حادثة المنشية
حادث المنشية تمثيلية أم خداع؟*
ذكرت ما كنت أعانيه من قلق وحيرة وأسى، نتيجة الانقسام الحاد في صفوف الجماعة التي عشنا فيها شبابنا، ونذرنا لها حياتنا، وقد علمنا من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وقائع التاريخ: أن شر ما تصاب به الجماعات هو انقسامها على أنفسها، وتفرق أبنائها فيما بينهم.
قرأنا في القرآن قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:46) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (آل عمران:100) أي بعد وحدتكم متفرقين، وبعد أخوتكم متعادين، كما تبين أسباب النزول للآيات.
وقرأنا قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: "لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" وقرأنا في التاريخ أن معظم ما أصاب المسلمين من هزائم وانكسارات كان سببها افتراق أمرائهم وملوكهم فيما بينهم.
وطالما ذكرّنا الإخوان بقول إمامهم الشهيد: أنا لا أخاف عليكم من الإنجليز ولا من الأمريكان ولا من غيرهم، إنما أخاف عليكم من أنفسكم: أن تعصوا الله فيتخلى عنكم، أو أن تتفرقوا فلا تجتمعوا إلا بعد فوات الفرصة.
وشاء القدر الأعلى أن يخرجنا من هذه الحيرة والأسى الذي أرق جفوننا؛ حادث خطير، اهتزت له أركان مصر عند إذاعته على الهواء، وقدر لنا أن نسمعه أول ما أذيع، ألا وهو (حادث المنشية) الشهير، ومحاولة اغتيال عبد الناصر أثناء خطابه في ميدان المنشية الشهير بمدينة الإسكندرية، وأذيع أن الذي حاول الاغتيال من أعضاء الجهاز السري للإخوان المسلمين.
وهنا دخلنا في مرحلة جديدة، فقد أصبح الإخوان ـ وبخاصة من كان له منهم نشاط معروف ـ مطلوبين للثورة، وقد ذكرت أني اعتقلت من قبل في ليلة الامتحان، ولولا شفاعة الأستاذ البهي ما خرجت، والآن لم تعد تنفعنا شفاعة الشافعين، ولا عاد في مقدور أحد أن يشفع لأحد، والرحى دائرة، والوطيس حامٍ.
وقد منح هذا الحادث كل الفرصة لعبد الناصر، ليضرب بيد من حديد، ويأخذ الإخوان كلهم بجريرة هذا الحادث الذي اتهم جماعة الإخوان وقيادتهم بتدبيره.
أما كيف تم هذا الحادث؟ ومن المسؤول عنه؟ وما مدى مسؤولية الجماعة وقيادتها ومرشدهم العام عن هذا الحادث؟
فيلزمنا أن نقف هنا قليلا ـ بل طويلا ـ لننظر في تسلسل الأحداث، وكيف مضت في تسارعها، قبل أن نسارع بتصديق الاتهام أو تكذيبه.
ولا نزاع أن الجو كان مكهربا، والعلاقة كانت متوترة، بل مشتعلة بين الإخوان والثورة منذ مدة، وزادها اشتعالا وتوترا اختفاء المرشد العام الذي طال نسبيا، وإصدار النشرات السرية التي كانت باستمرار تنتقد الثورة، أو قل تهاجمها بعنف في سياستها، وتتهمها بأشياء يصعب على الثورة أن تسكت عنها، وقد فشلت كل الجهود التي حاولت التقريب والمصالحة بين الطرفين، مثل محاولة الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم التي قدم فيها مذكرة، وحكاها بتفصيل في كتابه: "الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ" الجزء الثالث ـ وقد أشرنا إليها من قبل.
تسلسل الأحداث
ونذكر هنا ما رواه د.ريتشارد ميتشل في كتابه عن (الإخوان) حيث يقول عن تلك الفترة:
(في 4 أكتوبر زار "يوسف طلعت" الهضيبي في الإسكندرية، وأخبره بوجود الكثير من البلبلة واللبس الفكري في الصفوف حول أفضلية ما يجب عمله ونوع ذلك العمل، وطلب من المرشد أن يخرج على الناس، حتى يوضح الأمر، ويرفع من الروح المعنوية المتدهورة للجمعية، وقد أجاب الهضيبي أن مكتب الإرشاد يرغب في أن يبقى مختفيا، كما أخبره أنه أحس بالقلق في الأيام القليلة الماضية من خشية احتمال وقوع عنف واغتيال، وأضاف: "إذا أردتم القيام بمظاهرة تؤيدها جميع طبقات الشعب، فذلك هو الصواب"، ومع ذلك فيجب أن تقتصر المظاهرة على المطالبة "بحرية الصحافة، وبمجلس نيابي، وبعرض اتفاقية الجلاء على الشعب"، كما يجب أن تكون "مظاهرة شعبية"، وأكد: أنه يرفض قبول أي "عمل إجرامي"، مؤكدا أنه يعتبر نفسه "بريئا من دم أي شخص كان".
بهذا الوضوح الذي يضاهي شمس الضحى في الظهور، كان جواب المرشد العام الأستاذ الهضيبي عليه رحمة الله، وكان رجلا مستقيم الفكر والسلوك لا يعرف الالتواء، ولا اللعب بالألفاظ، فلا يمكن أن ينسب إليه أحد من المفترين أنه وافق على أي خطة فيها اغتيال. وقد وضح الصبح لذي عينيين.
في هذا الوقت كان هناك شخص واحد، يفكر وحده في علاج هذه القضية ـ قضية علاقة الإخوان بالثورة ـ بطريقته الخاصة. هذا الشخص هو هنداوي دوير المحامي.
وأنا أعرف هنداوي دوير وأعرف نوع تفكيره، فقد لقيته عدة مرات بالمحلة الكبرى، إذ كان يعمل في مصنعها قديما قبل أن يحصل على ليسانس الحقوق، وينتقل إلى القاهرة، ومن عرف "دوير" عرف أنه رجل ذكي، ورجل مغرور، ورجل متحمس عجول. كما أنه رجل مخلص للدعوة لا يمكن أن يتهم بخيانة أو عمالة للخصوم.
تفكير هنداوي دوير يقوم على أن هذا النظام يعتمد في بقائه على شخص واحد، هو سنده وعموده الأساسي، فإذا سقط هذا الشخص سقط النظام كله، هذا الشخص هو جمال عبد الناصر، وكيف يذهب أو يسقط عبد الناصر عمود النظام الثوري؟ إنه أمر في غاية السهولة: رصاصات يطلقها رامٍ ماهر في صدره، فيخر صريعا، ويخر معه نظامه أيضا.
فهل عجزت جماعة كبرى كالإخوان أن يكون فيها رام ماهر؟ كلا. بل هو موجود، بل هو أقرب ما يكون إليه. إنه في شعبته نفسها. إنه الشاب الرامي الحاذق (النشانجي) محمود عبد اللطيف السباك أو السمكري المعروف.
ما أبسطه من حل، وما أسهله من علاج، لا يحتاج إلى جماعات مسلحة، ولا إلى تدبير انقلاب على نظام الحكم، وما يحتاج إليه من إمكانات وتدبيرات، وما يحوط به من محذورات وتخوفات. بخلاف هذا الحل الذي يقوم على مجرد يد رامية ماهرة وعدة رصاصات!!
ولم يفكر المحامي الذكي المعجب بنفسه: ما العمل إذا أخفق هذا الحل، وفشلت هذه الخطة؟ لم يسمح لنفسه أن يفكر في الوجه المقابل؟ بل افترض النجاح أبدا.
اختار هنداوي دوير محمود عبد اللطيف، وأوهمه أنه مكلف من قيادة الإخوان باغتيال عبد الناصر. ودوير هو رئيسه في شعبة إمبابة، وله عليه حق السمع والطاعة. وكما يقول ريتشارد .ن- ميشل: أمهله ثلاثة أيام ليتخذ قراره.
وفي 19 أكتوبر ـ وهو اليوم الذي أمضى فيه عبد الناصر المعاهدة مع بريطانياـ قبل عبد اللطيف مهمة اغتياله بسبب "ارتكابه الخيانة" بإمضاء المعاهدة التي "ضيعت حقوق البلاد"، ووضعت الخطط للقيام بهذا العمل في نفس اليوم، إلا أن الظروف التي أحاطت بعبد الناصر في الاجتماعات العامة لم تساعد على تنفيذ الخطة بنجاح، وبناء على ذلك فقد أجّل تنفيذها لوقت أكثر ملاءمة.
وفي 24 أكتوبر قام كمال خليفة وكان من أكثر أعضاء مكتب الإرشاد احتراما بزيارة لجمال سالم نائب رئيس الوزراء، وقدم التهنئة للحكومة على إكمالها المفاوضات وإمضائها للمعاهدة، وشاع من مصادر يعتد بها أن الهضيبي قرر إصدار بيان جديد يبين فيه انطباعه الحسن عن المعاهدة، على خلاف انطباعه عن الخطوط الرئيسية السابقة للاتفاق، واستمرت "لجنة الاتصال مع الحكومة" في جهودها لرأب الصدع. وفي عصر يوم 26 أكتوبر كان أحد أعضاء مكتب الإرشاد، في مكتب أنور السادات ليطلب تحديد موعد مع رئيس الوزراء لحل بعض المشاكل القائمة، وفي نفس الوقت زار عبد العزيز كامل أحد الأعضاء البارزين في الجماعة ورئيس قسم الأسر منزل صديقه هنداوي دوير[1]الذي كان زميلا له في شعبة إمبابة بقسم القاهرة، ولم يذكر دوير لعبد العزيز كامل آنئذ أنه عمل على إرسال عبد اللطيف إلى الإسكندرية في صباح ذلك اليوم كجزء من المؤامرة الإرهابية.
وفي المساء حيث وقف عبد الناصر[2] أمام جموع حاشدة، ليذكر مصر وجهوده الوطنية الشخصية، وليحتفل بنتائجها التي تجلت في اتفاقية الجلاء، أطلقت عليه النار ثماني مرات، وتوقف رئيس الوزراء لحظة ستظل ذكراها الحزينة باقية لأمد طويل، وقطع خطابه حينما دوت الطلقات النارية، ثم استأنف الكلام، وقد تمكن وحده من حفظ النظام حينما اخترق أثر هذه الرصاصات نفوس الجماهير، ولم تمض ساعات حتى أذيعت كلمات عبد الناصر في تلك اللحظة وتكررت إذاعتها في القاهرة ومنها إلى سائر العالم العربي. قال عبد الناصر:
"أيها الشعب ... أيها الرجال الأحرار... جمال عبد الناصر من دمكم، ودمي لكم، سأعيش من أجلكم، وسأموت في خدمتكم، سأعيش لأناضل من أجل حريتكم وكرامتكم. أيها الرجال الأحرار... أيها الرجال... حتى لو قتلوني فقد وضعت فيكم العزة، فدعوهم ليقتلوني الآن، فقد غرست في هذه الأمة الحرية والعزة والكرامة، في سبيل مصر وفي سبيل حرية مصر سأحيا، وفي خدمة مصر سأموت"[3].
لم يصب رئيس الوزراء، فأتم خطابه، واستأذن من الجماهير منصرفا. لقد أمده هذا الحادث بفرصة العمر الوحيدة التي تمتع بها ذلك الوقت في صراعه العدائي الذي تميزت به علاقته مع الشعب الذي حاول أن يحكمه، كما أمده دون جدال بفرصة الإجهاز على الإخوان المسلمين. وفي 9 من ديسمبر اللاحق شُنق ستة من الإخوان وكان قد اُعتقل آلاف منهم، وقضي على الجماعة قضاء مبرما. وبهذه الأحداث ينتهي هذا الفصل.ا هـ.
أما القضاء المبرم على الجماعة، فهو أمر توهمه عبد الناصر ومن معه يوما، ثم تبين لهم أنهم واهمون، وأن الإخوان أرسخ جذورا، وأعمق امتدادا مما ظن الظانون، ورغم ما حشده عبد الناصر ورجاله من كل أدوات التعذيب البدني والنفسي، فإن الدعوات الربانية لا يقضى عليها بالسجون تفتح، ولا بالمشانق تنصب، ولا بالسياط تلهب، ولا بالأموال تصادر، بل ربما زادها ذلك يقينا وثباتا.
وقفة للتأمل.. من المسئول؟!!
1ـ من الواضح الجلي، ومن المؤكد المستيقن: أن قيادة الإخوان لا تتحمل وزر هذا الحادث، عند كل دارس أو مراقب عنده ذرة من عقل أو إنصاف.
فقد أكدت كل المصادر: أن المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي كان ضد فكرة الاغتيالات بكل قوة ووضوح، وأعلن هذا بصريح العبارة لرئيس الجهاز السري: إنه برئ من دم أي شخص كان، وهذا ما شهد به الخاص والعام، وأن النظام الخاص أو الجهاز السري للجماعة، لم يكن هو المدبّر لها ولا المسؤول عنها. إنها في رقبة هنداوي دوير رحمه الله، الذي أراد أن يقوم عن الجماعة بتنفيذ ما فرطت فيه في نظره! ومن يدري ربما لو نجحت خطته لأصبح من الأبطال، وعدّ منقذا للدعوة.
وبقدر اندفاعه في التدبير والتنفيذ، كان اندفاعه وانهياره السريع عند فشل الخطة، ويظهر أنه أيقن أن كل شيء قد ضاع، ولم يبق إلا أن يقر ويعترف بكل شيء، فسارع إلى تسليم نفسه طوعا واختيارا، كما يبدو أنه ساومهم أو ساوموه على أن يكون (شاهد ملك) كما يقولون، وفي مقابل اعترافه يعفى من العقوبة أو تكون مع إيقاف التنفيذ أو نحو ذلك، ولكنهم لم يفوا له بما وعدوه، وربما كان هذا هو السبب في صياحه ساعة ساقوه إلى حبل المشنقة: ضحكوا عليَّ .. خدعوني.. ضحكوا عليّ، مش دا اتفاقنا...إلخ.
وبعض الإخوان اتهموا هنداوي ـ أو كادوا ـ بأنه كان عميلا للثورة في ذلك الحادث، وأنا أستبعد هذا كل الاستبعاد على الرجل، وإن كان هناك علامات استفهام في القضية لم نجد لها حتى الآن جوابا مقنعا.
ولكن يبدو أن هنداوي ـ رحمه الله ـ كان ثرثارا، ولم يكن كتوما كما ينبغي، حتى ذكر الأستاذ فريد عبد الخالق: أنه قال في المركز العام أمام عدد من الناس: لازم نقتل جمال، وأن محمد الجزار، رجل البوليس السياسي في عهد الملكية سمعه، وربما أبلغ ذلك إلى الجهات المسؤولة.
كما أن هنداوي طلب من محمود الحواتكي رئيس الجهاز السري في محافظة الجيزة مسدسا لمحمود عبد اللطيف لينفذ به مهمة الاغتيال، فرفض إعطاءه، قائلا: إن المرشد يرفض فكرة الاغتيال مطلقا. وربما كان هذا أو غيره سبب تسرب الخبر، لا يستطيع أحد الجزم.
2ـ وهكذا يبدو من سير الحوادث: أن سر هذه المؤامرة لاغتيال عبد الناصر قد انكشف قبل أن تقع الواقعة، وأن عبد الناصر علم بها، وعلم من المكلف باغتياله، ولكنه لم يقبض على الشخص، ويودعه السجن، كما يتوقع في مثل هذه الحالات، بل أراد أن يستفيد من الحادثة بعد أن انكشف قناعها.
أما كيف انكشفت فعلم ذلك عند الله تعالى. ولكن سمعت من بعض الإخوان: أن أحد رجال الأمن ـ نسي اسمه ـ قال في مقابلة تليفزيونية في القاهرة: إن الأستاذ عبد العزيز كامل ـ وكان يسكن في إمبابة مع هنداوي دوير في بناية واحدة ـ علم بتدبيره عملية اغتيال عبد الناصر، فأفهمه خطورة هذا العمل، وسوء أثره على الجماعة، وحاول أن يثنيه عن عزمه، فلم ينثن، فلما رأى تصميمه على التنفيذ، أراد أن يبلغ قيادة الجماعة، لتمنع هنداوي من تصرفه المنفرد، ولما لم يستطع الوصول إلى قيادة الجماعة لاختفاء المرشد: اتصل بمن يعرف من رجال الأمن، وأبلغهم بنية هنداوي، ليبرئ ذمة الجماعة، وكان غرضه أن يقبضوا عليه وعلى محمود عبد اللطيف، قبل أن يحدث أي شيء.[4] وأبلغ مسؤول الأمن عبد الناصر، ولكنه لم يقبض على المدبِّر، ولا على المكلف بالاغتيال، لأمر أراده، كما تدل على ذلك الشواهد التي نأخذها من تعليقات الأستاذ صالح أبو رقيِّق أكثر من اهتم بهذه القضية والتعليق عليها. من ذلك:
1ـ استبعاد أن يخفق مثل محمود عبد اللطيف في إصابة هدفه، وهو أمهر رام عرفه إخوانه في حرب فلسطين. والمسافة قريبة، وقد أطلق ـ كما قالوا ـ ثماني رصاصات. ولم تصب عبد الناصر ولا أحدا ممن كان في المنصة.
2ـ وقع الحادث في مساء 26 أكتوبر، وظهرت صحف الصباح ـ صباح 27 أكتوبر 1954 تحمل في صدر صفحاتها الأولى نبأ القبض على الجاني الأثيم بدون نشر صورته.. قالت جريدة الأهرام:
"لم يكد الجاني الأثيم يطلق رصاصاته الغادرة، حتى كان الجمهور قد هجم عليه، وعلى ثلاثة أشخاص يقفون على مقربة منه، ودخان الرصاص يتصاعد من حولهم، وكاد يفتك بهم، لولا أن بادر رجال البوليس والمخابرات بالقبض عليهم، وضبط السلاح في يد الجاني. (هكذا نشرت جميع الصحف، كما أنه لم ينشر شيء بعد ذلك عن الثلاثة الآخرين الذين قيل أنهم ضبطوا مع الجاني) وقد اقتيد الأربعة إلى نقطة بوليس شريف.. ويدعى الجاني محمود عبد اللطيف، ويعمل سباكا في شارع السلام بإمبابة".
(وهنا سؤال: لماذا لم تنشر صورة الجاني في الحال؟).
3ـ وقد عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 36 ملليمتر، وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي ضبط مع المتهم، إذ إن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع المشط الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة"!!
وكان هذا ما نشرته جريدة الأهرام في عددها الصادر يوم 27 أكتوبر1954. وأثار ذلك التساؤل عن سر اختلاف الأظرف الفارغة عن طلقات المسدس المضبوط في يد الجاني.. وبدأت همسات: هل هناك شخص آخر؟!
وفي نفس العدد نشرت الصحف أن الجاني ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين.
وتوالى في الأيام التالية نشر اعترافات محمود عبد اللطيف، وأنه من الجهاز السري للإخوان المسلمين.. وكان مكلفا باغتيال عبد الناصر، لتبدأ حركة اغتيالات لبقية أعضاء مجلس الثورة و160 ضابطا من الضباط الأحرار، والقيام بثورة، وأن الجهاز السري كان سيقف أمام أي تحركات مضادة.
ومع الاعترافات بدأ نشر أنباء اكتشاف مخازن أسلحة للجهاز السري، والقبض على أفراده، ومخازن في جميع محافظات الجمهورية.. ومتهمين من مختلف الفئات والمهن.. طلاب بالجامعات ومحامين ومدرسين وعمال وفلاحين وضباط بالجيش وضباط بوليس وتجار..أي من فئات الشعب جميعها: العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية.
4ـ وكان الناس في لهفة شديدة لمعرفة شكل الجاني الأثيم.. ومضت خمسة أيام كاملة دون أن تنشر له صورة واحدة.. وأخيرا نشرت صورته، وآثار التعذيب واضحة تماما على وجهه.. ونشر تحتها أنها صورة للجاني، ويبدو فيها آثار اعتداء المواطنين عليه وقت القبض عليه!!
ظلت أحاديث الناس تتناول في كل المجالات ما كان يعتزمه الإخوان المسلمون من خراب للبلاد.. كان الناس تستقي معلوماتها مما تنشره الصحف.. وكان بعض المفكرين يراودهم الشك في حقيقة الحادث من ضبط الجاني والمسدس في يده، والعثور على طلقات رصاص من عيار لا يطابق رصاص المسدس ولا يريدون أن يصدقوا أن الحادث من تدبير الإخوان.
5ـ وفجأة وبلا أي مقدمات ـ يوم 2 نوفمبر1954أي بعد الحادث بستة أيام نشرت جميع الصحف الصباحية صورة الرئيس السابق جمال عبد الناصر وأمامه عامل بناء ممسكا بمسدس. ومع الصورة حكاية مثيرة.. تقول الحكاية إن عامل البناء خديوي آدم.. وهذا اسمه.. كان يستقل الترام يوم الحادث عائدا إلى منزله.. عند ميدان المنشية شاهد جماهير من الناس مجتمعة وسأل عن سر تجمعهم، ولما علم أن عبد الناصر سيلقي خطابا نزل من الترام واندس وسط الجماهير.
وعندما دوى صوت طلقات الرصاص وساد الهرج الآلاف المجتمعة سقط فوق الأرض، وشعر بشيء يلسعه في ساقه.. وتحسسه فوجده مسدسا وكانت ماسورة المسدس لا تزال ساخنة.. وأيقن في الحال أنه المسدس الذي استخدمه الجاني في إطلاق الرصاص على زعيم البلاد!! ووضع المسدس في جيبه واعتزم بينه وبين نفسه ألا يسلم المسدس إلا لعبد الناصر شخصيا.
وتستطرد القصة في استكمال حبكة خيوطها، وحتى لا يتساءل القارئ عن السر في عدم تسليمه المسدس في نفس الليلة وانتظاره خمسة أيام.. فتقول القصة:
إن العامل خديوي آدم رجل فقير جدا يوميته 25 قرشا.. ولم يكن يملك ثمن تذكرة قطار أو أوتوبيس يحمله إلى القاهرة.. فسار على قدميه المسافة من الإسكندرية إلى القاهرة.. فوصلها يوم أول نوفمبر، وتوجه في الحال إلى مجلس قيادة الثورة، وطلب مقابلة جمال عبد الناصر.. وأعطاه المسدس فكافأه عبد الناصر بمائة جنيه!!
وهكذا ظهر سلاح جديد في الجريمة طلقاته من عيار 36 ملليمتر لتكون من نفس أظرف الطلقات التي عثر عليها.. واختفت تماما سيرة المسدس الذي ضبط في يد الجاني لحظة القبض عليه..
هكذا أراد الحاكم ورجال التحقيق...
وفي اليوم الثاني مباشرة نشرت الصحف أن الجاني تعرف على المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم، وقرر أنه نفس المسدس الذي استخدمه لاغتيال عبد الناصر، وأنه تسلمه من رئيسه في الجهاز السري المحامي هنداوي دوير. وتعرف هنداوي هو الآخر على المسدس وقرر أنه نفس المسدس الذي أعطاه للجاني، وكان رئيسه في الجهاز السري المحامي إبراهيم الطيب أعطاه له ليسلمه للجاني!
هكذا تعرف الاثنان على سلاح الجريمة.. وهكذا اختفت تماما سيرة المسدس الأول الذي ضبط مع الجاني لحظة القبض عليه.. واحد فقط أنكر أن المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم يتعلق بالجهاز السري.. هذا الشخص هو إبراهيم الطيب نفسه.. وجاء إنكاره أمام محكمة الشعب عندما عرض عليه رئيسها جمال سالم المسدس فقرر أنه ليس نفس المسدس الذي أعطاه لهنداوي.. إنما هو مسدس آخر.
6ـ ولم يحقق جمال سالم هذه النقطة الهامة.. أغفلها تماما.. كما أغفل أثناء المحاكمة تكليف الادعاء بتقديم شهود الإثبات الذين ضبطوا الجاني لحظة ارتكاب الجريمة.. وكانوا.. وبالمصادفة: من العاملين بمديرية التحرير التي أنشأها مجدي حسنين أقرب الضباط الأحرار إلى قلب جمال عبد الناصر، وهؤلاء الشهود معروفون بأسمائهم ووظائفهم.
ولعل الادعاء خشي أن يقدمهم، ويقدم خديوي آدم العامل الذي عثر على المسدس، حتى لا تتخبط أقوالهم، ويظهر شيء محظور كانوا يسعون لإخفائه..إن أي طالب بالسنة الأولى حقوق يعلم أن أول شهود يستمع إليهم هم شهود الإثبات الذين لهم صلة بضبط الجاني أو مشاهدة الجريمة أو اكتشاف سلاح الجريمة..
ولكن هؤلاء الأربعة لم يدلوا بشهادتهم عند محاكمة الجاني[5].
7ـ وذكر صالح أبو رقيق بعد ذلك ما حدث في أثناء المحاكمة برئاسة جمال سالم من مهازل ومآس، انتهت بصراخ هنداوي دوير: ضحكوا علينا.. خدعونا..
8ـ ثم ما ذكره حسن التهامي من قصة (القميص الواقي من الرصاص) الذي كان يعد لعبد الناصر تلك الليلة، وما حوله من وقائع وتفاصيل لا أذكرها الآن، ولكنها تزيد الأمر غموضا، وإن شئت قلت: تزيده وضوحا: أن تدبير دوير ومن معه قد كشف، وأن عبد اللطيف لم يطلق الرصاصات الثماني، وإنما أطلقها غيره.
وقال أبو رقيق: إن الشخص الذي كان بجوار محمود عبد اللطيف، والذي أطلق الرصاصات في الهواء، وترك دون أن يمسك به أحد، موجود على قيد الحياة، وكل مظاهره تدل على أنه تاب وأناب. وكان أبو رقيق يرجو أن يكمل توبته بإظهار الحقيقة التي ظلم بسببها أناس كثيرون، بل جماعة بأسرها.[6]
وذكر الأستاذ حسن العشماوي أنه فوجئ بالحادث، وفوجئ بإسناده إلى الإخوان، وقد سأل في ذلك يوسف طلعت رئيس الجهاز السري، فأكد: أنه لا يعرف شيئا عن ذلك، والمفروض أنه المسؤول عن الحركات السرية. ووضح يوسف طلعت: أن الخطة الموضوعة كانت تقتضي أن تجتمع الهيئة التأسيسية بعد غد، وأنه ستعقبها مظاهرة لإعلان قراراتها، كما أكد يوسف طلعت:
أنه أيقن أن الأستاذ إبراهيم الطيب المسؤول عن الجهاز السري في القاهرة لم يكلف الأستاذ هنداوي دوير بأن يعمل لاغتيال جمال عبد الناصر، ويستنتج الأستاذ حسن عشماوي من ذلك كله: أن الحادث على هذا النحو فردي يحاسب عليه فاعله.
ثم يعود ليذكر: أنه يؤيد اتجاه الأستاذ يوسف طلعت، الذي كان إيمانه يصل إلى أن الحادث ملفق.. لأن المسافة بين مُطْلِق النار وموقف عبد الناصر 300 متر، وللميل الشديد في الاتجاه، إذ كان عبد الناصر يقف على منصة عالية، ثم لوقوف عبد الناصر وراء حاجز من البشر، وذهاب المتهم وحده دون شريك يسنده، واستعمال مسدس، وهو أداة ضعيفة في مثل هذه الحال، وعدم إصابة الهدف من شخص معروف جيدا بالمهارة الفائقة، ومعروف كذلك بأنه لا يطلق النار بغير تأكد من الإصابة… كل ذلك يوحي أن الحادث غير معقول.
ويوسف طلعت كان دائما يتساءل: أمن الممكن أن يرسل هنداوي دوير شخصا واحدا لهذا الحادث، مع أنه يستطيع أن يرسل عدة أشخاص؟ وهل يمكن أن يرسل مسدسا واحدا بدلا من عدة مسدسات وعدة قنابل؟
ويذكر الأستاذ حسن العشماوي أنه سمع من موظف عاين مكان الحادث رسميا أن الحائط المواجه لإطلاق النار ليس به أي أثر للرصاص، وأنه يعتقد أن المسدس الذي سُمعت طلقاته كان محشوا بالبارود فقط دون رصاص، وأن عبد الناصر كان يعلم سلفا لحظة الإطلاق.[7]
ماذا قال المؤرخ د. أحمد شلبي عن الحادث؟
وأود أن أسجل هنا رأي أستاذ جامعي مؤرخ متابع لأحداث العصر، وليس من الإخوان وهو المرحوم الأستاذ الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية (دار العلوم) يقول في الجزء التاسع من (موسوعة التاريخ الإسلامي): رأيي الذي أدين به والذي كونته من دراسات وتفكير خلال ربع قرن منذ وقع الحادث حتى كتابة هذه السطور، هذا الرأي يتخذ دعامته من الأحداث والأقوال التالية:
أولا: الدقة الشاملة في إعداد السرادق وتنظيم الذين يحتلون مقاعده، وقد سبق أن اقتبسنا كلمات إبراهيم الطحاوي الذي يقرر أن هيئاتٍ ثلاثًا كانت مكلفة باحتلال مقاعد السرادق؛ هي هيئة التحرير، وعمال مديرية التحرير، والحرس الوطني. وهذا يوضح أنه لم يكن هناك مقعد يمكن أن يتسلل إليه مغامر ليعتدي على جمال عبد الناصر؛ فما كان الوصول إلى المقاعد أمرا ميسورا، ولم يترك للجماهير إلا المقاعد الخلفية النائية.
ثانيا: قضية الجنيهين اللذين تحدثت عنهما الصحف المصرية، وقالت: إنهما أُعطيا لمحمود عبد اللطيف لينفق منهما على أولاده وأسرته هي في تقديري أسطورة لم يُجَدْ حبكها؛ فالمبلغ الذي يقدم لمن هو فقير ويطلب منه أن يقدم على هذه المغامرة لا بد أن يكون مبلغا ضخما، يغري بالإقدام على هذا الجرم.
ثالثا: ثماني رصاصات تنطلق من مسدس يمسك به رجل مشهود له بالدقة في إصابة الهدف، ولا تنجح واحدة من هذه الرصاصات في إصابة الهدف أو إصابة أي شخص من الذين يحيطون بجمال عبد الناصر، أو إصابة أي إنسان على الإطلاق.. هذا في تقديري مستحيل!!
ثم إن المشرفين على السرادق سرعان ما طمأنوا الناس ودفعوهم للهدوء، ولو كانت هناك مؤامرة فعلا لانفض الحفل مخافة أن يكون هناك مزيد من الرصاص.
ومما يتصل بالإصابات نذكر أن الإصابات القليلة التي حدثت كانت من زجاج انكسر، ربما من الزحام والجموع التي تحركت عقب الحادث، ولم تكن هناك إصابات من المسدس على الإطلاق.
رابعا: كانت المسافة بين المكان الذي قيل: إن محمود عبد اللطيف أطلق منه النار وبين جمال عبد الناصر 300 متر، وكان عبد الناصر على منصة عالية، وهذه المسافة وارتفاع الهدف يجعلان من المستحيل نجاح الخطة وإصابة الهدف، وبالتالي لا يقدم على هذا العمل جماعة لهم خبرات بالتخطيط والأمور العسكرية.
خامسا: من المعروف أن الإخوان المسلمين كانت عندهم ذخائر ومدمرات هائلة، ولو اتجهوا للاغتيال لكان هناك وسائل أخرى لتحقيق هدفهم، ومن المستحيل أن يقدموا على هذا العمل بمسدس لا يستعمل عادة إلا عند المسافات التي لا تتجاوز أصابع اليدين من الأمتار، وقد تحدثت الصحف آنذاك عن أسلحة ومفرقعات ضبطت لدى بعض الإخوان بالإسكندرية كانت تكفي لنسف المدينة كلها.[8]
سادسا: حكاية النوبي الذي حمل المسدس سيرا على الأقدام من الإسكندرية إلى القاهرة حكاية ساذجة ننقدها من النقاط التالية:
1ـ كيف اتُّهم محمود عبد اللطيف قبل العثور على المسدس؟ مع ملاحظة أن المسدس الذي قيل: إنه وجد معه لم يستعمل ذاك المساء.
2ـ كيف أفلت المسدس المستعمل من الذين قبضوا على محمود عبد اللطيف؟
3ـ لماذا لم يسلم النوبي المسدس لنيابة الإسكندرية؟
4ـ لماذا جاء هذا الرجل سيرا على الأقدام طيلة هذا المسافة التي لا تقطع عادة سيرا على الأقدام؟
سابعا: يروي صلاح الشاهد[9] أنه كان يقود سيارته مساء يوم 16 وسمع جزءا من خطاب الرئيس من مذياع بالسيارة ثم سمع الطلقات، فأسرع نحو بيت الرئيس ليكون مع أولاده في هذه الأزمة، ولم يجد صلاح الشاهد بالبيت اضطرابا أو ذعرا وأخذ يداعب أولاد الرئيس الذين كانوا يلعبون، وهذا يوحي لي بأن أسرة الرئيس كانت تعلم سلفا بما سيجري، وقد شاهد هذا الاطمئنان قبل أن يتصل بهم عبد الناصر من الإسكندرية.[10]
كل هذا يؤكد ما قلته، وأنا مطمئن تمام الاطمئنان: أن قيادة الإخوان -العلنية والسرية- ليس لها أدنى علاقة بهذا الحادث، وأن الذي فكر فيه ودبر خطته أولا هو هنداوي دوير، وأن خطته كشفت لعبد الناصر يقينا، وإن كنا لا نعلم كيف تم ذلك على وجه القطع. وأن عبد الناصر استغل هذا الأمر، وأخرجه -مع رجاله- على الطريقة التي تم بها، والتي تدل كل خطواتها ووقائعها على أن محمود عبد اللطيف ليس هو الذي أطلق الرصاص، وليس مسدسه الذي انطلق منه الرصاص.
لقد أطلت الوقوف عند (حادث المنشية) وحق لي أن أفعل، فإن هذا الحادث كان هو السبب الظاهر فيما حلّ بي وبإخواني من تنكيل وتعذيب وتشريد، استمر عدة سنوات، حتى قضى بعضهم عشرين عاما في الأشغال الشاقة، ولا تزال له آثاره في سير الجماعة حتى اليوم. فليس كثيرا أن نطيل عنده الوقوف والتأمل والمقارنة والتحليل.
محكمة الشعب.. الشعب يحاكِم أم يحاكَم؟!!
وفي هذه الفترة -ما بين حادثة المنشية واعتقالي- كانت المحكمة التي شكلها عبد الناصر لمحاكمة الأستاذ الهضيبي وقادة الإخوان، والتي سماها "محكمة الشعب" فهل الشعب هو المحاكِم أو المحاكَم؟ الحق أنها كانت محاكمة للشعب المقهور الذين يمثله الإخوان، أو يمثلون طلائعه التي تعيش همومه وآلامه وآماله. وكانت هذه المحكمة الغريبة الأطوار، العجيبة الأدوار، تعقد جلساتها لمحاكمة الإخوان، وكانت تذاع مساء على الهواء من إذاعة القاهرة، فلم يكن أنشئ التلفزيون بعد. وكنت أسمعها كلما أتيحت لي الفرصة، فكنت أجد فيها العجب العجاب من رئيس المحكمة قائد الجناح جمال سالم الذي لا يصلح أن يكون قاضيا مدنيا ولا عسكريا، فهو يتصرف في المحاكمة تصرفات لا تصدر عن إنسان عاقل سوي، ناهيك بقاض يحاكم مستشارا من أكبر مستشاري مصر مثل حسن الهضيبي، وقاضيا فقيها من أفقه قضاة مصر والعرب مثل عبد القادر عودة، وأديبا وداعية ومفكرا من أعظم دعاة العصر مثل سيد قطب، وغيرهم.
لقد سمعته يقول للأخ المؤمن الصادق يوسف طلعت: تقدر تقرأ الفاتحة بالمقلوب؟
أهذا يقوله امرؤ عاقل؟!
ويطلب منه أن يفسر سورة الزيتون كنوع من السخرية، وما دخل هذا بموضوع المحاكمة؟!
لقد كان بعض رفقاء جمال سالم يسمونه (المجنون). ويبدو أن هذا الوصف صحيح إلى حد كبير.
يقول أنور السادات: كان جمال سالم رحمه الله حاد المزاج عصبيا إلى حد غير طبيعي، غير متزن في جميع نواحي شخصيته، فلما وجد الناس منصرفة عنه لسوء معاملته بدأ يثير المعارك هنا وهناك وفي كل مجال.[11]
وكان السادات هو عضو اليمين في محكمة الشعب، وكان لا يتكلم، المتكلم الوحيد هو جمال سالم.
وقال رفاقه: كان جمال سالم لا يهاب الدم ويهدد بالقتل ويحث عليه، وقد اندفع مرة متأثرا بجمال عبد الناصر ضد نجيب، فأعلن جمال سالم:
أنه سيقوم بقتل محمد نجيب، وتخليص المجلس منه، وعلى المجلس أن يقوم بمحاكمته على فعلته. وعندما اعترض ضباط المدفعية على تصرفات مجلس الثورة في يناير سنة 1953اقترح جمال سالم أن يحاكموا محاكمة صورية ويتم إعدامهم فورا.[12]
ولقد شهد بمهزلة هذه المحاكمات أو مأساتها كل من شاهدها أو حتى قرأها، مع أنهم ربما حذفوا من المكتوب شيئا أو أشياء.
ومن هؤلاء الكاتب الأمريكي دكتور ريتشار. د. ميتشل، الأستاذ بجامعة "متشجان – آن آربر" الذي ألف كتاب (الإخوان المسلمون) وترجمه إلى العربية الدكتور محمود أبو السعود، وعلق عليه الأستاذ صالح أبو رقيق.
يقول ميتشل: "أما المحاكمات نفسها فكانت نموذجا لا ينسى لما تملكه الحكومة الثورية وما تضفيه على نفسها من حقوق تتعلق أصلا بحكم القانون؛ إذ اتضح منذ البداية أن آخر شيء ترمي إليه الحكومة هو إيضاح القضية، وتقدير مدى إدانة كل فرد فيها، بل إنه في الحالات التي عينت فيها المحكمة المحامين، طرح هؤلاء أسئلة وأبدوا ملاحظات كان من الأخلق أن تترك لممثل الاتهام، أما رئيس المحكمة جمال سالم فقد كان تصرفه أقرب إلى تصرف المدعي العام: كان يقاطع دون تحرج إجابات الشهود إذا لم تعجبه الإجابة، وكان يضع الكلمات في أفواههم، فيتقول عليهم ما لم يقولوا، وكان أحيانا يستعمل التهديد ليفرض عليهم الإجابة التي يريدها، وكانت الأسئلة تصاغ بحيث تستبعد أي رد إلا ما تريده المحكمة، وكان يوقف كل محاول للتخفيف من توتر الموقف، بل إنه كان يتبادل مع الشهود في بعض الأحايين الشتائم الوضيعة، وفي غالبية هذه الحالات كانت الشتائم تنهال من جانب المحكمة وحدها. وكانت تواجه شاهدا بآخر، وقد زيفت شهادة أحدهما لتثير الشاهد الآخر، وسمح للحضور أن يشاركوا في الضحك على الشهود والهزء والسخرية بهم وسبِّهم، وكانت أكثر الأسئلة في مثل هذه المواقف غير متعلقة بالجريمة، وتضمنت فيما تضمنته أسئلة تتعلق بإعراب القرآن وتفسيره بقصد إحراج الشهود وإرباكهم.
أما الشهود أنفسهم فقد كانوا مشوشين، وبطبيعة الحال خائفين، وفي أغلبية الأحوال غير صريحين ولا صادقين، وطفحت الأدلة بالتناقض، وذلك لأن المحكمة من ناحية كانت توجه الشهود ولأن الشهود أنفسهم كانوا غير راغبين في الكلام من ناحية أخرى[13].
حادث المنشية أم المساخر
يعد "تشرشل" معْـلَما ضخمًا من معالم الأمة البريطانية، فهو الذي حقق لها أعز نصر في تاريخها، بل تاريخ العالم الغربي كله، وكان الرجل وقورًا بعيدًا النظر، قليل الكلام، وكثير من كلامه يمثل حكمًا أو قواعد عفوية في مجال السياسية والمجتمع، ومازلت أذكر من كلماته: "أبحث عن حقيقة الأمة في حبر المطابع وصفحات الصحف" فلما قيل له: "ولكن من الصحف المأجور والمرتشي"، قال: إنما أعني الصحف "سيدة صوتها" لا الصحف "صوت سيدها".
ولم يبالغ السياسي البريطاني المحنك العجوز، فالصحف هي مرآة الأمة، وهي مصدر أصيل لتاريخها ونبضها ومكانها على أرض الواقع، وإن كنت "أتحفظ" على الشطر الأخير من كلامه، مما يدفعني إلى التعميم فأقول: أبحث عن حقيقة الأمة في صحفها حتى تلك التي تسلك سبل الكذب والزيف، وتعيش على "صوت سيدها"، وتضع الباطل مكان الحق، وتستحل كل حرام مرفوض، فالحقيقة قد تخفى عامًا أو عامين، أو عقدًا أو عقدين، أو أكثر من ذلك، ولكن يأتي اليوم الذي تكشف فيه عن نفسها بالنظر الواعي والفكر البصير، وتطل برأسها عارية صافية بلا خفاء أو رتوش، وصدق الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى إذا قال:
ومهما تكُنْ عندَ امرئ من خَلِيقةٍ
- وإن خالَها تخْفي على الناسِ تُعْلم
فالتاريخ الحقيقي للأمة تصنعه الصفحات الطيبة الصادقة، والصفحات الكاذبة المنافقة الزائفة، ومن "مجموع الصحائف الأضدا. " تستخلص الحقيقة الناصعة الشامخة، لتبقى خالدة، ويسقط أعداؤها من الكذبة والمزيفين في قمامة التاريخ.
ذكرى المسرحية الساقطة
قفز إلى ذهني هذا الخاطر , وقد مضى أكثر من نصف قرن على أخس مسرحية عرضت في تاريخنا السياسي كله، والتي سموها "جريمة المنشية" أو "محاولة اغتيال الزعيم جمال عبدالناصر" . وهي مسرحية استكملت – على خستها وسقوطها- المعروفَ من العناصر المسرحية أو التمثيلية كالشخصيات المحورية والشخصيات الثانوية، والكورس أو الجوقة، والنص والسيناريو.. إلخ.
ولكن هذه المسرحية لم تنته بأداء الأدوار المحفوظة، بل ظل لها "توابع" – وعفوا يا علماء الزلازل – تتشبث بها، إلى أن كان السقوط الكبير الذي نسف المسرح والممثلين والجمهور.
أم المساخر..!!
ولتبدأ المسرحية الأم:
المكان: (مسرح الأحداث) : ميدان المنشية بالإسكندرية.
الشخصية والحدث الرئيسي: جمال عبد الناصر يخطب في الجمهور الكثيف الذي استورد أغلبه من عمال مديرية التحرير وموظفيها، وكان يقف في شرفة مبنى "هيئة التحرير" حزب الحكومة.
وفجأة سمع صوت رصاصات قيل إنها أطلقت على الزعيم ولكنها اخطأته، ولم يصب إلا بعض ضيوف عبد الناصر بخدوش.
وتتحول كلمات عبد الناصر إلى صرخات هستيرية، ويقبض على من قيل إنه أطلق الرصاص، واسمه "محمود عبد اللطيف"، وفتحت السجون أبوابها لتستقبل آلافا من الإخوان المسلمين، والباقي معروف، وقد فصل القول فيه – بمصداقية - عدد من الكتاب العدول , منهم بعض رجال الثورة، فمحمد نجيب الذي كان رئيسا للجمهورية كان يقسم بشرفه العسكري بأن حادث المنشية مفتعل، ومن أصدق الشهادات في هذا الحادث شهادة محمد حسن التهامي – رجل المخابرات، وعضو مجلس الثورة المعروف - الذي كتب في مجلة "روزاليوسف" المصرية بتاريخ 1/5/1978م بأن حادث المنشية مسرحية أخرجها أحد رجال المخابرات الأمريكية.
سيناريو الصحافة القومية
ونعود إلى كلمات تشرشل عن دور الصحافة في تصوير واقع الأمة، وقد جعلنا له امتدادًا يصدق على الصحافة التي هي "صوت سيدها" المسماة بالصحافة القومية "تغطي الواقعة" وتوابعها تغطية مفصلة شاملة، ولكن من وجهة نظر سيدها، وأذيال سيدها وحوارييه.
واليوم – وقد مضى على هذه المسرحية الخائبة الخسيسة أكثر من نصف قرن - نعتذر للقارئ إذ نعيد في هذه السطور فصولها ومناظرها متتابعة تتابعًا زمنيا، ومنهجنا في هذا العرض يعتمد على ركيزتين هما:
1-تقديم سيناريو هذه المسرحية بنصه نقلا عن أشهر صحيفة "قومية" وهي صحيفة "الأهرام" القاهرية، التي كانت – ومازالت- أوسع الصحف المصرية وربما العربية انتشارًا.
2- عدم التدخل بالتعديل أو الحذف من هذه النصوص، ولكن بالتعقيب" –في حالة الضرورة- ملتزمًا الإيجاز بقدر المستطاع.
الفصل الأول: رصاصات.. ولكن في الهواء
العناوين الرئيسية في صحيفة الأهرام في 27 أكتوبر1954م:
- محاولة أثيمة لاغتيال الرئيس عبد الناصر.
- عامل من الإخوان يطلق عليه 8 رصاصات في ميدان المنشية.
- الرئيس ينجو من الاعتداء ويقول: إنه يهب دمه وروحه في سبيل عزة الوطن وحريته.
- القبض على الجاني بعد إنقاذه من ثورة الجماهير، واعتقال 3 آخرين من الإخوان.
وتحت العناوين السابقة يأتي التفصيل الآتي:
أطلق عامل ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين ثماني رصاصات على الرئيس جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية أمس، وكان الرئيس قد بدأ يخطب في الحفل الذي أقامته هيئة التحرير لتكريمه وتكريم زملائه من قادة الثورة، ولم يبلغ الجاني مأربه إذ نجا الرئيس من الرصاصات الغادرة، وقد أصيب وزير المعارف بالسودان، والسكرتير المساعد لهيئة التحرير بعدة جراح من شظايا ألواح الزجاج التي تناثرت من أثر إطلاق الرصاص.
وعقب الرئيس عبد الناصر على الفور على محاولة اغتياله، وكان تعقيبه هائلا رائعا فذا، وأقوى من الرصاص الذي أطلق عليه، إذ صاح – وصوته يدوي كالرعد في الميدان الفسيح-: " أيها المواطنون: دمي فدائكم، وفداء مصر، سأعيش من أجلكم وسأموت من أجل حريتكم وكرامتكم، فليقتلوني ليست أبالي، ما دمت قد غرست فيكم العزة والكرامة والحرية، وإذا مات عبد الناصر فليكن كل منكم جمال عبد الناصر".
(وفي ص11 من الأهرام):
.. وكان بعض من حوله يحاولون إبعاده عن المذياع ومنعه من الكلام والحركة للاطمئنان على سلامته، ولكنه كان يصيح بهم ليتركوه يخاطب مواطنيه، وانطلق في حديثه الفذ الذي لا مثيل له في تاريخ الوطنية والفداء، فأخذ يكرر المعاني الكريمة السامية: ... أيها الرجال.. أيها الأحرار , هذا هو جمال عبد الناصر، أنا لست جبانًا، أنا قمت من أجلكم، من أجل عزتكم وكرامتكم وحريتكم . إن جمال عبد الناصر منكم ولكم، عشت لكم وسأعيش حتى أموت عاملا من أجلكم، ومكافحا في سبيلكم، وأموت من أجل حريتكم وكرامتكم.
وتعقيب على الفصل الأول
1- الحفل أقيم –كما يقول الخبر- لتكريم عبد الناصر وتكريم زملائه من قادة الثورة، ولم يكن "محمد نجيب" ضمن المكرمين مع أنه "قائد الثورة" ومعلنها، وأقرب الشخصيات إلى قلوب الشعب، وكان بين عبد الناصر ورفاقه وبين قلوب الشعب حصن منيع بعد إقالتهم لمحمد نجيب –قبل حادث المنشية بعدة أشهر- وقد أرغم الشعب هؤلاء "القادة" على إعادة محمد نجيب إلى الرياسة مرة أخرى.
2- كان عبد الناصر –على الرغم من هستيرية الصوت يتحدث حديث من يحفظ الدور جيدًا، والحوار الذاتي (الذي صدر من شخصية هي شخصية البطل)، كان متقنا مدروسًا، يدل على أن "البطل" قد استوعب كل خطوط السيناريو قبل "رفع الستار" وبداية المسرحية.
3- كل من يعرف ألف باء قواعد الحراسة، وخصوصًا حراسة الرؤساء والشخصيات المهمة، يعرفون أن الخطوة الأولى التي يتخذها الحراس –في مثل هذه الحال- هي إقامة "حائط صد" بين الرئيس ومصدر الرصاص، بل "عزله" تمامًا –ولو بالقوة- عن الجمهور، وذلك لاحتمال وجود "معتد احتياطي بديل" عند إخفاق المحاولة الأولى، ولكن الذي حدث يقطع بوثوق الحراس، وكبار المسئولين بأنه " لا شيء" بعد سماع "صوت الرصاص" ولكن حرصا على استعمال متطلبات "الدور" كان لابد من عملين لتضخيم "شخصية البطل".
الأول: ترك "المايكروفون" مفتوحًا –كان لم يحدث شيء- لاستمرار "التواصل" بين "القائد الشجاع" والشعب لإثبات الشجاعة الفائقة، واستمالة شعبنا "الطيب" الذي يكره الغدر والعدوان.
الثاني: "محاولة بعض من حوله شده بعيدًا، ومنعه من الكلام والحركة، فتغلب عليهم، وباءت محاولتهم بالإخفاق، لأنه –كما يقول السيناريو- "كان أقوى من الرصاص الذي أطلق عليه".
4- جاء في نص السيناريو " وقد أصيب وزير المعارف بالسودان والسكرتير المساعد لهيئة التحرير بعدة جراح من شظايا ألواح من الزجاج تناثرت من أثر إطلاق الرصاص، وكانا يجلسان بالشرفة "المنصة".
والمعروف أن الرصاصة – أية رصاصة - إذا أطلقت لا تحدث في لوح الزجاج إلا ثقبا بمساحة رأس الرصاصة، ولا تؤدي إلى تحطيم "اللوح" وتطايره شظايا , ولا تفسير لما حدث إلا أن لوحا – أو ألواح زجاج باب الشرفة أو نوافذها – قد حطمت فجأة من الداخل بفعل فاعل "عيِّن" للقيام بهذه المهمة كواحد من مقتضيات المسرحية، وجاء توقيت "التكسير" دقيقا متفقا مع توقيت " سماع" صوت الرصاص.
الفصل الثاني: ساعة القبض على "الجاني"!!
وأيضا على الصفحة الأولى من الأهرام الصادر في 27 من أكتوبر 1954م (أي في اليوم التالي مباشرة لحادث المنشية وتحت عنوان كبير نصه: (القبض على الجاني بعد إنقاذه من ثورة الجماهير، واعتقال 3 آخرين من الإخوان)، نقرأ ما يأتي بالنص:
... وضبط البوليس في جيبه 7 رصاصات , وقد طاشت الرصاصات التي أطلقها على الرئيس وأصابت المصابيح الكهربائية التي كانت منثورة على المنصة، ولا تبعد عن المكان الذي وقف فيه الرئيس بأكثر من 50 سنتمترًا.
وقد عثر في المكان الذي يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 26 ملليمترا , وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي عثر عليه مع المتهم، إذ إن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع المشط الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة، وكان المتهم يردد في ذلك الوقت أنه لم يقصد إصابة أحد، وأنه كان يطلق هذه الطلقات للتفاريح، وكان الجاني قد احتل مقعده منذ الساعات الأولى لهذا الاحتفال، وهو لا يبعد عن المنصة الرئيسية بأكثر من خمسة عشر مترًا.
تعقيب على الفصل الثاني
1- جزمت "الأهرام" أن الجاني من الإخوان المسلمين، وكذلك ثلاثة معه، ثم إن وصفه ب"الجاني" لا المتهم- يعتبر حكمًا سابقا على التحقيق يخالف الشريعة والقوانين الوضعية، وفي الأثر الصحيح أن صحابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسك بخناق رجل، وقال: يا رسول.. إن هذا الرجل سرق مني كذا وكذا"، فقال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم "لا تقل سرق، ولكن قل أخذ"، نعم يا رسول الله: فالمتهم برئ إلى أن تثبت إدانته، علمًا بأن أهرام 27 من أكتوبر طبعت بعد الحادث "المسرحية بساعات، وقبل بداية التحقيق.
2- وجود أربعة أظرف فارغة في المكان الذي كان يقف في "الجاني" لا يقطع بأنه هو الذي أطلق الرصاص، لأن ذلك يتسع لاحتمالات متعددة منها:
أ. أن يكون من أطلق الرصاص شخصا آخر كان يقف مجاورًا للمتهم.
ب. أن تكون هذه الأظرف الفارغة قد وضعها شخص " له صفته الرسمية" في هذا المكان دون أن يشعر "المتهم" بوضعها، وذلك كخط من خطوط السيناريو الموضوع.
3- ذكر السيناريو أن هذا الأظرف الفارغة لطلقات تختلف في "عيارها" عن طلقات المسدس الذي وجد مع المتهم وهو من نوع المشط الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة:
أ- وأنا لست خبيرًا في السلاح، ولكني أقول أن أي مسدس من مسدسات المشط تلفظ الأظرف الفارغة.
ب- والسطور الباقية تعني أن "المتهم" لم يطلق رصاصة واحدة من مسدسه الذي ضبطه في جيبه، وأن هذه الأظرف الفارغة لرصاص من مسدس آخر لم يضبط المتهم متلبسا بإحرازه، هذه النقطة بالذات كفيلة بتبرئة المتهم (الذي ألقت عليه الأهرام صفة الجاني).
4- ونجد في هذا "السيناريو" تناقضا واضحًا في تحديد مكان المتهم "الجاني": فالصحيفة تصفه بأنه كان واقفًا، وأنه عثر في مكان وقوفه على أربعة أظرف فارغة.
وبعد أسطر قليلة تقول: "وكان الجاني قد احتل مقعده منذ الساعات الأولى لهذا الاحتفال"، وأنه كان بينه وبين المنصة ما لا يزيد عن 15 مترًا.
فهل كان المتهم واقفا جالسا، أو جالسا واقفا في وقت واحد؟ ولرفع هذا التناقض يمكن أن يقال –في مقام الاتهام- إن المتهم كان جالسا فلما شرع في إطلاق الرصاص وقف حتى يتمكن من إصابة "الزعيم" وهنا تطل الناقضات المفندات الآتية:
أ. علينا أولا أن نضع تصورًا (ولو بالممكن لا بالفعل) لمكان المتهم من المنصة، ولنأخذ التحديد الرقمي الذي ذكرته "الأهرام" وهو أن المتهم كان يبعد عن المنصة بما لا يزيد على 15 مترًا، فلو فرضنا أن ارتفاع المنصة وهي شرفة قصر هيئة التحرير بالمنشية –ستة أمتار، وأن وقوف عبد الناصر يبعد عن سور الشرفة بنصف متر للداخل لكان أقرب من يراه من جمهور الجالسين في الصف الأول يبعد عن الشرفة أفقيًا بعشرة أمتار على الأقل، وهذا يعني أن المتهم كان يجلس في الصف الثاني أو الثالث على الأكثر، لو أخذنا بتحديد الأهرام لمكان المتهم.
ب. مسافة الأمتار العشرة تحت الشرفة "مسافة هالكة" أي لا يجلس فيها أحد من الجمهور، وغالبا ما يكون رجال الحرس والأمن المقام الأول فيها، ووجوههم للجمهور.
ج. لو نهض المتهم وأطلق الرصاص فجأة لانقض عليه رجال الأمن، وأمسكوا به متلبسا بالشروع في قتل الزعيم، ولرآه عشرات من الشهود، وما كان هناك مجال للظن والاجتهاد.
د. ومن النواقض كذلك أن الصفوف الأولى تكون دائمًا محجوزة للشخصيات المهمة كالوزراء ونوابهم والمحافظين، وكبار الضباط، فإذا جاء عامل قبل بدء الحفل بساعات واحتل مقعدا في صفوف "علية القوم وكبارهم).. ألا يثير ذلك انتباه رجال الأمن وشكهم، وقد كان ذا جيب أو جيوب منتفخة تحمل مسدسا أو اثنين زيادة على الرصاص؟!!
ه. ثم ما رأي "السادة" في الصورة التي نشرتها المصور –بعد إعلان اسم المتهم- وهي صورة تمثل آلاف الحاضرين , ووضعت دائرة حول رأس واحد منهم , وكتبت "الجاني محمود عبد اللطيف قبل ارتكاب جريمته بدقائق"، وبينه وبين المنصة ما لا يقل عن خمسين مترًا، وهذا يعني أن رصاصه كله لو أصاب "عبد الناصر" لما أصابت واحدة منها من "الزعيم" مقتلا".
وعلى ذكر المصور أقول: إن صورة غلافه في العدد المذكور كانت لمحمود عبد اللطيف وفي وجهه كدمات ظاهرة.
5- وأخيرًا نعثر في هذا الجزء من السيناريو على تناقض أو اضطراب من نوع آخر، وذلك في "الزجاج " الذي حطمته الرصاصات الطائشة، فهو مرة "ألواح" تطايرت شظاياها، ولا تكون هذه الألواح إلا في أبواب أو نوافذ، وهو مرة أخرى "زجاج مصابيح كهربائية" لا تبعد عن المكان الذي وقف فيه الرئيس بأكثر من 50 سنتمترًا.
الفصل الثالث: خديوي آدم والمسدس الساخن
وأوضح ما في الفصلين السابقين –على إتقان عبد الناصر دوره- من تهافت وضعف وثغرات تفتح الباب "للمتهم" نحو البراءة، لأن هناك سؤالا يبقى معلقا يحتاج إلى إجابة عاجلة، وخلاصته: إذا كان مسدس المتهم (وهو من نوع المشط) قد ضبط في جيبه دون أن يطلق منه رصاصة واحدة، وإذا كانت الفوارغ التي عثر عليها في مكان "وقوف" المتهم –وعددها أربع- إنما هي لرصاص يختلف عن رصاص المسدس الذي يحمله، وإذا كان إطلاق الرصاص حقيقة لا شك فيها، إذا كان الأمر كذلك، فأين أداة الجريمة، أي المسدس الذي أطلقت منه الرصاصات؟
هناك رأى واضعو السيناريو – حتى يجبروا كسور الفصلين السابقين، ويعالجوا ما فيها من ثغرات فاضحة - أنه لابد من فصل ثالث يقوم بأدائه شخصية أخرى من نوع مختلف فكان "خديوي آدم" العجيب، وهو واحد من العمال الصعايدة.
وننقل سيناريو الفصل الثالث من صحيفة "الأهرام" القاهرية الصادرة يوم الثلاثاء 2 من نوفمبر 1954م، ففي الصفحة الأولى نقرأ العنوان التالي: "عامل يعثر على المسدس الذي أطلق منه الجاني الرصاص على الرئيس".
وتحت العنوان جاء ما يأتي بالحرف الواحد:
[..وهنا فوجئ "العامل" بسماع صوت المقذوفات التي أطلقها الجاني على الرئيس، وغرق هو في الازدحام، وكانت أمواج الكتل البشرية التي كانت في هرج ومرج لبعض الوقت تتقاذفه هنا وهناك، وفي تلك الأثناء شعرت قدمه بصدمة في شيء صلب , فأخذه ,فإذا به مسدس , وكان المسدس ساخنًا لسع يديه ثم مضى إلى سبيله.
والمسدس من النوع الذي إذا أطلقت جميع مقذوفاته ينفتح، فأدرك آدم أنه المسدس الذي استخدم في الحادث، وقابل آدم ابن عمه واسمه "محمد جبريل" وهو عامل في أحد "جراجات" الإسكندرية، فقص عليه قصته، فنصحه أن يسلم المسدس للمسؤولين في ثكنات "مصطفى باشا" ولكن آدم صمم أن يسلمه للرئيس جمال بنفسه يدًا بيد، فلما سأل عن الرئيس قيل إنه سافر إلى القاهرة، فحاول أن يستريح وينام، ولكن الأرق والتفكير في الحادث، وما أحاط به من ظروف في الساعات القليلة الماضية، كل هذا جعله يعتزم أمرًا، وشد رحاله –كتعبير الزمن الماضي- إلى القاهرة في الساعة الرابعة صباح يوم الأربعاء 27 من أكتوبر الماضي، ولم يكن يملك مليمًا واحدًا.
ومشى الشاب بين قضبان السكك الحديدية إلى أن أخذ منه التعب ما أخذ، وشعر بالجوع، وكان قد وصل إلى سوق مدينة في الطريق لم يعرف اسمها، فباع قفطانه، وأكل وشبع، وواصل سيره حتى وصل إلى شبرا يوم الاثنين أول نوفمبر حوالي الساعة 12 ظهرًا.
وعند مدخل شبرا استفسر من أحد رجال البوليس عن مقر القيادة التي يجد فيها الرئيس جمال، ومضى في طريقه يسأل ويستفسر، حتى وصل بعد ثلاث ساعات إلى مقر القيادة العامة بالقبة، وهناك رأى الجندي الحارس، وطلب منه أن يدله على مكان الرئيس، فنهره الجندي في أول الأمر، ولكنه أفهمه بشدة أنه يحمل أداة الجريمة التي استخدمت في الاعتداء على الرئيس.
وأخرج العامل المسدس فانزعج الجندي، وأدخله إلى الضابط المسؤول، فأبلغ هذا النبأ إلى المسؤولين، وفي نحو الساعة التاسعة من مساء اليوم كان "آدم" في إدارة المباحث العامة، وكان الرئيس جمال بالقيادة في الجزيرة فاتصلوا به، فأمر بإرساله إليه.
وأدخلوا آدم عند الرئيس، فلما رآه هم إليه فقبله، فتأثر الرئيس وأخذه بين يديه، وقبله، ولما عرف أنه من أهل الأقصر شكره، وقال فليعش: أبناء الأقصر الكرام. وأمر بمنحه مكافأة مجزية .
وسألناه ما الذي سيفعله بهذه المكافأة، فقال: "سأتجوز وأفتح محلا" ثم دعا للرئيس بطول العمر، ليتم خدمة الوطن ].
سيناريو أمن الدولة
وفي صحيفة الأهرام الصادرة يوم الأربعاء (7 من ربيع الأول 1374هـ- 3 من نوفمبر 1954م)، نقرأ ما يأتي:
[ عقد الأستاذ محمد عطية إسماعيل –المحامي العام، والأستاذ على نور الدين- الوكيل الأول في نيابة أمن الدولة- اجتماعا قصيرًا أمس دعي على أثره العامل "خديوي آدم" واستمع وكيل النيابة إلى معلوماته عن عثوره على المسدس، ومما ذكره آدم في التحقيق أنه كان يقف وسط الجماهير في ميدان المنشية يستمع إلى خطاب الرئيس جمال، فسمع صوت الطلقات النارية، ثم تدافعت الجماهير، وتدافع معهم , فسقط على الأرض , وجاءت سقطته فوق المسدس , فالتقطه , وكانت ماسورته لا تزال ساخنة، فوضعه في جيبه، ثم حاول أن يصعد إلى الشرفة التي يقف الرئيس فيها ليسلمه المسدس، ولكن رجال البوليس منعوه فانصرف.
ومضى فقال إنه فكر أن يسلم المسدس للبوليس ليلة الحادث، ولكنه خاف، وذهب لابن عمه يروي له القصة، فنصحه بتسليمه للبوليس، وكاد يستمع لنصح ابن عمه، ولكن هاتفا هتف في أذنه أن لابد أن يقابل الرئيس جمال عبد الناصر، ويقبله، ثم يسلمه المسدس ].
تعقيب على سيناريو الأهرام (2/11/1954م)
وسيناريو "الأهرام" في هذا الفصل أكثر تهافتًا وضعفا من سابقيه:
1- فالسيناريو يذكر أنه بعد سماع صوت الرصاص انطلقت الجماهير إلى الخارج بعيدًا عن المنصة، وعثور العامل "خديوي آدم" على المسدس يستحيل تحققه إلا إذا كان أقرب إلى المنصة من "المتهم" وهذا ما لم يحدث، فقد ذكرت الأهرام الصادرة يوم 27/10/1954م أن المتهم احتل مقعده في الحفل قبل بدئه بعدة ساعات.
2- في مثل هذه الأحداث يسيطر الرعب على الجماهير، ويكون هم كل شخص أن ينجو بنفسه من الموت في هذا التزاحم الرهيب، ولا يكون لقدمه أو حتى يده من الحساسية ما يجعله يتوقف، وينحني لالتقاط جسم صلب –أو غير صلب- وإلا سحقته أقدام الجماهير اللائذة بالفرار.
3- ومن مظاهر "السقوط التصويري" أن تظهر الصحيفة هذا العامل الصعيدي الفقير البسيط الذي لا يملك مليما واحدًا بمظهر خبير السلاح الذي يدرك أن المسدس هو الذي أطلق في الحادث، وتظهره بمظهر الواعي ذي الفكر العميق الذي يأخذه القلق، ويستبد به الأرق، وهو يفكر في الحادث، وما أحاط به من ظروف، فيعتزم أمرًا هو الذهاب إلى القاهرة لتسليم المسدس إلى الرئيس نفسه.
4- وتقع الصحيفة في التناقض فنرى هذا العامل أحمق غبيا إذ يقطع المسافة من الإسكندرية سيرًا على قدميه " لأنه لا يملك مليما واحدًا" وأمام هذا السقوط وذاك التناقض علينا أن نذكر ما يأتي:
أ- كانت أجرة السفر من الإسكندرية إلى القاهرة –في ذلك الوقت بالسيارة أو القطار- لا تزيد على نصف جنيه (أي خمسين قرشًا).
ب- كان للعامل "خديوي آدم" ابن عم يقيم بالإسكندرية –كما ذكرت الأهرام- إقامة دائمة، وله عمل يدر عليه مرتبا ثابتا يتعيش منه، أما كان العامل يستطيع أن يقترض منه جنيها أو جنيهين لتكاليف هذه السفرة التي كان وراءها ما وراءها؟
ج- ثم أما كان هذا العامل –حتى لو حشى رأسه كله غباء- يدرك أن تكاليف الطعام والشراب في الطريق،- ودعك من الصحة والعافية- تمثل أضعاف أضعاف ثمن تذكرة السفر من الإسكندرية إلى القاهرة؟
هـ- لجأ السيناريو الخائب إلى "التزييف بالإغفال أو الحذف" فلم يقدم لنا صورة هذا العامل "خديوي آدم" بعد أن باع قفطانه، وبعد هذه المسيرة الشاقة على قدميه لمدة خمسة أيام:-
- فهو لم يكن ينام في فندق، ولا في منزل، بل على الأرصفة أو في الحقول والحدائق في البلاد والقرى التي كان يمر بها.
- وهو طبعًا- كان يقضي حاجته بصورة غير آدمية، وتعامله مع "الماء" كان قطعًا تعاملا شاذًا غير منتظم أو مستقيم.
إن إنسانًا قطع قرابة 250 كيلو مترًا سيرًا على قدميه، محرومًا من الطعام والشراب إلا القليل الجاف الرديء، محرومًا من الراحة إلا سويعات، محرومًا من "آليات" النظافة صابون وماء.. مثل هذا الإنسان لن يصل إلى القاهرة إلا خائر القوى، مفكك الأوصال والأعصاب محطم العافية.. في أبشع منظر، وأقذر هيئة، وليس على جسده إلا سروال قديم، وفانلة أو صديري منتفخ الجيب بالمسدس الكبير.
هذا "المخلوق" الممسوخ يلتقي عند مدخل القاهرة من ناحية شبرا برجل بوليس، ويمشى ثلاث ساعات إلى مقر القيادة العسكرية، وفي الطريق رآه قطعًا عشرات من رجال الأمن، مع ذلك لم يثر شبهة أحد في وقت كان البريء يؤخذ فيه إلى النار بلا تهمة.
ومع ذلك نرى صورة "خديوي آدم" في الأهرام كامل الصحة والعافية، مشرق الابتسام، كامل الملبس، منتظم الهندام، وهو يسلم عبد الناصر المسدس , مع أنه قابل عبد الناصر يوم وصوله دون أن يستريح لساعة واحدة، هكذا قالوا:
6- ثم نجد التناقض الصارخ بين "سيناريو الأهرام" المنشور بها يوم الثلاثاء 2/11/1954م، و"سيناريو التحقيق" المنشور بها أيضًا يوم الأربعاء 3/11/1954م:
أ- فسيناريو "الأهرام" يذكر أن "خديوي آدم" عثر على المسدس، عندما كانت أمواج الكتل البشرية تدفعه فاصطدمت قدمه بشيء صلب انحنى والتقطه فكان المسدس.
أما سيناريو التحقيق فيذكر أنه بسبب تدافع الجماهير سقط العامل خديوي آدم على الأرض، فجاءت سقطته فوق المسدس تماما، فالتقطه..!
ولم يذكر سيناريو واحد منهما أن العامل أصيب بخدش واحد، مع أن انحناءه أو سقوطه في مثل هذه الحالة له نتيجة معروفة وهي الانسحاق تحت أقدام الجماهير الهاربة المندفعة التي لا تلوي على شيء.
7- ولم يذكر سيناريو الأهرام واقعة ذكرت في سيناريو التحقيق، وهي أن العامل لما التقط المسدس حاول أن يصعد إلى الشرفة التي يقف الرئيس عبد الناصر فيها ليسلمه المسدس، ولكن رجال البوليس منعوه فانصرف.
وهي واقعة مضحكة تتمتع بالافتعال والكذب الصراح.. ومن حقنا وحق القراء أن نسأل: متى قام العامل خديوي بمحاولة الصعود هذه؟
أ- من المستحيل أن تكون هذه المحاولة قد حدثت بعد إطلاق الرصاص مباشرة، لأن الجماهير كانت منطلقة هاربة في الاتجاه المضاد، ولا يستطيع أحد أن يدعي أن هذا العامل كان يستطيع اختراق هذه الكتل المندفعة، والنفوذ من خلالها إلى المنصة.
ب- وقد يتصور بعضهم أنه حاول ذلك بعد فراغ الميدان (كليا أو شبه كلي) من الجماهير.
وهو تصور مرفوض لأنه لو فعل ذلك لعرض نفسه للقبض عليه، وربما اتهامه بالاشتراك في "المؤامرة" لأن أنظار رجال الأمن –بعد انصراف الجماهير- تكون مركزة على مثل هذه الحالات "الفردية"، خوفا من أن يكون ذلك محاولة جديدة للاغتيال.
ج- ثم نسأل: ألم يثر الشك في نفس واحد من الحرس ورجال الأمن، وهم يرون رجلا "منتفخ الجيب" يحاول الصعود إلى المنصة بعد الشروع في اغتيال الزعيم بدقائق، فيقوم بتفتيشه؟ عجبي!!
وللحق أقول إن هذا الفصل الثالث من مسرحية المنشية كان أضعفها نسجا وأداء، وأشدها تفككا وانحدار وبلاهة وسقوطًا.
لقد قدم الفصل الثالث من هذه المسرحية ليعوض عما في الفصل الأول والثاني من قصور وثغرات، ولكنه حقق نتيجة عكسية، فصحب الفصلين السابقين معه إلى قمامة الكذب والإفك والافتراء .
هذا , وفي المكتبة العربية مؤلفات متعددة تناولت الموضوع، بعضها كتبه بعض رجال الثورة المحايدين، ولم أشأ أن استشهد بشيء منها لأنني حددت منهج تناولي لهذا الموضوع ابتداء، وخلاصته التعامل المباشر مع نصوص أهم وأشهر صحيفة قومية وهي "الأهرام".
وقد ذكرت آنفا أن هذه المسرحية كان لها توابع، وكان أهم "تابع" لها هو محاكمة الإخوان في محكمة سموها "محكمة الشعب"، وجاءت هي الأخرى لتمثل نقطة عار سوداء عفنة في سجل تاريخنا الحديث , بل على مدار تاريخنا كله .
هوامش
[1] وصفت هذه الزيارة بأنها جزء من المؤامرة قصد بها إخفاء غرض الجمعية الحقيقي من "المؤامرة" في ذلك اليوم، ونحن نعتقد أن زيارة خليفة والحوادث الأخرى التي وردت في الفقرة المذكورة تؤكد في الحقيقة وجهة نظرنا من أن الحوادث سبقت القيادة. أبو رقيق.
يعلق الأستاذ صالح أبو دقيق على هذا بقوله:
خالف هنداوي دوير تعليمات قسم الأسر، الذي يقضي بأن يكون رئيس القسم الدكتور عبد العزيز كامل، على علم تام بكل أسرار الأسر، عندما لم يبلغه بإرسال محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية، ويفسر هذا إلى حد كبير المعاملة الحسنة التي كان يلقاها هنداوي في السجن الحربي، وانهياره التام عند قدومه على حبل المشنقة، وهو يصيح: "أين جمال عبد الناصر؟ إننا لم نتفق على هذا"!! ودفن ومعه السر الكبير..
[2] يعلق أبو رقيق هنا قائلا:
وقف جمال عبد الناصر، ليقوم بدور البطل في تلك التمثيلية الفاجرة البارعة إذ ما تلك الشجاعة الفائقة أمام ثماني رصاصات توجه إلى صدره؟ وما هذا الثبات المقطوع النظير الذي نزل عليه في تلك اللحظات المفزعة؟ وما هذا الحظ النادر الذي نجا به المستبد الغادر من رصاصات الشهيد محمود عبد اللطيف المعروف عنه أنه أمهر رامي "نشانجي" منذ حرب فلسطين؟ وعندنا أكثر من اثني عشر دليلا دامغا تثبت براءة الإخوان من هذه الفعلة النكراء. هذا والشخص الذي أطلق الرصاصات في الهواء وهو بجوار محمود عبد اللطيف ومسك هذا وترك ذاك، موجود على قيد الحياة، وكل مظاهره تدل على أنه تاب وأناب، وفي حال من الورع لعله يغلب عليه يوما ويعلن الحقيقة على الملأ، ليبرئ ذمته أمام الله المنتقم الجبار. ولا شك في أنه يعلم أن شرط قبول التوبة رد المظالم، وكم من المظالم حلت بالأبرياء بسبب هذه الفعلة.
[3] من بين المراجع العديدة المتاحة (بما في ذلك الصحف اليومية) أنظر. البيان الواضح 1 في م م ر (5 نوفمبر 1954) ص 12-21. وكان يعتقد في ذلك الوقت أن الحكومة قامت بتدبير الحادث حتى تتخلص من الجمعية، وهو اعتقاد ساندته معالجة الحكومة المشبوهة لهذا النبأ.
[4] في النفس شيء من هذه الرواية، فلا أعرف أن الدكتور عبد العزيز كامل أفضى بها إلى من حوله، وقد رأيت شيئا من مذكراته، فوجدته يثير تساؤلات حول الحادث، لا تصدق هذه الرواية.
[5] انظر ما قاله صالح أبو رقيق في كتاب (الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ) ج3 ص36 وما بعدها.
[6] انظر: الإخوان المسلمون – ريتشارد ميتشل ص280، 281.
[7] الإخوان والثورة ص 74-76 باختصار. نقلا عن كتاب د. أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي (9/424،425).
[8] الأهرام في 8 نوفمبر سنة 1954م.
[9] ذكرياتي في عهدين ص 283.
[10] انظر: موسوعة التاريخ الإسلامي جـ 9: ثورة يوليو من يوم إلى يوم: 425-427.
[11] البحث عن الذات ص 180.
[12] مذكرات عبد اللطيف البغدادي ص 94. انظر: موسوعة التاريخ الإسلامي (9/366) للدكتور أحمد شلبي.
[13] قويت إشاعات التعذيب في السجون حتى إن الحكومة نشرت تكذيبا رسميا في إحدى المجلات الموالية لها م أ س (15 ديسمبر 1954) ص 3-6 كما شجعت الصحافة على أن تبدد من عقول الناس فكرة التعذيب وذلك بنشر صور وتقارير تظهر الأحوال الطبيبة للسجون والمسجونين أنظر مجلة المصور (26 نوفمبر 1954) 10-21 ، (3 ديسمبر 1954) 11- 15، حيث نشرت صورا للمسجونين يشربون الشاي ويتجولون في الحدائق، كما نشرت صورة المتهم بمحاولة القتل وهو يستمتع بالشمس وقد أدلى بيده في حوض مائي– وبغض النظر عما حكي من قصص مفزعة عن التعذيب، فالظاهر أنه ما من شك في استعمال العنف لاستخلاص المعلومات" .