الجزء الثانى : سيد قطب وقيادته للتنظيم بالإضافة إلى أحداث ما قبل القبض على التنظيم وإكتشاف التنظيم.
فهرس الجزء الثانى
- الباب الثالث : سيد قطب
الفصل الأول : نشأة سيد قطب
الفصل الثاني : كتابات سيد قطب
الفصل الثالث : مساومات مع سيد قطب
الفصل الرابع : سيد قطب قائدا للتنظيم
الفصل الخامس : قضايا فكرية عند سيد قطب
- الباب الرابع : محنة ( 1965)
الفصل الأول : أحداث ما قبل القبض على التنظيم
الفصل الثاني : إكتشاف التنظيم
الباب الثالث : سيد قطب
الفصل الأول : نشأة سيد قطب
صدر مؤلف جيد للأستاذ محمد توفيق بركات عن دار البيارق بالأردن بعنوان سيد قطب ـ حياته ـ منهجه في التغيير , والنقد الموجه إليه وجاء فيه : " ولد سيد قطب ـ رحمه الله ـ سنة 1906 في قرية من قرى أسيوط (1) لأب ميسور الحال , كريم في الإنفاق , يعتمد في معيشته على أرض واسعة نسبيا , يشتغل له فيها الفلاحون بالأجرة , ومع ذلك لم تكن نفقاته تتناسب مع مردود أرضه , فلا يزال يبيع منها شيئا بعد شيء للوفاء بالديون التي كانت تركبه لكثرة إنفاقه , حتى كانت والدته تخشى أن تنفد أرضهم المتناقصة باستمرار , وترجو أن يقوم ولده سيد في المستقبل - حين تفتح له الدنيا أبوابها ـ بشراء هذه الأجزاء من الأرض التي يبيعها أبوه .. كان والده متنورا ـ حسب تعبيره ـ له ميل إلى التثقف ، وكان منتسبا إلى الحزب الوطني ومشتركا في جريدته الرسمية , ولذلك سارع بإدخال ولده المدرسة ـ التي كانت في بداية عهدها ـ فأظهر تفوقا واضحا في دروسه ـ رغم صغر سنه التي لم تكن تتجاوز السادسة حينئذ ـ وبقى فيها أربع سنوات , وحفظ خلالها القرآن بحيث أتمه وهو في العاشرة , ثم سافر بعد ثلاث سنوات إلى القاهرة (لم يسافر إلى القاهرة بعد انتهاء المرحلة الابتدائية مباشرة بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى) ليتم دراسته الثانوية في رعاية خاله , ثم دخل كلية دار العلوم وتخرج منها.وكان يحب المطالعة منذ كان في القرية , يقرأ كل ما تصل إليه يده حتى لقد كان يقرأ في صباه كتب السحر الخرافية التي يلجأ إليها العامة في كل العصور .. ولذلك كان من الطبيعي أن يبدأ التأليف مبكرا(1). اتصل بعباس العقاد الذي كان أشهر حامل لراية التجديد في الأدب في مصر , وبقى متتلمذا على العقاد زمنا طويلا , يتبنى آراءه وينافح عنها , ويدخل في صراعات أدبية من أجلها , والمطالع للمجلات الأدبية في النصف الثاني من الثلاثينات وما بعدها يرى نماذج كثيرة من هذه المعارك ومع تتلمذه على العقاد , واستفادته الكبيرة منه , إلا أنه كان له نوع استقلال(2) بحيث أنه كان أقرب إلى ( الابتداعية )(3) في الأدب , بينما كان أستاذه أقرب إلى الأدب الفلسفي , ولعل ذلك يرجع إلى نشأته الريفية الأولى وإلى طبيعة نفسيته المتقدة عاطفة وخيالا , فضلا عن طبيعته المحبة للحرية , الكارهة للقيود(4) . كان اتصاله بالثقافة الأجنبية , والإنكليزية خصوصا , كبيرا , ولعل للعقاد في ذلك أكبر تأثير , وكانت هذه الثقافة ـ في عمومها ـ أدبية , ومعلوم أن الآداب الغربية تعكس دائما آراء فلسفية , وليس كذلك الأدب العربي القديم كله , فمنه ما يعكس اتجاهات فكرية ومنه ما لا يعكس شيئا مطلقا بل هو نتيجة الترف والإمتاع والاستمتاع أو الانتفاع ..!
• طور ما قبل الاتجاه الإسلامي في التفكير , بالمعنى الخاص بهذه الكلمة . • وطور الاتجاه الإسلامي العام وهذان الطوران متداخلان إلى حد ما , فقد كانت هذه المرحلة الثانية تحمل بذورا من المرحلة الأولى , والمرحلة الأولى لم تكن مرحلة انقطاع كامل عن الإسلام . • وطور الاتجاه الإسلامي المحدد.
ما قبل الاتجاه الإسلاميإن الذي يطلع على آثار سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ في هذه المرحلة , ثم يقارنها بآثاره في فترة النضج الإسلامي يدرك مدى النقلة الكبيرة في حياة هذا الإنسان الكبير.كانت ثقافته الأجنبية, واتجاهات العقاد , ووضعه المادي ونفسه المرهفة , هي العوامل التي لونت هذه المرحلة , أو أسهمت إلى مدى بعيد في تلوينها فالثقافة الأدبية الأوربية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين تتميز بالسير نحو الفردية , وتنمية الاستقلال الفكري والنفسي , وإيجاد قيم خاصة , والخروج على القيم السائدة , ولذلك فان الذي ينهل منها بغير ميزان ثابت يتيه في مجاهلها ويضيع في تيار ضلالها , وقد تشرب سيد قطب هذه الثقافة , فظهرت عليه أعراضها بنسب متفاوتة , تظهر في آثاره في تلك الفترة , فيبدو رجلا بائسا حزينا قلقا , يعتبر الحياة تافهة , فليس فيها خير وليس لها هدف , ويعتبر الفناء غاية الحياة بكل ما فيها من قيم وفكر وموازين ومشاعر وأعمال .. فقوله : نحن , أم تلك على الأرض ظلال ؟ وخيال سارب إثر خيال في متاهات وجود لزوال كبقايا الخطو في وجه الرمال للزوال .. كل شيء للزوال..! وقوله : كل ما كان وما سوف يكون نأمة تهجس في جوف السكون .. ! يحمل كل منهما روحا عدمية تذكرنا بعمر الخيام .. وساعد على تثبيت هذه المعاني في نفسه فكر العقاد وفلسفته الأدبية من جهة , وحالة الضيق المادي التي عانى منها سيد قطب معاناة شديدة , وكانت نفسيته الحساسة أرضا خصبة تستقبل البذور فتنميها إلى مدى بعيد . على أن حالته هذه ـ على ما فيها من تيه وضياع ـ لم تدفعه إلى الإلحاد الذي يعنى إنكار وجود الخالق ـ سبحانه ـ وكان طبيعيا أن لا يكون بينه وبين الإلحاد بون بعيد , لان الإلحاد ينشأ من أسباب نفسية لا عقلية في أول الأمر, ثم يبحث له عن المسوغات الفكرية .. إلا أن دور العقاد كان حاسما, فهو الذي حال بينه وبين الفكر المادي , كما صرح سيد قطب ـ رحمه الله ـ للأستاذ أبي الحسن الندوي ولم يحل العقاد بينه وبين الإلحاد فحسب , بل حال بينه وبين تبنى الاشتراكية الماركسية أيضا لمناقضتها للحرية بشتى صورها . وهذه المرحلة لم تكن على وتيرة واحدة , فقد كانت فيها فترات حادة وفترات هادئة متزنة , ولعل من ثمار الفترات المتزنة كتاب " مشاهد القيامة في القرآن " الذي ألفه في تلك الفترة, وهذا الكتاب يدل على انه كانت له " أوبات " إلى ماضيه الإسلامي في أسرته المتدينة .
طور الاتجاه الإسلامي العاممن الطبيعي أن لا يكون الاتجاه الإسلامي قد تكون لديه بين عشية وضحاها , فلا بد أن يكون سبق ذلك إرهاصات , وهذه الإرهاصات بذورها موجودة معه أصلا , فقد نشأ في أسرة متدينة , وفى بيئة يشكل الدين القاسم الأعظم لحياة أهلها , وان كان هذا الدين مختلطا بكثير من الخرافات والجهل والفكر العامي , وقد حفظ القرآن كما أسلفنا مبكرا , ولا ريب ـ وان لم يكن متدينا ـ لكنه لم يكن يطيق أن يرى الإسلام يهاجم , فكان يدافع عنه في كثير من الأحيان دفاعا مجيدا ومباحثه الإسلامية وحدها تكون مكتبة . وواضح أن سيد قطب متأثر ــ في اتجاهه الإسلامي ــ بمدرسة الشيخ محمد عبده المتجسدة في زمانه بالشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى , وكان لهذا الأثر نواحيه السلبية والإيجابية عنده ,ولا نعلم بالتحديد متى اتضح لديه الاتجاه الإسلامي , ولكننا ندرك انه كان عام 1948 من ذوى الاتجاه الإسلامي , الذين يدافعون عن الإسلام , ويدعون إلى تحكيمه في شئون الحياة ويبرزون سمو النظام الإسلامي , وكتاب " العدالة الاجتماعية في الإسلام " يمثل قمة هذه المرحلة فكريا . ولكننا ننبه إلى انه لم يكن تخلص تماما من آثار الماضي , وهذا التنبيه ضروري لمن يريد دراسة مراحل حياته بصورة مفصلة , حتى لا يقع في اشكالات محيرة . ومن أهم القضايا التي كان يتبناها في هاتين المرحلتين الدفاع عن الفلاح المصري ضد ظلم الإقطاع واستغلال الباشوات , والمثال المتبادر في المرحلة الأولى كتاب " طفل من القرية " ومثال المرحلة الثانية كتاب " معركة الإسلام والرأسمالية " . وقد كان دفاعه عن الفلاح دفاعا حارا عميقا , نتيجة لمعرفته بحقيقة أوضاع الفلاحين الذين قضى طفولته بينهم وهو يراقب فقرهم وبؤسهم , وكان أسلوبه في الدفاع عنهم هو الهجوم الحاد على ظالميهم , وهو أسلوبه الذي لم يتغير طيلة حياته رحمه الله
الاتجاه الإسلامي المحدد" نقصد بالاتجاه الإسلامي المحدد ذلك الاتجاه الذي تكون عنده منذ انتسابه إلى جماعة الإخوان المسلمين " والواقع أن عمله مع " الإخوان المسلمين " لم يعن انتهاء الأخطاء الفكرية وغيرها .. فمن الواضح أن حياته الفكرية مع " الإخوان المسلمين " تنقسم إلى مرحلتين : • المرحلة الأولى تبدأ منذ انتسابه في أواخر الأربعينات وحتى دخوله السجن عام 1954 , وهذه مرحلة فيها الغث وفيها السمين , ولعل خير ما يمثل هذه المرحلة كتاب " دراسات إسلامية ". • والمرحلة الثانية تبدأ منذ دخوله السجن , أو قل منذ ظهور كتابيه " هذا الدين " و " المستقبل لهذا الدين " كعلامة .. وحتى إعدامه ـ عليه الرحمة والرضوان ـ عام 1966 , وهذه تعتبر مرحلة النضج الكامل , ولم يتخل ـ حين أعلن تخليه عن العديد من كتبه ـ عما كتبه في الفترة الواقعة بين سجنه وإعدامه . وإنما كان الأمر كذلك لان التقدم الفكري وصفاء التصور قد تكون لديه ـ بعون الله وتيسيره ـ بجهوده الشخصية , وليس معنى ذلك أنه لم يكن لحركة " الإخوان المسلمين " فضل عليه , فهذه الحركة هي التي أحيت فكرة العمل لإعادة الدولة الإسلامية , وأحيت معها جوا فكريا ضخما أثر على كافة المفكرين المسلمين في مصر بصورة ما , وبديهي أن تأثير هذه الحركة على أحد أبنائها كان اكبر من التأثير في بقية المفكرين الذين لم يعملوا مع الجماعة , إنما الذي نعنيه هو صفاء التصور ووضوح الميزان القائم على هذا التصور الصافي , فليس ثمة إنسان منصف ينكر أن سيد قطب قمة لا تطالها القمم المعاصرة جميعا في صفاء التصور ودقة ميزانه , ولا من ينكر أن ذلك لم يكن في أول أمره .. ولقد كان معجبا جدا بالإمام الشهيد حسن البنا ـ رحمة الله تعالى ـ وكان إعجابه يتركز - بصورة خاصة - على عبقرية البنا في ناحيتين : • في البناء النفسي المتوازن لأعضاء الحركة , بإيجاد النسب المتكافئة بين العلم والروح والحركة من جهة , وبين المدارس الإسلامية " التخصصية " ـ كالصوفية والسلفية والمذهبية ـ من جهة ثانية • والبناء التنظيمي للجماعة , وقد كان هذا البناء هو الأول من نوعه في العالم بالنسبة للعمل الجماعي المتجسد في صورة " حزب إسلامي ". أما من الناحية الفكرية فلا ريب أن لسيد قطب تفرده , فهو ــ في رأينا ــ يمثل قمة النضج الفكري عند " الإخوان المسلمين " , بحيث يمكن أن يعتبر ظاهرة خاصة , لها طابعها المميز , ولا يعتبر مجرد استمرار لمدرسة البنا الفكرية , أو تلميذا متخرجا منها , كما ذهب إليه الأستاذ غازي التوبة . نعم إن سيد قطب استفاد من فكر " الإخوان المسلمين " الذي غذاه البنا ونماه , ويحتمل كثيرا أننا لم نكن لنجد سيد قطب " المفكر المسلم " لولا الإخوان المسلمون ولولا البنا(1) ولكن ذلك لا يعنى انه كان تلميذا نجيبا فحسب , بل هو مجدد حقيقي , استقل بمنهج فكرى خاص به , يعرف بجلاء لدى قراءة كتبه التي كتبها فيما بين سجنه وإعدامه , ولدى مقارنة ذلك بكتب البنا الرائد , وبكتب كتّاب الإخوان المسلمين ومقالاتهم المكتوبة منذ إنشاء الحركة وحتى أوائل الخمسينيات(2) ولولا ما ذكرنا من أن غيرنا سيكتب في سيرة الشهيد لكتبنا فصلا مطولا عن النواحي التي تجعل من سيد مجددا في مدرسة الإمام الشهيد , فان لم يقم به صاحبالسيرة بذلنا جهدنا في ذلك بحول الله , فان هذا من أخص خصائص سيرته الفكرية في أطوارها المتعاقبة . اتخذ أسلوبه شكله النهائي قبل عشرين عاما ـ تقريبا ـ من إعدامه , وقد تميز بعدد من الصفات : • فأسلوبه يمتاز بالإشراق البياني وجمال التعبير وسهولته , دون أن ينزل إلى مرتبة الابتذال و " الصحفية " ! وهو يعتمد في أسلوبه على اللفظة المفردة وعلى الترادف الذي ينوع المعنى ولا يكرره • ويمتاز أسلوبه بالتشخيص , وهو أداء المعاني في صورة حركية . والاعتماد على اللفظة وعلى التشخيص جاء من تأثره بالقرآن الكريم • كما يمتاز أسلوبه بقوة العاطفة , فهو يمزج دائما فكره بعاطفته ولعل ذلك من الأسباب الهامة في قوة تأثيره في سامعيه وقارئيه وكان الترادف والعاطفية من الحجج التي اعتمد عليها ناقدوه في نقدهم إياه ,إذ يعتبرونه " أديبا " أكثر من كونه " مفكرا " ..! كأنما يحسبون أن من خصائص (( المفكر )) أن يتكلم بذهنه وحده .. وذلك في رأينا سذاجة , فإن المفكر إذا كانت لغته وعاطفته متقدة كان أكثر اتزانا وأفضل تفهما وأحسن تأثيرا , فذلك من حسنات الشهيد وليست من عيوبه , خاصة إذا علمنا أن القرآن الكريم الذي يمثل أرقى أساليب التعبير عن الحقائق جمالا وإشراقا وفصاحة .. كان يخاطب الكينونة الإنسانية بكل منافذ المعرفة فيها , ولا يكتفي بمخاطبة الذهن البشرى وحده وكانت طريقته في أبحاثه ـ غالبا ـ أن يصور المشكلات بوضوح , ويقدم الحلول لها بعد تفنيده وتحليله لمختلف الحلول الأخرى غير الإسلامية , فقد كانت " العقدة " دائما هي المنطلق , على طريقة الأدباء .. وهو في ردوده على غيره يمتاز بأمرين بارزين : - فهو يناقش المسائل الرئيسية عند المخالفين , ولا يقف عند الفروع - وهو في مناقشاته يعتمد على أسلوب الهجوم حتى وهو يدافع .. ولعل هذا الهجوم هو الذي كان يظهره كناقد حاد , وهذه الحدة تعطى أسلوبه قوة فائقة وطرافة ممتعة , خاصة وأنها كانت ملجومة بلجام الجدل العقلي باستمرار .. " انتهى سافر سيد قطب إلى أمريكا لمدة عامين .. وشاهد احتفالات كبيرة بشرب الخمور في أمريكا .. وسأل عن السبب فقالوا له : نحن نحتفل بوفاة هتلر الشرق ! فسألهم من هذا ؟ فقالوا له : لقد مات اليوم حسن البنا مقتولا .. ولو عاش لبنى دولة عظيمة مثل ألمانيا التي بناها هتلر , ولحارب العالم كله كما فعل هتلر .. لذلك قضى عليه قبل أن يستفحل أمره . وهناك رصد سيد قطب الحياة في أمريكا , وألف كتابه " أمريكا التي رأيت " , ولقد حاربت أمريكا كافة دور النشر التي أرادت نشره , ذلك لأنه يصف حال أمريكا والانحلال الأخلاقي فيها وصفا دقيقا(1) ولما عاد من أمريكا أعاد اتصاله بجماعة الإخوان المسلمين وبفضيلة المرشد حسن الهضيبي الذي أولاه ثقته الشديدة .. وبعد قليل تولى رئاسة قسم نشر الدعوة في دعوة الإخوان المسلمين ثم رأس جريدة الإخوان المسلمين حتى عام ( 1954 ) . حيث قبض على سيد قطب مع كافة أفراد جماعة الإخوان المسلمين آنذاك وحوكم محاكمة صورية وشكلية أمام محكمة عسكرية , وحكم عليه بالسجن 15 عاما . ولم يكن هناك أي تميز ملحوظ لسيد قطب في محاكمات ( 1954 ) لأنه كان حديث عهد بالإخوان , ولم يكن من القيادات العسكرية, أو القيادات الفكرية آنذاك حيث كان في الإخوان زخم كبير, وعدد ضخم من العلماء والمفكرين والمربين , فضلا عن قيادة النظام الخاص التي التقطت كل الأضواء آنذاك إضافة إلى أنه كان مريضا بعدة أمراض مزمنة أما عن حياته الاجتماعية , فلم يتزوج سيد قطب حتى دخوله السجن في ( 1954 ) مثلما فعل شقيقه محمد قطب الذي لم يتزوج إلا بعد خروجه من المعتقل عام ( 1971 ) . لكنى سمعت وأنا في السجن أن الشهيد سيد قطب حينما خرج من السجن في ( 1964 ) فكر جديا في الزواج تنفيذا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم مرضه وكان قاب قوسين أو أدنى من ذلك , ولكن الأحداث عاجلته سريعا فمكث خارج السجن عاما واحدا ثم أعيد القبض عليه وحكم عليه بالإعدام , و لقي ربه شهيدا في عام ( 1966 ) أما فترة السجن الأولى فلقد قضاها في مستشفى ليمان طره لكثرة الأمراض المزمنة عنده ولقد لازمه في هذه الفترة زميله الشهيد محمد يوسف هواش .. فتكاملا حيث كانت إمكانيات الشهيد هواش في العمل والحركة بهذا الدين عالية جدا , مع هدوئه واتزانه الشديدين , فأعجب به الشهيد سيد كثيرا . واستمر سيد قطب في مستشفى الليمان , ولقد عاصر سيد قطب مجزرة ليمان طره عام ( 1957 ) حيث كان يفد عليه الشهداء بعد قتلهم برصاص ضباط السجن وعلى رأسهم الضابط عبد العال سلومة . ولا شك أن سيد قطب تأثر كثيرا بهذه المجزرة , ولعلها عمقت عنده الشعور الحاد بالمسافة الشائعة بين هذه الحكومة برئاسة عبد الناصر وبين الإسلام والتدين .. وأن هذه الحكومة بعيدة كل البعد عن الإسلام وأنها أشبه ما تكون بحكومة كمال أتاتورك اليهودي الأصل .. ولعل هذا الموقف قد أوحى إلى سيد قطب وزميله محمد هواش بالبحث في البيئة والنشأة والجذور لجمال عبد الناصر , ونقل هذا الأمر إلى تلاميذه .) أما الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي فيضيف المعلومات التالية (1) : بعد ثورة بعد ثورة 1919م نزح إلى القاهرة وعاش عند خاله الأزهري الصحفي أحمد حسين عثمان لاستكمال دراسته .. وكان خاله هذا على صلة طيبة مع عباس محمود العقاد .. فتعرف سيد قطب على العقاد وداوم على الذهاب إلى مكتبته الضخمة جدا ينهل منها ويغترف منها وعن طريق العقاد تعرف على حزب الوفد .. وأفسح له عباس العقاد المجال الصحفي فصار يكتب فيها القصائد الشعرية .. المقالات الأدبية .. تحليلات سياسية . كان أول اتصاله بالصحافة عام ( 1921م) حيث نشر أول مقالة له حول ( طرق التدريس ) في صحيفة ( البلاغ ) الوفدية اليومية . انتظم سيد قطب قي كلية دار العلوم بعد أن حصل على الثانوية من تجهيزية دار العلوم وتخرج في عام 1933م حاصلا على الليسانس في الآداب مع دبلوم التربية .وكان يدير حلقات في النقد الأدبي وهو طالب في الكلية . عمل مدرسا بوزارة المعارف لمدة ست سنوات في مدارس محافظة بني سويف .. وسنة في مدارس دمياط .. وسنتين في القاهرة في مدرسة حلوان الابتدائية حيث استقر في ضاحية حلوان بالقاهرة . نقل بعد ذلك إلى التفتيش فترة من الوقت ثم مراقبة الثقافة العامة واستمر فيها ثمان سنوات حتى سافر إلى أمريكا عام 1948 م . - كتب مقالات في مجالات كثيرة منها " الرسالة " و " الثقافة " بصورة أساسية .. ودخل معارك أدبية ضد ( الرافعي ومدرسته ) وضد ( د. محمد مندور ) [ وهو شيوعي ] .. وضد صلاح ذهنى في الرسالة أيضا ، ظل تلميذا مخلصا في مدرسة العقاد حتى حوالي عام 1945م حيث أنشأ مدرسة خاصة هو رائدها .. ولكن سرعان ما تلاشت هذه المدرسة لتغير اهتماماته عن الأدب إلى الفكر الديني والتفسير. - أقبل على القرآن الكريم وألف كتابه ( التصوير الفني في القرآن ) .لكن بتوجيهات من الملك فاروق تم سفره إلى أمريكا بغرض إفساده وغوايته ولكن العكس هو ما حدث تماما وعاد أكثر تدينا .كان منتميا لحزب الوفد حتى 4 فبراير 1942 حينما قبل مصطفى النحاس رئاسة الوزارة على آسنة رماح الإنجليز فترك الوفد إلى الأبد انضم إلى الحزب السعدي بعد ذلك لمدة سنتين ثم ترك الحزب السعدي وهجر الأحزاب كلها نهائيا. - ولما قامت الثورة شارك بكل جهده في الثورة داعيا لها ومشاركة في التمهيد لها .. ثم الدعاية لها .. وكرمته الثورة فكان المدني الوحيد الذي يحضر اجتماعات مجلس الثورة .. بل وأقاموا له حفل تكريم خاص حضره عبد الناصر والسادات للإشادة به وبيان مناقبه وتحدث في هذا الحفل جمال عبد الناصر وأنور السادات ومن ثم فهو معروف لهما بصفة خاصة - عرض عليه رجال الثورة عدة حقائب وزارية ومناصب رفيعة ولكنه رفض هذا كله - عمل لفترة قصيرة مستشارا لمجلس قيادة الثورة للشئون الثقافية لهيئة التحرير ( حزب الحكومة الوحيد آنذاك ) . - حضر مؤتمرا في دمشق للدراسات الاجتماعية .. وهناك قابل رئيس حزب التحرير الإسلامي ورجاه أن يعود ثانية إلى صفوف الإخوان المسلمين ولكن النبهاني رفض مطلب سيد قطب - ترك رجال الثورة وانخرط بهمة عالية مع الإخوان المسلمين , وعينه الأستاذ حسن الهضيبى رئيسا لقسم الدعوة حتى أكتوبر 1954م حيث تم اعتقاله ومحاكمته كما أسلفنا .
|
الفصل الثاني : كتابات سيد قطب
وكما يحكى الأستاذ محمد توفيق بركات .. أن العقاد كان له الفضل في الحيلولة بين سيد قطب والإلحاد وأنه العقاد ساعد سيد قطب على اتجاهه الإسلامي ؟" ذلك لأن للعقاد كتب إسلامية تنافح عن الإسلام وعن رموز المسلمين مثل العبقريات " عبقرية محمد " , " عبقرية أبو بكر الصديق " , " عبقرية عمر " , " عبقرية خالد بن الوليد " وغيرها ... وهذا ما أشار إليه الأستاذ أبو الحسن الندوي حين زار مصر وقابل الشهيد سيد قطب آنذاك في أربعينات القرن الماضي ( ذكر ذلك أبو الحسن الندوي في كتابه " سائح في الشرق العربي " ) ويواصل صلاح الخالدي في كتابه " [[المنهج الحركي في ظلال القرآن]] صفحة ( 13 ـ 27 ) فيسرد هذا التاريخ قائلا ( بتصرف ) 1. في عام 1945م ألف كتابه التصوير الفني في القرآن وهو يمثل المنهج الجمالي الفني في القرآن 2. في عام 1947م اصدر سيد قطب كتابه الثاني " مشاهد القيامة في القرآن " وهو يتناول التصوير الفني في مشاهد القيامة من النعيم والعذاب 3. اصدر مجلة " الفكر الجديد " بتمويل من أحد الإخوان المسلمين وهو الحاج محمد حلمي المنياوي صاحب دار الكتاب العربي .. هاجم سيد قطب فيها الإقطاع والباشوات والرأسمالية وقد أغلقتها الحكومة بعد اثني عشر عددا 4. أصدر كتابه " العدالة الاجتماعية في الإسلام " بعد ذلك 5. بدأ كتابه " في ظلال القرآن " بمقالات في " مجلة المسلمون " التي كانت تصدر شهريا برئاسة سعيد رمضان ( زوج بنت الإمام حسن البنا )، وكانت تعبر عن رأى جماعة الإخوان المسلمين وتوقف سيد قطب بعد عدة مقالات وأعلن أنها ستصدر في أجزاء تحمل نفس العنوان " في ظلال القرآن " وقد كان وخرجت إلى النور في ثلاثين جزءا هي كتاب" في ظلال القرآن" أما كتاب " لماذا أعدموني "(1) لسيد قطب .. الذي هو اعترافاته بخط يده في السجن الحربي فيقرر فيه أنه أي سيد قطب كان على علاقة طيبة برجال الثورة حتى عام 1953م وهو يحكى بالحرف الواحد " ... واستغرقت عام 1951 في صراع شديد بالقلم والخطابة والاجتماعات ضد الأوضاع الملكية القائمة والإقطاع والرأسمالية وأصدرت كتابين في الموضوع غير مئات المقالات في صحف الحزب الوطني الجديد والحزب الاشتراكي ومجلة الدعوة التي أصدرها الأستاذ صالح عشماوي ومجلة الرسالة وكل جريدة أو مجلة قبلت أن تنشر لي، بلا انضمام لحزب أو جماعة معينة وظل الحال كذلك إلى أن قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952. ومرة أخرى استغرقت كذلك في العمل مع رجال ثورة 23 يوليو حتى فبراير سنة 1953 عندما بدأ تفكيري وتفكيرهم يفترق حول هيئة التحرير ومنهج تكوينها وحول مسائل أخرى جارية في ذلك الحين لا داعي لتفصيلها.. وفي الوقت نفسه كانت علاقاتي بجماعة الإخوان تتوثق باعتبارها في نظري حقلاً صالحاً للعمل للإسلامعلى نطاق واسع في المنطقة كلها بحركة إحياء وبعث شاملة، وهي الحركة التي ليس لها في نظري بديل يكافئها للوقوف في وجه المخططات الصهيونية والصليبية الاستعمارية التي كنت قد عرفت عنها الكثير وبخاصة في فترة وجودي في أمريكا. وكانت نتيجة هذه الظروف مجتمعة انضمامي بالفعل سنة 1953 إلى جماعة الإخوان المسلمين. ومع ترحيبهم – على وجه الإجمال- بانضمامي إلى جماعتهم إلا أن مجال العمل بالنسبة لي في نظرهم كان في الأمور الثقافية لقسم نشر الدعوة ودرس الثلاثاء والجريدة التي عملت رئيساً لتحريرها وكتابة بعض الرسائل الشهرية للثقافة الإسلامية .. أما الأعمال الحركية كلها فقد ظللت بعيداً عنها. ثم كانت حوادث 1954 فاعتقلت مع من اعتقلوا في يناير وأفرج عنهم في مارس! ثم اعتقلت بعد حادث المنشية في 26 أكتوبر..." ولقد كان للإمام الشهيد حسن البنا رأى في سيد قطب .. حينما نشر مقالا في جريدة الأهرام أوائل أربعينات القرن الماضي فيه دعوة صريحة إلى العرى التام وأن يعيش الناس عراة كما ولدتهم أمهاتهم (1). وكانت هذه البدعة قد انتشرت في أوربا .. وحمل الأستاذ محمود عبد الحليم (2)المقال إلى الأمام الشهيد يستأذنه في الرد على سيد قطب في نفس جريدة الأهرام في نفس المكان .. وقرأ حسن البنا مقاله ردّا على سيد قطب ثم أطرق طويلا , وفكّر كثيرا ـ على غير ما عودني ـ ثم التفت إلىّ وقال : يا محمود . إن المقال متين الأسلوب , قوي الحجة , جدير أن ينشر ... وأضاف أن هدف هذا الشاب في كتابة هذا المقال ليس هو مجرد التعبير عما يؤمن به . وإنما هو محاولة لجذب الأنظار إليه على أساس عرفهم في أن الغاية تبرر الوسيلة ولعلنا بنشر المقال تلفت الأنظار إلى ذات الرذائل .. والرد أيضا نوع من التحدي .. والتحدي يخلق في نفس الردود عليه نوعا من العناد ... وما يدريك لعل هذا الشاب يفيق من غفلته , ويفئ إلى الصواب ويكون ممن تنتفع الدعوة بجهوده في يوم من الأيام .. ولقد صدقت فراسة الأمام حسن البنا .. وصار سيد قطب فيما بعد علما من أعلام دعوة الإخوان المسلمين ليس في مصر وحدها .. ولكن في الدنيا كلها .. ورحم الله الشهيدين حسن البنا وسيد قطب .
خلّف سيد قطب عددا من البحوث والدراسات الأدبية والإسلامية , وفيما يلي نرتبها حسب صدور طبعاتها الأولى : 1- مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر طبع عام (1933) 2- الشاطئ المجهول ديوانه الشعري الوحيد المطبوع طبع في يناير(1935) 3- (نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر ) للدكتور طه حسين . طبع عام (1939) 4- التصوير الفني في القرآن . أول كتبه الإسلامية . طبع في إبريل " نيسان " (1945) 5- الأطياف الأربعة : بالاشتراك مع اخوته : أمينة ومحمد وحميدة . طبع عام (1945) 6- طفل من القرية : فيه تصوير لقريته وتسجيل لطفولته فيها ، طبع عام (1946) 7- المدينة المسحورة : قصة خيالية على غرار قصص ( ألف ليلة وليلة) طبع عام (1946) 8- كتب وشخصيات : الحلقة الأولى من دراساته لمؤلفات الآخرين طبع عام (1946) 9- أشواك : قصة حبه وخطبته لفتاته ثم فسخه الخطبة . طبع عام (1947) 10- مشاهد القيامة في القرآن : الحلقة الثانية من سلسلة ( مكتبة القرآن الجديدة ) طبع في إبريل ( نيسان ) عام (1947) 11- روضة الطفل : بالاشتراك مع أمينة السعيد ويوسف مراد . اصدر منها حلقتين 12- القصص الديني : بالاشتراك مع عبد الحميد جودة السحار 13- الجديد في اللغة العربية . بالاشتراك 14- الجديد في المحفوظات . بالاشتراك 15- النقد الأدبي أصوله ومناهجه : بيّن فيه نظريته الخاصة في النقد الأدبي طبع في يونيه ( حزيران ) عام 1948 16- العدالة الاجتماعية في الإسلام : كتابه الأول في الفكر الإسلامي . طبع في إبريل ( نيسان ) عام 1949 17- معركة الإسلام والرأسمالية : طبع في فبراير ( شباط ) 1951 18- السلام العالمي والإسلام :طبع في أكتوبر (تشرين أول)عام 1951 19- في ظلال القرآن : ظهرت الطبعة الأولى للجزء الأول منه في أكتوبر ( تشرين أول ) عام 1952 20- دراسات إسلامية : مجموعة مقالات مختلفة قدم لها محب الدين الخطيب . طبع عام 1953 21- هذا الدين : مفتاح منهجه الحركي في فهم القرآن والإسلام 22- المستقبل لهذا الدين : يعتبر المتمم لكتاب هذا الدين 23- خصائص التصور الإسلامي ومقوماته : اعمق كتبه خصصه للحديث عن خصائص العقيدة ومقوماتها . 25- معالم في الطريق : وفيه خلاصة فكره الحركي : وهو الذي عجل في إصدار حكم الإعدام على صاحبه وقد أعد عددا من البحوث والدراسات ثم عدل عن نشرها وهي : 5. [[المرأة في قصص نجيب محفوظ]] 10. قصة القطط الضالة 13. الصور والظلال في الشعر العربي 15. شعراء الشباب 16. القصة الحديثة 18. الشريف الرضي 20. أمريكا التي رأيت وبحوثه الأدبية الإسلامية , التي اعتبرها حلقات من (مكتبة القرآن الجديدة ) ثم عدل عنها في آخر لحظة هي : 22. النماذج الإنسانية في القرآن 24. أساليب العرض الفني في القرآن وأما بحوثه الإسلامية الحركية الناضجة , التي أعدمت بإعدامه فهي : 25. معالم في الطريق : المجموعة الثانية 26. في ظلال السيرة 27. في موكب الإيمان 28. مقومات التصور الإسلامي (أصدره محمد قطب بعد وفاة الشهيد) 29. نحو مجتمع إسلامي 30. هذا القرآن 31. أوليات في هذا الدين 32. تصويبات في الفكر الإسلامي المعاصر |
الفصل الثالث : مساومات مع سيد قطب
تعرض سيد قطب طيلة حياته لمساومات , فكان ـ رحمه الله ــ عزيزا أبيّا يرفض مبدأ أو منهج المساومة , وساعده على ذلك همته العالية , ونشأته في بيئة موسرة نسبيا , إضافة إلى العمق الأخلاقي والديني الذي نمته وعمّقه دراسته في كلية دار العلوم .. كان سيد قطب تلميذا نابغا في مدرسة العقاد , ولكنه لم يكن خاضعا لسيطرة العقاد .. بل كان متحررا حتى من قيود التلمذة في تلك المدرسة فلم يكن سيد قطب أقل موهبة من نجيب محفوظ .. والمطالع لكتابات كل منهما يرى ويلاحظ الموهبة النادرة عند سيد قطب .. فلقد طوّع الله ـ عز وجل ـ اللغة العربية لسيد قطب .. كما طوّع الله الحديد لسيدنا داود .. فلقد ألان الله الحديد لداوود ـ عليه السلام ـ وألان الله مفردات اللغة لسيد قطب . • فكانت أولى المساومات مع نفسه حينما اختار طريق الدين , وسلك هذا الطريق .. فساومته نفسه , وساومته الدنيا ببريقها أن يسير في ركابها .. وسوف يجنى من الدنيا الخير الكثير .. فكان واضحا وحادا في هذا الاختيار . • ساوموه في أمريكا أن يرجع عن كتابه " أمريكا التي رأيت " , وأن يسير في ركاب الحضارة الأمريكية .. فرفض .. بل عاد من هناك مصر ا على المضي في طريق الدين .. وسلك سبيل المؤمنين .. وحارب سبيل المجرمين بلا هوادة.. حتى أتاه اليقين • ساومه عبد الناصر أن يكون وزيرا للتربية والتعليم على أن يترك جماعة الإخوان المسلمين ( قبل 54 ) فرفض . • ساوموه أن يكتب ورقة يؤيد فيها جمال عبد الناصر , وان يقدم اعتذارا لعبد الناصر ويخرج من السجن , وكانت ظروف الإكراه بالسجن مع قائمة طويلة من الأمراض تتيح له استخدام تلك الرخصة التي قبلها كثيرون من زملائه من الإخوان .. ولكنه رفض وآثر البقاء في السجن . • ساوموه على اقل من مجرد الاعتذار .. ولو بالمداهنة .. بكتابة ولو برقية تهنئة لعبد الناصر في أي مناسبة من المناسبات الكثيرة في عهد عبد الناصر ويخرج من السجن فرفض في إباء وشمم وآثر البقاء في السجن حاملا شعاره الرباني الكريم " ودوا لو تدهن فيدهنون " . • توسط له الرئيس عبد السلام عارف لإخراجه من السجن , وبعد أن خرج زاره مندوب الرئيس عبد السلام عارف في بيته , وطلب منه أن يرحل معه إلى بغداد .. ويكون مستشارا خاصا له فاعتذر له وشكر له وقال له إن صحتي لا تناسب جو العراق , وأنا أريد جوا جافا مثل جو حلوان .
• بعد خروج الأستاذ سيد من السجن , طالبته الضرائب بمبلغ 40000 جنية ( أربعون ألف جنية ) كضرائب مستحقة عليه , وبعدها بفترة ذهب إليه أحد كبار رجال المباحث وعرض عليه العمل كوكيل وزارة مع إعفائه من الضرائب المستحقة عليه فاعتذر له عن قبول ذلك . • بعد فترة أخرى حضر إليه ثلاثة من رجال المباحث , اذكر منهم الضابط أحمد رشدي(2) , وبعد دردشة من هنا وهناك , وسؤاله : هل الفيلا التي يسكنها ملك أم إيجار ؟ فلما أجاب أنها إيجار , أبدوا دهشتهم قائلين : كيف يكون شخص مثلك لا يملك مثل هذه الفيلا وغيرها ؟ ثم بدأوا يعرضون عليه أمر الكتابة في الصحف قائلين : هل يعجبك سيطرة الشيوعيين على الصحف(1) ؟. لماذا لا تخترق مثل هذا المجال لتقليل سيطرة الشيوعيين؟ فقال لهم : " ومن الذي يعنيهم في هذه الأماكن ؟ أنا أم أنتم ؟ ثم قال لهم ساخرا : ومن من رؤساء تحرير الصحف يجرؤ على نشر مقال لي ؟ فقالوا له : اكتب أي مقال وأعطه لنا ونحن نتولى نشره , بل ولك أن تحدد الجريدة التي تريدها . فقال لهم بإصرار : " أنا لا أقبل أن انشر شيئا بإسمي في هذه الصحف , وأنا لا أرضى أن ينشر لي بإذن المباحث. وأنا لا أعتذر فقط بل أرفض ذلك " وانتهت المقابلة . • بعد فترة أخرى زاره ثلاثة آخرون , أحدهما عالم لبناني كبير وآخر مصري يعمل في المؤتمر الإسلامي الذي كان يرأسه أنور السادات في ذلك الوقت والثالث عراقي ( ومما يلفت النظر أن الثلاثة من جنسيات مختلفة مع تباين وظائفهم واتفاقهم في الهدف ) ولقد عرضوا عليه فكرة إنشاء مجلة إسلامية يتولى رئاسة تحريرها . اعتذر لهم أيضا , وقال لنا بعدها(2) : إن اللبناني طيب وحسن النية , والمصري مكلف يؤدى مهمة , أما العراقي فهو رجل مخابرات مدرب , يعرف متى يتكلم , ويعرف متى يصمت .. وعقب على ذلك بأنهم يريدون تلويث اسمه بالعمل معهم , وهم حريصون دائما على تلويث الراية , راية الإخوان , بمحاولة استدراجهم للعمل معهم والمشاركة في نشاطاتهم وأنظمتهم حتى يلوثوهم وبالتالي يفقدون أي بريق أو تأثير لهم عند الناس . • أما المساومة الكبرى فكانت بعد الحكم عليه بالإعدام فلقد حضرت إليه أخته حميدة .. كما يحكى أيضا أحمد عبد المجيد(3) " أجروا عدة مساومات مع الأستاذ سيد لكتابة اعتذار وتخفيف الحكم عليه فرفض , وتم ذلك بواسطة حمزة البسيوني مدير السجن الحربي , وصفوت الروبي ( الجلاد مصر الأول ) ومرة أخيرة أحضروا له شقيقته حميدة الموجودة في السجن ظنا منهم أن ذلك يؤثر عليه , فرفض رفضا قاطعا كل المحاولات , وقال لشقيقته : عن أي شيء أعتذر يا حميدة ؟ عن العمل مع الله؟ والله لو عملت مع جهة . أية جهة غير الله .. لاعتذرت . ولكنى لن أعتذر عن العمل مع الله . وأضاف : اطمئني يا حميدة , إن كان العمر قد انتهى فسينفذ حكم الإعدام وإن لم يكن العمر قد انتهى فلن ينفذ حكم الإعدام ؟ ولن يغير الاعتذار شيئا في تقديم الأجل أو تأخيره وأنا أرى أن الخير إن شاء الله للدعوة الإسلامية في استشهادي ." |
الفصل الرابع : سيد قطب قائدا للتنظيم
كتبت من قبل تحت هذا العنوان , ولكن هذه المرة سوف أكتب بعض السمات والملامح العامة لهذا القائد , ولهذه القيادة .. خلقا .. وإدارة . • حرص سيد قطب على الاطمئنان على طريقه وظروف التقاء أفراد التنظيم بعضهم ببعض . • لم يوافق على رئاسة التنظيم إلا بعد استئذان فضيلة المرشد حسن الهضيبى الذي أعطاه موافقته . • كان يعرض كل كتبه على الأستاذ الهضيبى ويأخذ موافقته عليها . • قال للاخوة قادة التنظيم " أنا تحت أمركم في أي وقت دون اعتبار لصحتي ولا لظروفي " وهذا ما ينبغي أن يكون عليه القائد والداعية والمسئول وعلى قدر تحقيق هذا السلوك يكون الانتماء إلى الفكرة ويكون الشعور بالمسئولية . • يحكى كل من اتصل بالأستاذ سيد قطب كرمه وسخاؤه الشديدين ذلك لان الكريم قريب من الناس قريب من الله . • قال فضيلة المرشد حسن الهضيبى عن كتابات الأستاذ سيد قطب " ما قاله صاحب الظلال هو الحق الذي لا شك فيه "(1) • حضر عضوا مكتب الإرشاد الأسبقان عمر التلمساني وعبد العزيز عطية في أوقات مختلفة إلى مستشفى سجن ليمان طره حيث كان يقيم الأستاذ سيد ( حتى عام 64 ) وتفاهم الأستاذ سيد معهما واتفقوا تماما ولم يبديا أي خلاف أو اعتراض على ما كتبه الشهيد . • تقول الأخت الحاجة زينب الغزالي (2) " وعلمت أن المرشد اطلع على ملازم هذا الكتاب ( معالم في الطريق ) وصرح للشهيد سيد قطب بطبعه , وحين سألته .. قال لي : على بركة الله .. إن هذا الكتاب حصر أملي كله في سيد ربنا يحفظه , لقد قرأته وأعدت قراءته . إن سيد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة إن شاء الله , وأعطاني المرشد ملازم الكتاب فقرأتها فقد كانت عنده لأخذ الأذن بطبعها ." • قيل انه من المتبع قبل تنفيذ الإعدام شنقا إن يكون موجودا أحد مشايخ الأزهر ليلقن المحكوم عليه الشهادتين , وقبيل السير بخطاه الأخيرة إلى حبل المشنقة , قال له الشيخ : " قل لا اله إلا الله " . فرد عليه الشهيد سيد قطب " حتى أنت جئت تكمل المسرحية , نحن يا أخي نعدم بسبب لا اله إلا الله , وأنت تأكل الخبز بلا اله إلا الله " (1) . • روى الشهيد سيد قطب رؤيا رآها عام 1965 " أنه رأى في منزله بحلوان خلايا نحل يتدفق العسل منها بغزارة , ولما امتلأت أوعية المنزل وعجزوا على إيقافها , انساح في كل جنبات المنزل , ومنه إلى الشوارع , فالمنطقة كلها , وجاءت الشرطة والمطافي لمنعه فلم تستطع , وصار يتدفق في كل الشوارع " ولقد أوّلها الشهيد رحمه الله أنها كتبه وقد كان • كان رحمه الله عف اللسان , يمتثل قول المولى عز وجل " والذين هم عن اللغو معرضون " .. سأله رئيس المحكمة العسكرية التي تحاكمه وهو اللواء محمد فؤاد الدجوي .. سأله " هل تعرف الفتاكة(2) يا سيد ؟ فأجاب بأدب جم : لا . |
الفصل الخامس : قضايا فكرية عند سيد قطب
بين يدي المنهجلعل هذا هو أدق وأصعب أبواب هذا البحث .. فهو يتناول القضايا الشائكة وما أكثرها .. ولكن لا بد من الكتابة فيه .. فان لي تجربة شخصية مع كتب ومنهج سيد قطب , ومع التنظيم الذي كان يرأسه الشهيد عليه رحمة الله ورضوانه , فإذا كتبت فهو من واقع الأحداث , ومن قلب المعركة , ومن خضم المعاناة والمكابدة , ولقد دفع الشهيد سيد قطب حياته ثمنا لهذا الفكر , وتلك الحركة .. هو وزميلاه الشهيدان محمد يوسف هواش , وعبد الفتاح إسماعيل على حبل المشنقة .. كما دفع قبلهم حياتهم شهداء في سبيل الله تحت السياط وبين أنياب الكلاب .. ذهبوا شهداء كأعظم الشهداء ( ولا نزكى على الله أحدا ) مثل محمد منيب ( أسيوط ) و محمد عواد ( الزوامل من محافظة الشرقية ) , إسماعيل الفيومي ( من الحرس الجمهوري بالقاهرة ) ورفعت بكر ( من حلوان ابن أخت الشهيد سيد قطب ) , ومحمد عبد الله ( كفر شكر قليوبية ) وغيرهم من الشهداء في السجن الحربي قتلهم الطغاة بعد تعذيب بشع , كما استشهد غيرهم في سجون أخرى في محنة ( 1965 ) مثل الشهداء زكريا المشتولي , بدر القصبي, وأحمد شعلان في سجن أبى زعبل .. وشهداء آخرون لحقوا بهم مرضى منعوا عنهم الدواء وتركوهم يعانون المرض حتى ماتوا شهداء مثل عبد الحميد البرديني , ورجب رجب الخمسي , وأحمد شريت , وهانى بسيسو . فطابور شهداء الإخوان طويل .. طويل , بدأه المجاهدون في فلسطين , ثم لحقهم سريعا حسن البنا ثم توالى طابور الشهداء في ( 1954 ), ( 1965) , ولقد كنت في محنة ( 1995 م) أعجب أن ليس فيها شهداء حتى لقي أحد الإخوان الأفاضل من الفيوم .. لقي ربه شهيدا بسبب قلة الدواء وتباطؤ العلاج والروتين والبيروقراطية الإدارية التي تصل إلى حد التواطؤ هذا الشهيد هو الأخ عبد الرحمن عبد الفتاح عبد الله نقيب المعلمين الأسبق في الفيوم .. هذا الدرب الطويل .. وهؤلاء الشهداء الكرام قرن الله بينهم في كتابه الكريم , وعطف بحرف العطف ( و ) بلا فأصل غيره مع النبيين والصديقين حيث قال عز وجل " فأولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء "(1) فاسم الشهداء ملتصق باسم النبيين والصديقين التصاقا .. يكاد يكون بلا فأصل غير حرف العطف الصغير ( و ) .. ولا عجب فهناك من الأنبياء من لقي نفس المصير في دعوته إلى الله , وفى مجابهة الطغاة .. فهذا النبي الكريم زكريا عليه السلام نشروه بالمناشير حتى قطعوا جسده قطعتين بالطول .. إمعانا في التعذيب .. وأمره الله عز وجل أن يأخذ بالعزيمة فلم يرض المولى سبحانه من سيدنا زكريا أن يتأوه بحرف أو حرفين ( آه ) .. وناداه الوحي من السماء لئن نطقت بكلمة ( آه ) ثانية لمحوناك من سجل الصابرين . وهذا ابنه الغالي نبي الله ( يحيى ) عليه السلام قدم اليهود رأسه ــ بعد أن فصلوها عن جسده ــ هدية إلى غانية راقصة . وهذا النبي الكريم الذي لمّا يأخذ حقه بعد من التفهيم والذكر والبيان بل إن القرآن الكريم أشار إليه إشارة " وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا " (2) .. صاحب البئر المسمى بـ ( الرس ) .. هؤلاء القوم أصحاب هذا البئر ( الرس ) .. دفنوا نبيهم حيا في البئر وأهالوا عليه التراب حتى لقي ربه ..كما كان يفعل العرب قبل البعثة من ( وأد ) البنات أحياء .. فهؤلاء وأدوا نبيهم حيا . .. وهذا ( الغلام ) الرباني .. صاحب قصة الغلام المشهورة في كل كتب الحديث والذي عجز الطاغية عن قتله , وأعيته الحيل .. كلما ابتكر الطاغية وسيلة لقتله نجاه اله منها .. لعله يعتبر .. ولكن هيهات .. واستمر الصراع .. الطاغية يريد قتل الغلام , والغلام يريد هداية قومه بما فيهم الطاغية .. وشتان ما بين التوجهين .. وكل يفكر بإمعان كيف السبيل ... الطاغية يقول كيف السبيل إلى قتل الغلام ؟ والغلام يقول كيف السبيل إلى هداية قومه ؟ وطمس الله على قلب الطاغية .. وفتح الله على قلب الغلام بخطة ربانية أوحى الله بها إلى قلب الغلام .. فقال الغلام للطاغية ما معناه : إذا أردت قتلى , فاجمع الناس في صعيد واحد , وخذ سهما بشرط أن يكون من كنانتي ( أي جعبة أسهمي إمعانا في ذل الطاغية ) , وقل " باسم الله رب الغلام " ( إمعانا في مزيد من الذل وتورطا بالاعتراف بالله إلها قادرا وحده , وربا لكل الأرباب المزعومة .. فلا رب سوى الله ) ففعل الطاغية .. ولقي الغلام ربه شهيدا , وآمنت الأمة كلها . وهذا صاحب( يس )(1) الذي نادى قومه " قال يا قوم : اتبعوا المرسلين , اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون . ومالي لا اعبد الذي فطرني واليه ترجعون ..." وصاح فيهم " إني آمنت بربكم فاسمعون " .. فقتلوه " قيل ادخل الجنة " .. فنادت روحه قومه بعد دخوله الجنة " قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربى وجعلني من المكرمين "
فقه سيد قطبإن سيد قطب لا شك علاّمة موهوب , ألانَ الله له مفردات اللغة كما ألانَ الحديد لداود عليه السلام . فأدبه وبلاغته هما السهل الممتنع , أو إن شئت قل السهل المعجز كذلك فإن عزيمته وهمته عاليتان علو عزيمة وهمة الشهداء .. فهو كمن يلقى الأعداء حاسرا بغير درع , ويهرول في وسط صفوف الطغاة ولا يتحرك له جفن , ولا تهتز له شعرة .. يواجههم وباطلهم أقسى ما تكون المواجهة , ويعرى أفكارهم .. بل ونواياهم أشد ما تكون التعرية .. فهو محارب في ميدان المعركة .. مقاتل في ساحة القتال . وميدان المعركة , وساحة القتال لا تحتمل التردد , ولا ينفع فيها اختلاق المعاذير للخصم فضلا عن قبولها , فحين يشتد حمى المعركة , ويشتعل لهيبها فلا مكان لعفو أو صفح حتى يحكم الله بين الفريقين . إن سيد قطب مقاتل صلب عنيد .. فلم تجد معه مساومات , ولم تنفع معه ضغوط .. هذا معناه انه ظل في حرب مع عبد الناصر وأعوانه تسعة أعوام في السجن ( 55 ــ 1964 ) معذبا في سجنه يوما بعد يوم أي حوالي ( 9 × 365 ) = 3285 يوم .. معركة استمرت ثلاثة آلاف يوم .. والجنود في المعركة يحاربون نهارا وينامون ليلا , أما سيد قطب فكانوا يحاربونه في سجنه ليل ونهارا .. في نومه ونبهه .. في يقظته وغفوته . ولقد رأى سيد قطب إخوانه شهداء مذبحة طره عام ( 1957 ) ( 21 شهيدا ) ومثلهم من الجرحى يموتون في ساحة السجن في معركة غير متكافئة بل ورأى على سرير بجواره يموتون من التعذيب صبرا بمنع الدواء مثل الشهيد أحمد نار و غيره. فأيقن أنها معركة حربية هو في قلب ساحتها .. والمعارك لها قانون ونظام غير نظام الحياة العادية .. ولعل هذا الأمر يتضح في عتاب الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض , تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم " (1) فإذا حمى الوطيس فلا شفقة ولا رحمة أثناء المعركة (2) " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق .. "(3) والملاحظ أن ختام هذه الآية مسبوق بكلم ( بعد ) .. " فإما منا بعد وإما فداء ... "(4) فالمن والفداء بعد المعركة وليس أثناءها والتأكيد على ذلك بقوله عز وجل " حتى تضع الحرب أوزارها ". .. عاش سيد قطب ساحة قتال , وليست زنازين سجن وهو مريض لا يملك إلا قلمه .. فحارب الباطل بقلمه .. فنزلت كلماته ـ عليه رضوان الله ـ سيوفا على الباطل في كل أرجاء الأرض , جريء لا يتردد .. فالتردد في المعركة هزيمة نكراء واضح بلا غبش . فالغبش يميع ساحة القتال لصالح الأعداء الذين لا عهد لهم ولا ذمة , وقلوبهم كالحجارة أو اشد قسوة لا رحمة فيها ولا تنفع معها رحمة .. فالرحمة ليست في قاموسهم , وليست من مفردات الكلام عندهم من هنا حرص سيد قطب ـ رحمه الله ـ على وضع كثير من النقط فوق الحروف , ورفض أي لبس , وعرّى الباطل , وحرص على التمايز عنه , وأختار لهم مفردات لغة لعلها من وجهة نظره المناسبة لساحة القتال ( مثل الجاهلية ــ دار الحرب وغيرها كثير ) هكذا كان اجتهاده رحمه الله . أما الشهيد حسن البنا فكان في حقل مختلف , وظروف أخرى .. هو حقل الدعوة والتفهيم والشرح والبيان ...وكانت عنده معارك أخري لا تقل ضراوة مثل : 1- المؤامرة العالمية لفصل الدين عن الحياة , وهي مؤامرة بدأت منذ غزا نابليون مصر ( عام 1798 ) ومنذ أرسل محمد على المبعوثين إلى فرنسا 2- مؤامرة تجهيل وأمية المسلمين فوق أميتهم الضاربة أطنابها 3- مواجهة العلمانيين الذين يتبؤون ـ ( بقدرة قادر )(1) ـ المناصب والوجاهة في مقابل إلغاء الدين من كل مظاهر الحياة 4 إحلال شعارات رنانة محل الدين مثل " الوطنية " بديلا عن الدين وليست جزءا منه ، كما فعل ( سعد زغلول ) حين رفض رفضا قاطعا أن يشاركه الدين في ثورته عام (1919) بل وبطريقة مريبة انتهز فرصة إعلانه زعيما متوجا للامة فنزع الحجاب عن زوجته صفية زغلول ( أم المصريين ) وكأنه يحقق إشارة الله عز وجل في سورة الأعراف التي تشير إلى تلازم العرى وتزامله مع المعصية " فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة .."(2) وحاول حسن البنا بعده أن يفهم الناس أن الوطن وحبه وحمايته جزء من الدين , وأن المرابطين على ثغور البلاد مجاهدون في سبيل الله وليست الوطنية بديلا عن الدين(1) .. وكابد حسن البنا كثيرا في شرح هذه القضية ...ولكن هيهات . 5- ثم جاءوا بـ" القومية العربية "(2) بديلا عن الدين وعن القومية الإسلامية .. فناضل حسن البنا لكي يفهم الناس أن ( العربية ) .. والعرب ليسوا بديلا عن الدين والتدين بل العرب والعربية هم حملة هذا الدين وحماته وليسوا بديلا عنه. 6- فصل الدين عن الدولة وهى قضية جاء بها جيش جرار من العلماء والمفكرين الذين تربوا في فرنسا , وامسكوا بزمام الأمور في كل مناصب الدولة مثل طه حسين , علي عبد الرازق ,قاسم أمين , أحمد لطفي السيد رفاعة رافع الطهطاوى وغيرهم كثير .. بل جم غفير . 7- دعاوى أخذ الحضارة من غير المسلمين في كل سلوكياتها وليس مجرد نقل التكنولوجيا المتطورة فقط .. فكان أمثال طه حسين وقاسم أمين يعلنان أن التطور والتقدم مرتبطان ارتباطا وثيقا بأخلاقيات الغرب .. فالعرى والتعرى , ولبس البنطلون , والأكل بالمعلقة والشوكة والسكين , ونقل التكنولوجيا , وعدم الاهتمام الزائد ( كما يدعون ) بالعبادات , وتعلم فنون الرقص والاستمتاع بالغناء والموسيقى والرقص مع الأجانب كل هذه حزمة واحدة في جانب .. والدين وضوابطه , وحدوده , ومحرماته في جانب آخر متعارض مع هذا التقدم والرقى ( المزعومين )
الفروق بين منهج حسن البنا ومسلك سيد قطبإن حسن البنا بلا شك ( إن شاء الله ) هو مجدد القرن العشرين لهذه الأمة فكلما خلق هذا الدين في نفوس المؤمنين بعث الله لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها . وكثير من الناس لاحظ فروقا جوهرية من كلام حسن البنا , وكلام سيد قطب .. فما موقع هذا من التقييم الفكري والعلمي .. والذي تستريح له نفسي , وتطمئن له تجربتي ( والله أعلم بالصواب ) أن سيد قطب مثله مع حسن البنا . كمثل المجتهدين على أصول نفس المذهب .. أو بتعبير أدق " مجتهد على أصول نفس المنهج " فالإمامان الجليلان محمد , وأبو يوسف مجتهدان على مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان .. فهما في إطار أصول مذهبه يجتهدان ولا يخرجان عن أصول المذهب , والاجتهاد في بعض الفروع والوسائل , وفق الظروف والأحوال المستجدة . كذلك الإمام ابن تيميه .. حنبلي المذهب فهو يتبع إمامه أحمد بن حنبل في أصوله الفقهية ولكن له اجتهادات في إطار هذا المذهب فهو مجتهد ملتزم بأصول المنهج , ولكن له رؤى مختلفة في بعض الفروع حسب ما تراءى له موائما مع ظروف الزمان و المكان . وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول " إن صح الحديث فهو مذهبي " واضربوا بمذهبي عرض الحائط , وكان له فقه في العراق يختلف عن فقهه في مصر وهو ذاته نفس الشخص لم يتغير . وسوف نعرض بالتفصيل والنصوص بعض الفروق التي فيها اجتهاد لسيد قطب في إطار منهج حسن البنا .. ولكن قبل عرض هذه الفروق يحسن بنا أن نعرض الأصول التي يلتزم بها كل من الإمام والشهيد 1. هذا الدين نظام حياة لكن عامة الناس , وكل الحكام أو جلهم ( بتعبير أدق ) لا يحب هذا , ولا يقبل هذا , وقد لا يفهم هذا 2. هذا الدين حضارة متكاملة لا تقبل القسمة ولا الترقيع ولا قطع الغيار لأنه منهج كامل متكامل من عند الله " الذي احسن كل شيء خلقه " " بديع السماوات والأرض " ( سورة البقرة ) " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون " ( سورة النحل ) فهو حضارة متميزة عقيدة , وشريعة , وعبادات وأخلاق حزمة واحدة لا شرقية ولا غربية , لا شيوعية ولا اشتراكية ولا رأسمالية . 3. إن الناس بعدوا كثيرا عن الدين والتدين .. ولا بد من رجوعهم إلى حظيرة الدين . والحكام بعدوا أكثر وأكثر إما رغبا وإما رهبا عن دين الله , وعن تطبيق شرعه في كل أمور الحياة .. ولا بد من إصلاح هذا الأمر .. فإن الله ـ عز وجل ـ يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما قال الخليفة الجليل سيدنا عثمان رضى الله عنه . 4. لا بد من إيقاظ المسلمين في غفلتهم الشديدة , ومن غفوتهم الطويلة التي دامت قرونا أكثر من قرون أصحاب الكهف الذين غفوا ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا . 5. إن الإصلاح لا يأتي أبدا من الرأس بمعنى تغيير الحكومة , فكلاهما ( أي حسن البنا وسيد قطب ) متفقان على أن الإصلاح يبدأ من القاعدة(1) ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "(1) .. وحتى يتم هذا الإصلاح لا بد من إعطاء نموذج عملي يتمثل في مجموعة من الناس المسلمين - طبعا ـ يتآلفون ويتجمعون ويتحدون في صورة ما .. تكون بمثابة نواة يلتف حولها المخلصون المحبون لنصرة دين الله بالنفس والمال .. وهذا الكيان ( أو تلك المجموعة أو الجماعة ) يعرف انه يحارب الشيطان وهوى النفس , وركام الماضي السحيق الثقيل , كما يحارب العلمانيين والشيوعية والرأسمالية وكل قوى الباطل , كما يتوقع مواجهة أكيدة مع الحكام الذين كثيرا ـ أو غالبا ـ ما تتعارض مصالحهم مع الحكم بالشريعة الذي سينزع عنهم الجاه والسلطان والمال والرفاهية حينما يطبق عدل الإسلام , وشورى الإسلام .. فحينما تطبق آية واحدة في سورة النحل سيخسر الحكام الملايين والرفاهية والسلطان والجاه وهذه الآية " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يغظكم لعلكم تذكرون "(1) • فالعدل ... حينما يطبق كاملا • والإحسان ... حين يصير منهجا للامة • وترك الفحشاء والمنكر ... حينما يكون سمت المجتمع • وترك البغي بكل صوره ... حينما يصير خلق الحكام المحكومين سوف يخسر الحكام وأصحاب النفوذ والجاه والسلطان كثيرا كثيرا. إذن فلا بد من مواجهة هذا الكيان مواجهة شرسة , لا هوادة فيها بل قل لا رحمة فيها .. أو قل لن يرقبوا في هذه الجماعة إلاّ ولا ذمة.... وقد كان . لذلك لا بد من طليعة إيمانية صلبة .. تعزم عزمة أكيدة كما يقول سيد قطب كما أنه لا بد من بيعة تمثل عمق الترابط والاتحاد والاخوة كما فعل حسن البنا هذا الكيان وتلك الجماعة لها نظامها وأسسها وارتباطاتها العضوية والحركية والنفسية .. كما أن لها أسلوبا في عملها وعلاقاتها مع المجتمع المحيط بها , ومن البديهي أن هؤلاء الرفقاء .. رفقاء الجهاد .. واخوة الدعوة , وزملاء الطريق وأبناء هذا المنهج .. لا شك أن بينهم وبين بعضهم البعض علاقات متميزة تختلف تماما عن علاقاتهم بالآخرين بسبب هذا الرباط المقدس .أما تسميتهم بالجماعة المسلمة أو جماعة المسلمين أو جماعة الإخوان فهذه قضية أخرى فالعبرة بالمسميات وليس بالأسماء .. فالذين أصروا على انهم الجماعة المسلمة الوحيدة في العالم وأن غيرهم كافر .. انقسموا إلى عدة جماعات حارب بعضهم بعضا وكفّر بعضهم بعضا .. ولم تجد الأسماء الواضحة المحددة معهم شيئا. 6. كما يتفق الإمام والشهيد بضرورة عودة الخلافة .. بل يصرح حسن البنا في أدب جم مع وضوح شديد يفهمه اللبيب , ويفطن إليه العالم .. يصرح بأن الحكم معدود في أصول هذا الدين وليس في فروعه من أمور الفقه .. لكن الإمام البنا لم يزد على هذه الإشارة .. أما سيد قطب فقد توسع فيها كثيرا كثيرا بشيء فيه حسم كبير, ولا أقول حدة , بل أقول مزيدا من التوضيح . 7. يتفق الإمام والشهيد على " ألا نكفر مسلما نطق بالشهادتين وعمل بمقتضاها " مع بعض الشروط حددها البنا في بند الفهم في الأصل العشرين في رسالته الشهيرة المسماة رسالة " التعاليم " " لا نكفر مسلما نطق بالشهادتين وعمل بمقتضاها , ما لم ينكر معلوما من الدين بالضرورة أو يكذب بصريح من القرآن .. أو .. أو .. " وعلى نفس الدرب سار سيد قطب لكنه كان شديدا جدا في وصفه لكل من بعد عن تعاليم الدين , ولعله أصدر بعض الأحكام على بعض الأفراد من الحكام ( والله أعلم ) كما أنه وصف علماء السلطان وصفا صعبا .. والعلماء أيضا قابلوا سيد قطب بكلمات قاسية في محنته ووصفوه ومن معه بأنهم الخوارج في موقف سيئ من العلماء في عام ( 1965 ) .. وعلى رأسهم للأسف شيخ الأزهر .. فلعله كان مكرها !! كان سيد قطب متشددا في حكمه على بعض الحكام والأشخاص كما قلت ولكنه لم يكن يكفر عوام الناس , أو من ليس في جماعته أو تنظيمه , بل يحكى لنا كثيرا من الإخوان الذين عايشوه في السجن حادثة طريفة ينبغي في هذا المقام سردها كما رواها لي الأخ أحمد توفيق كنزي رحمه الله . " ذهب الأستاذ عمر التلمساني في أوائل الستينات من القرن الماضي للعلاج في مستشفى الليمان ( ليمان طره ) قادما من سجن الواحات وقابل الشهيد سيد قطب وسأله صراحة : يا أستاذ سيد هل تكفر الناس ؟ فقال له الأستاذ سيد قطب .. انتظر قليلا يا أستاذ عمر وبعث أحد الإخوان لينادى على واحد من عتاة المجرمين في السجن ودار بينه وبين الأستاذ سيد قطب الحوار التالي ( انقله بمعناه طبعا وليس بنصه الحرفي ) سيد قطب : هل تصلى وتصوم ؟ المجرم : لا سيد قطب : كم مرة تسب الدين المجرم : حسب التساهيل عشرين .. ثلاثين .. خمسين مرة في اليوم أو أكثر سيد قطب : ما هي الأحكام التي حكم عليك بها المجرم : 75 سنه سجن كلها قتل ومخدرات قبل السجن وداخل السجن , وكل من يضايقني في السجن اقتله إذا نفذ صبري . سيد قطب : لو قام واحد من غير المسلمين وسب لك الدين . المجرم : الدين بتاعي .. الإسلام يعنى ؟ سيد قطب : الدين....!! المجرم : إلاّ دى ... مافيش أغلى في الدنيا من دين ربنا يا أستاذ سيد ( انتهى الحوار ) فقال سيد قطب للأستاذ عمر : هذا الرجل مسلم لا يمكن أن أحكم عليه بالكفر وفهم الأستاذ عمر الموضوع واكتفى من الأستاذ سيد بهذا المشهد 8. كما يتفق الإمام والشهيد على ضرورة " التدرج " في الخطوات بهذا المنهج تدرجا يناسب الزمان والمكان , ويعالج النفوس , ويغير الأوضاع والعادات والتقاليد .. هذا المنهج سماه الإمام البنا " التدرج " وسماه الشهيد " المرحلية " ولم يتوسع البنا في شرح ( التدرج ) لكن الشهيد توسع في شرح " المرحلية " ففهم منها أناس مفاهيم شتى .. بل لعلهم حمّلوا الأمور فوق ما تحتمل وسنعرض لهذا بالتفصيل في موضعه إن شاء الله
لكن الأستاذ سيد قطب رحمه الله كانت له اجتهادات لعل أغلب ألفاظها ومصطلحاتها لا توجد في أديبات الإخوان التي تتمثل في رسائل الإمام الشهيد كما أن هذه المصطلحات كانت موجودة من قبل في عصور الإسلام الأولى عند فقهاء الأمة مثل دار الحرب ودار الإسلام وغيرها , ولكن في ظروف عالمية ومحلية مختلفة .ولقد أثارت هذه المصطلحات أزمات كثيرة بعد وفاة الشهيد سيد قطب , وانقسمت الآراء بين متحامل عليها , وبين موائم بينها , وبين ناقد لها في موضوعية وبين من يصف عبارات الشهيد بالعاطفية , ومن يصفها ببلاغة الأدباء وتعبيرات الفصحاء .. وبين متعصب لها بدرجات متفاوتة فمنهم حتى الان من يتوقف في الحكم على إسلام الناس , ومنهم من يكفر الناس , ومنهم من يكفر من ليس على مزاجه ومقاسه وهواه .. حتى ظن بعضهم انه وحده على الحق وان الدنيا كلها على باطل , وان دوره هو دور سيدنا إبراهيم عليه السلام " إن إبراهيم كان أمة " (1) ورفع شعار ( أنت على الحق ولو كنت وحدك ) . وسوف نعرض في بابه باب لقضية التكفير التي انتسب مريدوها إلى سيد قطب بعد أن التحق بالرفيق الأعلى وهذه المصطلحات هي التي أتى بها الأستاذ سيد قطب إلى قاموس الدعاة هي : 1. الجاهلية 2. الجماعة المسلمة 3. معنى شهادة لا اله إلا الله 4. دار الحرب ودار الكفر ودار الإسلام 5. الحاكمية 6. المرحلية 7. المفاصلة بين الشعورية والمادية 8. استعلاء الإيمان
2- بل إن الأستاذ حسن البنا حرص ألا يفرض مذهب فقهيا معينا على الإخوان حتى لا تنحصر الجماعة في إطار مذهبي فقهي .. من لزم المذهب قبلته الإخوان , ومن رفض المذهب كان بينه وبين الإخوان شقاقا وأمدا بعيدا . وكان أمام حسن البنا أهداف واضحة . أهمها هدفان اثنان : الأول : تفهيم المسلمين أن هذا الدين نظام حياة شامل وكامل , ويجب أن ينضبط حال الأفراد والشعوب والحكام مع هذا الفهم الثاني : جمع كلمة المسلمين الذين دبّ الشقاق بينهم كثيرا في عهود سابقة وفى ظروف بعضها تحوم حوله الشبهات وبعضها كاد له الأعداء كيدا عظيما فالمسلمون تمذهبوا مذاهب شتى , وتفرقوا جماعات أكثر شتاتا فوضع حسن البنا منهجا لجمع كلمة المسلمين سوف نعرض له في حينه إن شاء الله ... ولهذين السببين حرص حسن البنا على : • عدم التقوقع داخل سجن المصطلحات . • عدم التورط في فتوى يختلف حولها المسلمون ... فليست جماعة الإخوان دارا للإفتاء في فروع الدين(1) التزم حسن البنا سلوك الداعية , ولم يسلك طريق الفتوى ... والتزم أخلاق الدعاة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولعل حسن البنا كان ينهج منهج القرآن في قصة شعيب عليه السلام حيث يقول " ويا قوم إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط " .. نعم يقول للناس ( إني أراكم بخير ) فأنتم سليل المجد القديم وورثة النبوة الأخيرة .. فعودوا إلى دينكم بعد أن تفهموه .. فهو خير لكم! ( ولعل مدلول بخير هو:بنعم كثيرة من الله) ، فهو يقول : " وليعلم قومنا , وكل المسلمين قومنا , أنهم أحب إلينا من أنفسنا ...ليس معنى هذا أن حسن البنا لم يحسن تشخيص حال المسلمين بل تشهد رسائله أنه يعرف بالتفصيل الشديد أمراض الأمة ويضع لها روشتة العلاج. ومن الطريف أنه كتب في إحدى رسائله(رسالة المؤتمر السادس ص 208) يقول : " إن أربعة ملايين من المصريين (عام 1943) لا يحصل أحدهم على ثمانين قرشا في الشهر إلا بشق الأنفس . فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري بل الأسرة المصرية عامة كان متوسط ما يخص الفرد في العام ( حوالي ) جنيهين , وهو أقل بكثير مما يعيش به الحمار, فان الحمار يتكلف على صاحبه: 140 قرشا........... خمس فدان برسيم سنويا 30 قرشا ........... حملا و½ حمل من التبن 150 قرشا........... أردب فول 20 قرشا ........... أربعة قراريط عفش ذرة مجموعها( ثلاثمائة وأربعون قرشا ) وهو ضعف ما يعيش به الفرد من الآدميين في مصر , وبذلك يكون أربعة ملايين مصر ي يعيشون أقل من عيشة الحيوان" انتهى كلام الإمام البنا. ولقد قمت (كاتب هذه السطور) باستحداث هذه الدراسة الميدانية على حمير عربات الكارو وسألت ( سائقي عربات الكارو) فوجدت أن الحمار يكلف صاحبه يوميا ستة جنيهات في الطعام خلاف جنيه مبيت يوميا فيكون إجمالي تكلفة حمار العربجي سبعة جنيهات يوميا أي مائتان وعشرة جنيهات جنيهات شهريا ...وهذا أكبر من مرتب خريج الجامعة سواء في الحكومة أو القطاع العام عند أول تعيين (أسعار عام 2003) .. أما البغل الذي يجر عربة كارو أكبر فانه يتكلف ستة عشر جنيها يوميا بيانها كالتالي يوميا: 9جنيهات .......... 10 كجم ردة 4 جنيهات .......... 2 كجم فول 2 جنيه ........... 2 كجم ذرة 1 جنيه .......... 2 كجم تبن الإجمالي ستة عشر جنيها يوميا وهو أكبر من ضعف مرتب خريجي الجامعة في الحكومة و القطاع العام حتى كتابة هذه السطور (2004 م) وهذه الدراسة شملت حمير وبغال يعملون في المدينة أما في الريف فالحيوان مظلوم مثل الظلم الواقع على أهل الريف .. ولذلك لم أتمكن من عمل دراسة على الريف ..وهذا يؤكد أن الواقع لم يتغير منذ عام (1941) .. فهناك الملايين يعيشون أقل من عيشة الحيوان . والأمر ولا شك ينذر بالخطر مالم يحدث إصلاح اقتصادي حقيقي يتبنى مطالب الطبقات الفقيرة. والأطباء يشخصون حال المرضى ويكتبون العلاج ولو كان المريض في أواخر أيامه ... هذه رسالتهم.. وليس زرع اليأس من منهج الدعاة .. كما أنه ليس التبشير والنذير بالموت من منهج الأطباء . ولعل أصدق تشبيه لفقه حسن البنا في وصف حال المسلمين ومنهجه في الدعوة إلا هذا المثل الذي استخلصته من قراءاتي لرسائله .. فهو كمن رأى سيارة تحطمت وتهشمت في حادثة .. تهشم الموتور والسقف والعجل والشاسية وغيرها وبقيت اللوحة المعدنية سليمة ولها ملف في إدارة المرور .. فسحب حسن البنا هذه السيارة وذهب بها إلى الورشة الهندسية لإصلاح كل شيء من الألف إلى الياء سواء بالترقيع أو الإحلال والاستبدال وأصر على منهج الإصلاح .. دون الحكم على السيارة بالإعدام ما دامت اللوحات المعدنية سليمة . أما الشهيد سيد قطب فنظر إلى السيارة وقال : لا بد من سيارة جديدة , والتخلص من هذه السيارة المهشمة ورميها في صناديق القمامة أو مدافن السيارات فلا يجدي معها الإصلاح. كان حسن البنا يقول على بلاد المسلمين وساكنيها انهم مسلمون وان فيهم أملا كبيرا وخيرا كثيرا لكن ينقصهم الكثير ويعدد ويوضح ويسهب في ذكر الأمراض وعلاجها
" أفحكم الجاهلية يبغون ..." ( سورة المائدة ) " إذ جعل فيهم الحمية حمية الجاهلية ... " ( سورة الفتح ) " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ... " ( سورة الأحزاب) " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ... " ( سورة آل عمران ) وفى اختصار شديد حكم سيد قطب بجاهلية هذه المجتمعات وشبهها بجاهلية ما قبل الإسلام
وسلوك النساء فيه تبرج الجاهلية الأولى أو يزيد(1) . وغضب الناس لغير الله أكثر من أن ينكر . والحكم بغير ما انزل الله واضح لكل ذي عينين . والدين في واد والناس والحكام في واد آخر .. إلا ما رحم ربى .. وقليل ما هم . وخلص سيد قطب إلى جاهلية المجتمع بهذه المواصفات وأنها أشبه ما تكون بالجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم . ورتب الشهيد سيد قطب منهجا للحركة بناء على هذا التصور استلهمه من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الجاهلية الأولى شبرا بشبرا , وذراعا بذراع . لكن سيد قطب كان عالما .. فكان يفرق بين النظرة الإجمالية للمجتمع وبين النظرة إلى أفراد هذا المجتمع .. وهذه التفرقة صعبة جدا أن يستوعبها القارئ العادي بل والعالم المتخرج من الأزهر الشريف وهى عسيرة على العقل أن يفهمها .. ولقد ساعد على هذا الفهم بعض النصوص الشديدة والحادة في وصف فئات كثيرة من الناس في ظلال القرآن ( ومنهم علماء الدين الرسميين الذين لهم مواءمات مع هوى الحكام , وفتاوى على المقاس لكل الحكام عبر عصور كثيرة ابتداء من فتوى بامتداد نسب الملك فاروق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الفتوى بحل ربا البنوك بلا تحفظ ) .. فكال سيد قطب لهم الصاع صاعين أو أكثر ... كان سيد قطب يقول للناس في وصف حالهم : " هذه الجاهلية التي انتم فيها نجس , والله يريد أن يطهركم . هذه الأوضاع التي أنتم فيها خبث , والله يريد أن يطيبكم .. هذه الحياة التي تحيونها دون , والله يريد أن يرفعكم . هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد , والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم "(1) ولكن حسن البنا كان شعاره رغم كل ما في الناس " إني أراكم بخير وأنى أخاف عليكم عذاب يوم محيط " ويقول لهم أيها الناس أنتم أحب إلينا من أنفسنا كان حسن البنا يصف الناس والمجتمعات أنها أمم إسلامية بعدت كثيرا عن الإسلام لكن أصل الإسلام واضح فيها . وباق فيها فشجرة الإسلام أصلها ثابت وفرعها في السماء لكن ساق الشجرة اجتثت من فوق الأرض . ورغم أن كلمة الجاهلية ــ كما شرح الإمام البخاري ــ تشمل جميع المعاصي من أول الصغائر مرورا بالكبائر حتى الكفر بالدين .. إلا أن ظلال المصطلح حين ينزل من عند المتخصصين إلى عامة الناس لا يمكن لأحد أن يتحكم في هذا المصطلح ولا في مقتضياته . ولهذا فان كثيرا من الأفراد والجماعات الذين صاروا إلى منهج التكفير أو التوقف في الحكم على الناس بالإسلام بمجرد النطق بالشهادتين , وأعلنوا انهم على منهج الشهيد سيد قطب , يدرسون كتبه وكتب شقيقه محمد قطب , ويرتبون أحكاما كثيرة على فتوى جاهلية المجتمع ... فيكفرون الحكام , كما يكفرون الأفراد والأشخاص , ويرتبون عليهم كافة الأحكام التفصيلية التي تنطبق عليهم . وكلهم يزعمون انهم من فقه سيد قطب ملتمس . وخلاصة منهج حسن البنا .. الإصلاح .. ثم الإصلاح .. ثم الإصلاح .. فهو يعترف بوجود الخير في هذه الأمة .. وذلك المجتمع وان الإصلاح ممكن .. وليس مستحيلا .. وخير له أن يقوم بالإصلاح فهو منهج غير مستفز , ولا يقلب للحكام ظهر المجن , ويعطى فرصة أطول للدعوة والدعاة للتغلغل داخل المجتمع , والغوص في أعماقه . أما منهج التغييرالذي يحبذه سيد قطب .. أو إن شئت قل منهج الانقلاب الإسلامي .. فهو يشعل معركة مع الناس ومع الحكام .. معركة في وقت مبكر جدا .. كما يعطى تبريرات للحكام للتعامل بمنطق الرفض المتبادل .. والحكومة حينئذ تملك القوة والبطش .. في حين أن أصحاب فكرة الجاهلية عزّل لا يملكون قوة ولا مقاومة .. كما أن النبت لا يزال ضعيفا ولعل هذا المنهج يختلف عن النهج القرآني الكريم في التدرج " كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار "(1) فمراحل الزرع : - أخرج شطأه - آزره - استغلظ - استوى على سوقه - فهو لا يعجب الزراع , ولا يغيظ الكفار إلا بعد المرحلة الرابعة من مراحل الإنبات
هذا هو السؤال الهام ؟ إذن لماذا وافق الأستاذ المرشد حسن الهضيبى على كتب الشهيد سيد قطب رغم النهج الذي فيها.. ؟ والإجابة على هذا السؤال سهلة ميسورة - إن سيد قطب لم يكفر أفراد المجتمعات بل قال بجاهليتها , ونظرة العالم إلى كلمة الجاهلية غير نظرة رجل الشارع العادي فالعالم يعرف أن الجاهلية تشمل المعاصي .. صغائر وكبائر وغيرها ..ولامشاحة في المصطلح .. مادام له أصل في اللغة والنبي صلى الله عليه وسلم قال لصحابي جليل حينما قال لبلال " يا ابن السوداء " وعلم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي معاتبا ذلك الصحابي الجليل " إنك امرؤ فيك جاهلية " فالجاهلية (بمعنى المعاصي ) موجودة حتى عند الصحابة . - إن سيد قطب التقى عدة مرات بالإمام حسن الهضيبى كي يأخذ منه الإذن بقيادة التنظيم .. ولم ينكر عليه الإمام حسن الهضيبى شيئا , ولم ير الإمام حسن الهضيبى ما يجعله يرفض قيادة سيد قطب للتنظيم ولو توقف أدعياء اتباع سيد قطب عند معنى المعاصي لكلمة الجاهلية ولو توقفوا عن الفتوى على الناس والحكام ما حدثت أي أزمة ولانتهي الموضوع عند هذا الحد .. ولكن إصرارهم ( أي أدعياء اتباع سيد قطب ) على الحكم بكفر الحاكم وتكفير فئات أخرى , واتباع منهج عملي تفصيلي غير ما فهمه وألفه الإخوان من كتابات الإمام البنا ... هذا الإصرار هو الذي فجر الأزمة , وأزّم القضية , جعل الإمام الهضيبى يوقن أن نزول هذه المصطلحات لعامة الناس خطأ كبير .. ولا بد من وضع الأمور في نصابها بوضوح شديد , ورفض كثير من التفاصيل المنهجية لأدعياء اتباع سيد قطب وصف حالة المجتمعات عند الإمام البنا
" ونحب مع هذا أن يعلم قومنا – و كل المسلمين قومنا – أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة بريئة نزيهة ، قد تسامت في نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية .. " . ويقول بعدها بقليل في نفس الصفحة الأولى من الرسالة : " ونحب أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا ، و أنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداء لعزتهم إن كان فيها الفداء ، و أن تزهق ثمنا لمجدهم وكرامتهم و دينهم و آمالهم إن كان فيها الغناء، و ما أوقفنا هذا الموقف منهم إلا هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا و ملكت علينا مشاعرنا ، فأقضت مضاجعنا ، و أسالت مدامعنا ، و إنه لعزيز علينا جد عزيز أن نرى ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان ثم يستطرد: فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب ، و لن نكون عليكم في يوم من الأيام " ويقول في نفس الرسالة مشخصا الحالة التي عليها المسلمون : " ... إن داء هذه الأمم الشرقية متشعب المناحى كثير الأعراض , قد نال من كل مظاهر حياتها 1- فهي مصابة من ناحيتها السياسية بالاستعمار من جانب أعدائها 2- والحزبية والخصومة والفرقة والشتات من جانب أبنائها 3- ومن ناحيتها الاقتصادية بانتشار الربا بين كل طبقاتها , واستيلاء الشركات الأجنبية على مواردها وخيراتها. 4- وهى مصابة من ناحيتها الفكرية بالفوضى والمروق والإلحاد يهدم عقائدها , ويحطم المثل العليا في نفوس أبنائها. 5- وفى ناحيتها الاجتماعية بالإباحية في عاداتها وأخلاقها , والتحلل من عقدة الفضائل الإنسانية التي ورثتها عن الغر الميامين من أسلافها 6- وبالتقليد الغربي يسرى في مناحى حياتها سريان لعاب الأفاعي فيسمم دماءها ويعكر صفو هنائها . 7- وبالقوانين الوضعية التي لا تزجر مجرما , ولا تؤدب معتديا , ولا ترد ظالما , ولا تغنى يوما غناء القوانين السماوية التي وضعها خالق الخلق ومالك الملك ورب النفوس وبارئها . 8- وبفوضى في سياسة التعليم والتربية تحول دون التوجه الصحيح لنشئها ورجال مستقبلها وحملة أمانة النهوض بها . 9- وفى ناحيتها النفسانية بيأس قاتل وخمول مميت , وجبن فاضح , وذلة حقيرة , وخنوثة فاشية , وشح وأنانية , تكف الأيدي عن البذل , وتقف حجابا دون التضحية , وتخرج الأمة من صفوف المجاهدون إلى اللاهين اللاعبين .... إن داء واحدا من هذه الأدواء يكفى لقتل أمم متظاهرة , فكيف وقد تفشت جميعا في كل أمة على حدة " فالامام البنا يصف الأمة بأنها " الأمة الإسلامية "(1) ويقول بعدها بقليل " فإذا شاء المسلمون أن يقبلوا هذه الرسالة كان ذلك دليل الإيمان والإسلام الصحيح " ويمضى تحت عنوان ( استطراد ) " ويتساءل كثير من إخواننا الذين أحببناهم من كل قلوبنا , ووقفنا لخيرهم والعمل لمصلحتهم الدنيوية والأخروية جهودنا وأمولنا وأرواحنا . وفنينا في هذه الغاية . غاية إسعاد امتنا وإخوننا عن أموالنا وأنفسنا . وذهلنا في سبيلهم عن أبنائنا والحلائل "(2) ويطالب الأمة في نفس الرسالة ( ص 48 )(3) أصلحوا القانون أصلحوا مظهر الاجتماع حاربوا الإباحية نظموا التعليم انتفعوا بإخاء إخوانكم وفى رسالة بين الأمس واليوم(1) ولكن اذكروا دائما أن لكم هدفين أساسيين " أولهما " : 1 - أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي وذلك حق طبيعي لكل إنسان ، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر . فهو يصف هذا الوطن بأنه " الوطن الإسلامي " ولا ينزع عنه صفة الإسلام ، وهناك كثير من التعبيرات في معظم الرسائل تصف الوطن بالإسلام والمواطنين بالمسلمين , ولا تنزع عنهما صفة الإسلام أبدا. ومن ثم فهو ـ أي الإمام البنا ـ يطالب بإصلاح كل شيء .. وليس تدمير أي شيء .. يطالب بالعلاج , وليس بالتغيير . أما الشهيد سيد قطب فيصف المجتمعات كلها بالجاهلية .. ويترتب على هذا الوصف ضرورة اتباع منهج ( التغيير) وليس ( الإصلاح ) وهذا الوصف الذي قاله الشهيد سيد قطب عن ( الأمة ) وعن (المجتمعات )(2) فهو يعنى به الأمة أو المجتمع كشخصية معنوية متمثل في الدولة ومؤسساتها الدستورية من تشريعية وتنفيذية وقضائية , ولا يتعلق هذا الحكم بالأفراد
س : هل كنتم ترون أن وجود الأمة الإسلامية قد انقطع منذ مدة طويلة , ولابد من إعادتها إلى الوجود ؟ ج : قال سيد قطب : لا بد من تفسير مدلول كلمة الأمة الإسلامية التي اعنيها فالأمة المسلمة هي التي تحكم في كل جانب من جوانب حياتها الفردية والعامة والسياسية والاجتماعية والاقتصادية بشريعة الله ومنهجه , وهى بهذا الوصف غير قائمة الآن . وان كان هذا لا يمنع من وجود الأفراد المسلمين , لأنه فيما يختص بالفرد الاحتكام يكون إلى عقيدته وخلقه , وفيما يختص بالأمة , الاحتكام إلى نظام حياتها كلها . وفى مكان آخر يقول الشهيد سيد قطب : " إن العالم كله يعيش اليوم في جاهلية .. جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها .. جاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض , وعلى أخص خصائص الألوهية وهى الحاكمية وننقل هنا فقرات مطولة من كتاب " معالم في الطريق " للشهيد سيد قطب عن تعريف المجتمع الجاهلي .. يقول الشهيد(1) .
إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم ! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا : إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده . . متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، وفي الشعائر التعبدية ، وفي الشرائع القانونية . وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار " المجتمع الجاهلي " جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلا! تدخل فيه المجتمعات الشيوعية : أولا : بإلحادها في الله - سبحانه- وبإنكار وجوده أصلا ، ورجع الفاعلية في هذا الوجود إلى " المادة " أو " الطبيعة " ، ورجع الفاعلية في حياة الإنسان وتاريخه إلى " الاقتصاد " أو " أدوات الإنتاج " ، وثانيا " بإقامة نظام العبودية فيه للحزب - على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة ! - لا لله سبحانه ! . ثم ما يترتب على ذلك التصور وهذا النظام من إهدار لخصائص " الإنسان " وذلك باعتبار أن " المطالب الأساسية " له هي فقط مطالب الحيوان ، وهي " الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ! وحرمانه من حاجات روحه " الإنساني " المتميز عن الحيوان ، وفي أولها : العقيدة في الله ، وحرية اختيارها ، وحرية التعبير عنها ، وكذلك حرية التعبير عن " فرديته " وهي من أخص خصائص " إنسانيته " . هذه الفردية التي تتجلى في الملكية الفردية ، وفي اختيار نوع العمل والتخصص ، وفي التعبير الفني عن " الذات " إلى آخر ما يميز " الإنسان " عن " الحيوان " أو عن " الآلة " إذ أن التصور الشيوعي والنظام الشيوعي سواء ، كثيرا ما يهبط بالإنسان من مرتبة الحيوان إلى مرتبة الآلة ! ويدخل فيه المجتمعات الوثنية - وهي ما تزال قائمة في الهند واليابان والفلبين وأفريقية - تدخل فيه ، أولا : بتصورها الاعتقادي القائم على تأليه غير الله - معه أو من دونه - ، وتدخل فيه ثانيا : بتقديم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها . . كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع ، المرجع فيها لغير الله وشريعته . . سواء استمدت هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ ، أو استمدتها من هيئات مدنية " علمانية " تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى شريعة الله . . أي أن لها الحاكمية العليا باسم " الشعب " أو باسم " الحزب " أو باسم كائن من كان . . ذلك أن الحاكمية العليا لا تكون إلا لله سبحانه ، ولا تزاول إلا لله بالطريقة التي بلغها عنه رسله . وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعا . . تدخل فيه هذه المجتمعات أولا : بتصورها الاعتقادي المحرف ، الذي لا يفرد الله - سبحانه - بالألوهية بل يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك ، سواء بالبنوة أو بالتثليث ، أو بتصور الله سبحانه على غير حقيقته ، وتصور علاقة خلقه به على غير حقيقتها : ( وقالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله . ذلك قولهم بأفواههم ، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل . قاتلهم الله أنى يؤفكون) ( ( التوبة : 30 ) - ( لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة . وما من إله إلا إله واحد ، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ) ( المائدة : 73 ) ( وقالت اليهود : يد الله مغلولة . غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) ( المائدة : 64 ) ( وقالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه . قل فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق) ( ( المائدة : 15 ) وتدخل فيه كذلك بشعائرها التعبدية ومراسمها وطقوسها المنبثقة من التصورات الاعتقادية المنحرفة الضالة . . ثم تدخل فيه بأنظمتها وشرائعها ، وهي كلها لا تقوم على العبودية لله وحده . بالإقرار له وحده بحق الحاكمية ، واستمداد السلطان من شرعه ، بل تقيم هيئات من البشر ، لها حق الحاكمية العليا التي لا تكون إلا لله سبحانه ، وقديما وصمهم الله بالشرك لأنهم جعلوا هذا الحق للأحبار والرهبان، يشرعون لهم من عند أنفسهم فيقبلون منهم ما يشرعونه : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) . وهم لم يكونوا يعتقدون في ألوهية الأحبار والرهبان . . ولم يكونوا يتقدمون لهم بالشعائر التعبدية ، وإنما كانوا فقط يعترفون لهم بحق الحاكمية ، فيقبلون منهم ما يشرعونه لهم . بما لم يأذن به الله ، فأولى أن يوصموا اليوم بالشرك والكفر ، وقد جعلوا ذلك لناس منهم ليسوا أحبارا ولا رهبانا . . وكلهم سواء . . وأخير يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها " مسلمة " !. وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضا ، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظامها ، وشرائعها وقيمها ، وموازينها ، وعاداتها وتقاليدها . وكل مقومات حياتها تقريبا !. والله سبحانه يقول عن الحاكمين : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ( المائدة : 44) ويقول عن المحكومين : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) . . . إلى قوله ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ( النساء :60-65 ) كما إنه - سبحانه - قد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة الله وحده ، واتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دونه ، لمجرد أن جعلوا للأحبار والرهبان ما يجعله الذين يقولون عن أنفسهم أنهم " مسلمون " لناس منهم ! واعتبر الله سبحانه ذلك من اليهود والنصارى شركا كاتخاذهم عيسى ابن مريم ربا يؤلهونه ويعبدونه سواء . فهذه كتلك خروج من العبودية لله وحده ، فهي خروج من دين الله ، ومن شهادة أن لا إله إلا الله . وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة " علمانيته " وعدم علاقته بالدين أصلا ، وبعضها يعلن أنه " يحترم الدين " ولكنه يخرج الدّين من نظامه الاجتماعي أصلا ، ويقول : إنه ينكر " الغيبية " ويقيم نظامه على " العلمية " باعتبار أن العلمية تناقض الغيبية ! وهو زعم جاهل لا يقول به إلا الجهال (14) ، وبعضها يجعل الحاكمية الفعلية لغير الله ويشرع ما يشاء ثم يقول عما يشرعه من عند نفسه : هذه شريعة الله ! . . وكلها سواء في أنها لا تقوم على العبودية لله وحده . .وإذا تعين هذا ، فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة : إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره . إن الإسلام لا ينظر إلى العنوانات واللافتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات على اختلافها . . إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة . وهي أن الحياة فيها لا تقوم على العبودية الكاملة لله وحده . وهي من ثم تلتقي - مع سائر المجتمعات الأخرى - في صفة واحدة . . صفة " الجاهلية " هذا ما كتبه الشهيد سيد قطب عن ( الجاهلية) و ( المجتمع الجاهلي ) ونكتفي بهذا القدر في هذا الموضوع .
" ولكن الإسلام لا يملك أن يؤدى دوره إلاّ أن يتمثل في مجتمع أي أن يتمثل في أمة . فالبشرية لا تستمع ــ وبخاصة في هذا الزمان ـ إلى عقيدة مجردة عن مصداقها الواقعي في حياة مشهودة .. و" وجود " الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة فالأمة الإسلامية ليست " أرضا " كان يعيش فيها الإسلام وليست " قوما " كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون النظام الإسلامي إنما " الأمة المسلمة " جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي .وهذه الأمة ــ بهذه المواصفات ــ قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعا . ولا بد من إعادة وجود هذه " الأمة " لكي يؤدى للإسلامدوره المرتقب في قيادة البشرية مرة أخرى . لا بد من " بعث " لتلك الأمة التي وارها ركام الأجيال , وركام التصورات , وركام الأوضاع , وركام الأنظمة , التي لا صلة بها بالإسلام , ولا بالمنهج الإسلامي وان كانت ما تزال تزعم أنها قائمة فيما يسمى " العالم الإسلامي " . ويقول الشهيد أيضا(2) " انه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة , وتمضى في الطريق . تمضى في خضم الجاهلية الضاربة الإطناب في إرجاء الأرض جميعا . تمضى وهى تزاول نوعا ما من العزلة من جانب , ونوعا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة وكلمات " الأمة " و " المجتمع " هي مصطلحات لها أكثر من مدلول هو من صنع البشر , ويختلف البشر حول التحديد العملي لهذا المدلول الاصطلاحي . ولا مشاحة في المصطلحات , أو اعتقاد البعض بتفسير لهذا المصطلح, واعتقاد آخرين في تفسير آخر لهذا المصطلح .. فكلها اجتهادات بشرية .. لكنها لا يمكن بحال من الأحوال أن تقود الناس إلى أحكام على الناس جملة تبعا لتفسير هذا المصطلح وحين يتحاور ويتناقش العلماء في تعريف مصطلح ما , أو حتى يختلفون حوله .. فان حوار العلماء في تعريف المصطلح يختلف اختلافا جذريا عن نقاش عامة الناس أو حتى عامة المثقفين غير المتخصصين . ولقد تنبه الإمام الشهيد حسن البنا لقضية المصطلحات , ومشاكلها , واختلاف الناس حولها , وإصدار الأحكام الكلية تبعا لهذه المصطلحات .. ثم الأخطر من ذلك بناء سلوكيات وتصرفات تبعا لهذه الأحكام سواء كانت هذه السلوكيات والتصرفات سلبا أو إيجابا . يقول الإمام حسن البنا في رسالة التعاليم في الأصل السادس عشر من أصول الفهم " .............. بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها . والوقوف عندها . كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدين و الدنيا . فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء "(1) وفى التحقيقات في السجن الحربي بتاريخ 32 أكتوبر 1965(2) كتب الشهيد سيد قطب " لقد امتلأت نفسي اقتناعا بضرورة وجود حركة إسلامية كحركة الإخوان المسلمين في هذه المنطقة , وضرورة عدم توقفها بحال من الأحوال . فالصهيونية , والصليبية الاستعمارية تكره هذه الحركة وتريد تدميرها . ومخططاتها الواضحة , من كتبها وإجراءاتها , ومن تقريراتها , ومن دسائسها , تقوم كلها على أساس إضعاف العقيدة الإسلامية ومحو الأخلاق الإسلامية وإبعاد الإسلام عن أن يكون هو قاعدة التشريع والتوجيه , وذلك للوصول إلى تدمير العقائد والأخلاق , وبالتالي تدمير المقومات الأساسية للمجتمع في هذه المنطقة , وإحداث انهيار يسهل معه تنفيذ تلك المخططات .. وبعد مراجعة طويلة لحركة الإخوان المسلمين , ومقارنتها بالحركة الإسلامية الأولى للإسلام, أصبح واضحا في تفكيري وفى تفكير الأخ هواش , أن الحركة الإسلامية اليوم تواجه حالة شبيهة بالحال التي كانت عليها المجتمعات يوم جاء الإسلام أول مرة , من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة الإسلامية والبعد عن القيم والأخلاق الإسلامية , وليس فقط البعد عن النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية , وفى الوقت نفسه توجد معسكرات صهيونية وصليبية استعمارية قوية تحارب كل محاولة للدعوة الإسلامية وتعمل على تدميرها كما يستطرد الشهيد في التحقيقات ( 23 / 10 / 1965 ) في السجن الحربي وهو آخر ما كتبه الشهيد سيد قطب " إننا لم نكفر الناس وهذا نقل مشوه , إنما نحن نقول : إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة , وعدم تصور مدلولها الصحيح , والبعد عن الحياة الإسلامية إلى حال تشبه المجتمعات الجاهلية , وإنه من أجل هذا لا تكون نقطة البدء في الحركة هي قضية إقامة النظام الإسلامي , ولكن تكون إعادة زرع العقيدة , والتربية الأخلاقية الإسلامية . فالمسالة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية أكثر مما تتعلق بالحكم مع الناس . فالشهيد سيد قطب عاش ومات من الإخوان .. وهذه حقيقة كبرى . والشهيد مقتنع بضرورة استمرار دعوة الإخوان والشهيد عاش جنديا تحت قيادة مرشد الإخوان آنذاك الإمام حسن الهضيبى والشهيد كان أشد الحرص على الجندية وأخذ الإذن من المرشد بالعمل ولكن الشهيد يرى أن الظروف تغيرت عن عهد الإمام البنا .. والأولويات في منهج الحركة يجب أن تتغير تبعا للظروف والأحوال الحاضرة التي ـ بلا شك ـ انحدرت عن أيام الإمام البنا انحدارا شديدا من ناحية العقيدة والأخلاق بل والتعلق بالشريعة والتمسك بالدين , فإن معاول الهدم نخرت كثيرا في جسد الأمة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية ... لكنه لم يجعل لزوم الجماعة شرطا لإسلام أي مسلم .. أما منهج الشهيد فهو اجتهاد منه وليس في كتابات وأدبيات الإمام حسن البنا ما ينفى صفة الإسلام عن من ليس من جماعة الإخوان المسلمين التي عاش فيها حتى لقى ربه شهيدا ولقد أوضح الإمام حسن الهضيبى هذه القضية وضوحا لا لبس فيه فقال إن جماعة الإخوان المسلمين هي جماعة من المسلمين وليست هي الجماعة المسلمة المعرفة بـ" أل " العهدية والعلمية ( كما يقول النحويون ) ، ولقد سئل صراحة عن هذا الموضوع فاجأب (1) عن السؤال التالي: "النقطة التي عالجت موضوع الجماعة والبيعة جاءت مقتضبة وأثارت أسئلة منها حديث ابن مسعود (( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث منها التارك لدينه المخالف للجماعة )) وحديث : (( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميته جاهلية )) وحديث : (( من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع )) وتساءل البعض هل يصلح أن يوجد المسلم بغير جماعة ؟ وهل يعنى خروجه عن الجماعة خروجه عن الملة ؟ وتساءل آخرون هل إذا عمل الشخص في منظمة معروفة أنها تتعارض مع ما يقرره الإسلام أو أنها تعمل لمحاربة جماعة الإسلام ، فهل يحكم له بالإسلام ؟ الإجابة الذي عنينا بالرد عليه في بحثنا بيان حكم الجاهل بضرورة لزوم الجماعة وبضرورة البيعة , وأيضا حكم المخالف لنا في فهم البيعة ومعنى لزوم الجماعة أو معنى الجماعة ذاتها وأنه لا يجوز لنا أن نتهم غيرنا بالكفر في غير الأحوال التي يثبت فيها حكم الكفر شرعا ويقينا على الشخص , وقد أسلفنا القاعدة التي وضعها مؤسس الجماعة رضى الله في البند العشرين من رسالة التعاليم كما أوضحنا السياسة التي التزمتها الجماعة من أنها تقرر الأحكام الشرعية , ولكنها لا تنصب نفسها قاضية لتحكم على الأفراد.. وزيادة في الإيضاح نقول بعون الله إن الجماعة التي ورد ذكرها في الأحاديث المشار إليها في السؤال قد وردت معرفة بال العهدية والعلمية , فخرج بذلك من مفهوم النصوص أن يكون المقصود أية جماعة من المسلمين , وإنما المقصود جماعة معينة لها شروطها وأحكامها . وهناك اختلاف كبير بين الفقهاء في بيان الجماعة وشروطها وإحكامها ومعنى البيعة وحكم من لم يبايع . ومن المسلم به أن جماعة الإخوان المسلمين . مع إيمانها الكامل أنها قامت على الحق ويقينها الذي لا شك فيه أن دعوتها دعوة حق خالصة, أمر الله بها, وأمر وجوب وإلزام فان المؤكد أن الاختيار الفقهي لمؤسسها لم يكن النظر إليها باعتبارها جماعة المسلمين المقصودة في الأحاديث , وإنما هي داعية بعون الله لتحقيق جماعة المسلمين . يؤكد ذلك أن مؤسس الجماعة رضى الله عنه قد اعترف طوال فترة قيادته للجماعة وجميع صحبه الذين آزروه واجتمعوا معه على دعوته قد اعترفوا لغيرها من الجماعات بأنها جماعات إسلامية كما اعترفوا بصفة المسلم لمن لم يكن منضما لجماعة الإخوان أو فصل منها . وقد قرر الإمام الشهيد فصل وكيلى الجماعة السابقين وعشرات غيرهما كان بعضهم أعضاء بمكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية ولم يكن قد نسب لأحدهم أنه أتى عملا أو قال قولا ارتد به عن الإسلام , ولا زعم أحد أنهم بفصلهم من الجماعة قد خرجوا من الإسلام . وبعد الإمام الشهيد صدق مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية على فصل عدد غير قليل من أعضاء كانوا بالجماعة منهم من كان عضوا بمكتب الإرشاد أكثر من مرة ومنهم من تولى مراكز قيادية في الجماعة وأنظمتها , وكان القول الصريح من قيادة الجماعة في هذه المناسبات أن المفصولين مسلمون معصومو الدم والمال ترجو الجماعة لهم أن يخدموا الإسلام بمجهوداتهم الفردية وبأساليبهم الخاصة بعد أن استعصى عليهم توطين أنفسهم على نظام الجماعة والالتزام بمفهوماتها وبرامجها ومناهجها . وفى رسالة المؤتمر الخامس لجماعة الإخوان المسلمين يقول الإمام الشهيد (( ولعل من تمام هذا البحث أن اعرض لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير فيها والاهتمام بها , ويرى الإخوان أن الأحاديث التي وردت في وجوب تنصيب الإمام وبيان أحكام الإمامة لا تدع مجالا للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بأمر خلافتهم منذ حورت عن مناهجها , ثم ألغيت تماما إلى الآن والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد أن تسبقها خطوات . أما التساؤلات عما إذا كان يصح للمسلم أن يوجد بغير جماعة فالإجابة أننا سبق أن قلنا إن المراد بالجماعة الواردة في الأحاديث السالف الإشارة إليها ليس أية جماعة وإنما جماعة خاصة لها أحكامها وشروطها فمن وجد في إحدى الجماعات تلك الأحكام والشروط واعتقد أنها الجماعة المقصودة بالأحاديث لزمه أن يدخلها ويعمل فيها وإن كان اعتقاده هذا ليس حجة على غيره ممن لا يرون في الجماعة التي دخل فيها هذا الرأي ــ وعلى أي حال فأمر الله لنا بالتعاون على البر والتقوى يتضمن التآلف في جماعة لتنفيذ أمر الله , إذ الانتظام في جماعة ضرورة يقتضيها التعاون المأمور به لتحقيق المقصد المطلوب شرعا وقد أسلفنا بيان أنه قد ورد في الأحاديث النبوية الشريفة التنبؤ أنه يأتي على المسلمين زمان لا يكون لهم جماعة فيه ولا إمام وأن ذلك لا ينفى عنهم صفة الإسلام وان كان ذلك بطبيعة الحال لا يعفيهم من فرض المجاهدة لتحقيق الجماعة وتنصيب الإمام .أما الذي يعمل في منظمة تحارب الإسلام والمسلمين فهو متول للكافرين ـ وليس من الله في شيء ـ وتلك قاعدة عامة أما تطبيقها على الأفراد فيحتاج إلى تحقيق واستيضاحات قلما تتوافر لغير ذي سلطة ما لم تكن المنظمة متبرئة من الإسلام جملة بحيث لا يشتبه على أحد أنها خارجة على الإسلام محاربة له ـ ونكرر القول أننا دعاة ولسنا قضاه" أ.ه هذه هي إجابة الإمام حسن الهضيبى عن معنى " الجماعة المسلمة " .. وهل ( الإخوان المسلمون) هي الجماعة المسلمة والذي لا شك فيه أن الإمام الهضيبى كان حريصا كل الحرص على البعد عن سجن المصطلحات ومدلولاتها ولعل المصطلحات الثلاثة " الأمة " , " المجتمع " , و " الجماعة " مصطلحات تخضع لتعاريف وتوصيفات بشرية تختلف حولها الاجتهادات ولكن من المؤكد انه يجب ألاّ ينبني عليها حكما شرعيا طالما أنها محل اختلاف واجتهاد بين العلماء .. ناهيك أن ينبني عليها أحكام بكفر هذا .. أو إسلام ذاك . ولم يقع تحت يدي حتى الآن دراسة موسعة حول معاني هذه المصطلحات ومدلولاتها ... ولكنها إشارات عابرة في الكتب منها تلك الإشارة العابرة في تفسير (1) بمعنى الجماعة من الناس إطلاقا كقوله تعالى " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون " وترد بمعنى القيادة والإمامة كقوله تعالى " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا " وهى تتضمن معنى أنه كان فريقا وحده . وإن كان هذا لا يؤثر في المدلول الاصطلاحي للفظ " أمة " وهذه الجماعة من الناس ذات العقيدة الواحدة والتصور الواحد.
ولله عز وجل حكم بالغة في قبول إسلام كل من نطق بالشهادتين في الدنيا سواء قالها إخلاصا أو نفاقا , فهما أو بغير فهم .. فهو ـ سبحانه - يفتح باب الدخول في الإسلام على مصراعيه للناس ثم يتولى بعد ذلك المسلمون والمناخ الإسلامي والجو الإسلامي .. يتولون شرح هذا الدين , ومعاني الكلمات والتطبيقات الفردية .. وحتى لا يكون الأمر فوضى فإن الخروج من هذا الدين أو نزع الجنسية الإسلامية عن أي فرد كائنا من كان لا يكون إلا بحكم القاضي المتخصص وبعد محاكمة دقيقة تعمل فيها كل شبهات الجهل , والإكراه , والخطأ , و الغلط .. ثم يستتاب .. والقاعدة الشرعية " لأن تخطئ في العفو خير من أن تخطئ في العقوبة " .. و " ادرءوا الحدود بالشبهات " وأن الملايين من الفرس والعجم دخلوا في دين الله بمجرد النطق بالشهادتين في عصور الصحابة الكرام وأغلبهم لم يكن يفهم معناها اللغوي أو الشرعي ثم فهموا بعد ذلك .. ولو كان الفهم شرطا لاستحال تنفيذه , واستحال إسلام إلا من يتعلم العربية أولا , ويدرس الشريعة ثم بعد ذلك يسلم وهو ما لم يحدث في تاريخ الأمة الإسلامية . فصفة الإسلام , وجنسية المسلمين تتحصل بمجرد النطق بالشهادتين؛ أما الجنة والنار .. فهي حساب عند الله عز وجل , الذي يعلم السر وأخفى , وأما شرح معنى المعلوم من الدين بالضرورة ـ كحد أدنى ـ فهي واجب المسلمين كأمة وكمجتمع , وكمناخ إسلامي , وكفرض عين على علماء المسلمين في بلاد المسلمين .. لو كانوا يفقهون !! وحين ينطق الفرد بكلمة التوحيد " لا اله إلا الله " فهو معناه قبول لهذا الدين جملة وعلى الغيب .. قبول هذا المنهج بكل تفصيلاته التي لا يعرفها .. فقط لأنها من عند الله .. ويصبح لقائلها حق بل دين في رقبة المسلمين أن يفهموه تكاليف هذا الدين أو المنهج أو النظام الذي دخل فيه .. بالحسنى وبالحب وبالرحمة بل وبالإحسان .. وإذا علم المرء وفهم وجب عليه الاستقامة وأداء التكاليف الشرعية اللحظية مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج .. كما يجب عليه أن يلتزم النظام العام الخاص بهذا الدين .. وهذا النظام يتمثل في السلوك الاجتماعي الشائع بين المسلمين والمعلوم من الدين بالضرورة في بلاد المسلمين .. ثم يتحرى الإخلاص لله قبل كل عمل حتى يقبل الله منه .. وهذا الإخلاص أيضا يقوم العلماء بتعليمه له .. ولهذا كثرت أحاديث إخلاص العمل لله , وفاضت وأفاض العلماء في شرحها في مقدمة أي علم من علوم الدين بل والدنيا ثم هناك تكاليف يعرفها الرجل بالفطرة وبالسليقة .. مثل حب من يماثلك في الدين والعقيدة .. فالحب بين الأشباه والنظائر سلوك فطرى عند أصحاب الفطر السليمة ثم جاء الدين فأكد شرعيته ومشروعيته .. بل وفرضيته أحيانا كثيرة . والمجتمع كذلك يساعد على شيوع الأخلاقيات والقيم الإسلامية التي تتمايز عن القيم الأخرى .. هذه القيم مثل التقوى والاخوة والحب والعدل بين الناس وإشاعة الخيرات ومحاربة المنكرات والعفة والفضيلة والحياء . كلها قيم إسلامية يقوم المناخ الإسلامي بتعميقها بين الناس وتقوم الدولة بحراستها بعد ذلك والعمل على تنميتها ...كل هذه الأمور تدخل تحت فهم معنى لا اله إلا الله وتدخل تحت فهم معنى الدين وتدخل تحت فهم معنى العبادة بمدلولها الشامل . وشرح كل هذه الأمور لا شك خير كبير .. أما إصدار الأحكام على من لا يدركها ولا يحيط بها علما فهذا شيء آخر تماما .. ويشير القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام حين قال له قومه بعد أن عبروا البحر في معجزة مبهرة حيث يقول ربنا جل وعلا في سورة الأعراف ( 138 ) "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأستوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهه قال إنكم قوم تجهلون ... " فرغم طلبهم الشرك الصريح بالله عز وجل خاطبهم موسى واصفا إياهم بوصف ( تجهلون ) .. وهى جملة فعلية تدل على فعل فعلوه وليس وصفا بالشرك لصق بهم .. فوصفهم بالجهل أو بالجهالة أو حتى بالجاهلية .. اعتقادا منهم أنهم لا يتعمدون الشرك بالله , بل طلب تقليد القوم الذين أتوا عليهم .. وفى هذا الرد أيضا منحهم فرصة التوبة من طلب الإشراك بالله ومن عجب أنني وجدت في الظلال وحدها تفسيرا لمعنى قوله عز وجل " تجهلون " يقول الشهيد سيد قطب(1) " قال إنكم قوم تجهلون " .. ولم يقل تجهلون ماذا ؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما معنى الجهل الكامل الشامل .. الجهل : من الجهالة ضد المعرفة , والجهل : من الحماقة ضد العقل " ا.هـ ولم يصرح سيد قطب بان قوله عز وجل " تجهلون " بمعنى " تشركون " وملاحظة أخرى حول هذه الآيات هو ذلك التعقيب الجميل " قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين " . فسيدنا موسى رغم ما قالوه من طلب عبادة الأوثان صراحة لم ينزع عنهم بعد صفة " وهو فضلكم على العالمين " .. أي صفة الإيمان . واذكر أنني كنت في السجن مع مجموعة ممن كانوا يضعون " فهم " كلمة " لا اله إلا الله " شرطا بقبول الإسلام .. ويضعون لزوم الجماعة شرطا آخر .. قلت لهم : هب أن أحدا في سيبريا في فصل الشتاء والحرارة خمسون تحت الصفر .. ذلك الصقيع القاتل .. وأراد رجل أن يسلم وهو لا يفهم العربية .. وقال " أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله " وهو لا يفهم معناها ولا يعرف تكاليفها .. فهل لا تعترفون له بالإسلام .. أو تعلقون إسلامه على شرط من هذه الشروط ؟ فلم أجد إجابة عند من يريد أن يغلق أبواب رحمة الله وخزائن فضله " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا "(2).. هذا في المال .. فهل يتعدى إلى القتور في الدين ...!! لكن اللبس الشديد حدث بعد كلمات الشهيد سيد قطب في الظلال حول هذه المعاني .. وأنا اعتقد أنه لم يكن يريد إصدار أحكام بالكفر على 98% من أفراد الشعوب والعالم الإسلامي الذين لا يعلمون حتى كتابة هذه السطور معاني هذه المفردات" الإله " و" الدين " و" العبادة " و"الرب " فلعله كان يسهب في شرح أسباب بعد الناس الشديد عن الدين .. وليس كفرهم . والله أعلم. إن القرآن الكريم خاطب الناس جميعا بلفظ يسهل فهمه عند العامة والخاصة من الناس وجعل هذا اللفظ هو لب الدين وجوهره
وما أرجحه أن كلمات الشهيد سيد قطب القوية .. بل والحادة أحيانا في اتهام من لا يفهم ( لا إله إلا الله ) كما شرحها الشهيد كانت تعنى توضيح قضية ( الدين ) الكبرى .. ألا وهى الالتزام بشرع الله .. في كل أمور الحياة .. ونحن نحسن الظن به ونقول إنه لا يضع شرطا على قبول إسلام من قال " لا اله إلا الله " .. ولكنه يستنكر ــ وبشدة ــ الذين يعلنون الإسلام ثم يتحاكمون لغير الله .. أو يدينون لغير الله .. أو يتعبدون لغير الله في أي شان من الشؤون التي أمر بها الله سبحانه وتعالى بكلمات أو تعبيرات .
كلها مترادفات متقاربة المعنى تعنى أن المسلم لا بد أن يطيع الله والرسول .. وان يخضع لله ورسوله .. دون قيد أو شرط .. وفى كل أمور حياته أما شروح الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ فكانت مزيدا من البيان في قوة وإصرار .. وأحيانا في عنف ومفأصله . لعلها كانت تناسب المقام آنذاك حينما سلم جمال عبد الناصر مقاليد الثقافة والإعلام للشيوعيين الذين لم يضيعوا وقتهم أبدا في تحقيق أهدافهم الثلاثة : 1- فصل الدين عن الدولة .. كمرحلة أولى لزعزعة عقيدة المتدينين 2- نشر الإلحاد تدريجيا 3- السخرية من كل قيم وتعاليم ورموز الإسلام , وتسبق مرحلة السخرية مرحلتان - التشكيك في قيم الدين - الطعن في الثوابت والمقدسات الدينية سواء في العقائد أو العبادات أو التشريع أو المعاملات .. وعلى رأس هذه الثوابت التحاكم إلى شرع الله .. فكان هدف الشيوعيين محو عقيدة التحاكم إلى شرع الله محوا كاملا .. ويجب ألا ننسى دائما أن مؤسس الشيوعية الأول في مصر كان اليهودي الصهيوني " هنرى كوريل " والذي قضى نحبه في ظروف غامضة في باريس أما كلمات الشهيد التي أثارت الأزمة , فهي في تفسيره " في ظلال القرآن " في تفسير سورة الأنعام الجزء السابع ( ص 1106 ) طبعة دار الشروق حيث يقول الشهيد سيد قطب في تفسير قوله عز وجل " ولتستبين سبيل المجرمين " (1) " ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا .. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين , في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام, يسيطر عليها دين الله , وتحكم بشريعته .. ثم إذا هذه الأرض , وإذا هؤلاء الأقوام , تهجر الإسلام حقيقة , وتعلنه اسما . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا . وان ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا . فالإسلام شهادة ألا اله إلا الله . وشهادة لا اله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بان الله ـ وحده ـ هو خالق هذا الكون , المتصرف فيه . وان الله ـ وحده ـ هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله وان الله ـ وحده ـ هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله ... وأيما فرد لم يشهد لا اله إلا الله بهذا المدلول ــ فانه لم يشهد . ولم يدخل في الإسلام بعد . كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما ارض لم تحقق فيها شهادة ألا اله إلا الله ـ بهذا المدلول ـ فهي أرض لم تدن بدين الله , ولم تدخل في الإسلام بعد. وفى الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين , وهم من سلالات المسلمين , وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد ألا اله إلا الله ـ بذلك المدلول ـ ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول ...وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام ..ثم يستطرد الشهيد بعد قليل فيقول : " إن الإسلام بيّن , والكفر بيّن , والإسلام شهادة ألا اله إلا الله ــ بذلك المدلول ــ فمن لم يشهدها على هذا النحو . ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو , فحكم الله ورسوله فيه انه من الكافرين الظالمين الفاسقين .. المجرمين "(1) ا . هـ
ولم يلتفت سيد قطب إلى قضايا كفر الأشخاص أو إسلامهم كثيرا ولكن الذي كان يعنيه هو وضع مواصفات لمنهج الحركة .. أو أسلوب الدعوة وتوصيفه توصيفا مفصلا حتى تنهض الأمة ثانية كما نهضت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .. وأكد الشهيد على أن هذا المنهج لا بد أن يكون ربانيا ( وليس من صنع البشر ) مثل المنهج الرباني الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا على خطى الوحي الذي كان ينزل به جبريل عليه السلام على قلب النبي صلى الله عليه وسلم واجتهد الشهيد سيد قطب في وضع مواصفات هذا المنهج(1) 1- هذا المنهج يقوم به البشر ولا يعتمد على الخوارق والمعجزات لتحقيق النصر 2- هذا المنهج واقعي ينطلق من الواقع القائم بعد تقييمه ووصفه بدقة في خطوات واقعية متتالية ولكنها ربانية . 3- هو منهج جاد يتميز بالجدية الشديدة التي تتمثل في الحساب الدقيق لكل المؤثرات الفكرية والنفسية المعادية وإعداد الوسائل التي تتكافأ ـ على الأقل ـ مع هذه المؤثرات والعناصر والقوى . 4- هو منهج إيجابي .. وما يكاد الإيمان يستقر في ضمير الفرد حتى يحس انه قوة فاعلة مؤثرة , فاعلة في ذات نفسه , وفى الكون من حوله وهو ينافى كل مظاهر السلبية ويرفضها تماما , وعلى هذا تم اختيار غالبية أفراد تنظيم ( 1965 ) 5- هو منهج ذو طبيعة مرحلية .. فلكل مرحلة وسائلها في العمل والحركة وهى تسلم إلى المرحلة التي تليها . وللشهيد آراء في الناسخ والمنسوخ تؤيد هذه الوجهة 6- هو منهج رباني يجعل الدعوة قبل الدعاة فالتضحية هي الأصل في سلوك وعقيدة المؤمن الذي يرى الجنة خيرا من الدنيا وما فيها ولا وجه للمقارنة 7- إن الهدف الأسمى للدعاة هو تحقيق الطاعة الكاملة لله في أنفسهم وفى البشر .. أما النصر والتمكين فليست هي الهدف الأسمى وان كانت من برامجهم 8- هو منهج ميسر .. ولعل أيسر ما في هذا المنهج أنه ـ وهو يضع في حسابه بلوغ القمة السابقة ـ لا يعتسف الطريق , ولا يستعجل الخطى , ولا يتخطى المراحل(1) 9- منهج رباني ذو طبيعة توكليه قدرية .. فهو منهج وإن كان يقوم على أكتاف البشر , ولكنه يرى ويلحظ دائما المشيئة الإلهية المطلقة ويثبت لها الفاعلية التي لا فاعلية سواها ولا معها . فإرادة الله هي الفاعلة في النهاية . وبدونها لا يبلغ الإنسان بذاته شيئا . ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها ويستمد عونها , ويجاهد في الله ليبلغ رضاه ( .. فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ) وانطلق الشهيد من هذا كله , ومن توصيفه للمجتمعات بأنها جاهلية .. انطلق إلى تحديد طبيعة الديار التي يعيش فيها هذا المجتمع الجاهلي . وقاده اجتهاده هذا إلى تحديد الأرض أو الدار كما يقول الفقهاء فقسمها إلى : 1- دار الإسلام .. التي تحكم بشريعة الله منهجا في كل أمور حياتها والتي تقوم فيها الدولة الإسلامية , وتهيمن عليها كل نواحي الشريعة الإسلامية . 2- دار الكفر .. هي التي ترفض صراحة دين الله وهو الإسلام 3- دار الحرب .. هي الدار التي تحارب المسلمين وتطاردهم والذي لا شك فيه أن هناك اعتبارين لا ثالث لهما في الحكم على الديار أو الأوطان أو المجتمعات الاعتبار الأول : طبيعة القوانين والتشريعات الحاكمة في هذه الديار . وكذلك طبيعة القيم التي تواجه حركة المجتمع ومرجعيتها الاعتبار الثاني : ما هو دين غالبية السكان . فإن كانت غالبية السكان تعلن الإسلام دينا فهي دار إسلام وان كانت لا تعلن الإسلام دينا فهي ليست دار إسلام ولها أسماء أخرى حسب موقفها الحالي من بلاد المسلمين ويعلق على ذلك المستشار سالم البهنساوي في مؤلفه " أضواء على معالم في الطريق فيقول (1) : " أما اصطلاح دار الكفر المقابل لدار الإسلام فكثيرا ما كان المؤلف ( سيد قطب ) يستخدم اصطلاح الجاهلية مرادفا لدار الكفر حسبما أوضحت في المقدمة والمنهج . وقد اختلف الفقهاء في الأساس الذي تصبح معه البلد دار إسلام أو دار كفر . ويزداد ذلك حاليا بعد زوال حكم التشريع الإسلامي عن بعض البلاد الإسلامية , وزوال حكم الحدود عن أكثرها , مع بقاء شعبها على إسلامه من حيث إقامة الشعائر التعبدية وعدم جحود شريعة الله والسبب في هذا ليس في عدم وضوح الحكم الشرعي أو معرفته . بل في العلة التي بنى عليها كل فقيه حكمه عليها . فتسمية دار الإسلام ودار الكفر ترتبط بالعلة من هذه التسمية قال الإمام الكاسانى :" إن قولنا دار الإسلام ودار الكفر , إضافة الدار إلى الإسلام والى الكفر .. وذلك لظهور الإسلام أو الكفر فيها . ولقد نقل قول أبي حنيفة : إن المقصود من إضافة الدار إلى الإسلام أو الكفر ليس هو عين الإسلام أو الكفر , وقال : إنما المقصود الأمن أو الخوف , فان كان الأمن للمسلمين كانت دار إسلام وأساس التفرقة عند صاحبي أبي حنيفة ظهور أحكام الإسلام أو الكفر . ويرى البغدادي أنها الإقليم الذي يرضى سكانه بالإسلام دون قيود وتسوده السلطة الإسلامية . ويرى محمد بن الحسن الشيبانى أنها الموضع الذي تحت يد المسلمين . وقال ابن القيم : خلاصة مذهب الجمهور أن دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام . ويرى الشيخ الإسلام ابن تيميه أن كل ارض سكنها المسلمون فهي دار إسلام أما البلاد التي زالت عنها أحكام التشريعات الإسلامية : - فقد قيل : لا تصبح دار كفر إلا إذا سارت فيها أحكام الكفر وأن تتصل رقعتها بدار الكفر , وألا يبقى مسلم ولا ذمي آمن على نفسه . وهو رأى الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه . - وقيل : تفقد صفتها الإسلامية بظهور أحكام الكفر فيها , فالعبرة بالحكم السائد أي التشريع . وهو رأى محمد بن الحسن وأبو يوسف . بينما يرى شيخ الإسلام ابن تيميه أنها ليست بمنزلة دار الإسلام ولا بمنزلة دار الكفر . بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحق . وقد جاء بصحيفة نور الإسلام الناطقة باسم الأزهر الشريف تعقيبا على إسقاط الخلافة العثمانية بمعرفة الذئب الأغبر كمال أتاتورك : ( إن دار الإسلام هي التي تجرى فيها أحكام الحنيفية السمحة , ولا تعتبر بالنسبة لسائر المسلمين بلدا واحدة , وبعبارة أخرى دار الإسلام هي الإقليم الواقع تحت ولاية ملك مسلم تجرى فيه أحكام الإسلام ) وقد ختم المؤلف هذا الفصل بتقرير حقيقة مهمة هي أن دار الإسلام ليست لافتة إسلامية , بل دار تسيطر عليها عقيدة وتحكم فيها شريعة الله وحدها , فهي لكل من يرتضى الإسلام عقيدة وشريعة , وكذلك كل من يرتضى شريعة الإسلام نظاما ولو لم يكن مسلما كأهل الذمة , وكل أرض تحارب المسلم في عقيدة وتصده عن دينه وتعطل عمل شريعته فهي دار حرب"(1) .
اختلاف العلماء حول وصف هذه الديار ( دار إسلام ـ دار كفر ـ دار حرب ـ دار ردة ) وهذا الاختلاف يجعل استخدامه في فتاوى بالحكم على الأشخاص محل نظر شديد .. إذ أن الدليل لو تطرق إليه الاحتمال فقد سقط الاستدلال به , ولا يمكن ترتيب حكم قضائي بناء عليه .. كما انه إذا كان يستحيل إسلام امرؤ في بلاد الكفر بمجرد نطقه بالشهادتين لأنه يقيم في هذه الدار لكان هذا مانعا لقبول شهادة ألا اله إلا الله من ملايين من الناس إذا أرادوا أن يسلموا .. والقائل بهذا الحكم إنما يضع شرطا على قبول شهادة ألا اله إلا الله وهو ما يتنافى مع أصل رحمة الله عز وجل الذي يفتح مصراعي باب الإسلام لمن يريد في أي وقت من الليل والنهار .. وفى أي مكان في بقاع الدنيا كلها .
ولقد أكثر وأفاض كل من الأستاذين أبى الأعلى المودودى وسيد قطب في استخدام هذا المصطلح الذي يعنى • تحكيم شريعة الله . • رد الأمر لله . • أن تكون التشريعات والقوانين مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله . • رفض أي تشريع يخالف شرع الله عز وجل . • أن يكون الدين المصدر الوحيد للتشريع فيما فيه نص . • أن نحل ما احل الله , ونحرم ما حرم الله مع اعتقاد ذلك. • أن تكون المشروعية العليا للكتاب والسنة . • طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر . • الاعتقاد التام بلا ريب ولا شبهة في فرضية طاعة الله وطاعة الرسول فيما نزل من أحكام في الكتاب والسنة وليس معنى هذا أن تقوم ما يسمى في الفكر الغربي بالحكومة الإلهية أو ( الثيوقراطية ) بمعنى أن يكون للحاكم أو الأمة حق التشريع المطلق سواء وافق الدين أو خالفه .. فليست ( الحكومة الدينية ) أو ( الحكومة الإلهية ) أو ( الحكومة الثيوقراطية ) هي ما يعنيه هذا المصطلح .. ولعل كلمات أبي بكر الصديق رضى الله عنه هي أصدق تعبير عن هذا في أول خطبة له بعد اختياره خليفة للمسلمين : " أطيعوني ما أطعت الله فيكم . فان عصيته فلا طاعة لي عليكم " بعكس ما كان يفعل الأحبار والرهبان قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان الأحبار والرهبان يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله كما في الحديث الشهير الذي أورد الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عدى بن حاتم الطائي .. فقال عدى بن حاتم معلقا على قوله عز وجل " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " فقال عدىّ " انهم لم يعبدوهم " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم " ويشرح الأستاذ سالم البهنساوي هذه القضية فيقول في كتابه أضواء على معالم على الطريق ( ص 168 ــ 171 ) فيقول : وأخيرا , يخلط بين مفهوم نظرية الإسلام السياسية المتضمن التزام المسلمين بنصوص القرآن والسنة في أمورهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية , وبين سلطة الشعب في النظام الديمقراطي . وفيما يلي بيان هذه الأمور بإيجاز :
لقد كان من أثر انحراف رجال الدين في أوروبا أن زعموا أنهم مفوضون عن الله في حكم الناس , وانهم ينوبون عن الله في التشريع والتحليل والتحريم , وبالتالي بيدهم حق إدخال الجنة وحرمان الناس منها وإدخالهم النار , وهذا ما عرف باسم الغفران والحرمان , وقد نشأ عن ذلك ما عرف باسم الحكومة الدينية أو الثيوقراطية التي حرقت العلماء وصادرت حريات الناس باسم الحق الإلهي سالف الذكر . ولقد جاء بعض الكتاب وحاولوا وصف الحاكم في الإسلام بالحكومة الإلهية أو الدينية قال ذلك الشيخ خالد محمد خالد في كتابه (( من هنا نبدأ )) ولكن بعد ثلاثين عاما أعلن خطأه في كتاب صدر سنة 1982م باسم الدولة في الإسلام . ولكن كتابات المودودى وسيد قطب من بعده عن الحاكمية , جعلت البعض يخلط بين الحكومة الإلهية وبين مفهوم الحاكمية الإسلامية , فقيل : - إن الإمامين أبا الأعلى المودودى وسيد قطب هما أشهر من استخدم مصطلح الحاكمية لله , ولكنهما لم يتركا المجال للربط بين هذا المصطلح وبين نظام الحكومة الدينية في أوروبا , ولكن البعض قد نقل فقرات من كتاب ( معالم في الطريق ) عن حاكمية الله وربط بينها وبين الحكومة الدينية في أوروبا , بينما الشهيد سيد قطب يقول في كتابه ( معالم في الطريق ) : " ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال دين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة . ولا رجال ينطقون باسم الآلهة . كما كان الحال فيما يعرف باسم " الثيوقراطية " أو الحكم الإلهي المقدس !! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة . وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة " , ويقول ويبين أن المقصود بحاكمية الله أن الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم يقومون منهم مقام الأرباب , ويقوم الناس مقام العبيد , أو بالتعبير القرآني : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم ) [ الزخرف : 84 ] , ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ) [ يوسف : 40 ] ,( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) [ آل عمران : 64 ] (1) هذا هو مفهوم الحاكمية عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله وهو يدحض مزاعم خليل حيدر ومحمد خلف الله وغيرهما ( ممن يهاجمون ويتقولون على سيد قطب ) - والإمام المودودى يوضح مفهوم خلافة الإنسان في الأرض بقوله : " إن الإسلام لا ينوط أمر الخلافة بفرد من الأفراد , أو بيت من البيوت , أو طبقة من الطبقات بل يفوض أمرها إلى جميع أفراد المجتمع الذي يؤمن بالمبادئ الأساسية من التوحيد والرسالة , وأن هذا هو المقام الذي تنشأ فيه وتبتدئ منه فكرة الجمهورية في الإسلام , وأن هذا المجتمع الإسلامي له نصيب من الخلافة وحق التمتع بها , وهذه الحقوق لمن شاء من أفراد المجتمع , ولا تشكل إلا بآراء الجمهور وتأييدهم ومشورتهم , فمن نال رضاهم وحاز ثقتهم ينوب عنهم في القيام بواجبات الخلافة ومن فقد ثقة أفراد المجتمع به لا مندوحة له عن اعتزال هذا المنصب الجليل وهذا هو معنى الحاكمية لله ولكنه يقيده بالقرآن والسنة" السلطة للأمة والتشريع من الله : لقد خلط بعض الكتاب بين سلطة الأمة في تعيين الحاكم ومحاسبته وعزله , وبين الحق الإلهي المقدس في أوروبا والذي يجعل البابوات أصحاب السلطان والتشريع ولا سلطة للامة ولهذا قال : " إن من يقولون : إن الحاكم في الاقتصاد والسياسة هو الله , يريدون أن يحكموا الناس بالسلطان الإلهي المقدس المعروف في الكنيسة ولا يحكمون نيابة عن الناس" إن الذين ينادون بحاكمية الله للبشر قد أوضحوا كما نقلنا عن المودودى وسيد قطب أن هذه الحاكمية لا تنطوي أبدا على أن يباشر حكام بأعينهم سلطانا من الله على الناس كما كان في أوروبا , بل تقوم الحاكمية لله بان تكون شريعة الإسلام هي مصدر التشريع , ولا يختلف الفقهاء قديما وحديثا في أن نظام الحكم في الإسلام يقوم على أساس أن السلطان للامة ـ أي الحكم لها ـ وذلك من خلال ثلاث مبادئ هي : البيعة والشورى ومحاسبة الحكام وسلطان الأمة لا يعنى أن تشرع من دون الله , بل من خلال مبادئ القرآن والسنة , بحيث لا يصدر تشريع يخالف هذه المبادئ . وقد افترض البعض أن من ينادى من المسلمين بالحاكمية لله في الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية , إنما يعلنون هدم النظام الديمقراطي , والديمقراطية تجعل السلطة للشعب , ونظام الحاكمية يجعل السلطة لله , ورتب على ذلك انهم يطالبون بحكومة البابوات وقال مثله خليل حيدر على , وزعم أن الحكم الإسلامي سيحرق الكتب , ونسب ذلك إلى معالم في الطريق !!(1) وهذه الأقوال تتداخل فيها الديمقراطية كنظام سياسي يتمثل في تخويل الأمة حق اختيار الحاكم ورقابته , وهذه لا تتعارض مع النظام الإسلامي في هذا الخصوص بل الإسلام قرر ذلك وكانت أوروبا في ظلامها السابق ولكن يختلف الإسلام مع الديمقراطية كنظام ينبع عن نظرية السيادة للشعب , وتتمثل في حق الشعب المطلق في التشريع بأغلبية أصوات النواب حتى لو أحل الحرام وحرم الحلال فأباح الشذوذ والزنا , كما هو قائم في بلاد أوروبا . بينما الحاكمية لله في الإسلام بمعنى : أن يلتزم الحاكم بشرع الله , وهى تتعارض مع الديمقراطية في هذا الجانب , والإسلام ليس النظام الوحيد الذي يضع قيودا على الناس في أمر التشريع , فالماركسية تضع قيودا على الشعب فلا يملك أن يشرع أمرا يخالف المذهب الماركسي , ولم يقل خليل حيدر : إن هذا القيد يتنافى مع سيادة الأمة وحريتها ! بل إن الأنظمة الديمقراطية تضع قيودا على السلطة التشريعية عند تعديلها لبعض القوانين , هذه القيود والاستثناءات تسمى أعمال السيادة , ففي مصر مثلا , كان من أعمال السيادة ما يصدر عن رئيس الجمهورية من قرارات , وكذا حتمية تمثيل العمال والفلاحين بنسبة 50% بمجلس الأمة , فلا يجوز المساس بهذين القيدين , ويوجد شبيه بذلك في دول أخرى عربية وأوروبية . فإذا نص القرآن الكريم على هيمنة تشريعات الإسلام وأحكامه المتمثلة في القرآن والسنة على جميع التشريعات , كما في قول الله تعالى :( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )[ الأحزاب:36 ] . وشرح ذلك سيد قطب وسماه الحاكمية , يأتي مسلم ويقول : سيكون عندئذ قد عدنا بعقارب الساعة إلى فلسفة الحكم بالحق الإلهي ). وقال من قلده : إن الحكم الإسلامي سيحرق جميع الكتب ويصادر الثقافات , ثم يأتي من يقول : ( وخطر تلك الفلسفة السياسية القول بان الحاكم ملتزم بالشريعة , لأن العدول عن مبدأ " الأمة مصدر السلطات " سيحرر الحاكم بدرجات متفاوتة من قيد تستخدمه الأمة للحيلولة دون الشطط والاستبداد , كما سيفتح الطريق كي يضفي على نفسه قداسة معينة وسلطة ربانية تتنافى تماما مع روح الإسلام ) وهذا خلط وتحريف كما ذكرنا , لأن اختيار الحاكم ومحاسبته وعزله يجعله الإسلام بيد الأمة بشروط لم تصل إليها أوروبا. وهناك من يرى أن روح الإسلام هو في الالتزام بمبدأ الأمة مصدر السلطات , الذي يخول لأعضاء المجالس التشريعية أن يصدروا من القوانين ما يريدون حتى لو أباحوا الزنا والشذوذ الجنسي , كما هو حاصل اليوم في بعض دول أوروبا , ثم كيف يصبح الالتزام بشريعة الله وسيلة لإضفاء قدسية على الحاكم تمكنه من العودة إلى حكم كسرى وقيصر وحكم البابوات في أوروبا ؟ وهذا ما لم يقل به أعداء الإسلام , مع أن الذي يمكن الحاكم من هذا الطغيان هو نظرية السيادة , فالسلطة التشريعية يضعون لهم ما يريدون من القوانين , لأنه لا يوجد أي قيد على التشريعات الصادرة عن هذا المجلس , حيث أصبح أعضاءه يمثلون الحق الإلهي المقدس الذي زعم البعض أنه قد أبطلته نظرية السيادة للامة , بينما النواب في النظام الديمقراطي الغربي يشرعون ما يشاءون , فكأنهم قد عصموا من الخطأ أو أخذوا الحق الإلهي من البابوات " انتهى كلام المستشار سالم البهنساوي . والذي لا شك فيه انه يجوز لأي فرد أن يتخذ لنفسه مصطلحات تعبر عن رؤية شاملة لقيم وعقائد وردت في القرآن أو السنة وهذا ما حدا الأستاذين سيد قطب وأبو الأعلى المودودي في استخدام هذا المصطلح مع شرحهما التام له .. فكما يقال " لا مساحة في المصطلحات " . ولكن الأمر كثيرا ما يتطور فينسى الناس أصل المصطلح الذي اختاره صاحبه , ويرتبون على المصطلح أفكارا وأحكاما وعقائد لعل صاحب المصطلح لم يكن يعنى أو يقصد كثيرا منها .. ولهذا كتب الأستاذ المرشد حسن الهضيبي تعليقا على قضية المصطلحات في كتابه القيم " دعاة لا قضاة فقال : ( جرت على بعض الألسن لفظة (الحاكمية) تعبيرا عن معان وأحكام تضمنتها آيات من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ثم أسندت اللفظة إلى اسم المولى عز وجل فقيل (حاكمية الله). ثم تفرعت عن اللفظة مضافة إلى اسم المولى عز وجل أحكام: فقيل: أن مفهوم (حاكمية الله) كذا وكذا ومقتضى ذلك أن يعتقد الشخص كذا وكذا. وان يكون فرضا عليه أن يقوم بكذا وكذا من الأعمال، فان لم يعملها وعمل غيرها فهو خارج عن (حاكمية الله) تعالى فوصفه كذا. ونحن على يقين أن لفظة (الحاكمية لم ترد بأية آية من الذكر الحكيم، ونحن في بحثنا في الصحيح من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام لم نجد منها حديثا قد تضمن تلك اللفظة فضلا عن إضافتها إلى اسم المولى عز وجل والتجارب، وواقع حال الناس، يقول لنا إن أصحاب الفكر والنظر والباحثين قد يلحظون ارتباطا بين معاني مجموعة من الآيات بالقرآن الكريم والأحاديث الشريفة وفكرة بارزة فيها فيضعون مصطلحا لتلكم المعاني.غير أنه لا يمر إلا الوجيز من الزمن حتى يستسهل الناس المصطلح الموضوع فيتداولونه بينهم ثم يتشدق به أناس: قليل منهم من قرأ الكثير الذي كتبه الباحثون والمفكرون أصحاب النظر، شرحا للآيات والأحاديث التي كانت هي الأصل عندهم، وتعبيرا عن المعاني التي لاحظوها، والأقل من هذا القليل من يكون قد استوعب ما كتبه الباحثون والمفكرون واستطاع أن يفهم ما أرادوا، وأدرك حقيقة مقصدهم. والغالبية العظمى تنطق بالمصطلح وهي لا تكاد تعرف من حقيقة مراد واضعيه إلا عبارات مبهمة سمعتها عفوا، هنا وهناك. أو ألقاها إليها من قد لا يحسن الفهم أو يجيد النقل والتعبير. وقد لا يمضي كثير وقت حتى يستقلس المصطلح بنفسه في أذهان الناس. وبقر في آذانهم أنه الأصل الذي يرجع إليه, وأنه الحكم الكلي الجامع الذي تتفرع عنه مختلف الأحكام التفصيلية. وينسى الناس أن الآيات والأحاديث التي لوحظ فيها المعنى الذي وضع المصطلح عنوانا له هو الأصل الذي يتعين الرجوع إليه. بل قد يغيب عنهم أن مراد واضعي المصطلح لم يكن غير التعبير عن معان عامة أرادوا أبرزها وجذب انتباه الناس إلى أهميتها، دون أن يقصدوا وضع أحكام فقهية، خاصة التفصيلية منها)(1) انتهى
وفى عصر الإسلام الأول كان من يؤمن بهذا الدين الجديد تصير له روابط مع أتباع هذا الدين الجديد , كما أنه يتعرض للتو إلى اضطهاد من أعداء الإسلام وأئمة الكفر . فتنشا هذه الحالة النفسية تلقائيا . وفى العصر الحديث من ينضم إلى حزب من الأحزاب السياسية فهو يعادى تلقائيا الأحزاب المنافسة أو المعادية .لكن المبالغة في هذه الأمور هي المرفوض في عالم الحياة الملئ بالتفاعلات ولقد كان الشهيد سيد قطب يقول " كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه , تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله , وروابطه الاجتماعية (1) ويقول أيضا " كان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية , وعرفها وتصورها , وعاداتها وروابطها , ينشا عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد , ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود , حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطى في عالم التجارة والتعامل اليومي . فالعزلة الشعورية شئ والتعامل اليومي شئ آخر " لقد عبر حسن البنا عن هذه الظاهرة بتعبيرات أخرى منها : 1. تعميق الاخوة بين الإخوان وجعلها ركنا من أركان البيعة 2. جعل " الثقة " و " الطاعة " من أركان البيعة 3. سرد وشرح الآيات المتعلقة بـ " الولاء " بين المؤمنين وخصوصا حملة لواء الدعوة إلى الله عز وجل . كل هذه العوامل تعمق العلاقة بين أفراد الدعاة إلى الله .. بل قد يزداد هذا الحب حتى يصل إلى حد حصر هذا الحب وتلك المودة على أصحاب نفس الطريق .. وهذا سلوك تلقائي عند أصحاب أي طريق أو حتى بين أبناء المهن الحياتية .. ناتجا عن قضاء أطول وقت مع من يشبهونه في المهنة أو يشاركونه الطريق .وكثيرا ما يدخل عامل الزمن كعنصر مؤثر في حصر وقصر العلاقات بين الأفراد بطول الممارسة وتفاعلات الحياة اليومية . وفى رسالة التعاليم للإمام حسن البنا في ركن التجرد يقول الإمام : " أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص ، لأنها أسمى الفكر وأجمعها و أعلاها (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (البقرة) (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة) والناس عند الأخ الصادق واحد من ستة أصناف: مسلم مجاهد , أو مسلم قاعد ، أو مسلم آثم ، أو ذمي معاهد ، أو محايد ، أو محارب , و لكل حكمه في ميزان الإسلام , وفى حدود هذه الأقسام توزن الأشخاص و الهيئات ، ويكون الولاء أو العداء .....ثم يتابع الإمام حسن البنا موضحا طبيعة العلاقات بل والتلاحم بين أفراد الصف في الإخوان(1) المسلمين في ركن البيعة التاسع وهو " الأخوة " فيقول : " وأريد بالأخوة :أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة ، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها ، والأخوة أخت الإيمان ، والتفرق أخو الكفر ، وأول القوة : قوة الوحدة ، ولا وحدة بغير حب , وأقل الحب: سلامة الصدر , وأعلاه : مرتبة الإيثار (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر) والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه ، لأنه إن لم يكن بهم ، فلن يكون بغيرهم ، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره , (وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) , (والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً). (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض) وهكذا يجب أن نكون ". ... هي كلمات هادئة للإمام البنا , ولكنها قوية في التعبير لمن تدبرها .أما كلمات الشهيد سيد قطب فكانت قوية وشديدة .. وقد لا يحسن الكثير فهمها والعمل بها وهذا ما حدث .ولقد كتب الأستاذ محمد عبد القادر أبو فارس في كتابه منهج التغير عند الشهيدين حسن البنا وسيد قطب(2) فقال :" يكثر سيد , رحمه الله , من الحديث عن تحديد العلاقة مع الجاهلية وأهلها , ويصر على مفاصلتها والتميز عنها , يعتبر التميز والمفاصلة شرطا في غلبة العصبة المؤمنة على الأنظمة الجاهلية والحكومات الجاهلية فهو يقول " لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقديا وشعوريا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها , حتى يأذن الله بقيام دار الإسلام " ( الظلال ص 1125 ) والمفاصلة في فترة الضعف تكون بهجر مجالس المنكر , وعدم مجاراة أهل الجاهلية في باطلهم والسكوت عنه , وهذا مأخوذ من قوله تعالى : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) [ الأنعام ] والتميز يكون بالمفاصلة عقديا وشعوريا ومنهج حياة , ويكون بالتحلي بالمواقف الإسلامية والقيم الإيمانية , والأخلاق المنبثقة من العقيدة الإسلامية , فهو موحد بالله معتز به , نظيف اليد والفرج واللسان , لا يشارك أهل الجاهلية في فسقهم , وفجورهم , بل يحارب ذلك .إن المسلم ولا شك والعصبة المسلمة تعتقد عقيدة , تناقض عقائد الجاهلية , ولا تلتقي معها , بل تنسف هذه العقيدة التي تعتقدها , ومواقفها كذلك نابعة من عقيدتها في الولاء لله ورسوله وللمؤمنين , والبراء من كل كافر , وتسعى لتطبيق أحكام الشريعة , وتقويض أحكام الشرائع الأرضية .ويرى الأستاذ سيد , رحمه الله , أن على العصبة المسلمة أن تتميز بعرضها لعقيدتها , وأن تفاصل مفاصلة كاملة واضحة , لا غموض فيها , كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها مفاصلا ومتميزا , إذ أعلن من أول يوم , أنه يريد أن يغير عقائدهم الفاسدة , ويلغى شرائعهم الباطلة . تأمل قوله (وفاصلهم مفاصلة كاملة , لا غموض فيها , ولا تردد) هذه طريقته ولم يقل لهم أبدا : أنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة أو أنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها , كما يقول بعضنا اليوم للناس , وهو يقدم إليهم الإسلام , مرة تحت عنوان " ديمقراطية الإسلام !" ومرة تحت عنوان " اشتراكية الإسلام !" ومرة بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج في الإسلام إلا لتعديلات طفيفة !! إلى آخر هذا التدسس الناعم والتربيت على الشهوات . كلا , إن الأمر مختلف جدا , والانتقال من هذه الجاهلية التي تعم الأرض إلى الإسلام نقلة بعيدة , وصورة الحياة الإسلامية مغايرة تماما لصورة الحياة الجاهلية قديما وحديثا ) انظر معالم في الطريق ص169 ) ويقول رحمه الله أيضا عن هذا العرض المتميز المفاصل : " لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً. ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة.. سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة .. هذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس والله يريد أن يطهركم .. هذه الأوضاع التي أنتم فهيا خبث، والله يريد أن يطيِّبكم .. هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم .. هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم.. والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكون معها هذه الحياة التي تعيشونها، وإلى أوضاع أخرى تحتقرون معها أوضاعكم .. " ( معالم في الطريق ص 168 ) والأستاذ رحمه الله , يتوقع أن تكلف المفاصلة والتميز العصبة تضحيات ومشقات , وهذه التضحيات تعتبر قليلة , إذا ما قيست بالنتائج المرة , لعدم المفاصلة والتميز , وبقاء الالتباس بين الإسلام والجاهلية , في العرض والمواقف والتدسس والمجاملة , على حساب الحق , والحرمان من النصر في النهاية, إن لم تتم المفاصلة والتميز " ( في ظلال القرآن ص 1125 ـ 1126 )
"ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه ، ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية ، ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها. وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامي بكل مظاهره ، وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام " ( رسالة إلى الشباب من مجموعة الرسائل ص 419 ) وقال رحمه الله : " إن صدور الأمة محرجة اشد الحرج , لشعورها أنها تحكم بغير كتاب الله وقانونه وشريعته , وان الشعوب التي تعودت الصبر حينا , فان الانفجار طبيعة هذا الصبر , في كثير من الأحيان , وليس يحرج النفس شئ أكثر من الاصطدام بالعقيدة الراسخة , وان قوانيننا تنافى الإسلام , وتحطمه في نفوس المؤمنين" . إننا أمة مسلمة , وقد وطدنا العزم على ألا نحكم بغير قانون الله وشريعة القرآن الكريم , وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم مهما كلفنا ذلك من ثمن , ومهما بذلنا من تضحيات , وذلك أبسط حقوقنا كأمة , لا تعدل باستقلالها في كل مظاهره شيئا.وسيظل الإخوان المسلمون يطالبون بإعادة التشريع الإسلامي , كركن من أركان حياة مصر الإسلامية , حتى يحقق الله غايتهم , أو يموتوا دونها " ( الإسلام هو الحل ، الشيخ محمد عبد الله الخطيب ) أما كلمات الشهيد سيد قطب في المعالم فكانت أكثر حدة وجرأة ومفارقة وتطليقا حيث يقول الشهيد(1) : "هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل. لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية . كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ هذا جديدًا ، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية . وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام! وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة . . شعر في الحال بالإثم والخطيئة ، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني . كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماض المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية . حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر . وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعُرْفُها وتصورها وعاداتها وروابطها ، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود . وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد ، بقيادته الجديدة ، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته بل تبعيته .(1) وكان هذا مفرق الطريق ، وكان بدء السير في الطريق الجديد ، السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي ، ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه . ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة ، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى ولم يعد لضغط ا لتصور الجاهلي ، ولا لتقاليد المجتمع عليه من سبيل . نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم . كل ما حولنا جاهلية . . تصورات الناس وعقائدهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، موارد ثقافتهم ، فنونهم وآدابهم ، شرائعهم وقوانينهم . حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ، ومراجع إسلامية ، وفلسفة إسلامية ، وتفكيرا إسلاميًا . . هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !! لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا ، ولا يتضح في عقولنا ، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة . فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية - أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها(2)" أما محمد توفيق بركات فيكتب كلاما مطولا عن المفاصلة في منهج سيد قطب فيقول وأنا انقل فقرات مطولة تعبر بوضوح عن فكر الأستاذ سيد قطب في هذه القضية " وشرط مع كل تلك الشروط أن يتميز التجمع الإسلامي في تركيب خاص وولاء خاص وقيادة خاصة : ( إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة , وكذلك لم يخدع الرسل الكرام ـ صلوات الله وسلامه عليهم - أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة : ( وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ) فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص , إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم , ويندمجوا في تجمعهم , ويذوبوا في هذا التجمع , أو أن يطردوهم بعيدا وينفوهم من أرضهم ." ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في هذا الجمع الجاهلي ولا أن يذوبوا فيه , ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص . هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي .. ولم يقولوا ـ كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام .. ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات : حسنا فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم !! " إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي , لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه .. وليس في ذلك اختيار .. إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات . هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على عبودية الناس لله وحده , وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان . كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع الجاهلي , لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار !. ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي أن لا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال , وهى أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين والفصل بينهم وبين قومهم بالحق , لا يقع ولا يكون , إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم , وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم .. فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي , ذائبون في أوضاعه , عاملون في تشكيلاته .. وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين وهى تبعية ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب العودة إلى الله , وهم واعون مقدرون "(1) وأما ما لا يجب عليهم تحقيقه , مع وجوب السعي إليه كما مر معنا , فإنا نجمله في أمر واحد , وهو الوصول إلى هداية الناس جميعا , أو تحقيق النصر . ذلك أن الهداية والانتصار أمرهما إلى الله , فان شاء هدى , ومن شاء لم يهد , وان الدعوة إلى الله , وهم واعون مقدرون "والله يقول الحق وهو يهدى السبيل : قال العلامة الشهيد ـ رحمة الله عليه ـ : " لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة ، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء ، وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض ، ولا تنظر إلا إلى الآخرة ، ولا ترجو إلا رضوان الله ، قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت . بلا جزاء في هذه الأرض قريب ، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة ، وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ، بل لو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين ! حتى إذا وجدت هذه القلوب ، التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطى بلا مقابل - أي مقابل - وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للفصل بين الحق والباطل . حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيّتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه ، لا لنفسها ، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ..(1) " " وكل الآيات التي ذكر فيها النصر , وذكرت فيها المغانم , وذكر فيها أخذ المشركين في الأرض بأيدي المؤمنين , نزلت في المدينة بعد ذلك .. وبعد أن أصبحت هذه الأمور خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه (2) ومما لا يجوز للدعاة أن يقعوا فيه ـ في مسيرتهم نحو الهدى الكبير ـ هو التعاون والموالاة مع غير المؤمنين ، سواء كانوا مشركين , أو ملحدين , أو من أهل الكتاب . والذي يراجع ـ فقط ـ ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلاموالمسلمين ـ وقد سبقت منه في سورة البقرة وال عمرآن والنساء والمائدة ما سبق ـ يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم ! والذي يراجع التاريخ بعد ذلك ـ منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة , وقامت له دولة إلى اللحظة الحاضرة ـ يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين و إرادة محوه من الوجود (3) ! ولقد تعاون أهل الكتاب مع الوثنين للقضاء على الإسلام فان اليهود والنصارى ـ إضافة إلى الرافضة ـ هم الذين استقدموا التتار لغزو بغداد والقضاء على الإسلام , وقد قتل من المسلمين ثمانمئة ألف إنسان , على اضعف الأقوال ( ألف ألف أو ألفي ألف على قولين آخرين ) ولم ينج من أهل بغداد إلا اليهود والنصارى والرافضة وبعض التجار ممن التجأ إلى الرافضة وبذل مالا كثيرا , بل إن أهل الكتاب دلوا التتار على عورات المدينة , وشاركوا في المذبحة ..(1) أما في أيامنا فقد " استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية .. وهى في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته , وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة .. لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها ـ بالإضافة إلى ما استحدثته منها ـ جملة واحدة ! " ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة (2) إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد ! أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان , ويشنون عليهم حربا تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس , سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وأفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد ( المستقلة ! ) لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية ! تنكر" الغيبية " لأنها " علمية " و " تطور " أما الفقه الإسلامي , فتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره , كما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية !!(3) إن ما وقع من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان(4) لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد، إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند ـ ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فآثروا الهجرة على البقاء ـ قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط ! أما الملايين الخمسة فقد قضوا نحبهم في الطريق .. طلعت عليهم العصابات الهندية الوثنية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيدا , والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية , فذبحتهم كالخراف على طول الطريق , وتركت جثثهم نهبا للطير والوحش , بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة , لا تقل ـ إن لم تزد ـ على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد ! .. أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان , واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف .. ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية يسمى ( ممر خيبر) وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار! لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة القطار في النفق , ولم تسمح له بالمضي في طريقه إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء ! وصدق فيهم قول الله سبحانه:( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة )(1) وما تزال هذه المذابح تتكرر حتى الآن (2). " ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك ؟ .. لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليونا .. بمعدل مليون في السنة .. وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق .. ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان . وفى هذا العام وقع في القطاع الصيني من التركستان المسلمة ما يغطى على بشاعة التتار .. لقد جئ بأحد الزعماء المسلمين , فحفرت له حفرة في الطريق العام , وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية ( التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعا لتستخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام !! ) فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات ! " كذلك فعلت يوغوسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها , حتى أبادت منهم مليونا منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم ، وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي ـ التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين رجالا ونساء في " مفارم " اللحوم التي تصنع لحوم " البولوبيف " ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينا من اللحم والعظام والدماء ـ ماضية حتى الآن !! " وما يجرى في يوغوسلافيا يجرى في جميع الدول الشيوعية والوثنية .. الآن في هذا الزمان. - والذي جعل من قضية العزلة الشعورية والمفاصلة مشكلة هو التفسير المتعسف الذي اختاره بعض الناس لشرح هذا الموضوع فصارت له تطبيقات غير ما اختارته جماعة الإخوان المسلمين كفقه للحركة بهذه الدعوة . " ولقد تحمس هؤلاء الشباب للدين(1) , وانتهوا في حماسهم إلى القول بمقاطعة المجتمع الذي يعيشون فيه حتى لو صلى أفراده وصاموا وحجوا , وتتمثل المقاطعة في أمور يختلف مداها بين هؤلاء وأهم أنواع الانعزال عن المجتمع تنحصر في : 1. عدم الترشيح للانتخابات وعدم الاشتراك فيها بصوت أو نصح أو رأى . لأن المجالس النيابية تشرع من دون الله . والمساهمة في ذلك كفر بواح لأنه اتباع للكفر أو رضاء به 2. مقاطعة المساجد لأن الصلاة فيها خلف أئمتها تتضمن الشهادة لهم بالإيمان وهم كافرون 3. الهجرة إلى الصحراء أو الكهوف والجبال لأن ذلك هو السبيل الذي سلكه النبي لإقامة دولة الإسلام وكثير منهم هاجر إلى بلاد اليمن وحاول العيش فيها .. ولكنه فشل وعاد .. وبعضهم عاد من اليمن إلى إنجلترا !!(من النقيض إلى النقيض)...!! 4. التوقف عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأن المجتمعات كافرة وليس بعد الكفر ذنب , بل عدم المساهمة في أي إنتاج لأن ذلك يؤدى إلى تماسك المجتمع الجاهلي 5. مقاطعة المدارس والجامعات وإخراج ( أبناؤهم ) منها . 6. ترك الوظائف في الحكومة والشركات وممارسة أعمال التجارة والصناعة .
" إن مواطن الداء في هذه القضية هي الشبهات التي آثارها كل من الشهيد سيد قطب وأستاذنا المودودى أو غيرهم ممن يصفون المجتمعات بالجاهلية , فقد علمنا أن هذا الوصف قد يراد جاهلية الكفر والاعتقاد كما في قول الله ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون ) وقد يراد به جاهلية المعصية والعمل لأن المجتمعات أو الأفراد التي تعمل أو تسلك سلوك الجاهلية توصف بذلك , ولكنها ليست كافرة لأنها لم تعتقد الجاهلية كما في قول الله لنساء النبي ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبى ذر : ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) أي بعض عاداتها , فالكفر يتحقق بالاعتقاد ولو لم يصاحب العقيدة أي عمل , فمن اعتقد أن الزنا ليس حراما أو أنه أصلح لعلاج الشباب أو أن حكم الإسلام فيه جائر , أو أن الخمر ليست حراما , أو أنها تصلح المعدة أو أن حكم الإسلام فيها قد جانب الصواب , مثل هذا الشخص يعد كافرا ولو لم يرتكب هذا الفعل أو ذاك وهؤلاء هم الذين يعنيهم سيد قطب ( ج8ص463 ) . فعدم تصديق قول الله أو قول رسول الله أو إنكار وجود هذا القول أو السخرية به هو السبب الرئيسي في كفر من كان مسلما أي في ارتداده عن الإسلام يقول الإمام محمد بن جرير الطبري ( ج5 ) في معنى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) : أي لا يصدقون بي وبما انزل إليك حتى يحكموك فيما شجر بينهم فالتصديق والإيمان بالله ورسوله جميعا هو سبب الدخول في الإسلام وبالتالي إنكار الحكم وجحوده سبب الردة عن الإسلام , ولو لم يقترن هذا الجحود بأي عمل من أعمال الجاهلية والكفر "(1) .. ا.هـ هذه مقتطفات من قضية المفاصلة أو العزلة الشعورية، ذلك المصطلح الجديد الذي أطلقه الشهيد سيد قطب ، وهو بلا شك كان يعلم ما يقول ، لكن قوما بعده أساءوا تأويل المصطلح , واستعملوه في غير موضعه استعمالا أساء إلى الدعاة , وعطل المسيرة سنين طويلة , ولم يستبينوا الأمر إلى بعد ضحى الغد ( كما يقول الشاعر ) ولكن هذا الغد لم يجئ إلا بعد حوالي ثلاثين عاما جربها قليلو الخبرة في الحركة بالدعوة في وسط هذه الظروف العالمية المتشابكة والمعقدة والتي تحتاج إلى حكمة بالغة والى دراسة وإمعان وقبل هذا كله وبعد هذا كله تحتاج إلى توفيق الله وهدايته سبحانه وتعالى .
وهو لا يتحمل وزر من نسبوا إليه تعطيل كثير من الأحكام الشرعية بحجة المرحلية , واستنبطوها ـ فقط ـ من فكرة المرحلية , ونسجوا حولها أحاديث شتى , وفتاوى عدة .. فقسموا الأحكام إلى مكي أي ما نزل بمكة , ومدني وهو ما نزل بالمدينة , وزعموا أن وضع الناس اليوم يشبه الوضع في مكة من حيث جاهلية المجتمع كله في مواجهة إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه القلائل في مكة ... بل وغالوا في ذلك فزعموا عدم فرضية الحج مثلا وكذلك الزكاة ـ الآن ـ على المسلمين لأن فريضة الحج نزلت في أواخر عهد المدينة .. !!! وأنا أذكر ـ جيدا ـ أن كثيرين منهم غالوا في مسألة المرحلية فزعموا بطلان عقود الزواج كلها في العصر الحديث .. لأن عقد الزواج عقد فرعى يتفرع من العقد الأكبر وهو عقد الخلافة الإسلامية .. فمنذ ضياع الخلافة .. فلا صحة لعقد زواج ..!! هكذا ـ والله ـ قالوا والعياذ بالله .
" والسمة الثانية : في منهج هذا الدين : هي الواقعية الحركية . . فهو حركة ذات مراحل ، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية ، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها . . فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة . كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة . . والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ، ولا يراعون هذه السمة فيه ، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها . . الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً ، ويحملون النصوص ما لا تحمله من المبادئ والقواعد النهائية . ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً ، يمثل القواعد النهائية في هذا الدين ، ويقولون - وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - : إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع ! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً ، وتعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته ، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة . . بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة ، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة ، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها" أ.هـ .ثم يوأصل الشهيد ويعلن أن(1) 1. هذه الحركة الدائبة بهذا الدين 2. وهذه الوسائل المتجددة لا تخرج عن : • قواعده المحددة . • وأهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول سواء : 1- وهو يخاطب العشيرة الأقربين 2- أو يخاطب قريشا 3- أو يخاطب العالمين إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة , ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد هو إخلاص العبودية لله , والخروج من العبودية للعباد ... ثم يمضى إلى تحقيق هذا الهدف الواحد في : 1- خطة مرسومة 2- ذات مراحل محددة .. لكل مرحلة وسائلها المتجددة (1) ... وللأستاذ محمد توفيق بركات تفصيل جيد في هذا الموضوع في كتابه عن سيد قطب وحياته ومنهج في التغيير ( ص222 وما بعدها ) .. فيقول : " ولا نريد أن نطيل الوقوف , فإن الذي يقرأ موضوعات " المنهج الرباني في الحركة " بسماته وخطواته يتضح لديه وجه الشبه بين عصرنا والعصر المكي , وهو أمر لا علاقة له بالالتزام بالأحكام , لأن الالتزام يقوم على شروط " التكليف " المبينة في علم الفقه وأصول الفقه , ولأن توقف تنفيذ الأحكام مبنى على شروط خاصة في ذات الفعل بحيث تكون متعلقة به لا تتعداه بصرف النظر عن الزمان , مكيا أو مدنيا , ولنضرب أمثلة توضح ذلك : 1- فهناك أحكام شرعية لا تنفذ بصورة مادية , مع بقاء الالتزام الفردي في عنق المسلم , فشرب الخمر والزنا وقتل البرئ أمور محرمة لا يجوز للمسلم إتيانها , ولكن إن أتاها أحد من المسلمين لم يقم عليه الحد . لان إقامة الحدود من وظيفة الخليفة المسلم أو نائبه , أما إثم إتيان الفعل فهو قائم 2- إن وظيفة القضاء مرتبطة بشروط معينة في الشريعة , وهذه الشروط ليست متحققة في بلادنا الآن , ولذلك فان ما يصدر من فتاوى شرعية لا تحمل طابع الالتزام العملي , وإنما تحمل طابع الإلزام المعنوي , لأنها تخبر عن حكم الله في القضية المفتى فيها , ويجب على المسلم الالتزام بهذه الفتوى الشرعية ولكن لا يجب إجباره على التقيد . أما في حالة القضاء الشرعي فإن حكم القضاء واجب النفاذ معنويا وماديا . وهذه ـ كما ترى ـ أمور خارجة عن التقسيم إلى مكي ومدني , وإنما ترجع إلى وجوب تحقق شروط معينة في التنفيذ .. ويواصل محمد توفيق بركات قائلا في نفس الكتاب : ( ص224 ) " والمقصود بالمرحلية أن أحكام الجهاد في الشريعة جاءت متدرجة متطورة , وفق حالات معينة , تأخذ في اعتبارها واقع الجماعة الإسلامية في مكة أو المدينة , وتأخذ في اعتبارها طاقاتها واستعداداتها , ولذلك تنوعت هذه الأحكام , فمنها ما كان يأمر بالصبر والصفح , ومنها ما أذن بالقتال لمن قاتل المسلمين دون من لم يقاتل , ومنها ما أمر بقتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم أيضا , .. إلى أن توجهت الأحكام بوجوب أن يوضع الناس جميعا أمام أحد أمور ثلاثة : فإما أن يسلموا , وأما أن يدفعوا الجزية , وأما أن يقاتلوا .. فسيد قطب يقول إن هذه الأحكام لا تشتمل على ناسخ ومنسوخ , بل إنها أحكام محكمة ثابتة لا نسخ فيها , وإن الجماعة الإسلامية تأخذ من هذه الأحكام ما يناسبها في هذا الزمان , مع محاولة الوصول إلى الهدف النهائي لهذه الأحكام . هذا معنى المرحلية والقول بها , وبينها وبين النسخ فارق , فإذا قلنا بالنسخ لم يجز العمل إلا بالحكم الأخير الناسخ الذي وضع أمام الناس حلا من ثلاثة حلول , وإذا قلنا بالمرحلية جاز لنا العمل وفق أحكام وردت قبل الحكم النهائي حسب ظروفنا وإمكاناتنا .
• فريق يقول بالنسخ , ومنهم أكثر من ألفوا في " الناسخ والمنسوخ " من القرآن , فيجعلون آية السيف ـ حسب تعبيرهم ـ ناسخة لعشرات الآيات المتعلقة بالجهاد • وفريق يحاول التوفيق بين الآيات , دون اعتبار للتدرج التاريخي وللواقع الحركي المتطور , وهم إما من الكتاب المحدثين كالشيخ محمد أبى زهرة ومحمد شلتوت وغيرهما ممن ينزل المتأخر من الآيات على المتقدم فيقيد الجهاد بالاعتداء فقط , وإما من العلماء المتقدمين ممن نزل المتقدم على المتأخر بحيث يجعل آية السيف مفسرة لكل الآيات الأخرى , فلم يختلفوا في النتيجة مع القائلين بالنسخ أو القائلين بالمرحلية إدراكا منهم لما آل إليه حال المسلمين مع الكافرين أيام الرسول صلى الله عليه وسلم , وهم بذلك قريبون غير مبعدين . • وفريق يقول بالمرحلية , ومنهم الإمام الزركشى والإمام السيوطى والإمام المقرئ المعروف بمكي وعلى هذا الرأي سيد قطب، يقول الإمام السيوطى" الثالث ( أي من أنواع النسخ ): ما أمر به لسبب ثم يزول السبب , كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والصفح ثم نسخ بإيجاب القتال , وهذا في الحقيقة ليس نسخا , بل هو من قسم المنسأ, كما قال تعالى : ( أو ننسأها ) فالمنسأ هو الأمر بوقف القتال إلى أن يقوى المسلمون , وفى حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى , وبهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أن الآية في ذلك منسوخة بآية السيف , وليس كذلك , بل هي من المنسأ , بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعله تقتضي ذلك الحكم , بل ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر , وليس بنسخ , إنما النسخ الإزالة للحكم , حتى لا يجوز امتثاله . وقال مكي : ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مشعرا بالتوقيت والغاية مثل قوله في البقرة : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) محكم غير منسوخ , لأنه مؤجل بأجل لا نسخ فيه " والفرق ليس جوهريا ـ من الناحية العملية ـ بين القائلين بالنسخ والقائلين بالمرحلية , لان الطرفين متفقان على وجوب المصير في النهاية إلى الآيات المبينة للأحكام النهائية , ومتفقان على أن للضرورة أحكاما , والضعف أمام القوة ضرورة لا تنكر , قال سيد رحمه الله تعالى : " وحين يوجد المجتمع المسلم مرة أخرى ويتحرك فانه يكون في حل من تطبيق الأحكام المرحلية في حينها , ولكن عليه أن يعلم أنها أحكام مرحلية , وأن عليه أن يجاهد ليصل في النهاية إلى تطبيق الأحكام النهائية التي تحكم العلاقات النهائية بينه وبين سائر المجتمعات " ولكن الفرق جوهري بين هذين الفريقين والفريق الجديد الذي يحاول التوفيق بين مختلف الآيات بحيث ينزل النهائي منها على المتقدم , وينظر إليها جميعا كأنها نزلت دفعة واحدة , ملغيا بذلك حقيقة التدرج والواقع التاريخي معا , مما يؤدى إلى تشويه كبير لآيات الجهاد بحيث تصبح غير مفهومة إطلاقا , وتترك المجال للتأويلات الفاسدة الموصلة إلى فكرة " الجهاد الدفاعي " التي أطلقها بعض الباحثين في وجه هجوم المستشرقين 3- إن القول بمرحلية أحكام الجهاد يتناسب مع طبيعة المنهج الرباني في الحركة المتصفة بالواقعية العملية الجدية , فهذا المنهج يقيّم الواقع تقييما صحيحا , ويسعى إلى إلغائه بجد , ولكن في حدود الطاقة البشرية , دون أن يكلفها ما لا يطيق . " إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائما بوسائل مكافئة , وهو منهج متحرك مرن , ولكنه متين واضح , والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى إعنات النصوص وتأويلها تأويلات تأباها ! "(1) " ... وأخيرا فإن تلك الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة إنما جاءت وواقع المجتمع المسلم وواقع الجاهلية من حوله كذلك كلاهما يحتم اتخاذ تلك الإجراءات وتنفيذ تلك الأحكام .. فأما حين كان واقع المجتمع المسلم وواقع الجاهلية من حوله يقتضي أحكاما أخرى .. مرحلية .. فقد جاءت في السور السابقة نصوص وأحكام مرحلية "(2) " السمة الأولى ( للمنهج الحركي الإسلامي ) : هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين .. فهو حركة تواجه واقعا بشريا .. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي .. " والسمة الثانية في منهج هذا الدين .. هي الواقعية الحركية .. فهو حركة ذات مراحل , كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية, وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة , كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة " (3) " وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين . فالنصوص فيه نصوص حركية , مواكبة لحركة الدعوة وواقعها , وموجهة كذلك لحركة الدعوة وواقعها "(1) ولا بأس , بعد هذه المقارنة والتوضيح , من إيجاز واقع فكرة المرحلية التي دعا إليها سيد قطب : 1- إن المراجع لتاريخ السيرة النبوية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالقرآن الكريم والممثلة لتوجيهاته يلاحظ أن هنالك خطا بيانيا صاعدا في العلاقات بين المسلمين وغيرهم , وأن آيات الجهاد تمثل نقاط هذا الصعود , وأن هذا الصعود كان مرتبطا بالوضع النفسي والاجتماعي للمسلمين وعدوهم , ولذلك فإن آخر ما نزل في شأن جهاد عموم الكافرين ابتداء لا يعتبر ناسخا لما سبقه من آيات , بل هو يمثل مرحلة قدرة المسلمين على المواجهة , ومن هنا فإن الحكم يدور مع الإمكانيات الواقعية والظروف المحيطة , والتقيد بحكم مناسب لمرحلة ما لا يعتبر حكم ضرورة فقط , ولكن يعتبر رضوخا لأمر محدد . " إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة . ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد ــ عن طريق الاجتهاد المطلق ــ أي الأحكام هو أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف , في زمان من الأزمنة , في مكان من الأمكنة ! مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام , كما كان حالها عند نزول سورة التوبة "(1) " والذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها , ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي , ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه .. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة كان قد جاء موعدها , وتمهدت لها الأرض , وتهيأت لها الأحوال , وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم "(2). 2- ثم إن الفرق ليس كبيرا بين القائلين بالنسخ والقائلين بالمرحلية ـ كما ذكرنا وبينا ـ من حيث النتيجة العملية , ولكنه فارق هام من الناحية المعنوية ومن ناحية معالجة الأوضاع: فسيد قطب وغيره من العلماء السابقين حين يقولون بالمرحلية يصلون بين الحركة الإسلامية وبين القرآن الكريم مباشرة , فيشعر العاملون باختصاصهم بآيات معينة في الكتاب الكريم , كأنه يتنزل عليهم , أما القائلون بالنسخ فإنهم يقولون بالمرحلية كضرورة والترخص من الناحية المعنوية . وأن القول بالنسخ ربما أدى إلى استعجال الطريق ـ لأن كل حالة عند أصحابه قبل المرحلة النهائية رخصة ناتجة عن اضطرار ـ وذلك ما يمكن أن يوقع في انتكاسات لا يعرف مداها , أما القول بالمرحلية فانه يفتح البصر على التروي والأناة مع الإصرار على الصعود دون توقف . قال ـ رحمه الله ـ في معرض الرد على المهزومين أمام اتهامات المستشرقين ممن يجعل الجهاد في الإسلام دفاعيا : " إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعا معينا , وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة , وفى هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام . ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى , وان هذه هي نهاية خطوات هذا الدين .. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضى قدما في تحسين ظروفها , وفى إزالة العوائق من طريقها , حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السور الأخيرة , والتي كانت تواجه واقعا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية "(1)
" إن هنالك مسافة شاسعة بين فقه الحركة وفقه الأوراق ! إن فقه الأوراق يغفل الحركة ومقتضياتها من حسابه لأنه لا يزاولها ولا يتذوقها ! أما فقه الحركة فيرى هذا الدين وهو يواجه الجاهلية خطوة خطوة , ومرحلة مرحلة , وموقفا موقفا . ويراه وهو يشرع أحكامه في مواجهة الواقع المتحرك , بحيث تجئ مكافئة لهذا الواقع وحاكمة عليه , ومتجددة بتجدده كذلك !(2) .. هذا هو موقف سيد قطب من قضية مرحلية الأحكام .. " انتهى كلام محمد توفيق بركات وهذه هي قضية المرحلية في فكر سيد قطب , وهى ـ كما ترى ـ قاصرة على أحكام الجهاد , والانتقال المتتالي بالمسلمين من مراحل الضعف تدريجيا إلى مراحل القوة .. أما قضية النسخ فللعلماء أقوال كثيرة في موضوع " الناسخ والمنسوخ نفسه , ولهم فيها مذاهب شتى . فمنهم المكثر في القول بالنسخ , ومنهم المقل في القول بالنسخ وهى قضية مبسوطة في كتب علم الأصول .. أما اعتقاد سيد قطب بمرحلية بعض آيات الجهاد فلا يمكن وصفه بالخروج على كلام العلماء بالنسخ .. لكن من جاءوا بعده .. وقالوا نلتزم القرآن المكي دون المدني فنحن في المرحلة المكية وتلزمنا أحكامها فقط .. فهي طائفة مندثرة تتآكل يوما بعد يوم وهم ـ أي جماعة التكفير والهجرة ـ مخالفون لجميع المسلمين وأئمة الدين , ولقد قادهم هذا التفكير إلى قتل الشيخ الذهبي وزير الأوقاف رحمه الله رحمة واسعة .. ولقد كنت أشك في انهم قتلوا فضيلة الشيخ الذهبي حتى التقيت بمن بقى منهم في السجن عام ( 1995 ) وأكدوا أنهم فعلا قاتلوه .. وانهم تابوا إلى الله عز وجل .. هذا من بقى حيا منهم ولم ينفذ فيه حكم الإعدام .. مع شكري مصطفى زعيم جماعة التكفير والهجرة .
وقد يظن البعض أن كلام الإمام حسن البنا عن التدرج في الخطوات هو شبيه بالمرحلية التي تكلم عنها الشهيد سيد قطب .. فالأستاذ البنا حينما تكلم عن ( التدرج في الخطوات ) تناول موضوعا آخر مختلفا تمام الاختلاف عن كلام الشهيد سيد قطب .. فالإمام البنا يقول في رسالة ( المؤتمر الخامس ) ص 125 وما بعدها " وأما التدرج والاعتماد على التربية ووضوح الخطوات في طريق الإخوان المسلمين، فذلك أنهم اعتقدوا أن كل دعوة لابد لها من مراحل ثلاث: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب، ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين، ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج، وكثيراً ما تسير هذه المراحل الثلاث جنباً إلى جنب نظراً لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينها جميعاً، فالداعي يدعو، وهو في الوقت نفسه يتخير ويربي، وهو في الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك . ولكن لاشك في أن الغاية الأخيرة أو النتيجة الكاملة لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار، ومتانة التكوين. في حدود هذه المراحل سارت دعوتنا ولا تزال تسير، فقد بدأنا بالدعوة فوجهناها إلى الأمة: • في دروس متتالية • وفي رحلات متلاحقة • وفي مطبوعات كثيرة • وفى حفلات عامة وخاصة • وفي جريدة الإخوان المسلمين الأولى • ثم في مجلة النذير الأسبوعية ولا زلنا ندعو، وسنظل كذلك، حتى لا يكون هناك فرد واحد لم تصله دعوة الإخوان المسلمين على حقيقتها الناصعة، وعلى وجهها الصحيح، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وأظن أننا وصلنا في هذه المرحلة إلى درجة نطمئن عليها وعلى اطراد السير فيها، وصار من ألزم واجباتنا أن نخطو الخطوة الثانية، خطوة الاختيار والتكوين والتعبئة . خطونا الخطوة الثانية في صور ثلاث : 1.الكتائب ويراد بها : - تقوية الصف بالتعارف - تمازج النفوس والأرواح - مقاومة العادات والمألوفات - والمران على حسن الصلة بالله تبارك وتعالى واستمداد النصر منه ، وهذا هو معهد التربية الروحية للإخوان المسلمين. 2- الفرق للكشافة والجوالة والألعاب الرياضية ويراد بها : - تقوية الصف بتنمية جسوم الإخوان - وتعويدهم الطاعة والنظام والأخلاق الرياضية الفاضلة - وإعدادهم للجندية الصحيحة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم وهذا هو معهد التربية الجسمية للإخوان المسلمين. 3- درس التعاليم في الكتائب أو في أندية الإخوان المسلمين: ويراد بها تقوية الصف بتنمية أفكار الإخوان وعقولهم بدراسة جامعة لأهم ما يلزم الأخ المسلم معرفته لدينه ودنياه، وهذا هو معهد التربية العلمية والفكرية للإخوان المسلمين ذلك إلى مختلف نواحي النشاط الأخرى التي يدرب بها الإخوان على الواجب الذي ينتظرهم كجماعة تعد نفسها لقيادة أمة، بل لهداية العالمين. بعد أن نطمئن على موقفنا من هذه الخطوة نخطو إن شاء الله الخطوة الثالثة، وهي الخطوة العملية التي تظهر بعدها الثمار الكاملة لدعوة الإخوان المسلمين .
أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم : اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع : إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده . ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول ، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها . إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب ، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال ، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات . ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله ، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين : إما النصر والسيادة ، وإما الشهادة والسعادة . أيها الإخوان المسلمون : ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول ، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف ، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع ، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة . ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ، ولا تصادموا نواميس الكون فأنها غلابة ، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها علي بعض ، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد . أيها الإخوان المسلمون : إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه ، وذلك مكفول لكم ما دمتم مخلصين . ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد ، ونحن بعد ذلك إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين ، وإما مصيبون فلنا أجر الفائزين المصيبين . علي أن التجارب في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا في طريقكم ، ولا إنتاج إلا مع خطتكم ، ولا صواب إلا فيما تعملون ، فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم . واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم والفوز للعاملين (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143)
أيها الإخوان المسلمون : نحن هنا في مؤتمر أعتبره مؤتمراً عائلياً يضم أسرة الإخوان المسلمين ، وأريد أن أكون معكم صريحاً للغاية فلم تعد تنفعنا إلا المصارحة : إن ميدان القول غير ميدان الخيال ، وميدان العمل غير ميدان القول ، وميدان الجهاد غير ميدان العمل ، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ . يسهل علي كثير ين أن يتخيلوا ، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالا باللسان ، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل ، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل ، ولكن قليلا منهم يقدر علي حمل أعباء الجهاد الشاق العمل المضني . وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله ، وفي قصة طالوت بيان لما أقول ، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق امتحنوها بالعمل ، العمل القوي البغيض لديها الشاق عليها ، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها . وفي الوقت الذي يكون فيه منكم ـ معشر الإخوان المسلمين ـ ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسيا روحياً بالإيمان والعقيدة ، وفكرياً بالعلم والثقافة ، وجسمياً بالتدريب والرياضة ، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لحج البحار ، وأقتحم بكم عنان السماء . وأغزو بكم كل عنيد جبار ، فإني فاعل إن شاء الله ، وصدق رسول الله القائل: (ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة). إني أقدر لذلك وقتاً ليس طويلاً بعد توفيق الله واستمداد معونته وتقديم إذنه ومشيئته ، وقد تستطيعون أنتم معشر نواب الإخوان ومندوبيهم أن تقصروا هذا الآجل إذا بذلتم همتكم وضاعفتم جهودكم ، وقد تهملون فيخطئ هذا الحساب ، وتختلف النتائج المترتبة عليه ، فأشعروا أنفسكم العبء وألفوا الكتائب وكونوا الفرق ، وأقبلوا علي الدروس ، وسارعوا إلي التدريب وانشروا دعوتكم في البلاد التي لم تصل إليها بعد ، ولا تضيعوا دقيقة بغير عمل . وقد يظن من يسمع هذا أن الإخوان المسلمين قليل عددهم أو ضعيف مجهودهم ، ولست إلى هذا أقصد وليس هذا هو مفهوم كلامي ، فالإخوان المسلمون والحمد لله كثيرون ، وإن جماعة يمثلها في هذا الاجتماع آلاف من أعضائها كل منهم ينوب عن شعبة كاملة لأكثر من أن يستقل عددها أو ينسي مجهودها أو يغمط حقها ، ولكن أقصد إلى ما ذكرت أولا من أن رجل القول غير رجل العمل , و رجل العمل غير رجل الجهاد , و رجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم الذي يؤدي إلى أعظم الربح بأقل التضحيات . ( انتهى كلام الإمام حسن البنا)
ولقد كان لكلمات الشهيد سيد قطب أثر نفسي عظيم في قلوب أبناء تنظيم ( 65 ) .. فكانوا سعداء أن اختارهم الله لخوض امتحان السجن الحربي والتعذيب والتنكيل , وكانوا يشعرون بالقوة والعزة والسياط تنهش أجسادهم .. بل غمر الفرح كثيرا منهم أن دخلوا السجن الحربي كمرحلة من مراحل التأهيل والتدريب على المضي قدما في طريق نصرة هذا الدين , والدعوة إلى الله؛ وكانت ملامح المؤمنين الأوائل الذين كانوا يعذبون في بطحاء مكة أمثال ياسر , وسمية , وبلال بن رباح .. كانت ملامح هؤلاء العظماء الأول ماثلة في أذهان أبناء تنظيم ( 65 ) وأعطاهم هذا الفصل القيم " استعلاء الإيمان " سكينة وطمأنينة بل أحيانا وسعادة .. أن اختارهم الله لطريقه ودينه .. هذه السكينة بلغت حد الإبهار لكل من عذبونا في السجن الحربي أذكر الأخ ممدوح الديري كان عائدا من مكتب التحقيقات في السجن الحربي معذبا, لا يكاد يمشى على قدميه, فقال له الجلاد الشاويش" نجم": عاجبك حالك يا ممدوح .. مستقبلك ضاع , السجن المؤبد ينتظرك ما لم يكن إعدام .. ملابسك مقطعة وأنت ابن ناس ومن عائلة كبيرة في بني سويف .. ماشى حافي بدون حذاء .. فرد عليه ممدوح الديري متمثلا قول سحرة فرعون حينما هددهم فرعون كما تحكى آيات سورة الشعراء " قال آمنتم له قبل أن آذن لكم , انه لكبيركم الذي علمكم السحر . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف , ثم لأصلبنكم أجمعين . قالوا : لا ضير . إنا إلى ربنا منقلبون " قال السحرة في رد يغيظ فرعون " لا ضير " ! .. " لا ضير " ... " لا ضير " ولعلهم قالوها جميعا فالفعل ( قالوا ) يدل على الجمع ولعلهم هتفوا بها " لا ضير "... " لا ضير"..." لا ضير" . ولعل هتافهم كان عاليا ومدويا " لا ضير " إمعانا في غيظ فرعون .. ومن المؤشرات ـ والله اعلم ـ على هذا فرحهم بالإيمان حيث قالوا بعد ذلك مباشرة " إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا إن كنا أول المؤمنين " فكأنهم في مدرسة وفى امتحان وجاء ترتيبهم الأول في هذا الامتحان فهم سعداء .. بل فخورون بهذا التفوق ... أن كانوا الأوائل. قال الأخ ممدوح الديري للشاويش الجلاد نجم : لا ضير... لا ضير... لا ضير لكنه ترجمها إلى العامية المصرية , ولا تزال هذه الكلمات ترن في أذني رنينا جميلا جذابا .. قال ممدوح الديري : ( مايهمش ) .. ( مايهمش ) .. ( مايهمش ) ومضى كل لحال سبيله .. رحم الله ممدوح الديري رحمة واسعة فالشعور بـ" استعلاء الإيمان " جعل التعذيب والسياط تنزل بردا وسلاما على أبناء التنظيم .. قد يتألم الأخ أو يصرخ أثناء التعذيب , ولكن مع آخر كرباج تظهر البسمة على وجه الأخ .. وكأنه كان فرحا بالتعذيب لعل هذا هو معنى ( استعلاء الإيمان ) الذي عناه سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) .. ولقد أتى هذا المفهوم ثماره اليانعة .. سكينة وطمأنينة .. ورضا بقضاء الله .. بل وفرحا باختيار الله لنا جنودا في دعوته .. ولقد عشت ـ بفضل الله ـ وتحدثا بنعمة الله ـ هذه الحالة بعد التعذيب في المكاتب في السجن الحربي تحت إشراف شمس بدران .. وما إن انتهى التعذيب كانت رجلاي ويداي تنزفان دما .. وأعطوني قلما وورقا لكي اكتب اعترافاتي فلم استطع إمساك القلم بيدي .. فحاولت بيداي فلم أستطع ـ أيضاس ـ إمساك القلم فوضعت القلم في فمي وأسندته بيداي ( تحت العظمة السفلي لإبهامي اليمني واليسري ) وحاولت الكتابة .. ولكنى أعجبني هذا المنظر فظللت أضحك من كل قلبي من هذا المنظر رغم شدة الألم .. وجاء الجلاد الأول صفوت الروبى ووجدني اضحك وحولي التعذيب من كل جانب .. بل وأنا واحد من هؤلاء الذين يعذبون فامتلأ غيظا وصرخ في وجهي .. بتضحك على إيه يا فلان؟ فلم أستطع الرد عليه وسكت هذه هي السكينة التي هي نتيجة حتمية للشعور بـ" استعلاء الإيمان " .. وأننا الأعلون رغم التعذيب .. نسأل الله أن يجعلنا كذلك وأن يختم لنا بالإيمان .. اللهم آمين " ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين "(1) " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون "(2) " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا .... "(3) " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ... "(1) وآيات الشعور بالعزة بسبب الإيمان واتباع هذا الدين كثيرة . وكلها ـ بلغة العصر الحديث ـ ترفع الروح المعنوية لاتباع هذا الدين رفعا كبيرا وتجعلهم يتخطون العقبات , ويتجاوزن الصعاب , ويرتفعون فوق المحن التي لا بد منها لمن سلك هذا الطريق . ثم هي فوق ذلك تنشئ في النفس تصورا اعتقاديا عن سبب الشعور بالعزة .. وتجعل مصدر الشعور بالعزة شيئا واحدا هو • الانتساب إلى دين الله عز وجل. • فليست العزة في المال الوفير . • وليست العزة في الجاه والسلطان. • وليست العزة في الحسب والنسب. • كذلك ليست العزة في الانتساب إلى عرق معين كما قال هتلر. • وليست العزة في الانتماء إلى وطن معين . • وليست العزة والفخر بقومية معينة . وكل ما سبق مصدر فخر واعتزاز عند عامة الناس ولكن المسلمين يهتفون دائما " الله اكبر " .. اكبر من كل مصادر العزة الأرضية فهم بهذا النداء يعلنون أن ارفع عزة وأعلاها هي الاعتزاز بالله ..والاعتزاز بالانتماء لهذا الدين . وفي يقيني أن الشهيد سيد قطب لم يكن يعني بالعزة التكبر والاستعلاء على الناس .. فلقد مارس الشهيد ـ رحمه الله ـ الدعوة في السجن .. وكان جميع المسجونين الذين تعاملوا معه يحبونه حبا جما , ويألفونه إلفا جميلا . ويتفانون في خدمته طيلة فترة مكثه في مستشفي سجن ليمان طره حوالي عشر سنوات إلا أشهرا قليلة. وهذا خلق الداعية إلى الله عز وجل , فكل داعية لا يمكن أن يكون متكبرا . ولا متعاليا على عامة الناس , وإرشادات القرآن إلى هذا كثيرة منها : ...... "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " (سورة المائدة) " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " (سورة الحجر) " ولا تمشى في الأرض مرحا . انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا "(سورة الإسراء ) " ذلك بان منهم قسيسين ورهبا وانهم لا يستكبرون " ( سورة المائدة ) والذين نهجوا منهج التكفير كانوا يتعالون على الناس بفهم خاطئ لكلمات الشهيد سيد قطب , وظنوا الاستعلاء كبرا وعجرفة في حين أن الشهيد كان يقصد به شعورا داخليا بالعزة والكرامة , وليس استكبارا في الأرض ومكر السيئ . ... كان الشهيد يقصد الانتماء إلى هذه العقيدة هو انتماء عبودية لرب العالمين , الذي هو ـ سبحانه ـ أعلى وأجل وأكبر من كل من يُنتمي إليه في هذه الدنيا.ومن عجب أن آية القرآن التي تحدد الانتساب إلى العلي الأعلى انتساب العبودية لرب العالمين " عباد الرحمن " تجعل أول صفة لهم " الذين يمشون على الأرض هونا . وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " .. فهم رغم الشعور بالشرف العظيم وهو العبودية لله .. فهم في قمة التواضع وابرز صفاتهم بل وأول صفاتهم ( التواضع ) .. لأنهم رمز لهذا الدين ودعاة لهذا الدين .. وشهداء على الناس . والكبر يباعد بين الدعاة وبين الناس . وأورد المستشار سالم البهنساوي حوارا كله عزة نفس , واستعلاء الإيمان رغم قسوة المحنة عند آل البيت النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه " أضواء على معالم في الطريق "( 259 ـ 261 ) يقول المستشار : " أما الاستعلاء بالإيمان في مواجهة المسلم الفاسق الظالم تضرب فيه أروع المثل السيدة زينب بنت الإمام على , أي حفيدة النبي صلي الله عليه وسلم بعد مقتل أخيها الإمام الحسين , فقد روى الطبري أنها بدت " في نفر من الصبية والأرامل والثواكل , عاكفات على تلك الأشلاء يلتمسن فيها ذراع ولد حبيب أو زوج عزيز أو قدم أخ غال . وصاحت : " يا محمداه .. صلى عليك ملائكة السماء , هذا الحسين بالعراء مرمل بالدماء , مقطع الأعضاء , يا محمداه .. هذه بناتك سبايا وذريتك مقتلة " وواجهت ابن زياد الأمير الطاغية فاحتقرته وهي أسيرة مع السبايا , إذ لم تجب على سؤاله : من أنت ؟ووجهت السؤال إلى إحدى خدمها فقالت: هذه زينب بنت فاطمة . فقال الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم . فكان جواب الشريفة التي لم ينسها الأسر والظلم أنها هي الأعز والأكرم قالت " الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه صلي الله عليه واله , وطهرنا من الرجس تطهيرا لا كما تقول أنت , إنما يفضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا والحمد لله " قال الطاغية : كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت العزيزة مستعلية على الظالمين : " كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم , وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه , فتختصمون عنده " وفي موقف آخر نرى السيدة زينب وجها لوجه مع هذا الطاغية الذي سأل غلاما من الأسرى : ما اسمك؟ قال : على بن الحسين. قال : ألم يقتل الله على بن الحسين؟. قال : كان لي أخ يقال له أيضا : " على " فقتله الناس . قال : إن الله قد قتله . قال : الله يتوفى الأنفس حين موتها , وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله وهنا .. أمر الطاغية بقتل هذا الغلام الطاهر , فاحتضنته عمته السيدة الطاهرة " زينب " وأبت ألا أن تقتل معه , أو ينجو معها . وقالت للطاغية : يا ابن زياد حسبك منا ما رويت من دمائنا , وهل أبقيت منا أحدا؟ . فتعجب الطاغية من منطقها وموقفها وقال للشرطة : دعوا الغلام ينطلق مع نسائه.
ثم قالت : " وستعلم أنت ومن بوأك ومكـّنك من رقاب المؤمنين , أن كان الحكم ربنا والخصم جدنا وجوارحك شاهدة عليك أي منا شر مكانا واضعف جندا ". ولقد أمر الحاكم بترحيل الأسرى , وفيهم الطاهرة السيدة زينب إلى المدينة ولكنها انطلاقا من الحق الذي استمسكت به بدأت تروي للأمة ما شاهدت من المجازر وتفضح الحاكم القاتل , وهي بهذا تتمثل بقول الله تعالى : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) [ النساء : 148] , فكانت التقارير الحكومية أن وجودها بالمدينة ينذر بثورة أو انقلاب , فرأى القوم تشتيت الأسرى بتوزيعهم على البلدان , ولو أن جلهم نساء وليس معهن من الرجال سوى الأطفال , فرفضت الطاهرة تنفيذ هذا القرار وقالت : ( الله أعلم ما صار إلينا , قـُتل خيرنا , وسيق الباقون كما تساق الأنعام , وحملنا على الأقتاب , فوالله لا خرجنا وإن أريقت دماءنا " ولقد رأيت أن أنقل أقوالا مطولة مما كتبه الشهيد سيد قطب عن ( استعلاء الإيمان ) لأنه خير برهان على ما أقول فالاستعلاء شعور إيماني بقيمة الإيمان بهذا الدين , ولم يرد الشهيد أبدا الاستكبار والتكبر في الأرض على الناس " { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [ آل عمران : 139] .. يقول الشهيد سيد قطب في كتاب المعالم : ( يجيء هذا التوجيه . ليواجه الوهن كما يواجه الحزن . هما الشعوران المباشران اللذان يساوران النفس في هذا المقام . . يواجههما بالاستعلاء لا بمجرد الصبر والثبات ، والاستعلاء الذي ينظر من عل إلى القوة الطاغية ، والقيم السائدة ، والتصورات الشائعة ، والاعتبارات والأوضاع والتقاليد والعادات ، والجماهير المتجمعة على الضلال ). إن المؤمن هو الأعلى . . الأعلى سندا ومصدرا . . فما تكون الأرض كلها ؟ وما يكون الناس ؟ وما تكون القيم السائدة في الأرض ؟ والاعتبارات الشائعة عند الناس ؟ وهو من الله يتلقى ، وإلى الله يرجع ، وعلى منهجه يسير ؟ وهو الأعلى إدراكا وتصورا لحقيقة الوجود . . فالإيمان بالله الواحد في هذه الصورة التي جاء بها الإسلام هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى . وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب ، سواء ما جاءت به الفلسفات الكبرى قديما ، وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة ، وما اعتسفته المذاهب المادية الكالحة . . حين تقاس هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة ، إلى ذلك الركام وهذه التعسفات ، تتجلى عظمة العقيدة الإسلامية كما لم تتجل قط . وما من شك أن الذين يعرفون هذه المعرفة هم الأعلون على كل من هناك. وهو الأعلى تصورا للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والأحداث والأشياء والأشخاص " ........ ثم يقول الشهيد :" وهو الأعلى ضميرا وشعورا ، وخلقا وسلوكا . . فإن عقيدته في الله ذي الأسماء الحسنى والصفات المثلى ، هي بذاتها موحية بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى ، والعمل الصالح والخلافة الراشدة . فضلا على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة . الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها جميعا , ويطمئن إليه ضمير المؤمن . ولو خرج من الدنيا بغير نصيب . وهو الأعلى شريعة ونظاما . وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديما وحديثا ، ويقيسه إلى شريعته ونظامه ، فسيراه كله أشبه شيء بمحاولات الأطفال وخبط العميان ".
" عن أبي عثمان النهدي قال : لما جاء المغيرة إلى القنطرة ، فعبرها إلى أهل فارس أجلسوه ، واستأذنوا رستم في إجازته ، ولم يغيروا من شارتهم تقوية لتهاونهم ، فأقبل المغيرة ابن شعبة والقوم في زيهم ، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب ، وبسطهم على غلوة - والغلوة مسافة رمية سهم وتقدر بثلاثمائة أو أربعمائة خطوة - لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي على غلوة ، وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى يجلس على سريره ووسادته ، فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه ، فقال : كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ولا أرى قوما أسفه منكم ، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا ، إلا أن يكون محاربا لصاحبه ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى . وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض ، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ، فلا تصنعه ، ولم آتكم ولكن دعوتموني . اليوم علمت أن أمركم مضمحل ، وأنكم مغلوبون ، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول " . كذلك وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية : ( أرسل سعد بن أبي وقاص قبل القادسية ربعي بن عامر رسولا إلى رستم ، قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة العظيمة ، وعليه تاجه ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب ، ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة . ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد . وأقبل وعليه سلاحه وبيضته على رأسه . فقالوا له : ضع سلاحك . فقال : إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق لخرق عامتها . فقال رستم : ما جاء بكم ؟ فقال : إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ) ويواصل الشهيد فيقول : وتسود المجتمع عقائد وتصورات وقيم وأوضاع كلها مغاير لعقيدته وتصوره وقيمه وموازينه ، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى ، وبأن هؤلاء كلهم في الموقف الدون . وينظر إليهم من عل في كرامة واعتزاز، وفي رحمة كذلك وعطف ، ورغبة في هدايتهم إلى الخير الذي معه ، ورفعهم إلى الأفق الذي يعيش فيه . ويضج الباطل ويصخب ، ويرفع صوته وينفش ريشه ، وتحيط به الهالات المصطنعة التي تغشي على الأبصار والبصائر ، فلا ترى ما وراء الهالات من قبح شائه دميم ، وفجر كالح لئيم . . وينظر المؤمن من عل إلى الباطل المنتفش ، وإلى الجموع المخدوعة ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا ينقص إصراره على الحق الذي معه ، وثباته على المنهج الذي يتبعه ، ولا تضعف رغبته كذلك في هداية الضالين والمخدوعين . ويغرق المجتمع في شهواته الهابطة ، ويمضي مع نزواته الخليعة ويلصق بالوحل والطين ، حاسبا أنه يستمتع وينطلق من الأغلال والقيود . وتعز في مثل هذا المجتمع كل متعة بريئة وكل طيبة حلال ، ولا يبقى إلا المشروع الآسن ، وإلا الوحل والطين . . وينظر المؤمن من عل إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين . . وهو مفرد وحيد ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا تراوده نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر ، وينغمس في الحمأة ، وهو الأعلى بمتعة الإيمان ولذة اليقين . ويقف المؤمن قابضا على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع الشارد عن الدين ، وعن الفضيلة ، وعن القيم العليا ، وعن الاهتمامات النبيلة ، وعن كل ما هو طاهر نظيف جميل . . ويقف الآخرون هازئين بوقفته ، ساخرين من تصوراته ، ضاحكين من قيمه . . فما يهن المؤمن وهو ينظر من عل إلى الساخرين والهازئين والضاحكين ، وهو يقول كما قال واحد من الرهط الكرام الذين سبقوه في موكب الإيمان العريق الوضئ ، في الطريق اللاحب الطويل . . نوح عليه السلام . . { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } …[ هود : 38]
{ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . . وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . . وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ! } … [ المطففين : 29-36 ] وقديما قص القرآن الكريم قول الكافرين للمؤمنين : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ؟} .. [ مريم : 73] أي الفريقين ؟ الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم الفقراء الذين يلتفون حوله ؟ أي الفريقين ؟ النضر بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وأبو سفيان بن حرب ؟ أم بلال وعمار وصهيب وخباب ؟ أفلوا كان ما يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر ، الذين لا سلطان لهم في قريش ولا خطر ، وهم يجتمعون في بيت متواضع كدار الأرقم ، ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب الندوة الفخمة الضخمة ، والمجد والجاه والسلطان ؟! إنه منطق الأرض ، منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء عاطلة من عوامل الإغراء ، لا قربى من حاكم ، ولا اعتزاز بسلطان ، ولا هتاف بلذة ، ولا دغدغة لغريزة ، وإنما هو الجهد والمشقة والجهاد والاستشهاد . . ليقبل عليها من يقبل ، وهو على يقين من نفسه أنه يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس ، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ولينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع ، ومن يشتهي الزينة والأبهة ، ومن يطلب المال والمتاع ، ومن يقيم لاعتبارات الناس وزنا حين تخف في ميزان الله . إن المؤمن لا يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من الناس حتى يأسى على تقدير الناس ، إنما يستمدها من رب الناس وهو حسبه وكافيه ... إنه لا يستمدها من شهوات الخلق حتى يتأرجح مع شهوات الخلق ، وإنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي لا يتأرجح ولا يميل . . إنه لا يتلقاها من هذا العالم الفاني المحدود ، وإنما تنبثق في ضميره من ينابيع الوجود . . فأنى يجد في نفسه وهنا أو يجد في قلبه حزنا . وهو موصول برب الناس وميزان الحق وينابيع الوجود ؟ إنه على الحق . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وليكن للضلال سلطانه ، وليكن له هيله وهيلمانه ، ولتكن معه جموعه وجماهيره . . إن هذا لا يغير من الحق شيئا ، إنه على الحق وليس بعد الحق إلا الضلال ، ولن يختار مؤمن الضلال على الحق - وهو مؤمن - ولم يعدل بالحق الضلال كائنة ما كانت الملابسات والأحوال . . { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب * ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد } ،س [ آل عمران : 8-9]
|
الباب الرابع : محنة ( 1965)
الفصل الأول :أحداث ما قبل القبض على التنظيم
أولا : قضية حسين توفيق
ثانيا : قضية زغلول عبد الرحمن
ثالثا: قضية مصطفى أمين
رابعا : شمس بدران
خامسا : قرية سنفا
سادسا : جنازة مصطفى النحاس
سابعا : قرية كرداسة
الفصل الثاني : اكتشاف التنظيم
أولا : من قرية سنفا
ثانيا: حبيب عثمان
ثالثا: اعترافات علي عشماوي
رابعا:أسلحة علي عشماوي
خامسا: ورقة محمود فخري
الفصل الأول : أحداث ما قبل القبض على التنظيم
أولا : قضية حسين توفيقكان حسين توفيق مناضلا وطنيا ـ كما يقولون ـ من غير هوية معروفة فلم يكن شيوعيا ولا من الإخوان ولا حتى متدينا .. كذلك لم يكن وفديا لكنه كان يحمل قلبا جسورا جريئا يحكي الأستاذ صلاح شادي ( في كتابه حصاد العمر ) قصة حسين توفيق قائلا (1) 1. اتهمت الحكومة الضابط أنور السادات باتصاله بالألمان وأوقف من خدمة الجيش منذ سنة 1942م وظل معتقلا من ديسمبر ( 1942 ) حتى أكتوبر ( 1944 ) حيث استطاع الهروب من معتقل الزيتون إلى أن سقطت الأحكام العرفية عام 1945 فأفرج عن جميع المعتقلين وخرج أنور السادات إلى الحياة العامة وكون جمعية سرية من المدنيين وفيها الشاب حسين توفيق الذي كان يمارس هواية قتل الجنود الإنجليز المستعمرين في ذلك الوقت . 2. استطاع أنور السادات أن يقنع حسين توفيق أن قتل حفنة من الجنود الإنجليز ليس هو الطريق الى تحرير مصر ..!! ولكن الطريق إلى تحرير مصر هو التخلص من الذين يساندون الإنجليز في ذلك الوقت . وبالفعل أقنع أنور السادات حسين توفيق باغتيال مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد بعد أن فرضه الإنجليز بقوة السلاح في 4 فبراير سنة 1942 رئيسا للوزارة الوفدية التي تولت الحكم على آسنة رماح الإنجليز , وفي أوائل سبتمبر ( 1945 ) ألقى حسين توفيق قنبلة عل سيارة النحاس باشا ولكنها لم تصبه بأذى وانطلقت السيارة بعيدا عن مكان الانفجار , وانسحب السادات من ميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة إلى مقهى ( استرا ) بميدان التحرير وهرب حسين توفيق . 3. كرر أنور السادات المحاولة ثانية فأقنع حسين توفيق باغتيال أمين عثمان أحد كبار أنصار الاستعمار الإنجليزي في مصر وكان أمين عثمان رئيسا لجمعية الصداقة الإنجليزية المصرية في ذلك الوقت كما كان وزيرا للمالية وفي 10 يناير 1946م اعترف حسين توفيق على باقي زملائه في الجمعية وقبض على أنور السادات في 12 يناير بتهمة تدبير الحادث . واستمرت المحاكمة ستة أشهر وكانت محاكمة مدنية جنائية ولم تكن عسكرية أو أمن دولة , فاستطاع المحامون التشكيك في بعض أركان القضية .. وهرب حسين توفيق من السجن وذهب إلى الإخوان المسلمين لإخفائه بعيدا عن عيون الإنجليز وكلف حسن البنا الأخ صلاح شادي بمهمة إخفاء حسين توفيق ــ كمجاهد وطني ــ عن عيون الإنجليز , ورأى صلاح شادي أن حسين توفيق لا يصلى فأعطاه مصحفا في مخبئه ودعاه للصلاة فصلى بعد وقت قصير ... ثم عاد فترك الصلاة بعد ذلك . لأنه كان يعتقد أن الإسلام يقـّيد ( الوطنية ) . وأن الدين ضد الوطنية كما كان يزعم حسين توفيق آنذاك . 4. هرب حسين توفيق من مخبئه هذا إلى سوريا وقام بمحاولة اغتيال رئيس سوريا حين ذاك وهو حسني الزعيم وفشلت محاولته لاغتيال حسني الزعيم , وقبض عليه وأودع في سجن المزة بدمشق وحكم عليه بالإعدام .. وقبل تنفيذ الحكم بأيام جاء انقلاب أديب الشيشكلي وأطاح بحسني الزعيم وخرج حسين توفيق من سجن المزة (1)إلى الشارع بعفو جمهوري وتزوج هو و شقيقه سعيد توفيق من سوريا . وعاشا هناك حتى 1952 5. قامت ثورة يوليو ( 1952م ) في مصر واستدعاه أنور السادات إلى مصر وعينه في وظيفة محترمة في شركات البترول هو وزملاءه ( سعيد توفيق , أحمد الحناوي ) 6. لم يقنع حسين توفيق بذلك ورسم في ذهنه خريطة لجمهورية وادي النيل تشمل مصر والسودان , وخطط لمحاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر , وتقول الشائعات .. كما يقول الخبثاء آنذاك أن حسين توفيق أقنع السادات بأنه سيكون رئيسا لجمهورية وادي النيل الجديدة .. ولكن السادات أخبر عبد الناصر بالموضوع فتم القبض على حسين توفيق وزملائه وحوكموا في عام 1965م وحكمت المحكمة العسكرية عليهم في القضية رقم ( 11 أمن دولة عليا ) بالأشغال الشاقة المؤبدة على معظمهم واستمر حسين توفيق مسجونا مع الإخوان تسع سنوات حتى أفرج عنه أنور السادات ولكن ما علاقة ذلك بالإخوان ..؟!! اتصل حسين توفيق بمن يعرفه من الإخوان وهما الضابط السابق مصطفى راغب(1) والمهندس سامي عبد القادر , وطلب منهما إمداده بالقنابل اللازمة حيث كان حسين توفيق يعتقد أن الإخوان ـ دائما ـ عندهم قنابل وأسلحة .. فذهبوا إلى الأخ يوسف القرش في قرية " سنفا " مركز " ميت غمر " محافظة " المنصورة " .. هكذا قال الأخ سامي عبد القادر أحد أعضاء تنظيم حسين توفيق فاعترف سامي عبد القادر على أنه على علاقة بالأخ يوسف القرش في " سنفا " وأن عند يوسف القرش قنبلتين ( يدويتين ) .. وذهبوا إلى منزل يوسف القرش .. وهو من إخوان قرية سنفا ولم يجدوه .. وكان هذا هو أول خيط للقبض على تنظيم الإخوان في عام ( 1965 ) . هذه هي العلاقة القوية بين قضية الإخوان المسلمين ( 1965 ) وبين قضية حسين توفيق التي ضمت خليطا من الوطنيين أمثال جمال الشرقاوي والصحفيين أمثال الأستاذ عبد العزيز خميس ( رئيس مجلس إدارة دار روزاليوسف في عهد السادات ) ولقد كافأهم جميعا الرئيس أنور السادات بالإفراج عنهم وتعيينهم في مناصب كبيرة في الصحافة والدولة بعد عام ( 1971 )
ثانيا : قضية زغلول عبد الرحمنكان زغلول عبد الرحمن ضابطا في المخابرات المصرية , وعمل ملحقا عسكريا لمصر في بيروت , وكان أحد اكبر رجال المخابرات المسؤولين عن منطقة سوريا ولبنان وفلسطين .. وفي اليوم التالي لانفصال سوريا عن مصر , وانتهاء الوحدة المصرية السورية ( 17 / 8 / 61 ) .. فوجئ الجميع بهروب زغلول عبد الرحمن من لبنان ولجأ إلى سوريا بعد الانفصال , وفي اليوم التالي عقد مؤتمرا صحفيا هاجم فيه جمال عبد الناصر وزميله وعبد الحكيم عامر وسياستهما في سوريا ... وكان ذلك صدمة لعبد الناصر لأن زغلول عبد الرحمن كان من الصف الأول المقربين من رجال الثورة .. فكأنها كانت طعنة من الخلف لعبد الناصر ونظامه ويقول رجال عبد الناصر إن زغلول عبد الرحمن كان مدمنا للقمار , وخسر مبالغ كبيرة في القمار سددها المشير عبد الحكيم عامر من خزينة الدولة نيابة عنه , ودعما له .. ولكنه غدر بهم , ولجأ إلى سوريا , وكرّس الانفصال السوري عن مصر (1) ... ثم غادر زغلول عبد الرحمن سوريا إلى ألمانيا حيث أقام هناك ... ولكن الحكومة المصرية لم تقبل الصفعة , وخططت تخطيطا محكما لخطف زغلول عبد الرحمن من ألمانيا , ووضعوه في صندوق خشبي كطرد دبلوماسي للسفارة المصرية وأحضروه من ألمانيا في طائرة إلى السجن الحربي .. وهناك ذاق ألوان العذاب وحوكم محاكمة عسكرية ولبث طويلا في السجن الحربي حتى وفاة عبد الناصر. وأثناء تعذيب زغلول عبد الرحمن قدم تقريرا مبالغا فيه عن نشاط جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا , وأفاد أن لها كيانا كبيرا يتعاظم يوما بعد يوم ويجب أن يعمل لجماعة الإخوان المسلمين ألف حساب وحساب(1) وكان هذا التقرير دعما كبيرا لشمس بدران ورجاله .. فهو تقرير من رجل مخابرات مخضرم ينبغي أن ينظر إليه بعين الاعتبار.وإذا ذكرنا ألمانيا وزغلول عبد الرحمن .. فإننا لا ننسى هذه القضية الطريفة التي لا بد من ذكرها وهي " بعد نكسة 1967م تم القبض على شمس بدران وكل عصابة السجن الحربي تحت مسمى مؤامرة لقلب نظام الحكم ليشربوا من ذات الكأس المر الذي طالما تجرعه الإخوان على أيديهم .. وقبض على حمزة البسيوني .. ولبث في السجن الحربي أياما .. ثم تم ترحيله إلى معتقل سجن القلعة ليكون تحت إشراف مباحث أمن الدولة ( المباحث العامة آنذاك ) .. وبعد التحقيق معه .. سمحوا له بالفسحة في فناء السجن .. فخرج يتمشى في فناء السجن .. وظن أن كل معتقل هناك لابد أن يكون من الإخوان .. فبحث في السجن عن مسيحي يقضي معه وقتا آمنا في طابور الفسحة بالنهار .. فوجد المهندس سمير اسكندر .. مهندس شاب ومسيحي وبالطبع ليس من الإخوان المسلمين .. واطمأن إليه كثيرا .. ثم بعد قليل سأله : ما هي التهمة الموجهة إليك والتي حكم عليك فيها بخمس سنوات أشغال شاقة ؟ قال سمير اسكندر : تهمة الإخوان المسلمين !! وهنا سقط قلب حمزة البسيوني في يده .. فقال حتى المسيحيين دخلهم الإخوان المسلمون !! وارتعدت فرائصه , وامتلأ قلبه رعبا ...أما المهندس سمير اسكندر .. فلقد كان مقيما بألمانيا , ثم حضر في إجازة إلى مصر بعد أن قابل في ألمانيا الأخ المهندس سيد سالم .. الذي هرب من مصر بعد أحداث 1954م وعاش هناك , وبدأ في إرسال النقود للمعتقلين في مصر .. ولم يجد طريقا مأمونا لتوصيل المال إلا عن طريق زميله وصديقه المهندس المسيحي سمير اسكندر الذي كان يتميز بقدر من الشهامة , ولا يعرف شيئا عن الظروف الأمنية للإخوان .. فهو في واد .. والسياسة في واد آخر وتوصيل الأموال من ألمانيا إلى الأقارب أو الأصدقاء في مصر ليس مشكلة في نظره .. وحكم عليه بالسجن خمس سنوات .. مضي منها أربع سنوات حتى تدخل البابا شنودة شخصيا ـ لدى أنور السادات ـ فأفرج عنه في عام 1972م
ثالثا : قضية مصطفى أمينمصطفى أمين وتوأمه على أمين تربيا ونشئا في بيت زعيم الأمة سعد زغلول , وترعرعا هناك , وسافر مصطفى إلى أمريكا في الأربعينات من القرن الماضي ثم عاد فأسس مع أخيه على أمين جريدة " أخبار اليوم " الأسبوعية قي عام (1944) ثم في عام 1950م اصدرا جريدة " الأخبار "اللتان استمرتا إلى يومنا هذا .. وكان مصطفى أمين على علاقة قوية جدا بالسفارة الأمريكية!! (1) وكلا من مصطفى أمين وعلى أمين من أصحاب الاتجاه العلماني في مصر , ولقد أثنى مصطفى أمين على أندية الروتارى , ولكنى لم أجد اسمه بين أسماء الأعضاء العاملين في الأوراق التي تحت يدي الآن .ولقد كانت ولا تزال " دار أخبار اليوم " مدرسة صحفية كبيرة بجوار مدرسة " الأهرام " ,و" دار الهلال " , و" روزاليوسف " وكانت مدرسة " دار أخبار اليوم " تعتمد على الخبطات الصحفية وعلى الإثارة الصحفية .. وليس لكل من على أمين ومصطفى أمين أي ميول دينية على الإطلاق .. وارتباطهم بمدرسة سعد زغلول الوطنية معروف وملحوظ وهي مدرسة تبتعد عن الدين والتدين شيئا فشيئا مما جعله قريبا من رجال الثورة بل عاش الصحفيان اللامعان مصطفى أمين وعلى أمين فترة التمهيد للثورة معايشة فعالة ومؤثرة . وسافر مصطفى أمين مندوبا عن رجال الثورة بعد حرب 1956م ( العدوان الثلاثي ) سفيرا فوق العادة وشارحا للقضية المصرية ولأبعاد العدوان الثلاثي على مصر .. وكان بينه وبين جمال عبد الناصر تعاون وثيق .. لكن عبد الناصر اختار صحفيا من تلاميذ مصطفى أمين لكي يكون مفكرا لعبد الناصر وأمينا لأسراره وهو محمد حسنين هيكل(1) وكاتبا لخطبه .. بل ولكتابيه " فلسفة الثورة " , " و " الميثاق " . ورغم أن عبد الناصر أمّم " دار أخبار اليوم " ضمن الشركات التي أممها .. لكن كان قرار الحكومة أن يستمر مصطفى أمين وعلى أمين في رئاسة تحرير " دار أخبار اليوم " .. حتى فوجئنا بالقبض على مصطفى أمين بتهمة الجاسوسية ولقد كان مدير المخابرات صلاح نصر قد سجل المكالمات التي كانت تدور بين مصطفى أمين وضابط المخابرات الأمريكي " بروس تايلور " الذي كان يعمل في السفارة الأمريكية في ذلك الحين . وعلى الرغم من أن مصطفى أمين قد مهّد كثيرا بعد ثورة يوليو لنمو العلاقات بين عبد الناصر والسفارة الأمريكية حيث كان مصطفى أمين يتمتع بثقة الأمريكيين!! .. وهناك أسرار شخصية كثيرة حول هذه العلاقة والمقابلات التي كان مصطفى أمين فاعلا مؤثرا فيها .. فلم يشفع له ماضيه .. واتهموه بالتخابر مع أمريكا وحكموا عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة وهرب أخوه على أمين إلى لندن وعاش فيها .. ولبث مصطفى أمين في السجن معنا ثمان سنوات . منها سنتين في السجن الحربي ثم انتقل إلى ليمان طره حيث عاش في عنبر رقم (1) بالدور الثالث مع السياسيين هناك . ويردد الخبثاء في ذلك الحين أن محمد حسنين هيكل كان وراء هذه القضية لكن ليست هناك أدلة على ذلك . ولكنها مجرد شائعات . والذي يهمنا في هذه القضية هو أن مصطفى أمين قال لضابط المخابرات الأمريكي " بروس تايلور " : إن الإخوان المسلمين يتطلعون للتعاون مع كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة الذي استقال من جميع مناصبه نظرا لميوله الإخوانية ... كما يقولون!! فاعتبرت الحكومة أن هناك تحركا من الإخوان مع كمال الدين حسين(1) ضد عبد الناصر .. والحقيقة التي لا مراء فيها أن شيئا من هذا لم يحدث على الإطلاق .. وكانت هذه القضية مؤشرا على عودة نشاط الإخوان المسلمين .. مما جعل الحكومة تفكر في ضربة وقائية ضد الإخوان المسلمين فقامت بعمل تمشيط لأفراد الجماعة في أنحاء مصر ورصد ثقافي لكتابات الإخوان وخصوصا سيد قطب وتجهيز سجن أبو زعبل بعنبر جديد لاعتقال حوالي ستة آلاف فرد من الإخوان .. وبالفعل بدأ القبض والتعذيب لقدامى الإخوان في سجن أبو زعبل قبل اكتشاف التنظيم واستشهد في هذا التعذيب الاخوة الشهداء الثلاثة زكريا المشتولي , و بدر القصبي, و أحمد شعلان من شدة التعذيب .
رابعا : شمس بدرانلا شك أن شمس بدران لمع في سماء مصر فجأة , ثم اختفى سريعا . فهو ضابط جيش من الصف الثاني من رجال الثورة , توطدت صلته بعبد الناصر , ووثق فيه .. لأمر ما .. هو سر ما يزال خافيا حتى كتابة هذه السطور .. شأنه في ذلك مثل طابور صغار الجلادين الذين صعدوا على جماجم شهداء الإخوان المسلمين بدءا من حمزة البسيوني .. الذي استمر لمعانه من ( 54 ـ 67 ) 13 عاما ومرورا بصلاح دسوقي .. وصلاح حتاته وعبد العال سلومة , الضابط عبد الله إمام الذين صعد نجمهم على جماجم شهداء مذبحة طره ثم شمس بدران الذي صعد نجمه على جماجم الشهداء سيد قطب .. عبد الفتاح إسماعيل .. محمد يوسف هواش ومحمد عواد .. ومحمد منيب .. وإسماعيل الفيومي .. والأخ محمد عبد الله الموافي ( كفر شكر ) .. ورفعت بكر ( ابن أخت الشهيد سيد قطب ) وشارك شمس بدران في الصعود الدنيوي على جماجم شهداء الإخوان .. كل من الضباط حسن كفافي .. ورياض إبراهيم بصفة خاصة وغيرهم من الضباط الذين تلوثت أيديهم في المذبحة ثم الصول صفوت الروبي . أما شمس بدران فبدأ نجمه في الظهور بعد أن عينه عبد الناصر في مكتب المشير عبد الحكيم عامر .. ويحكي عنه زملائه .. أنه كان متفانيا في عمله وليست له تصرفات مالية مشينة .. أما زملاؤه في المكتب .. عبد المنعم أبو زيد ومن معه من الضباط الذين تم اتهامهم في قضايا مالية .. و إيداعهم معنا في السجن الحربي ( في السجن الكبير في المخزن رقم 6 , 7 ) وبهذا خلا الجو تماما لشمس بدران وصار مديرا لمكتب المشير عبد الحكيم عامر .. لا يمر يوم أو يومان على الأكثر إلا ويلتقي بعبد الناصر ويقدم له تقريرا جادا عن أحوال كل شيء في مكتب المشير .. ثم في الجيش .. ثم في الأمن الداخلي .. بل مصر كلها .. فقد كان عينا لعبد الناصر على المشير واستطاع أن يستقطب معه العميد / سعد زغلول عبد الكريم مدير الشرطة العسكرية وكذلك المباحث الجنائية العسكرية التي كانت تحت إمرته ليل نهار. ومن قضية زميله عبد المنعم أبو زيد .. عرف شمس بدران طريق السجن الحربي .. والتحقيقات .. وطرق التعذيب وأساليبها . وهناك في السجن عرف أن سلم الصعود إلى القمة سريعا في مصر يأتي بسهولة شديدة على جماجم الإخوان .. والخوض في بحور دمائهم .. التي هي للأسف سهلة عندهم .. بل ورخيصة في نظرهم القاصر .. في الدنيا الفانية .. وعلم أن سلم الوزارة السريع يأتي بقضية كبيرة للإخوان المسلمين وبدأ البحث والتقاط الخيوط فكانت الخيوط سريعة في حظه السريع في الدنيا , والعاثر في الآخرة .. ( وما كان ربك نسيا ) قضية حسين توفيق .. الخيط الأول قضية زغلول عبد الرحمن .. الخيط الثاني قضية مصطفى أمين .. الخيط الثالث
تم رصد منزل مرشد الإخوان المسلمين الأستاذ حسن الهضيبي .. فوجد أن الحاجة زينب الغزالي تتردد على منزله . بعث ضابطا من مكتب المشير عامر ( الذي كان يرأسه شمس بدران ) .. إلى منزل الحاجة زينب الغزالي وطلب منها صراحة تعاون الإخوان مع المشير على قلب نظام الحكم(1) وأن المشير شخصيا يطلب مساعدة الإخوان المسلمين والوفد .. ولكن الإخوان رفضوا هذه المؤامرة متذرعين بظروفهم العصيبة آنذاك. أما في قضية حسين توفيق .. تم القبض على اثنين من الإخوان هما المهندس سامي عبد القادر , والضابط مصطفى راغب .. فسامهم شمس بدران سوء العذاب ألوانا .. لعلهم يكونون هم أول الخيط .. وبالفعل فقد كانا .. ولعب الحظ لعبته الكبرى لصالح شمس بدران
خامسا : قرية سنفاسنفا قرية صغيرة من قرى مركز ميت غمر محافظة المنصورة في الوجه البحري ـ دلتا مصر ـ .. كان بها شاب اسمه عبد اللطيف شاهين يعمل في الجيش برتبة ( صول ) أي ( مساعد ) .. وهي الرتبة التي قبل الترقية إلى فئة الضباط مباشرة .. وهي الرتبة التي يسمونها ضباط من تحت السلاح .. وليسوا من خريجي الكلية الحربية . وهو شاب في سلاح الصاعقة .. ذهب مع الجيش إلى اليمن السعيد عام 1962 م وظل بها ثلاث سنوات حتى قبض عليه في عام 1965م .. وابتسمت الدنيا لعبد اللطيف شاهين وكثرت أمواله , وعم الخير أهله وأقاربه وبدأ يستعد للزواج , ولحفلة كبيرة في فرحه .. وهداه تفكيره إلى الحصول على قنبلة صوتية وأخرى ضوئية لضربهم في فرحه , وعند زفافه حتى تعم البهجة والسرور في الفرح .. ولكن أخاه ـ مدرس الابتدائي ـ سالم شاهين كان كثير النفقات .. محدود الدخل .. يشرب السجاير بكثرة وأخوه عبد اللطيف يساعده بالمال دائما .. واحتاج سالم شاهين إلى مزيد من النقود .. وهو يشترى سجائره وبضاعته وبقالته من عند أحد الإخوان صاحب محل البقالة المجاور لهم في السكن .. واستدان منه كثيرا .. ولما لم يُوف دينه عرض بيع القنابل على " يوسف القرش " لسداد ديونه .. ومن عجب أن يوسف القرش قبل الصفقة واشترى القنابل في الشارع على مرأى ومسمع من الناس ويستطرد صاحب البوابة السوداء في شرح هذه الواقعة تفصيلا فيقول(1) في عرض مسرحي جيد : وأسرع سالم شاهين إلى محل يوسف القرش ودار بينهما الحديث التالي : ـ هل تريد أن أبيعك شيئا بدل الدين الذي علىّ ؟ ـ وما هو ؟ ـ قنبلتين ـ وتوتر يوسف القرش وانتبه : ـ ماذا تقول : قنبلتين ؟ ! ـ نعم ، قد آتى بهما أخي عبد اللطيف من اليمن , ويقول انهما تحدثان صوتا عظيما ولا تقتلان أحدا ولا تجرحانه , هه , ماذا قلت ؟ ـ أراهما أولا ـ أعطني إذن سيجارة حتى أعود ـ لو أعجبتني القنابل أعطيتك السجائر وأسرع سالم شاهين إلى منزله وجاء بالقنبلتين , وفي طريق العودة إلى محل يوسف صار يشرح لكل من يقابله مزايا القنبلتين , وماذا تصنعان عندما يفجرهما , وأنه ذاهب ليوسف القرش ليعطيهما له بدلا من الدين ويعلق ساخرا لمن يتفرج على القنابل : ـ أهبل وعبيط , ماذا سيفعل بهما ؟ وقبل أن يصل إلى محل يوسف القرش كانت القرية كلها قد علمت بالقصة . وكان نجل العمدة في القرية على خلاف مع يوسف القرش , ورغم هذا فهو لا يقدر على مقاطعته لأنه البقال الوحيد في القرية , وأرسل خادمه ليشترى له أربع ورقات " معسل " وتأخر الخادم ولما عاد عنفه سيده , فاعتذر له بان سبب التأخير انه وقف يتفرج على القنابل عند الدكان , وحكى له كيف ساهم يوسف في ثمنها وأخذها بدلا من السبعة والتسعين قرشا ونصف وزاد عليها سيجارة واحدة ووجد نجل العمدة الفرصة قد سنحت للانتقام من يوسف القرش فأسرع إلى كاتب عمومي متخصص ليكتب بلاغا باسم رئيس المدينة نكاية في يوسف القرش .ومن عجيب الصدف أن هذا البلاغ وصل إلى رئيس المدينة في اللحظة التي كان يزوره فيها واحد من أساطين المباحث الجنائية العسكرية - وكانا صديقين- فكل رؤساء المدن في تلك الأيام كانوا , - ولعل هذا حتى الآن - من حرس الثورة إما اشتركوا فيها , أو يقومون على أمنها ، وقرأ رئيس المدينة البلاغ وضحك عاليا , وقال له صديقه من المباحث الجنائية العسكرية : ماذا يضحكك ؟ ورد عليه رئيس المدينة وهو ما يزال يضحك : ـ واحد كاتب بلاغ يقول فيه : أن فيه بقال بقرية سنفا بيتاجر في قنابل , تصور , زي ماتكون قوطة ( طماطم ). وضحك الاثنان , بينما اخذ القصة ضابط المباحث الجنائية العسكرية مأخذا جادا وفي هذه الليلة السوداء كان يوسف القرش معلقا والسياط تلوشه من كل جانب يسألونه عن الإخوان والسلاح والتمويل والتنظيم , وجاءوا بسالم شاهين , ومن اليمن طيروا عبد اللطيف شاهين , ودارت رحا العذاب هائلة قاسية مروعة وكان ذلك في قصر عابدين , حيث مبنى المباحث الجنائية العسكرية .وأشرف يوسف القرش على الموت من الضرب بالسياط . وقد قدر لي أن أراه بعد ذلك بشهور فكأنه قد ضرب منذ ساعة فقط , كانت جروحه رطبة طازجة مازالت على حالها الأول .في الحقيقة قد بدأت مأساة الإخوان بضرب يوسف القرش في قصر عابدين حيث يقيم الخديو إسماعيل رحمه الله وطيب ثراه هو وآباؤه وأبناؤه الكرام البررة , إذا قارنا طغيانهم وطغيان من جاءوا بعدهم .وعندما يجتاز المضروب حاجز الألم فهو يقول ما يفهم ومالا يفهم , كانوا يسألونه عن الإخوان وصلته بهم , ومن يعرفه منهم , والرجل لا يعرف كيف يجيب ولا يدرك الطريقة التي يخرج بها سالما من هذا الجحيم , وأثناء الضرب ذكر اسما كان الخيط لكل شيء ...حبيب عثمان صاحب ورشة ميكانيكية بالقاهرة ...وما كان يوسف القرش يعلم شيئا عن حبيب عثمان ووضعه في التنظيم الجديد , وما كان يعرف أن هناك تنظيما جديدا , ولكنها الأقدار تجري على الناس بما تشاء. كان حبيب عثمان عضوا في أسرة يرأسها مصطفى الخضيري الذي يتبع مباشرة لعلي عشماوي عضو اللجنة الخماسية , ومسئوليته الموضوعية والمكانية كانت السلاح والقاهرة , وكان قد تم تقليده المنصب منذ أيام بناء على اقتراحه (1). هذه قصة قرية " سنفا " مركز ـ ميت غمر ـ محافظة المنصورة .. ولقد تم وضع الحراسة على أموال وممتلكات يوسف القرش .. التي هي عبارة عن محل " بقالة " متواضع في قرية بسيطة وبضعة قراريط من الأرض الزراعية .. و " حمار " ....وبهذا دخل " حمار " القرش التاريخ كما دخل " حمار الحكيم " التاريخ في قصة " توفيق الحكيم " .. وعينت الحكومة حارسا قضائيا على " حمار " القرش .. وصارت له ميزانية في الدولة .. وهذه حقيقة ـ والله ـ وليست نكته . كانت قضية قرية " سنفا " هي ضربة الحظ التي صعد بها شمس بدران إلى كرسي الوزارة بل رشحه عبد الناصر فور النكسة لتولى رئاسة الجمهورية !! , ولكنه عدل عنه فجأة ورشح زكريا محي الدين حينما تنازل عبد الناصر عن العرش بعد النكسة في تمثيلية كبرى .. دغدغ بها مشاعر الشعب المصري الطيب ثم تراجع عن ذلك كله بعد أربعة أيام في ( 9 ـ 10 ) يونيو الشهيرة.
سادسا : جنازة مصطفى النحاسمصطفى النحاس زعيم الأمة .. كما يلقب في مصر .. خدعه عبد الناصر بأن أوهمه أنه من حزب الوفد .. وذلك قبل الثورة وأنه ـ أي عبد الناصر ـ سوف يقوم بتسليم السلطة لحزب الوفد فور نجاح الثورة على الملك وهي نفس الوعود التي وعدها عبد الناصر للإخوان المسلمين وبعد قيام الثورة بأيام قلائل قال عبد الناصر للمستشار حسن الهضيبى المرشد العام للإخوان المسلمين حينما طالبه بتطبيق الشريعة .. قال عبد الناصر : نحن لم نتفق على شيء يا فضيلة المرشد .. وذهب مصطفى النحاس .. شاكرا عبد الناصر على قيامه بالثورة نيابة عن حزب الوفد ..!!! .. وطالبه بتسليم الحكم للوفد , والعودة إلى ثكنات الجيش .. فرده جمال عبد الناصر ردا جميلا .. وعاد معالي الباشا بعد أن علم بأن طمع إبليس في الجنة أيسر وأقرب من حزب الوفد في الحكم .. ثم توالت النكبات على حزب الوفد بعد ذلك تترى .. فعمل عبد الناصر على شق صف حزب الوفد .. طالب عبد الناصر الأحزاب بتطهير صفوفهم .. وبلع مصطفى النحاس الطعم ووافق على تطهير حزب الوفد .. وفصل عددا من أعضاء الهيئة الوفدية العليا إرضاء للثورة .. منهم محمود عبد اللطيف وزير الشئون الاجتماعية ( وهو غير محمود عبد اللطيف عضو جماعة الإخوان ) .. ولاحقت الثورة مصطفى النحاس حتى قدم استقالته .. ومن قبله أرسل فؤاد سراج الدين استقالته إلى مصطفى النحاس ..!! ثم تراجع مصطفى النحاس عن استقالته .. وتمسك به عموم حزب الوفد واعترض وزير الداخلية على رئاسة مصطفى النحاس للحزب في شكله الجديد . ومثل الحكومة في الاعتراضات سليمان حافظ لدى مجلس الدولة وتلاشى الحديث عن الدستور والانتخابات وحرية الأحزاب بل والديموقراطية وأعلن القائد العام للقوات المسلحة في 17 يناير 1953 " حل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة جميع أموالها لصالح الشعب "..!! وهكذا بعد أن شق عبد الناصر حزب الوفد نصفين .. وأوقع بذور الفتنة بين أفراد الأحزاب جميعا .. قام بحل جميع الأحزاب بما فيها حزب الوفد وكان مصطفى النحاس قد تعدى عمره السبعين عاما .. فعكف في منزله .. وفي هدوء انتهى دور مصطفى النحاس السياسي .. ولقد كان لكبر سن أعضاء الهيئة الوفدية أثر مهم في انهيار حزب الوفد سريعا فكلهم كانوا فوق الخامسة والستين عدا فؤاد سراج الدين , وإبراهيم فرج . ثم حاكم عبد الناصر معظم قيادات الوفد .. وأودع بعضهم السجون وشهّر بالبعض الباقي,وآثر مصطفى النحاس الصمت .. ولزم بيته منذ عام 1953م حتى 25 أغسطس 1965م .. حيث مات مصطفى النحاس بعد بداية اعتقالات الإخوان المسلمين بقليل .. وخرجت بقايا الوفديين تودع زعيمها .. وتهتف بحياة مصطفى النحاس بعد أن مات !! وألقت الحكومة القبض على حوالي 25 شخصا من الأسماء الوفدية البارزة(1) .. وجاءوا إلى السجن الحربي في الدور الثاني ومن عجائب القدر .. أن كان فيهم شقيق الحاجة زينب الغزالي .. ذلك الوفدي المخضرم " سيف الدين الغزالي " ولبث في السجن بضع شهور ثم أفرج عنه وعن بقايا حزب الوفد .( توفي سيف الغزالي قبل طباعة هذا الكتاب بقليل ) هذه هي المظاهرة الضعيفة لوداع مصطفى النحاس .. كانت حكومة الثورة تخاف منها وتعمل لها ألف حساب .. لماذا .. !!
ولقد كان لسيف الغزالى أهمية عظيمة في حزب الوفد .. فهو القائد المفوه لكل مظاهرات حزب الوفد .. وحدث أن وقع انشقاق في صفوف الوفد في الأربعينات وخرج حزب الكتلة من رحم الوفد .. وحينذاك قال مكرم عبيد باشا .. لو لم يكن معي من الوفد سوى سيف الدين الغزالي لكفى !! وذلك لقدرة سيف الغزالى الكبيرة على تحريك الجماهير وإشعال حماسها وهكذا جمعت جدران السجن الحربي بين النقيضين الأخوين : زينب الغزالي ... عن الإخوان المسلمين سيف الغزالى ... عن حزب الوفد أما مصطفى النحاس .. فيحكى عنه الأخ المهندس جلال بكرى - الذي كانت والدته من أقارب مصطفى النحاس ـ أنه كان رجلا على شيء من التدين .. ورأى جلال بكرى الزعيم مصطفى النحاس وهو يجلس في بيته ويقرأ القرآن مرات عديدة .. ولقد تتبعت قليلا موقف مصطفى النحاس .. فلم أجد له اسمه في أندية الروتارى أو الأندية الماسونية وكذلك لم أجد اسمه في أندية الليونز أو أشباهها بعكس الزعيم أحمد ماهر ( رئيس الوزراء الأسبق في الأربعينات ) وصاحب ضريح أحمد ماهر المشهور بالعباسية .. الذي كان قد تدرج في الماسونية حتى صار بأعلى درجة من درجاتها " القطب الأعظم " .. والذي لقي حتفه على يد الشاب الغاضب محمود العيسوى .. ورغم أننا لا نقر الاغتيال بأي حال من الأحوال .. لكن هذه السياسة المتكررة والتقليدية التي ينتهجها أمثال أحمد ماهر من استفزاز شديد لمشاعر المسلمين بل والوطنيين .. تخلق مناخا مستفزا .. قد لا يتحمله أعصاب بعض الشباب فيتهورون ويقدمون على عمليات الاغتيال . وهذه هي خطة الذين بينهم وبين الدين والمتدينين عداوة قد لا يفهم سببها الكثيرون .. ولكن من يتبع تاريخ وسير هؤلاء اللادينيين يعرف الأسباب الحقيقية وراء العداء السافر للدين .. ولقد حدث أن أعلن أحمد ماهر باشا أيام أن كان وزيرا للمالية(1) عن وظائف محاسبين لوزارة المالية فتقدم الأخ طاهر عبد المحسن(2) للوظيفة وفوجئ أن موعد الامتحان في وقت صلاة الجمعة الساعة الثانية عشر ظهرا فذهب قبل الموعد بساعة وطلب تأجيل الموعد .. ولكن الوزير أحمد ماهر .. هو الذي حدد الموعد .. وهو الممتحن الرئيسي ورد الوزير أحمد ماهر ردّا وقحا فيه كل الاستهتار والاستهزاء بالدين وبصلاة الجمعة وبالصلاة على اختلافها .. فثار عليه الأخ طاهر عبد المحسن ولعنه وألقى بخطاب الوزارة في وجهه وخرج تاركا الوزارة لهذا الوزير الوقح البذيء المستهتر(3) .. وفي هذا المساء ذهب إلى مقر الإخوان المسلمين في المركز العام وقص القصة ...هذا واحد من الزعماء .. وقبله زعيم آخر قائد ثورة ( 1919م) ...من أين يأتي هؤلاء الزعماء ...؟!! إن سعد زغلول كان يقبض راتبه الشهري الذي لم ينقطع أبدا من المستعمر الإنجليزي حتى بعد إحالته إلى المعاش .. وحتى وفاته(4)... رفض تعريب التعليم حتى تستمر الثقافة الإنجليزية... كان يدمن الميسر ولعب القمار حتى خسر كل ثروته... هو الذي حاكم الوطني المسلم الملتزم محمد فريد... لما سمع إقالة كرومر من جهة بريطانيا أصابه غم شديد فلقد كان عميلا مخلصا للورد كرومر الحاكم البريطاني لمصر آنذاك... كان سكرتيره الخاص " ليون كاسترو " مؤسس الحركة الصهيونية في مصر وهو يهودي طبعا وصحبه الصهيوني ليون كاسترو في أوروبا .. واستفادت الصهيونية كثيرا من هذا وتغلغلت في صفوف الوفد..كان شقيقه فتحي زغلول عضوا بمحكمة دنشواي التي حاكمت المصريين وحكمت عليهم بالإعدام (1) لهذه الملاحظات كلها كان الشهيد سيد قطب يرى انحرافات من يدعون إلى الوطنية بديلا عن الدين .. إذ أن علاقاتهم بالدين كخيط العنكبوت وارتماؤهم في أحضان الماسونية والروتارى وغيرها يثير كثيرا من الشبهات التي كانت ما تتجاوز الحد , وتدع الحليم حيران .. أما غير الحليم فالمناخ مستفز بصورة لا يمكن توقع ردود أفعال أي غيور على دينه وهذا هو المناخ الاستفزازي الذي ينصبه العلمانيون لكل غيور على دينه .. حتى يتم توجيه ضربات قاصمة للمتدينين .. بين الحين والآخر ودائما ما يظهر المتدينون بمظهر الإرهابي والمتهور فيتصرف أحدهم تصرفا طائشا .. يدفع ثمنه جموع المتدينيين الطيبين .
سابعا : قرية كرداسة- هي قرية من قرى محافظة الجيزة شمال حي الهرم السياحي مباشرة وتكاد تكون ملاصقة له فهي تبعد عن شارع الهرم الشهير بحوالي ستة كيلومترات فقط . - هي قرية يفدها السائحون من كل فج عميق ليل ونهار .. بها محلات للملابس الفرعونية والمزركشة . - نسبة التعليم فيها عالية إلى حد كبير .. فهي بجوار جامعة القاهرة . - يشتغل أهلها بالتجارة وخصوصا هدايا السياح . - كان عمل بعض أهلها بالنسيج اليدوي في النصف الأول من القرن العشرين. ـ ويعمل البعض بالزراعة سواء الخضراوات أو المحاصيل التقليدية ( قمح ـ ذرة ـ برسيم ـ قطن ) .. وبها كميات كبيرة من النخيل . ـ هي بجوار جبل أو تل يسمى ( جبل أبو رواش ) .. وهو مكان جيد لضرب النار , وللمعسكرات . كما أن به بعض المحاجر ..كما أنه بهذا الجبل كميات هائلة من الثعابين و صائدوهم من الرفاعية. - رغم وجود السياح .. ورغم قربها من العاصمة القاهرة .. فان نسبة التدين بها عالية .. وهي ملاحظة تستحق الدراسة وللمتدينين بها دائما وجود ملحوظ وفعال . - كانت معظم معسكرات تدريب الإخوان المجاهدين في فلسطين تقام هناك في جبل أبى رواش الملاصق للقرية .. لذلك كان بها في أربعينات القرن الماضي شعبة نشطة ومتميزة للإخوان المسلمين. ـ كان لقرب كرداسة من جامعة القاهرة أن وجد بها عدد هائل من شباب الإخوان الذين تعرفوا على الإخوان في الجامعة علاوة على نشاط الشعبة في البلدة . ـ ولما اعتقل الإخوان المسلمون في ( 1954م ) كان من بين أبناء كرداسة عدد من المعتقلين .. لكن واحدا فقط حكم عليه في قضية من قضايا الإخوان في 1954 وهو الأخ أحمد باوة حيث حكم عليه بعشر سنوات أشغال شاقة . ـ كان الأستاذ عثمان إبراهيم المحامي أحد الإخوان النشطين من كرداسة يسكن في شقة بالزيتون مع الأخ كمال الفرماوي المحامي والأخ جابر رزق الفولي ( طالب بمعهد الزيتون الفرنسي ) .. ولقد كانت هذه الشقة منتدى لشباب الإخوان .. ولقد كانت شقة مباركة ففيها بدأ معظم نشاط تنظيم ( 1965 ) وفيها التقى الشهيد عبد الفتاح إسماعيل بمعظم قيادات العمل الإخواني والنشاط الإسلامي العام .. زارها عدد ضخم من رموز العمل الإسلامي منهم أحمد عادل كمال ,علي عشماوي , عبد الفتاح إسماعيل , الشيخ على عبده إسماعيل , الشيخ نصر عبد الفتاح , الشيخ إبراهيم عزت ,الأستاذ أحمد رائف, الأستاذ عوض عبد المتعال عوض . وغيرهم كثير .. وكثير .. وان شئت قلت كل من كان له صلة بالعمل من القاهرة والجيزة من إخوان ( 65 ). ـ وفي شقة الزيتون تم أخطر اجتماعات الإخوان على الإطلاق التي حضر فيها الشيخ عبد المتعال الجابري واقنع جميع الحاضرين بأنه لا جدوى ولا فائدة من اغتيال عبد الناصر .. وغيّر مسار حركة التنظيم جذريا .. لولا ما فعله علي عشماوي في الأيام الأخيرة قبل القبض على التنظيم . ـ ومن كرداسة تخرج أربعة من قيادات الإخوان المؤثرة في قضية (65 ) أحمد عبد المجيد عبد السميع ( عضو مجلس قيادة 65 ) جابر رزق ( المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين 76 - 1988 ) كمال محمد الفرماوي ( رئيس القضية الثانية في تنظيم 65 سيد نزيلي محمد عريس ، كرداسة الشهير وصاحب قضية كرداسة كلها ـ كما ضمت قرية كرداسة أسرة كاملة في تنظيم ( 65 ) بقيادة الأخ سيد نزيلي وحوكمت هذه الأسرة , وصدر ضدها كلها أحكام . وأفراد هذه الأسرة هم : محمد السيد عبد الحي,زكي محمد بشندى حسن عامر أبو طالب ومصطفى عيسى غزال. أما المعتقلون من كرداسة في قضية ( 65 ) فهم كثيرون لكن منهم اثنان من تجار السلاح كان يتفاوض معهما ـ فيما اذكر ـ علي عشماوي وأحمد عبد المجيد .. وتمت محاكمة تاجري السلاح وصدرت ضدهما أحكام وهما : محمود السيد السنوسي , نصر محمد المكاوى ( وهما من أكبر عائلات كرداسة ) ـ واحسب أن الخير في كرداسة مستمر إلى ما شاء الله . فظروفها الاجتماعية والاقتصادية وموقعها .. كل هذه العوامل تؤثر في استمرار عطائها الديني . ـ أما قصة كرداسة فرغم أنني عاصرتها , ولكن حكايتها على لسان أحد أبنائها سوف يكون انفع وأجدى . وهذه كلمات القيادي / أحمد عبد المجيد في كتابه ( الإخوان وعبد الناصر ) يحكي قصة كرداسة(1) " وقرية كرداسة هذه من أعمال محافظة الجيزة تقع على بعد ستة كيلومترات من الأهرامات الثلاثة , كان عدد سكانها عام 1965 حوالي 100.000 ( مائة ألف نسمة ) معظمهم يمارس الزراعة وصناعة النسيج اليدوي ويمتاز أهلها ببساطة أهل الريف , ورباط العائلات والجوار , ومن سماتهم المميزة أنهم لا يقبلون الضيم خاصة إذا كان من السلطة . ولقد بدأ مسلسل الأحداث في هذه البلدة الآمن أهلها في مساء يوم 21 أغسطس عام 1965 في حوالي الساعة التاسعة مساء , حيث يكون معظم الناس قد آووا إلى منازلهم ويغلب على القرية الهدوء والسكون حيث لم يكن قد دخلها التليفزيون أو الفيديو بعد . حضر في هذا الوقت من الليل خمسة من رجال المباحث الجنائية العسكرية والتي ليس لها أي صفة قانونية من صفات الضبط القضائية , كما هو متعارف عليه عند رجال القانون , ولم يكن هناك في تلك الأيام أي صفة للقانون أو اعتبار لرجاله من السلطة الغاشمة. ترك هؤلاء الخمسة سياراتهم في الجهة الغربية من البلدة وهو طريق ترعة المنصورية بالقرب من طريق القاهرة ـ الأسكندرية الصحراوي سائرين على أقدامهم من الجهة الغربية مارين بوسط البلدة حتى شرقها حيث يقع منزل المطلوب القبض عليه , وهو الأخ السيد نزيلي الأخصائي الاجتماعي ولما وصلوا إلى منزله لم يجدوه ففتشوا المنزل تفتيشا وجمعوا الكتب الموجودة في المنزل , وأرادوا اخذ زوجته رهينة عندهم لحين القبض على زوجها أو تسليم نفسه , كما هو المعتاد عندهم وقتها من اخذ أي عنصر نسائي رهينة بدلا من المعتقل في حالة عدم وجوده , فمنعهم شقيقه عبد الحميد , وتجمهر الأهالي لمنعهم من ذلك بالحسنى ولما لم تجد معهم الحسنى , منعوهم بالقوة فأطلقوا الأعيرة النارية حتى تمكن الأهالي من الاستيلاء على الأسلحة لمنعهم من استعمالها , وحدثت معركة بين الفريقين أو شجار قيل أن الضابط توفى من اثر ذلك , وقيل , انه حدثت له " تربنة " في رأسه , ولاذ بعضهم بالفرار يلاحقهم الأهالي أثناء جريهم بالبلدة من شرقها إلى غربها . والإجراء المتبع في مثل هذه الحالة عند الاعتقال هو الاستعانة بعمدة القرية أو ضابط نقطة الشرطة بالقرية , أو شيخ البلد , مع إثبات الشخصية وأوراق طلب القبض , ولما كان كل ذلك لم يحدث ثار الأهالي وظنوا في بادئ الأمر انهم مختطفون للعروس التي لم يمض على زواجها سوى أسبوع واحد . فماذا حدث بعد ذلك لهذه القرية المسكينة؟ والتي حاولت المحافظة على عرض إحدى نسائها من اختطافها بواسطة خمسة رجال شداد من بين أيديهم وأمام أعينهم , وبدافع من رجولتهم وكرامتهم حاولوا منع ذلك , ولكن أني لهذه الرجولة والكرامة في ذلك العهد الذي ديست فيه الكرامة بالأقدام وما مهمة عبد الناصر إذن حتى يبقى عند الناس الكرامة أو بعض منها , إنه جاء لاقتلاعها ضمن ما اقتلع من القيم والطباع الكريمة ... !!! ولما عاد من عاد من هؤلاء الخمسة فارين بجلدهم مما حدث لهم ولزملائهم أخطروا رؤساءهم بالسجن الحربي , وقيل إن العقيد شمس بدران استدعى الفريق أول محمد فوزي ، الذي كان رئيسا لهيئة أركان حرب القوات المسلحة ، وأعطاه التعليمات : بأن تأخذ هذه البلدة درسا لا تنساه , لمدة مائة عام قادمة (1) وبعد منتصف هذه الليلة اقتحمت القرية وحاصرتها القوات ( الغازية ) بالمدرعات والمدافع والرشاشات وسيارات الجيب , وتم نصب مدافع الهاون في مدخل البلدة مصوبة لها والضباط وصف الضباط من مختلف الرتب والجنود , وأشيع أن الذي قاد هذه الحملة هو الفريق أول محمد فؤاد الدجوي الذي تقلد منصب القاضي في المحكمة بعد ذلك وسار الضباط والجنود بأسلحتهم وخوذاتهم وكافة استعدادات الحرب والطوارئ يغلقون المنازل والمحلات ويدخلون جميع الناس بيوتهم , ولا يسمحون بأحد بفتح باب أو نافذة وفي صباح اليوم التالي اتخذت هذه القوات نقطا ثابتة في المدارس ومداخل البلدة المختلفة وعند موقف سيارات الأجرة في أول البلد من الجهة الشرقية في مواجهة القاهرة وبدأ الناس في الصباح يخرجون كالعادة إلى أعمالهم بالقرية أو حولها آو بالقاهرة , فبدأت قوات الشرطة العسكرية والمباحث العسكرية وقوات الجيش , تلقى القبض على أي شخص يخرج من بيته , أو يسير في الطريق أو عند موقف السيارات سواء كان موظفا أو مزارعا أو حتى من جنود القوات المسلحة المجندين من أهل البلدة المتوجهين في الصباح إلى وحداتهم العسكرية وتم إيداع كل من يقبض عليه في مدارس البلدة , حيث يقومون بجلدهم وتعذيبهم بالمدرسة , واختير لذلك وحش السجن الحربي المفترس حسن كفافى الذي تولى الإشراف على إهانة وتعذيب خلق الله من الأبرياء من الرجال وحتى النساء . وتم القبض كذلك على عمدة البلدة ومعظم رجال عائلته رجالا ونساء , ومنهم من كان مدير مكتب حسين الشافعي , وكذا مشايخ البلدة والأعيان والوجهاء وجميع الإخوان المسجل أسماؤهم من عام( 1948 – 1954) وحتى غير المسجلين , وكذا أصحاب السلاح المرخص وتم سحب السلاح منهم ومن أصحاب السوابق السابقة والمشبوهين , وجميع أقارب وجيران وأصدقاء الأخ سيد نزيلي ـ سبب الحادث ـ من الرجال والنساء على السواء , وفي مقدمتهم زوجته , وأصدقاء وزملاء الدراسة للإخوان مثل زملاء الدراسة للأخ أحمد باوه(1) وزملاء الدراسة بالمعهد الفرنسي للأخ جابر رزق ( الصحفي ) الذي كان رئيسا لمجلة اللواء الإسلامي بعد ذلك وتوفي عام 1988 ـ رحمه الله ـ وأغلقت البيوت والمحلات لمدة 72 ساعة لا يخرج أحد من بيته , ولا يسير في الطريق , ولا يذهب لعمله , وتم حبس الجميع في منازلهم حتى الحيوانات لم تسلم من ذلك ونالهما جانب من بطش عبد الناصر فلم تخرج للمرعى ولا للسقيا , حتى الموتى امتهنوا في هذه البلدة في تلك الأيام , حيث لم يتم إخراج الموتى إلا بعد جهد جهيد وموافقة قوات " الاحتلال " الناصري وتم إخراج الجثث التي توفيت في تلك الأيام تحت الحراسة ويحملها الأقارب فقط عاشت البلدة في رعب وذعر رهيبين طوال الاثنين والسبعين ساعة , محبوسين في منازلهم , واستمر هذا الإرهاب لفترة طويلة , تعززه إلى جانب القوات المسلحة قوات الشرطة بإشراف وزير الداخلية وقتها شعراوي جمعة الذي ذهب بنفسه للبلدة في هذه الأيام العصيبة .وتم نقل من قبض عليهم من أهل البلدة على دفعات متتالية إلى السجن الحربي , رجالا ونساء , شبابا وشيبانا ومن مختلف المهن والأعمار .وهناك في السجن الحربي حيث المهانة , والكرامة تداس بأقدام الطواغيت الصغار والكبار , وحيث يتم التعذيب بلا هوادة ولا رحمة مع البريء والمتهم مع الكبير والصغير مع الشيخ والعالم والمثقف والأمي , والخلاصة : مع أي شخص يدخل من بابه حتى يقدر الله له الخروج من هذه الغابة التي تحكمها الذئاب بمكرها وخستها ونذالتها. وزاد على ذلك أساليب أخرى , وقسوة لا متناهية مع أهل هذه البلدة والجميع بلا استثناء , لأنهم تجرءوا على نفر من زبانية السلطة , وقاموا يذودون عن جزء من كرامتهم الممتهنة , وأنى لأحد أن تكون له الجرأة في المطالبة أو الدفاع عن أي حق مغتصب أو مهان وعلى أي مستوى وفي أي موقع وفي أي مكان , في عهد عبد الناصر . ومن الأساليب التي استخدمت مع أهل كرداسة خلاف التعذيب بالسياط والتعليق كالذبائح , والجرى السريع الذي هو الصورة الغالبة مع الجميع , أضيف لأهل هذه البلدة بإشراف اللواء حمزة البسيوني وتنفيذ صفوت الروبي وأعوانه , أن يسير الرجال على الأيدي والأرجل وفوق ظهورهم النساء , وان وجدت زوجة فتمتطي ظهر زوجها , وكذا حلق أحد الحواجب وترك الآخر , أو حلق جانب من اللحية لمن كان ملتحيا وترك الآخر , أو شق الجلباب من أعلى إلى اسفل من الأمام أو من الخلف , أو خلع الملابس وترك الشخص بالملابس الداخلية فقط , وغير ذلك من الأساليب الحقيرة الكثير والكثير . وتم بعد ذلك محاكمة بعض الجنود المجندين بالجيش والذين تم اعتقالهم في صباح 22 أغسطس 1965 , وتم ذلك أمام محكمة عسكرية , وقضوا أحكامهم بسجن القناطر بعد فصلهم من القوات المسلحة دون سبب إلا انهم من القرية " هذه هي قصة قرية كرداسة كما يرويها أحد أبناءها الأخ أحمد عبد المجيد عضو مجلس قيادة التنظيم.
|
الفصل الثاني : إكتشاف التنظيم
تمثلت عناصر قضية إخوان ( 65 ) في: قنبلتين من مركز سنفا , اعترافات علي عشماوي مع بعض الأسلحة , والدعاية ( البروباجاندا ) التي طنطنت بها الصحافة على ورقة كراس عند الأخ محمود فخري...وبعض قنابل المولوتوف في شقة ممدوح الديري ,فضلا عن بعض المدافع الرشاشة في شقة د. محمد عبد المعطي الجزار .
أولا : من قرية سنفافي قضية حسين توفيق اعترفوا على وجود قنبلتين لدى الأخ يوسف القرش في سنفا فقبضوا على يوسف القرش وعلى المدرس سالم شاهين واحضروا أخيه عبد اللطيف شاهين من اليمن على طائرة خاصة .. وفي مقر الشرطة العسكرية في عابدين ـ آنذاك ـ دارت رحى التعذيب وكان النصيب الأكبر ليوسف القرش .. عن علاقته بالإخوان .. وبعد تعذيب بشع اعترف أن له صديقا اسمه حبيب عثمان صاحب مسبك لسبك الأدوات الصحية من حنفيات ومحابس نحاس وخلافه .. وذهبوا بيوسف القرش إلى مسكن حبيب عثمان ... ثم إلى المسبك الخاص به.
ثانيا : حبيب عثمانهو أخ من إخوان تنظيم ( 65 ) فارع الطول .. هادئ النفس .. رشيق رغم طوله .. عزيمته تفل الحديد .. قليل الكلام .. كثير الصمت متميز في مهنته (1) صاحب مسبك في حي شبرا .. شمال القاهرة .. متزوج وله بنتان ( آنذاك 1965 ) .. وبدأ التعذيب الشديد وهو لا يتكلم , وظل هكذا ثمانية عشر يوما كما قال لي بعض الإخوان , أما هو فلم يتكلم عن فترة التعذيب طوال فترة تواجده في السجن . كان من جماعة الإخوان المسلمين .. في أسرة يرأسها الأخ مصطفى الخضيري .. ولما فتشوا بيت حبيب عثمان وجدوا عنده كتابا عن الأسلحة واستخداماتها .. وفكها وتركيبها وصيانتها .. وكان ذو لحية كثة .. فقالوا هذه العلامات تدل على انه من الإخوان لا محالة .. فعند المباحث العلامات المميزة للإخوان هي ( آنذاك ) – مصحف جيب صغير طبعة الشمرلي . – تميز كبير في المهنة إن كان عاملا .. وتفوق دراسي إن كان طالبا. – أخلاق طيبة وأمانة وبعد عن الرشوة .. وكذلك بعد عن الألفاظ السوقية , مع البعد عن كل أنواع الغش. – لو زاد عليها أي شيء عن السلاح فتصبح تهمة الانتماء للإخوان تهمة دامغة خصوصا إذا كان ملتحيا ( ذو لحية ) . – المواظبة على الصلاة . – علاقات اجتماعية جيدة مع الجيران والأهل والأصدقاء . – حب التعرف على الناس ومصادقتهم مع السمعة الطيبة . هذه الصفات كلها كانت متميزة في الأخ حبيب عثمان .. لذلك كان من العبث أن ينكر أنه من الإخوان .. وإلا سوف يعذب حتى الموت .. وبالفعل كان تعذيبه بشعا زاد عن معظم الإخوان بكثير .. وبعد وقت ليس بالقصير اعترف على نقيب أسرته الأخ مصطفى الخضيري . وبدأ البحث عن مصطفى الخضيري .. ولكن الإخوان أدركوا أن القبض على حبيب عثمان يقتضي وبسرعة قطع أي خيط ممكن أن يؤدى إلى التنظيم .. فتم تهريب مصطفى الخضيري في الشرقية عند الأخ الشهيد محمد عواد .. الشاعر الأديب وهو من قرية الزوامل محافظة الشرقية .. وقد تم قطع هذا الخيط بسرعة فجن جنون شمس بدران , وظنوا أن مصطفى الخضيري هو رئيس التنظيم فقاموا بتوزيع صورته في كل أنحاء مصر .. ولكن الخيط الثاني قد انقطع باختفاء مصطفى الخضيري .. أما الخيط الثالث فكان مطلوب القبض على الشيخ عبد الفتاح إسماعيل في حملات التمشيط لعلهم يعثرون على شيء فذهبوا إلى بلدته فلم يجدوه .. ومن هناك عرفوا عنوان أخيه فضيلة الشيخ( الأزهري ) علي إسماعيل .. وهو إمام وخطيب مفوه .. وعالم أزهري جليل ... وذهبوا إليه في القاهرة حي المطرية فقبضوا عليه .. لكن الشيخ عبد الفتاح إسماعيل اختفى هو الأخر .. وانقطع الخيط الثاني. ولكنهم سألوا الشيخ علي إسماعيل عن أصدقاء أخيه عبد الفتاح فدلهم على الأخ فاروق عبد الغني الصاوي .. مهندس زراعي وباحث في مركز بحوث الصحراء في المطرية .. وقبضوا على فاروق عبد الغني الصاوي .. وهو شاب من المنيا ( الوجه القبلي ) طيب القلب بصورة ملفتة للنظر .. سليم الطوية .. نحيل الجسم .. من أسرة ميسورة في مركز مطاى محافظة المنيا . كان والده ناظر المدرسة الثانوية في مدينة مطاى .. ودارت رحى التعذيب على فاروق الصاوي .. وكان فاروق الصاوي أثناء فترة التحقيقات مقيما أمام مكاتب التعذيب والتحقيق .. وبالتعذيب اعترف فاروق الصاوي على وجود تنظيم جديد للإخوان المسلمين وأن لكل من الشيخ عبد الفتاح إسماعيل وعلي عشماوي موقعا متميزا في التنظيم .. ولكن الشيخ عبد الفتاح إسماعيل وعلي عشماوي اختفيا تماما .. وبهذا انقطع الخيط الثالث
فاحضروا زوج بنت الشيخ محمد عبد المقصود .. وكان باحث دكتوراه في الشريعة وهو الدكتور عبد الفتاح فايد(1) ودارت رحى التعذيب .. ولكن كما يقول المثل العربي " ليس كل مرّة تسلم الجرة " .. فبعد تعذيب كبير واستنطاقه عن كل شيء دلهم على مجموعة مصر الجديدة الذين كان لهم صلة بالشيخ عبد الفتاح إسماعيل وهم ( آنذاك ) محمود فخري ... طالب بكلية التجارة محمود عزت ... طالب بكلية الطب جامعة عين شمس مجدي عبد الحق ... طالب بكلية الطب جامعة عين شمس وأخويه صلاح عبد الحق ... طالب بكلية الطب جامعة عين شمس فتحي عبد الحق ... طالب بالكلية الحربية ( سنة ثالثة ) وفي جو التعذيب الرهيب هذا .. بدأ ( محمود فخري ) طالب كلية التجارة فاعترف على علي عشماوي , أحمد عبد المجيد عبد السميع ,عبد الفتاح إسماعيل .. أعضاء مجلس القيادة كما اعترف على وجود شقة في امبابة ـ محافظة الجيزة ـ يسكنها باحث بالمركز القومي للبحوث حاصل على الماجستير اسمه مرسي مصطفى مرسي . وكانت هذه الشقة هي الصيد الثمين ... وذهبوا إلى شقة مرسي مصطفى مرسي (1) ، وأعدوا بها كمينا وقبضوا منها على قيادة التنظيم كلها ( عدا إخوان الأسكندرية ) وهم على عبده عشماوى ,وأحمد عبد المجيد عبد السميع وعبد الفتاح إسماعيل , و صبري عرفة الكومي , و مبارك عبد العظيم عياد . وهؤلاء كانوا ـ كما علمت حينذاك ـ قد اتفقوا على أن يجتمعوا هناك في شقة مرسي مصطفى مرسي لكي يتدارسوا الأمر ، فقبضوا عليهم جميعا .. وبهذا انكشف التنظيم وتوالى القبض على كل من يحضر إلى شقة مرسي مصطفى مرسي . وكان علي عشماوي أول من قبضوا عليه .. ويحكى علي عشماوي أساليب تعذيبه فيقول في مذكراته(2) رغم أنه أخف الإخوان تعذيبا. " بدأت حفلة التعذيب كما كانوا يسمونها ـ استمرت حوالي عشر ساعات متصلة . بدأت ـ كما قلت ـ بأن طرحوني أرضا . ثم مزقوا ملابسي , وأوثقوا يديّ ووضعوهما مع قدميّ ووضعوا بينهما " ماسورة " حديد . ثم علقوهما فوق كرسيين , فصرت معلقا ـ رأسي اسفل , وقدماي ويداي مربوطتان بالحديدة المشدودة على الكرسيين . بدأ حاملو الكرابيج الثلاثة : يضربون فوق قدمي بثلاثة كرابيج في أيديهم . استمر الضرب نصف ساعة كاملة تقريبا , ثم أنزلوني , وقال لي شمس بدران " لقد اعترفوا عليك ونعلم أنك أنت الجوكر " طلب منى أن اعترف , قلت له : لا أعلم شيئا . علقوني مرة أخرى وبدأوا يضربوني من جديد . ظل الحال على هذا المنوال أربع أو خمس ساعات . ثم فكوا يديّ وأجلسوني على كرسي . وأحضروا لي فنجانا من القهوة . بدأ جلال الديب ـ نائب الأحكام ـ يحدثني من ورقة في يده فيها بعض مواد القانون . كانوا يعرضونها على كل من يدخل هذه الغرفة كإحدى وسائل التأثير عليه حتى يعترف بسرعة . كانت إحدى مواد القانون تبين أن من ساعد السلطات في القبض على التنظيمات يقدم كشاهد , ويعفى من العقوبة أو شيء من هذا القبيل . الحقيقة أننا كنا قد درسنا هذا الأسلوب داخل الجماعة وعلمنا جيدا أنها إحدى وسائل التحقيقات وأنها مسألة غير جادة ومع هذا فقد قلت لهم : إنني لا أعرف شيئا . ولو كنت أعلم شيئا لقلته لكم . علقوني مرة أخرى , وتجدد الضرب حوالي ساعة . ثم أنزلوني . ليعرضوا علىّ الأمر من جديد لأجيبهم بالإجابة نفسها .. ويعلقوني مرة ثالثة , وظلوا يضربونني حتى فارقت الوعي ولا أدرى كم من الوقت ظللت مفارقا الوعي لكنى وجدت نفسي وهم يحاولون إعادتي إلى رشدي مرة أخرى وقد أعطوني " ماء وسكر " حتى استعيد حيويتي بعض الشيء ليداوموا تعذيبي لأنهم ــ على ما يبدو وكما قال شمس بدران ـ كانوا في سباق مع الزمن لأن يوقفوا تنفيذ أي من العمليات ضد الدولة . علقوني مرة أخرى ـ بعد أن أفقت ـ وبدأ الضرب بالكرابيج . كنت قد بدأت أحس بالضعف وبعدم سيطرتي على عضلات جسدي . في هذه اللحظة ـ إذ بشخص طويل أبيض وذي شوارب ضخمة وشعر أشيب يدخل الغرفة . رأيت شمس بدران يقول له : تفضل يا باشا .. وقال لي شمس بدران : إن لم تعترف فأن الباشا سوف يتكفل بك . واقترب " الباشا " - وأنا معلق ـ ووضع إصبعيه على حنجرتي واخذ يضغط ببطء وفن ـ وكأنما هو أستاذ في مهنته ـ علمت بعد ذلك أنه " حمزة البسيوني " الشهير , ظل يضغط على حنجرتي حتى كنت بين الإغماءة والإفاقة ثم يتركني حتى أفيق وأتنفس , ثم يضغط مرة أخرى . إنه فن مدروس كان يمارسه بشدة وبفن وقدرة. ثم قالوا لي : اعترف . قلت : لا أدرى شيئا .. فقال لهم : ابعدوا عنى وأعطوني كرباجا واحدا , وسوف أجعله يركع ويعترف بكل ما نريد . وبدأ يضربني . كان يعمل على أن تأتى ضربته على إحدى .. الخصيتين .. بطرف الكرباج . وكان لا يخطئها مرة . ظل على هذا الحال ما لا يقل ولا يزيد على ربع ساعة . بعدها فقدت السيطرة على كل شيء في جسدي . انهار جسمي انهيارا كاملا . لم أستطع أن أحرك شيئا . ولا عضلة من عضلات جسمي أحسست أن عقلي مشلول أنزلوني وأنا في هذه الحال . لا أدرى ماذا أقول . كنت أسمع حديثهم وكأنه آت من بعيد . لم أكن أعي ما يخرج من فمي أو ما هي الردود التي كنت أرد بها عليهم . لم أكن أحس هل أنا فاقد الوعي أو متيقظ . لكنى كنت ـ وهذا ما أذكره جيدا ـ فاقد السيطرة على كل عضلات جسمي حتى إنني أستحي أن أقول ما حدث لي بعد ذلك . قلت لهم : إنني سوف اعترف على مكان السلاح حتى لا يستخدم وتكون المذبحة التي توعد بها شمس بدران لجميع الاخوة الموجودين في السجن إن وقع أي حادث في الخارج . وأكون أنا مسئولا عنها .. فإنني لا أحتمل مثل هذا العبء النفسي . ولم يكن السلاح بالكثير , ولكنه كان في مكان واحد في شقة المطرية ـ وجزء يسير منه في شقة دير الملاك عند الأخ ممدوح الديري . أعطوني كأسا من الليمون بها الكثير من السكر . شربتها وتمالكت نفسي وبدأت أحس بعودة الدورة الدموية إلى مكانها . كانت ملابسي ممزقة , فأحضروا لي " سترة " مما يلبسه الجند . لبستها . واحضروا سيارة . وذهب معي المقدم نور الدين عفيفي والرائد محيي العشماوى واتجهنا إلى المطرية فوجدوا السلاح والمفرقعات . ثم ذهبنا إلى شقة " ممدوح الديري " فوجدوا ما فيها وعدنا مرة ثانية إلى السجن الحربي " انتهى كلام على عشماوى
ثالثا : اعترافات علي عشماوي- انهار علي عشماوي انهيار كاملا واعترف على أماكن الأسلحة كما يسميها علي عشماوي والتي كانت المكسب الأساسي للقضية والتي دعمت موقف شمس بدران اعترف علي عشماوي على أكثر من خمسمائة اسم ( ويبالغ البعض فيقول أنهم حوالي ألف ) أسماءهم .. عناوينهم .. وظائفهم .. موقعهم من التنظيم ...إن علي عشماوي كما يجيء في مذكراته أنه كان في أيامه الأخيرة منهارا تماما .. فلم يتحمل ( غلوة ) .. ففي عدة ساعات كان قد اعترف على كل شيء والحقيقة أنهم ساوموه وقبل المساومة وباع إخوانه ودعوته . - خشي علي عشماوي أن يحدث عندهم شك ولو بنسبة واحد في المليون .. فحكى كمّا هائلا من السفاسف والأشياء التافهة ـ كما يعتقد ـ ولكن أصحابها عذبوا عليها عذابا مريرا... - حصل علي عشماوي على وعد بعدم إعدامه وكان هذا الاعتراف الشديد والتفصيلي هو ثمن بقاء رقبته على جسمه فلم يترك شاردة ولا واردة .. ولا يدرى أنه بذلك حرم من الشهادة في سبيل الله . - كان علي عشماوي يتمتع بذاكرة أقوى من ذاكرة كومبيوتر هذا الزمان .. مما أزم الموقف بينه وبين كثير من الإخوان ...لقد وضعوا علي عشماوي في عنبر ( 4 ) وكان مخصصا للنساء فقط حتى لا يتمكن أحد من الاتصال به أو التأثير عليه . - ما كتبه علي عشماوي في مذكراته فيه بعض المغالطات كانت تؤذى الإخوان كثيرا في التحقيقات .. فهم يتتبعون أي شيء تافه يقوله علي عشماوي مستخدمين التعذيب البشع حتى يتطابق كلام الأخ مع كلام علي عشماوي .. أو الموت ..إن علي عشماوي هو الذي اعترف على الأخ إسماعيل الفيومي الذي كان يعمل في الحرس الجمهوري في حراسة الرئيس عبد الناصر عكس ما قاله علي عشماوي في مذكراته .. قال علي عشماوي هذا كي يبرهن على إخلاصه الشديد في الاعترافات .. وهذه من رحمات الله .. بالرغم من ضيقنا الشديد من ذلك في حينه إلا أن انهيار علي عشماوي واعترافه السريع علي إسماعيل الفيومي كان سببا في عدم تعرض كل أفراد التنظيم لمذبحة بشعة داخل السجن الحربي .. فلو قتل عبد الناصر برصاص إسماعيل الفيومي لمات في مقابله عشرة آلاف أخ على الأقل .. إذ أن رأى المشير عامر آنذاك كما كان يقول بالحرف الواحد .. هذا الشعب المصري شعب طيب مات منه آلاف مؤلفة في حرب اليمن التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل .. بالرغم من ذلك لم يتكلم أحد , ولم يعترض أحد سوى فرد واحد (1) .. وألح المشير حينذاك على الحكومة أن تقوم بقتل من في السجن الحربي من الإخوان المسلمين وعددهم حوالي ألفين .. وسوف يصفق الشعب المصري لعبد الناصر على قتلهم وأخرج الإتحاد الإشتراكي (1) مظاهرات تجوب مصر كلها وتهتف " قتّل قتّل يا جمال .. دبّح .. دبّح يا جمال " هذا كان رأى المشير عبد الحكيم عامر .. ولكن الله أخذه سريعا بل وبأيدي رجال عبد الناصر كما تحكى عائلته التي تنفي أنه انتحر " - اعترف علي عشماوي على وجود أسلحة عند الأخ / ال[[سيد البرديني ]] شقيق الشهيد عبد الحميد البرديني وأنها من بقايا الأسلحة التي كانت في حوزة الإخوان قبل عام ( 1954 ) .. وذاق ال[[سيد البرديني ]] العذاب أشكالا وألوانا في السجن الحربي .. ولم يعثروا عنده على أي شيء .. وتعرض سيد البرديني للموت أثناء التعذيب عدة مرات . - كذلك اتهم علي عشماوي بعضا من إخوان ( 1954 ) الذين كانوا في السجون وأيدوا الحكومة وخرجوا من السجن اتهمهم علي عشماوي بأنهم كانت عندهم أسلحة من بقايا ( 1954 ) وهؤلاء ذاقوا أيضا أصنافا بشعة من العذاب لمدة استمرت أربعة الشهر بل أكثر قليلا .. ولم يجدوا عندهم أي شيء وأذكر منهم الاخوة المهندس / صلاح العطار ( حكم عليه بالإعدام في 1954 في قضية شبرا وخفف إلى الأشغال الشاقة المؤبدة وأيّد وافرج عنه في 1963 م وبعدها بسنتين قبضوا عليه في ( 1965 ) وعذبوه عذابا أليما . ثم أفرجوا عنه). السيد الحسيسي مزارع من عرب جهينة قليوبية ( بلد الأستاذ المرشد حسن الهضيبى ) كان محكوما عليه بخمسة عشر عاما وافرج عنه قبل ( 65 ) إسماعيل الهضيبي ( وهو من عائلة الهضيبى بعرب جهينة وهو غير إسماعيل حسن الهضيبى نجل فضيلة المرشد حسن الهضيبى ) وأربعة آخرين لا أذكرهم الآن . –كانت حيازة السلاح هي أكبر سبب للتعذيب ولو حتى الموت ولقد تم تعذيب الحاج حسني عبد الباقي المليحي عضو مكتب الإرشاد تعذيبا بشعا أشرف فيه على الهلاك عدة مرات ولكن الله نجاه وعاش بعدها ثلاثين عاما عضوا بمكتب الإرشاد رحمه الله رحمة واسعة .. كان ذلك في سجن ( أبو زعبل ) . – كان تجار السلاح من أكثر الناس تعرضا للتعذيب ومنهم : - محمد السيد الحلوجي من شربين وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات - أحمد محمد المراسى من بسيون غربية وحكم عليه بالسجن سنة - عبد الخالق يوسف الغرباوي من شربين وحكم عليه بالسجن سنتين - ومنهم نصر محمد المكاوي من كرداسة - ومنهم أيضا محمود السيد السنوسي من كرداسة –ومن الذين اتهمهم بحيازة أسلحة عائلة " الخشنية "(1)من الإسماعلية وهم الأستاذ / عبد الحكيم الخشنية وكيل وزارة ورئيس هيئة الإصلاح الزراعي , محمد السيد الخشنية عضو مجلس محلى وعضو لجنة العشرين في الإتحاد الإشتراكي بالإسماعلية (2) ومعهم ثالث وهو مزارع وشقيق عبد الحكيم الخشنية واسمه محمد الخشنية أيضا .. وهؤلاء أودعوا جميعا في زنازين الكلاب لمدة ثلاثة أسابيع .. حيث كان كل واحد منهم يجلس في زنزانة صغيرة ( 2م × 4م ) بها حوالى سبعة كلاب متوحشة ويعيش بينهم ليل ونهار.وكانت تهم الأستاذ عبد الحكيم الخشنية أنه من إخوان 54 وله عزبة مجاورة لعزبة الأخ اللواء معروف الخضري ـ القيادي الإخواني الكبير وأنه بحوزته أسلحة ... أما تهمة الأسلحة فلقد أشيع عنه آنذاك أنها تهمة لفّقها له ضابط في مكتب صلاح نصر مدير المخابرات وهذا الضابط كانت بينه وبين عبد الحكيم الخشنية مشاحنات عائلية ..ولقد ذاقوا بسببها العذاب أشكالا وألوانا ولم يثبت عليهم أي شيء ولقد عاش معي أصغرهم وهو محمد السيد الخشنية(1) في نفس الزنزانة ( 28 ) بالدور الأرضي بالسجن الكبير في السجن الحربي عدة شهور حتى فرّج الله كربه ..كذلك عاش معي المهندس صلاح العطار (2) عدة شهور ذاق أيامها من العذاب النفسي من الحكومة الشيء الكثير حتى تم ترحيله إلى سجن ( أبو زعبل ) .
رابعا : أسلحة علي عشماويكان المسلسل السينمائي في خيال علي عشماوي .. أسلحة قليلة .. ثم الهجوم على قسم شرطة .. واخذ أسلحته .. ثم الذهاب بهذه الأسلحة الكثيرة إلى أي مكان .. هذا الخيال الساذج اقنع به علي عشماوي الأخ فاروق المنشاوي (3) ومن عجب أن التاريخ يعيد نفسه .. فلقد قامت قضية الفنية العسكرية ( يونيو 1974 ) على نفس المسلسل الخيالي .. الاستيلاء على أسلحة عساكر الحراسة .. ثم التوجه إلى رئاسة الجمهورية , وقلب نظام الحكم .. !!! أما أسلحة علي عشماوي فكانت : شنطة أسلحة بها عدة مسدسات , وثلاثة مدافع رشاشة تقريبا يمر بها علي عشماوي على أنحاء الجمهورية .. وكل من رآها وتعلم الفك والتركيب صار ـ في ذهنه ـ متدربا على السلاح ومن رأى هذه الشنطة حكم عليه بعشر سنوات أشغال شاقة ومن فتحها فحكم عليه بخمسة عشر عاما .. أما من أمسكها بيده وتعلم الفك والتركيب فهو إرهابي كبير وخطير وعقوبته الأشغال الشاقة المؤبدة .. لا أقل من ذلك . وهذه الأسلحة اشتراها علي عشماوي من بعض التجار السابق ذكرهم - واتفق مع البعض الآخر على توريد قطع أخرى ولكنه لم ينفذ الاتفاق وسبعون خنجرا صنعها علي عشماوي في السبتية .. أقل حدة من أي سكين بصل كبيرة في أي شقة لمتزوج حديثا . - تم تصنيع عدة زجاجات مولوتوف لإشعال بعض الحرائق فهي مادة حارقة وليست مفرقعات مؤثرة .. صنعها في زجاجات كولونيا ... وزعمت الحكومة أن هذه الأشياء تكفى لقلب نظام الحكم وأعدم وقتل بسببها أفاضل الإخوان , واعتقل فوق العشرين ألفا .. وكأنها كانت مجرد مبررات للحكومة لتنفيذ خطة ضرب الإخوان التي أعدوها سلفا . - كان للإخوان رأى واضح تم تكوينه من خلال عدة ثوابت هي اتفاق الإخوان في الاجتماع الذي تم في الزيتون في منزل الشيخ نصر عبد الفتاح وحضره الشيخ عبد المتعال الجابري الذي أقنع جميع الحاضرين بعدم جدوى اغتيال عبد الناصر فسوف يأتي بعده من هو أسوأ منه. - تعليمات الشهيد سيد قطب الأخيرة لعلي عشماوي بأن الاعتقال خير لنا من أي عمل عشوائي .. فلقد كان الأستاذ سيد قطب مقتنعا بعدم جدوى أي عمل طائش . - لم يكلف علي عشماوي نفسه بأن يأخذ رأى الشهيد محمد هواش في هذه الأحداث بعد اعتقال سيد قطب . ومحمد هواش كما هو معروف خبير في الحركة والعمل الإسلامي . - طلب الشهيد سيد قطب من علي عشماوي إلغاء صفقة السلاح التي كان علي عشماوي طلبها من الإخوان في السعودية لأن طريقها غير مأمون - تعليمات فضيلة المرشد حسن الهضيبى بعدم زيادة أعداد الإخوان الشباب وعدم ضم أفراد جدد , والاكتفاء مؤقتا بتربية هؤلاء الشباب الرجال تربية إسلامية . - كل هذه الحقائق تجاهلها علي عشماوي في مذكراته .. ولم يعبأ بها شمس بدران وتم تنفيذ الخطة الإجرامية لضرب الإخوان المسلمين في عام ( 1965 ) .. وقتل من قتل سواء على أعواد المشانق أو بالتعذيب في السجون فيما يسمى زورا " التحقيقات "
خامسا : ورقة محمود فخريطالب بكلية تجارة عين شمس .. صاحب خيال واسع بلا حدود فليس للخيال حدود .. طالما هو خيال .. وبحور الخيال واسعة يرتادها الناس بلا رقيب .. ولا حرج في ذلك , لكن خيال الأخ محمود طالب كلية التجارة ترجمة كتابة على ورق , صار وثيقة إدانة , أحدثت ضجة كبرى لكن من حسن حظ الإخوان أن الناس لم يصدقوا كلام الحكومة آنذاك , ليس تعاطفا مع الإخوان , ولكن كرها للحكومة .. حكومة الثورة , وحكومة قوانين الطوارئ والتعذيب وحكومة السجن الحربي ...تخيل محمود قيام دولة إسلامية فورا , وجلس بخيال الأديب الشاب يكتب ما ينبغي عمله فيكتب يقول : لابد من وقف انحرافات الإذاعة والتليفزيون...لابد من منع الأغاني الخليعة فهي سبب انحراف الشباب والفتيات .. ثم سرد قائمة من الممنوعات التي تخيلها لوقف نزيف أغاني الحب والهيام .. وأغاني الدعوات إلى الجنس الفاضح ...لابد من إجراء قوى لوقف العرى في الكلمات .. والعرى الفاضح في الملابس سواء في الإذاعة أو التليفزيون أو السينما ..ولعل محمود بالغ في الإجراءات .. التي كتبها في ورقة كراسة أو كشكول مدرسة .. كمجرد خواطر لشاب متدين , يرى أن الداء يكمن في نشر المجون والخلاعة , وأن تكون حياة الشباب كلها حب وهيام , وجنس وخلاعة .. فهو يريد أمة جادة تخرج هذه البلد من هذه الهاوية السحيقة .. ولعل له بعض الحق في تشخيص الداء .. ولكنه لم يكن موفقا في وصف الدواء ... وتلقفت الحكومة هذه الورقة الساذجة .. التي هي مجرد أحلام لشاب متدين .. ونشرتها على إنها خطة عمل لجماعة الإخوان المسلمين .. وزادوا عليها .. ونسجوا عليها قصصا طويلة وصدرت مانشيتات طويلة وعريضة في الصحافة الجاهزة دائما لترديد ما يقوله الجلادون...كتبت الصحافة .. الإخوان يريدون قتل الممثلات ...., الإخوان يخططون لاغتيال أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد , وعبد الحليم , وشادية , وصباح وهند رستم .. وغيرهم كثير. وصدقت الصحافة نفسها . ولم يصدقها الناس . وأذاعت الإذاعة والتليفزيون أحاديث للفنانين والفنانات تناقش هذه الأفكار الظلامية .. التي ستحرم الناس من الأغاني والحب والهيام والعشق والجنس والغرام . وظنت الحكومة وشمس بدران أنهم أحدثوا ضجة كبرى , ولكن أحدا لم يصدقهم .. بل تهامس كثير من المتدينين الذين يرون الهاوية الأخلاقية السحيقة التي يجرى إعدادها سرعة مذهلة رأى هؤلاء المتدينون أن محمود فخري على حق .. وأن الإخوان ـ إن كان هذا رأيهم ـ فهم على حق .. !!.. وليتهم فعلوا ..فأغلب الشعب مولع بمشاهدة و متابعة الأحداث إذا كان لا يشارك فيها ولا يصل إليه غبارها و شعار الكثيرين " اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " بل إن كثيرا من زملائي في العمل حينما يضيق بهم الحال وتتأزم الأمور يأتون لي سائلين... لماذا لا تفعلون شيئا ؟! .. فأقول لهم : ضعوا أيديكم في أيدينا نفعل شيئا ... فيكون الرد: لا .. إن مكسبكم مضمون ..إن متم فأنتم شهداء وإن انتصرتم فأنتم الحكام ..!! فأقول لهم : إن كان المكسب مضمونا فلم لا تشاركونا هذه المغانم وتلك المكاسب..فلا أحرى بعد ذلك جوابا سوى"اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.".وصدق الله العظيم . السجن الحربي : في عام 1993 م كنت عضوا بالمجلس الأعلى لنقابة المهندسين .. حيث وجهت إلينا دعوة لزيارة الصالة المغطاة في مدينة نصر بالقاهرة .. وجه الدعوة المهندس إسماعيل عثمان رئيس مجلس إدارة المقاولون العرب آنذاك وكنت ضمن وفد المدعوين .. ونزلنا ضيوف على ( المقاولون العرب ) . الذين أذاعوا علينا شريطا حمل مفاجأة سارة . هذا المكان .. مكان الصالة المغطاة .. هو نفس السجن الحربي .. باستيل مصر .. الذي طالما سكنه الإخوان المسلمون سنيين عددا. وبدأ الفيلم الذي تم تصويره .. يصور البلدوزرات وهي تهدم وتحكي قصة وتاريخ السجن الحربي .. وكنت أشاهد الفيلم ولا أكاد اصدق عيناي .. ولا أذناي .. هذه هي الزنزانة التي عشت فيها .. هذا هو السجن الحربي .. ولقد مدّ الله في عمري حتى رأيته يهدم كله .. وأحضر أنا زائرا ضمن وفد المجلس الأعلى لنقابة المهندسين الذي يمثل مصر كلها .. وعشت حتى أقر الله عيني بهدم السجن الحربي .. فمكانه هو " الصالة المغطاة في مدينة نصر " ومن تمام شفاء صدور المؤمنين أن دعانا المهندس إسماعيل عثمان لتناول طعام الغذاء في استراحة ( المشير عامر )(1) .. الذي كان يطالب بمذبحة لنا في عام 1965م .. فذبحه رجال الحكومة بعدها بعامين .. وها نحن نعيش حتى نتناول طعام الغذاء في استراحته وعلى موائده .. سبحان الله ما اقصر رحلة الحياة .. هل كان المشير عامر يحلم بهذا ؟! - وقفت أمام البوابة السوداء .. وهي اسم على مسمى .. مكتوب عليها بخط كبير " السجون الحربية " تأديب وتهذيب و إصلاح .. ومساحة كبيرة محاطة بأسوار عالية ارتفاعها حوالي أربعة أمتار .. وعلى أركان هذه الأسوار أبراج مراقبة عالية يقف فيها عساكر للحراسة ليل ونهار .. يتم تغييرهم كل ساعتين وبداخل السجن الحربي .. عدة مبان : السجن الكبير ( اكبر السجون مساحة به 258 زنزانة في ثلاثة أدوار ) سجن رقم ( 1 ) ويسكنه عساكر السجن سجن رقم ( 2 ) ويسكنه عساكر السجن أيضا سجن رقم ( 3 ) وبه حوالي ستون زنزانة سجن رقم ( 4 ) وهو أقل من سجن ( 3 ) سجن رقم ( 5 ) وهو دور واحد لسكنى كبار المسؤولين الذين يحكم عليهم في قضايا تمس مستشفي صغير دور واحد به حوالي اثني عشر زنزانة .. ملحقة بالمستشفي يسكنها المرضى جدا والذين يشرفون على الموت ( وكانت تسمى الشفخانة باللغة التركية ) - به مكاتب للضباط والمساعدين والشاويشية لإدارة شئون السجن - به مطبخ وملحق به عدة مخازن - به مكاتب للتحقيق حوالي ثمانية مكاتب وأمام المكاتب " فسقية بها نافورة مياه " بجوار المكاتب حديقة بها كل أنواع الأشجار من خيرات الله .. والزهور والورود والرياحين .. وبها حظائر لتربية كافة أنواع الطيور والدواجن .. من فراخ بلدي وبط وأوز وأبراج صغيرة للحمام .. كما أن بها حظائر لتربية الأغنام والماشية .. وهناك عساكر متفرغون للعمل في هذه الحظائر والحدائق وغالبا ما كان يختلس طعام المسجونين ويوضع لهذه الطيور والحيوانات علفا وغذاء لها - مساحة السجن الحربي ( هي مساحة الصالة المغطاة الآن ) وهي حوالي ثلاثون فدانا - مساحة الزنزانة 160سم × 350سم وارتفاعها أربعة أمتار وبها شباك صغير ( 50سم × 50سم ) من الحديد . باب الزنزانة مصمت ومصنوع من الحديد وبه فتحة دائرية قطرها 5سم لينظر منها العسكري من الخارج ليشاهد المعتقل من الداخل .. أما لو نظر المعتقل من الداخل في الفتحة ليشاهد ما هو بفناء السجن العسكري فالويل .. والعذاب الرهيب لهذا المعتقل . - كان السجن الحربي مكانا لتنفيذ الأحكام على العساكر الذين يرتكبون مخالفات أو جنح في الجيش تقل عن ثلاث سنوات .. أما من يحكم عليه من العساكر بثلاث سنوات أو أكثر فإنه يذهب إلى السجون المدنية وظل هذا حال السجن الحربي حتى عام 1953م .. حيث قام عبد الناصر بتعيين اللواء حمزة البسيوني مديرا للسجن الحربي .. ولقد قام حمزة البسيوني بتجهيز السجن تجهيزا جادا لإعتقالات كبيرة لعله لا يدرى عنها شيئا . - أما حمزة البسيوني فهو شخصية مريضة بمرض انفصام الشخصية فهو كالحمل الوديع أحيانا .. ثم هو بعد لحظة قلبه كالحجارة أو اشد قسوة .. يسعد سعادة بالغة وهو يعذب الناس .. ويشعر بالفرح حين يرى الدماء تسيل من الضحية .. ويسعد بأصوات الصراخ والأنين كأنه يستمع إلى موسيقى حالمة .. ثم هو سعيد بتخصصه هذا . وهو التعذيب .. فهو يرى أنه إنسان متخصص في مهنة يجيدها إجادة تامة .. وهو فعلا كذلك .. ولعله درس بعض أساليب التعذيب المختلفة غير التقليدية .. وإن كان في الأساليب التقليدية الكفاية. ولقد كان رجال شمس بدران ينادونه شخصيا حينما لا تجدي أساليب التعذيب التقليدية(1) ويكونون في حاجة إلى اعتراف سريع في أمر ما ... وأتذكر أن أحد العالمين ببواطن الأمور ( ولكنى لا أتذكر اسمه الآن ) قال لي : إن حمزة البسيوني سافر في بعثة تدريبية على فنون التعذيب وكذلك ذكر صلاح نصر مدير مخابرات عبد الناصر أنواعا ووسائل مختلفة للتعذيب في كتبه(2) لذلك جاء القرآن الكريم منبها أمثال هؤلاء في قوله تعالى " والله أشد بأسا وأشد تنكيلا "(3)
تنوعت وسائل التعذيب في السجن الحربي في قضية ( 65 ) أي عام 1965 تبعا لطبيعة الاعترافات المطلوبة ودرجة سرعتها .. كذلك اختلفت وسائل التعذيب من شخص إلى آخر .. وتنقسم هذه الوسائل إلى : تعذيب نفسي تعذيب بدني تعذيب روتيني
هو محاولة إلحاق اكبر قدر من الإهانة الشخصية بالإنسان المطلوب تعذيبه لعله ينهار سريعا ويكفيهم مؤنة التعذيب البدني ووسائله كثيرة منها : الألفاظ البذيئة والمهينة التي لا حدود لها في الإهانة وكأنك تشعر أن هذه الألفاظ روائح كريهة تخرج من المجارى وان فم هذه الشخصية التي تقول هذه الألفاظ عبارة عن حجرة تفتيش مجارى ( باكابورت ) ثم فتحه فجأة فانبعثت منه هذه الروائح الكريهة .. وهي تلك الألفاظ البذيئة التي تطعن في شرف الشخص أو شرف زوجته أو أمه أو أبيه بصورة في غاية الوقاحة والبذاءة والصفاقة التي لم يتعود عليها الشخص وخصوصا المتدين منهم وهذه تتحول إلى روتين تقليدي في السجن فالألفاظ البذيئة هي الوجبة التي تكرر عشرات المرات في اليوم .. وطالما رآك الضابط أو العسكري الذي يقوم بالتعذيب فهو مدرب على كم هائل من هذه الألفاظ التي كثيرا ما لا تخطر على بالك . الإهانة العملية : ومنها .. وهذه تتمثل في عدة إجراءات تقليدية في السجن الحربي .. عند الاستقبال يتم تمزيق الملابس فور وصولك إلى مكاتب التحقيق فيمزق القميص .. والبنطلون وكثيرا ما يقف المرء بالملابس الداخلية فقط أو حتى يخلع الفانلة ويبقى بما يستر العورتين .. وإذا أريد مزيد من التعذيب فأحيانا يقف المرء عاريا كما ولدته أمه . ومنها ... خلع الرتب العسكرية إن كان ضابطا. ومنها ... المشي حافي القدمين طوال فترة التعذيب فممنوع لبس الحذاء أو الشبشب . ومنها ... الضرب على القفا .. لأن هذا الأسلوب رمز الإهانة عند الشعوب . ومنها ... حلق شعر الرأس كله أو حلق جهة من اللحية وترك الجهة الأخرى بغية المثلة أو التمثيل بالضحية .. وأحيانا نتف اللحية بالملقاط أو الكماشة . ومنها ... حلق نصف الشارب وترك النصف الآخر . وأحيانا الحرق بالنار لجهة من اللحية وترك الجهة الأخرى . ومنها محاولة الإهانة جنسيا سواء للذكر أو الأنثى أو الاعتداء الجنسي .. ولقد حاولوا هذا مع الحاجة زينب الغزالي فأمسكت برقبة العسكري وحاولت خنقه وأعانها الله عليه حتى خرج الزبد من فمه . وهناك وسيلة اتبعها الصاغ رياض مع أحد الاخوة الذين كانوا يقيمون عند مكاتب التحقيق ويعذبون ليل نهار .. أن أعطاه عنقودا من العنب ليأكله الأخ .. فمجرد أن قال الأخ " بسم الله الرحمن الرحيم " وأكل حبة واحدة فتح هذا الضابط بنطلونه من أسفل وتبول على العنب وعلى الأخ نفسه حتى أغرق العنب وملابس ووجه الأخ بالبول .. ومنها ما فعله أبو جهل قديما .. بالسيدة سمية أم عمار بن ياسر من قتلها بهذه الوسيلة المهينة ومنها اعتقال الزوجات .. أو البنات .. أو الأمهات .. أو كلهن جميعا. وضربهن وإهاناتهن ، وكان هذا أشد ما يؤلم الإنسان ويحطم نفسيته تحطيما وحدث أن عذبوا ابنة أحد الإخوان في حجرة مجاورة وظلت تصرخ وتصرخ حتى انهارت عزيمة والدها انهيارا شديدا . ومن المبكيات المضحكات أن كان فيها ما يضحك أن أحدا من الإخوان امتنع عن الاعتراف رغم التعذيب الشديد .. فأحضروا ولده .. وبدءوا تعذيب بشع للابن .. وافهموا ولده انهم يعذبونه لأن أباه لا يريد أن يعترف ولا يريد أن يتكلم .. ولما اشتد التعذيب بالسياط على الولد .. قال لأبيه وهو يصرخ : يا با (1) ( يا أبي ) اعترف .. اكلم يا با ( يا أبي ) يا با اتكلم وصبر الأب باكيا محتسبا وانحدرت دموعه واشتد التعذيب على الابن فصاح الابن : يا با .. يا ابن الكلب .. يا با يا ابن الكلب .. اتكلم (2) .. اتكلم ، وظل الولد الذي لم يتجاوز خمسة عشر ربيعا يصرخ بهذه الشتائم لأبيه من شدة التعذيب ... والحاضرون من الإخوان يستمعون ويشاهدون هذا .. وهم بين شخص لم يتزوج فهو إما يبكي أو يضحك .. ضحك كالبكاء .. أو تجمدت دموعه من كثرة التعذيب والإهانات فعبّر عن الألم بالضحك. وأما شخص له أولاد .. فهو ينتظر أن يحضروا فلذة كبده ويعذبوه هكذا .. قاتل الله الظالمين .. أنى يؤفكون . وأنت في وسط هذا كله يمكنك أن تفهم السبب الحقيقي في أن الله عز وجل اعد لهؤلاء الظالمين عذابا مهينا ، ولذا تكرر ذكر العذاب المهين في القرآن الكريم .. فلقد ورد وصف العذاب " عذاب مهين " في القرآن عشر مرات ، مرفوع بالضمة وتكرر وصف العذاب المهين منصوبا بالفتحة " عذابا مهينا " أربع مرات . فالقرآن الكريم يؤكد أربعة عشر مرة على العذاب المهين الذي ينتظر أمثال هؤلاء .. جزاء لما قدموه للمسلمين من إهانات نفسية ومادية . ولكن ليس بألفاظهم القبيحة هذه .. ولكن في النار وسائل أكثر إهانة من هذه منها قول أهل النار " ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك " (1) يقول بعض المفسرين أن بين ندائهم وردّ مالك ـ خازن النار ـ عليهم مقدار ألف سنة إهمالا لهم وتحقيرا لشأنهم .. فبعد ألف سنة يرد عليهم مالك خازن النار " قال إنكم ماكثون . لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون " (2) كما كرر القرآن الكريم إهمال الله لهم يوم القيامة " ... ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم "(3) " ... أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله , ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم "(4) أما الأحاديث النبوية في العذاب المهين فكثيرة جدا ، منها على سبيل المثال فقط ، روى ابن وهب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر على صورة الناس , يعلوهم كل شيء من الصغار , يساقون حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له " بولس " , يسقون من عصارة أهل النار من طينة الخبال " أخرجه ابن المبارك(5) وفي رواية أخرى (1) " يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس ، يغشاهم الذل من كل مكان , يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس (2) تعلوهم نار الأنيار , يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال " وطينة الخبال : هي عرق اهل النار , وهي خمر جهنم أعدها الله لسكارى الدنيا يشربونها في جهنم يوم القيامة ثانيا التعذيب البدني : كان صلاح نصر مدير المخابرات قد ألّف كتابا من جزءين عن الحرب النفسية فيها كافة وسائل التعذيب المتبعة في أنحاء العالم وخص منها بالذكر الأساليب الصينية التي اتبعت مع الأسري الأمريكان وكذلك الأساليب الكورية والروسية وسرد كافة الأساليب ولكنه قال نتيجة .. وقص قصة ... أما النتيجة .. فإنه قال إن وسائل التعذيب هذه رغم بشاعتها فإنها كثيرا ما لا تنفع ولا تجدي مع أصحاب العقائد . أما القصة .. فانه تحدث عن أسير مهندس أمريكي تم أسره ثلاث سنوات في حرب كوريا في منتصف القرن الماضي .. هذا المهندس كان مهندسا معماريا وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات .. فكان يجمع أعواد الثقاب مع لبابة الخبز , واستطاع أن يصنع منهما " ماكيت " لعمارة عالية .. فكان يتسلى ويتذرع بالصبر الطويل .. واستغرق جمع أعواد الثقاب ولبابة الخبز والماء حوالي سنة كاملة وكان الماكيت يتهدم ويعيد بناءه عشرات المرات حتى تمكن في نهاية المدة من عمل هذا " الماكيت " لعمارة عالية من أدوار كثيرة .. هكذا تسلى هذا المهندس الأمريكي الأسير في سجون كوريا(1) ولقد قاموا في السجن الحربي بتطبيق كافة خبرات التعذيب البدني من أجل الاعتراف .. والتعذيب من أجل التشفي والانتقام في الإخوان المسلمين وأذكر منها بعض الأمثلة (2) الضرب بالكرباج ( السياط ) السوداني.. وهذا ( الكرباج ) ( السوط ) يتم وضعه في الزيت كي يصير لينا سهل الالتواء في يد الجلاد .. وفي عام ( 1954م ) كان المراد تعذيبه يخلع ملابسه عدا ما يستر العورة ويحتضن بيديه تمثالا يسمى " العروسة " ويعطى ظهره للجلادين الذين يجلدونه بالسوط ( الكرباج ) على كل أنحاء جسمه ابتداء من رقبته حتى رجليه .. ولقد رأيت بنفسي الأخ عباس عبد السميع ( من إخوان شبرا مصر ) رأيته عام ( 1968م ) بعد أربعة عشر عاما من التعذيب وظهره باقية عليها آثار التعذيب كأنها بالأمس القريب .. أما في عام ( 1965 ) فقد تغير أسلوب التعذيب من العروسة إلى الفلكة , فيها تضم اليدان والرجلان ويوثقان بحبل ويعلق الحبل على ماسورة حديدية فتتدلى الرأس والبدن إلى أسفل وترتفع اليدان والرجلان إلى أعلى ويتم الضرب على الرجلين واليدين بالسوط. وكثيرا ما يكونا شخصيين أو أربعة يتبادلون الضرب على الأخ المراد تعذيبه .. وعادة ما يصرخ الإنسان من شدة الألم فيضع أحد العساكر رجله بالحذاء في فمه حتى لا يزعجهم صراخه وكان هذا الأسلوب .. أسلوب وضع الحذاء في فم الشخص يتم في مكتب شمس بدران .. وشمس بيه .. !!- كما كانوا ينادونه - لا يحب سماع أصوات الصراخ. أما أسلوب التعذيب فهو الضرب أولا بدون أسئلة حتى تقول كل ما عندك .. فإن تطابق مع ما عندهم .. أو مع ما يريدونه من معلومات توقف الضرب وإلا استمر التعذيب .. بلا حدود .. ولقد كان مكتب الرائد رياض إبراهيم والرائد حسن كفافى أشد المكاتب تعذيبا للإخوان على الإطلاق .. ومعهم صول ( مساعد ) في الجيش اسمه محمد رجب . ... ولقد حدث أنه كان يحقق معي في مكتب شمس بدران .. وانتهى التعذيب والتحقيق .. وأوقفوا التعذيب بعد انتهاء التحقيق وجلست على الأرض أكتب اعترافاتي .. وكان مكتب الرائد رياض والضابط حسن كفافى خلف ظهري ونظرت إلى قسوة وبشاعة التعذيب فحمدت الله كثيرا أنني لست من إخوان " الشرقية " حيث كانوا يعذبون في مكتب " رياض وحسن كفافى " ..ورغم بشاعة التعذيب في كل المكاتب .. إلا أن هذا المكتب كان أبشعهم وأقساهم على الإطلاق بصورة واضحة للعيان . وفي ليلة من الليالي نادوا علىّ للتحقيق معي وإذا بي أجدني أمام مكتب " رياض وحسن كفافى " .. واستعذت بالله من هذا المكان .. وسألوني تعرف هذا الأخ؟ . فنظرت له وقلت : لا فأمروا بتعذيبي وأنا لا أعرفه فعلا .. فأيقنت أن الموت قادم لا محالة فسأظل أُضرب حتى أعرفه أو أموت .. وبسرعة صرخت قائلا : أنا لست من إخوان تنظيم الشرقية .. أنا من إخوان تنظيم الجيزة .. وفاجأت الجميع بالصدمة .. ولكنهم توقفوا عن التعذيب .. فبادرني حسن كفافى أو رياض ( أحدهما ) قائلا : كيف عرفت أن هنا تنظيم الزقازيق .. فأخبرتهم أنني كان وجهي للحائط أثناء التعذيب بجوار هذا المكتب وكنت أسمعهم يرددون أسماء مراكز وقرى الشرقية وأنا اعرفها لأن أمي من الشرقية !! .. فأوقفوا التعذيب وسألني ! ما اسمك بالكامل فقلت لهم أسمى الرباعي .. وهنا صاح أحد إخوان الشرقية ليس هذا الأخ هو المطلوب ...! فالمطلوب محاسب في جامعة الزقازيق اسمه الرباعي : محمد عبد العزيز عبد الله شاهين وهو يختلف عن أسمي في اسم الجد واسم العائلة .. وكانت عناية الله التي أنقذتني من الموت .. ولم اسلم من بعض الصفعات لأنهم لم يجدوا مبررا لتعذيبي وتم استدعاء ذلك الأخ المطلوب وأعادوني إلى الزنزانة .. وكانت ليلة عصيبة . الكلاب المدربة ويتم تعذيب الأخ بإصدار أوامر لهذه الكلاب المدربة لكي تغرز أنيابها في لحمه في رجليه وظهره وبطنه وتعضه عضا مؤلما والعسكري يمسك الكلاب المدربة بحبل .. ويتكرر عض الكلاب في منظر رعيب. المبيت مع الكلاب توضع سبعة كلاب في زنزانة صغيرة 160سم × 3.50متر ويظل الأخ يبيت مع الكلاب لمدة تصل إلى ثلاثة أسابيع وفي هذه الأيام بلياليها يتم تجويع الكلاب فتظل تصرخ .. فلا ينام الأخ ولا يأكل . وكلما قذفوا له رغيفا في اليوم التقطته الكلاب علاوة على طعامها .. أما الشراب فالماء تشرب منه الكلاب قبل الأخ .. فهل يشرب الأخ من ماء بعد شرب الكلاب .. أم لا؟ معادلة في غاية الصعوبة .. ولقد عذبوا بهذا الأسلوب كثيرا من الناس منهم .. فضيلة الشيخ محمد الأودن(1) .. أكبر علماء الحديث في مصر والعالم العربي في ذلك الحين . ومنهم الحاجة زينب الغزالي .... وغيرهما كثير ومنهم من سكن معي بعد سكناه مع الكلاب ثلاثة أسابيع وهو محمد عبد الحكيم الخشنية .. الذي لم يكن له ناقة ولا جمل في القضية سوى أن عمه من الإخوان .. ولما حضر إلينا بعد سكنى ثلاثة أسابيع مع الكلاب كانت رائحة ملابسه تفوح منها رائحة الكلاب بصورة لا تطاق .. كيف .. لا أدرى .. ولقد تحمل الأخ المهندس صلاح العطار تعذيبا من العساكر في مقابل غسل هذه الملابس نيابة عن هذا الرجل . الزنزانة رقم 9 وهي زنزانة مثل باقي الزنازين لكن لها سور يحيط بها ارتفاعه حوالي نصف متر .. وهي مملوء بالماء العطن وبعد التعذيب الشديد أن لم يعترف الأخ كما يريدون يتم وضعه بملابسه في هذه الزنزانة في الماء ويبيت فيها .. فإن نام غرق ومات .. وإن قعد بلغ الماء فاه .. وان قام واقفا فهو لا يستطيع الوقوف طوال الليل .. وهو يشرب من هذا الماء ويبول فيه .. وهناك عسكري واقف على باب الزنزانة من الخارج طوال الليل يقرع عليه الباب حتى لا ينام .. وان وقع مغشيا عليه أيقظه العسكري , وهكذا يظل يتعذب عدة أيام بهذه الوسيلة الشيطانية وهي من الوسائل الرهيبة التي تفقد الإنسان توازنه من كثرة الوقوف , وانعدام النوم , والرائحة العطنة , ومنع ماء الشرب والطعام .. ثم تلوث الجروح من هذه المياه . الدفن حيا هذه الوسيلة ذكرها الأستاذ / أحمد عبد المجيد في كتابه ( الإخوان وعبد الناصر ) ص ( 137 ) .. فكتب تحت عنوان مشهد مثير . " في إحدى ليالي سبتمبر 1965م . رأيت أحد الإخوان الذين يقومون بتعذيبه وفهمت منهم انه من العسكريين , وعلى صلة بالأخ الأستاذ أحمد عادل كمال (1) ويشرف على تعذيب هذا الأخ مدير السجن الحربي حمزة البسيوني , مساعدا في ذلك العميد (سعد زغلول عبد الكريم ) ولما لم تفلح معه وسائل التعذيب التقليدية أمر اللواء حمزة بإنزاله في حفرة خندق كانت قريبة , ودفنه حيا(1) , وبدأ الجنود في ردم الحفرة عليه وهو في داخلها , ولا أعلم ما الذي تم بعدها , حيث أخذت إلى الزنزانة قبل أن أرى باقي المشهد الحزين .
لا شك أن حبس حرية إنسان تعذيب بشع .. مجرد الحبس .. ناهيك عن وسائل التعذيب .. لكن التعذيب الروتيني معناه أن برنامج الحياة اليومي في السجن هو في حد ذاته تعذيب .. وهذه صورة من حياة يوم كامل في الزنزانة بدون تحقيقات أو ( فلكة ) أو كرباج ( سوط ) أو( كلاب ) أو زنزانة مياه : 1- في أول ليلة لي دخلت زنزانة ليس فيها أنوار طبعا .. ولكن شعاع بسيط يدخل خلسة من فتحة قطرها خمسة سنتيمترات في باب الزنزانة ... فإذا بي أرى جيوش " البق " .. تسرح وتمرح في الزنزانة , وأجهدت عيني طوال الليل في معركة لقتل البق .. وانتصر فيها البق بالتفوق العددي الرهيب وبعد فترة أعطوني بطانية فرشت على الأرض نصفها والتحفت بالنصف الباقي وأوهمت نفسي أنه لا يوجد بق حتى أستطيع النوم. 2- توجد قصرية من الكاوتش من بقايا أيام الإنجليز وهي عبارة عن إناء دائري مصنوع من الكاوتش السميك قطرها العلوي المفتوح حوالي 40سم وقطرها السفلي ( القاع ) حوالي 30سم وارتفاعها حوالي 30سم أيضا يتبول المرء فيها ليلا .. وفي الصباح نتخلص من البول في دورة المياه ثم تملؤها بالماء بعد غسلها ( إن استطعت ) لتشرب من هذا الماء .. وهذا الماء ممزوج برائحة الكاوتش ورائحة البول في آن واحد. 3- هناك عساكر أمثال ( سامبو ) , و ( زغلول ) حينما تفتح الزنزانة فإنه يتطوع بالصفع على الوجه أو الركل ( الشلوت ) بالرجل .. أما عن الشتائم فهذه حدّث ولا حرج .. وبعضهم يحمل معه كرباج ( سوط ) يضرب به ما استطاع. 4- لا توجد دورة مياه في الزنزانة. 5- المشي في السجن حافي القدمين لمدة ستة أشهر على الأقل حتى تنتهي التحقيقات. 6- تفتح الزنازين ويحمل كل فرد " القصرية " بها البول وأحيانا البراز ثم يجري بها في طابور تحت ضرب السياط وبسرعة حتى دورة المياه والسعيد من استطاع الذهاب إلى دورة المياه ( الحمام البلدي ) دقيقة واحدة . 7- الطعام في السجن لا يمكن وصفه .. وفي بعض الأحيان كنا نأكل فاصوليا بها كيماويات تسبب الإسهال .. ولا توجد دورة مياه .. تصور مدى العذاب الناتج عنها . 8- الزنزانة لا تفتح إلا خمس دقائق كل يوم . 9- توجد في السجن ( فسقية ) [ حوض ] في الأرض مربع ضلعه متران وبعمق حوالي متر ونصف .. تشرب منه الكلاب .. ثم مجرى ( قناة ) تصب في دورة المياه .. ويشرب المسجون من هذه القناة التي هي غالبا سؤر الكلاب. 10- طبعا لا توجد مراتب ولا وسائد (مخدات) فالمخدة هي يدك أو الحذاء إن تركوه لك ..كما لا توجد مصاحف ولا جرائد ولامجلات ولا كتب . 11- ممنوع غسل الملابس إلا يوم الجمعة لمدة خمس دقائق على الأكثر فضلا عن عدم وجود غيارات أخرى لكي تقوم بلبسها وغسل باقي الملابس .. ولقد استمر هذا الوضع ستة أشهر كاملة من أول أغسطس 1965 حتى فبراير 1966 . هذا غيض من فيض مما كان يحدث في السجن الحربي " أحصاه الله ونسوه . والله على كل شيء شهيد "(1) لذلك أيضا تنوع وصف العذاب للظالمين والمجرمين في الآخرة .. والذي افهمه ــ والله اعلم بمراده ــ أن كل وصف للعذاب ورد في القرآن الكريم نوعا مختلفا من العذاب .. وذكر القرآن بعض أنواع العذاب منها لهم عذاب أليم اعد لهم عذابا مهينا عذاب شديد عذاب جهنم وبئس المصير عذاب السعير عذاب عظيم عذاب كبير .. والعذاب الأكبر(2)\ عذاب الحريق عذاب مقيم عذاب الخزي عذاب غليظ عذاب فوق العذاب عذاب واصب عذاب الجحيم إن لدينا أنكالا وجحيما .. وطعاما ذا غصة نسأل الله النجاة من كل أنواع العذاب يوم القيامة ... آمين " فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز .... "
رتوش1- كان التعذيب في السجن الحربي شيئا فوق الوصف والخيال حتى أن كثيرا من الإخوان بالغ في الاعتراف عن نفسه لكي يوقفوا التعذيب فبعض الإخوان كان يرى أن حبل المشنقة أهون بكثير من هذا التعذيب البشع .. أذكر منهم أحد إخوان الشرقية واسمه " محمد الشافعي محمد إبراهيم" .. مهندس وكان مديرا لبلدية الشرقية .. وهي وظيفة كانت مرموقة في الزقازيق في تلك الأيام .. عذبوه عذابا أليما فلم يكن عنده شيء يفعله .. وكان في سلخانة ( رياض وحسن كفافى ) وتحت التعذيب أنشأ تنظيما وهميا من حوالي خمسة عشر فردا بعضهم من الإخوان القدامى وبعضهم من غير الإخوان .. ولقد ساموهم جميعا سوء العذاب حتى تم اكتشاف التنظيم الأصلي وأحضروهم جميعا وسألوا قيادة الإخوان فقالوا : هؤلاء لا نعرف عنهم شيئا وحفظت القضية بعد شهور عديدة في السجن الحربي والتعذيب وتم ترحيلهم جميعا إلى المعتقل . 2- كان خيال علي عشماوي الخصب .. يقول علىّ وعلى أعدائي فحصل على معلومات من الأخ المهندس حلمي حتحوت(1) عن كيفية هدم الكباري , ونشرتها الصحف والمجلات .. وكان علي عشماوي يعلم علم اليقين أن الشهيد سيد قطب قد رفض تماما هذا التفكير وذلك السلوك .. وبالمثل أخذ علي عشماوي يسأل الأخ يحيى أنور بياض عن كيفية تدمير محطة كهرباء شمال القاهرة .. وتحاور المهندس يحيى بياض مع علي عشماوي .. ثم طنطنت بها الصحف أيّما طنطنة فخرجت المانشيتات الصحفية . ( الإخوان يدمرون الكباري والقناطر الخيرية) ( الإخوان ينشرون الظلام في القاهرة الكبرى) وغيرها من هذه الخيالات الساذجة , ولكنها كانت مادة خصبة للصحافة والإعلام آنذاك ولقد استغل الإذاعي حمدي قنديل هذه الأحداث.. وكان يومئذ المذيع الأول في التليفزيون المصري , وأجرى حديثا مع المهندس حلمي حتحوت ولكن إرادة الله كانت على غير ما أراد حمدي قنديل .. فلقد تعاطف الناس غالبيتهم مع حلمي حتحوت .. وصار محبوب الجماهير ( وليس معبود الجماهير .. كما يقول العامة )(1) حتى أن بعض الشباب أخذ صور حلمي حتحوت من الجرائد والمجلات واحتفظ بها في جيبه أو في محفظته أو حتى تحت المخدة ( الوسادة ) كما يفعل أهل الحب والغرام مع محبوبهم كما تعاطف الناس أيضا مع شباب الإخوان حينما ظهروا في التليفزيون مع الإذاعي حمدي قنديل ... ومن هؤلاء الشباب فاروق المنشاوي والأستاذ المحامي إسماعيل الهضيبي ( نجل فضيلة المرشد حسن الهضيبى ) . أما قصة اغتيال الفنانين والفنانات التي رسمها خيال محمود فخري طالب كلية التجارة .. فكما سبق رويتها ليست أكثر من خيال خصب عاش معه صاحبه .. كذلك ثبت في التحقيقات رفض الإخوان لقضية الاغتيالات قبل ذلك بكثير .. أما كيف أعيدت وركز عليها علي عشماوي بين الإخوان وخصوصا الشباب المتحمس .. فهذه أسرار يعلمها الله عز وجل وكثيرا ما لا تنكشف هذه الأسرار في الدنيا .. ولكن السؤال .. هل كان علي عشماوي يفكر وحده ؟ .. هل كانت مقاليد كل الأمور بيده ؟ .. هل كانت عنده قدرة على إقناع أي شخص بأي شيء ؟ .. الله أعلم . 3- من المضحكات في خضم الصراخ والبكاء والتعذيب، مايلي : أ- سأل أحد الضباط الأخ علي جريشة .. عن المرأة التي تخرج كاسية عارية .. يرى الناس صدرها وشعرها ورجليها حتى فوق الركبة ثم تضع روائح عطرية أخاذة ومثيرة يشمها الناس على مساحات بعيدة .. فهل إذا خرجت المرأة بهذا المنظر وتلك العطور تكون زانية ؟ .. فأجاب علي جريشة الضابط قائلا هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية " فقال الضابط للأخ علي جريشة : اسمع يا على : أنا امرأتي تضع روائح عطرية نفاذة جدا , وتخرج لابسة مينى جيب وميكرو جيب , وبلوزة صدرها مفتوح ما حكمها يا على ؟! فتشهد علي جريشة على نفسه ( أي نطق بالشهادتين استعداد للموت ) وقال : تبقى زانية يا فندم .. النبي صلى الله عليه وسلم اللي قال كده مش أنا! وانتظر علي جريشة الموت .. ولكن المفاجأة أن الضابط ضحك ضحكة عالية بصورة هستيرية ثم صرف علي جريشة من أمامه ولم يمسه بسوء . 4- ومن نوادر الأخ علي جريشة أيضا , ولقد عشنا شهورا طويلة سويا في زنزانة واحدة أكثر من مرة .. يحكى انه كان رهن التحقيق فسمع رجلا عجوزا يصرخ ويقول : فاجرة .. فاجرة .. فاجرة يا أفندم والله .. والسياط تنهش جسمه ورجليه .. ونادى الضابط وأظنه كان النقيب إحسان العجاتي على الأخ علي جريشة : تعال يا على احكم بيني وبين هذا الرجل فرفض علي جريشة الكلام حتى ينزلوه من على ( الفلكة ) فوافق الضابط .. وقال يا على : هذا هو الشيخ محمود عيد من إخوان الأسكندرية القدامى(1) يقول : أن مفتى ألبانيا الذي فر بدينه وجلده من ألبانيا بعد سيطرة الشيوعية عليها فرّ إلى مصر وعاش فيها في الأسكندرية وهو يقول : أن هذه الحكومة كافرة .. فقال الشيخ محمود عيد : لا يا أخ علي جريشة لقد قال مفتي ألبانيا إنها حكومة فاجرة فقط وهناك فرق شرعي كبير بين الحكومة الفاجرة والحكومة الكافرة وانتهى الحوار بقبول الضابط بهذا التقييم أنها حكومة فاجرة فقط !!! 5- اعتقلت الحكومة بعض زملائي دفعة كلية الهندسة قسم الهندسة الكيماوية ( يوليو 65 ) باستثناء البنات طبعا .. ولبث الزملاء في المعتقل حوالي ستة اشهر في ظل ظروف التعذيب الرهيبة هذه .. كما اعتقلت الحكومة كثيرين من غير الإخوان المسلمين .. بل كثير منهم كان لا يصلي الصلوات الخمسة .. ومن اغرب ما سمعت وهو تعبير لم اسمعه إلا مرة واحدة في حياتي في السجن الحربي .. دخل علينا شخص كان قبل ( 1954 ) بطلا في المصارعة ويقوم بتدريب الإخوان مقابل أجر .. وبعد هذا بإحدى عشر عاما تذكروه ضمن التحري عن أصدقاء ومعارف الأخ المهندس سيد سالم في ألمانيا وقبضوا على هذا البطل المصارع وأودعوه معتقل مزرعة طره ثم طلبوه في السجن الحربي ... وتم تسكينه معي في نفس الزنزانة رقم ( 29 ) .. وجاء وقت الصلاة المغرب وقمنا إلى الصلاة ولم يقم يصلى معنا .. فسألته : لماذا لا تصلى معنا ؟ فرد على ردا غريبا لم اسمعه في حياتي لا قبل هذا ولا بعده قال " أنا في أجازة النهاردة من الصلاة " .. ومن عجب أن هذا قضى أكثر من حوالي سنتين في المعتقل ثم خرج وقابله الناس على انه بطل من أبطال الإخوان المسلمين .. ومثل هذه الحالات تكرر كثيرا كثيرا .. ويظلم الناس الإخوان بانتساب هؤلاء المعتقلين إلى الإخوان . 6- أحد إخوان المحلة الكبرى .. عامل في شركة المحلة اسمه "إبراهيم هباش خطاب " عذبوه فلم يعترف بشيء .. وأشرف على الموت فأوقفوا التعذيب . ثم ذهبوا به إلى مستشفى السجن الحربي ( الشفخانة ) فأضرب عن الطعام أو امتنع تماما عن الطعام حتى بدأ جلده يجف ولا يقدر على الحركة .. فمر عليه طبيب السجن وكان ذكيا جدا فقال : اذهبوا به ليسكن في السجن الكبير مع إخوانه وأحضروا له مرتبة مهلهلة وبطانيتين .. وكانوا يحضرون له كل يوم طبق ( شوربة لحم ) دسمة جدا (1) .. ولما دخل الزنزانة فرح وسجد لله شكرا وأكل وشرب وتحسنت صحته حتى تم ترحيله من السجن الحربي إلى سجن مزرعة طره . 7- كان محمد صالح السلماني من إخوان الشرقية يسكن في زنزانة في الدور الثاني مع الشيخ الهمام ذي العزيمة القوية حافظ أيوب .. الذي كان يقرأ القرآن ليل نهار أو يقوم بتحفيظ القرآن لمن معه من الإخوان " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " .. وبهذا ينسى الإخوان آلام السجن والتعذيب , ولا يملون تكرار الأيام والسنين وهي خطة ناجحة بلا شك .. وحفظ الأخ محمد رحمه الله وكان شابا صغيرا يتجاوز العشرين من عمره بقليل . حفظ ربعا .. ثم .. ربعا آخر .. ثم ربعا ثالثا .. فملت نفسه .. وتصدع دماغه .. فطلب من الشيخ مهلة للراحة ولكن الشيخ رفض .. فقال الشيخ حافظ أيوب ..القرآن الكريم مثل اللبن الحليب الصافي لا يمله الإنسان أبدا فكيف تمله وقام يضربه بيديه تأديبا وتهذيبا وإصلاحا .. حتى قام بعض إخوانه بوقف الضرب والشيخ غير مقتنع .. وهذا الشيخ كان عنده عزيمة غير طبيعية .. فلقد كان يعمل موظفا بالثانوية العامة في كلية الزارعة عين شمس .. ومر عليه أحد الأساتذة حملة الدكتوراه واستهزأ بهذا الشيخ العامل البسيط .. فرد عليه الشيخ ردّا جافا قائلا : الدكتوراه التي تحملها هذه لا تساوى عندي شيئا .. وأستطيع أن احصل مثلها بضفرى ( بإظفرى )(1) .. وانتسب الشيخ إلى كلية الشريعة وحصل على الليسانس ثم الماجستير ثم الدكتوراه وصار الدكتور حافظ أيوب وعمره فوق الستين عاما .. وذهب ليعمل بالدكتوراه في لبنان ولقد حفظت على يديه بضعة أجزاء من القرآن الكريم علاوة على أسماء الله الحسنى وكان مستعدا للتعامل معي بعنف إذا لم احفظ وردى .. جزاه الله عنا خير الجزاء.. 8- الأخ الأكبر المهندس محمد عبد الفتاح رزق شريف دخل السجن الحربي للمرة الثانية في ( 1965 ) وكان قد دخله في ( 1954 ) لمدة سنتين , وخرج في عام ( 1956 ) وأسس تنظيم ( 1965 ) الجديد مع الشيخ عبد الفتاح إسماعيل والأخ عوض عبد المتعال والشيخ فتحي رفاعي.. هذا المهندس عبد الفتاح رزق شريف .. كان مهندس مساحة , ورأى رؤيا في أول أيام دخوله السجن الحربي ( 65 ) حيث كان أحد مؤسسي التنظيم .. رأى انه يجلس في ركن في زنزانته , يجلس القرفصاء , والزنزانة كلها مرصوصة بالخبز رصّا محكما حتى السقف ولا يوجد سوى الفراغ الذي يجلس منكمشا فيه . أما ما عدا ذلك من حجم الزنزانة فهو مملوء بالخبز .. وبالفعل تحركت حاسة الهندسة المساحية عنده وظل يحسب حجم الزنزانة وحجم الرغيف أو بعملية حسابية قام بقسمة حجم الزنزانة على حجم الرغيف .. فوجد الرقم مهولا وكبيرا .. ومنه علم أنه سيمكث في هذه الزنزانة حتى يأكل كل هذا الخبز سنين طويلة وقد كان . 9- بعد التعذيب أثناء التحقيقات سمحوا لنا بالخروج في حراسة العساكر صباحا " لللغيار " على الجروح.. وكان ذلك يتم بجوار " فسقية " المياه في السجن الكبير وهناك تعرفت على الإخوة عوض عبد المتعال ، حمدي صالح , صبري عرفة الكومي , عباس السيسي , وغيرهم كثير .. وفي يوم من الأيام غيّر العسكري مساري المعتاد أمام الزنازين إلى الاتجاه العكسي .. فمررت على زنزانة رقم ( 58 ) مكتوب عليها ( الغلاية ) وكثيرا ما كان الأخ الشهيد فاروق المنشاوي يحدثنا من بشاعة التعذيب وتعدد أنواعه .. وأنه في حالة القبض علينا سوف يتم قتلنا لا محالة في ذلك(1) .. فسألت الأخ عوض عبد المتعال متى يتم وضعنا للتعذيب داخل هذه الغلاية ؟ .. وهنالك ضحك الأخ عوض ضحكة كبيرة في السجن .. وكانت هذه الضحكة سببا في سكينة كبيرة لي داخل فترة السجن .. فهذه الغلاية لغلي ملابس العساكر الذين يصابون بمرض الجرب .. وليست للتعذيب 10- بعد أن استقرت الأمور داخل السجن بعد انتهاء التحقيقات وفي فترة المحاكمة سمحوا لنا بالخروج طوابير في فناء السجن .. وكانت ملابس معظم الإخوان ممزقة مهلهلة , .. فقام أحد إخوان شبرا ( شارع رمسيس بالقاهرة ) وهو من إخوان العشرات بالبحث عن قطعة سلك نحاس كهرباء في فناء السجن وقطعها قطعا صغيرة .. ثم بحث عن مسمار حديد 5سم , ثم بحث عن قطعة من ( الزلط ) .. وقام بفلطحة طرف السلك النحاس . والدق عليه بالمسمار حتى يصنع ثقبا صغيرا في السلك النحاس .. وهذه العملية رغم بساطة شرحها ولكن تنفيذها صعب جدا .. ويحتاج إلى صبر أيوب عليه السلام ( كما يقولون ) هذا الأخ هو الأخ سيد أبو ستيت ( من إخوان العشرات ) رحمه الله رحمة واسعة .. وكان يعطيني هذه الإبر بواسطة أحد الوسطاء هما الإخوان فرج مناع أو الأخ عبد العظيم عبد المجيد(1) , وأنا أقوم بتوزيع الإبر على الإخوان الشباب .. وإمعانا في التخفي كنت أضع الإبر في طاقية البسها فوق رأسي .. وكنا سعداء بهذا العمل الذي حل مشاكل الإخوان في ترقيع ملابسهم حتى يأذن الله بالفرج .. وفي يوم من الأيام تم ضبطي متلبسا بهذه الجريمة النكراء " وهي حيازة إبرة خياطة في السجن الحربي " .. والذي قام بضبطي هو العسكري الغليظ المسمى " سمبو " .. وتم سحبي إلى مكتب الشاويش نجم بجوار باب السجن الكبير وأجروا معي تحقيقا حول " تكنولوجيا صناعة هذه الإبرة " ثم حكموا على بأن أقف ثم يقوم كل عسكري بضربي عشرة صفعات ( أقلام باللغة العامية ) على وجهي .. والذي لا يطرقع لا يحتسب .. وبالطبع لم أعترف على الإخوة سيد أبو ستيت ولا غيره وتحملت " القضية " وحدي .. وبعد التحقيق والحكم والتنفيذ أخذت عددا كبيرا من الصفعات على الوجه(2) .. صار الخدان بعدهما متورمان ورما شديدا أكثر من تعذيب تحقيقات القضية كلها .. وصبرت حتى لا يتجرجر تنظيم جديد " لإبر الخياطة " والباعث على التحقيق في هذه القضية شيء مهم .. وهي محاضرات لكبير الجلادين صفوت الروبى يلقيها على العساكر وهي أن الإخوان يستطيعون أن يصنعوا من أي قطعة خشب أو مسمار طيارة تطير في الهواء وتدك السجن الحربي .. فلابد من الاحتراس من أي شيء في يد الإخوان ولو كان تافها. بهذا الرعب كانوا يتعاملون معنا .. ثم إنهم يختارون عساكر السجن الحربي من المجندين شبه المتخلفين عقليا والنادر منهم يقرأ ويكتب .. ثم يقومون بتعذيبهم عذابا شديدا مثلنا كإنذار لهم إذا أحسنوا معاملتنا أو تهاونوا في أي شيء تافه مهما كان . 11- وعلى ذكر التخلف العقلي للعساكر .. كان هناك عسكري اسمه " ممدوح " متخلف عقليا , ويمضي فترة التجنيد في السجن الحربي سأل أحد الإخوان (أحمد حامد من الشرقية ) ممدوح : كيف يتم صناعة السجاير ؟ عايز أصنع سجاير كتير واشربها ؟ الأخ أحمد حامد : ( ساخرا ) هناك شجر اسمه شجرة السجاير تزرع في الأرض وثمارها سجاير .. وهذا الشجر أنواع مختلفة حسب نوع السجاير .. فهناك شجر " بلمونت " وشجر " كيلوباترا " وشجر " وينجز " وشجر أجنبي يزرع في أمريكا اسمه شجر " مارلبورو " وتقطع هذه السجاير بالمقص حسب الطلب . ممدوح : الكلام ده موش صح .. طيب الفلتر الذي في السيجارة كيف يأتي؟ أحمد حامد: هناك شجر بفلتر وشجر بدون فلتر حسب الطلب . ممدوح : أحسن حاجة في الدنيا السجاير والمكرونة . أحمد حامد: المكرونة ــ أيضا ــ لها شجر مكرونة .. تزرع الشجرة وثمارها مكرونة بأنواعها وأحجامها المختلفة !! ممدوح : الواحد عاوز مزرعة نصفها مكرونة ونصفها سجاير ياكل مكرونة ويشرب سجاير. هذه هي عقلية العساكر الذين كانوا يتعاملون معنا .. ودار حوار ساخن بين العسكري ممدوح وبين الوزير عبد العزيز على أحمد في أول يوم للمحاكمة. ممدوح : أنت يا راجل اسمك إيه الوزير : عبد العزيز على أحمد ممدوح : بتشتغل إيه الوزير : وزير الشئون البلدية والقروية سابقا ممدوح : ولا يهمني حتى لو كنت لواء برضه مش هخاف منك ولا يهمني .. شوف اللواء اللي هو اكبر من عشر وزراء وأي حاجة في الدنيا لا يمكن أخاف منه وهنا يدخل الصول ( مساعد ) صفوت وينادى : واد يا ممدوح وترتعد فرائص ممدوح : تمام يا فندم .. وارتعد من مجرد صول ( مساعد ) وليس لواء كما يزعم . 12 .إدارة التحقيقات والتعذيب العقيد شمس بدران ... مدير مكتب عبد الحكيم عامر ... رئيسا العميد سعد زغلول عبد الكريم ... مدير الشرطة العسكرية والمباحث الجنائية العقيد حسن خليل ... قائد المباحث الجنائية العسكرية المقدم نور العفيفي ... نائب قائد المباحث الجنائية العسكرية الرائد رياض إبراهيم ... المباحث الجنائية العسكرية الرائد حسن كفافى .. المباحث الجنائية العسكرية والنقباء عاصم العتر , وإحسان العجاتى وهانى إبراهيم وغيرهم من المباحث الجنائية العسكرية ومن السجن الحربي : اللواء حمزة البسيوني .. والملازم صفوت الروبي ... والرقيب نجم الدين مشهور(1) والعساكر : محمد المراكبى , فتحي نملة , محمد خاطر , زغلول مجاهد , تقى الدين سليمان ( وشهرته سمبو ) في النيابة كان طاقم نيابة أمن الدولة العليا ( آنذاك ) مكونا من صلاح نصار ..... رئيس نيابة أمن الدولة العليا ويعاونه وكلاء النيابة : حسن جمعة ، إسماعيل زعزوع ، سمير ناجى ، مصطفى طاهر ، حسين لبيب ، ممدوح البلتاجي ، محمد وجيه قناوي ، سليمان عبد المجيد . والشيء المؤسف في تحقيقات النيابة كان : قبلوا إجراء التحقيقات في خيام داخل السجن الحربي. 1. كانت أصوات الضرب تملأ آذانهم , وكانوا يرون بأعينهم آثار التعذيب الواضحة فلا يثبتون منها شيئا. 2. كل من صدّق أنه في النيابة , وغيّر كلمة واحدة من اعترافاته التي قالها تحت التعذيب .. كان وكلاء النيابة ـ أنفسهم ـ يوقفون التحقيق ويرسلون هذا الأخ مرة ثانية إلى مكاتب التحقيق حتى يعود والدم ينزف من كل جسمه أمام أعينهم. 3. كانوا كثيرا ما يسألون الأسئلة ويدونون الإجابة حتى تحيط التهمة كاملة بمن يستجوبونه .. وليس على المتهم سوى التوقيع في آخر صفحة على محضر التحقيق 4. حتى زميلهم علي جريشة .. وكان نائبا بمجلس الدولة آنذاك لم يسلم من آذاهم وافتراءاتهم .. لدرجة أنه تأثر تأثرا شديدا بهذه المعاملة السيئة أكثر من التعذيب في المكاتب .. وكان يعتبر ظلمهم شبيها بظلم ذوى القربى , والذي هو اشد مرارة على النفس من وقع الحسام المهنّد. 5. قال أحد وكلاء النيابة للشيخ عبد الفتاح إسماعيل أثناء التحقيق : إنكم تريدون قلب نظام الحكم . فأجاب الشيخ : نحن نريد أن نعدله , لأنه مقلوب أصلا(1) 6. مهما كان التعذيب عند رجال المباحث العسكرية .. فهي كما يقول المثل العامي في مصر " علقة تفوت ولا حد يموت " .. أما في النيابة فكان دورها أسوأ دائما فهو حبك التهمة على الناس ولسوف يسال صلاح نصار يوم القيامة عن دم الشهداء سيد قطب وزميليه .. في يوم رعيب .. فإن الله عز وجل لا ينسى شيئا " وما كان ربك نسيا " ( سورة مريم ) " أحصاه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد " ( سورة المجادلة ) " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " ( سورة ق ) " .. إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " ( سورة الجاثية ) ولئن كانت النيابة قد عاونت في التفاف حبل المشنقة حول رقبة الشهداء الثلاثة .. فإن الله يسأل الناس يوم القيامة عما دون ذلك في يوم تشخص فيه الأبصار . " وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت " فهل سيجد صلاح نصار وزملاؤه إجابة عند الملأ الأعلى .. عن الذنب الذي من اجله اعدم سيد قطب وزميليه هل هناك إجابة عن أحكام السجن التي تجاوز مجموعا على أفراد تنظيم ( 65 ) .. ثلاثة آلاف سنة أشغال شاقة . إن كثيرا من هؤلاء الذين ظلمونا باسم النيابة واحبكوا التهمة حول رقابنا لا يعلمون أن سجن جهنم ابشع بكثير من سجن الدنيا إننا كنا نحمل لهم الحق الذي لا مراء فيه .. ألا وهو طلب تحكيم شريعة الله في الأرض .. لقد جئناهم بالحق , ولكن أكثرهم للحق كارهون .. فما لم يتب الله عليهم .. فإن الحساب عسير عسير ... أما أنا فكنت واثقا أن هذه النيابة ـ آنذاك ـ ليست سوى حلقة في تمثيلية وقف مسيرة الدعاة إلى الله .. شأنهم في ذلك شأن كل من أمسك السياط ( الكرباج ) لضربنا .. ذلك لأنهم رضوا عن ضربنا بالسياط .. بل أن بعضهم أمر بذلك أثناء التحقيق .. ولم يكن لنا أي ضمانات قانونية أثناء التحقيق فان القانون ـ عندهم ـ مثل إله العجوة الذي يعبدونه .. فإذا جاعوا أكلوه .. ثم يصنعون غيره , وكذلك دواليك . ولقد سألني وكيل النيابة : لماذا الإخوان المسلمون ؟ .. وأردت أن أنفى المسئولية الجنائية .. ففكرت في السؤال .. بغير سابق خبرة مع الجو الرعيب في السجن الحربي .. مع الجروح التي لمّا تندمل بعد , ورفض وكيل النيابة إثباتها .. فقلت له " إن الأستاذ سيد قطب يقول في كتاب معالم في الطريق : أن التزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة .. فسألني : هل تعرف الصفحة فقلت له نعم صفحة ( 40 ) .. وكانت معه نسخة من كتاب " معالم في الطريق " ففتح الكتاب فوجدها فعلا كما قلت . ولكنى لم أكن مقتنعا تماما بهذه الإجابة القصيرة والمقتضبة فرجعت أفكر مليا .. فعلا لماذا الإخوان المسلمون .. وهو ما أرجو أن اعقد له بابا كاملا .. فهذه الكلمات القليلة كان ثمنها تسع سنوات أشغال شاقة متجولا في سجون مصر .. من أول الحربي حتى سجن قنا .. هنالك قريبا من ( طوكر )(1) كما يقول المثل العامي المصري . 13. إعلان القضايا
1. القضية الأولى : لقيادة التنظيم الأصلية والفرعية 2. القضية الثانية : لتنظيم القاهرة والجيزة 3. القضية الثالثة : لتنظيم القاهرة والجيزة أيضا 4. القضية الرابعة : لتنظيم الوجه البحري والأقاليم والقضايا الأربع كلها جنايات والاتهام فيها واحد وهو " أنهم في الفترة من 1959م حتى آخر سبتمبر 1965م بالجمهورية العربية المتحدة وبالخارج : حاولوا تغير دستور الدولة وتشكيل الحكومة بالقوة , بان ألفوا من بينهم و آخرين تجمعا حركيا وتنظيما سريا مسلحا لحزب الإخوان المسلمين المنحل يهدف إلى تغير نظام الحكم القائم بالقوة باغتيال السيد / رئيس الجمهورية والقائمين على الحكم في البلاد وتخريب المنشآت العامة وإثارة الفتنة في البلاد . وتزودوا في سبيل ذلك بالمال اللازم وأحرزوا مفرقعات وأسلحة وذخائر وقاموا بتدريب أعضاء التنظيم على استعمال هذه الأسلحة والمفرقعات . وحددوا أشخاص المسئولين الذين سيجرى اغتيالهم , وعاينوا محطات توليد الكهرباء , والمنشآت العامة التي سيخربونها , ورسموا طريقة تنفيذ ذلك , وتهيئوا للتنفيذ الفعلي . وعينوا الأفراد الذين سيقومون به , وحال ضبطهم دون تمام مؤامراتهم ... " . أما القضايا رقم ( 5 ) , رقم ( 6 ) , ورقم ( 7 ) فكانت تهمتهم جنح محاولة إحياء الجماعة , وتزويد المعتقلين والمسجونين من الإخوان هم أسرهم بالمال اللازم .
القضايا السبعةوسوف نذكر على سبيل الاختصار الأحكام الصادرة قرين كل اسم اختصارا للكتابة .. ومنعا لتكرار الأسماء تمت محاكمة القضية الأولى ( قيادة التنظيم ) أمام الفريق أول محمد فؤاد الدجوي .. وكانت اقرب إلى المسرحية الهزلية منها إلى المحكمة وهيئة القضاء . والفريق الدجوى تم أسره في حرب 1956م ووضع في سجون إسرائيل ومن هناك في إذاعة إسرائيل ظل يهاجم مصر وحكومتها هجوما دنيئا حتى أفرجت عنه إسرائيل في عام 1957م .. ورغم ذلك أعاده جمال عبد الناصر إلى الخدمة , ثم عينه رئيسا لمحكمة تحاكم الإخوان المسلمين .. وهو اختيار لا يمكن أن يكون عشوائيا .. ويكمن وراء هذا الاختيار أسرار كثيرة لم تكشف عنها الأيام بعد , ولم يتعرض أحد لكشف هذه الأسرار التي قد تكون دفنت مع موت كل من الدجوى وعبد الناصر .
القضية الأولى :
القضية الثانية ( تنظيم القاهرة ):
القضية الثالثة :
القضية الرابعة : تنظيم الدقهلية والغربية
1- هذه القضايا الأربعة هي قضايا المتهمين في التنظيم الأساسي بقيادة سيد قطب ( تنظيم 65 ) وأعدادهم : القضية الأولى ... 43 متهما القضية الثانية ... 46 متهما القضية الثالثة ... 50 متهما القضية الرابعة ... 60 متهم ــــــــــــــــــــــــــــ إجمالي القضايا الأربعة = 199 متهما
بل إن الشهيد سيد قطب ـ بناء على كلام علي عشماوي ـ أبلغ فضيلة المرشد حسن الهضيبى بان العدد الحالي للعاملين بالتنظيم ثلاثمائة فرد .. لذلك رد عليه فضيلة المرشد بالشك في وجود هذا العدد في مصر وكان شكه في محله إلى حد كبير .. أضاف إذا كان هذا العدد موجودا فعلا. • يجب عدم ضم أعداد جدد. • القيام على تربية هذا العدد لفترة قادمة أطول.
3- القضية الأولى هي التي ضمت امرأتان هما زينب الغزالي وحميدة قطب. 4- القضية الثانية كان القاضي فيها هو الفريق علي جمال الدين محمود .. ولما درس القضية كان تعليقه أن أقصى حكم ممكن أن يأخذه سيد قطب هو ثلاث سنوات تحت مسمى (إحياء جماعة الإخوان المسلمين ) فالقضية كلها كلام في كلام . وبناء على ذلك مات الفريق علي جمال الدين محمود في ظروف غامضة وحكى بعض المقربين من السلطة أنه تم قتله بالشريط اللاصق .. وتم تشكيل محكمة جديدة أعادت محاكمة جميع المتهمين في القضية الثانية بسبب وفاة القاضي . 5- الأحكام الصادرة في القضيتين الثانية والثالثة أقصى حكم فيها هو 15 سنة للمتهم الأول ثم أحكام اقل من ذلك . 6- أما القضية الرابعة فالأحكام فيها في غاية القسوة وكان المراد بها التنكيل بالعمال والفلاحين الذين هم دعامة الثورة وفيما يلي مقارنة بين الأحكام في القضايا(1) الأربعة :
8- واضح في القضية الرابعة القسوة الشديدة في الأحكام أما أحكام البراءة وعددها ثلاثة فقط كانت ذرا للرماد في العيون ولذلك طنطنت بها الجرائد المصرية ( انظر جريدة الأخبار 7 \ 9\ 1966 ) التي تقول أن زقزوق والمريح ( براءة ) تم الإفراج عنهما في حين انهما تم ترحيلهما إلى المعتقل وهناك اكملا خمس سنوات اعتقال تقريبا 9- يلاحظ التنوع الشديد في المهن .. وتطبيق مبدأ الشمول في كل شيء حتى في مهن المنتمين إلى الدعوة وتستطيع أن تحصى أكثر من 43 مهنة مختلفة في التنظيم اذكر منها أديب ـ كاتب قصصي ـ قبانى ـ مدرس - كيماوي ـ مهندسون متنوعون ـ معيدون بالطاقة الذرية ( 4 ) ـ رسام زخرفي ـ محامي ـ أخصائي اجتماعي ـ معيدون بالجامعة ( كليات مختلفة ) ـ طلبة ـ ضابط بالجيش ـ إمام وخطيب ـ صحفي ـ ترزي ـ طيار ـ مبيض معماري ـ مبيض محارة ـ ساعي ـ عسكري بالجيش ـ مهندس زراعي ـ صاحب ورشة سباكة ـ مدرس أزهري ـ وكيل نيابة ـ حلواني ـ نساج ـ محاسب ـ فراش ـ وزير ـ مقاول ـ صيدلي ـ طبيب ـ طبيب بيطري ـ مزارع ـ تاجر حبوب ـ تاجر أحذية ـ حلاق ـ ممرض ـ صاحب مصنع ألبان ـ تاجر موبيليا ـ عمال غزل ونسيج ـ عمال زراعة ـ كاتب عمومي. وهذه تنفى إشاعة أنه تنظيم مثقفين .. ففيه كل الفئات ـ حقيقة ـ أن أغلب قضية القيادة وعلى رأس التنظيم مثقفون .. وهذا طبيعي في كل التنظيمات السياسية والدينية لا بد أن تكون القيادة على قدر عال من الثقافة فهذه بديهية في شروط قيادة أي عمل ... ومن الطريف ما كان يحكيه الدكتور أحمد الملطنائب المرشد العام للإخوان المسلمين الأسبق .. أنه حدث في سنة 1955م في معتقل السجن الحربي أن تراهن المسئولون في السجن على وجود جميع المهن داخل الإخوان في السجن مهما كانت هذه المهنة .. وفكروا في مهنة غريبة افترضوا عدم وجودها وهي حلاق الحمير ( ويسمى حمّار بتشديد الميم ) فنادوا على جميع المعتقلين : من كانت مهنته حمّار ( بتشديد الميم ) فلينزل إلى فناء السجن .. فحضر أربعة من الإخوان يعملون في نفس المهنة . وهؤلاء يعيشون في أخوة كاملة مع وزراء وأطباء وأساتذة جامعة معهم في السجن لا فرق بين هذا وذاك إلا بالتقوى . إخوان العشرات ( سجن القناطر ) وهم الذين أمضوا عشر سنوات كاملة في السجن ( 54 ـ 64 ) وخرجوا عام 1964 أعادوا اعتقالهم بتهمة إعادة إحياء حزب الإخوان المسلمين وحكم على عدد كبير منهم بالسجن أمثال الطوخى طه وفوزي نجم , ورشاد عتيق , وفرج مناع , وحسين عبد المعطى وغيرهم كثير.
هكذا كانوا يسمون القضايا ولم يقولوا جماعة الإخوان المسلمين .. وهي ثلاثة قضايا تحمل أرقام 5 ، 6 ، 7 وكان الدجوى يرأس المحكمة في القضية الخامسة إلى جوار القضية الأولى .. ذلك لأنه كان فيها المرشد حسن الهضيبي ونجليه المستشار محمد المأمون ( المرشد الحالي ) وابنه المحامي الأستاذ إسماعيل الهضيبي .. وكان من بين الأسماء المعروفة أيضا - الأستاذ محمد هلال إبراهيم ( المنصورة ) - والحاج صادق المزيني( التاجر من غزة ) وصاحب أحد اكبر محلات الأقمشة واسمه آنذاك " الصالون الأحمر " وهو يضارع عمر أفندي وهانو وشيكوريل .. وتمت مصادرته ومصادرة أموال صادق المزيني.. رحمه الله وفي يوم من الأيام تم استدعاء صادق المزينيوطرحوه أرضا وأوثقوه بالحبال وكان ضخم الجثة ثم أمسكوا ( السونكى ) وهددوه بفتح بطنه بالخنجر وقتله ما لم يوقع على شيك بقيمة المحل كله فاضطر على التوقيع وهكذا تمت مصادرة المحل وفيه بضاعة تعادل خمسة ملايين دولار بأسعار ذلك الزمان . وكان عدد المتهمين في القضايا الثلاثة 159 متهما .. وصدرت الأحكام ضدهم بالسجن مدد تتراوح بين سنة وثلاث سنوات . وكان فيهم أيضا الأخ الفاضل عبد الحميد الطنبداوي رئيس الأجهزة المالية التي كانت تقوم بالصرف على أسر المسجونين من الإخوان في الفترة ( 54 ـ 1965 ) ثم بعد ذلك تم عمل قضيتين أخريين كان أبرز المتهمين فيها الأخ صقر سليمان ( السويس ) والأخ المجاهد الكبير خطاب السيد خطاب مع اتهامهم بالاستعانة بسعيد رمضان(1) وحكم على كل من صقر سليمان و خطاب السيد خطاب بالأشغال الشاقة المؤبدة .
القضية الخامسة :
القضية السادسة : إحياء حزب الإخوان المسلمين
وتتراوح الأحكام فيها بين 3 سنوات وسنة مع وقف التنفيذ ولم أجد تفصيل الأحكام .. وهي تضم تنظيم ميت غمر بقيادة أمين شاهين ، وتضم إخوان شبرا والشرابية ــ القاهرة والباقي من أماكن متفرقة وتهم متفرقة وهم :
كان الأخ خطاب السيد خطاب من المجاهدين من الإخوان المسلمين ضد الإنجليز على خط القتال , وكذلك قام بإلقاء قنابل على معسكرات الإنجليز في ميدان التحرير بالقاهرة .. وتم اتهامه في القضية مع سبعة متهمين آخرين منهم الأستاذ سعيد رمضان زوج بنت الإمام حسن البنا والمقيم ــ آنذاك ــ في ألمانيا والمتهمون هم :
ومن الطريف أن الأخ خطاب السيد خطاب ظل طوال فترة السجن يجمع نوى الزيتون بعد أكله ويقوم بصنفرتها على بلاط الحوائط في السجن ثم يقوم بخرمها بإبرة كانت معه .. ويصبح سبحة ( 33 حبة ) ويعطى كل أخ سبحة هدية .. أما من يطمع في سبحة زيادة من الإخوان ( وكثير ما هم ) فكان يرده ردا جميلا ولا يعطيه شيئا زيادة حرصا منه على مساواة الإخوان بعضهم ببعض ، ولقد دفعني عمله هذا إلى البحث كثيرا عن مدى شرعية استعمال المسبحة في الذكر ودوام الذكر .. ولم أجد ما يقوله السلفيون أنها بدعة .. ولهذا حديث آخر أن شاء الله في موضعه .. ومن جرب السبحة عرف فوائدها في التشجيع على دوام الذكر .. وللحديث بقية في موضع آخر بعون الله.
فاخرج فؤاد علام لوحات جغرافية لمنطقة السويس وشرح له صقر سليمان كيفية الدخول إلى السويس أثناء الحصار وشكره فؤاد علام على وطنيته .. ولم يوافق اللواء فؤاد علام على طلب صقر سليمان وأعاده قرب منتصف الليل إلى السجن ولقد كنت أنا ( كاتب هذه السطور ) مع المرحوم صقر سليمان في السجن إبان هذه الفترة .. رحمه الله رحمة واسعة .
في السجن الحربي (أغسطس 65 ـ يونيو 67)تقلبت الحياة في السجن الحربي تقلبات مختلفة .. وعشنا فيها مراحل مختلفة طيلة 22 شهرا كاملة .. انتهت بعدها في 16 يونيو 1967م بعد النكسة بعشرة أيام .. ولقد كان حمزة البسيوني يقول لنا أننا سنعيش هنا في السجن الحربي حتى نموت .. فيشاء الله إلا يمر عام ونصف وبعدها نخرج من السجن الحربي ويدخل حمزة البسيوني وكبار الجلادين إلى السجن الحربي مساجين أذلاء يعذبهم نفس العساكر الذين كانوا عبيدا لهم وفي يوم خروجنا من السجن الحربي بعد نكسة ( 67 ) بعشرة أيام قام الأخ مصطفى الخضيري رحمه الله ليؤم المصلين في صلاة المغرب ونحن على وشك مغادرة السجن الحربي .. وقرأ الربع الأخير من سورة إبراهيم وفيه آيات بينات منها قوله عز وجل " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " ولقد كانت لهذه الآيات في تلك اللحظات وقع السحر في نفوسنا فأبكانا جميعا أما مراحل السجن الحربي فكانت : مرحلة التحقيقات بدأت مرحلة التحقيقات من يوليو 1965م عقب القبض على الأخ عطية متولي القرش ( من قرية سنفا ) واستمر التعذيب والتحقيقات حتى حضور النيابة في أكتوبر 1965م واستمر التعذيب ولكن خفت حدته قليلا حتى ديسمبر 1965م حيث انتهت التحقيقات والنيابة من عملهما 1- كانت الزنازين مغلقة طوال 24 ساعة عدا خمس دقائق صباحا لتفريغ الإناء ( القصرية الكاوتش ) المملوءة بالبول والبراز وغسلها سريعا ثم ملؤها بالماء .. فكان الشراب عبارة عن ماء ممزوج بطعم ورائحة البول والبراز والكاوتش .. كان الشرب مستحيلا في الأيام الثلاثة الأولى لحضورنا .. ولما استبد بنا العطش صرنا نشرب ذلك الماء .. فالبديل الموت 2- واجهنا معارك قاسية مع جيوش " البق " التي آذتنا كثيرا في الزنزانة حتى تم القضاء عليها يدويا بعد صبر طويل 3- في التحقيقات كانوا ينادون على الأسماء المطلوبة عادة ابتداء من العاشرة صباحا ويستمر طلب الأسماء والتعذيب حتى منتصف الليل ومما لفت نظري أن الشهيد سيد قطب حرص كل الحرص على عدم ضم الحاج وهبة حسن وهبة صاحب مكتبة وهبة التي نشرت كل كتب سيد قطب .. - بل ووزعتها خارج مصر أيضا – أقول لقد حرص الأستاذ سيد قطب على عدم إدخال أو إقحام الحاج وهبة في التنظيم حرصا على استمرارية ( دار النشر ) .. ذلك لأن الحكومة ـ أي حكومة ـ عندها حساسية شديدة تجاه " هوية " دور النشر وتتعامل مع هذا الأمر بعصا غليظة جدا .. كذلك الحال أكثر غلظة مع من يملكون مطبعة على وجه الخصوص مهما كانت صغيرة , ولعل رأى سيد قطب ـ والإخوان القياديين معه أيضا ـ هو إبعاد أصحاب المطابع ودور النشر عن أي عمل تنظيمي حرصا على استمرارية مؤسساتهم وهذا من حكمة الداعية كذلك حرص عبد الفتاح إسماعيل رحمه الله على عدم ضم أصحاب رؤوس الأموال من الإخوان المسلمين إلى التنظيم حرصا على أموالهم رغم سخاء الكثيرين منهم معه ولكنه لم يكن يردد أسماءهم ولم يستثن من هذا الموضوع بصورة عفوية ومفاجئة سوى المرحوم صادق المزينيصاحب محل ( الصالون الأحمر ) .. ولقد كان هذا المحل يضارع عمر أفندي في هذه الأيام في مهنة التجارة .. وكما هو معروف فلقد صودرت أموال المرحوم صادق المزينيبصورة إجرامية .. وكلنا كان يقول له " ربح البيع يا صهيب .. ربح البيع يا صادق المزيني" وكذلك أوذي " آل كردية " في أموالهم أذى كثيرا .. عوضهم الله خيرا وهما من تجار " غزة " وأسماؤهم خالد كردية وزكى سعيد كردية. 4- في التاسعة صباحا كان ينادى على الجرحى الذين تنزف دماؤهم لغيار الجروح .. وكنت ترى القيح والصديد على أجساد وأرجل وأيدي المعذبين تحت التحقيقات .. وكثيرا ما كانوا يعالجونا ليبدءوا الضرب من جديد .. وكان الضرب على الجروح القديمة مؤلما بصورة مرهقة وفظيعة وبشعة. 5- الإفطار في الصباح عبارة عن فول مدمس أو العدس .. مع جرعة شاي ( أحيانا ) من كوز صاج يعلوه الصدأ ويمسك العسكري الكوز ( الإناء ) بيده لتشرب شربة واحدة وكفى وأحيانا مع الإفطار قطعة جبن مطبوخ ( نستو ) ... أو قليل من العسل والطحينة كإفطار بديل الآنية كانت قروانة ( إناء ) من التي تستعمل في معسكرات الجيش وكان العسكري يعطى كل أربعة أفراد كمية من العسل والطحينة لا تكفى الواحد .. حتى انك لو كفأت ( قلبت الإناء ) لم يسقط منه على الأرض شيء من العسل والطحينة .. وكان منتهى الأمل بضعة ملاعق من العسل والطحينة .. لدرجة أن الأخ الصيدلي علي صادق حتحوت ( شقيق د. حلمي حتحوت ) .. كان يمزح ويقول " الملك .. عنده جركن عسل وطحينة !! " 6- الغذاء عادة فول مدمس أو العدس الأصفر 7- الخبز ثلاثة أرغفة في اليوم لكل معتقل 8- العشاء أحيانا بضعة ملاعق من الأرز وخضار مسلوق وأحيانا قطعة تسمى " لحم مجازا .. وأحيانا سمك بدل الخضار والأرز مرة كل أسبوعين وغالب الأيام عدس اصفر .. طبعا كان العساكر ينهبون اكثر من نصف ما تصرفه لنا إدارة السجن .. لكن بصفة عامة كان الطعام افضل مما كان يأكله إخواننا المعتقلون في السجون المدنية ( طره ــ القلعة ــ أبو زعبل ) وذلك لقلة الإمكانات والاعتمادات في مصلحة السجون أما النوم فكان مصر وفا لكل واحد بطانية وأحيانا تصرف بطانية زيادة لكل زنزانة لكي ينامون عليها فوق ارض الزنزانة . أما أرض الزنزانة فهي عبارة عن طبقة من الأسمنت والرمل ( محارة ) وليس فيها بلاط 9- شباك الزنزانة العلوي مفتوح ليلا ونهارا وهو عبارة عن أسياخ حديد فقط ليس عليها أي شباك .. وكان هذا الشباك يمطرنا في الشتاء بالصقيع والبرد والشديد . 10- ليس لنا صلة بالعالم الخارجي : 1. لا زيارات مع الأهل .. ولا خطابات 2. لا ملابس ولا أغذية من الخارج 3. لا يوجد مقصف ولا كانتين لشراء أي شيء 4. لا توجد جرائد أو مجلات أو كتب 5. المشي في السجن حافي القدمين طوال فترة التحقيق 6. لا يوجد ساعات أو نظارات مع أي معتقل إلا القليل النادر الذي لا يكاد يرى فيسمح له بنظارة طبية 7. لا يوجد راديو أو تليفزيون حتى لا نعلم شيء عن العالم الخارجي 8. ليس في الزنزانة أي إضاءة من أي نوع سوى ضوء النهار وأحيانا يدخل شعاع ضئيل من الشمس ــ على استحياء ــ داخل الزنزانة قليلا في الصباح أو في المساء ثم يختفي 9. عدد قليل جدا من الإخوان نسوا معه المصحف فدخل به إلى الزنزانة وهذا كان سعيد الحظ جدا. 10. كان وسائل التعذيب .. أنه بعد تمزق ملابس كثير منا في التحقيقات لعدد كبير منا أن أحضروا ملابس الإعدام الحمراء كلباس لنا بعد أن تقطعت ملابسنا من الكرباج ( السياط ) والكلاب كنوع من الإرهاب .. وهو أن مصيرنا الإعدام إما شنقا أو رميا بالرصاص .. وبالفعل كانت هذه وجهة نظر المشير عبد الحكيم عامر .. وكان يقول مات من الجيش المصري آلافا مؤلفة في اليمن ولم يتكلم مصري واحد .. فلو زادوا ألفين فلن يحدث أي شيء غير عادى عند هذا الشعب المصري الطيب .. ولكم كانت مصلحة شمس بدران في المحاكمات والقضايا والإعلان الإعلامي المكثف في الإذاعة والتليفزيون والجرائد والمجلات .. وهكذا فإن اختلافهما كان رحمة من الله . واستمر الحال على هذا بد أن أكملت النيابة تحقيقاتها في خيام داخل السجن الحربي
1- بدأ تسليم " الإدعاء القانوني " أو ما يسمى قانونا " أمر الإحالة إلى محكمة أمن الدولة العليا " في أول فبراير 1966م واستمر تسليم أوامر الإحالة إلى المحكمة حتى نهاية شهر فبراير 1966م وتحدد أول إبريل لبدء المحاكمات .. ثم حلاقة الشعر لجمع من هم تحت المحاكمة .. وفي نفس الوقت تم ترحيل من هم ليسوا مطلوبين للمحاكمة وكان عددهم يتعدى الألف .. وبقى في السجن حوالي أربعمائة رهن المحكمة مع حوالي مائة أخ تحت ظروف استكمال استجوابات وتحقيقات للمباحث وليس للمحاكمة 2- تم السماح للأهالي بإدخال غيارات من الملابس الداخلية(1) والبيجامات والجلاليب والقمصان والبنطلونات والصابون والأدوية 3- تم بدأ مرحلة الطوابير وفيها نخرج طوابير ابتداء من السابعة صباحا حتى الخامسة مساء .. مع السماح بفترة أطول في دورات المياه سواء لقضاء الحاجة أو الشرب 4- يتم يوم الخميس السماح لنا بغسل الملابس ونشرها في أي مكان من الصباح حتى الظهر 5- طابور بعد الفجر لنظافة حوش السجن ونقوم بكنس السجن بأيدينا ولا توجد مقشات .. فالأيدي هي المقشة المعتمدة والمفضلة في السجن الحربي ، بعد ذلك نقوم برش السجن بالماء مستخدمين الإناء ( القصرية ) الكاوتش التي في الزنزانة 6- يبدأ طابور الصباح في السابعة صباحا حيث نقف لمدة ساعة ويبدأ طابور الجري للشباب .. والمشي بالخطوة السريعة للشيوخ والمرضى .. يحوطنا العساكر بالمدافع الرشاشة والكرابيج وأحيانا يركب اللواء حمزة البسيوني حصانه لكي يتفرج علينا .. وكثيرا ما يأمر بجلد أربعة أو خمسة من الإخوان الذين لا يعجبه منظرهم أو أدائهم لإرهاب الباقين .. هذا الإرهاب يحدث عادة مرة في الأسبوع .. كما يفعل ذلك صفوت الروبى مرة في الأسبوع لاستمرار الإرهاب .
استطاع الإخوان أن يحولوا الطوابير من وسيلة تعذيب إلى عدة مدارس : - مدرسة لفكر الشهيد سيد قطب يديرها الأستاذ محمد قطب - ومدرسة الدعوة والحركة كان يديرها الشهيد محمد هواش - ومدرسة التاريخ كان يديرها الحاج أسعد محمد أحمد صاحب مكتبة - ومدرسة أخرى تنسج على نفس المنوال السابق كان يديرها الشهيد عبد الفتاح إسماعيل كأنه كان يودع الإخوان - وتاريخ الدعوة كان يتحدث عنه الكثيرون من فطاحل الإخوان المسلمين أمثال الأستاذ فريد عبد الخالق والأستاذ محمد شمس الدين الشناوي وغيرهم كثير - وكلام عن الفقه وعلوم الدين كان بتكلم فيه مجموعة من أفاضل علماء الإخوان المسلمين أمثال المرحوم محمود أبو عبية .. والشيخ محمد المطراوي ( إمام مسجد السيدة زينب وعضو مجلس الشعب ( 84 ـ 87 ) والشيخ د. [[عبد الستار فتح الله سعيد ]] وعبد الستار محمد نوير .. ( ولقد تتلمذت على يديه فترة طويلة ) والشيخ عبد الوهاب الشاعر رحمه الله ولقد كانت للأخ علي جريشة ثقافات عالية عن الشريعة والمشروعية العليا ينشرها بشيء من الحذر .. لأنه كان أحرص على سماع قيادات الإخوان فكرا وتاريخا ، هذا عن الثقافة - أما المدرسة الأكبر فكانت مدرسة حفظ القرآن الكريم .. فلقد تم فتح عشرات " الكتاتيب " لتحفيظ القرآن الكريم .. فالذين يحفظون القرآن الكريم يسيرون في الطوابير جنبا إلى جنب .. الشيخ يقول آية والتلميذ يرددها حتى يحفظها وهو يجرى أو يمشى ثم آيه بعدها وهكذا .. وكان من أصحاب الفضل في هذا الشيخ حافظ أيوب كذلك كان الأخ علي يوسف ( رحمه الله ) من إخوان المنوفية يقوم أحيانا بهذا الدور الكريم .. وغيرهم كثير .. هذا نموذج أما النموذج الثاني فهو تبادل الحفظ .. هذا يحفظ خمسة أجزاء والآخر يحفظ خمسة غيرهم فيتبادلان ما عندهم من قرآن فيصير كل واحد منهم حافظا لعشرة أجزاء ثم ينتقلون مع مشايخ ليحفظ كل منهم جزءا آخر أو جزءين ثم يتبادلانها في ثنائيات قرآنية .. وبهذه الطريقة حفظ كثيرون القرآن الكريم وأذكر من هذه الثنائيات د. محمود عزت إبراهيم إبراهيم مع الأخ الكريم عبد العزيز عبد القادر وأحيانا محمود عزت مع جابر رزق رحمه الله ولقد كنت أتبادل الحفظ مع الأخ الدكتور مرسي مصطفى مرسي حتى أتممنا حفظ القرآن الكريم بفضل الله ولذلك كانت الطوابير تسمع فيها دويا كدوي النحل من كثرة الثنائيات التي تحفظ القرآن الكريم والذي لا شك فيه أن هذه الكتاتيب جعلت الإخوان ينسون أو يتناسون أن الطوابير لون من ألوان التعذيب بالإرهاق الجسدي الشديد مع التجويع المستمر ونقص الطعام الملحوظ .. ولكن القرآن كان غذاء وشفاء كما كان يردد الشيخ حافظ أيوب " القرآن مثل اللبن الحليب " .. فالقرآن يغذى فطرة القلوب واللبن الحليب يغذى فطرة البطون .. وكثيرا ما يكفى القرآن عن اللبن الحليب فيغذى القلوب والبطون معا .. ألا تراك ـ يا أخي ـ لا تشعر بالجوع ولا بالتعب حينما تعيش مندمجا أو منغمسا في جو حفظ القرآن الكريم. وقصة أو معجزة تخص طوابير التعذيب هي قصة الأخ جابر رزق فلقد كان قرار الأطباء قبل القبض عليه بأيام هو تثبيت إحدى رجليه ومنع عمل مفصل الركبة وبهذا يفقد إحدى رجليه عمليا مع بقائها واقعيا .. في تقرير طبي معقد ومحزن وكان لا يكاد قبل السجن يتحرك عليها بل يتحرك برجل واحدة طوال اليوم تقريبا .. ثم جاءوا به إلى الطوابير .. فذهب يطلب الإذن له بالسير في طابور ( المرضى والعواجيز ) فرفض صفوت الروبي ذلك .. وكان الجري في الطوابير مرهقا على الشباب الأصحاء .. ولكنه ظل يردد في الشهور الأولى وهو يجرى في طوابير الشباب يناجى ربه مناجاة حارة تهز القلوب . كان العسكري يقول .. شمال .. يمين .. شمال .. يمين .. وجابر رزق يقول من قلبه بتضرع .. عفوك .. عونك .. عفوك .. عونك .. عفوك .. عونك .. وكانت عيناي تدمع إذا صادفني المشي وراءه في الطابور .. لأنها كانت مناجاة ومناشدة لله عز وجل من سويداء القلب .. بحرارة إيمان بقدرة الله وعونه . ومن عجب انه بتكرار هذا الدعاء شفيت رجليه إلى حد كبير وظل يمشى عليهما بعدها ثلاثة وعشرين عاما حتى لقي ربه ( 1988 م ) رحمه الله رحمه واسعة . ولقد ظلت الطوابير واستمرت حتى آخر يوم لنا في السجن الحربي في 16 / 6 / 1967م
1- بدأت الدائرة الأولى في المحاكمات برئاسة الفريق أول محمد فؤاد الدجوي وحوكم فيها قيادة التنظيم تحت إرهاب أمنى مستمر .. فالويل كل الويل لمن يقول شيئا في المحكمة ليس على هوى شمس بدران واتباعه .. بل حتى الدجوى رئيس المحكمة كان يتعامل بغلظة وسخرية من كل الإخوان .. الذين كانوا يبادلونه نفس المشاعر . 2- كثير من أهالي الإخوان لم يستطع توكيل محامين للدفاع عنهم فانتدبت المحكمة المحامين الذين عليهم الدور في الجدول كما هو عرف المحاكم .. لكن بعض الأهالي وكلوا عنهم محامين أكفاء مثل : - محمد شوكت التوني .. الذي قدم بحثا قانونيا عن مدى مشروعية تهمة الشروع ووضعها في القوانين العالمية .. وكان بحثا رائعا ولكن هيهات .. ولقد قبضوا عليه بعد ذلك وأودعه معنا في السجن الحربي. - د. محمد الرجال .. أستاذ القانون آنذاك الذي قدم بحوثا ومرافعات قيمة انتهى إلى أن القضية عبارة عن أ- كلام في كلام ... وقيل وقال وليس فيها أي فعل ب - القضية كلها مبنية على اعترافات علي عشماوي على الآخرين اعترافات مكتوبة تحت التعذيب الشديد بل القتل أحيانا - الأستاذ عبده مراد المحامي .. ولقد أبلى بلاء حسنا في القضية - الأستاذ محمد عطية خميس المحامي .. الذي كان يضايقنا أحيانا ثم يطلب لنا البراءة أو استعمال الرأفة .. على استحياء شديد .. رحمه الله . 3- في القضية الثانية التي كنت متهما ضمن المتهمين فيها كان رئيس الدائرة هو الفريق على جمال الدين محمود رئيس هيئة أركان الجيش آنذاك ووجد أن القضية كلها " كلام في كلام " وليس فيها أي فعل جنائي , وأن رئيس القضايا كلها ( سيد قطب ) لا يستحق أكثر من ثلاث سنوات سجنا إذا ثبتت التهمة ثبوتا لا يقبل الشك .. وانتهت المحاكمات وفوجئنا بموت مفاجئ لهذا القائد العسكري الكبير وقالوا أن جهة ما قتلته بالشريط اللاصق , والله أعلم بالحقيقة وأعيدت المحاكمة مرة ثانية بالنسبة لهذه الدائرة فقط بإجراءات جديدة . 4- حاول أحد المتهمين في القضية الثانية إنكار التهمة أو حتى التشكيك فيها أمام المحكمة .. وكان هذا هو الأخ الكيميائي منصور عبد الظاهر منصور من إخوان مدينة الخانكة قليوبية .. فكان جزاءه رادعا تعذيبا بشعا في السجن الحربي بعد عودتنا من المحكمة مباشرة .. ليس هو وحده ولكن القضية كلها تم تعذيب جميع أفرادها بأن خلعوا ملابسهم في العراء .. ما عدا ما يستر العورة والصقوا وجوههم بالحائط .. ثم كان هذا التعذيب ولكن بجرعة مشددة مع الأخ منصور عبد الظاهر. 5- تكرر هذا الأمر مرة ثانية في القضية الرابعة حينما حاول المهندس الزراعي محمد بدير زينة الإنكار والتشكيك أمام القاضي في المحكمة .. ولكنهم هذه المرة نكلوا به تنكيلا شديدا وبشعا بان أغرقوه في بئر المياه المسمى " الفسقية " ثم انهالت عليه السياط تعذيبا لكي يكون عبرة لكل من تسول له نفسه الإنكار في المحكمة .. وهكذا تكررت مهزلة التعذيب أمام النيابة مرة أخرى ولكن من اجل المحكمة .. ولقد كان محمد بدير زينة صابرا محتسبا وأمضى ليلة كاملة في التعذيب والتنكيل بالسياط والغمر في مياه " الفسقية " التي في السجن الكبير . 6- وبعد أن انتهت المحاكمات ظللنا من شهر يونيو 1966 حتى أول سبتمبر 1966 حيث صدرت الأحكام. 7- في 29/ 8/ 1966 تم تنفيذ أحكام الإعدام في الشهداء الثلاثة سيد قطب , محمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل . 8- تم ترحيل من صدرت ضدهم أحكام البراءة أو السجن سنة أو سنتين إلى المعتقلات في طره وأبو زعبل . 9- إن نسيت فلا يمكن أن أنسى الهدية الجميلة التي أهداها لي الشهيد محمد يوسف هواش . فلقد أهداني بيجامة جديدة وجميلة قبل الحكم عليه بالإعدام بفترة قليلة , وكان يطمع في الإفراج عنى وألا آخذ حكما ولما صدر على الحكم بالأشغال الشاقة أثنى عشر عاما أهديتها لزميلي المهندس عز الدين عبد المنعم على لأنه حكم له بالبراءة فكان في مقدوره الانتفاع بها أما أنا فسوف البس ملابس السجن الزرقاء. 10- وبعد صدور الأحكام لم يبق في السجن سوى من صدرت ضدهم أحكام بثلاث سنوات فأكثر .. فبدأت مرحلة عملية " غسيل المخ. غسيل المخ بعد أن انتهت التحقيقات قامت الحكومة بعمل " استبيان " شمل جميع ظروفنا الاجتماعية والثقافية وكذلك شمل ظروف النشأة لدراسة هذه الظاهرة .. ولما كانت هذه " الاستبيانات " ليست سلوكا مصريا ـ آنذاك ـ فعلمنا أن أصابع خفية بدأت تدرس هذه القضية دراسة سيكولوجية وعلمية .. ولقد كان النقيب جلال الديب ومعه زميل آخر في مكتب شمس بدران يتدارسان معي إجاباتي على هذا الاستبيان .. فسألاني سؤالا مباشرا عن أسباب انضمامي للتنظيم .. فقلت لهم أن والدي ـ رحمه الله ـ توفى في أغسطس 1964 م وكان موته صدمة لي جعلتني اتجه إلى التدين .. فهل كان عندكم حل في منع والدي من الموت ؟! .. أن المصائب تجعل المصابين يتجهون إلى التدين . وسوف يتبع المصاب أوّل متدين يقابله في الطريق .. ولقد كان أول من قابلته هو فاروق المنشاوي رحمه الله فازداد الضابط حيرة .. ولم يحر جوابا .. ولكنه كان هناك على ما يبدوا فريقا أكبر منه يدرس ظاهرة " التدين " في " شباب 65 " كما كانوا يسموننا . أمر آخر أن معظم " شباب 65 " كانوا من الطبقة المتوسطة فهل يكون القرار هو محو هذه الطبقة المتوسطة من الخريطة السكانية في مصر !! كيف يحدث ذلك .. وهذه الطبقة المتوسطة هي التي دعمت حكم عبد الناصر ولكن يبدو أن قرارات من كانوا يدرسون هذه الظاهرة ظنوا أن عبد الناصر خدعهم بإعلانه محو الظاهرة الدينية في مصر والإخوان المسلمين بالذات ... ويجب أن يرحل عبد الناصر فهل فشل عبد الناصر في تنفيذ خطة محو التدين من مصر ؟ هل كان يجب أن يرحل عبد الناصر لأنه فشل .. !! هل كانت نكسة (1967م ) تلك الطامة الكبرى .. الذي دبروها لعبد الناصر بإحكام شديد .. هذا أن كان هو برئ من تدبيرها .. هل كانت هذه النكسة قرارا بسرعة إبعاد جمال عبد الناصر ومن معه عن الحكم ؟ هل الخوف من مفاجآت أخرى لهذا الاتجاه الديني جعلهم يعجلون بنكسة ( 1967م ) ليقطف اليهود الثمرة قبل أن يسيطر التيار الديني على الحكم في مصر بمفاجأة أخرى قد تنجح ويستولى بها على الحكم ويدمر أحلام الصهاينة خصوصا أن الشعب المصري يقف دائما موقف المتفرج وليذهب عبد الناصر إلى الجحيم .. ولقد كتب محمد حسنين هيكل عن هذا المعنى مقالا مطولا يعلن خوفه من استغناء القوى العالمية والخفية عن عبد الناصر تحت عنوان مقالة الأسبوع " بصراحة " ولكنى لا أذكر تاريخ المقال بالضبط .. فلقد كان حصولنا على الجرائد في السجن الحربي مغامرة كبرى .. ولكننا كنا نأخذ الجرائد من ( الزبالة ) التي كان أصحاب القضايا الأخرى الذين لهم حق شراء الجرائد يقذفون بالجرائد بعد قراءتها أو الأكل عليها في الزبالة فيقوم أحد الإخوان بالبحث عنها تحت رقابة إخوانية مشددة خوفا من إدارة السجن وبهذا كنا نحصل على المقالات المهمة من الجرائد وخصوصا مقال محمد حسنين هيكل .. المقرب جدا من عبد الناصر آنذاك .. والذي يخفى وراءه من الأسرار ما لن يظهر إلا في يوم " القيامة الكبرى " وبالمناسبة كان هناك في السجن الحربي بعض الضيوف هم : 1. قضية الرائد عبد المنعم أبو زيد مدير مكتب شمس بدران السابق 2. قضية تهريب مخدرات لأعراب من سيناء 3. يهودي بتهمة التجسس أما عملية غسيل المخ فلقد تمت منها الإجراءات الآتية : 1- كتب صلاح نصر مدير مخابرات عبد الناصر مؤلفا من جزءين عن الحرب النفسية .. منها بحث طويل عن غسيل المخ في العالم كله عبر التاريخ وأغلب الظن أن كبار أساتذة علم النفس في مصر شاركوا في كتابته .. بل لعلهم هم الذين كتبوه له .. ولا عجب في ذلك فكل مخابرات العالم عندها جيش جرار من حملة الدكتوراه في العلوم النفسية والاجتماعية والسيكولوجية .. ومهمتهم العبث بعقول وأمخاخ ( جمع مخ ) الذين يعارضون النظام .. وكثير من معارضي الحكومات فقد عقله أثناء اعتقاله بعمليات غسيل المخ هذه(1) ولقد كان من الوسائل البدائية والناجحة لهذا هو إيداع المعارضين في مستشفيات الأمراض العقلية كما حدث مع أحد منفذي ثورة يوليو الشيوعي العقيد يوسف صديق , وكثيرون غيره لا يعلمهم إلا الله أودعوهم في مستشفى الأمراض العقلية آنذاك . 2- تولى ضابط مخابرات اسمه عقيل مظهر مهمة الإشراف على برنامج غسيل المخ للإخوان وصمم برنامجا لمحاضرات للإخوان في غسيل المخ لمناقشة كل القضايا الفكرية عند الإخوان واختار لها أساتذة من الجامعات وبعض من رجال الدين في مصر ومن هؤلاء أ - الشيخ محمد بن فتح الله بدران أستاذ علم مقارنة الأديان بالأزهر الشريف وعم العقيد شمس بدران ب- الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار وذلك قبل أن يصير شيخا للأستاذ فلقد كان أستاذا في الشريعة بالأزهر ج - الأستاذ الدكتور أحمد زكى شلبى أستاذ التاريخ بكلية دار العلوم د - الشيخ عبد اللطيف السبكى عضو هيئة كبار العلماء هـ - عبد المغنى سعيد وكيل وزارة الشئون الاجتماعية ومحاضر اشتراكي و - الدكتور محمد أحمد وصفى أستاذ بكلية الطب البيطري 3- ليس الموضوع موضوع محاضرات فقط .. ولكن العملية عبارة عن برنامج متكامل العناصر , ومناخ متناسق مع الهدف من المحاضرات .. ولقد طبق هذا البرنامج علينا كاملا وبدقة.. ولكنه رغم ذلك فشل .. كيف ؟ .. هذا فضل الله وحده علينا يقول صلاح نصر في الفصل الثاني من الجزء الثاني لكتابه " الحرب النفسية " بعنوان " اصطلاح جديد ... غسيل المخ : " تختلف الأساليب المتبعة في تقويم الفكر تبعا للظروف وتبعا للجماعة(2) التي تكون هدفا للبحث . لكن الأصول الأساسية واحدة متماثلة في كل الحالات فهي تهدف إلى السيطرة على جميع الظروف المحيطة بالحياة الاجتماعية والجسمانية للفرد أو للجماعات لإثبات أن الأفكار الفردية غير صحيحة ويجب أن تتغير ... كما تهدف إلى تنمية الطاعة والإخلاص لعقيدة معينة فللسيطرة على بيئة الشخص الاجتماعية تبذل كل محاولة لتحطيم ولاءه لأي فرد أو جماعة خارجة . ويصحب هذا أن يوضّح للشخص أن اتجاهاته وطوابع تفكيره غير صحيحة ويجب تغييرها كما يجب أن يعطى ولاءه الكامل لعقيدة معينة , ويخضع لها دون تردد وعلى سبيل المثال استخدمت الأساليب التالية في السجون السياسية المختلفة 1. عزل الشخص عن الحياة العامة وذلك بان يزج بالشخص بالفرد في زنزانة ذات أبواب حديدية وفي داخل أسوار حديدية بعيدا عن كل معارفه القدامى , وعن مصادر المعلومات وصور الحياة العادية . وهو في هذه الحالة يصبح نهبا للتعليقات والتحذيرات المفزعة . وغشى عقله غيوم تحجب ما يدور خارج سور زنزانته . ولم يختلف التكنيك الذي يستخدم اليوم عن ذلك الذي استخدم أيام محاكم التفتيش , أو الذي استخدمه النازيون مع أسراهم في معسكرات الاعتقال ولقد كان ترك الأسير لمدة طويلة دون أن توجه له أية اتهامات , ودون السماح بتسرب أي أخبار إليه عن أسرته أو عن العالم الخارجي ، فيشعر الفرد بأنه أصبح وحيدا في هذا العالم ولا يوجد بجواره من يعاونه في محنته . ويشجع على ذلك أن اخلص أصدقائه وأحبائه لا تواتيهم الجرأة ليسألوا عن مكانه أو يشيروا إلى انهم على معرفة به خشية التعرض للاعتقال والاستجواب ، ومن ثم يتم عزله وبعد فترة من القلق المستمر , وبتطبيق بعض الأساليب الأخرى التي سنذكرها بعد ذلك يبدأ الاستجواب , ومن المحتمل أن يتحطم الإنسان تلقائيا , وبدرجة ملموسة نتيجة القلق والتفكير الطويل فيما يعترف به , ويصبح في حالة بؤس وتعاسة. وغالبا ما يناله الضعف والوهن نتيجة هذه الآلام الطويلة وما يصاحبها من ضغط فسيولوجي بحيث يصبح عقله ملبدا بالغيوم فلا يستطيع أن يميز بين أي شيء , ويهبط إلى قرارة نفسه أي إيحاء يُقدم إليه بواسطة الأخبار أو الحيلة .... " 2. الضغط الجسماني وهذا يتفاوت من الحرمان من الطعام ومن النوم إلى التصفيد بالأغلال كعقوبة لعدم التعاون مع المستجوب . والهدف من هذا كله هو الوصول بالفرد إلى درجة من الإعياء والانهيار بحيث يكون عقله قابلا لتقبل أي توجيه من المستجوب والواقع أن الجوع يلعب دورا أساسيا في الحياة العادية دون أحوال بيولوجية معينة منها الغذاء اللازم لبناء خلايا الجسم وتجديدها والتغذية السليمة هنا ليست بكمية الغذاء الذي تمتلئ به المعدة . فإننا نعرف أن الجسم يحتاج إلى نسبة معينة من المواد العضوية والفيتامينات التي تمكنه من تأدية وظيفته . والوجبات الغذائية غير المتوازنة تخلق نوعا من الجوع . فالعبرة هنا ليست بالبطون المنتفخة ذات البنية الضعيفة والذهن المشتت ولكن التغذية الجيدة هي التي تعمل على توازن الوجبات التي تعطى للجسم طاقته اللازمة . ولقد استخدم التجويع بهذا المعنى كعنصر من عناصر عملية غسيل المخ إذ كان يعطى للسجين ما يكفيه من أطعمة تمكنه من الاستمرار على قيد الحياة وليس بالكمية التي يتطلبها الجسم لجعل ذهنه يؤدى وظائفه بدرجة كافية . وكانت الأطعمة التي تقدم له تعدل بين فترة وأخرى لتحقيق الهدف المطلوب إذ كانت نسب الطعام توضع تبعا لصفات المقاومة التي يتصف بها الفرد . فكلما ازدادت مقاومته تعمد المستجوبون تجويعه . إن الجوع يجعل الإنسان يسير نحو حتفه بمحض إرادته بل قد يدفعه إذا وصل إلى درجة مفزعة إلى أن يتخلى عن معتقداته وقيمه وخاصة إذا عاون ذلك ظروف مضنية أخرى والإجهاد لا يقل تأثيرا على الإنسان عن الجوع بل قد يبزه إذ أن الجسم يحتاج لعدد معين من الساعات للراحة والنوم وقد يظل بعض الناس في فترة من الفترات دون نوم لمدة يوم كامل , وظل الكثيرون على قيد الحياة بقسط لا يذكر من النوم إلا أن الاستمرار في ذلك من شأنه أن يقضى على صفاء الذهن ويؤدى بأقوى الأشخاص إلى الجنون والانتحار لأن الإنسان يصل في النهاية إلى درجة من الانهيار وتشويش ملكته العقلية وفقدانه كل إحساس . ويستغل المستجوبون في السجون السياسية هذا كله مهيئين بيئة يصبح فيها النوم شبه مستحيل , إذ يوقظون الفرد في ساعة غير عادية أو يجبرونه على الاستيقاظ كلما نام أو يوقظ في غلظة وخشونة ثم يستجوب لفترة قصيرة ويعاد ثانية لزنزانته والهدف من ذلك كله هو إجهاد المتهم أو الأسير حتى يصل في النهاية إلى درجة الانهيار تمكن المستجوب من الإيحاء إليه بما يريد.
يتخذ هذا الأسلوب شكلين متناقضين , فإما أن يكون مباشرا كاستخدام العنف والضرب والركل حتى الموت وربط السجين بشدة من اسفل بحيث لا يستطيع حراكا ثم يوضع حجر ثقيل فوقه ويترك هكذا لمدة طويلة إلى غير ذلك من الوسائل غير الإنسانية . وأما التهديد والعنف بشكل غير مباشر فمثلا قد يتحدث المستجوب مع السجين بمنطق هادئ بينما يجعله يكتشف عن طريق شخص آخر أن صديقه الذي لم يتعاون قد ضرب أو اعدم . وكانت لهذه الطريقة وسائل كثيرة فمثلا قد يعامل الفرد معاملة ودية طيبة ويتكرم المستجوب فيعطيه لفافة تبغ , وفي أثناء الحديث يسمع هذا الفرد زميله في الغرفة المجاورة يصرخ من الألم لرفضه الإجابة عن نفس الأسئلة الموجهة إليه أو أن يوضع عدد من الأسرى في زنزانة واحدة وعندما يعود أحد الزملاء مخضبا بدمائه كقطعة من اللحم أو تعاد ملابسه في لفافة صغيرة يكون هذا كافيا للآخرين كصورة من التهديد غير المباشر . ومن الأساليب الوحشية التي تستخدم في مثل تلك الحالات وضع الفرد في غرفة على شكل إناء كبير ثم يوثق داخل الإناء بحيث لا يستطيع التحرك ويصب الماء بعد ذلك ببطء داخل الإناء حتى يصل مستوى الماء إلى طرف أنفه. على أن الشخص الذي تقام عليه هذه التجربة وتكرر لفترات طويلة قد تصل إلى الشهر لا يستطيع في كل مرة أن يعرف عند أي مستوى سيصل الماء فتارة يقف المستوى عند عينه وأحيانا يصل إلى فمه مما يجعله يصارع بشدة لإبقاء رأسه خارج مستوى الماء . ومن هذه الأساليب نفسها مثل مأخوذ من الحر بالعالمية الثانية إذ يجرد أسير الحرب من ملابسه ويوضع في العراء في طقس درجة حرارته تحت الصفر ثم يدلى بقدميه في حوض كبير ممتلئ بماء سرعان ما يتجمد أو يوضع الأسير في أحد الأركان ويستجوب في أثناء تساقط قطرات من الماء فوق رأسه كل دقيقة ويستمر ذلك لساعات طويلة.
تعتمد هذه الوسيلة على اتباع كل نظم السجن التي تتطلب الخضوع التام مع الإذلال في الأسلوب . تناول الطعام . والنوم والاغتسال وما إلى هذا طبقا لنظم محددة مع عدم القيام بأي عمل دون الحصول على إذن من الحارس وإحناء الرأس وإبقاء الرأس وإبقاء الأعين موجهة إلى الأرض أثناء التحدث إلى الحراس كما تستخدم الضغوط الاجتماعية مثل الاستجواب لمدد طويلة ومثل عقد اجتماعات يحاول فيها الأفراد الذين تقدموا في عمليات التقويم حث الأفراد الأقل تقدما باستخدام عدة وسائل مختلفة , كالتمسك والمداهنة والإزعاج والمضايقة أو محاولة إذلالهم وسبهم.
"واستخدمت الدروس الجماعية اليومية في الصين حيث كانت تدرس العقيدة الجديدة بواسطة قراءات ومحاضرات تتبعها أسئلة ليثبت كل فرد هضمه للدراسات التي يتلقاها على أن يتبع هذا بمناقشات يطلب فيها كل فرد أن يوضح كيف يستنبط الأهداف من مقدمات الدراسات الشيوعية وكيف يمكن تطبيقا هو لنفسه , ويعتبر النقد المتبادل نقد النفس جزءا هاما من المناقشات التي تجري بين أفراد الجماعة " انتهى كلام صلاح نصر في كتابه حرب الكلمة والمعتقد . أما تطبيق الخطة علينا فقد تم كاملا بالصورة التالية : 1- التعذيب بصوره المختلفة التي تم شرحها في الفصول السابقة 2- الحرمان من الطعام والتجويع المستمر لعدة شهور 3- الحرمان من النوم بالليل وذلك بإذاعة أغاني أم كلثوم طوال الليل بصوت مرتفع حتى تحرم من النوم .. ومن يستيقظ لا يستطيع قيام الليل بسبب تشويش الإذاعة الشديد علينا .. حتى كدنا نحفظ أغاني أم كلثوم كلها 4- الإجهاد الشديد بالجري طوابير طوال النهار من الثامنة صباحا حتى الخامسة مساء حتى أن كل واحد منا فقد حوالي خمسة وعشرين كيلو جراما وصرنا في منتهى الرشاقة من كثرة الجري وقلة الطعام . 5- الوقوف أحيانا تحت الشمس الحارقة حتى أن الأخ الشاعر المرهف الحس الدكتور عبد الرحمن بارود(1) سقط من طوله فجأة بسبب ضربة الشمس والدوار الشديد . 6- التنكيل الشديد والتعذيب الرهيب مرة كل أسبوع بأحد الإخوان واذكر منهم الاخوة محمد بدير زينة , والأخ محمد سالم ( إسكندرية ) والمهندس محمد عبد الفتاح رزق شريف , والأخ محمد رحمي وغيرهم كثير . 7- الحبس الانفرادي لبعض الإخوان أمثال سيد نزيلي وأحمد عبد المجيد , وعبد المجيد الشاذلي , والدكتور [[عبد الفتاح الجندي ]]. 8- إطلاق الإشاعات بموت بعض الإخوان مثل إشاعة موت الأستاذ المرشد حسن الهضيبى .. وإشاعة موت عبد المجيد الشاذلي أثناء محاضرات غسيل المخ .. ولقد صلينا صلاة الغائب على روح الشهيد الحي عبد المجيد الشاذلي الذي عاد إلينا بعد خطفه بيننا في السجن الكبير وإيداعه بعيدا عنا في سجن آخر من مباني السجون الحربية. 9- كانت تحية أول رمضان من الجلاد صفوت الروبي لنا أن استدعى المهندس محمد عبد الفتاح رزق شريف ( 56 سنة آنذاك ) وقام صفوت الروبي بركله ركلة شديدة أوقعته على الأرض وهو صائم هزيل الجسم ضعيف البنية كبير السن . 10 - من وسائل التعذيب سماع صراخ الآخرين بين يدي الجلادين مع جلوسه على الأرض ووجهه إلى الحائط من التاسعة صباحا حتى الحادية عشر مساء كما حدث لمجموعة صلاح العطار ، وسيد الحسيسي , وإسماعيل الهضيبي .. ومن معهم طيلة أربعة اشهر دونما استجواب إلا نادرا مما حطم أعصابهم تحطيما . 11- رمى الأخوين محمد بدير زينة ومحمد إبراهيم سالم في حوض مياه عمق متر ونصف ( الفسقية ) وضربهم بالسياط " الكرباج " على هذا الحال 12- الحرمان من الاتصال بالأهل أو بخارج السجن ومنع الكتب والجرائد والمجلات حتى المصحف الشريف منعوه عنا لفترات طويلة(1) 13- وضع بعض الكيماويات التي تسبب الإسهال في الطعام ثم الجري في طوابير تحت ضغط الحاجة إلى دورة المياه الشديد بسبب الإسهال .. وكان عذابا مهينا .. فقد لا يستطيع الواحد أن يحافظ على تماسكه فينساب الإسهال على ملابسه 14- الشرب من " القصرية " المصنوعة من الكاوتش فكان الماء يحمل رائحة البول والبراز والكاوتش ... !! 15- استعمال اليد كمقشة لكنس السجن باليد مع الجلوس القرفصاء في ظل هذه الظروف بدأت محاضرات التوعية وغسيل المخ وكانت توصية الإخوان بتفويت الموقف .. ولكن ما حدث لم يكن على هوى الحكومة .. ويأبى الله إلا أن يقوم بعض الاخوة بإقامة الحجة على هؤلاء المشايخ المحاضرين منهم 16- د. عبد الستار فتح الله سعيد سأل د. محمد فتح الله بدران سؤلا مباشرا عن حكم الإسلام في الحاكم الذي يحكم ويشرع من دون الله مخالفا بذلك أمر الله بان يحل الحرام ويحرم الحلال !! فلما انتهت المحاضرة بدأ التعذيب بعد عودتنا إلى الزنزانة بخمس دقائق فنزلنا إلى فناء السجن الحربي وبدأ التعذيب بالجري السريع داخل حوش السجن ساعات طويلة تعذيبا للشيوخ والشباب .. والغريب أن صاحب السؤال وهو الشيخ عبد الستار سعيد أخذته سنة من النوم فنام في دقائق معدودة سكينة من الله داخل الزنزانة ولم يمسسه سوء التعذيب .. حفظا من الله وآية لنا أن صاحب كلمة الحق محفوظُ مُصان بمشيئة الله في احلك الظروف بمشيئة الله عز وجل 17- د. عبد الفتاح الجندي أخصائي الأمراض الجلدية ناقش الدكتور محمد أحمد وصفى مناقشة علمية حرة ولكنه أحرج الدكتور المحاضر فأخذوه وضربوه ستين سوطا ( كرباجا ) على رجليه ثم أودعوه في سجن آخر انفرادي وظللنا أياما طويلة قرابة الشهرين لا نعرف عنه شيئا ونظن انه قد مات حتى عاد إلينا بعد حوالي الشهرين 18- استدعى د. محمد فتح الله بدران الأخ عبد المجيد الشاذلي وناقشه ولكن عبد المجيد كان أقوى حجة منه وأحرج الأستاذ المحاضر فكان أن عذبوه بالكرباج وأودعوه في زنزانة وأشاعوا قتله كما ذكرت آنفا وبكينا عليه كثيرا وصلى بعضنا عليه صلاة الغائب واحتسبناه مع الشهداء 19- آخر المناقشات وأصعبها كانت مع مجدي عبد العزيز متولي أحد قادة التنظيم .. الذي قال للدكتور محمد فتح الله بدران " أن الإسلام نظام شامل للحياة . ثم قرأ قول الله عز وجل " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين " (1) فرد الشيخ المحاضر : أن الله يقول للنبي محمد يا محمد : قل فالخطاب موجه للرسول وليس للمسلمين !! فرد عليه الأخ مجدي عبد العزيز : أن الله سبحانه وتعالى يقول " قل هو الله أحد " فهل هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ؟! فبهت الشيخ أيما بهتان وألغى المحاضرة وتوعدنا بالنقاش في اليوم التالي وحددوا بعض الأسماء لمناقشتها ومنهم فيما اذكر المهندس المرحوم محمد أحمد عبد الرحمن ( مهندس مناجم ) الذي ظل يصلي طوال الليل طالبا من الله أن يثبته في مواجهته مع د. محمد فتح الله بدران (2) وكان ذلك يوم 4 يونيو وليلة 5 يونيو 1967م .. واستجاب الله دعاء وابتهال المهندس محمد أحمد عبد الرحمن ولم يحضر الدكتور محمد فتح الله بدران وجاءت نكسة 5 يونيو التي قضت على آمال عبد الناصر وجلاديه وزبانيته وكانت معجزة من الله العلي القدير 20 - وهكذا أحبط الله كيد صلاح نصر في عملية غسيل المخ .. " وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولاهم يحزنون "(3) وهكذا بطل السحر .. وانكشفت الغمة .. ولم تمض ساعات حتى هزم جيش عبد الناصر .. ولكن قبل هزيمة الجيش بساعات سمعت قصة في السجن الحربي وهي استدعاء اللواء حمزة البسيوني للحاجة زينب الغزالي ودار بينهما الحوار التالي : حمزة البسيوني : اليوم 4 يونيو وغدا أو بعد غد سندخل تل أبيب فاتحين منتصرين .. هل تشكين في انتصارنا ؟ الحاجة زينب الغزالي : نعم .. لن تنتصروا حمزة البسيوني : لماذا ؟ زينب الغزالي : طيران إسرائيل اكثر من طيرانكم , وجيش إسرائيل اكبر من جيشكم .. والاهم من ذلك أن اليهود عندهم عقيدة قتالية .. ودين يقاتلون من اجله .. أما انتم فلا دين عندكم ولا عقيدة .. فكيف تنتصرون ؟ حمزة البسيوني : غدا أو بعد غد سندخل تل أبيب . ولقد أتمت أم كلثوم بروفات الحفل الغنائي الساهر الذي ستغنيه في تل أبيب .. بعد أسبوع .. وبعد العودة من الحفل الغنائي الساهر .. سوف نقوم بترحيل كل واحد منكم إلى قريته .. وسوف نقوم بصلبه على عود وسيظل كل واحد منكم مصلوبا لمدة أسبوع كامل عبرة ونكالا أمام قريته وذلك بعد قتله " وسوف يصفق لنا الشعب المصري مرتين : - مرة على الانتصار الباهر على اليهود !! - ومرة على صلبكم على أعواد المشانق أمام أهاليكم الحاجة زينب الغزالي : سوف ننتظر إن شاء الله حمزة البسيوني : خذوها إلى الزنزانة … !! ولم تمض سوى من 24 ساعة حتى ارتد الجيش المصري على أعقابه في نكسة من أكثر معارك التاريخ خزيا وعارا وسمعنا المدافع تنطلق من حولنا .. وانتهت مسرحية غسيل المخ هذه النهاية المأساوية … وحسبنا الله ونعم الوكيل
|