها في السجن الحربي بجوار عربة توزيع الخبز علي العنابر .. يومها جاء مع مندوبي السجن الكبير ، وأنا مع مندوبي سجن 4 ، ونجح تدبيرنا لهذا اللقاء الخاطف الصامت لعدة دقائق أثمن عندي من عدة أيام .. ولكن لقاءنا اليوم يثير أمرًا خطيرًا في نفسي ، حول جرأته علي الحضور لزيارتي ، وهو موضوع تحت الرقابة من رجال الأمن عقب خروجه من السجن الحربي منذ عدة أشهر ضمن بقية المعتقلين الذين لم تصدر ضدهم أحكام ، وكيف سيكون موقفه مع رجال الأمن إذا حاسبوه حسابًا عسيرًا علي هذه الزيارة ، وفسروها ألف تفسير ، لأنه لا تربطه صلة قرابة بأي شخص في السجن ؟! وابتسم عبد الحق الواثق المطمئن وهو يقول لي :

يا أخي هون عليك .. ولا تقرأ العواقب كثيرًا .. فما كانت سلامتنا الشخصية هدفًا تسعي إليه ، وإلا لما انتقلنا من بيوتنا ، ولكن الجهاد هو الهدف بكل التضحيات المطلوبة منا . وهل ننتظر منهم الإذن لنا للقيام بالواجب نحو دعوتنا .. نحن نعمل وهم يعملون .. نحن نمكر وهم يمكرون .. نحن نرجو من الله ما لا يرجون ، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .. دعنا نسعد الإخوان ، وخذ هدية الفطائر هذه من أخيك سعد الشيخ ، وأحضر لي رفعت وصلاح و... لأراهم وليكلفوني بطلباتهم في أي مكان في القطر المصري .. وقد كان .. كان عبد الحق بعد عودته من الزيارة عند حسن الظن به ، وحفظه الله ، ولم يمسه سوء إلي أن علمنا بهجرته متخفيًا إلي الأراضي الحجازية ؛ حيث يعمل مدرسًا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .

الإخوان يبرون أهلي :

كانت هذه الزيارة بلسمًا لنفسي ، وتطمينًا لخاطري المشغول بأخبار أهلي ؛ لأن خطاباتنا المراقبة لم تشف غلتي .. ولكنني عرفت من عبد الحق أن الإخوان الذين في العافية يقومون برعاية أسرتي ماليًا ، بالتعاون مع خالي ، ويشرفون علي علاج أخي المريض ، ولا يتوانون عن أي واجب . وطبيعي ألا يذكر ذلك في الخطابات .

نهاية الصراع إلي أين ؟

واكتمل الوجه الآخر من الزيارة بالحديث عن أحوالنا في مختلف السجون ، وخاصة ما يدور في سجن الواحات .. وكيف أننا علي عتبة صراع طويل مع السلطة ، من أجل إكراهنا علي تأييد كل خطوة للثورة بلا دراسة أو تفكير ، وإلا وضعنا تحت لافتة المعارضين – وما أدراك ما المعارضون - ، ونحن نحاول قفل هذا الباب بتبصرة إخواننا الذين تورطوا في هذا الطريق بمغبة السير فيه .. وقد استجاب العقلاء لهذا المنطق ، وأخذوا يراجعون أنفسهم ، وإن كنا نتوجس خيفة من رجال الإدارة ومن ضابط المخابرات المتصل بهم ، بعد أن دخلوا طرفًا سافراً في هذا الصراع ، الذي يرجون من ورائه تمزيق روابط الإخوان ، وبذر الشقاق بينهم ، متخذين من ضعاف المؤيدين مخلب قط .. وكلما أشرفنا علي حل أمورنا خططوا بدورهم لإفشالها ، ولا يعلم إلا الله نهاية تطور هذا الصراع .

مفاجأة !!!

عاد أخي عبد الحق بهذه الصورة عن حياتنا في نفسه ، وعدنا بدورنا إلي خيامنا لنفاجأ بعد أيام بالجديد والغريب من تصرفات رجال الأمن ، مما عطل طيران – حمام السلام – حتى حين . المفاجأة الأولي هي وصول رتبة عسكرية كبيرة إلي السجن ، وهو القائمقام عبد الرحمن متولي من لدن المسؤولين في القاهرة .. ولم نعلم طبيعة مهمته .. ولكننا رأيناه يتجه مباشرة إلي خيام المؤيدين ، ليعقد معهم اجتماعًا مغلقًا .

وعاظ في السجن :

المفاجأة الثانية بعد انتهاء هذه الزيارة المريبة هي توافد الوعَّاظ علي السجن ؛ للدعوة السافرة إلي تأييد الحكومة .. والتلويح الخفي بالتكدير والسجن الطويل لمن يتنكب هذا الطريق . بدأت الحملة بالشيخ يونس ؛ حيث اجتمع بالإخوان في المسجد وخطب فيهم قائلا :

إنني أتحدث إليكم بصفتين ، صفة رسمية وأخري متعاطفة معكم .. ومن خلال صفتي الرسمية أقول لكم : إن كل من لا يؤيد الحكومة آثم ؛ لأن الفتيات يحملن السلاح للدفاع عن الوطن ، وقد لمست هذه الكلمة وتراً حساسًا لدي من كانوا فرسان العمل الفدائي في فلسطين وعلي أرض القنال ، فقاطعه كثير من الإخوان ملقين المسؤولية علي الحكومة وعلي أسلوبها الديكتاتوري في الحكم ، الذي جعلها تخوض المعركة بأمة غير موحدة الصف ، وكان بإمكانها أن تطلب منا الذهاب مباشرة إلي الميدان . واندفع أخ هاتفًا الله أكبر ولله الحمد ، وهتف آخر بسقوط جمال عبد الناصر .. وقام الشيخ شريت عضو مكتب الإرشاد بتلطيف الجو . أخذ الواعظ يمر علي الخيام ليعتذر عما بدر منه ؛ لأنه مضطر إلي هذا رسميًا .. بل صرح في إحدى الخيام التي اطمأن إلي خلوها من المؤيدين بأن فضيلة المرشد العام يبلغ الجميع تحياته ويوصيكم بالصبر .

الشيخ جزجة :

وفي الجولة الأخرى حضر إلي المعسكر شيخ متأنق ، متعقر اللغة ، متأثر بأسلوب الرافعي حاضر النكتة بشوش ، هو الشيخ محمد السيد ، الذي اشتهر باسم الشيخ جزجة بمعني العصا بلهجة الصعيد ، لأنها وردت كثيراً في خطبه .. استفاد مما حدث مع سابقه ، فتكلم بلباقة وحرص قائلا :

إنني لكم ، لا عليكم ، ولا برحت هذه الصحراء إن لم تكن مهمتي من أجلكم .. وقد اطمأن له المؤيدون ، وأقاموا له الولائم في أكثر من خيمة .. وحضر أكثر من واعظ بعد ذلك ، إلي أن تحقق المسؤولون من فشل هذا الأسلوب في التأثير النفسي علينا للوصول إلي مأربهم .. بل كانت الأمور تسير مع الوقت في اتجاه الإقلاع عن هذه الأساليب الغوغائية ، والاقتصار علي الدراسة الموضوعية لكل عمل تقوم به الثورة حتى يمكن أن يكون لنا فيه رأي معلوم من وراء الشمس .

سلاح التغريب :

ولم يكن هذا هو هدف من في السلطة .. لأن هدفهم هو تفتيت وحدة الصف ، والقضاء علي كيان هذه الجماعة ، عن طريق بذر الشكوك ، بلبلة النفوس ، وإذكاء الصراع .. ووجدوا في قضية الإكراه علي التأييد فرصتهم ؛ لأنهم سيظفرون في النهاية بأحد أمرين : إما إدخالنا في زمرة المصفقين والمهللين من الناس كثمن للخروج . وبهذا ينتهي دور هذه الجماعة التاريخي ، بتحويل صفوة رجالها إلي طامعين في الحياة بأي أسلوب ، لا قوامين علي الحق بأي تضحية في مواجهة أي طغيان . وإما أن يظفروا بنشوب الصراع بين المؤيدين وبقية الإخوان ، حتى تنحصر مقاومة الثابتين في أقل عدد ممكن يصيرون بعد العمر الطويل من السجن والصراع والضغوط حطامًا نفسيًا وماديًا ، لا يقوون علي شيء ، ولا يصلحون لشيء .. وأن يشعلوا هذه الفتنة بين الإخوان في كل السجون ..

من الطبيعي أن يكون الصراع هو المرحلة الأولي ، وأن يكون دور المسؤولين هو إشعال نيرانه كلما أطفأها الله .. فعندما فشل سلاح الوعاظ .. سلوا سيف التغريب علي من اعتبروهم مراكز قوة بين الإخوان ؛ ليكون في تغريبهم عبرة لمن علي شاكلتهم ، ولتضعف مقاومة من بعدهم .. وليشتد التوتر بين الإخوان جميعًا ، عندما يترامون بالظنون .. والتغريب معناه ترحيل المغضوب عليهم إلي سجن قنا ، المخصص للمغضوب عليهم من جميع سجون القطر المصري من الإخوان وغير الإخوان حيث تقترب المعاملة من السجن الحربي . وفي يوم مشؤوم من أيام شهر مايو سنة 1957 وردت تعليمات بتغريب اثني عشر أخًا من المعارضين – حسب وصفهم – إلي سجن قنا . جاء هذا الكتاب في الأيام الأخيرة من مأمورية جميل جرس مأمور السجن ، ولكنه خشي مغبة تنفيذه ، فكتم أمره حتى سلمه للمأمور الجديد عباس لبيب .

انحصر السفاح في دورة المياه فلم تتم المذبحة !

ولم يكد عباس لبيب مأمور السجن الجديد يفتتح عهده وإعلان كتاب التغريب للاثني عشر أخًا إلي سجن قنا حتى تلاحقت الأحداث بصورة مخيفة . بدأت بالاستياء العام من الجميع ، حتى من رؤوس المؤيدين العقلاء الذين خرجت الأحداث من أيديهم بفعل تغلغل ضابط المخابرات بهجت وضابط الإدارة فهيم ، وتحريكهم للعناصر السامة التي تشتري الخروج من السجن بأي ثمن .. وها هو أول ثمن يدفع بالتبليغ عن عدد من الإخوان ظنوهم وراء موجة رفض تأييد الحكومة من داخل السجن .. عبَّر الجميع عن الاستياء في شكل المبالغة في التقدير والإكرام للإخوة المرحَّلين .ز بالتنافس علي إقامة ولائم الوداع لهم .

أرضية واحدة :

لكن أحد المتحمسين عبَّر عن استيائه بطريقة بدائية وقديمًا قالوا : عدو عاقل خير من صديق جاهل . وكذلك قال الإمام الشهيد بأن المتقدم عن الصف خطوة كالمتأخر عنه خطوة ، كلاهما يحرف الصف .. وكان الخوف الدائم هو من تحول الخلاف إلي صراع ، ثم من ظهور الشوائب والمخلفات التي تقود بتصرفاتها الصغيرة كل الطاقات الكبيرة ، فتتحول خطوات السير إلي تردي ، لأن المفُّرط كالمفرِط كلاهما ينبعث من أرضية واحدة ، هي أتباع الهوى والبعد عن الالتزام ، وقد جاءتنا الطعنة اليوم من الصديق الجاهل المفرط ، حين عبر عن استيائه بالتعرض لمندوب المؤيدين لدي الإدارة بالضرب متهمًا إياه بأنه وراء هذا الكتاب المشؤوم وسرعان ما خرج الإخوان علي صياحه من كل فج ليحولوا دون تفاقم الأمر .

صورة مضخمة :

ولكن الفرصة كانت واتت الشيطان المتربص بالجميع في الخارجة عاصمة الواحات ، حين أسرع الصول النوباتجي بإبلاغ ما حدث إلي مأمور السجن . ولكن ضابط المخابرات قام بتضخيم الصورة لدي المسؤولين بالقاهرة علي أنه تَمرُّدْ وهياج .. وأغلب ظني أن هذا التضخم لم يكن من قبل المأمور ؛ لأنه كان واضح التعاطف معنا طيلة مدة مسؤوليته .

التجريدة

وما هو إلا يوم أو بعض يوم وصلت طلائع القوة العسكرية التي جَّردت لإخماد التمرد وقمع الهياج ، بقيادة اللواء إسماعيل همت وكيل مصلحة السجون ن ذي الصيت الذائع في البطش والإرهاب .. والكل يذكر كيف كسر بنفسه ذراع الأخ عبد الجواد محرم بسجن مصر ، حيث شلت عن الحركة بعد ذلك . أخذت التجريدة – الكتيبة المسلحة – موقعها حول سور السجن حفرت الخنادق .. أقامت السواتر .. صوبت ضباط الإدارة أصبحت محمومة .. الكل يترقب وصول اللواء إسماعيل همت بنفسه علي رأس أفراد الكتيبة ، لتبدأ الأحداث الدامية . أحسست لأول مرة بجلال الموت الذي نشر أجنحته علي كل الخيام .. رجعت إلي نفسي أفتش فيها ، وأسبر غورها ، وأتثبت من نية الاستشهاد فيها استعنت علي ذلك بقيام لَيِليِ وبصوم نهاري المرتقب .. وعند ارتفاع شمس الضحى هرعت إلي المسجد أصلي فيه ركعتين استعداداً للقاء الله .. فكل شيء حولنا بوحي بقرب الكارثة .. وكان هذا حال وشعور جميع الإخوان ..

حقد شيوعي :

سرعان ما انتشر خبر وصول اللواء همت بمفرده إلي المعسكر ، ريثما تلحق به بقية الكتيبة العسكرية ، التي تحمل الذخيرة ومزيداً من السلاح .. وسرعان أيضًا ما خرجت اليوم من أوكارها قلة من البوم البشري عميت عن رؤية الساعة التالية من حياتها ،أخذت تتجول فرِحة جذلة بمشهد القيامة من حول الأسوار ناسية أن فوهات المدافع عندما تنطلق فإنها لا تفرق بين أبيض ولا أحمر في بطن الصحراء .. ولكن أنَّي للشيوعيين أن يفهموا ذلك ، أو أن يكون لهم ساعة الضيق والشدة موقف كريم ؟! إنهم ملوك الانتهازية في كل وقت ، وها هو تصرفهم الغريب ليس له أدنى سبب علي الإطلاق . فنحن الذين نعد الطعام لهم وكل قوة السجن ، ونحن الذين نعالج مرضاهم ، وعلاقتنا بهم محدودة ؛ إيثاراً للسلامة ، فما الذي أسكن كل هذا الغل والحقد في قلوبهم في هذا الموقف الإنساني الذي تتحرك فيه أقسي القلوب بالرحمة ، ويلين الجماد بالعطف ؟! ما الذي أنبت هذا النبت الغريب عن أرضنا حتى نفاجأ بهم لا يكتفون بالفرح لما يجري ، بل ويتجمعون أيضًا أمام بوابة السجن ، مرددين الهتافات العدائية ضدنا ، مطالبين اللواء همت سرعة إبادتنا والقضاء علينا ؟!

سجن دورة المياه :

لكن اللواء همت كان مشغولاً عنهم بالإسهال الشديد الذي أصابه ، وألزمه دورة المياه ، حتى أنه عجز عن مقابلة من استدعاهم من المسؤولين عن الإخوان لمعرفة ما جري ؛ حيث قام السيد المأمور بمهمة المراسلة بين اللواء المحصور في الدورة وبين وفد الإخوان .. وشارك في هذه السفارة الغريبة واعظ السجن والطبيب ، حيث تعاون ثلاثتهم علي تبسيط الأمر لدي اللواء المحصور ، وأكدوا له أن المؤيدين بالإفراج عنهم ، وأن ما جري ليس أكثر من حادث فردي ، لا يخل بنظام السجن بأي حال من الأحوال . كان هذا الثالوث هو نبت مصر الطيبة ، برغم ما في يدهم من سلطان . وما كان اللواء الطاغية ليستجيب لهذا المنطق لو أنه كان في تمام العافية ، أو لو أن بقية الكتيبة المسلحة قد وصلت ، ولكن وصول الأنباء عن انكسار القطار في الطريق ما بين المواصلة والخارجة قد ترك اللواء مشلولاً عن عمل أي شيء ، مضافا إلي ذلك ما أصابه من إسهال شديد ، شغله عن دخول السجن أو مقابلة أي أحد وربما أيضًا سماع نعيق البوم من وراء الأسوار .

ودارت فوهات المدافع :

أسفرت جولات المأمور والواعظ والطبيب بين مندوبي الإخوان واللواء المحصور عن اقتراح جريء ، يكون فيه أمن السجن أولاً وأخيراً . وذلك بعزل جميع المؤيدين في خيام مستقلة .. وإلغاء تغريب الاثني عشر أخًا ؛ اكتفاء بهذا الإجراء الوقائي .. ولقد شعر الإخوان بارتياح الشديد لهذا القرار ، الذي لم يكن ليصدر في تقديرهم من مثل هذا اللواء المتعطش للدماء . لقد شعروا أن يدًا قوية حفظتهم من شر لم يكن منه مفر .. وسجدنا لله شكراً عندما بدأت فوهات المدافع تدير ظهرها للمعسكر .

أسوار بلا أبواب :

قضي الأمر ، وانفصل المؤيدون ، وسكنوا بقسم (2) الواقع بين قسم (1) المخصص للشيوعيين والمسجونين العاديين ، وبين قسم (3) المخصص للمعارضين ، كما اشتهرنا بهذا الاسم .. وأقيم بيننا وبين المؤيدين سور من الطين ، ليس له باب ، ارتفاعه متر .. وصار لا يتم الاتصال بهم إلا عن طريق المسؤولين عنا .. وما أن استقر المؤيدون في قسم (2) ، حتى كونوا لجنة لشؤونهم الإدارية ، من فتحي البوز ، وعبد الفتاح القرش ، وعلي العوض ، وألغوا ألقاب المسؤول العام والأمير ، واستبدلوها بالأمين الإداري ، والأمين الثقافي ، والأمين المالي .. وبدأنا نرقب حياتهم من بعيد ، واتجهنا إلي حياتنا داخل قسم (2) ، نرفع عنها الأنقاض ، ونعيد بناءها من جديد .

صدى الأحداث في السجون الأخرى :

إن ما حدث في معسكر جناح حتى منتصف 1957 قد عكس أثره علي الإخوان في سجون أسيوط وبني سويف وسجن مصر ، وذلك عن طريق المرحَّلِين للعلاج من سجدن آخر ، فمع أن هذه الترحيلات كانت تحفل في ذهابها وإيابها بكل صور التعبير عن الحب والواجب من هدايا بين الإخوان ، ومن مساعدات مالية وإرشادات ، إلا أنها حملت أيضًا جراثيم المرض ، ومن ثم فقد سارت حياة الإخوان في سجني أسيوط وبني سويف في خط متوازي مع حياتنا في الواحات ، في الرخاء والشدة ، وإن تأخروا عنا قليلاً ، إلا أنهم ساروا في الطريق حتى خاتمة المطاف بظهور المؤيدين ، ووصف بقية الإخوان بالمعارضين ، وكان لكل سجن شياطينه من ضباط المخابرات وضباط المباحث العامة الذين دفعوا إلي هذه النهاية .

في الليمان وبورسعيد :

سجن واحد هو الذي نجا من كيد الشياطين ، وهو ليمان طره ، وذلك لظروف حياة الإخوان الشاقة فيه ، والتي قدر المسؤولون أنها كافية لإبادتهم جميعًا ، دون حاجة إلي الدخول بينهم بتخطيط ، وهذه الحياة قد ساعدت الإخوان علي أن يتصرفوا في المواقف السياسية بطريقة جماعية ، فعندما حدث العدوان الثلاثي علي مصر أعلنوا جميعًا عن استعدادهم للذهاب إلي ميدان القتال ، وعودة من يبقي منهم علي قيد الحياة إلي السجن بعد تحقيق النصر ، وعندما وقعت الهزيمة تبرعوا بدمائهم للجرحى ، وفي الوقت الذي قوبل فيه موقفهم الوطني رسميًا بالشكر كانت الحكومة تبيت لهم نية الغدر لأكثر من سبب : الأول : هو تجرؤهم في برقية التطوع للقتال علي طلب أن يعملوا في الميدان كوحدة تحت قيادة إخوانية ، وذلك في تقديرهم خير لنتيجة المعركة من تفريقهم في جميع الوحدات العسكرية ، الأمر الذي لجأت إليه الحكومة رسميًا مع إخوان بورسعيد في الخارج ، حيث قاموا بدور كبير في صد العدوان ، وأكد لي شاهد عيان " هو الأخ عبد العظيم همام " الذي قبض عليه علي حدود ليبيا متأخراً بعد انتهاء العدوان ، أنه قرأ بنفسه في مبني جريدة الأهرام نص البرقيات التي تشيد بدور الإخوان المسلمين البطولي في بورسعيد في قيادة العمل الفدائي ، وكيف أن الاعتبارات السياسية كانت تقضي بسند هذه العمليات إلي المقاومة الشعبية ، ولم يشفع موقف إخوان بورسعيد هذا لإخوانهم في ليمان طره ، لأن أمرًا كان يبيت لهم في الخفاء يلزم اصطناع الأسباب له ، وبالتالي فإن الاحتكاكات بينهم وبين إدارة الليمان كانت مستمرة .


الفصل السابع : ( أحبط إخوان الأردن المؤامرة فدفع إخوان مصر الثمن )

كانت صورة إخوان ليمان طره في نفوسنا تبعث علي الرضا من وجه ، وتبعث علي القلق من وجه آخر ، ولكن بوصول الشيخ " أحمد نار " المفاجئ ، بعد قطع علاجه بسجن مصر ، وسحابة الحزن المرتسمة علي وجه هذا العملاق ، الذي لا تهزه الزلازل . تغيرت صورتهم إلي اللون الأحمر القاني بعد سماعنا منه لنبأ المذبحة الأليم ، الذي غطت فظاعته علي ما حدث قبله في السجون .. وازداد مع الحزن عجبنا ، حين علمنا أن السبب المباشر في تصعيد الموقف حتى وصل إلي ضرب النار هو موقف الإخوان المسلمين في الأردن من حركة علي أبو نوار ، وتصديهم لهذا الانقلاب وإحباطه حتى يجنبوا قطرًا عربيا مأساة حكم عسكري غشوم . كنا قد تعودنا أن تنعكس علينا نتائج المواقف السياسية في العالم العربي خاصة ، وفي العالم الإسلامي عامة ، في صورة تكديرات متلاحقة ، وتضييق في المعاملة ، حتى تكونت لدينا حاسة تكديرية مع كل حدث سياسي في العالم ، حتى كنا نتندر بقولنا : لو صفع رجل في جنوب آسيا لوجهت التهمة إلينا ، ولبادرت سلطات الأمن بتكديرنا ، إثباتًا لولائها ويقظتها ، ولكن لم يكن في تقديرنا أن رد فعل أحداث الأردن ستكون بهذا الشكل الدموي علي مجموعة ليمان طره بالذات .. وربما كان مقدراً حصول ذلك لمجموعة الواحات أيضًا لتعاصر الحدثين ، لولا أن الأقدار القوية عطلت قصدهم الرجيم .. سبحنا مع الخواطر الحزينة ، ونحن نستمع إلي الشيخ نار " مؤلف كتاب القتال في الإسلام ن وصاحب الصولات والجولات في محافظة الشرقية قبل الدعوة ، وفي مواطن الإجرام ، وبعد الدعوة في نشر النور والسلام " لم يكن يتحدث بل كان يزأر زئير الأسد الجريح ، وهو يروي ما حدث لإخوان الليمان .

نعم لقد لقي الله واحد وعشرون أخًا من إخوانكم ، شهداء أبرار ، علي الطريق يوم السبت أول يونيو سنة 1957 – كان كل منهم أمة واحدة .. إنني أغبطهم علي هذا الفوز العظيم .. فالموت في سبيل الله " كما تعلمون " أسمي أمانينا ، ولكنه ألم الفراق والحنين إلي اللحاق بهم ، ثم الأسى والألم لما وصلت إليه الثورة من أساليب البطش والإجرام .

تحذير الإخوان :

في أعقاب فشل حركة علي أبو نوار بالأردن حدثت " شدة " علي الإخوان بالليمان ، إيذانًا ببدء التكديرة .. كثرت تهديدات الضباط ، وتعددت تفتيشاتهم الاستفزازية للزنازين .. تكررت تلميحات الشاويشية والسجانة .. تطوع بعض الأصدقاء من السجانة ومن المسجونين العاديين الذين يعملون في نظافة مكاتب الضباط بتحذير الإخوان من شر يبيت لهم ، ومؤامرة تدبر لإبادتهم بالجبل ، قويت شكوك الإخوان من تعمد إهانة الإدارة لهم في الزيارات أمام عائلاتهم ، وكذلك من تعنتها معهم في مقطوعية الجبل ، في الوقت الذي تدلل فيه اليهود المحكوم عليهم في قضية فضيحة لافون .. ففي يوم 29 مايو حضر أهالي شبرا في مجموعة واحدة لزيارة أبنائهم من وراء السلك السميك ، الذي لا يسمح حتى بالمصافحة ، ولا بالهمس ، لأنه سلك مزدوج بينه نصف متر فراغ .. وكل عشرين يدخلون معًا إلي هذا القفص ، الذي تختلط فيه الأصوات ، وتضيع الكلمات ، فجأة تكهرب الجو عندما أمسك الضابط الأخ عبد الغفار السيد ، وهو يتسلم من أسرته بعض المأكولات ، من خلال ثقب مفتوح في السلك .. وهو أمر معتاد مع جميع المساجين ، ولكنه اليوم انقلب إلي جريمة كبرى .. ذُعرت النساء ، وبكت الأطفال من صراخ الضابط ، ومن قراره بقطع الزيارة ومن تهديداته بقوله : والله العظيم لأحرقكم بجاز ..

واستاق الحراس الأهالي إلي قسم شرطة المعادي ؛ حيث قضوا فيه يومًا وليلة قبل أن يطلق سراحهم .. أما الإخوان ، فقد أخذوا من الدار للنار ، حيث أجلسوا علي الأرض أمام عنبر التأديب ، وصدر أمر بإدخال أربعة عشر أخًا إلي زنازين التأديب ، وقيدت أيديهم بالحديد خلف ظهورهم . ولقد واتت إدارة الليمان الفرصة التي كانت تنتظرها ، وتعد لها العدة ، وتهيئ المناخ لها .. وقد أدرك الإخوان هذا التدبير منذ أن منعتهم الإدارة من الحق الممنوح لأي مسجون بورشة السجن كنوع من التخفيف ، ومن التدرج من طبيعة الأشغال الشاقة إلي طبيعة السجن . لقد تمتع كل المسجونين بهذا الحق ، ماعدا الإخوان بناءً علي خطاب رسمي ورد لإدارة الليمان ، يقضي طلب أي أخ من الإخوان ، وأن يفهموا أن علمهم سيستمر في كسر الأحجار في الجبل ، حتى بعد انتهاء مدة حكمهم . ولم تكتف الإدارة بذلك ، بل تعجلت تصعيد الموقف ، والتمست لذلك حيلة الذئب مع الحمل . كان موضوع الزيارات هي القشة التي قصمت ظهر البعير .

الجميع يجب أن يكسر الأحجار :

في صباح اليوم التالي للزيارة صدرت الأوامر بتجريد الإخوان المسجونين في التأديب من ملابسهم وحلق شعورهم .. ودخل إليهم مأمور أول الليمان ، وقال لهم : إحنا مبيتين لكم دقة ح تخليكم تمشوا علي العجين ما تلغبطهوش . وفي اليوم نفسه " هو 30 مايو " استدعي مدير الليمان أطباء السجن ، وأمرهم بإخراج جميع المرضي من الإخوان من الملاحظة الطبية ليستأنفوا عملهم في الجبل ، فاعترض الأطباء لما في ذلك من خطر علي حياتهم . فقال لهم المدير : إن هذه الأوامر من فوق .. وإن أي طبيب لا ينفذ هذه التعليمات سيجد نفسه مسجونًُا في إحدى الزنازين .

قال الأطباء : إن فيهم مرضي قدموا من سجون أخري .

قال المدير : إن الأمر للجميع .. للمرضي وأنصاف الموتى .. الجميع يجب أن يكسروا أحجاراً في الجبل .

كبسة في الجبل :

سري الهمس بين كل الإخوان بأن النية مبيتة لاصطناع كبسة في الجبل ن تبرر ضربهم بالنار ، بدعوى منعهم من الهرب ، خاصة وأن الأيام السابقة علي موضوع الزيارة كانت قد شهدت احتكاكات كثيرة مع الإخوان في الجبل ، بسبب زيادة الإدارة للمقطوعية يومًا بعد يوم ، وكلما عجز الإخوان عن ذلك قامت بوضع رؤساء المصالب من الإخوان في التأديب .. وكلما حل محلهم رؤساء جدد لاقوا نفس المصير ، حتى لحق بهم بعد ذلك المغضوب عليهم في موضوع الزيارة الأخيرة .. كنا في ذهول ونحن نتابع حديث الشيخ أحمد نار .. كنا صامتين كأن علي رؤوسنا الطير .. شعرت بغربة شديدة عن هذا الوطن الذي تحول حكامه إلي وحوش ، فالوطن هو بسكانه أولاً ، وبأرضه وسمائه ثانيًا .. فإذا فقد أهله الأمن والكرامة فماذا بقي لهم فيه بعد ذلك ؟ لقد كان وقع الحديث أليمًا علي نفوسنا ، حتى أنسانا قصة التأييد والمعارضة التي اكتوينا بنارها من قبل .. لقد تضاءلت تلك القصة حتى أصبحت حدثًا صغيراً بجوار ما تتلقفه آذاننا من أهوال .. ها نحن نقترب من الشيخ نار حتى نكاد نلتصق به ، لكي يصل صوته الخفيض النافذ إلي أعماق أرواحنا عبر آذاننا .. زفر الرجل زفرة قوية ، ثم قال : في يوم الجمعة السابق علي الحادث الأليم استطلع الإخوة المسؤولون رأي إخوانهم جميعًا " كتابة " فيما يلزم عمله أمام الإرهاصات القوية ، فأجمع الإخوان علي عدم النزول إلي الجبل ، والإصرار علي طلب النيابة العامة ؛ لأن طلوع الجبل معناه الموت المحقق في معركة غير متكافئة .

وعندما تنفس صبح السبت الموافق أول يونيو فتح السجانة الزنازين كالمعتاد ، وصاحوا علي العمل ، ونزل الإخوان ، لا ليذهبوا إلي الجبل ، ولكن ليسلم كل واحد منهم ورقته التي يطلب فيها من النيابة العامة التحقيق في سوء المعاملة ، ثم عادوا أدراجهم إلي الزنازين بالدور الثالث بعنبر-1- مرة أخري .. بعد أن تسلم الملازم عبد العال سلُّومة ضابط العنبر هذه الأوراق أعطي الأوامر للإخوان ليدخلوا زنازينهم .. وعند الساعة العاشرة وصل العقيد السيد والي مدير الليمان ومعه كبار ضباط السجن إلي العنبر ، ونادوا علي أربعة من المسؤولين عن الإخوان ليتحدثوا إليهم ، ثم صرفوهم بعد أن زجوا بأحدهم في التأديب .. وبعد فترة وجيزة ، تمت فيها الاتصالات مع الجهات العليا ، بدأوا في إحضار السلاسل الحديدية ، كل سلسلة تتسع لأكثر من عشرين أخًا ، وبدأوا في فتح الزنازين واحدة تلو الأخرى ، وسلسلتهم مثنى مثنى ، وبعد أن تم سلسلة حوالي خمسة عشر أخًا أسرع الأخ مرسي صادق بخطف المفتاح من السجان ، وفتح به جميع الزنازين ، حتى يستحيل سلسلة الإخوان مجتمعين ، ويضيع علي إدارة السجن فرصة سوقهم قسرا إلي مذبح الجبل ، وبعد ساعتين حضر اللواء إسماعيل همت ، وفي أعقابه حضر أحد الحراس ، وهمس في أذنه فانصرف علي الفور ، ليعود ثانية بعد دقائق علي رأس كتيبة بكامل أسلحتها ، تربو علي الألف جندي ، توجه قسم منهم إلي الدور الثاني الواقع تحت دور الإخوان ، وتوجه القسم الثاني إلي الدور الرابع الواقع فوق دور الإخوان ، ووقف عشرة من الجنود بصالة الدور الأرضي وبنادقهم مصوبة إلي الأعلى .. وبعد فترة حضر أشخاص في ملابس مدنية ، ميز الإخوان منهم صلاح الدسوقي وأحمد داود ، وانتفش الطاووس همت أمامهم ، بعد أن تقوى بالأوامر ، وصاح علي الحراس : اضرب ، ففتحت أفواه المدافع والبنادق والرصاص منهمر ، ظنه الإخوان لأول وهلة من الفشنك علي سبيل الإرهاب ، ولكنهم سرعان ما تبينوا أنه رصاص حقيقي ، عندما تساقط الشهداء واحد تلو الآخر علي الطرقات وفوق الكباري وأمام أبواب الزنازين .. فأسرع الباقون علي الفور بدخول الزنازين للاحتماء بها .. وبعد أن استمر ضرب النار علي هذه الحال لمدة ساعة تقريبًا توقف فجأة لمدة خمس دقائق ، ريثما صدرت أوامر جديدة لحملة الشؤم العليظ بتطهير الزنازين من الجرحى " أي : بالإجهاز عليهم " وبدأوا يدخلون الزنازين ليمزجوا الدماء الزكية واللحم الطاهر بالكتب والملابس ، في مناظر لم يشهد التاريخ أسوأ منها ، وسجل الشهداء في سطور من نور مواقف الإيثار والتضحية ، وأصبح لكل منهم قصة تروي .

وغلبت علي الأسد الجريح مشاعره ، فبكي وبكت قلوبنا دمًا ، وفاضت عيوننا دمعًا صامتًا . وواصل الأسد الجريح زفراته .. وفي الساعة الثانية ظهراً توقف إطلاق النار ، ونقل المصابون إلي مستشفي الليمان ، ورفض مدير الليمان توسلات الأطباء بنقل الجرحى إلي المستشفيات الخارجية ؛ لقلة إمكانيات الليمان المحلية ، قائلا : إن لديه تعليمات من فوق بأن يبقوا هنا . وصدرت الأوامر بنقل جثث الشهداء خارج الليمان ، ورصهم في طرقات العنبر ، ومن حولهم الأطباق والجرادل ، لإيهام النيابة أنهم تمردوا واعتدوا علي السجانة ، وأن السجانة قد دافعوا عن أنفسهم فقط ، وأخمدوا التمرد .. وفي اليوم الثاني من الحادث خرج من ليمان طره 21 نعشًا في جنح الظلام ، تحت حراسة مشددة ، وسُلَّم كل شهيد إلي أهله ، ليدفن ليلاً بعد وضع حراسة علي القبر لعدة أيام ، مع التنبيهات المشددة بعدم إقامة مآتم . وفي اليوم الرابع قام الملازم عبد العال سلومة بتجريد الإخوان من كل شيء ، حتى ملابسهم ، وسلم كل واحد منهم بدلة ممزقة ، وقام بسلسلتهم كل 20 معًا في سلسلة واحدة ، وبعد العشاء خرجوا بهم تحت جنح الليل ، وأودعوهم سجن القناطر ؛ حيث أعدوا لهم ألوانًا جديدة من التعذيب ، أدت إلي فقد 14 أخًا لعقولهم ، وتم ترحيلهم إلي مستشفي الأمراض العقلية . وصمت الأسد الجريح قليلاً ، ثم قال : هذا يا أبنائي طريق الدعوات .. لأن سلعة الله غالية .. فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ..

إعجابًا بموقف إخوان الأردن :

جفت حلوقنا فلم تقوَ علي الكلام ، وانصرفنا واجمين بعد أن علمنا أسماء الشهداء ، فكان لوقع الفراق ألمه علي النفوس ، ولكنه ألم لم يدم طويلاً بعد أن غبطنا هؤلاء الأحباب علي نعمة الشهادة عقب صلاتهم لظهر اليوم مباشرة ، وكان حظي من هذه المشاعر المتضاربة أكبر من غيري ، بعد أن علمت بنبأ استشهاد ثلاثة كنت أسكن معهم في الليمان في زنزانة واحدة .. وكان يطيب لنا أن نؤدي تمثيلية كل أبطالها من الشهداء ، كل شهيد يروي قصة عصره وهم في دار الخلد .. فإذا بذلك وقد أصبح حقيقة .. وأقوم إلي خيمتي ، وأنا أكتم إعجابًا في صدري بموقف إخوان الأردن ، الذين لم ترتعش أيديهم ، ولم يترددوا في اختيار جانب الحياة النيابية ، التي لاشك أن سيئاتها خير من حسنات أي حكم عسكري ، يغلق في وجه الأمة كل أبواب الأمل ، ويفتح كل أبواب السجن .



الباب الخامس : سجن المحاريق


الفصل الأول : ( نوع جديد من القيادات يظهر في صفوف الإخوان - تنبيه المؤيدون لغرض السلطة فرحل المعارضون )

ع المحــاريق ع المحــاريق

ربك بكـره يفـك الضـيق

والله حــانرجـع للـزنازيـن

أوعي تكون مـهموم وحزين

شد العـزم وقل يـا معـيـن

لـف النمــرة ويالا قــوام

واتقل واصـبـر ع الأيـام

وابقي في وقت الحـق جـريء

..... ع المـحـاريـق ...

تلبس بفتـه أو كـسـتــور

ما يهمـكش مـادام مستور

تعـمل إيه بحريـر أو خيـش

أهي ستـرة وهي لقمة عيش

والحبـسـة ما فيهـاش تزويق ..... ع المـحـاريـق ...

أمـر المؤمن خـير علي طول

مـهـما الشدة تزيد وتطول

وأوعي يكون قلـبك مشـغول

سـلـمـهـا لله تـرتـاح

وفي يده هوه الـمـفـتـاح

يـفـتح لك مـن أي طريـق

..... ع الـمـحـاريـق ...

اطَّـمن واسـأل مــولاك

كـن وياه حـايكـون وياك

وبفـضله دايمًا يرعــاك

الزم بابـه لـيـل ونهــار

هو العـادل والـجــبـار

بيسـجل وحـسـابه دقيـق

ع المحاريـق .. ع المحاريـق

ولدت هذه الأنشودة في الساعات الأخيرة لمعسكر جناح .. كانت هي أغنية الطريق إلي سجن المحاريق ، تردّدها المجموعة التي تعتلي ظهر إحدى عربات النقل الضخمة ، والتي وضعها حظها السعيد مع الثنائي الجميل مؤلف الأغنية ومنشدها ، اللذين طالما عزفت نفساهما الشاعرتان ألحان كل الأحداث التي مرت علينا .. ومن أولي من الأخ سعد سرور صاحب السمت الوقور ، والجسم الفارع القوي ، والملامح الراضية ، والابتسامة الصافية ، والصوت الرخيم كهمس النسيم .. من أولي بهذه القيثارة البشرية العذبة النغم ، الشجية الصدى ، بإنشاد أحداثنا بكلماته السهلة المعبرة ، وألحانه الجميلة ، التي تشد أنفاسنا جميعًا ، وتسحب الدموع من المآقي ، فتتفتح لسماعها الأرواح قبل الآذان .. ومن أولي من قرينه التركي أحمد حسين ، خفيف الظل ، مرح الروح ، بالإلقاء في صوت عميق صادق التعبير .. كنا لا نكاد نسمع عن لحن جديد حتى نسارع ، لا إلي الأخ سعد ، بل قرينه أحمد حسين ، لنستقبل المولود الجديد الذي يحكي أخبار آخر ساعة ... لكننا اليوم لا نستطيع المسارعة إليه كما كنا نفعل من قبل . فكل مجموعة منا تربض فوق متاعها الكثير ، علي ظهر إحدى الشاحنات التي تنطلق في الصحراء ، صوب مدينة الخارجة عاصمة الوادي الجديد ، في طريقها إلي سجن المحاريق .. حسبنا ما تلتقطه أسماعنا من أصداء هذا اللحن الخالد ، الذي خلِت روابي الصحراء تردّده مع مجموعة هذه العربة المحظوظة .

لقد أنستنا كلماتها مشاعر اللحظات الأخيرة في معسكر جناح ، وقد امتلأت ساحته في غسق الليل برتل من الشاحنات ، لم تلبث أن ملأت أجوافها النهمة ، بكل أمتعة الإخوان في ساعة من الزمان ، ثم ولت هاربة من بوابة السور الكبير ، ولها هدير يصم الآذان ، يختلط بعواء الكلاب الذي كاد أن يكون أنينًا .. إنها هذه المرة لا تدور حولنا ، ولا تحرك ذيولها ، ولا تستقبل هذا القادم الغريب بالنباح .. لقد أدركت بغريزتها بأن ما يجري شيء آخر يختلف عن المعتاد .. عجيب أمر هذه العجماوات .. إن لها قلوبًا أرق من قلوب بعض البشر .. لقد انفلتت شاحنتنا من البوابة الكبيرة لتلحق بأخواتها ، وفي نفسي انقباض ، وفي بالي انشغال علي مصير هذه الحيوانات البائسة من كلاب تعوى وقطط تموء .. ولكن حسبي إيماني أنه ما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها ، وقديمًا قالوا : إن ظلم الظالم يصيب كل شيء حتى الضب في جحره .

أمنية تتحقق :

أمضت العربات بقية الليل وهي تزحف كالسلاحف بأحمالها الثقيلة ، ما بين موقع سجن جناح الذي رحلنا منه ومدينة الخارجة التي تقع في منتصف المسافة تقريبًا بين سجن جناح وسجن المحاريق .. كثيرًا ما توقفنا لمعاونة إحدى العربات المغرورة في الرمال ، ولم ننج بدورنا من هذا المصير ، كنا ونحن نعتلي أمتعتنا ننخرط أحيانًا في حديث طويل عن طبيعة الحياة في السجن الجديد ، وما قد يقابلنا فيه من صور الضغوط وألوان التكديرات ؛ لأنه بني خصيصًا لهذا الغرض ، ونحن أول نزلائه .. ولكن سرعان ما نتجاوز هذه التوقعات ؛ لأن ما في قلوبنا من اطمئنان ، وما يشع في عيوننا من بريق الإصرار ، وما تترجمه ابتساماتنا وضحكاتنا وأناشيدنا من ثقة قوية في الله ، وما نحسه في أعماقنا من إرادة تفتت الصخر ، كل هذا قد جعلنا لا متهيبين من هذا المصير المجهول – بل أكاد أقول صادقًا بل متعجلين للقائه .. ويشهد الله علي ما كان في قلبي من سعادة وعربتنا تزحف وتتحسس طريقها بقرني استشعار من النور ، ونحن ملتحفون فوقها بثوب السماء الموشَّي بالنجوم ، كيف لا أتسربل بالاطمئنان وقد خلت أفكاري من الاهتزاز ، وبرئت مشاعري من التناقض ، وامتلأ قلبي باليقين وبالحب لكل فرد في هذه الصفوة الممتازة من الرجال المؤمنين ، الذين عقدوا العزم علي رفع راية الحق حتى النهاية ؟! الموت نفسه علي هذا الحال يصير محببًا إلي النفس ، لا فزع فيه . وكلمات الأغنية تعكس في الواقع كل التوقعات الشريرة ، ومعها استعدادنا النفسي لملاقاتها .. ويميل أخي عبد الرحمن البنان علي أذني ، ويهمس فيها ضاحكًا :

- لقد كنت في أيامنا الأخيرة بمعسكر جناح تتمني التغيير ، ولو إلي أسوأ .. وها هو التغيير في طريقه إليك .. أما كنت تتمني شيئًا آخر ؟ وأستغرق معه في الضحك ، مؤكداً له سروري بالحركة علي كل حال ، فالسكون يعني الموت ، والحركة الصحيحة حتى الموت هي الحياة ..

الأيام الأخيرة :

عندما كنت أخلو إلي نفسي كانت كلمة البنان ترن في أذني ، وتعيد أمام عيني شريط الأحداث التي سبقت هذا اليوم .. وكيف كنا علي وشك مذبحة كبيرة كتلك التي وقعت لإخواننا في ليمان طره ، لولا أن الله نجانا من ذلك بإبعاد أسباب الاحتكاكات عنا بانفصال المؤيدين بقسم (2) ، واقتصار الحياة علينا بقسم (3) الذي وصفته الإدارة بقسم المعارضين .. ولم يكن يعنينا أي صفة يلصقونها بنا .. فحسبنا أن نسائم الأخوة والمحبة قد بدأت تهب علي حياتنا مرة أخري ، وأننا أخذنا نسير – بل نقفز – نحو مستوانا الراقي القديم ، الذي كنا عليه أول مرة ، قبل أن يدخل الشيطان بيننا .. وطغي الإحساس بالارتياح والشعور بالفرح علي ما اقترفه المتشددون في حق قضية الالتزام .. فلم يفكر كثيرون في مؤاخذة الأخ الذي أدت مشاجرته إلي تسلسل الأحداث التي انتهت بالانفصال .. بينما ظل الشعور بالاستياء قائما لدي فريق من الإخوان تجاه هذا التصرف الفردي ، بصرف النظر عما انتهت إليه النتائج لصالحنا .. فالحق هو الحق لك أو عليك .. وكنت أري رأي هذا الفريق واستصوبه ، وأشعر بشعوره ، ولا يشغلني الارتياح عن التذكير بجانب الحق في القضية معهم لكل مسؤول في قسم (3) .. كان الحديث يجري عادة مع المسؤولين علي الوجه الآتي :

- نراكم في انشغالكم بإرساء أسس حياتنا الجديدة قد تغاضيتم عن الخطأ الذي ارتكبه المتشاجر في حق مبدأ الالتزام .. والمفرط في تقديرنا لا يختلف عن المفرَّط في الأساس النفسي ، فكل منهما قد اتبع هواه .. هذا في الإفراط وذلك في التفريط .. فإظهار عدم الرضا أو توجيه اللوم لهذا النوع من السلوك هو أول ما يجب أن تتفتح به حياتنا الجديدة ، وضعًا للحق في نصابه ، وإلا فتحنا باب التصرفات الفردية بدعوى الغيرة علي الدعوة ، فنجني من وراء ذلك أخطاء كثيرة ، قد يكون لها بريق يغشي في البداية .

- نحن معكم فيما تقولون .. من الحرص علي سلامة الموازين ، وإن كنا أمام النتائج الطيبة التي وصلنا إليها ، بانفصال المؤيدين عنا نعتبر أن الخير هو فيما اختاره الله وقدره .

- إننا محاسبون دائمًا علي أعمالنا وتصرفاتنا البشرية ، لا عن النتيجة القدرية .. أعمالنا شهادة والنتيجة غيب .. وشريعتنا أنزلت للشهادة علي البشر .. ولنا في حديث الإفك عبرة ؛ لأنه يوضح دائرتي القدر والبشر في مجال التصرفات .. فمن دائرة القدر : " لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خيرًا لكم " .. ومن خلال دائرة البشر : " لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولي كبره منهم له عذاب عظيم " .. فتصحيح الموازين اليوم بحفظنا بها غدًا .. حتى لا نكتوي في الغد بتصرفات من أفادنا اليوم خطؤه .. حياة جديدة ..

لم تمنعنا هذه التحفظات من المشاركة في معالم الحياة الجديدة ، التي طال شوقنا إلي رحيقها المختوم ، بعد أن تخلصنا من كل عوامل الوهن .. بدأنا باختيار أسلوب إداري جديد لإدارة المعسكر ، بانتخاب اثني عشر أخًا من كل قسم (3) ، يشكلون المجلس الإداري ، يرأسه أكثر الأعضاء أصواتًا ، باعتباره مسؤولاً عامًا ، ويخضع أدبيًا لإشراف أحد أعضاء مكتب الإرشاد ، باعتباره مشرفًا عامًا ، وهي صفة لم تكن موجودة من قبل في علاقة مكتب الإرشاد بمجلس الأمراء .. وبهذا استحدثت حلقة إدارية جديدة بين المكتب ومجلس الأمراء ، كانت في جوهرها إبعادًا لسلطة المكتب نوعًا ما ، وتقوية لرجال الصف الثاني ، وأغلبهم من القيادات السابقة للجهاز الخاص .. وجاء الأخ رشاد المنيسي ضابط الشرطة السابق أول مسؤول إداري في هذا الوضع الجديد . وأمضينا عامًا علي هذا الحال قبل ترحيلنا إلي سجن المحاريق في أغسطس عام 1958 . وقد ازدهرت كل صور النشاط الثقافي والفني والرياضي والعلمي علي مدار هذا العام حتى ظللت حياتنا تظليلاً .. في الوقت الذي أخذت حياة قسم (2) تتدهور ن ويصيبها الملل والسأم ، ولم يكن السور المقام بيننا يحجب عنا أخبارهم .

صوت العقل :

ومع الأيام ازداد المخلصون في قسم (2) اقتناعًا بخطر الشوائب أو المخلفات السامة ، التي أفسدت أحلامهم في جدوى الجدل حول المناهج ودور الجهاز الخاص في الجماعة ، بعد أن عاينوا متاعبها ، وتحققوا من أنها لا تصلح لشيء ، ولا لمجرد الالتقاء علي مصلحة مشتركة عارضة ، كالخروج من السجن ؛ حيث كان منهم يتصرف بانطلاق ذاتي أضر الجميع .. مما دعا عقلاء المؤيدين إلي المسارعة للاتصال بالمسؤولين لدينا ، للعودة إلي الحياة الصحيحة في حضن الجماعة الأم .. وكان الشيخ أحمد أبو العلاء هو رائد العودة ، تلاه صلاح العطار ، ومحمود شكري ، وحسن شافعي ، وفتحي البوز .. وعمتنا فرحة كبيرة بكسب هؤلاء الإخوة الكرام الذين نعلم مقدار الخير الكامن في نفوسهم .. وأزعجت حركة العودة هذه كل أطراف التحالف الشرير ، فعملوا علي إيقافها ، وتمخضت اجتماعاتهم واتصالاتهم عن أهمية إحداث تطوير في حياتهم .. عن طريق قرارات حاسمة ، ظنوها قادرة علي علاج الموقف ، سموها قرارات 17 ديسمبر الشهيرة ، أكدوا في مستهلها علي أنهم يمثلون جماعة الإخوان المسلمين الجديدة ، وأن الخارج عليهم خارج علي الجماعة ثم تناولت بقية القرارات تنظيم حياتهم الداخلية .. ورغم ذلك فلم يتوقف تيار عودة الإخوان الجادين إلي مجتمعهم السليم ، بعد أن فطنوا إلي غرض السلطة البعيد ، فكان لابد من عمل أكثر حسمًا من جانب السلطة ، حتى تحقق هدفها من سياسة التفتيت والإفناء البسيط .. فكان قرار الترحيل المفاجئ لجميع المؤيدين إلي سجن مصر ، تمهيدًا للإفراج عنهم .

مرحلة السفور :

بهذا القرار العجيب في مطلع عام 1958 بدأت مرحلة جديدة في قضية التأييد والمعارضة ، وهي دخول الحكومة إلي الميدان سافرة .. شعرنا بالمرارة للأسلوب الصبياني في كسب التأييد ، أو القضاء علي الرأي الآخر في الأمة .. أسلوب بدائي تجاوزته البشرية من قرون ، عندما عرفت معني الحرية والديمقراطية ، وعندما أشرق الإسلام بنوره علي الأرض ، ليعلي من كرامة الإنسان ومن حقه في الاختيار .. لكن أنَّي للديكتاتوريات أن تفهم ذلك . أدركنا أن الحكومة وقعت في الفخ ، من حيث ظنت أنها أصابت الهدف ، وأنها دخلت في سرداب مظلم ، يدمي الأقدام ويغشي الأبصار ، بعد أن أكدت رسميًا وصفنا بالمعارضين ن وأخذت تعاملنا علي هذا الأساس ، أو بمعني تضطهدنا لهذا السبب .. ودخلت معنا في تحديات وتكديرات وضغوط نفسية ومادية داخلية وخارجية ، مازالت مستمرة معنا حتى تاريخ كتابة هذه السطور في 5 أكتوبر 1970 .. ولا يعلم إلا الله كم خسرت البلد من جراء أجهزة الأمن الفاشلة حتى هذا اليوم .. وستستمر الخسائر حتى يأتي اليوم الذي تعرف فيه كيف تعامل أصحاب العقائد ، وحتى تدرك أنها لن تقضي عليهم بكل وسائل الضغط والتحليل النفسي أو الإفناء ، فالموت نفسه لصاحب العقيدة لا يحل المشكلة ، ولا يقضي علي العقيدة .. وإنما السبيل هو أن تكون هذه الأجهزة أولاً صاحبة عقيدة أفضل وسلوك أقوم وغايات أصح .. فإن لم تكن كذلك فعليها أن تكون مستعدة بأمانة وصدق أن تأخذ وتعطي من تلك العقائد المضادة ، لا أن تغلق أبواب تفكيرها أو طريقة سلوكها .. أو بمعني جديد عليها أن تكون مستعدة لأن تتغير .. بهذا فقط تأخذ أفضل ما عند خصومها ، وتبقي في مركزها ، ويدوم لها سلطانها .. وينقلب أصحاب العقائد المعارضين لها بالأمس جنودًا لها .. كانت دعوة الرسول الذكية لقريش وهو يقول لها : " قولوها كلمة واحدة تدين لكم بها العرب والعجم ، ويبقي لكم أبد الدهر " . لم يقل لهم سأقلب أوضاعكم ، أو سأزيل سلطانكم ؛ لأنه يعلم أنهم يجحدون الحق ، ويعمون عن النور من أجل المحافظة علي السلطة ، فقال لهم : سيتسع سلطانكم ولا أسألكم عن ذلك أجرًا .

كان زعماء التتار وزعماء الأتراك أذكي من زعماء قريش ، وأذكي من طغاة اليوم ، وأذكي من رجال الأمن ؛ لأنهم اختصروا الطريق ، وجنبوا شعوبهم السجون والمعتقلات المآسي ، فبادروا إلي اعتناق عقيدة شعوبهم المسلمة ، بعد أن تبين لهم الحق ، فبقوا في أماكنكم ، وزاد سلطانهم ، وامتد في الزمان والمكان .. هذا هو سبيل القضاء علي المعارضة .. أن يكون من في الحكم هو الأفضل في كل شيء .. فإن كان هو الأسوأ فمصيره الزوال ، مهما تشبث بالحكم ؛ لأن الزبد سيذهب جفاء .. أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض

ضربة جديدة :

لكن أنَّي لمنم يعيشون في السوء – فهمًا وسلوكًا ونظامًا – أن يدركوا هذه المعاني .. إن شهوة الانتصار علي الخصوم تنسيهم أهمية الانتصار علي المبادئ والسلوك والنظم بالأفضل .. فهم في سلوكهم الوحشي إنما يهربون في الواقع من إنسانيتهم ؛ لعجزهم عن متطلباتهم ، فيودون قسر غيرهم ليكونوا أمثالهم فيرضوا عنهم .. وهذه إحدى ضرورات التأييد النفسية لديهم . لم نكد نفيق من صدمة ترحيل قسم (2) ، حتى تلقينا صدمة أخري بتجميع كل المغضوب عليه من سجون القناطر الخيرية وبني سويف وأسيوط بالواحات مع المعارضين .. واستقبلنا الوافدين الجدد بروح الأخوة التي غطت علي المغزى الكئيب لهذا التجميع ، وأشعلنا في نفوسنا جميعًا جذوة الثقة في نصر الله ، وأفضنا عليهم من كل شيء جميل في حياتنا ، وهم بدورهم كانوا خير عوض عمن فقدنا .

المرشد يشد آزرنا :

كان هذا التجميع مقدمة لترحيل الجميع إلي سجن المحاريق ، الذي بني خصيصًا بطريقة الزنازين ؛ ليسهل مهمة الضغط علينا ، وتكديرنا ، وتسخيرنا في الأعمال المختلفة ، إذا ظل إصرارنا علي رفض التأييد قائمًا .. وقد تسربت إلينا الأخبار قبل الموعد المحدد للرحيل بشهر . ولما وصلت أنباء هذه الاستعدادات الشيطانية لفضيلة المرشد العام أرسل إلينا خطابًا يشد من أزرنا ، ويوصينا بصبر المؤمنين وعزيمتهم ، وعدم الوهن أمام أي بطش ، فلو بقي منا علي قيد الحياة خمسون فإنهم سيكونون كثير بميزان الدعوات وسيفتح الله عليهم وبهم أمم الأرض .

تقارير للشيوعيين :

أفادتنا الأنباء المتسربة في إعداد لهذا اليوم ؛ حتى لا نؤخذ علي غرة ، ولم ننس نصيبنا من الدنيا ، فاستمر الذبح في الطيور والأرانب ، وقامت الولائم في كل الخيام ، وكأنما هبط علينا المن والسلوى علي مدار هذا الشهر . وفي عصر أحد أيام أغسطس 1958 ، جمعنا مأمور السجن منير كيرلس بجوار مبني الثلاجة في ساحة المعسكر ليفاجئنا – هكذا توهم – بنبأ وصول رتل من سيارات النقل في الليلة نفسها ، لنقلنا علي عجل إلي سجن المحاريق .. ومع الغروب وصلت العربات حسب التوقيت الحكيم ، وأخذت تبتلع أمتعتنا ، وبدأت بالشيوعيين ، وأسفنا حين وجدنا في مخلفاتهم تقارير مرفوعة عنا ، توصي بتقسيمنا إلي فئات للإعدام .. وللنفي مدي الحياة .. ولغسيل المخ حسب مقتضي الحال . ولم يفتنا أنا والبنان ومحمود عميرة أن نستبقي أرنبًا صغيرًا ، وضعنا أيدينا علي ظهره ، ثم أطلقناه حرًا في الصحراء بين الأعشاب للذكرى ، ولم تشغلنا الحركة الدائبة في السجن ولا هدير المحركات عن مأوى أرواحنا ، فدلفنا إلي المسجد الخاوي في الظلام ، وصلينا فيه ركعتين ؛ لتكون آخر عملنا فوق هذه البقة المباركة من الأرض ، التي شهدت فصلاً من تاريخ الدعوة ، قبل أن نعتلي ظهور العربات وتبتلعنا الصحراء ..

الفصل الثاني : ( الصحراء مدرسة الدعاة الخالدة - المؤيدون والمعارضون من جديد )


توقف رتل العربات ، ريثما نزلنا لأداء صلاة الفجر في ليل الصحراء الساجى ، فإن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا ، " إن قرآن الفجر كان مشهودا" ، وإذا كان ذلك في الصحراء كان شيئاً عجيبًا .. أما وقد حدث مقدمون علي مواجهة الأخطار في موقف من مواقف الجهاد ؛ فكأننا نسمع القرآن يرتل حول عرش الرحمن من الكرام البررة .. حتى لكأن أرواحنا تحلق في عالمها العلوي آيات من الفيض الرباني تحس ولا توصف .. وبعد الصلاة اعتلينا ظهر العربات فوق الأحمال ، ليبدأ الإخوان فصلاً جديدًا من تلاوة القرآن وترديد مأثورات الصباح ، وكان ذلك كله يعكس كل معاني الاطمئنان والتسليم .. وكان يشيع خلال هذه اللحظات التي تشهد انسلاخ النهار من الليل صمت مقدس له سحره وجلاله .. وكنت حتى هذه اللحظة لم يطرف لي جفن ، فقد حرمت النوم علي عيني في ليلة كهذه ، قلما يجود الزمان بمثلها .. كنت أسبح مع أحلامي في كل الأسماء التي لم تستوعب حقيقة الصحراء .. بيداء ، وفيافي ، وقفار ، وفلاة .. فكلها تحكي عجز الإنسان عن معرفة أسرارها ، مثلما تحكي عن فنونه بها .. وكنت أسبح بخواطري عبر الزمن نحو ماضي حبيب ، أهاجت الصحراء ذكرياته ، يوم خرج النور لأول مرة في قلب الصحراء العربية ؛ ليبدد ظلام الحضارة الفارسية والرومانية ، ويحرر الإنسان من عبوديته لأرباب كثيرة من دون الله .. كانت الصحراء جديرة بهذا الشرف في اختيار الله لها ن مثلما اختار الله صحراء أخري في إفريقيا في القرن العشرين ، لتكون محلاً للتكريم ، لبعث دعوته من جديد ..

أوسع من عالم المدن :

لقد شغلتني أحلامي وخواطري عن الطريق وعن مطباته .. ولم أشعر بأي ملل ، بعد أن اكتشفت أنني ابن شرعي للصحراء .. وأن روحي تعيش في عالم أوسع من عالم المدن الضيق ، وأنه بأهل المدن أن يعودوا إلي أمهم الصحراء كل حين لينقهوا فيها من كل أقسام المدينة .. ليروا سماءها قريبة من رءوسهم . لتمتد أبصارهم إلي بعيد .. ليروا قرص الشمس الكبير ، وهو يسترد سلطانه علي الأرض ، بعد أن زوته المدن في النهار بالمباني المتطاولة ، مثلما زوت قمر السماء في الليل بالمصابيح المتلألئة .. ليشموا نسيم الفطرة الأولي .. باختصار شديد ليولدوا من جديد ..

في الخارجة :

دخلنا مدينة الخارجة عاصمة الوادي الجديد مع شروق الشمس ، وهي تقع في منتصف المسافة بين سجن جناح وسجن المحاريق .. وهي لا تعدو كونها قرية كبيرة ، بكل ملامح القرية ، من دور ريفية ، وحارات ، وأزقة ، وفقر شديد بادي علي وجوه الناس .. ربما تكون قد تغيرت الآن عن ذي قبل .. تشوقت أن تقع عيني علي دار العمدة أو المرور بالقرب منه ، إذ طالما سمعت قصص المروءة والشهامة التي قام بها نحو زوارنا ، كما كان يرسل إلينا بمعسكر جناح كل حين هدايا من تمور الواحات بدون علم أحد من رجال السلطة ، معرضًا نفسه في كل ذلك لأخطار كبيرة .

من بعيد :

لم نلبث أن تجاوزنا مدينة الخارجة ، مصوبين نحو الشرق في اتجاه سجن المحاريق .. قد خلا طريقنا الجديد من كل السحر والروعة اللذين أحسست بهما في الطريق الأول .. كان الطريق معبدًا كأنه طريق زراعي مألوف لنا .. هدأت معه كل الخواطر الثائرة .. وتبخرت كل الأحلام السعيدة حين تعلقت أبصارنا بشيء بعيد بدأ يتضح رويداً رويداً ، ثم وضحت معالمه تمامًا ، تلك المباني البيضاء التي تضحك شمس الضحى فوق أسطحها ن فتزيدها جلاء ، وظلالها تمتد نحونا كأذرع حانية ترحب بنا وتضمنا إلي أحضان قدرنا الجديد بسجن المحاريق .

في السجن الجديد :

شهدت صبيحة يوم من أواخر أغسطس سنة 1958 مع ارتفاع شمس الضحى دخول العربات والشاحنات إلي فناء السجن الجديد ، وقد دخلت كل عربة من المكان الذي راق لها ؛ حيث لم يكن قد أقيم سور بعد حول العنابر الثلاث التي يتكون منها سجن المحاريق .. يعتمد السجن في حياته علي المياه التي تصله عبر أنابيب ممتدة من عين ماء تقع جنوب المنبي علي بعد كيلومتر تقريبًا .. وسرعان ما أفرغت السيارات حمولتها التي اكتظت بها زنازين العنبرين المخصصين لنا .. يتكون كل عنبر من جناحين ، كل جناح يتكون من عشرين زنزانة ، علي كل جانب عشرة زنازين ، بينهما ممر مسقف ، في نهايته من الداخل تقع دورة مياه كل جناح . بدخول آخر عربة إلي فناء السجن انتهت علاقتنا بالطاقم القديم من ضباط وسجانة ، وأصبحنا أمام طاقم جديد ووجوه جديدة ، لم نألفها ولم تألفنا من قبل ، وعلي رأسها مأمور السجن الجديد المقدم ضياء ، الذي وصل بعدنا بأيام .. ولقد قدر لي أن أعيش في هذا السجن حتى فبراير سنة 1961 ، قبل أن أرحل إلي سجن القناطر ، وأن أشهد فصلاً فريداً من تاريخ الدعوة . استأثر هذا المكان باسم السجن من أول يوم ، ولم يحظ بلقب معسكر يومًا واحدًا كما كان الحال في جناح .

زوار غامضون :

ولم نهنأ بالأيام القليلة التي تركت فيها الأبواب مفتوحة في العنبرين ، حيث نغصها علينا ظهور مجموعة جديدة من المؤيدين ، ولم يكن مستغربًا لدي كثير من الإخوان أن يكون أبطال هذه الجولة هم مجموعة المتحمسين ، الذين طالما عانينا من شططهم مع المؤيدين القدامى .. وسبق أن بينا أن الأساس النفسي للفريقين واحد ، هو أتباع الظن وما تهوى الأنفس .. وجاء اليوم الذي تجني فيه ثمرة تغاضينا عن تصرفاتهم السابقة ، التي أفادتنا في حينها ، ولكنها عمقت فيهم منطق الهوى المغلف بثوب الغيرة علي الدعوة .. ولكنهم اليوم أمام توالي الأحداث ودلالاتها من ترحيل المؤيدين للإفراج عنهم ، ومن نقلنا إلي سجن جديد مبني بطريقة الزنازين ، ومن إرهاصات بلون جديد من المعاملة للمعارضين ، ومن دخول رجال المخابرات بمدينة الخارجة بطريقة مباشرة في حياتنا ، فهذا رجلهم السعدنى يشرف بنفسه مع ضباط السجن في الدعوة المباشرة إلي تأييد الحكومة ، ويحذر من مغبة المعارضة .. وأمام ازدياد الاستعدادات من قبل رجال الإدارة لاستقبال زوار غامضين قادمين علي طائرة خاصة ، وعلي رأسهم صلاح الدسوقي بطل مذبحة طره .. أمام ذلك كله فقد أسفروا عن وجههم الصحيح .. لم تتكون هذه المجموعة طفرة ، بل بدأت بذورها في معسكر جناح عقب ترحيل المؤيدين للإفراج عنهم ، ولما أحس أعضاء المكتب وأعضاء المجلس الإداري برغبة هذه المجموعة في أن تسلك نفس الطريق ، ومن خلال المحافظة علي الانتماء للجماعة ، أفهموهم بصراحة أن للجماعة خطأ واضحًا . ولكنهم لا يقفون في طريق أحد يرتضي لنفسه سلوكًا آخر فيه بعض الترخيص ، وأن طريق العزيمة مفتوح لمن يعينهم الله عليه .. ولكن إذا اقترن الترخيص بالسلوك القويم والاعتدال فإن ذلك لن يبعد صاحبه عن قلوبنا ولا عن صفوفنا إذا ما رغب في التزام أسلوب حياتنا .

التأييد والمعارضة من جديد :

جاءوا إلي سجن المحاريق ونفوسهم معلقة بخاطر الجمع بين الحسنيين ، سلوك طريق التأييد الموصل للإفراج ، واستمرار ارتباطهم بالمجموع ، لإيمانهم بما يمثله من موقف صحيح .. ولكن هيهات أن يصمد هذا الأمل أمام الاستعدادات المخيفة ، التي تنبئ عن أمور كثيرة ، وهيهات أن يبقي هذا الحلم الوردي أمام تغلغل الضباط المباشر في صفوفهم بالتثبيط ، وفي صفوفنا بالتلويح والتحذير ، فكان من الطبيعي أن يميزوا بسكن خاص بهم بأحد أجنحة عنبر (2) ، وأن يجدوا أمنهم في حوار الشيوعيين بالجناح الثاني من العنبر .. وأن يستشعروا مثل من كان في السجن من نزلاء وسجانة فداحة ما سنقدم عليه من ارتضاء سكننا بعنبر مستقل هو عنبر (3) ، تحت لافتة مخيفة هي " المعارضين " ، ونشطت حركة تنقلات بين العنبرين ، بحيث ازداد الأمر تبلوراً .. وكانت هذه المجموعة الجديدة من المؤيدين تتميز بصدق المشاعر نحونا ، والخوف من مغبة قبولنا للتحدي من جانب سلطة غشوم لا تعرف أي معني من معاني الحضارة والتقدم .. وكم رأيت الدموع تطفر من عيون كثيرين منهم وهم يستميتون في إقناعنا بالإقدام علي خطوة التأييد ؛ تفاديًا لمعارك خاسرة .. ونجحت عواطفهم في إقناع الدكتور حسين كمال الدين المسؤول العام أن يفضل مجرد لسكن في عنبرهم ؛ إشعاراً لهم بمكانتهم ، وليكون بجوار صهره الدكتور كمال ؛ رعاية له من التعرض لأي أزمة نفسية ، ولاعتبارات عائلية ، ولم يستحسن الإخوان منطقه هذا ، لأنه سيزيد من بلبلة النفوس ، خاصة إذا ما أغلقت العنابر فجأة وحيل بين بعضنا بعضًا .. ولكن احتمال غلق الأبواب كان بعيدًا لدي المتفائلين ، الذين مازالوا يفكرون بعقلية معسكر جناح .. وخاصة وأن فتحها يفيد خطة الإدارة في استمرار الدعوة المباشرة إلي التأييد ، وهذا الأسلوب الذي يتخذه السعدنى ضابط المخابرات في عقد الندوات لابد من الأبواب المفتوحة لحضور الجميع ، فلا داعي للإسراف في التشاؤم .. وشغلنا عن المجادلات بالحرص علي متابعة ندوات السعدنى ، الذي شمر عن ساعديه للدعوة إلي التأييد ، ولم يثنه قيظ الصحراء عن مهمته الصعبة ، فها هو يتخفف من ملابسه الرسمية ليقف بين الإخوان بملابسه الداخلية في إحدى الزنازين ، مرهبًا من موقف المعارضة ، ومرغبًا في خطوة التأييد ، ويدخل بسبب ذلك مع الإخوان في جدال شديد ..


الفصل الثالث : ( لماذا تصر الدولة علي تأييد هؤلاء المساجين ؟ - القوى الكبرى تخطط لوقف المد الإسلامي )

بدأ فارس الحلبة يدير حوارًا مفتوحًا في عنبر (3) مع الإخوان ، حول التأييد والمعارضة للثورة . وفارسنا اليوم هو النقيب محمود السعدنى ، أحد ضباط المخابرات بمدينة الخارجة عاصمة الواحات ، وأحد أعوان الرائد الشهير بهجت بطل أحداث معسكر جناح .. لقد وجدوا جميعًا فينا ميدانًا سهلاً لبطولات " دونكشوتية " ، وكنا مازلنا لا نصدق ما يجري تحت سمعنا وبصرنا ، ومازلنا في دهشة من أمر سلطات الدولة ودخولها في قضية التأييد والمعارضة بكل ثقلها ، إلي الحد الذي يدعوها إلي ترحيل قسم (2) للإفراج عنهم ، ثم إلي تحويلنا إلي هذا السجن المبني لتباشر فيه سياسة الضغط والتكدير من أجل هذا الغرض الغريب .. ومازلنا في حيرة من تفسير دواعي هذا السلوك الخاطئ ، الذي سيعود علي الأمة بأضرار كثيرة ؛ لأنه يطيل أمد السجون والمعتقلات بلا مبرر ، ويحرم الأمة من أخلص أبنائها ، ويشيع فيها روح الخوف من جو الإرهاب والديكتاتورية .. لم نر عاقلاً يعمل ضد نفسه .. الثورة بهذا الأسلوب تعمل ضد نفسها ن في حين أن الأمر لن يكلفهم شيئًا إذا عمدوا إلي اللقاء المباشر والتفاهم الصريح مع قادة الجماعة ، أو مع مجموع الأفراد الموجودين في كل سجن .. أو بمجرد الإفراج الفوري عن الجميع بعد أخذ الضمانات وعمل الاحتياطات الكافية ، وهو أمر منطقي من جانب السلطة في تأمين نفسها .. ونعجب من أن دولة كبرى ذات إقليمين في الشمال والجنوب ، وإقليم عراقي في طريقه إليها ، وذات صوت عالي بين دول عدم الانحياز ، وذات دور مع ثورات التحرر العالمية في آسيا ودول أمريكا اللاتينية . دولة هذا شأنها ، وثورة هذا مداها ، لا يعقل أن تظل تستشعر في أعماقها العجز أمام مئات عزَّل ، لا يملكون من أسباب القوة شيئًا ، ولا من أسباب المعارضة الحقيقية شيئًا ، ومع هذا فهي تعمل لرأيهم من داخل السجون ألف حساب .. ألا يكون في الأمر سرًا كبيرًا ؟! ويزداد العجب ويكثر التساؤل بيننا ويدور الحديث ..

أحد الإخوان .. إن ما يجري علي كل حال هو شهادة تقدير للرأي المخالف ، وإن له من القيمة والخطر في الداخل ما يجعله يعادل الجيوش والأجهزة والأموال ..

أخ آخر .. الأمر مجرد إرضاء لنزعات فردية وأحقاد شخصية ، ورغبة في السيطرة علي العباد ، ولو علي حساب المصلحة العامة ، إذ كيف يعجز من يدين له الملايين بالولاء ، وتبح له الحناجر بالهتاف ، وتدمي الأكف بالتصفيق من الخليج إلي المحيط ، عن انتزاع ولاء قلة الرعية ؟! إنها قضية كرامة سلطان .

أخ ثالث .. ألا ترون أن لرجال الأمن مصلحة شخصية في تضخيم الأمور ، لاستبقاء الإجراءات الاستثنائية في الأمة ؟! والحاكم ، أي حاكم بطبيعته حساس تجاه كل ما يمس أمنه الشخصي ، وقد نجحوا في الدخول إليه من هذه الزاوية ، في تصوير الموقف علي أنه معارضة شخصية قبل أي شخص آخر .

أخ آخر .. هذا أيضًا مجرد عنصر في القضية ، وليس هو كل القضية .

أخ آخر .. هل تغفلون كوننا ورقة رابحة في أيدي من يشتري رضاء القوى الكبرى المحركة للأحداث العالمية ؟! .

خوف من المد :

لقد كانت تلك القوى تخشي سيطرة المد الإسلامي علي المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية ، بعد إفلاس النظم الرأسمالية ، وبعد أن قادت الحركات الإسلامية موجات التحرر والاستقلال من إندونيسيا إلي الجزائر ، إلي داخل الأدغال . والقوى الكبرى تحكمها عقدة الحروب الصليبية ، فمازالوا يتصورون في قيام الإسلام عود لأيام الطعن والنزال ، ولم يدركوا بعد أنه سفينة الإنقاذ لحضارتهم الغارقة في محيطات لا قاع لها ، وأنهم أحوج من غيرهم إلي نور السماء ، وأننا مجرد حاملين إليهم وجنود لمن يحمل رايته من أي شعب وفي أي مكان .. لكن أني لهم أن يدركوا ذلك ، فالعقدة تحكمهم ، وصوت الإسلام يخيفهم ، والموقف حرج ، والحركات الإسلامية تزحف .. أنسيتم يوم أن تكتلت كل الأحزاب في جبهة واحدة في انتخابات الجامعات ؟! ومع هذا كان الاكتساح لشباب الإسلام . لذلك كانت القوى العالمية وراء الانقلابات العسكرية ، والدعاوى القومية والمذاهب الاشتراكية ، ونحن الثمن المدفوع من أجل إقامة الدولة العصرية ذات الصفة العلمانية ، نحن البرهان المادي الملموس المقدم دائمًا من قبل الحكام علي مائدة المفاوضات السرية ، فكيف – بربكم – يفكرون في إنهاء القضية ؟! إنهم مدفوعون إلي هذا بقوى خفية أكبر منهم ، يرتعشون منها كما ترتعشون من زبانية السجون الحربية .

مستغلون في اللعبة :

جربوا خطوة تأييد جماعية ، إنهم في هذه الحالة لن يفرجوا عن أحد ، ولكن الإفراج عن الأفراد هو للتسلية وللظهور بمظهر الاستقلال في تصريف الشؤون الداخلية .. ربما لا يعلم رجال الأمن أنفسهم أنهم مستغلون في هذه اللعبة الدولية ، ويتصرفون بدوافع وطنية وإن كانت غبية .

وسقط الفارس :

وينقطع الحديث بيننا لنلحق بالندوة السعدية ، فها هو الفارس يقف في الميدان ، وقد تخفف من ملابسه الرسمية من شدة الحر .. وها هو منهمك في توجيه أسئلته الثورية :

- الثورة جادة في عدم الإفراج عنكم ما لم تؤيدوها .

- نحن لم نطلب الإفراج من أحد ، ولنا في قصة يوسف – عليه السلام – عبرة .. فلماذا هذا التعب ؟

- معني هذا أنكم معارضون الثورة ؟

- السجن ليس مكانًا للتأييد والمعارضة .. ألم تقرأ في القانون أنه قيد علي الحرية ، وأنه يرفع عن الشخص المسؤولية ؟!

- أنتم نوع خاص من المسجونين لتأييدكم قيمته الوطنية .

- هل الثورة القوية في حاجة لتأييد بعض المسجونين ؟! أما يكفيها تأييد الملايين من الخليج الثائر إلي المحيط الهادي ؟!

- قلت لكم : رأيكم له الاعتبار الأول .

- إذن تفاهموا معنا تفاهمًا مباشرًا .. كلام الرجال للرجال ..

- الدولة لا تعترف بكم كجماعة ، لأنها حلت بقرارات رسمية .

- إذن ماذا يخيفها من أفراد عاديين غير منتمين إلي أي تشكيلات حزبية ؟

- عدم تأييدكم معناه أنكم مصرون علي إعادة الجماعة بعد الإفراج عنكم .

- إذن يحميكم القانون .

- لا يكفي القانون .. ولابد من تأييدكم .

- وإذا لم نؤيد ؟

- ستخلدون في السجون .

- رضينا بهذه النتيجة ، وكفوا عنا ، واتركونا في هدوء .

- لابد من خروجكم لتعود إلي البلاد روح الديمقراطية .

- ما الذي يمنعكم من ذلك ؟

- تأييدكم أولاً ، وإلا فقد أعذر من أنذر .

- نشكرك علي الإعذار ... ونرفض الإنذار الروسي .

وتضاحك الإخوان ، وارتبك الفارس الهمام ، وسقط من علي جواده ، وانسحب إلي مكاتب الإدارة ، ليحتمي ببزته الرسمية ، ولم نره بعد هذه الندوة الطريفة مرة أخري ..

لقاءات ثنائية :

وعلي الجانب الأخوي الجاد انتشرت اللقاءات الثنائية في محاولات أخيرة ، قبل هجوم المفاجآت ، التي بدأنا نشم دخانها من بعيد ، ويبحث عني أخي " ع.أ " الرائد البحري وزميلي في حفظ القرآن في معسكر جناح ، أقرأ في عينيه كلامًا كثيرًا ، وفي نبرته حبًا وإشفاقًا ، لقد حضر إليّ عنبر (2) الذي تحيز به الراغبون الجدد في التأييد .. جاء يفضي إليّ بكلمة أخيرة في صدره قبل أن يحال بيننا .

- ما الذي يحملك علي هذا الموقف ، والكل يعرف ظروف محاكمتك ، وأن صلتك بالجماعة كانت عرضية لم تتوثق ؟

- وأنت ما الذي يحملك علي هذا الموقف ، وأنت صاحب سبق وتاريخ ؟

أنسيت ما كنت تأخذه علي قسم (2) القديم ، الذين فتحوا باب التأييد ؟

قال : إنما هي مجرد سياسة خاصة بالمجموعة الموجودة في هذا السجن ، لا تأثير لها علي ولائنا الدائم لجماعتنا .. مجرد موقف تكتيكي لم يستنكره المسؤولون عنا وتركوا لنا الخيار .

- وماذا تنتظر منهم أن يفعلوا مع من ينوى عمل شيء . لكن سلوكهم العملي حجة علي الباقين . هم أنفسهم ومن معهم من بقية الإخوة يرون خلاف ذلك ، وحججهم في ذلك وجيهة ، وحق لمن ينظر إليها بمنظار مجرد غير متأثر بظروفنا الشخصية .

- لا أدري لماذا طاف بذهني هذه اللحظة قصة طالوت – عليه السلام – وجنوده .

- أنا أعتبر أن المسؤولين عن الجماعة هنا لا يتصرفون بحكمة .

- إذن تصرف أنت من خلال موازين الإسلام الذي يطالبنا بالحق والميزان . كن أنت المرشد العام والمسؤول الأول عن متطلبات الدعوة . والجماعة في تقديري هي الفهم السليم والسلوك السليم ، ولو من فرد واحد .

- إنك بهذا تطيل أمد بقائك في السجن ، والثورة جادة في تصفيتنا بهذا الأسلوب . وعلينا أن نعاملهم لا بمقاييسنا . وأخشى ألا يصمد في نهاية المطاف أكثر من خمسين واحد من هذه المئات التي دخلت السجون .

- بل أتمني أن يكونوا عشرة . فيهم تظل الراية مرتفعة ، لتحملها أمم من بعدنا فحين يطبق الظلام ستشخص الأبصار إليها وحدها ..

- إن شخصًا واحداً قد حمل الأمة علي مبادئه ، فكيف بعشرة تؤيدهم السماء إذا كانوا علي مستوى دعوتهم ؟

- إذن أنت مصر؟

- نعم

فسكت .. وسكت .. وسكتت الحركة بعدها في السجن كله يومًا أو بعض يوم سكوتًا مريبًا .


الفصل الرابع : ( حريق في المحاريق )

ماذا وراء هذا السكوت المريب ؟! .. فجأة سكتت الحركة المحمومة ، وأصبح كل شيء يوحى بقرب إغلاق أبواب الزنازين .. مقدمة لأحداث في بطن الغيب .. كان هذا السكون يثير قلقي وحيرتي فيما تخبئة الكيس الثمين .. لأني لا أعلم من أين ستهب الريح ، ولا ما سوف تأتي عليه . إن لدي بعض الطيور حاسة معينة تدفعها إلي الإسراع بالهجرة إلي مأمنها قبل وقوع الزلازل \او هبوط العواصف .. حتى فئران السفينة ، فإنها تكون أول ما يحس بخطر الغرق فتسارع في الهرب .. ولكن حظها ليس كحظ الطيور ، فليس أمامها إلا البحر يكون فيه مدفنها .. ومن فاتته فرصة التصرف بإلهام الطير لقي مصير الفأر .. وقد قدَّر لي أن أتصرف مرة بإلهام الطير في أيامنا الأخيرة بمعسكر جناح ؛ حيث أسرعت بإخراج ما تخوفت عليه من أعداد مجلة الصف مع إحدى الزيارات ، وكانت المجلة مرآة صادقة لحياتنا اليومية من جميع زواياها .. وأبقيت ما كنت عليه أكثر تخوفًا من مذكرات وأبحاث وصور تذكارية أخذت خلسة ، يحتويها كيس مربوط بحبل من روحي ، لم تطاوعني نفسي بالتخلي عنه لحظة ، مؤملاً أن أفاديه من أي خطر .. كان هذا الكيس الذي ترددت في أن أسلك معه منطق الطير في معسكر جناح ، هو العلة التي جعلتني هذه المرة وبين جدران سجن المحاريق أتصرف بحيرة الفأر ..

هذا السكون المريب بدأت تتخلله استعدادات مريبة ، لاستقبال زوار مجهولين لهم خطرهم .. كلما مرت الساعات كلما زادت حمى الاستعدادات ، كلما ازداد ضباط السجن انفصالاً عن كل ما حولهم ، بل حتى عن أنفسهم التي بين جنبيهم .. لا نسمع إلا اللهث ، ولا نري إلا العيون الشاخصة .

اليوم الثاني لم يأت :

لم يكن يشغلني ما يخبئه الغد ، بقدر ما كنت مشغولاً ومهمومًا بتخبئة هذا الكيس الصغير .. سرت مسافة كيلومتر خارج عنابر السجن ؛ لدفنه في الأرض ، وبعد أن وضعته في الحفرة عدلت عن الفكرة ، خشية أن يسور السجن بعد حين ، أو نرحل علي غرة ، فيحال بيني وبينه ، وفضلت البحث عن مخبأ داخلي ، ولكن لم أجد مكانًا أطمئن إلي بعده عن المخاطر .. أخيرًا لمعت بذهني فكرة تطويحه فوق سطح العنبر ، وأطمأن بالي تماما لهذه الفكرة .. وهممت بذلك ، وفي اللحظة الأخيرة تذكرت ما جرت به عادة السجون من وضع حراس الليل فوق أسطح العنابر ، فعدلت عن الفكرة .. سُدَّت أمامي أبواب التصرف ، حتى ضقت تمامًا بهذا الحمل الصغير ، حتى لكأنه جبل كبير .. وانقطعت سحابة النهار دون أن أهتدي لفكرة صائبة .. وأشفقت علي ذهني من الانفجار ، وعزمت علي الحسم في اليوم التالي ، ولو بتمزيق محتوياته .. ولكن اليوم التالي لم يأت ، وتسرب الزمن من بين أصابعنا ، فقد أطبقت الأبواب فجأة ، وتوتر الجو في جميع أنحاء السجن ، وصارت جل أمنيتي أن أنجح في مغامرة توصيله إلي مخزن الملابس المكتظ بالأمتعة من كل شكل وحجم .. وحمدت الله أن ظفرت بذلك أخيرًا .. وكنت أعجب لمن يعاني مثل همي نحو شيء مادي يمكن تعويضه يومًا ما ، أما البحث أو المذكرات أو الصور التذكارية فهي لا تقدر بمال .

انتباه :

انتباه .. يا لها من صيحة مزعجة كريهة ، يغتم لسماعها كل من يعرف مقدار ما تنطوي عليه من عبودية وإذلال للصائح بها ، وكل ما تنطوي عليه من صلف وغطرسة وغباء أحيانًا لصاحبها .. وهي أسوأ ما ورثناه من التربية الاستعمارية بدل إفشاء السلام – مهما قيل في تبريرها – خاصة عندما تقترن بالنفير المنفر ، الذي تكتمل به الطقوس الوثنية في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان . كانت هذه المظاهرات من النداءات المتوالية والنفير المدوي هي أول ما استقبلنا به صباح يوم جديد .. وفهمنا علي الفور أن هؤلاء الزوار المجهولين قد وصلوا إلي السجن ، وأحسسنا من تتبعنا للحركة المحمومة من النداءات ، ومن سرعة حركة النفير الذي يقترب ثم يبتعد ، ثم يأتينا صوته تارة من الشرق وأخري من الغرب ، مختلفة بالسباب والهرولة ، مقدار خطورة الزوار ، وكيفية تنقلهم داخل السجن .. إنهم الآن بجوار المخازن .. اتجهوا إلي المطبخ ، وصلوا إلي المكاتب ، فصوت النفير يكشف عن اتجاه التحركات وسرعتها ، بل إن ارتعاشة الصوت أحيانًا كانت لها معني لدينا .. وتسلقنا فوق بعضنا بعضًا ، لنلقي نظرة من نوافذ الزنازين علي ما يجري .. وفجأة قفز الإخوة إلي الأرض .. وقبل أن نسألهم عن السبب كانت انتباه المشؤومة والنفير والسباب والهرولة قد وصلت إلي باب عنبرنا مباشرة ، تسبقها طرقات الأحذية العليظة وهي تنهب ممر العنبر أمام الزنازين ..

الحريق :

ثم دلفت الطغمة الشريرة بخيلها وخيلائها إلي العنبر .. وصدرت التعليمات السريعة بفتح الزنازين .. واحتبست أنفاسنا ، وترقبنا ما يحدث ، وتوجسنا شرًا ، وتعجبنا من أمر هذا الزائر الغامض ، الذي تجري الضباط بين يديه كأنهم صغار الجنود .. ولم يكن هناك وقت للتعجب .. فنداءات الضباط تتوالي ..

- اخرجوا إلي فناء السجن فوراً .. بكل ما معكم من أمتعة .. انهض بسرعة قم يا ولد ، أسرع يا مسجون . وخرجنا كالقذائف الموجهة ..

وما هي إلا دقائق ، حتى كنا جميعًا في الفناء ، بعد أن أخليت الزنازين تمامًا ، وتركناها خاوية كأن لم تغن بالأمس .. واستطعنا – رغم هذه العجلة – أن نتبين الوجوه والرتب التي جردت لهذه المهمة الوطنية الكبرى .. كان من بينهم الرجل الطيب اللواء محمود صاحب وكيل مصلحة السجون .. رغم أنه يحبنا ، إلا أنه لا يستطيع أن يفعل لنا شيئًا ، فقلبه مع علي وسيفه مع معاوية .. وكان من بينهم أيضًا العقيد البشلاوي ، وغيرهما من الضباط المزودين بالسلاح ، فضلاً عن رجال الشرطة العسكرية المدججين بالمدافع الصغيرة والبنادق .. لم تكمن الخطورة في كل هؤلاء .. بل كانت تكمن في أقل الزوار رتبة ، وأكثرهم نفوذًا ، وهو الرائد محمود خليل أركان حرب مصلحة السجون .. ومعني ذلك أن له صلة مباشرة برجال الثورة ، وله كلمة عليا نافذة علي كل الرتب في المصلحة . حتى أن جبار المصلحة اللواء إسماعيل همت المشهور بإجرامه وبطل مذبحة طره .. كان يسير في ركاب الرائد محمود خليل ، ويتلقَّي الأوامر منه . أمرنا أن نتخلص علي الفور من كل الملابس المدنية ، ومن كل الأمتعة ، ونسلم كل ما معنا ، ونقف صفوفًا بملابسنا الداخلية ..

كانت نية الاستفزاز واضحة في كل أمر وكل حركة وكل نظرة إلينا ، وقمنا بتنفيذ ما طلب منا .. وسرنا صفوفًا أمام أكوام ثلاثة من البطاطين وملابس السجن الزرقاء والأبراش .. وكل من يتأبط نمرته تسوقه زمجرات البشلاوي وصيحاته إلي إحدى الزنازين .. وكلما ازدحمت زنزانة ملأوا الأخرى ، ثم أحكموا غلق الزنازين علينا وانصرفوا .. وهكذا خرجنا في دقائق من كل متاع الدنيا القليل ، وتخلصنا من فوارقها الشكلية ، وعدنا مرة أخري إلي الحياة البسيطة ، لا تمييز فيها لأحد علي أحد في ملبس أو مأكل أو مسكن . لم تكد تغلق علينا الأبواب ويبتعد الجيش الظافر بأسلابه وغنائمه ، مشيعًا بالانتباهات وأصوات النفير ، حتى حمدنا الله لعدم وقوع أي اصطدام ، وأخذنا نستعيد ذكريات هذه اللحظات المفاجئة ، بكل ما كان فيها من زمجرات البشلاوي ، وحركاته ، ومن ارتعاشات ضابط عنبر (2) حتى أطلق عليه الإخوان أحمد مرعش ، ومن أشياء صغيرة تصدر من الضباط والحراس المذعورين ، ومن منظر حارس العنبر وقد ألجمه الخوف ؛ فلم تخرج كلمة انتباه من فمه ، والبشلاوي يلكمه في صدره قائلاً :

- قل انتباه يا ابن الكلب .. والمسكين يحاول فلم تخرج الكلمة من فمه ، وهو يتصبب عرقًا ، ويكاد يختنق وهو يستميت في المحاولة .. ارتفعت الضحكات هنا وهناك .. وكاد ذلك يوقعنا في إشكالات مع إدارة السجن ، فكان يوصي بعضنا بعضًا من خلال شراعات الأبواب بالتخفيف من جو المرح ، حتى لا تظنها العقلية العسكرية تحديًا لها واستهزاء بها . عنبر المؤيدين ..

حدث نفس الأمر مع عنبر (2) الخاص بالمؤيدين ، ولكن بأسلوب أهدأ ن وعلي وقت كافٍ ، خال من الاستفزازات والسباب ، وخال من الوعيد ؛ إذ لم يكونوا هم المقصودين بهذه التكديرة .. فكانوا وكل المرضي عندهم من الشيوعيين والمسجونين العاديين في عنبر واحد يجمعهم الأمان من الخوف .. بتنا ليلتنا علي هذا الحال ، لا ندري عن خبيئة الغد شيئًا ، فثقتنا في الله تحمى حتى خواطرنا من التفكير في العواقب .. كان الظلام والسكون يلف كل شيء في السجن .. لم يكن يقطع هذا السكون غير توالي نداءات أبراج الحراسة .. وغير صياح الضابط أحمد مرعش المسؤول عن عنبر المؤيدين ، فصياحه يصل إلينا بديلاً لصوت النفير بالنهار .. كنا نسمعه يوالي التنبيهات ويصدر التعليمات لمساعده ، وكانت الممنوعات هي الكلمة الوحيدة علي لسانه .. فكل ما عدا البرش والبطانية ممنوعات . أما إذا كان الأمر يتعلق بالورقة والقلم ، فهي ليست ممنوعات فحسب ، بل وفي نفس خطورة المفرقعات . وكان أحمد مرعش بعصبيته هذه عقابًا ربانيًا مسلطًا علي الذين بحثوا عن الأمان في غير جنب الله . حتى إذا أشرقت شمس يوم جديد من أيام شهر سبتمبر 1958 التقطت آذاننا أصوات العير والنفير ، فأدركنا أن الموكب الميمون قد عاد مرة أخري . وكنا قد ظننا أن كل شيء قد انتهي بسلام في اليوم السابق ، ولكن عودتهم المفاجئة جعلتنا نتوجس شراً بيتوه بليل .. فبادر الإخوة المسؤولون بالتنبهات المشددة والتوصيات القوية بعدم الاصطدام بهم ، مهما حاولوا استفزازنا ؛ حتى لا نخوض معركة خاسرة غير متكافئة ، يملكون فيها كل شيء . ونحن عزل من كل شيء ، حتى من قدرتنا علي الحركة بين جدران أربع .. دهشتني هذه التطورات التي لم تكن علي بال أحد .. أكل هذا من أجل إكراهنا علي تأييد الثورة ؟! إن هذا لشيء عجيب !! .

أبطال فلسطين يهانون في المحاريق :

لماذا وضع النشيد في قائمة الممنوعات ؟

اقتحمت الحملة عنبرنا ، تتقدمها النداءات المحمومة ودوي النفير .. وهيئة إدارة السجن من مأمور وضباط وجنود مسلحين بالبنادق والمدافع الرشاشة .. الكل يهرول ويزداد ذعرًا كلما اقترب موكب الضباط العظام ، يتقدمهم البطل المغوار محمود خليل ، الذي نجح في غزو عدد كبير من الزنازين .. السجان يبدأ بفتح الزنزانة وينادي : انتباه .. وسرعان ما يندفع السيل المجنون من الضباط والجنود يصوبون السلاح إلي صدور الإخوان ، ريثما يدخل محمود متهاديًا موزعًا بذاءاته .. لماذا تعارض الحكومة .. انطلق يا ابن .. انتو عاملين جدعان .. ما جدع إلا النبي . وكانت يده تمتد أحيانًا بالصفع .. مردداً في غيظ وانفعال .. أكنتم تريدون الحكم ؟

وقد نجح الإخوان في ضبط أعصابهم جيدًا ، ووعوا نصيحة إخوانهم المسؤولين بألا يُؤتي الجميع من قبل أي أخ متهمور ، فكل منا علي ثغره ، لحماية مجتمعنا من الدخول في معركة خاسرة . وكان من أقسي الأمور علي النفوس ومن أشقها أن يصبر فرسان ميادين فلسطين والقنال علي ذلك من أجل أرواح إخوانهم ن لا من أجل أنفسهم ، وهم الذين لا يرهبون الموت ، ولهم تاريخ غني بالبطولات النادرة .. كان الإخوان يقفون صامتين ، ولا ينطقون بحرف واحد ، ولا يردون بكلمة علي سخافات القائد المغوار ،، وكانت عيونهم ترمي بشرر أقوى من نيران أسلحتهم .. ولقد شهدت لهم أرض المحاريق بنوع فريد من البطولة في معركة ضبط النفس وهو من أشق الأمور علي هذه النفوس الكبيرة .. وهي تجربة جديدة لم يمروا عليها من قبل . لقد مرت عليهم مواقف الموت في الميادين وكان تقبلهم له سهلاً .. ومرت عليهم مواقف التعذيب البدني بالسجن الحربي وكان أمره محتملاً .. أما صغائر هذه الحملة فهي أشق من الموت والتعذيب .. ظل هذا الجراد المنتشر متنقلاً بين الزنازين حتى الظهر ، ثم صرفهم الله عنا بفكرة أخري راقت لهم ، ولا أظن أنها كانت في حسابهم من قبل ، وذلك للطريقة المفاجئة التي اسحبوا بها من العنبر ..

ماذا يعدون ؟

ولم يلبث موكبهم المظفر أن توقف في ساحة السجن ، وسمعنا حركة ولغطًا وطال الوقوف ، وانقطع صوت النفير ، وسكتت النداءات ، وأحسسنا بأمر مريب يعد .. وبدأ الإخوان يرقون أكناف بعضهم بعضًا ؛ لإلقاء نظرة من شبابيك الزنازين لمعرفة حقيقة ما يجري ، ولم يلبث الدخان المتصاعد في سماء السجن أن حمل إليهم قصة الحريق كاملة .. لقد نجح الأبطال في اقتحام مخزن الملابس ، الذي وضعت فيه كل أمتعتنا من ملابس وكتب وأجهزة علمية وأدوية ، وبالجملة كل ما كنا نملكه بسجن جناح من مستلزمات حياة طبيعية لمدة ثلاث سنوات .. وما لم تأت عليه النيران من أجهزة راديو وأدوية وساعات وآلات موسيقية وأقلام ، فقط حطم بالمطارق .. ولم يسلم الأمر من نهب ما خف حمله وغلا ثمنه ، وعلي رأسها النقود .. وقد نزل خبر الحريق علي نفسي نزول الصاعقة ؛ لأني تحققت من مصير الكيس الصغير الذي كانت محتوياته العلمية والتاريخية أثمن عندي من كل الأمتعة .. وكذلك كان الأمر لدي الإخوة الذين كان لهم إنتاج علمي أو أدبي . أحسست بقسوة القيود بعد هذا النبأ الأليم ، وبمرارة البطش ، بدرجة لم أحسها من قبل .. وغلت الدماء في عروقي ، واحتسبت هذه المصيبة عند الله ، وقررت ألا تمس يدي قلمًا ولا ورقة ما بقيت بين الجدران ، لقد انغلقت نفسي تمامًا ، وانطفأت فيها جذوة العلم والتحصيل ، بعد أن كانت مشتعلة في سجن جناح ، وعجبت من سر تسمية هذه البقعة من الأرض بالمحاريق ؛ لأن لها من اسمها نصيبًا ..

الله أكبر .. الله أكبر ..

إنه صوت المؤذن لصلاة الظهر .. يا له من نداء حبيب ! لقد غاب عني وقتًا طويلاً ن خلته دهرًا ، وقعت فيه كل هذه الأحداث منذ الصباح حتى الآن .. أرحنا بها يا بلال .. صدقت يا رسول الله .. ما أحلي الصلاة في مواجهة الأقدار .. إنها شعاع النور المهدي لنا من السماء لتبديد ظلمة الأرض .. وهي أشد ما تكون حلاوة في الصلاة الجهرية .. لقد كانت قراءة الإمام تسري في أرواحنا فتهزنا هزاً .. كنا نستمع إلي إمام الزنزانة مصطفي لأول مرة ، يتلو بصوته الندي أية من كتاب الله لم يكن لهذه الآية الكريمة مثل هذا الوقع القلبي من قبل .. لأن ما يؤذي السمع أشق علي الأحرار من تجرع الموت .. كما أن الصبر عليه هو حقًا وصدقًا من عزم الأمور .. منذ أن دخلنا السجون وتوالي الأحداث يعطينا مادة عملية لتفسير كثير من آيات الكتاب الحكيم . فكلما مر علينا موقف وجدنا هدينا فيه ، وكنا له أكثر فهمًا ، وكان علي قلوبنا أشد وطأ ، مما دعي البعض إلي المزاح بقوله :

- إن محنتنا ستنتهي يوم أن يكتمل تفسير القرآن الكريم بالوقائع الحية علينا .. لأن حاجة الدعاة الأولي هي التربية النفسية قبل كل القضايا التشريعية ..

ويمزح قائلاً :

- إذن فأمامنا ثلاثة عشر عامًا مكية بتسعة عشر جزءاً من القرآن .. تري كم بقي من ذلك كله ؟.

ويمزح ثالث قالاً :

- هذا إذا كنا علي مستوي الصدر الأول ، فلا نحتاج إلي وقت أطول من التربية . ونتضاحك وسط الهول . ولم يكبر ما يجري في صدورنا ، وكأننا نشاهد مسرحية فكاهية علي مسرح المحاريق .

اليوم الثاني :

انتهي اليوم بسلام ، وحمدنا الله الذي حول بطشهم إلي مخازن الأمتعة .. ولكن لم تطل فرحتنا ؛ حيث عادوا إلينا بقضهم وقضيضهم في اليوم التالي ، واقتحموا علينا العنبر مرة أخري لتفتيشه تفتيشًا دقيقًَا ، متوهمين أن بعض الأشياء قد سربت إلينا ، فضلاً عن إفرادنا بمعاملة خاصة تزيد عن عنبر (2) الخاص بالمؤيدين ؛ حيث قد أصابهم ما أصابنا من الحريق بطريق الخطأ من جانب قائد عنبرهم أحمد مرعش ، الذي توهم الأمر عامًا بجميع نزلاء السجن ، لا خاصًا بالمعارضين ، مما ساء رجال الحملة ، فأفردونا بهذا اليوم من التكدير .. وفجأة قامة قيامة زنزانة معينة يسكنها عدد من إخوان إسكندرية .. لقد عثروا علي شيء فيها لا ندري ما هو .. وقد ساقوهم ضربًا خارج العنبر ، وحلقوا رءوسهم من خلال الركل والضرب ، ثم ساقوهم بالعصي العليظة دورانًا حول العنبر بلا توقف لأكثر من ساعة .. وقد احتبست الأنفاس فينا ، واسترقنا السمع من وراء الأبواب ، وتلصصنا الأبصار ، لنعلم حقيقة الأمر .. لكن الحملة خرجت مسرعة بصيدها الثمين من الإخوان ، وغادرت العنبر إلي حيث التحقيق ، فالحلق ، فالضرب ، مع الدوران حول العنبر .. مرة أخري صرفهم الله عنا بما عثروا عليه داخل هذه الزنزانة ، حيث كان كفيلاً لشفاء صدورهم ..

النشيد هو السبب :

وانتظرنا علي قلق عودة الإخوة بعد أن أشبعوهم من التكدير ، ومنهم علمنا قصة النشيد الذي عثرت عليه الحملة أثناء التفتيش في طرف إحدى البطاطين . كان الأخ سعد سرور قد فرغ منه لتوه ، ولما يبدأوا في إنشاده بعد .. ولكن كلماته القوية أطارت صواب هذه الطغمة العسكرية ، وأفسدت هدفها النفسي .. وقد شاع بعد ذلك بين جميع الزنازين التي أخذت تردّد مع إخوان الأسكندرية ..

مـحـلاها والله الزنـزانة

مـزنـوقة ولكن سـيـعـانة

والقعـدة فـيها عـجبانـة

وقلوبـنا سعيـدة وفـرحـانة

محلاها والله الزنزانة ...

النومـة علي الأبراش حلوة

وبقـيـنا مع الله في الخـلوة

وكـتاب الله أحـسن سلـوة

وآيـاته تـنـور دنيـانــا

محلاها والله الزنزانة ...

النـسـمة تمـر تنعــشنا

والكلـمة الحلوة تفـرفشنـا

وكفاية معـانا رغيف عيشنا

من غـير ما تغمس يكفانـا

محلاها والله الزنزانة ...

قافـلينها عـلينا وحابسـينا

فـاكرين آل يعني مـدايقنا

لو كـانت نار تصـبح جنة

طول مـا احنا بنعبد مـولانا

محلاها والله الزنزانة ...

قـفـلوهـا ولاَّ فـتـحوها

أجسـامنا الفـانية ياخـدوها

وقلوبـنا مش راح يطولوها

وهـتفضـل دائمـًُا ويـانـا

محلاها والله الزنزانة ...


الفصل الخامس : ( الاجتماع اليتيم وقصص من كل السجون )

بانتهاء واقعة نشيد انتهي الزنزانة انتهي أيضًا عهدنا بالشمس والهواء ورؤية عالم الأحياء ، وابتلعتنا زنازين عنبر (3) الرطبة .. كما انتهي أيضًا عهدنا برؤية بعضنا البعض ، حيث غُلَّقت الأبواب ، فلا يسمح بالفتح إلا لزنزانة واحدة لعدة دقائق في الصباح من كل يوم ، للذهاب إلي دورة المياه وملء الجرادل بالماء .. حتى هذه الدقائق لم تكن صافية ، بل يزيدها صياح السجان وتنبيهاته المتوالية توتراً ، لأنها قد تؤدي إلي تدخل ضابط العنبر بنصيبه من الإيذاء .. كما انتهي أيضًا بهذه الواقعة عهد مزاولة الدكتور حسين كمال الدين لمسؤولياته كمشرف عام ، بحكم انحصاره في عنبر (2) مع المؤيدين .. ولقد كتُب علي الإخوان أن يعيشوا في هذه القبضة القاسية من الجوع والبرد والظلام لمدة عام وأربعة أشهر ، قبل أن يفلتوا منها في يناير سنة 1960 ، لتتلقفهم قبضة أخري أشد قسوة ، ولكن شاء الله أن يجعلها أخف رحمة ..

حدثت اختلاجة أخيرة لأبواب الزنازين قبل أن يستحكم الغلق الأخير ، وذلك حين لبي أعضاء مكتب الإرشاد دعوة ممدوح نوير مأمور السجن المنتدب في فترة غياب المأمور ضياء في القاهرة في مهمة عاجلة .. فقد أراد ممدوح نوير – لمعرفته السابقة ببعض الإخوان ، ولوجود ابن عم له بيننا – أن يبذل جهدًا في تلطيف الصراع بيننا وبين الحكومة ، ودخل البيت من بابه الطبيعي ، بدعوة أعضاء مكتب الإرشاد الموجودين بالعنبرين ؛ حتى لا يقع الإخوان – علي حد قوله – فريسة سهلة ، لعصابة متتفعة ، تظاهرت عليهم من رجال الأمن وضباط الإدارة ، والشيوعيين الذين هتفوا لحريق أمتعتنا فزادوا النار اشتعالاً ، وكذلك من بعض المنحرفين من المؤيدين ، الذين يريدون الخروج بأي ثمن ، والكل له مصلحة في الصعود علي أكتاف الإخوان .. فألح ممدوح نوير علي أعضاء المكتب أن يدفعوا عن أنفسهم وعن الإخوان بعض التهم ، التي لا علاقة لها بقضية التأييد ، حفاظًا علي أرواح هذه الفئة المؤمنة من أن تبذل في معركة خاسرة ، ومن أجل هذا الغرض ترخص في فتح بعض الزنازين ، ليتيح للإخوان فرصة التشاور ، كما شجع أعضاء المكتب علي الاجتماع في أي مكان .

الاجتماع اليتيم :

وقد شهدت الزنزانة رقم (1) بعنبر (3) الاجتماع الأول والأخير لأعضاء المكتب لهذا الغرض ، والذي استمر حتى غابت الشمس ، وكان جميع من في العنبرين – حتى هذه الواقعة – يعيشون بإحساس تام بالجماعة ، وإن وقع اختلاف بسيط في مفهوم الالتزام ، حيث كان أفراد عنبر (2) يفسرون قرار مكتب الإرشاد – السابق صدوره بسجن جناح – علي أنه موافقة ضمنية علي التأييد العاقل .. وكانوا يرون أن وجود الدكتور حسين بينهم في العنبر يؤيد هذا التفسير .. بينما كان يري أفراد عنبر (3) أن سلوك المكتب العملي يدحض هذا التفسير ، وأن البيان القديم كان للحفاظ علي المؤيدين والمعارضين مرة أخري . وإن سكن المشرف العام لا يعني شيئًا ، فربما صحت وجهة نظره من حفظ المترخصين من مزالق الشطط . المهم .. أن الكل كان يري في هذا الاجتماع القدري فرصة لم الشمل .. وكان المخلصون يتمنون أن ينتهي أعضاء المكتب إلي قرار في هذا الاجتماع الأول ، لأن تأجيل الاجتماع لليوم التالي أعطي الفرصة للمتربصين من ضباط الإدارة ذوي الاتصالات العليا بالمسارعة إلي إحباط هدف ممدوح نوير ، الغريب عن أهدافهم البعيدة وسياستهم الشيطانية ، فأعادوا غلق العنابر للحيلولة دون أي اتصال مرة أخري ، لا بأعضاء المكتب ولا بممدوح نوير ، الذي وضح جليًا أنه لا يملك الكلمة القوية عدد من الإخوان قسرًا من عنبر (3) الخاص بالمعارضين إلي عنبر (2) المخصص للمؤيدين ، لوضعهم في مناخ مساعد ، واختاروا من يصلح لتأثير المناخ فيه ، بعد إبعاده عن مصادر الإشعاع بالقوم والعزم .. ومع الوقت والأحداث عجز الدكتور حسين عن الإمساك بزمام الموقف كما كان يُؤمل .

المأمور الرئيسي :

بهذا تأكد الفصل النهائي بين العنبرين ، كل منهما في طريق .. وكان آخر ما فعله عنبرنا أن صدَّرنا كتاباتنا باسم السيد المأمور لا باسم رئيس الجمهورية ، نقتصر فيها علي تمنياتنا الطيبة لمصر ، مبرئين أنفسنا من أن يكون وراء موقفنا أحقاد أو مطامع شخصية ، وإنما هي للحق في ذاته ، ولنكون شهداء علي الناس .. ولم ترفع هذه الكتابات لمن يهمهم الأمر ، لذلك لم ندهش عندما عثرنا علي الأوراق مدفونة في حفرة وراء العنبر ، بعد عدة أشهر من هذه الواقعة .

التأييد والمعارضة من جديد :

وهكذا نجح شياطين الأنس مرة أخري في إعادة قصة سجن جناح في شكل جديد .. قصة المؤيدين والمعارضين .. أي : نجحوا باعتمادهم علي الأشواك في إرباك الخطى الثابتة .. فتم الشق الطولي الثاني في مجموعة الواحات .. وبهذا انتهي أمر الجناحين اللذين كانا محور أحداث معسكر جناح .. خرج عن الصف المتأخر عنه خطوة ، وخرج منه المتقدم عنه خطوة ، وبقيت الأمة الوسط التي حملت أمانة الدعوة حتى الآن ، عبر سنين عصيبة بكل أنواع التكدير .

العزاء والسلوى :

إن ما حدث من تكدير لم يقتصر علي إخوان الواحات وحدهم .. حيث واصل الجيش المظفر بقيادة محمود خليل انتصاراته علي الإخوان بسجن أسيوط وسجن بني سويف ، وقام بالتفتيشات والحرائق نفسها .. وكانت الحملة أكثر ولوغًا في الإخوان ، لتدخل إ‘دارة السجون تدخلاً مباشراً في فصل إخوان كل سجن إلي قسمين ، مؤيدين ومعارضين .. ثم بترحيل كل من اعتبر معارضًا إلي الواحات ، لينضم إلي عنبر (2) . وعلي هذا ، فقد شهدت الأيام التي تلت تكديرات سجون الأقاليم ترحيلات دفُع من شباب سجن أسيوط ، وسجن بني سويف ، وسجن القناطر ، إلي سجن المحاريق بالواحات .. كما شهدت ترحيلات أيضًا من جميع السجون ، بما فيها سجن المحاريق لعدد من قيادات الإخوان إلي سجن قنا ، المعد لتغريب المغضوب عليهم من مختلف السجون ، فهو سجن السجون جميعًا .

فتحنا قلوبنا للوافدين الجدد ، الذين كانوا خير عوض وخير عزاء وسلوى عمن افتقدنا بالتغريب أو بالتأييد .. وكانوا بدورهم أشد منا فرحًا باللقاء , وكأن التاريخ يعيد علي مسرح الواحات قصة المهاجرين والأنصار في عصرنا الحديث ، هجرة ونصرة من نوع جديد ، تتم كلها بين القضبان والجدران .. ولكنها في وجداننا لها نفس المذاق الصدر الأول ، بكل معاني الحب والإيثار . وكان من هؤلاء القادمين الرجل الزاهد المتجرد عبد العزيز عطية عضو مكتب الإرشاد .. الوحيد الذي كان متبقيًا بالسجون من أعضاء مكتب الإرشاد ، ولو كان موجودًا بيننا قبل ذلك لتغير وجه كثير من الأحداث ؛ لما له من هيبة بين الجميع ، ولعلمه ، وسنه ، ومركزه الأدبي ؛ لكونه كان مدرسًا للإمام الشهيد حسن البنا بكلية دار العلوم ، قبل أن يصبح تلميذاً له في الدعوة .

قصة من كل سجن :

علمنا بتفاصيل ما جري في كل سجن .. من إيذاء ، وتفتيش ، وتحريق ، وتجويع ، وتسكين قسري للشباب الصغير مع عتاة المجرمين ، وأصحاب الأمراض المزمنة ، وذي العاهات ، بعد التوصية بسوء المعاملة ؛ لإكراه الإخوان علي التأييد .. وعلمنا بحرمان المرضي من الأدوية والعلاج ، ومن قطع الزيارات والخطابات عنهم ، ومن تطليق بعض زوجات الإخوان أو تشريد أبنائهم ، للضغط عليهم ، لكتابة ورقة التأييد إلي آخر صور الإيذاء ، من قلوب فقدت كل معاني الحيوانية ، فضلاً عن المعاني الإنسانية ؛ لأن للحيوان أخلاقًا تردعه , فهو يفترس حتى يشبع ، وهؤلاء يفترسون ولا يشبعون . وفي قلب هذا الظلام ، كانت الصور المضيئة لرجال يكتمون إيمانهم ، من ضباط الإدارة ، أو السجانة ، أو المسجونين العاديين ، منهم من أسرَّ العون ومنهم من جهر به .. وسمعنا في ذلك قصصًا كثيرة هبة الله للمجاهدين في سبيله ، وتكشف عن جنود لا يعلمها إلا هو ، وتطمئن إلي خصوبة تربة مصر بتراث الإسلام ، وإلي أنه ليس في مقدور أي طاغية أن يحلق دين هذا الشعب ، مهما أثقله بالموبقات ، أو أوقفه بالمعتقلات ، إلا إذا استطاع أن يوقف جريان النيل ، أو يطفئ الشمس في سمائه الصافية .

من سجن بني سويف :

سمعنا قصة الضابط عرابي نائب " الزعيري " مأمور السجن ، الذي جرد الإخوان من كل شيء ، وتفنن في إيذائهم ، حتى دفعهم إلي الإضراب عن الطعام أيامًا متوالية ، أغلقت عليهم أبواب الزنازين بلا أي اكتراث ، ولم يفكر قائد السجن في محاولة تثبيتهم عن الإضراب ، وتطوع بإلقاء نصيبهم من الطعام كل يوم في القمامة ، دون عرضه عليهم ، كما تقضي التعليمات .. أخذ الضابط عرابي يذرع ممر العنبر جيئة وذهابًا ، ويؤكد للإخوان أن الإدارة جادة في إحكام غلق الزنازين وعدم فتحها عليهم ، إلا إذا استجابوا لمطالبها .. وخاطب الإخوان قائلاً :

- أنتم تعرفون أني أتَّقي الله في عملي .. ولا محل لما يحيك في صدوركم عن مسؤوليتي عما ينالكم من تكدير .. فأنا مجرد جندي مطيع أوامر رؤسائي ، وطاعة أولي الأمر واجبة ، والمسؤولية عليهم وحدهم ، سواء كان الحق لكم أم عليكم .. فسلطتي للتنفيذ فقط .

فانبري له الأخ إسماعيل النشار مخاطبًا إياه من شراعة الزنزانة :

- يا عرابي بك .. أتنزل علي حكم الإسلام في تحديد المسؤولية :

- نعم .

- إذاً فاعلم أن المسؤولية مشتركة بين الرئيس والمرؤوس .

- كيف ذلك وأنا مجرد جندي .. وتلك سياسة عليا .

- هل تراه أعفي الجنود ؟

- اطرق عرابي لسماعه الآية الكريمة ، ولم يحر جوابًا ، وظل يذرع الأرض مطرقًا رأسه ثم رفعها فجأة قائلاً :

- يا سجان ..

- تمام يا فندم .

- افتح كل الزنازين ...وكان هذا القرار وراء حل الأزمة .

• ومن سجن القناطر سمعنا قصة تأييدهم الجماعي ، لدفع الأذى عنهم ، وكيف لم تعترف الجهات المسؤولة به إلا إذا حدث الصراع بين المؤيدين والمعارضين ، بما يؤكد تمزيق وحدة صفهم وذهاب ريحهم .

• ومن سجن أسيوط سمعنا قصة الرائد مصطفي أبو دومة ، الذي لم يستخف بإيمانه ، ولا يسابق انتمائه للحركة الإسلامية .. وكان مع ذلك مهابًا لدي الإدارة ، محبوبًا من المسجونين ، متعاونًا مع الإخوان في كل الظروف ..

قص علينا الوافدون من سجن أسيوط قصة تصويته في الانتخابات ضد جمال عبد الناصر علنًا ، مما ارتعدت له فرائص زملائه الضباط ، خوفًا علي مستقبلهم .. وقصوا علينا شجاعته النادرة في استقباله لحملة التتار بقيادة محمود خليل ، وكيف صرف السجان المخصص بحراسة زنازين الإخوان ، ووقف بنفسه حارسًا عليها واضعًا مسدسه أمامه علي المنضدة ، في انتظار قدوم الحملة ، ولما وصلت إلي أبواب الزنازين مشيعة بدوي النفير مزودة بالسلاح والعصي فاجأهم صوته القوي ..

- قفوا مكانكم .. اعلموا أنني المسؤول شخصيًا عن أرواح هؤلاء الإخوان .. ومن حقكم دخول الزنازين للتفتيش .. ومن حقكم أيضًا إحراق كل شيء ولكن إ‘ن خرجت رصاصة واحدة إلي صدر أي أخ فستكون الرصاصة الثانية من مسدسي هذا فيمن أطلقها .. والآن يمكنكم أن تبدأوا ..

بهت محمود خليل والذين معه من مختلف الرتب العسكرية ، وشلتهم المفاجأة تمامًا ، ولم يصدقوا آذانهم لسماع هذا التحذير من رتبة عسكرية أصغر ، ولم يصدقوا أبصارهم وهي تري المسدس يلاحقهم في ظهورهم .. وأظهروا شجاعتهم في التفتيش والإحراق ، ولم يتجاوزوا ذلك إلي حقيقة قصدهم ، وهكذا صرف الله كيدهم .. ودفع الرائد المسلم ثمن شجاعته بنقله إلي سجون أخري ، انتهت بإحالته إلي الاستيداع .. وأخذت السلطة من ذلك درسًا مفيدًا طبقته في محنة سنة 1965 ، جعلها تعين قواد كل المعتقلات وكل الأطباء من المسيحيين ، حتى تضمن عدم تحرك عاطفة الإسلام في صدورهم .

أنستنا قصص إخواننا الوافدين كثيرًا من المعاناة ، وهنأناهم بوصولهم إلي موكب المعتدلين . ومن عجب أن يصبح هؤلاء المعتدلون هم أخطر الجميع ، في نظر الحكومة بعد ذلك ، وأن ينقلبوا إلي أصلب المعارضين ، أو كما وصفهم جمال عبد الناصر أمام المؤتمر الطارئ في أعقاب انتفاضة الطلبة والعمال في فبراير سنة 1968 بأنهم " الجيش العقائدي للإخوان المسلمين " . أو علي حد تعبير حسن طلعت مدير المباحث العامة ، عند اجتماعه بهم بمعتقل طره السياسي عام 1969 ، علي رأس خمسة عشر عامًا من السجن والاعتقال لإرغامهم علي التأييد :

- أمازلتم ترفضون الخروج ، وتأبون الاستجابة لمطالبنا حتى اليوم ؟ .. ما هذا الجبروت ؟


الفصل السادس : ( عام ونصف في بطن الحوت )

ألم أقل لك من قبل أننا فيما نشهد من أحداث إنما نفقه معها تفسيراً فريداً لمعاني القرآن الكريم ، لا نتلقاه من بشر ، وإنما تنهله أرواحنا من أسرار القدر ، حتى أن عقولنا وقلوبنا لتخرج من ألفها كما تخرج الثمرات من أكمامها ؟! فكل شيء في كياننا يدرك مع منطق الحدث الجديد من أسرار الآيات وحكمتها ما لم يكن يدركه من قبل ، وما لم يكن ليدركه مهما أوتي من ظاهر العلم ، بعيداً عن هذه الأحداث والتجارب بصورتها الفريدة التي مرَّت علينا .

وإلا فكيف كان من الممكن – بكل أدوات التفكير – أن نحس بحركة القلب الممتحن بالبلاء المبين حين يلتقمه الحوت ؟! وهل يستوي حال من يسبح الله وهو بين فكي البلاء ، وحال من يسبحه سبحانه وهو آمن في سريه معاف في بدنه ؟! لاشك أن مسافة نفسية أو قليية كبيرة ستظل من يعلم ومن يعمل .. بين من يعمل ومن يجاهد .. بين من يجاهد ومن يجاهد ويمتحن .. مسافة قليلة قد تؤدي إلي فوارق فكرية بعد ذلك ، ما لم تصن بموازين الشرع وأدوات للنظر السديد ، وحتى يصبح حامل العلم صاحب حال ، وصاحب الحال محصنًا بالعلم , لا مناص من معاناة التجربة بالجهاد أو بالابتلاء للأول ، وبمكابدة الدرس والتحصيل للثاني .. وما أكثر صور الانفصال في حياة من الفهم والسلوك لم يكن موجودًا ولا ملموسًا من قبل .. تيار قادر علي مواجهة الجبال ، علي تغيير الحياة .. وذلك سر الفعل الرباني في تربية أوليائه .

بالابتلاءات والمحن :

لهذا كانت تنطلق ألسنة أرواحنا ونحن في بطن الحوت بدعاء سيدنا يونس – عليه السلام - ، وبدعاء الكرب العظيم المأثور عن رسول الأنام .. وغير ذلك من ذخائر السنة والقرآن .. وكانت هذه الأدعية لها وقعة القلبي الجديد تمامًا عما اعتدناه في العافية .. كانت أرواحنا في بطن الحوت شديدة القرب من روح سيدنا يونس ، وقلوبنا كانت تحس بنبض قلبه ، وخواطرنا تتجاوب مع خواطره ، حتى لكأننا معه في ظلمات البحر ، أو لكأنه معنا في ظلمات البر ، قبل أن يستجيب الله دعاءنا ويكشف ما به ، أو ما بنا من ضر .. وإذا كان الجميع قد وعي الدرس من سجن يوسف – عليه السلام – من قبل ، فإنهم اليوم يتتلمذون علي ذي النون – عليه السلام – في درس جديد . وأفادنا تقلب الأحداث وتنوع الظروف وتغيير الأحوال فقهًا بقصص الأنبياء جميعًا ، الذين ضربهم الله مثلاً وأقامهم مثلاً ، وجعلهم عزاء لكل من تشابهت ظروفه مع واحد منهم .. فهذا العدد المحدود من الأنبياء والرسل الذين قصهم القرآن علينا من مجموع الأنبياء والرسل البالغ عددهم 124 ألفًا كما ورد في الأثر منهم 113 رسولاً ، وخمسة من أولي العزم ، وخليلان للرحمان هما محمد وإبراهيم – عليهما السلام – أقول : إن هذا العدد المقصوص علينا قد أوفي بالغرض في استيعاب كل ظروف البشر عامة ، والدعاة إلي الله خاصة .. فالسجون ظلمًا له في يوسف – عليه السلام – عزاء وأسوة حسنة ، ومن التقمه حيتان البحر والبر له في يونس عليه السلام عزاء وقدوة حسنة ، والمبتلي في أهله وبدنه له في أيوب – عليه السلام – عزاء وأسوة حسنة ، والمبتلي بالملك والسلطان له في داود وسليمان - عليهما السلام – قدوة حسنة .. أما من جحده أبوه أو عقه ابنه . أو استعصت عليه زوجته ، أو جفاه نومه فسيجد له في إبراهيم ونوح ولوط وموسي – عليهم أفضل الصلاة وأزكي السلام – عزاء وأسوة حسنة .. وهكذا كنا نجد في قصة كل نبي عبرة .. نلتمسها أمام كل حال يمر علينا ، أو مع كل ظرف يحيق بأخ منا كمن يطلَّقوا منه زوجته ، أو قطعه أهله ، أو دهمه مرض خبيث .. إذ كان لنا من نور الأنبياء إلي الرشاد سبيلاً ، مثلما كانت لنا هذه الأنوار من المصطفي صلي الله عليه وسلم ، لقد توهمت السلطات أنها وضعتنا في غيابة الجب ، أو في بطن الحوت ؛ حتى تفني أجسادنا أو نهلك بمرور الزمن ، مثلما تبلي نفوسنا أو تهن روابطنا بوقوع التأييد .. وما دروا أننا دخلنا مدرسة الأنبياء ، الذين جعلهم الله أسوة وعزاء في الدنيا وحجة يوم القيامة .

عندما يموت الشعر والأدب :

مهما اجتهدت في تصوير صور الإيذاء ، ومقابلها في نفوسنا من مشاعر الإيمان والصبر ، وفقه القرآن ، فإني لن أصور إلا النزر اليسير منها ، ولن أستخرج من كنوز مشاعرنا إلا ما هو أقل من ذلك .. لم يعد الشعر والأدب بقادرين علي أن يمدانا بطاقة الاستمرار ، وأخليا مكانهما لدور القرآن ، لذلك فقد الكثير من الشعراء والأدباء الحماس لهما ، ورأوهما دون ما ينشد صدق التعبير ، من شكل ومضمون ، وكنت كلما عانيت أحدهم علي عدم تسجيل ما نلقاه اعتذر قائلاً : يا أخي ، إن أي تسجيل فيه إهانة كبيرة للحقيقة ، بل فيه إساءة إلي التاريخ .. ولكن هذا المنطق لم يقنعني فما لا يدرك كله لا يترك جاه .. لذلك جاءت محاولات الكتابة ممن ليسوا من فرسان هذا الميدان ، عندما وجدوه خاليًا من فرسانه .

الحياة في بطن الحوت :

والآن ، كيف جري علينا القلم في بطن الحوت المسمي بعنبر (3) .. أو عنبر المعارضين .. طبيعي أن تنقطع الصلة بالدنيا وبأقربهم إلينا فيها ، وأولهم الأهل ، فلا زيارات ، ولا مراسلات ، ولا صحف ، ولا إذاعة ، ولا أمانات .. ثم زادت العزلة حتى في بطن الحوت بألا يفتح زنزانتان معًا في بطن واحد ، لأي سبب من الأسباب . ومع هذا لم نعدم وسيلة في تنظيم أمورنا ن ولعبت النوباتجية وشراعات الزنازين دورًا كبيرًا في تنظيم الاتصال ، بل وفي انتخاب قيادة من خمسة أفراد ، أكثرهم أصواتًا هو المسؤول العام ، تحت إشراف أحد أعضاء المكتب الرسمي بالمشرف العام .. وقد قامت حياة هذه المجموعة علي الحب الخالص والثقة التامة والانسجام الفكري ، ومن ثم فقد عجزت – أمام وحدتهم القلبية والفكرية والتنظيمية – أقسي المحاولات في النيل منهم أو من توهين روابطهم .. ومن ذلك اليوم حتى نهاية السنوات العشر ، وتحت كل المطارق التي صوبتها إلينا أشرس الأجهزة لم يظفروا إلا بتسعة عشر أخًا ، كانوا هم ختام قصة التأييد .. وقد قدر لهذه المجموعة أن تنتصر علي كل أساليب الطغيان ، أو تعيد إلي أنفسنا الثقة في وصية الإمام الشهيد حسن البنا لإخوانه : " أنا لا أخشي عليكم الدنيا لو اجتمعت ، ولكن أخشي عليكم شيئين : أن تنسوا الله فينسيكم أنفسكم ، أو تنسوا إخوانكم فيصير بأسكم بينكم شديد " .

شعار المجاهدين :

ودخلت كل زنزانة خلوتها مع الله في يقين تام ، بأن قدر الباطل لن تنال من قوة الحق شيئًا .. كيف وهي تتمثل شعار المجاهدين : سجني خلوة ، ونفيي سياحة ، وقتلي شهادة . كانت كل زنزانة تمضي سحابة نهارها في الصلاة لميقاتها ، أو في قراءة القرآن ، أو في التمرينات الرياضية ، أو في مباريات الشطرنج الذي تصنعه من لباب الخبز .. وشغلنا التنافس في حفظ كتاب الله عن الإحساس بوطأة الزمن ، وعندما جردتنا حملة محمود خليل من كل شيء كانت فرحتنا لا تقدر بعدم فطنتهم إلي وجود المصاحف معنا .. فهي الثروة التي لا تقدر بمال في مثل هذه الأوقات العصبية . رغم البرد والجوع ، فقد سجلت هذه الفترة أعلي نسبة من حفظ القرآن : وكان طبيعيًا أن يترنم سعد سرور وقرينه أحمد حسين بهذا الشعور في إحدى روائعهما ، عندما علا صوت زنزانتهما بنشيد الكتاب :

أفديك بروحي يا كتابي ومهجتي

أفديك بدمي وما ملكت بدنيتي

أنت دليل ورمز مجدي وعزتي

وأحفظ عهودك عمري ما أنسي بيعتي

أفديك بروحي يا كتابي

وسجلت هذه الأيام أكبر نسبة من حفظ القرآن الكريم بين جدران سجن المحاريق ، كان يقتلنا البرد والجوع من الخارج ، ويحيينا القرآن من الداخل . حتى إذا جن الليل كان لكل زنزانة برنامجها الخاص علي مدار ليالي الأسبوع ، من محاضرات وندوات ، ومع تخصيص ليلة أسبوعية للسمر ، ونروّح عن أنفسنا فيها بالمسابقات الأدبية والثقافية ، والنمر الجماعية ، والأناشيد والأغاني ، والنكات .. وكان الشيخ أحمد " المنلوجست " هو العملة الصعبة التي تخطط الزنازين لتهريبه إليها ، ليحيي ليلة سمرها بروائعه من تأليف وتلحين سعد سرور . كنت أشارك بنصيبي من السمر بتقديم بعض الأغاني وإلقاء قصيدة غير عصماء تجمع بين الفكاهة ونقد الأشخاص .. وكان ضحكنا بحساب ، حتى لا نتسبب في تكدير الجميع بإفسادنا لجو الكآبة والحزن المستهدفين من الإدارة ، لإحكام الضغط علينا .. وكنا بدورنا لا نتكلف جو المرح ولا الضحك ، بل كانا نعمة مهداة إلينا عبر عنها أحد الإخوة قائلاً :

- إن الضحك عبادة .

حتى إذا ما أطفئت أنوار الزنازين في موعدها أو قبل موعدها عقابًا علي حدوث السمر ، كان للظلام مكان في برنامجها .. أما إذا أخطأ الإخوة بسبب الظلام الحالك فشرب من جردل البول ، أو تبول في جردل الماء فإننا نظفر بليلة مليئة بالضحكات والتعليقات .. ومثل هذا الخطأ بين المسجونين العاديين كفيل بإشعال معركة حامية بينهم .

الجوع والبارد :

كان القاسم المشترك بين جميع الزنازين علي مدار اليوم والليلة هو الجوع والبرد ، فالمصرف لنا من الطعام والغطاء ضئيل جدًا ، بالنسبة للجو الصحراوي .. كانت أجمل هدية يرسلها الأخ لأخيه عبر شراعات الزنازين هي كسرة خبز .. ويوم أن احتفلنا في الزنزانة بعيد ميلاد الأخ الغمراوى كانت مفاجأة الحفلة تورتة مرصعة بعيدان الكبريت .. وهذه التورتة التي نجح وزير تموين الزنزانة في تدبيرها عبارة عن رغيف من الخبز مدهون بالعسل ، تقاسمناه نحن العشرة عقب الحفل في نهم وامتنان .. كثيرًا ما اضطررنا بعد مجادلات إلي رغيف الصباح في المساء ثم ندمنا إذا طلع الصباح علي بطوننا الخاوية .. عجزنا عن حل المشكلة بالصيام بعض أيام الأسبوع .. شهدت أحد الإخوة وقد ازدادت حيرته من هذه الحالة المستمرة ، فقام بالتهام الأرغفة الثلاثة التي تخصه فور استلامها ، ولما عاتبناه اعتذر بأنه يريد أن يشعر أنه قد أكل حتى شبع ، ولو مرة واحدة .. عاد أحد الإخوة من المكاتب صامتًا ، علي ملامحه الظفر ، فشككنا في الأمر ، وقمنا بتفتيشه ، فعثرنا علي شقفة من الخبز الجاف ، وجدها في شباك مهجور خلف العنبر ، وعلي التو تقاسمناها ، وكان نصيبه منها لقمة .. لم تكن المشكلة في صغر حجم الخبز فقط ، بل في ضآلة ما يقدم معه أيضًا .. فماذا يعني فنجان صغير من العسل الأسود لعشرة أفراد ، لا تكاد الأيدي تصل إليه مرة واحدة حتى يتبخر .. وماذا تعني قروانة واحدة من الفول المغطي وجهه بالسوس ، حتى لتحبسها طبقًا من الملوخية ، مما جعل الإخوان يسمونه سوس بفول ، وماذا تعني قروانة باذنجان مُر المذاق في العشاء ، أو مثيلتها من البطاطس أو الفاصوليا بالتناوب ، كل أربعة أشهر علي مدار .

كذلك كانت حيلنا أعجز أمام البرد الشديد .. كنا نستيقظ لصلاة الفجر وكأن في ظهورنا قطعًا من الثلج .. وما أكثر الذين أصيبوا بأمراض روماتيزمية أقعدتهم عن الحركة تمامًا .. وما أكثر ما عاني كبار السن وعانينا معهم ؛ لأن إدارة السجن لا تنشط في علاج المريض إلا إذا كتب تأييدًا للحكومة ، كانت تدفعنا عواطفنا نحو من يسقطون صرعي المرض بطلبنا منهم التأييد ، ليظفروا بالعلاج ، ولكنهم يأبون علينا ، وكم في هذا من قصص تروى لنموذج فذ من الرجال . كان هناك ما هو أعظم من الدواء ، ولا يكلف الإدارة شيئًا ، ويقوم بشفاء الكثير من الأمراض وهو الشمس ، التي حرمنا منها أشهر طويلة ، حتى شحبت الألوان وعجزت التمارين الرياضية عن تعويضها .. كنا نتناوب تعريض أطراف أجسامنا لشعاع الشمس الذي يتسلل إلينا في الضحى .. مد إليّ أحد الإخوة يده قائلاً :

- انظر .. فوجدت خطًا أحمر علي ذراعه .. تمامًا كضربة السوط .

- عجبًا .. من أين جاءتك ضربة السوط هذه ؟

- إنها من أثر سقوط الشمس عليها .

- إلي هذا الحد يكون أثر الشمس علي صحتنا ونحن لا نشعر بنعمتها الكبرى ؟! وقد استبشرنا عندما علمنا أن وزير الصحة نصار وصل إلي السجن .. وركزنا جميعًا في شيء واحد واقعي وبسيط في مقدوره – حسب تصورنا - .. وهو السماح بعشر دقائق شمس في اليوم للمريض فقط .. واستمع إلينا ولم يستطع تنفيذ مطالبنا .. كنا نتحدث كثيرًا عن الشمس في الزنزانة ونتساءل فيما بيننا .. هل سيجيء اليوم الذي تغمرنا فيه أشعة الشمس بلا رقيب .. لك الله يا أخت يوشع ، فقد كنا عن حقيقتك غافلين .. شأننا مع كثير من النعم التي أفاأها الله علينا .

ومن مشاعر السعادة والاطمئنان التي كنا نحس بها رغم الجوع والبرد المتواصلين ، خرجنا بدروس كثيرة أدناها أن الشعور الأخوي بين المؤمنين في السراء والضراء كفيل بحل مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية ، فكيف وقد أفاء الله عليهم مع هذه النعمة الكبرى نعمة الشريعة العادلة التي توفر الأمن للجميع .. وعزمت إن أخرجني الله من بطن الحوت أن أحقق في نطاق قريتي هذا التكامل الأخوي ، بحيث تشترك كل حارة في حظوظ الحياة حتى لو تقاسمت كسر الخبز .. فالسعادة في إيماننا أولاً ن ثم تعميق معاني الأخوة في السراء والضراء ثانيًا ، بحيث يشبع الجميع معًا أو يجوعون معًا ، عندئذ لن يتغير إحساس السعادة في قلوبهم ، لهذا قرن الله سبحانه الصلاة بالزكاة في كل آيات القرآن الكريم .. لأن أي توزيع للثروة بدون إيمان ولا دين سيحيلنا إلي وحوش جائعة ، لا تشبع ، ولا تؤثر ، ولا تستهدف المساواة العملية ، مهما تشدقنا بالشعارات .. هل نحن في بطن الحوت أفقر الناس ماديًا علي وجه الأرض .. وأسعدهم نقمًا .. فمن أين جاءتنا هذه القوة ؟ .

هل نجح العزل ؟

هل نجحت هذه القيود في زرع الهموم وإشغال النفوس والإكراه علي التأييد ؟ الواقع يقول : لا ؛ لأن أحداثًا قدرية كانت وراء خروجنا جميعًا مرتين من بطن الحوت .

الأولي : مع نزلاء السجن كله ، لمشاهدة جلد مسجون حاول الهرب ، كما تقضي لوائح السجون .

الثانية : للصلاة علي جثة عامل ماكينة الماء ، الذي فاضت روحه بمجرد أن لمست قدمه أرض المحاريق فور نزوله من القطار ، بعد أن صدم بهذا الصمت الرهيب ، ولم يجد المأمور بدا من الاستعانة بنا في تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ، بعد أن أقنعه المندوبون بضرورة خروج الجميع علي غرار الجلد ، حتى لا يقع في مسؤولية .

قلب الأب :

وقد خص القدر هذه المرة واحدًا منا بالخروج ، بدون علم الإدارة .. فبينما كان الأخ فرج جبارة السوداني يرقي علي أكتاف أحد إخوانه يلقي نظرة علي حوش السجن ليمدنا بالأخبار ، إذا به يفاجأ برؤية والده واقفًا في صمت بين حراس الحدود السودانيين .. ظنناه يهذي ثم لم يلبث أن فتح باب الزنزانة في هدوء وهمس ونودي عليه لمقابلة والده ، الذي حضر من السودان لرؤيته ، بعد أن قام حراس الحدود بجهد جبار في تنظيم هذه الزيارة بالاتفاق مع رقباء السجن وسجانيه ، بعيدًا عن علم الضباط .. عاد الأب قرير العين بعد رؤية ابنه الطالب بالمدرسة الثانوية ، والذي حكم عليه بالسجن عشر سنوات بتهمة توزيع المنشورات .

الليلة الجامعة :

والواقع يقول : إن هدفهم في العزلة لم يتحقق أيضًا ، بأسباب بشرية صنعها الإيمان ، فها هي الجدران العليظة تخف ليلة في أول كل شهر عربي ، حين تجتمع كل الزنازين علي مائدة الرحمن في ذكر واستغفار ، يعطينا الإحساس الدائم بالجسم الواحد والقلب الواحد المتصل بالله ، وقد انتقلت هذه الليلة إلي مختلف السجون فشاركتنا .


الفصل السابع : ( ما خطب الزنزانة رقم 13 ؟ - الرئة الوحيدة والتنظيم العجيب )

في الأيام من حياتنا بسجن المحاريق ، وخاصة في أعقاب الحريق الذي أتي علي أمتعتنا ، قبل إحكام علي زنازين عنبر (3) علينا ودخولنا في بطن الحوت ، كانت تجري إصلاحات كثيرة بأرض السجن ، تستلزم نقل الأحجار والرمال ورفع المخلفات ، وسخروا لهذا العمل فريقًا منا – أي : من المعارضين - ، ونزهوا عنه كل المؤيدين والشيوعيين .. كانوا لا يزيدون عن العشرين أخًا ، يمضون سحابة اليوم في جو مشحون بالعمل والتوتر .. حتى إذا ما انتهت أعمال السخرة نبتت فكرة تحويلهم إلي مزرعة السجن المحيطة بعين المياه ، الواقعة علي بُعْد كيلومتر جنوب المبني ؛ ليقوموا بعزق الأرض وحرثها وتنقية الحشائش ، وبالجملة كل ما يهيئ الأرض للزراعة ، أما ما يخرج منها فإنه يحال بينهم وبينه ، حتى لا تختل سياسة الحرمان والتكدير المضروبة عليهم . كنت واحد من هذا الفريق .. سعيت إلي حتفي بظلفي ، فعندما سمعت رقيب السجن ينادي في طرقات العنبر :

- هل من متطوعين لينضموا إلي فريق العمل بالمزرعة ؟ ناديت بأعلى صوتي اكتب اسمي .. فتعجب إخوان الزنزانة قائلين :

- هل جننت .. لقد بح صوت الرقيب دون أن يجاوبه أحد .. لرؤيتهم مصير إخوانهم العشرين الذين يعملون في إصلاح السجن وتنظيفه ، فكيف يذهب الإنسان إلي هذه السخرة طائعًا ؟!

- قلت : كلمة المزرعة تشدني .. ولها سحر لا يقاوم لدينا نحن أبناء الريف .. وكل أعمالها الشاقة ستكون محببة إلي نفسي ..

- والمعاملة القاسية من السجانة في التفتيش ، والقرفصاء ، والتشديدات ، والتعليمات ، والاستفزازات .. كيف ستصبر عليها ؟

- كل شيء يهون من أجل عيون المزرعة ، وما قد يأتي من ورائها من صلة بالعالم الخارجي .. لابد لهذا الحوت من رئة بها وإلا اختنق .. فلنكن نحن هذه الرئة التي تؤدي مهمة الشهيق والزفير للجميع .. ويتدخل الأخ البنان في الحديث بروحه المرحة :

- دعوه يا إخوة ، فإنه صاحب مبدأ ولو إلي أسوأ .. ويتضاحك الباقون قائلين :

- بل هو دبُّور زنَّ علي خراب عشه ..

كادت كلماتهم تنال من عزمي ، لولا أن صوت الرقيب قطع عليَّ التفكير عندما وجدته أمامي علي شراعة الزنزانة يسألني عن اسمي .. قُضي الأمر ، ولم يعد لي خيار في التخلي كالمنتحر لقي بإرادته مصيره المحتوم .. وجلست أشارك إخواني الضحك ، والتنبؤات السيئة لي وللقلة المنتحرة معي من الزنازين الأخرى ..

زنزانة رقم (13) :

قامت إدارة السجن بتسكين فرقة المزرعة في زنزانة واحدة هي رقم (13) ؛ حتى يعامل أفرادها بمعاملة خاصة ، لا تخل بسياسة الفتح والغلق لزنازين العنبر .. وعشت في الدوامة اليومية التي تبدأ في الصباح بصياح السجانة علي العمل ، في أعقاب جولة التفتيش التي تشمل أغلب أيام الأسبوع .. ومع الإدارة بأن العنبر علي البلاط إلا أن التعليمات تقضي بتوالي التفتيشات ؛ لإشاعة القلق والضيق باستمرار ، وأيضًا لتقوية دواعي الاحتكاك ؛ لأن لديهم رخصة تطويره إلي الاحتكام إلي السلاح .. بعد خروج طابور المزرعة يبدأ الروتين اليومي بالجلوس القرفصاء ، ثم العد عدة مرات ، ثم تتوالي التنبيهات والتحذيرات ، وأخيرًا ينادي الجاويش :

- دوغري .. فنهب واقفين ، ويبدأ السير ، وحولنا السجانة بالعصي ، ومن ورائنا عدد من المسجونين العاديين المخصصين للأعمال الخفيفة ، ويحاذينا عن بعد جنزير من رجال الكتيبة المسلحين بالبنادق .. ويبدأ الجاويش عبد النبي يصول ويجول طول الطريق ، وكأنه يقود فيلقًا حربيًا منتظم الخطى ، وأحيانًا يهوى بعصاه العليظة علي ظهور المسجونين ؛ لإرهاب الباقين ونحن في مقدمتهم .. وكثيرًا ما تحينا الفرصة لنصحه بالإقلاع عن ذلك ، ولكنه كان كتلة صماء من التعليمات . وتكرر قصة الجلوس التحذيرات فور وصولنا إلي المزرعة ، وقبل ذهابنا إلي موقع العمل . كان طابور المزرعة صورة مصغرة لطابور ليمان طره ، الذي انتهت مأساته بالمذبحة الشهيرة .. ولا ينسي الجاويش عبد النبي أن يوجه تعليماته الأخيرة إلي حرس الكتيبة قبل انتشارهم علي حدود المزرعة قائلاً لهم :

- إذا حاول أحد من هؤلاء المسجونين الاقتراب من أسوار المزرعة أطلقوا عليه النار فورًا ، وفي اليوم التالي سيرقي من أطلق النار ويأخذ شريطًا آخر ...

ثم يلتفت إلينا قائلاً :

- حد يغضب من هذا الكلام ؟ فيرد عليه أحد الإخوة الظرفاء :

- وهل ضرب النار يغضب أحدًا ؟! ويضحك الجميع .

وكم أوقعنا الجاويش عبد النبي في مشكلات مع مأمور السجن ، وكم عانينا من عقليته الجامدة ، وقد قدر لي أن أري هذا الرجل في آخر عهده في مصلحة السجون عام 1964 بسجن القناطر الخيرية ، بعد أن رقي إلي رتبة صول ، ولكنه كان قد فقد كل قدرته علي البطش ، وبالتالي لم يستفيد من الترقية ، حيث أصابه المرض والهزال الشديد ، وكان يقبع أمام باب العنبر لا قدرة علي أمر أو نهي ، والذباب يغطيه من كل جانب ، وكانت تأخذنا الشفقة به فنحسن إليه بكل ما تصل إليه أيدينا ...


الرئة الوحيدة :

رغم المعاناة اليومية من هذا الطابور إلا أنه كان في النهاية هو الرئة الوحيدة التي حفظت علي الحوت الحياة .. فكمية " السَّريس " التي نهربها معنا من المزرعة يوميًا للزنازين ، كانت ذات نفع كبير طبيًا للمحرومين من الشمس ، ومن الغذاء الكامل .. وعن طريق هذه الرئة كنا علي صلة بالأحداث السياسية ، إذ كنا لا نترك أي قصاصة من ورق يتقاذفها الهواء يكون فيها خبر صحفي ، فضلاً عن همس بعض السجانة لنا بما يسمعونه في خيامهم من شتى الإذاعات ، ولم يكد يمر علينا عام وعدة أشهر علي هذا الحال إلا وقد ألفنا هذا اللون من الحياة ، وتكفينا مع ظروف السجن ، وتمكنا من تدبير أمورنا ، وقامت عاطفة الشعب المصري الفطرية نحو الإسلام دور كبير في تخفيف هذا الواقع عنا .. فكنا نجد العون من مختلف الفئات حتى حراس الكتيبة .. كانوا يتغاضون عن اتصالات بأهالي الواحات علي حدود المزرعة ، حتى أصبحت تلك الحدود سوقًا يومّيًا لشراء التمور والبيض والسكر والشاي وغيرها من الأشياء ..

وكانت الإدارة تستبطئ حدوث النتيجة المتوقعة من هذه المعاملة الشاذة ، وهي جنوحنا إلي التأييد ، ولما طال انتظارها ومرت الشهور دون ثمرة ، هداهم تفكيرهم إلي أن يجربوا معنا نوعًا جديدًا من الضغط النفسي علينا ، بتسريب الأخبار السيئة عن الأهل ؛ ليكون ذلك أثره في إضعاف المقاومة . وبدأوا في السماح لنا باستلام الخطابات بعد أن تمر علي المصافي ذهابًا وإيابًا ، بحيث لا يصل إلينا إلا كل ما هو محزن ومسيء .. وبدأت المفاجآت تتوالي علي الإخوان ، وكانت أجهزة الأمن تحث الأهل علي ذلك ؛ لما سيؤدي إليه هذا الأسلوب من حمل الإخوان علي التأييد .. فالضغوط المادية من الداخل تلتقي مع الضغوط النفسية من الخارج لتحقيق الهدف المطلوب ..

تلقيت نصيبي من البلاء عندما تسمرت عيناي في خطاب علي نبأ مقتل عمي عبد المنعم ناظر المدرسة .. وعمي عبد المنعم يشكل في حياتنا ركنًا كبيرًا .. وكان برغم ظروفه السيئة التي سولت له بعض جرائم القتل يتمتع بصفات فطرية طيبة ، كنت أرجوه بسببها لخير أكبر مما عاش منغمسًا فيه .. وقد نجحت في تصحيح مساره إلي شعبة الإخوان عدة مرات ، ولكن جاءت الاعتقالات فلم تمهلني لأحقق ما أريد .. وكم من شباب الأمة أو رجالها ضاعت عليهم فرص الهداية ، عندما غابت الشمس من سماه حياتهم وتركتهم في الظلمات .. شغلني هذا النبأ الأليم من عدة نواح ، منها : ما قد يثور في نفوس الأهل من تفكير في الثأر ، فبادرت في الكتابة إليهم أحذرهم من ذلك ، لأن عمي لقي جزاء ما قدم عسي الله أن يكفر عنه بهذه النهاية .. هذا أمر أبرأت به زمتى أمام الله ، ولم أصغ فيه لنداء الجاهلية .. لكن بقي أمر آخر استشعرت وطأته مع الأيام ولم أجد له حلاً ، وهو خاص بزوجة عمي الشابة التي ترملت ، وأطفالها الذين تيتموا .. لقد شعرت علي البعد بمسؤولية كبيرة تجاه هذه الظاهرة الجديدة في أسرتنا .. فهذه هي المرة الأولي التي أحسست فيها بمشكلات الأرملة الثكلى .. مشكلاتها النفسية والمعاشية .. لبثت أقلب هذه المأساة الاجتماعية في نفسي ، وأعدد ما وراءها من مآسي وشرور ، أدناها عندما تغلظ مشاعر المرأة وتقسو طباعها وهي تواجه بالحرمان مسؤولية حياتها الجديدة .. وهي التي خلقت لتبث كل رقيق وجميل في النفوس ، فكيف تستقيم الأسر بهذا التناقض ؟! قلما تظفر مثل هذه المرأة في مجتمعاتنا المريضة برجل آخر ، يقيم حياتها ويحفظ عليها توازنها النفسي والمادي .. ومن تضعها المقادير في هذا الحال ستنطوي علي أقسي ما تنطوي عليه الجوانح من آلام وأحزان أن يحس بها أحد ، وأجهزة إعلامنا تتخذ من أمثالها للفكاهة والسخرية ، ومن ثم فلا يجرأ أحد من الناس علي التقدم لمثلها دون أن ترميه النظرات بالشرر ، ومن وجد لديه الشجاعة لتخطي هذه التقاليد فإنه لا يكون في الغالب هو الإنسان المناسب ، الذي تطمح إليه أحلام المرأة في الاستقرار ، فتمد إليه هي الأخرى يدًا مرتعشة وسط نظرات الاستياء والاستنكار ، فالمغامرة هنا تحيطها الخسائر من كل جانب ، وأول ضحاياها الأبناء ، لكن لماذا شغلت نفسي بهذه القضية إلي هذا الحد ، وأمامي من المشكلات ما ينسيني نفسي ؟ وأجيب علي التساؤل :

هذه خصيصة قلوب الدعاة ؛ لأن فيها نورًا من الله يجعلها تتسع لأكبر المشكلات العالمية ، ولأصغر المشكلات الإنسانية .. فالدعاة ليسوا من الذين يتحسسون الطريق في الظلام , بحيث تستغرقهم المشكلة الوقتية أو الجزئية .. والمُسَلَّم بنعمة هذا الدين يظل قادرًا علي مباشرة كل مسؤولياته في كل اتجاه ، بالمستوي نفسه من الاهتمام ، فما دام له نور يمشي به في الناس ، ويزن الفعل بميزان الثواب والعقاب ، فهو في كل أحواله في عبادة .

قف للأحلام السعيدة ..

فستبدأ الحكومة سياسة جديدة ..

كان أملنا أن تسير أحوالنا نحو الأحسن .. ولكن كان للحكومة هدف آخر لم يتحقق ، وهو إكراهنا علي التأييد ، فكان لابد لها من تغيير طاقم السجن كله ، من مأمور ، وضباط ، وسجانة ؛ لتبدأ معنا من جديد بطاقم آخر له شهرة في البطش والتشديد علي رأسه الطاغية فريد صاحب التاريخ الأسود في سجن قنا .. سجن التغريب .. وقد نزلت علينا هذه الأخبار نزول الصاعقة ، وتبخرت معنا أحلامنا السعيدة ..


الفصل الثامن : ( واكتملت عناصر المحنة الثلاثة - لماذا منع الشيوعيون والسجانة من الاختلاط بالإخوان ؟ )

وجاء الطاغية الذي كنا نخشاه ليصنع الموت للذين يصنعون الحياة ، ولينسج من ظلام السجن أكفانًا للذين ينسجون من خيوط النور أثوابًا سوءات الناس .. وَصَاحَبَ وصوله توتر عام ، وسكون مخيف من أرجاء السجن ، ذكَّرنا بأيام الحملة الغشوم التي أشعلت الحريق ، لكن تلك الحملة لم تدم إلا أيامًا قليلة ، فكيف بهذا الإعصار الجديد الذي سيدوم أشهرا طويلة .. لقد اختاروه لهذه المهمة الصعبة بعد أن ذاع صيته كقائد لسجن التغريب بقنا ، وها هي ظهور الإخوان تحكي قصته معهم ، بعد أن وفدوا إلينا من هذا السجن ؛ حيث تشوهت ظهورّ ، وظلت أخري تُعَالَج حتى نهاية سنوات السجن العشر ، لكن هل كان ترحيلهم إلينا قبل وصول المأمور عن خطة نفسية مبيتة محض مصادفة ؟ الله أعلم ، لقد رأينا الانقباض يرتسم علي وجوه هؤلاء الإخوة ، وإن جهدوا في إخفائه عنا .. لكن حكاياتهم السابقة عنه كانت ماثلة في نفوسنا .. لقد حكوها يوم أن كانوا لا يتوقعون انتدابه لهذا السجن أبدًا . لقد قضي علي التو علي الرئة الوحيدة التي كان يتنفس منها عنبر (3) بتوقف طابور المزرعة ضمن كل شيء توقف في السجن ؛ انتظارًا للسياسة الجديدة .

معارضون :

" النفير " المنفر يدوي ، و" انتباه " اللعينة تتوالي ، وبعدها دلفت طغمة الشر من ضباط وجنود إلي العنبر ، يتقدمهم المأمور فريد شنيشن ، وهو ظالم لنفسه لم يلبث أن أصلي كل زنزانة دخلها نارًا من وعيده وتهديده ، حتى انتهي إلينا فألفانا وقوفًا من قبل أن يصل موكبه، وحرمناه بذلك من رؤية انتفاضتنا لدخوله .. لحظة صمت رهيبة .. كل منا يتفرس في الآخر .. كل منا متحفز للآخر .. هو بقامته الطويلة ، وجسمه الممتلئ ، وعينيه الواسعتين ، وألفاظه المستهترة ، وحوله الضباط والجنود لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ، تطير لكل التفاتة منه ، وتسارع في هواه .. وفي رنة وعيد واستعلاء صكتنا عبارته المفاجئة .

- هل أنتم مؤيدون للحكومة أم معارضون ؟

- معارضون .. قلناها بنفس السرعة والتصميم .. ردَّ لم يكن يتوقعه .. ولا نحن أيضًا .. حيث قد جرت عادتنا في مثل هذه المواقف أن ننفي عن أنفسنا المعارضة والتأييد معًا ؛ لأن السجن بطبيعته ليس مكانًا لإبداء الرأي .. لكن تعاليه علينا قد سهل أمر الرد في هذا الاتجاه القاطع ، حتى لا يكون هناك مجال لشيء يقال .. وكأن نفوسنا المتوترة كانت تتعجل إخراج كل ما في جعبته دفعة واحدة ، فليس للتهديد أي معني إذا ظل الإفراط في القسوة مستمرًا .. ومن ثم فليس من الحكمة أن تجيب الغلاظ بالمنطق والحكمة .. بل يحتاج أهل الغطرسة إلي صدمة كهربائية تطامن من غلوائهم وتردهم إلي ضعفهم .. كل هذا التصحيح قد صنعته فطرتنا السوية تلقائيًا في مواجهته .

إنه لم يستقر بعد علي الخطة التي سيتبعها معنا .. وثمة زنزانة أخري نجت من لسانه ووعيده ، كان فيها الأخ رشاد المنيسي زميله السابق بكلية الشرطة والأول علي طلبتها دائمًا .. والشيء الذي لم يكن يعلمه شنيشن عن الأخ رشاد أنه المسؤول العام عن مجموع الإخوان في هذا العنبر أيضًا .. وقد كان شنيشن وفيًا لهذه الزمالة ، فبش لمرآه وأعطاه حقه من التكريم بعد عتاب خفيف علي موقفه السياسي مع هذه المجموعة المغضوب عليها ، والتي ستلقي أسوأ مصير .

أحذيتنا غنائمهم :

انتهت الجولة الاستطلاعية بسلام .. وحرنا في تحليل شخصية الرجل ، وفي الاحتمالات المتوقعة علي يديه .. ولم تلبث الأيام أن أخرجتنا من حيرتنا .. فها هي التفتيشات اليومية تشتد .. ولما كانت الزنازين خاوية ، ولابد للحملة أن تعود ظافرة بالأسلاب والغنائم ، فلم يكن أمامها إلا حمل الأثقال من الأحذية والشباشب وتجريدنا منها .. وما يفلت من ألأيديها نستعمله جميعًا بعد الحركة .. ولقد بالغ المسؤولون عنا في التنبيه والتحذير من أي شيء ممنوع ؛ حتى لا يتخذه المأمور حجة للنيل منا ، وهو الذي أطلق قذيفته بيننا قائلاً : إن من سلطتي أن أصطنع موقفًا يبرر لي قتل أي عدد منكم .. وعندئذ سأقدم لمحاكمة صورية أحال بعدها إلي الاستيداع ، ريثما أتسلم إدارة أي مؤسسة أو شركة بضعف مرتبي الحالي .

عناصر المحنة :

وهكذا فقد أنضاف إلي معاناتنا للجوع والبرد عنصر جديد ، لا تتم المحنة إلا به ، هو الخوف مما يخبئه الغد علي يد هذا الطاغية الجديد .. الذي جاء في ذهنه أنه محل ثقة المسؤولين ، اختاروه ومن معه من الضباط والسجانة علي علم ؛ خلفًا لرجال الطاقم القديم الذين اتُهِمُوا بسيطرة الإخوان عليهم ، وأنه لذلك سيحقق ما عجز عنه سلفه .

عندما نفقد الأمل :

مرت أربعة أشهر عجاف ، لم يجد فيها شنيشن ثغرة منها إلينا ، كان الإخوان قد أجهدوا فيها صحيًا رغم معنوياتهم العالية النابعة من شدة القرب من الله والشعور بالانتصار .. إلا أن هذه الروح العالية لم تمنع من انتشار أمراض نقص التغذية وأمراض زيادة الرطوبة .. ولم يقتصر الأمر علي الأعمار المتقدمة ، بل وكثر غزوها لأجساد الشباب .. ورفعت إدارة السجن تقريراً عن موتنا البطيء إلي المسؤولين لإخلاء مسؤوليتها ، فجاءها الإذن بإعطائنا جرعة من الحياة في صورة التعامل مع مقصف السجن مرة كل خمسة عشر يومًا لشراء أصناف محددة لا تخرج عن العسل الأسود والطحينة والفاكهة ، وكانت فرحتنا لا تقدر بهذه الكميات المحدودة القليلة ؛ لشدة حاجة الأجسام إليها ، حتى أننا لم ننتظر تعليمات إخواننا بضرورة أكل البرتقال بقشره لتعويض النقص في أجسامنا ، إذ كنا قد سبقنا التعليمات إلي ذلك .. وقد أرانا الله – تعالي – بهذا الخير قدرته علي أن يشقق الصخر ليخرج منه الماء ، فما كان أحد يتوقع ذلك في عهد شنيشن بالذات ، وتذكرت قولاً لأحد الصالحين حين سئل : بم عرفت الله ؟ قال بنقض العزائم .. وهكذا حين لا يكون هناك أمل في البشر يأتي الفرج من الله .. ليتعلم المؤمن درسًا جيدًا في الإيمان ، عدته الذكر والدعاء .

بآية حال عدت يا عيد :

مرت أربعة أشهر سمان علي هذا الحال , وبدأت الأحلام السعيدة تتسرب إلي خواطرنا , لكن الاحتفال بعيد النصر وما حدث فيه قضي علي تفاؤلنا بسرعة , وردنا إلي واقعنا الأليم .. كانت فكرة الحفل من بنت أفكار بعض المؤيدين بعنبر (2) هم وبعض الشيوعيين , لتكون مرآة ولائهم للثورة .. وفي الليلة الموعودة أخرجنا علي الفور بسيل من السجانة , وأجلسنا في الجانب الأيمن المخصص لنا من الصوان الكبير المقام بين العنبرين , وفي الجانب الأيسر جلس المؤيدون في المقدمة , يليهم الشيوعيون المسجونون , فالمساجين العاديين , فالسجانة , وبيننا الممر الفاصل , أما الشيوعيون المعتقلون الموجودن بعنبر (1) فقد حرموا لحسن حظهم من هذا الحفل , لأنهم كانوا حديثي عهد بتكديرة , يساقون بسببها كل صباح مشيا علي الأقدام , لإصلاح بعض الطرق حول السجن . تعلقت الأبصار بالباب الذي سيدخل منه المأمور علي رأس ضباط الإدارة لمشاهدة الحفل , وما أن ظهرت قامته المديدة حتى دوت أرجاء الصوان بالتصفيق .. ولم يلبث المأمور أن اعتلي المنصة لإلقاء كلمة الافتتاح .. ولا أدرى هل قال ما قال عن إعداد سابق وخطة مبيتة , أم جاء عفو الخاطر , عندما شاهدنا لا نشارك في التصفيق .. وقد ارتضينا هذا المسلك علي مدار الحفل , خشية التورط فيما لا نوافق عليه , دون قصد الإساءة لأحد . وقد وقف وقفة الخطيب المتمكن , الذي يعرف موضوعه جيدا ويحفظه عن ظهر قلب .. والموضوع في ذهن المأمور من قبل ومن بعد , أو في ذهن المؤيدين ليس هو عيد النصر , وإنما هو موضوع المعارضين أولا وأخيرا .. من هذا المنطلق وجه خطيبنا المفوه كلمة الافتتاح كلها إلينا , أو بمعني آخر صبها علينا حين قال علي دوي التصفيق عند كل مقطع : " إن هذا الحفل صفعة علي أقفية الذين يعارضون الحكومة .. وإن الجمهورية العربية بقيادة عبد الناصر تطلق كالصاروخ , ولن يؤثر المعارضون فيها إلا بمقدار نملة " .. لم نلق بالا لكلامه , واعتبرناه غير موجه إلينا باعتبارنا أصحاب رأي , مجاله خارج الأسوار ولسنا معارضين ولا مؤيدين , وفي كل مرة يدوى التصفيق كان صمتنا يعتبر مقاطعة للحفلة أغني عن أي كلام . بل وإهانة شخصية للمأمور , سيكبدنا ثمنا فادحا .. لذلك كانوا ييممون وجوههم إلينا عند كل تصفيق بعيون ملؤها الاندهاش ..

لكن الغضب قد اقترن في نفوسنا بالاستصغار لما يجري ، ولما يقال في الحفل من أزجال وكلمات وتمثيليات مليئة بالغمز والنفاق .. وبتنا بعدها ليلة مليئة بالترقب ، وأصبحنا صباحًا ثقيل التنفس ، لأن فرصة المأمور قد حانت لإظهار مواهبة العسكرية علي الكتيبة العزلاء . ولم يمض يومان علي هذا الحفل ، حتى تم ترحيل جميع المؤيدين إلي القاهرة تمهيدًا للإفراج عنهم ، بعد أن تركوا هتافاتهم عالقة في سماء الصحراء بحياة جمال عبد الناصر لأول مرة في هذه البقعة البكر من الأرض ، التي لم تشهد صراعًا بين الخير والشر من قبل .

العاصفة :

وذات صباح قارس من أيام يناير ، وفي اليوم التالي لترحيل المؤيدين ، قمنا من نومنا فزعين علي صرير الأبواب ووقع الأحذية العليظة ، وهي تجوس خلال الزنازين تدوس كل شيء في طريقها ، وسط عاصفة من النداءات والأوامر بالخروج السريع إلي فناء السجن ، دون توان أو مناقشة . وبعد لحظات كنا نجلس القرفصاء في صمت رهيب ، لا يقطعه إلا حركة الحراس المذعورة ، والكل في انتظار قرارات الطاغية التي سيثأر بها لكرامة الثورة وكرامته الشخصية من موقفنا في الحفلة .. وما هي إلا دقائق كأنها الدهر حتى خرج علينا في زينته يتهادي كالطاووس ، عيناه الجاحظتان تقذفان بالشرر من برج جثته الضخمة .. وكلنا عيون شاخصة وآذان مصغية .. وفي تراخ وتعاظم انشق فمه عن سيل من الحمم :

- " لقد قررت الدولة أن تستفيد من عضلاتكم ، لأنها يئست من عقولكم الصلبة ، وستقومون بشق الترع والمصارف إلي ما شاء الله ، حتى تستجيبوا لما نطلبه منكم " . عندما يفقد الإيمان ..

ران صمت رهيب في أعقاب هذه الكلمات الحاسمة ، لأننا أدركنا منها بحسنا المتمرس علي فهم أساليب الطغيان شيئًا أعمق من السخرة في العمل ، مثلما حدث مع إخوة لنا في ليمان طره ؛ حيث اتخذ الإنتاج وكمياته ذريعة للاحتكاك الذي وصف بالتمرد ، واستدعت دواعي الأمن قمعه بالسلاح ، وكان طبيعيًا وبشريًا – بغير الإيمان – أن تنهار قوى اثنين منا ، فيعلنا علي الملأ تأييدهما للحكومة ، فتسارع الإدارة إليهما بالسكن الخاص ، تعدهم فيه بالمعاملة الخاصة ، وتمنيهم بالفرج القريب إذا ما نشطوا في جذب أحد من المعارضين .

تحرش :

انصرف المأمور بعد كلماته القليلة المنتقاة وحوله الضباط إلي الكراسي التي أعدت لهم بجوار مبني الإدارة في الشمس ؛ ليشرف علي حركة تسليمنا أدوات العمل .. وعلي بعد خطوات منه جلس الشيوعيين المعتقلون بأدوات العمل الخاصة بهم . ويبدوا أن المأمور كان يتوقع المزيد من ردود الفعل لكلمته المفهومة ، سواء بتوالي التأييد أو بمواجهة هجوم علينا .. ولما خاب ظنه عمل علي تحريك الموقف من كرسي الشمس .. فأرسل سجانًا ينادي علي السيد محمد حامد أبو النصر ، عضو مكتب الإرشاد ، وأحد رجال الصعيد القلائل المشهود لهم بالرجولة والشهامة والسبق في هذه الدعوة . مشي السيد حامد إليه بخطوات ثابتة مطمئنة ، ووقف أمامه كالعملاق والأسمر ، وفأسه علي كتفه بعد أن أدي التحية العسكرية .. وإذا بالقائد الهمام ينهال عليه وعلي الجماعة بالسباب ، فتركه يهذي حتى أفرغ ما في جعبته ثم سأله :

- هل هناك شيء آخر تحب أن تقوله يا فندم ؟

- فلم يرد ..

فأدي له التحية العسكرية وانصرف عائداً إلينا .. ولم يخبرنا بما حدث إلا بعد أسابيع كثيرة ؛ خشية أن يتطور الموقف .. وكان بهذا مستشعرًا مسؤوليته عن أرواح إخوانه .. ولو علم أن مغبة تصرفه ستكون عليه وحده لسقاه من الكأس نفسها .

الموكب المهيب :

توالت النداءات العليظة بعد توزيع أدوات العمل من " فؤوس " و " كوريكات ومقاطف " ، وخرج طابور طويل من البوابة الشمالية للسجن في اتجاه الصحراء الغربية ، يتكون من مائتين أو يزيد من الشباب المسلم الفتى ، كلهم في العقد الثالث إلا قليلاً ممن هم في حكم الآباء .. ملابسهم زرقاء .. أغطية رؤوسهم بيضاء ، يحملون أدوات العمل فوق أكتافهم المعتزة .. خلفهم يسير طابور آخر من ستمائة شيوعي بملابس الاعتقال البيضاء ، حفاة الأقدام ، وأمام الجميع عربة حراسة تحمل ضباط الحملة ، وخلفهم عربة أخري تحمل ثلة من الجنود المسلحين ، وعلي الجانبين ، " جنزير " كبير من الحراس المدججين بالسلاح . خرج هذا الطابور من الأبواب الضخمة ، وخرجت وراءهم الشمس مسرعة تفرش الأرض بأشعتها الوردية تحت أقدامهم الواثقة ، التي تخط فوق رمال الصحراء سطور قدر جديد . وهناك .. في جوف الصحراء وفي المكان المخصص للعمل وجدنا كل شيء معدًا لاستقبالنا ، وتوقف الطابور إلي أن تمت مراسم توزيع العمل علينا وعلي الشيوعيين ، مشفوعة بالتهديدات اللازمة إن حدث أي تقصير في تسليم المقطوعيات .. مقرونة بأقسى التشديدات العسكرية علي الحراس ، ليراقبوا التنفيذ بدقة ، وليمتنعوا تمامًا عن الحديث مع أي مسجون أو معتقل ، خشية أن نستميلهم إلينا . وانتشر الحراس المسلحون في دائرة كبيرة حول منطقة العمل ، وعلي المرتفعات الجبلية المحيطة بالموقع نصبت المدافع المصوبة نحونا لكل من تسول له نفسه الشروع في الهرب أو التفكير في التمرد . وتنبيه أخير موجه إلينا وإلي الشيوعيين معًا بعدم الاختلاط ، وإلا حاق بنا أشد العذاب .


الفصل التاسع : ( هل هو إعداد لمذبحة جديدة ؟ - الفرق بين إيماننا وإيمان الشيوعيين ! )

طغت فرحتنا برؤية السماء والهواء والشمس بعد الحرمان علي التفكير في العواقب .. كان الواحد منا أشبه بالكتكوت خرج لتوه من البيضة .. كنا نمزح في همس قائلين : ما أجمل الشهادة تحت قبة السماء في الشمس والهواء . وكان مكان السخرة يبعد عن السجن عدة كيلومترات ، عند خيمة بيضاء في قلب الصحراء ، وهناك وجدنا عدداً من مهندسي الإصلاح في انتظارنا ، والكراكات تسوي الأرض إلي أحواض متساوية .

الذئب والحمل :

تم تخصيص منطقة عمل لنا لا نتعداها , ولا نختلط بمنطقة عمل الشيوعيين , وتم توزيعنا علي فرق .. كل فرقة مكلفة بحفر مسافة محددة من قناة ري تتصل بغير ها من القنوات والمصارف . مع تحذير بأن أي تقصير سيكون جزاؤه التكدير .. ولما هوينا بالفؤوس والأزاميل علي الأرض وجدنا ها صلبة يستحيل حفرها بالمواصفات المطلوبة .. وقد عجزنا بالفعل عن إنجاز المقطوعية ، وجن جنون المأمور ، وتوعدنًا شرًا بعد عودتنا إلي الزنازين .. وتذكرت في هذه اللحظة ما قاله الإخوان اللذان ارتعدت فرائصهما في الصياح حين أعلنا عن تأييد الحكومة .

- إن الحكومة ليست بحاجة إلي إنتاجنا من العمل ، وإنما سيتخذونه ذريعة إلي استفزازنا ؛ ليكرروا مذبحة طره معنا .. وعلينا أن نتعلم من قصة الذئب والحمل ..

تذكرت مقالتها ، وتذكرت أن هذا الاحتمال كان واردًا في تقديرنا .. ولكن ليس بهذه السرعة الفائقة ، بحيث يكون في اليوم الأول لخروجنا .

لأنهم كانوا معنا :

أمر المأمور أن يتوقف العمل ، وأن يعود الطابور ، فعاد بهيئته التي خرج عليها في الصباح ، ولكن بزيادة شيء واحد هو تصاعد الغبار من حوله .. غبار التهديدات ، وغبار الصحراء .. فالرمال التي كانت ساكنة لينة تحت أقدامنا في الصباح هي الآن ثائرة غاضبة ، والشمس التي كانت وردية تحولت في الظهيرة سياطًا نارية ، تلهب الأرض وتشوي الأجساد . أحسسنا فور دخولنا من بوابة السجن أن كل ما حولنا ينطق بالشر ، ثم تغير الحال إلي إحساس بالرحمة بعد دخولنا العنبر واستقبال الإخوان المرضي لنا في تلهف وشوق ، كأننا غبنا عنهم شهرًا كاملاً .. لقد عاشوا هذه الساعات في محنة القلق علينا ، التي كانت أشق علي نفوسنا من وجودهم بالفعل في مركز الخطر .. حيث تركوا لخيالهم العنان في تصور ما عانينا .. فكان الخيال أمرَّ من الحقيقة .. فمن يلامس الخطر عن قرب يتحدد له كل شيء في حينه .. الكم والكيف ورد الفعل ، بعكس من يشط به الخيال ، وتتقاذفه الظنون خوفًا علي من يحب .. وكانت فرصتنا لتذكر عمق الحديث النبوي الشريف الذي يشرك أقوامًا لم يغادروا المدينة في الثواب مع من يكابدون الجهاد في الميدان ، لأن العجز أو المرض منعهم من الخروج مع إخوانهم ، ويسوي الرسول الكريم بين تسبيحهم أو دعائهم في المسجد وبين فعل السيف في الميدان حقًا إنها محنة في طيها محنة .. فمازلنا نتعلم في كل خطوة درسًا إيمانيًا جديدًا .

مقياس التفاضل :

هذا الاستقبال الأخوي الذي نزل علي قلوبنا بردًا وسلامًا شيء ، وتهديد المأمور وترقبنا لتنفيذ وعيده شيء آخر .. ومن الطبيعي أن تعم النقمة جميع من في العنبر ، حتى المرضي الذين أعفوا من السخرة في الصباح .. لقد استقبلونا بورود الحب ورياحينه ، وأتينا لهم معنا بشوك الجبل وقتاده .. واستعدوا عن طيب خاطر أن يتحملوا معنا كل النتائج .. فإحساسنا دائمًا هو إحساس الجسد الواحد .. عدنا بكل مستوياتنا العلمية والاجتماعية والصحية إلي الاشتراك في شيء واحد ، أعني إلي الاحتياج إلي شيء واحد ، لا ليساوي بيننا – لأننا بالفعل قد تساوينا منذ أن جردتنا حملة محمود خليل من كل متاع الدنيا – وإنما ليفاضل بيننا .. الاحتياج إلي عمق الإيمان بالله واليوم الآخر .. وربما سبق في هذا المقام أقلنا حظًا من الدنيا أو من العلم أو من العافية .. فرحمة الله تتنزل علي القلوب لا علي المناصب والألقاب والأبدان . والله – سبحانه وتعالي – ينظر إلي القلوب والأعمال لا إلي الصور والأشكال اليوم نفهم أكثر من أي وقت مضي معني قول الرسول الكريم : إنما تنصرون بضعفائكم وقوله : رب أشعث أغير ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم علي الله لأبره " .. ونفهم أيضًا امتداحه للأتقياء الأخفياء ، الذين إذا حضروا لم يعرفوا ، وإذا غابوا لم يفتقدوا ، والذين تقل بواكيهم عند موتهم ، هؤلاء هم اليوم الأمراء . دائمًا هناك قيمة للإنسان في هذا الدين العجيب .. للإنسان فيه كرامة حقيقية وغنًي سابغ وتكريم أبدي ، حتى ولو كان مجهولاً في الأرض .. حسبه أن يكون معروفًا في السماء يذكره الله في نفسه أو في ملأ عنده ، ويقول فيه : ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني عبدي المؤمن .. هكذا يتذوق الإنسان معني جديدًا للسعادة ، بعيدًا عن الشهرة والتفاخر والتكاثر والسلطان ، بعكس الأنظمة الأرضية الني لا تكرم إلا الأقوى .. اليوم وبعد تهديد المأمور عشنا فترة تأمل لهذه المعاني الإيمانية ، وفترة تلمس لحاجتنا أولية ، وفترة تلميع هذا السلاح البتار بالذكر والاستغفار في مواجهة هذا الطاغية الجبار .

إيمان الشيوعيين :

سألت نفسي أو سألتني نفسي : تري كيف حال الشيوعيين في مواجهة الأخطار وهم محرومون من سلاح الإيمان ؟ أي نوع من الإيمان يمدهم بالصب ويغريهم بالأمل ؟ لم يطل سؤالي ، فقد وجدتهم ذوي تهافت شديد علي أي خبر صحفي أو أي إشاعة علي أي لسان .. سريعي التطير وراء أي حدث سياسي ، بطريقة مرضية ، خرجت في تقديري عن مقتضي الوعي السياسي إلي حالة غير طبيعية .. كانوا يخلعون رغباتهم المكبوتة علي أي خبر أو حدث ، فيحملونه أكثر مما يحتمل أو عكس ما يحتمل بحسب مقتضي الحال .. حتى لكأن نص مقدس .. فأدركت من مخالطتهم أن بوصلة الإيمان في القلوب إذا لم تتجه إلي قطبها الحقيقي أنشأت لنفسها قطبًا وهميًا ، تخلع عليه من فطرتها ثباتًا وعلوًا ودوامًا ، وهو ليس له من طبيعته صفة من ذلك ، فتقف حيث كان يجب أن تتحرك ، وتجمد حيث كان يجب أن تفكر ، وتحلم حيث كان يجب أن تعمل .

حملة علي النخيل :

أعود فأقول إننا لبثنا نترقب تنفيذ الوعيد .. ولم نقف موقفًا سلبيًا بل أعددنا العدة لملاقاته ..  فلئن فاتنا السلاح المادي ، فإن معنا سلاحًا أقوى ، لأنه من مدد السماء ، وهو ذكر الله ، وبالفعل نزلت توصيات المسؤولين إلي الإخوان في الزنازين بألا ينشغلوا بالترقب ، بل بذكر الله وترديد صيغة معينة من الدعاء والاستغفار نحو : " حسبنا الله ونعم الوكيل " ، " يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث " .. وكان لها فعل السحر في نفوسنا حتى لامست رؤوسنا السماء .. أمال الله قلوب بعض السجانة إلينا ، فأصبحنا نسمع بآذانهم ونري بأعينهم أولاً بأول ، وسلح به فرقة من السجانة ، تمهيدًا لاقتحام العنبر علينا لتأديبنا .. أقسمت لنا العيون والآذان أن زملاءهم من السجانة في غم شديد لهذا القرار ، وأنهم مازالوا يجادلون المأمور عنا ، ويضعون العراقيل علي طريقه ، وهم بدورهم يخبروننا أنهم إذا غلبوا علي أمرهم فسيقومون بتنفيذ الأوامر شكليًا ، وعلي الإخوان أن يساعدوهم باصطناع الصراخ والعويل .. وأن يعذروهم عند الخطأ

جريد شنيشن :

أخذنا نتوقع هجوم الحملة مع كل صرير لبوابة العنبر .. وطال الانتظار حتى هجم الليل وسبقهم إلي ضمنا في أحضانه .. ماذا حدث .. علمنا أنه قد طرأ تعديل علي الخطة في اللحظة الأخيرة ، جعلتهم يؤجلون التنفيذ إلي الصباح ، حيث يتم في موقع العمل ؛ ليكون له مبرر من عصياننا وادعاء تمردنا .. واكتفي المأمور من عقابنا تلك الليلة بقطع الكهرباء عن عنبرنا ، وقطع تعاملنا مع المقصف أيضًا .. وجاء تفتيش الصباح العنيف مكملاً طبيعيًا لهذا القرار ، ومقدمة طبيعية لما ينتظرنا في مواقع العمل ، إذ أتي التفتيش الاستفزازي ، الذي زادت حدته عن كل ما سبق بإعدام مدخراتنا من مشتريات المقصف ، وأفرغت أوعية الطحينة والعسل الأسود في طرقات العنبر ، ولأول مرة نري بحر الطحينة الذي تتحدث عنه الأمثال العامية .. وخرجنا إلي مواقع العمل ، وتركنا مهمة تنظيف العنبر علي عاتق إخواننا المرضي .. ووجدنا في استقبالنا الضابط عبد العال سلومة بابتسامته الصفراء ، وقد اغتم الإخوان لرؤيته ، لأنه – محرك الشر – وكنا دائمًا نحس أن " جريد شنيشن " كما سماه الإخوان بعد حملة النخيل مساق إلي الصدام بنا ، بيد خفية تعي ما تفعل .. ولم نستبعد احتمال أن تتطور الأمور بعد انتداب عبد العال سلومة بطل مذبحة طره إلي هذا السجن .. ومعني هذا أنه تم وضع القوة العمياء في يد الحقد الأصفر .. فكيف يتوقع الإنسان خيرًا من ورائهما .. ويعاونهما ضابط ضئيل الجسم حديث التخرج ، يجري هنا وهناك كالطفل بين يدي والديه .. أما وكيل السجن النقيب البربري ، فقد كان متعاطفًا معنا ، وإن لم يستطيع عمل شيء لنا في مواجهة هذا الثالوث الذي يعمل بوحي من الجهات العليا .. وكان هذا الشعور يريحنا ويسعدنا عن بعد .. فحسبنا أن نجد دائمًا من طبيعة هذا الشعب ما يطمئننا علي دينه ووعيه للأمور .

نظريتان ثم وضع نشيد العاصفة :

توقعنا ألا يمر اليوم الجديد بسلام .. وأن تمتلئ ساحة العمل بالشهداء .. لذلك استقبلت يومي صائمًا ، وصليت بنية الاستشهاد علي غرار ما فعلت يوم حملة إسماعيل همت بسجن جناح .. وقد تواصي الإخوان بذلك ، مثلما تواصوا بالهمة في العمل في هذا اليوم ، حتى نقطع عليهم سبيل الشر .. لذلك أطلقنا علي فرقتنا اسم العاصفة ؛ لإشاعة المرح والنشاط ، ولمعاونة الفرق الأخرى في إنجاز المطلوب منها في ظل الفرصة الممنوحة لنا من المأمور ، لتعويض تقصيرنا بالأمس .. وعلمنا أن الفضل في تعطيل قرار المأمور يعود للجهود الشاقة التي بذلها مهندسو الإصلاح وبعض السجانة ، فضلاً عن دور الأخ رشاد المنيسي مع زميل الدراسة .. ولم يكن في حاجة إلي كل هذا الجهد ، فقد أنجزنا بالفعل في هذا اليوم ما يكفي لتخفيف حدة التوتر وكسر تلك الحلقة المرذولة المضروبة حولنا ، ريثما نميت الاهتمام والتربص بالتدريج .

فرقة العاصفة :

بعد انقشاع الأزمة بدأت تتنازعنا نظريتان في العمل :

الأولي : تري أن في وسعنا أن نتفادى الاصطدام فعلاً بالمزيد من العمل ؛ حيث إن في طاقتنا فعلاً أضعاف ما يطلب منا ، وفيما عدا الأرض الصلبة التي قابلتنا في اليوم الأول فإن المقطوعيات بعد ذلك كانت في أرض سهلة لا عنت فيها ، تظنها إدارة السجن بصلابة الأولي نفسها . واعتبرنا ذلك من أسرارنا الحربية .. فضلاً عن أن العمل نفسه حاجة حيوية لأجسامنا التي حرمت الحركة والشمس والهواء أشهرًا طويلة ، وقد كشفت الأيام الأولي عن سرعة معدل التحسن في كثير من الأمراض الروماتيزمية والمعدية .. وكنت من هذا الفريق الذي يري هذا الرأي والذي أقام لهذا الغرض فرقة مخصوصة ، أطلق عليها اسم العاصفة ، وتكون مستعدة دائمًا لنجدة الفرق الأخرى .. وعلي التو ارتفع نشيد العاصفة مع رنة الفؤوس ...

أين الفـأس ( هبي هبي ) نريه الـبـأس

فلسـنا أبدًا ( هبي هبي ) نحني الــرأس

سيشرب يومًا ( هبي هبي ) هذا الكــأس

ليبني السد ( هبي هبي ) ستـبنـي النفـس

ونعـطـي الـدرس لـهـذا الـشـعـب

هبـي هبـي هـيا هـبي

هـبي حـتى يرضي ربي

أمامـك هول حـولك نـار

لعلـك تبـدي الضعف تجار

تقول وتبسـم فـي إصـرار

وأنـت أشـم فـيك يـحـار

ننـال الخـــلد ببـعـض الـنـصـب

هبـي هبـي هـيا هـبي

حـبي حـتى يرضي ربي

هـيـا هبـي بالـواحـات

جا الإخوان بـالآيــات

حالوا الشغـل إلي طـاعات

عبي المقطف هــيا هـات

هـيا شقـوا فـي القـنوات

بالكـوريـك وبالعـضـلات

هـيا نبـنـي غـدنــا لآت

هيـا نـنـزل مـثل الشـهب

هـبي هـبي هـيـا هـبي

هـبي حـتى يرضي ربـي

قـل للـظالم لـست للعاتـي

كـلا إنــي لسـت أطاطي

كـلا حـتى حـين الممات

إن النـصـر لآتٍ آتِ

هـــذي الشـمـس وراء الـسـحـب


وكانت هناك نظرية أخري :

تري أنه طالما أن العمل سخرة فلا نعطيهم إلا ما يدفع الشر عنا ، ولو كان عُشر طاقتنا ... وبالإمكان تسوية الأمر مع المهندسين والسجانة المشرقين ؛ بحيث يبلغون الضابط المشرف علي العمل في خيمته التي لا يخرج منها إلا لمامًا بأنهم استلموا المقطوعية علي الوجه الأكمل ... ويظل لنا حرية الاستفادة من الوقت والجهد علي الشكل الذي يروق لنا ، لأننا لو أعطيناهم كل طاقتنا منذ البداية فسيطلبون المزيد ، ولن يقنعوا ؛ لأن هدفهم الاصطدام .. أما إذا أبقينا بيننا وبين الطاقة الممكنة مسافة واسعة نناور بها فإننا نكون أكثر أمنًا . وقد كانت السيادة للنظرية الثانية ، فصار الطابور الطويل يقضي وقتًا أطول في حفرة قناة صغيرة ، طالما أمن الإشراف المباشر من ضابط الجبل .. وسلك الشيوعيون نفس السلوك ... وأعتقد أن أي عمل جماعي في العالم لا يمكن أن يظفر بمثل هذه الرقابة الصارمة من ضباط وحراس وفوهات مدافع مصوبة ، ومع هذا فقد عجزت كل هذه الاحتياطات عن القيام مقام الدافع الذاتي النابع عن الاقتناع والإيمان القلبي .. مما يحتم مراجعة كل الأسس التي يقوم عليها هذا النوع من العلاقات الإنتاجية ، ولا يجب أن ننسي لحظة واحدة أن أحد طرفي هذه العلاقة هو الإنسان المسخّر ..

وقد تكفل القدر بالتوفيق بين النظريتين في أعين إدارة السجن ؛ بحيث قد أعطاهم صورة وجوهنا الكادحة ، وأعطانا وراء هذا الشكل المظهري حقيقة النفوس المطمئنة ... ذلك أننا كنا نعود إلي السجن في عربات الإصلاح الزراعي وعلي وجوهنا وملابسنا غبار كثيف من طريق الرمال ، ولم تسلم سوى أعيننا التي تبرق في احمرار من أثر الغبار .. يخيل للناظر إلينا أننا قد خرجنا لتونا من منجم في بطن الأرض ... كنا نضحك لمناظرنا الغريبة ، ونخطئ أحيانًا في التعرف علي بعضنا .. ما كنا تعلم أن المأمور يطرب لهذا المنظر اليومي ، حيث ظنه من شدة الإرهاق والتعب ، فترتاح نفسه ويؤمل بقرب المراد ... ولا يعلم أننا خلف هذا الستار الرباني كنا أسعد الناس نفسًا وأكثرهم عافية ... ومرة أخري أجدني مشدودًا إلي معني جديد في قصة إبراهيم – عليه السلام – حين ألقوه في النار وهو أن الطغاة لم ينتبهوا إلي أن النار لا تحرق وإلا لما أفلتوه ، ولكنهم بالقطع انصرفوا مطمئنين إلي أن إبراهيم – عليه السلام – قد تفحم بحكم السنن الكونية في الحرق بالنار ... تمامًا مثلما انصرف نيروزنا عنا مطمئنًا إلي تحقيق مأربه ... وما دري أن نيرانهم ستكون في أعينهم وحدهم ، وأنها برد وسلام علينا ... وأن الله سيوجد لنا مخرجًا كما أوجده لإبراهيم عليه السلام .


الفصل العاشر : ( صفحات من قصة الإخوان والثورة - الحمامات حدود الهدنة بيننا وبين الشيوعيين )

ألقنا طابور العمل اليومي في أرض الإصلاح الزراعي ، برغم المنغصات البسيطة حول تسليم وتسلم المقطوعيات .. ولقد تكونت طبقة عازلة من أغلب السجانة علي رأسهم رقيب أول شاهين ، ومن مهندسي الإصلاح الزراعي بيننا وبين فريق الضباط الموكل بتنفيذ أوامر قائد السجن .. مهمة هذه الطبقة إقناع الضباط يوميًا علي رأسهم عبد العال سلومة بأننا سلمنا المقطوعيات حسب التعليمات ، وأننا لم نخل بالمطلوب منا .. ولم يكن الضابط سلومة ليغفل عن ورده اليومي كل صباح قبل بدء العمل .. إذ يقوم بجمع السجانة ليستدعيهم علينا ، ويطالبهم بالمزيد من التشديد والضغط ، ويوحي لهم بإهانتنا ، مؤملاً أن تؤدي الاحتكاكات إلي ما هو أسوأ منها . وما أن ينفلت عائداً إلي السجن حتى يسارع السجانة بما قاله إلينا ، ويقولون :

- نحن لم نقتنع بهذه التعليمات ، لأنه وقت الضرورة سيتنصل منها ، ولماذا لم يوجهها إليكم بنفسه ؟ لماذا يعطيكم الوجه الحسن ويدس السم من وراء ظهوركم ؟ لماذا يعرضنا وحدنا للمسؤولية . وقد وجد الرقيب أول شاهين في نفسه الجرأة ذات مرة ليقول له :

- يا سعادة البك .. لماذا لا تنفذ بنفسك ما تدعونا إليه ؟ .. فنهره سلومة قائلاً :

- أنت رجل حمار ، ولا تفهم بنفسك هذه السياسة .. أنت رجل عسكري ، تفعل ما آمرك به ولا تراجعني .. فاهم ..

- تمام يا فندم .

- ضحكنا من قصة شاهين هذه ، وعجبنا من إصراره اليومي علي أن يقضي أغلب وقته في حفظ القرآن مع بعض الإخوان في فترات راحتهم من العمل .. حتى إذا لمح عربة الضابط من بعيد هب من مكانه ، صائحًا علي العمل ن موجهًا شتائمه إلي السجانة ، وهم بدورهم يتقبلونها عن طيب خاطر ، إلي أن ينتهي المرور بسلام ، ويختم يوم العمل بإعطاء التمام عن كل المقطوعيات للسيد ضابط الجبل ، بشهادة مهندس الإصلاح ، فيقوم الضابط بدوره بإبلاغ قائد السجن بهذه النتيجة السارة ، ويؤكدها في نفس المأمور رؤيته لنا بعد العودة معفرين بتراب الطريق .. ومما زاد من اطمئنان المأمور إلي أن هذه السياسة ستؤتي ثمرها في حملنا علي التأييد ما حدث من انحياز عدد جديد إلي حجرة المؤيدين ، التي تتمتع بمزايا ثلاث : الإعفاء من طابور الجبل ، المعاملة الحسنة ، قرب الإفراج .. وطربت الإدارة لهذه النتيجة الجديدة ، التي لم تحدث طوال فترة غلق الزنازين علينا علي مدار السنة والنصف ، وظنت أن هذا الانفتاح وجو العمل كان وراء تفاعل الآراء لمصلحة سياسة التأييد ، فأرخت قبضتها بعض الشيء لهذا الغرض ، وأعادت تعاملنا مع المقصف ؛ لأن تجربتهم معنا أقنعتهم أن الشدة تزيد من ترابطنا .. ولم يكن في وسعهم أن يستنبئوا الغيب ، وإلا لعلموا أن المؤيدين علي مدار العام كله لم يزيدوا عن تسعة عشر فرداً ، ختمت بهم قصة التأييد والمعارضة .

.. وكان حظهم أسوأ من الدفعتين اللتين سبقتا ؛ حيث طبقت عليهم أجهزة الأمن خبرتها في معاملة السابقين .. فلم يعد تأييد الحكومة كافيًا للإفراج ، بل يلزم أيضًا إثبات الولاء وإظهار الإيجابية وعدم السلبية ، وكلما زادت ثورية الفرد برفع التقارير وإبلاغ المعلومات ، والتخلي عن القيم ، وإظهار الحماس في كل مناسبة وطنية أو قومية أو عالمية .. وطبقت هذه السياسة الجهنمية علي سيئ الحظ من بقايا المؤيدين بالسجون ، الذين لم يكن قد تم الإفراج عنهم ، أما من واتاهم حظهم بالخروج مبكرًا قبل هذا التطور في مفهوم التأييد فلم يفلتوا أيضًا من هذا المصير ؛ إذ لاحقتهم الأمن في الخارج في بيوتهم وأعمالهم بإتباع هذه السياسة ، وإلا كان تأييدهم السابق مجرد خدعة مكشوفة .

هذا الصنف من البشر :

كنا في مأمن وإطمئنان إلي جنب الله ، ونشعر أننا في حصن حصين من عزة الإسلام .. في الوقت الذي كنا نرثي فيه لهذه الدفعة الثالثة من المؤيدين بالذات ، سواء منهم من كان معنا في سجن المحاريق ، أو من وصلتنا أخبارهم في السجون الأخرى ؛ حيث تفاوتت ردود فعلهم تجاه هذه السياسة الغشوم ، فمنهم من تمادي في ثورته حتى فاق رجال الأمن في أعماله المباحثية ، وكنا نحن وبقية المؤيدين نحذر هذا اللون من البشر ، ونطلق علي الواحد منهم اسم " بسبس " مفرد " بسابس " ، لأن لديه استعداداً فطريًا لتحويل الظواهر الطبيعية إلي مظاهر حركية ، وتفسير العبارات العادية إلي عكس مراميها الحقيقية . وانتهي المطاف ببعضهم إلي أن أصبح عضواً كاملاً بجهاز الأمن بعد الإفراج عنهم .. هذا اللون من البشر هو الذي أعمل له ألف حساب اليوم داخل المعتقل ، فأتحين الكتابة في جوف الليل أو في الظهيرة أو فوق الأسطح بعد عمل التمويهات اللازمة ...

ومن المؤيدين من أصابه مرض عجيب ، لم أسمع عنه من قبل ، اسمه الاكتئاب ، ومنهم من أصيب بانفصام الشخصية أو بازدواجها ، ومنهم من التزم الاعتدال دون نظر للعواقب ، ومنهم من توقف عن التأييد كلية غير مبال بإلصاق صفة التعاطف مع المعارضين عليه ، تمادى في صلته بنا حتى حولته الإدارة فيما بعد إلينا ، بعد أن فقدت الثقة في تأييده .. وكان الخير في هؤلاء المؤيدين هو الأغلب والشر هو الأقل ... وهذا ما دعا اللواء زهدي أحد أركان المباحث العامة إلي أن يقول للدفعة الثالثة من المؤيدين عند الإفراج عنها :

- نحن نعلم أنكم أسوأ من المؤيدين وألعن من المعارضين ..


مع الشيوعيين عند خط الهدنة :

أعود من هذا الاستطراد إلي موقع السخرة في شق الترع والمصارف مع الشيوعيين في أرض الإصلاح الزراعي بالمحاريق ، بعد التنبيه علينا بعدم الاختلاط ببعض ، وإلا حاق بنا أشد العقاب ... وقد كانت الثغرة الوحيدة في هذا النظام الصارم هي دورة المياه المشتركة ، التي كان يتاح لنا اللقاء عندها ، ومن ثم أطلقنا عليها " خطوط الهدنة " . وفي البداية كان اللقاء بطريقة فردية بين صديقين قديمين ، اكتشف كل منهما وجود صاحبة في معسكر عقائدي آخر ، أو بين اثنين من الأقرباء كل منهم في طريق ، أو لغير ذلك من الأسباب العارضة ، ثم تطورت اللقاءات إلي المستوي التنظيمي ، عندما اكتشفنا ما يعانيه الشيوعيون من جوع متواصل كالذي سبق أن عانيناه ... وكنا اليوم في ظروف أفضل ، بعد السماح لنا بالتعامل من جديد مع المقصف في حدود الأجرة التي أعطيت لنا مقابل عملنا في شق الترع والمصارف ، تنفيذاً للائحة السجون ، التي تتكلم عن أجر للمسجونين دون المعتقلين . وحرصًا علي شكلية الإجراءات فقد تنازعت مصلحة السجون مع إدارة الإصلاح الزراعي حول أجرنا عن هذا العمل ، انتهي بقرار إعطائنا قرشًا واحدًا للفرد عن كل يوم عمل ، وكان هذا يعتبر ثروة ضخمة ، إذ صار هذا الأجر عبارة عن جنيهين في اليوم بالنسبة للجميع ، تصبح علي مدار الشهر ستين جنيهًا ، مما رفع علي الفور من مستوانا الاقتصادي ، وسمح لنا بتوفير فائض من الأغذية ، أو هكذا كنا نقنع للشيوعيين ، ونحن نحمل إليهم كل يوم عدداً من أكياس الخبز وجرادل العدس والفول وبعض الفاكهة ، نسلمها لهم عند خطوط الهدنة بالتساوي بين مندوب الحزب الشيوعي المصري وحزب " حدتو " ؛ لكي يقوما بدورهما بالتوزيع علي زملائهما داخل مواقع العمل ، وكنا نصدر بذلك عن وعي بطبيعة ديننا الرحيم ، وعن علمنا بواقعة مد الرسول الكريم – عليه الصلاة والسلام – لأبي سفيان بمبلغ من المال لتوزيعه علي فقراء قريش ، عندما أصابتهم مجاعة وهو علي شركهم ، وبرغم استمرار القتال بينهم وبين المسلمين ..

شيوعيون مختلفون :

والحزبان الشيوعيان يتفقان في الهدف ، ويختلفان في الوسائل ، فالأول يري عدم مهادنة أي نظام ؛ التزامًا بثورية النظرية حتى تتحقق الثورة الشاملة والتغيير الكامل ، وحزب حدتو – أي الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني – يري التدرج في التسلل الهادئ إلي المراكز القيادية في الدولة ، حتى يصلوا إلي أهدافهم بأقل الخسائر .. وكل منهما يرمي الآخر بشتى التهم التي تتراوح بين التخريب والعمالة .. وكانت تجمعهما العلاقة الطيبة معنا بحكم تزويدنا الدائم لهم بالمساعدات الاقتصادية وحل مشاكلهم مع بعض الحراس ، من مواقع كوننا " سوابق " في فن المعاملة للإدارات ، حتى أنه كثيرًا ما كانت تقوم السلطة العليا بتغيير إدارة السجن ، بدعوى أننا نجحنا في التسلط عليها ..

اجتماعات عقائدية :

وشيئًا فشيئًا أخذت الرقابة تخف ، وأخذت اللقاءات تتسع ، وأخذ الحراس يندمجون معنا كلما أمنوا مرور أحد الضباط ، وأصبحت فترة القيلولة التي يسمح لنا فيها بتناول الغداء فرصة ذهبية للندوات الخفيفة ، ولم تلبث فترات الراحة أن أطالت العمل ، وأن توزع علي فرق بعضها يعمل وبعضها يستريح .. وكان ذلك كله مصلحة اجتماعاتنا الموسعة ، التي حرصنا فيها علي أن تكون جامعة لكل الاتجاهات الحزبية ؛ حتى يسهل كشف الحقيقة دون التواطؤ عليها .. وهكذا ولدت فكرة الندوات الفكرية في جو ودي للغاية ، وزدنا الأمر إحكامًا يعمل ضوابط وضمانات لاستمرار الحوار ، بعيدًا عن كل عوامل الإثارة والتلبيس والتشنجات ، حتى نصل إلي الحقيقة سافرة ، بلا معوقات .. وقد سارت الندوات بالفعل في الطريق السليم الذي نعتبره مثلاً يحتذي لكل مختلفين في العقيدة إذا صدقت النوايا وبعدت الأغراض السياسية عنها وخلت من الجهالات .. وهيهات أن يظفر بذلك في خضم الحياة .. وقد كانت النتيجة متكافئة بالفعل مع هذه المقدمات السليمة ..

صفحة جديدة من قصة الإخوان والثورة :

وإذ كان يحلو الحديث وتكثر الندوات في فترات الراحة بين الإخوان أنفسهم ، أو بينهم وبين الشيوعيين .. فقد ازداد الحديث حلاوة ذات يوم بين أفراد فرقة العاصفة ، وهي ملتفة حول السيد محمد حامد أبو النصر عضو مكتب الإرشاد ، فوق كوم من " الردم " ، كل منهم يتكئ علي فأسه ، أو يستند علي مقطف أو كوريك . أذكر منهم عبد الرحمن البنان ، ولطفي سليم ، وجلال عبد العزيز ، وفرح جبارة ، وأحمد حسين ، وإسماعيل النشار ، وقد خطر لهم أن يسألوه في هذا اليوم عن قصة الإخوان والثورة بعد أن كثر اللغط فيها .. فأنستنا نسائم كلماته نسائم الصحراء .. أغنانا دفء عباراته عن شمس شتاء الصحراء .. قال :

- أنا أمثلكم يا أبنائي ، لم أعلم بها علي الوجه الأكمل إلا أثناء محاكمة الأخ المقدم عبد المنعم عبد الرؤوف أمام " طبالة " رئيس المحكمة ، وكنت في مقاعد الجمهور حين ناولني عبد المنعم من قفص الاتهام أوراق دفاعه ، وخصني بقراءتها قبل تقديمها لهيئة المحكمة ، التي – لحسن حظي – تأخرت في حضورها إلي أن أتممت قراءتها ، ووقفت علي التفصيل لأول مرة .. وبعدها أدركت كم كانت خسارتنا كبيرة بموت الشيخ حسن البنا – عليه رحمة الله - ؟

- ازداد التصاقنا به وهو يسرح الطرف عبر الأفق البعيد ، وعلي وجهه ابتسامة الأسد الحنون الواثق من مستقبل أشباله المتواثبين من حوله :

- البداية دائمًا علي يد الإمام الشهيد ، والسبق والابتكار والمغامرة والتفاؤل من صفات الداعية ، وكلها بعض صفاته .. فهو عندما علم بوقوع الطائرة التي تحمل عزيز المصري وهي في طريق هروبها إلي الجيش الألماني بالعلمين ، أعجب بشجاعة الطيارين الشبان ووطنيتهم التي دفعتهم إلي هذا العمل الجريء .. وكلف علي الفور الرائد محمود لبيب وكيل الجماعة العسكرية وصاحب البطولات التاريخية في حرب السلوم بتجنيد هذين الشابين في الجماعة ، وهما : عبد المنعم عبد الرؤوف ، وذو الفقار فهذه الشجاعة الفطرية إذا شحنت بطاقة الإيمان وزودت بحقائق الإسلام كانت سلاحًا نوويًا رهيبًا .. وقد كان التوفيق رائده في تجنيد عبد المنعم وحده ، الذي اندفع كالشلال في بث الدعوة في صفوف الجيش عقب لقاءاته بالإمام الشهيد ، التي ملأت قلبه بالنور ، وفكره بالوعي السليم ..

وشهدت أرض مصر ، التي كانت غارقة في فساد الأحزاب ومؤامرات القصر واحتلال الانجليز ، شهدت لقاءات سرية بين الإمام الشهيد وبين من رشحهم له عبد المنعم عبد الرؤوف ومحمود لبيب من صغار الضباط المتوقدين غيرة ووطنية ، وعلي رأسهم : جمال عبد الناصر ، كمال الدين حسين ، أبو المكارم عبد الحي ، البغدادي ، وغيرهم ... وأسندت مهمة الاتصال بعد ذلك بعبد الرحمن السندي رئيس التنظيم الخاص ، الذي أخطأ حين عيّن لأسرة الضباط أخًا يعمل مدرسًا بالمدارس الابتدائية ، ولم يكن علي مستوي هذه المسؤولية في تقديري .

- هل لنا أن نعرف اسمه ؟

- نعم ، هو الأخ أحمد زكي .. الذي طلب من الضباط في أحد اجتماعات الأسرة أن يقوموا بفك وتركيب إحدى الطبنجات ، فثار جمال عبد الناصر ، واعتبر ذلك إهانة لاختصاصهم العسكري ، وأنه كان من الأولي التحدث في القضايا العقائدية والاجتماعية وفي التحليلات السياسية .

- قال بعض الإخوة : ألم يكن جمال عبد الناصر علي حق .. وأن ما قام به ذلك الأخ هو من أخطائنا القيادية ؟ وقال البعض الآخر : علي فرض التسليم بهذا الخطأ .. لكن ثورة عبد الناصر أيضًا تكشف عن الافتقار إلي روح الأخوة ، وإلي نقص الشعور بالالتزام ، وهما خاصية جنود هذه الدعوة .. وما كان أجدره أن يفرق بين خطأ الشخص وأهمية الجماعة .. بل وأن يفرق بين أهمية الجماعة وحقيقة الإسلام .. ولو صحت المقاييس النفسية والفكرية لأخذ هو علي عاتقه إصلاح الجماعة من داخلها ، لا رغبة النيل منها ..

- وقال آخرون : وكيف عالج الإمام الشهيد هذا الموقف ؟

ثم سكتنا جميعًا حينما عقب السيد محمد حامد علي كلامنا :

- يا أبنائي .. أنتم تتكلمون تحت تأثير ما وصلت إليه الأحداث اليوم .. وأنا لا أبريء الأخ نقيب الأسرة من الخطأ ، ولا أبريء عبد الناصر أيضًا .. ولكن .. هذا حقي .. .. أبريء شخصُا واحدًا هو الإمام الشهيد حسن البنا ؛ لأن الأمر لم يتجاوز يومها صورة سوء تفاهم بين اثنين في إحدى الأسر العديدة داخل الجيش والبوليس والقضاء والنقابات وكل مستويات الأمة .. أنتم تتكلمون وفي ذهنكم صورة جمال اليوم ، لا صورة جمال الأمس العادية ، وإن كنت قد علمت أن تصرفات شبيهة بالتي حدثت قد حدت بالإمام الشهيد أن يجعل صلة الضباط به مباشرة ... والآن نستأنف قراءاتنا في أوراق دفاع عبد المنعم عبد الرؤوف ..

جاء فيها أن وفاة الإمام الشهيد قد عجلت بالأزمة داخل الجيش ؛ حيث قرر جمال عبد الناصر أن يعمل بالجناح العسكري منفصلاً عن جناح الجماعة المدني ، الذي " لم يستقر بعد علي مرشد جديد ، حتى يتاح لنا ضم أي عنصر وطني في الجيش دون التقيد بالاتجاه الفكري ، طالما أن هناك قضية وطنية تهم الجميع ، فضلاً عن أن الرجل الوحيد الذي كنا نثق به قد مات " ... وعارضه في ذلك عبد المنعم عبد الرؤوف ، الذي كان يغلَّب صفة الجندية الملتزمة علي أي صفة عسكرية ، قائلاً : " إن واجبنا كأفراد في جماعة أن تعطيها حقها في اختيار المرشد الجديد ، وأن نشارك في ذلك أيضًا دون أن نفتات في النهاية علي حق القيادة الجديدة في تقدير الأمور ، وإلا تحطم هذا العمل الإسلامي الكبير من سنوات طويلة .. منذ سقطت الخلافة الإسلامية ولا ننسي أن هذه الأمور للإسلام أولاً وأخيرًا ، وفي ظله تحل مشاكلنا الوطنية " . استحال التوفيق بين الرأيين اللذين استقطبا عدداً كبيرًا من الضباط ، وكان أكثر الناس فزعًا لهذه النتيجة هو المرحوم محمود لبيب الأب الروحي لكل هؤلاء .. وقد أسرع بعمل اجتماع للجناحين العسكريين في منزله بحي الظاهر .. ولم يأت الاجتماع بالنتيجة المرجوة مما عجل بوفاته همّاً وغمًا ، وإن كانت الأعمار بيد الله .

هذا ما آل إليه الأمر في تنظيم الجيش قبل قيام الثورة مباشرة ، ومن ثم فقد ظل التعارف بحكم الضرورة قائمًا في الوسائل لا في الغايات ، وعلي اعتبار تكتيكي من جانب الإخوان بأن يجعلوا الضباط الأحرار هم رأس الحرية في قيام الثورة .. وهذا يفسر سر معرفة الجماعة وحدها دون غيرها من الأحزاب والهيئات بموعد قيام الثورة ، وسبق أبنائها إلي حراسات المنشآت ؛ لأنها ببساطة ما كانت الثورة لتقوم بغير رضا الإخوان . شغلنا الحديث الشيق عن حرارة الشمس التي كانت وادعة منذ قليل ، وشغلنا عن لفح الرياح التي كانت منذ قليل نسائم الصباح .. فلما دوت صفارات العودة من الجبل قمنا برؤوس مثقلة وبصدور مشغلة ، واتجهنا إلي حيث تقف عربات النقل التي يختلط فيها الإخوان بالشيوعيين ، بدون تخصيص بعكس ما يحدث في الصباح .. لم يبق علي قيام العربات سوي انتظار من مازالوا عند خطوط الهدنة ، ولم نذهب إلي خطوط الهدنة في هذا اليوم ؛ لأن هذا الحديث الهام قد فوّت علينا هذه الفرصة التي نحرص عليها كل يوم تقريبًا ، وإلا أننا لم نأسف في هذا اليوم علي فواتها ...


الفصل الحادي عشر : ( بالأمر العسكري جرت المباراة بكرة القدم - احترف التحنيط .. فنجا من التعذيب )

استشعارًا لمسؤوليته عن إخوانه .. وأداء لأمانته نحو دعوته وأمته ، وارتفاعًا فوق الآلام الذاتية ، أراد أخ كريم محنك الرأي .. رقيق القلب .. لطيف المعشر .. صلب الإرادة ، هو عمر التلمساني ، عضو مكتب الإرشاد ، والشرف العام علي الإخوان ... أن يسد فجوة عدم الثقة بيننا وبين المسؤولين في الدولة ، وأن يفتح طريقًا للتفاهم لطرد هذه الصفحة السوداء ، فرفع إلي المسؤولين عن طريق إدارة السجن مذكرة كبيرة حول أهمية اللقاء المباشر مع من يهمهم الأمر كبديل لهذه الأساليب البربرية .. فعل ذلك ؛ إعذارًا إلي الله ، وتحمل بعض العنت من قلة من الإخوان أبوا هذه الخطوة عليه .. كذلك وبالدوافع نفسها لم يشأ الأخ رشاد المنيسي ، المسؤول العام ، أن يُفلت إحدى الفرص المتاحة للتفاهم الكريم ، فعندما علم بوصول حسن المصيلحي مستشار رئيس الجمهورية للأمن الداخلي بصحبة أحمد صالح داود من المباحث العامة لمقابلة الشيوعيين ، دبر مع قائد السجن – وهذه من حسناته – أمر مقابلتهما كزميل سابق لهما بالشرطة .. يشرح لهما خطأ السياسة المتبعة معنا وعواقبها علي الأمة .. وأن في مقدورهما أن يكونا رسل خير في هذا السبيل ..

أما الأستاذ عبد العزيز عطية أكبر أعضاء مكتب الإرشاد سنًا ، والأب الروحي للجميع ، والذي وصفته التقارير السرية بأنه لا يشغله إلا قيام الليل وقراءة القرآن والنيل من جمال عبد الناصر . فقد تحين مناسبة العيد وكتب بطاقة معايدة للشيخ شلتوت شيخ الجامع الأزهر – وقعت في يد إدارة السجن – يذكّره فيها بمسؤولية العلماء في مواجهة الطغاة .. وكادت الكارثة أن تقع عندما ثار المأمور ، واستدعي الأستاذ عبد العزيز لمكتبه ، وحدثت مشادة بينهما ، همَّ فيها كل منهما بلكم الآخر ، وهجم فيها الشيخ الجريء علي المأمور الذي تراجع مأخوذًا بالمفاجأة .. وجاء تدخل النقيب البربري في الوقت المناسب ليحول دون وقوع الكارثة ..


مباراة في كرة القدم بالأمر العسكري :

سارت الحياة كالمعتاد بعد تلك المواقف القوية .. ولم يطرأ أي تغيير علي برنامجنا اليومي من الجبل وإليه .. ومن تفتيش إلي تفتيش .. حتى ألفنا جو التكدير ، وتمرسنا علي مواجهة كل موقف صعب . وحيث إن الليالي الحبالي يلدن كل عجيب ، فقد تعرضنا لموقف جديد لا علاقة بالسياسة ، خُيًَّرنا فيه بين مزيد من التكدير أو جلب التيسير ؛ لأنها مسألة كرامة لإدارة السجن بصفة عامة وللمأمور بصفة خاصة .. هذا ما أكده لنا المأمور فور عودتنا من الجبل معفرين بتراب الطريق ، عندما جمعنا خارج الزنازين بحضور ضباط الإدارة ... يومها تقاذفتنا الظنون في سبب هذا الجمع الطارئ .. هل لأننا قصرنا في المقطوعيات ينوي أن يفتك بنا ؟ هل نمي إلي علمه ما يجري بيننا وبين الشيوعيين من ندوات ، يمكنه في أي وقت تصويرها علي أنها جبهة معادية للثورة تخول السلطة فعل أي شيء بنا .. واحتبست أنفاسنا عندما بدأ يتكلم بحساب : - ستنازلون بعد ساعة فريق كرة القدم لسلاح المهندسين بالوادي الجديد .. استعدوا لأسوأ معاملة إذا انهزمتم ، وإلي فتح الأبواب وزيادة العمل مع المقصف إذا انتصرتم ؛ لأنها مسألة كرامة في الدرجة الأولي لإدارة السجن ولي بصفة خاصة ..

وانصرف علي الفور بعد هذه الكلمات المعدودات .. ووسط الاندهاش والتعجب تكوّن الفريق لم يتدرب يومًا واحدًا منذ أكثر من سنتين ، وبذل الأخ محمد مهدي عاكف التربية البدنية ، وقائد جامعة عين شمس سابقًا أيام معارك القتال مع الانجليز .. كل جهده في توجيه الفريق إلي خطة اللعب .. ونحن بدورنا حملنا الفريق توصياتنا بأن يستشهدوا في أرض الملعب .. وتقدمنا الفريق إلي الملعب ونحن وراءه صفين في حراسة السجانة ، حيث أجلسنا في الجهة المقابلة للمنصة التي يجلس عليها المأمور وضباط السجن وضباط سلاح المهندسين ، محاطين بجنود الجيش عليها المشجعين ، بأيديهم الطبل والمزامير . ولم يلبث السجانة أن أحضروا طابور الشيوعيين المسجونين إلي حيث جلسوا قريبًا منا ، وبدأت المباراة حامية ومثيرة ، فإذا ما أحرز فريق السجن هدفًا أو أدي لعبة فنية التفت إلينا الرقيب الأول ، الذي يحيط صفوفنا بالسجانة ، وأمرنا قائلاً :

- صفقوا ... فنصفق بشدة ... إلي أن يلتفت ثانية ويقول :

- قفوا ... فنتوقف ...

ولطرافة الموقف التزمنا تعليماته ، أو ألزمنا مشاعرنا تعليمات الرقيب في ذلك .. فإذا ما غلبتنا المشاعر لدينا عليه .. أنصفق هنا يا حضرة الصول ، فلا يلتفت إلينا ، ويكتفي بقوله : - نعم صفقوا ... فتنهمر أكفنا بالتصفيق وسط الضحكات كالإعصار ، فإذا ما قال : قفوا ، سكنت العاصفة مرة واحدة ..

وكانت النتيجة لصالح فريق السجن بثلاثة أهداف لهدف واحد لسلاح المهندسين ... فانتشي المأمور والضباط وبرَّ بوعده معنا لعدة أيام متتالية ، قبل أن ينجح الحقد الأصفر – أي : عبد العال سلومة – في إعادة الحياة في السجن إلي سيرتها الأولي ...

نبأ الأفناك :

شخص واحد استطاع أن يفلت بمهارة من كل صور التكدير منذ الأيام الأولي للسجن حتى اليوم ، وكان يعتبر المنافس الوحيد لإبراهيم أبو العيش المشرف علي مجلة مصلحة السجون .. فهو في عهد المأمور ضياء ، وكذلك في عهد المأمور شنيشن ، محل تكريم وإعفاء من أعمال السخرة ، بل كان الضباط يتوددون إليه .. فكان لذلك صمام أمان بيننا وبين إدارة كلما تأزمت الأمور ... هذا الشخص هو الأخ عبد القادر حميدة الموظف بكلية الزراعة .. روحه مرحة .. حديثه خلاب ، ولكن لا علاقة لذلك بوضعه .. فالسبب الرئيسي يكمن في أصابعه الماهرة ، التي التقطت في أول يوم خروجنا فيه إلي الجبل أحد السلاحف الجبلية ، ونجح في تحنيطه ، وقدمه هدية لأحد الضباط ، فلفت إليه الأنظار ، وبدأ يتوسع في تحنيط الحشرات والطيور الجبلية والزواحف ، والصحراء لم تبخل عليه بالأصناف النادرة والأشكال العجيبة ، وما أسرع ما خصصت له الإدارة حجرة خاصة في مرافق السجن ، يباشر فيها هوايته لحسابهم ولحساب أصدقائهم من ضباط المحافظة وكبار الموظفين .. وذاعت شهرته ، وصار مرفقه مزارًا لكل قادم إلي السجن . ومن طرائف ما جري أنه أهدي ذات يوم بومة محنطة للمأمور التركي ضياء ليزين مكتبه .. وما أن خرج عبد القادر من المكتب حتى أصيب المأمور بمغص كلوي حاد .. ولما تجمع الضباط والسجانة حوله أمرهم بإحضار عبد القادر فورًا .. فأخذوه إليه وهو منزعج ، ولما دخل عليه قال له :

- انزع هذه البومة فورًا ، واخرج من أمامي .. ألم أقل لك إنها تجلب الخراب .

- فقال : يا سيادة المأمور ... هذه اعتقادات باطلة ، وأنت رجل متعلم ... إنها مجرد طائر مثل بقية الطيور ، والتشاؤم ليس من الإسلام .. وأنا أملك شخصيًا بومتين في بيتي .. فضحك المأمور قائلاً :

- وهذا سر خراب بيتك ودخولك السجن .. فأسقط في يد عبد القادر ولم يجد جوابًا .

ولهذا الأخ الظريف قصة أخري في عهد المأمور الثاني شنيشن ، أبطالها هذه المرة زوج من الثعالب ، صغيرة الحجم ، ناصعة البياض ، حوراء العيون ، نادرة النوع ، تسمي أفناك ، ومفردها فنك .. سال لفروتها لعاب كل من في السجن والمحافظة .. وعبد القادر يمني الجميع بوصلها بعد أن يشتد عودها .. وقوي مركزه ، وتدعمت امتيازاته ، وزادت مقرراته . وذات يوم نسي باب قفصها مفتوحًا ، فحفرت لنفسها سردابًا تحت الجدار ، وهربت منه بليل إلي الصحراء الواسعة .. وجن جنون عبد القادر بعد أن تبخرت أحلامه وتهدد مركزه لدي الإدارة ، ولامه المأمور والضباط ، ونقصت مقرراته من اللبن واللحم . وأحدث الخبر هزة كبيرة في السجن ، وتعليقات لاذعة من إخوانه أقعدته داخل الزنزانة ، ولم يجرؤ علي السير في أرجاء السجن .. وانتهز الإخوان الفرصة وذهبوا بعد عودتهم من الجبل يعزونه في مصابه ، وبعضهم علق شارة السواد علي صدره ، إمعانًا في المزاح ، واكتظت زنزانته بالإخوان وعلي رأسهم القيثارة البشرية سعد سرور وقريته أحمد حسين ، والمجموعة معهما تردد أغنية ...

هـاتي الدمـــوع يا عـين

وأبـكي عـلـي الفـنـكيـن

بعــد التـعـب مــا طال

طاروا فـي غـمـضـة عين

وقمت بدوري بعمل موشحة غنائية ، وذهبت إليه ومعي بطانة تردد تلحين الموشحة الطويلة التي تحكي القصة كاملة :

هل جــاءك أمـر الأفنـاك

الضـاحك منهـا والبــاكـي

لـما مكـرت مكـراً حـسنًا

لـمـا خـشـعـت كـالنساك

لـما حلفـت إلا وضـعـت

عـبـد القــادر فـي الأشراك

لـما فـطنـت لمؤامـــرة

دبـرهـا سـاعـة إمـســاك

يأتـيـهــا باللحم المشـوي

ويمصــمص عظــم الأوراك

قـالت لرفيـقـة محنـتـها :

ويـلي مـن هذا الـســفــاك

مـا حـبّـًا مـنه ولا كـرمًا