مصطفي مشهور
النشأة
ولد الأستاذ مصطفى مشهور في الخامس عشر من شهر أيلول (سبتمبر) عام 1921، في قرية السعديين التابعة لمحافظة الشرقية بمصر، من أسرة دينية كريمة، معروفة بتدينها، وفضلها، وكرمها، وانتمائها العربي الأصيل، واعتزازها بإسلامها.
دخل الكتاب وهو صغير، ليحفظ ما يمكنه حفظه من القرآن الكريم ، كعادة أهل الريف في مصر ، وفي سائر البلاد العربية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية في القرية، وأكمل دراسته الثانوية بالقاهرة ، ثم التحق بكلية العلوم التابعة لجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) وتخرج فيها عام 1942 حاملاً شهادة البكالوريوس في العلوم، وكان متفوقاً في دراسته، وبسبب تفوقه هذا نال مكافأة من الجامعة.
وبعد تخرجه في كلية العلوم، عمل بوظيفة(متنبئ جوي) في مصلحة الأرصاد الجوية.
في جماعة الإخوان المسلمين
نشأ الشيخ مصطفى نشأة دينية في بيئة تعلي من قدر الدين والمتدينين، وصاحبه تدينه هذا إلى حيث ذهب ويذهب إلى (الزقازيق) وإلى القاهرة ، وسواها، كان يرتاد المساجد يصلي فيها ويستمع إلى ما يلقى من دروس ومواعظ وبيده مصحفه، يتلو كل يوم ما يشاء الله له من آياته البينات، وذات يوم .
وفيما كان يقرأ القرآن في مسجد الحي الذي يقيم فيه، تعرف إلى شاب متدين يكبره بفرق سنتين، وكان ذلك الشاب من الجماعة ، ولم يتعب الشاب في إقناع الفتى مصطفى ابن الخمسة عشر خريفاً، بدعوة الإخوان ، فقد صحبه إلى شعبة الحي، ثم إلى المركز العام ليستمع إلى محاضرة لمرشد الإخوان ، الأستاذ حسن البنا.
فاستمع الفتى في انبهار إلى المحاضر الذي يقطر الشهد من لسانه العف بتقاطر الكلمات المحملة بالحكمة والموعظة الحسنة، وهكذا صار الفتى مصطفى عضواً في جماعة الإخوان المسلمين عام 1936 ومنذئذ التحم كيانه كله في جسم الجماعة ، فما فارقها لحظة واحدة في عسر ولا في يسر، وحيا فيها بجسمه وروحه، عاش سراءها وضراءها، وكانت روحه تحلق في أجوائها وهو يمشي على قدميه في أحياء القاهرة وأريافها، وفي الصعيد و المدارس يدعو إلى الله، فقد كان كتلة من حيوية ونشاط، لفت إليه أنظار القائمين على (الجهاز الخاص) فوضعوا عيونهم عليه، وراقبوه واختبروه ثم لم يلبثوا إلا قليلاً ليضموه إليهم، وليكون من أنشط أعضاء الجهاز سرية وانضباطاً، وتنفيذاً لما يطلب منه تنفيذه.
الجهاز الخاص
وهو الذي يسموه الجهاز السري لما كان يكتنفه من سرية مطلقة أنشأة الأستاذ المرشد عام 1940 من خيرة شباب الإخوان ديناً، وأخلاقاً وإخلاصاً لفكرة الجهاد، وكان الهدف من إنشائه، تدريب الشباب تدريباً قتالياً عالياً، من أجل تحرير مصر من الاستعمار الإنجليزي، و تحرير فلسطين من الإنجليز الذي يستعمرونها ويتآمرون مع اليهود لإنشاء وطن لهم فيها وإقامة دولتهم على أرضها.
وقد خاض رجالها معارك هائلة في مصر ضد الإنجليز في القنال خاصة وحيث وجد للإنجليز منشآت في بعض مدنها، كما خاضوا معارك باسلة في فلسطين ، وأبلوا أحسن البلاء، ولو لا تآمر المتآمرين على فلسطين وعلى المجاهدين ، لكان لأبناء هذا الجهاز الحيوي دور هائل في إحباط ما يفكر به للإنجليز و اليهود وعملائهم ولكن المؤامرة كانت لئيمة وخسيسة، وكانت أكبر من أولئك الرجال الذين قدموا أرواحهم ودماءهم فداءلفلسطين و القدس و الأقصى وكانوا ينفقون - أي شباب النظام الخاص - على تنظيمهم السري هذا من جيوبهم الخاصة، وكان مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا في فلسطين ، يقدم لهم بعض المال ليشتروا به السلاح.
وكان الشاب مصطفى مشهور واحداً من رجال ذلك النظام أو التنظيم ، يأتمر بأوامر مسؤوليه، ويطيعهم في المنشط والمكره.
قضية سيارة الجيب
لعل أول تجربة قاسية يمر بها الشاب مصطفى ما أطلق عليه (سيارة الجيب) عام 1948 تلك التي استغرقت جلساتها تسعاً وثمانين جلسة (من عام 1948 – 1951) وتحكي وقائع المحاكمة أن الأستاذ مصطفى مشهور لم يتبرأ مما اتهم به، ولم يطلب العفو من المحكمة، بل إنه أبى أن يطعن في إجراءات الاعتقال لأنه كان على يقين بأنه محق فيما فعل، وإن اعتقلوه وحاكموه وحكموا عليه بالسجن ثلاث سنوات بسببه.
والطريف في الأمر، أن رئيس المحكمة المستشار أحمد كامل بك وكيل محكمة استئناف القاهرة ذكر في حيثيات الحكم الذي نطقت به المحكمة التي كان يرأسها ما يلي: وحيث إنه سبق للمحكمة أن استظهرت كيفية نشأة جماعة الإخوان المسلمين ، ومسارعة فريق كبير من الشباب إلى الالتحاق بها، والسير على المبادئ التي رسمها منشؤها والتي ترمي إلى تطهير النفوس مما علق أو عساه أن يعلق بها من شوائب، وإنشاء جيل جديد من أفراد مثقفين ثقافة رياضية عالية، مشربة قلوبهم بحب وطنهم، و التضحية في سبيله بالنفس والمال، وقد كان لا بد لمؤسسي هذه الجماعة لكي يصلوا إلى أغراضهم أن يعرضوا أمام الشباب مثلاً أعلى يحتذونه وقد وجدوا هذا المثل في الدين الإسلامي وقواعده التي رسمها القرآن الكريم والتي تصلح لكل زمان و مكان فأثاروا بهذا المثل العواطف التي كانت قد خبت في النفوس وقضوا على الضعف والاستكانة والتردد وهي الأمور التي تلازم – عادة – أفراد شعب محتل مغلوب على أمره، وقام هذا النفر من الشباب ، يدعو إلى التمسك بقواعد الدين ، والسير على تعاليمه، و إحياء أصوله سواء أكان ذلك متصلاً بالعبادات و الروحانيات، أم بأحكام الدنيا.
(ولما وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة ، هو جيش الاحتلال – الإنجليزي – الذي ظل في هذا البلد قرابة سبعين عاماً، تخللتها طائفة من الوعود بالجلاء .. كما كان بين المحتل وبين فريق من الوطنيين الذين ولوا أمر هذا البلد مباحثات و مفاوضات على أقرائها الأمور، ليخلص الوادي (مصر) لأهله، ولم تنته المفاوضات والمجادلات الكلامية إلى نتيجة طيبة، ثم جاءت مشكلة فلسطين وما صاحبها من ظروف و ملابسات) إلى آخر هذه الحيثيات التي قدمها رئيس المحكمة قبل النطق بالحكم على الشاب مصطفى مشهور مع 27 عضواً من إخوانه البررة في حين حكمت عليه المحكمة الثورية بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة، خلال ثلاثة دقائق فقط، يا للعجب والتفاهة!!
ومن الطريف أن نذكر أن رئيس المحكمة الأستاذ المستشار كان مقدراً لهؤلاء الشباب الذين يحاكمهم، وأعجب بجراءتهم وإخلاصهم، وتفانيهم في سبيل دعوتهم ، الأمر الذي جعله يستقيل من القضاء وينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين ويؤلف كتاباً وينشر ويقول: (كنت أحاكم.. و أصبحت منهم) دعا فيه الشيوخ و الشباب إلى الالتحاق بتنظيم الإخوان الذي أفرز هؤلاء الرجال الذين أقنعوا قاضيهم بحقهم، وبأصالة ما يدعون إليه.
الاعتقال الثاني
كان هذا الاعتقال بعد حادث المنشية المفتعل والمفبرك بين جمال عبد الناصر وبين المخابرات الأمريكية وبتدبير منهما.
وبالرغم أن الشاب مصطفى مشهور حينها (1954) كان موظفاً في ( مرسى مطروح) أي كان بعيداً عن مسرح الحادث ، وعن القاهرة ، فقد اعتقلوه من مقر عمله، وساقوه إلى السجن الحربي ، سيء الذكر هو ومديره الهالك حمزة البسيوني وضباطه وجلادوه وجلاوزته، وتعرض الشاب مصطفى لأقسى أنواع التعذيب وهو صابر محتسب، لا يسمع الجلادون منه سوى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ثم عرض على محكمة الثورة ، لتحكم عليه بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة، وقد استغرقت هذه المحاكمة المهزلة ثلاث دقائق، كما تقدم.
ثم نقل إلى سجن (ليمان طره) ليلقى و إخوانه الآلام من مدير السجن وجلاديه، ثم نقل إلى معتقل (الواحات الخارجية) وهو عبارة عن خيام مفتوحة في الليل والنهار وفي الصيف والشتاء القارس، ومحاطة بالحراس الغلاظ، وبالأسلاك الشائكة.
أمضى الشيخ مصطفى مدة السجن وخرج من المعتقل في تشرين الثاني (1964م).
الاعتقال الثالث
وفي تموز 1965 فوجئ الناس بقرار جديد من جمال عبد الناصر يقضي بإعادة اعتقال كل من كان معتقلاً سابقاً وأفرج عنه، وجاءت عناصر المخابرات لتعتقل مصطفى مشهور ولم يمض على الإفراج سوى بضعة أشهر.
وكان نصيب الرجل من التعذيب شديداً وهو صابر محتسب، ويدعو إخوانه إلى الصبر و الثبات على هذه المحنة التي جاءتهم من موسكو، حيث كان عبد الناصر يزور قبر لينين، ويعلن عن كشف مؤامرة لقلب نظام حكمه بقيادة سيد قطب .. وبقي في السجن حتى هلك عبد الناصر ، وجاء السادات وأمر بالإفراج عن الإخوان المعتقلين من أوائل السبعينات (1971) .. وهكذا أمضى الشاب الكهل الشيخ مصطفى مشهور ست عشرة سنة في معتقلات الطواغيت.
استئناف العمل
ما كاد الشيخ مصطفى يخرج من السجن ، حتى بادر إلى الاتصال بالجماعة ، ليعيد التنظيم إلى سابق عهده بالحياة والحيوية والنشاط، غير عابئ بما قد يصيبه في سبيل الدعوة التي سكنت قلبه وعقله.
وعندما بويع الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله تعالى مرشداً ثالثاً للجماعة ، كان الشيخ مصطفى من أقوى أعوانه، وكان يعمل مع لفيف من الإخوان الكرام لتأسيس التنظيم وتثبيت أركانه عبر مؤسسات تصمد في وجه الأعاصير.
وقد التقيته أول مرة في شباط (1977) في مجلة الدعوة، مع الأستاذ المرشد والأستاذ الشهيد كمال السنانيري رحمه الله رحمة واسعة، وقد لاحظت حضور الأستاذ مصطفى في مناقشة الأمر الذي سافرت إلى القاهرة من أجله، وعندما شكوت الدكتور الملط – رحمه الله – دافع الشيخ مصطفى عن تصرفه، وقال لي: سامحونا إذا وجدتم منا مالا يرضيكم، فظروفنا قاسية، وأمن الأستاذ المرشد على كلامه، وقال الأستاذ السنانيري: هل ترضى أن أكون أنا العبد الفقير وسيطاً بينكم وبين فضيلة الأستاذ المرشد ؟
وبعد الانتهاء مما نحن فيه، استأذنت بالانصراف، فهب الشيخ مصطفى نحوي، واعتذر لي وهو الكبير وأنا التلميذ الصغير في هذه المدرسة الربانية ، وعانقني وقال: ادعوا لنا أيها الإخوان السوريون فأنتم مظلومون، ودعواتكم مجابة إن شاء الله تعالى.
سائح في سبيل الدعوة
تم كشف حلقة قالب: قالب:مصطفى مشهور
غادر الشيخ مصطفى مشهور القاهرة إلى الكويت في أيلول (1981)، وبعد مقتل السادات، التقيته مع بعض أعضاء مكتب الإرشاد ، وسمعته يقول: (ليس لنا أي دور في مقتل السادات ، فنحن كما قال المرشد الثاني رحمه الله: دعاة لا قضاه، ونحن لم نستعمل القوة و العنف في حياتنا، وسبيلنا إلى الناس دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومع ذلك، اعتقلوا منا بضعة آلاف، ونريد رأيك في التصرف المناسب بناء على تجربتك في سورية).
قلت للأستاذ الفاضل ولمن معه من أساتذتي في مكتب الإرشاد: (اصبروا وصابروا، ولا تتورطوا في الصراع مع النظام، مهما كانت الاعتقالات والمضايقات، وسوف يعرف النظام المصري أنكم برءاء من دم السادات ، وسوف يخرج شبابكم من المعتقلات بإذن الله ويستأنفون العمل وبقوة و إخلاص إن شاء الله).
وبعد حوار ونقاش استقر الرأي على التهدئة و الابتعاد عن سائر أساليب الاستفزاز والتصعيد، وكذلك كان.
ثم سافر الأستاذ إلى ألمانيا، واستقر فيها خمس سنوات كانت عملاً دائباً في التخطيط للجماعة بروح متفائلة، وعقل متفتح ونشاط يشد به الهدوء.
وقد التقيته في مدينة فرانكفورت عام (1986)، وكان مع بعض أعضاء مكتب الإرشاد ، وشرحت لهم ما سمي حينها بالمسألة السورية، وفيما كنت أشرح لهم ما كلفت بشرحه، قاطعني أحد أعضاء مكتب الإرشاد بحدة وفاجأني فأسكتني، ولكن أخاً كريماً انبرى لذلك العضو وكان مما قاله له: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)، و الأخ عبد الله يشرح بأدب إخواني، ولا يجوز لك مقاطعته، وقال بحنان: (تكلم يا أخي، قل كل ما في نفسك، ونحن مصغون لك).
قلت بحزن: لو كنت أعلم أن حضوري وحديثي يزعجان أحداً منكم ما حضرت ولا تحدثت، ولكن الأمر خطير، ونحن مقدمون على انشقاق لا سمح الله، ولذلك حضرت .
قال الشيخ مصطفى: تفضل نحن نستمع إليك.
قلت: الآن مستحيل، فقد فوجئت وذهلت من موقف رجل كنت و إخواني نقرأ كتبه، ونستفيد منه.
ثم استأذنت ونهضت، فنهض معي الأستاذ الكبير مشهور وجاءوا لاسترضائي وأن أبقى معهم في الشقة. فاعتذرت وخرجت، ثم كان لقاء اليوم التالي مع الشيخ مصطفى الذي استقبلني بهدوء وحنان وعانقني واعتذر مما حصل في اليوم السابق.
لقد بدا لي الشيخ مصطفى ذا رأي حصيف وحازم، ليستمع ويستمع ويستمع ولا يقاطع، ويتكلم بهدوء، وبلسان عفيف، يشاور ويحاور وينصت، ويجادل بالحسنى ومن الصعوبة بمكان أن يتنازل عن رأيه بسهولة.
وفي ألمانيا استطاع و إخوانه أن يرسوا دعائم التنظيم الدولي (التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين فيما بعد) .. كان حركة دائبة، حتى يحس به من يراه أنه المرشد ، وأنه هو صاحب الكلمة الفصل في الشئون الاستراتيجية.
العودة إلى الوطن
وبعد وفاة المرشد الأستاذ التلمساني – رحمه الله تعالى – وبتسوية ما مع المسؤولين في مصر ، قادها الأستاذ الكبير صلاح شادي ، تغمده الله بفيض رحماته ورضوانه، عاد الشيخ مصطفى إلى القاهرة عام (1986)، وتسلم منصب نائب المرشد العام (كان المرشد الأستاذ محمد حامد أبو النصر – رحمه الله تعالى – وكان الساعد الأيمن والأيسر في ميدان الدعوة ، ومعه ثلة طيبة من إخوانه أعضاء مكتب الإرشاد، بل إن بعض المراقبين والمطلعين يعتقدون أنه كان القائد الفعلي للجماعة منذ رحيل المرشد حسن الهضيبي رحمه الله رحمة واسعة عام (1973) وحتى وفاته أي طوال ثلاثة عقود.
وفي الأيام الأخيرة من حياة المرشد الأستاذ أبي النصر الذي كان يرقد على فراش المرض الشديد عرف الإخوان أن مرشدهم يرحل عن هذه الحياة الفانية، فاستبقوا الموت ، وانتخبوا الشيخ مصطفى مشهور مرشداً للجماعة ، حال وفاة المرشد أبي النصر ، وتكتموا على هذا الأمر، إلى ما بعد وفاة المرشد ودفنه في شباط فبراير 1996، عندها أعلن المستشار محمد المأمون الهضيبي نبأ انتخاب الأستاذ مشهور ليكون خير خلف لخير سلف، فتقدم الأخ الأستاذ لا شين أبو شنب وبايع المرشد الجديد، وطلب من الإخوان أن يتقدموا ويبايعوه، فتقدم عدد كبير من الإخوان وبايعوا الأستاذ مصطفى مشهور مرشداً للجماعة لمدة ست سنوات ، ثم جدد انتخابه مرة ثانية في شباط 2002 لمدة ست سنوات أخرى، حسب أنظمة الجماعة .
مشهور مرشداً أو قائداً
كان الشيخ مصطفى يحمل أعباء المرشد ومكتب الإرشاد قبل أن يصبح هو المرشد ، فقد كان المرشد الفعلي أيام سلفيه الشيخ أبي النصر والشيخ عمر التلمساني، وكان يتحمل المسؤولية كاملة عن تلك الفترة، وخاصة بعد أن غادر مصر إلى الكويت فألمانيا، ثم بعد تسوية وضعه، وعودته إلى بلاده.
وعندما تسلم منصب الإرشاد ، تابع مخططه الذي رسمه للجماعة مع أعضاء مكتب الإرشاد، وعمل بجد واجتهاد لتنفيذه، وقد لجأ إلى التحالفات السياسية مع بعض الأحزاب وخاضت الجماعة الانتخابات البرلمانية والنقابية، وحققت نجاحات رائعة.
لقد اتسم عهده بالعقلانية المفرطة في ابتعاده عن أي صدام مع الدولة، مهما بلغت تجاوزات الحكومة والأجهزة الأمنية، وعده بعض المفكرين السياسيين والإعلاميين كالدكتور عبد الوهاب الأفندي، أفضل عهود الحركة، فلم تعد الإخوان حركة هامشية على الساحة السياسية ، ولم تدخل في مواجهة شاملة مع الدولة ، ولم تتعرض قياداتها للقتل و الإعدام والتشريد و السجن ، فقد كان دائماً يرفض الاستدراج إلى المواجهة الشاملة.
إنه سياسي محنك، و داعية حكيم يضبط نفسه و نفوس إخوانه، مع أنه كان في خط المواجهةالأول، منافحاً عن مبادئه و جماعته باليد واللسان والقلم .
لم تشغله السياسية عن الدعوة و التربية ، كما لم تبعده الدعوة و التربية عن العمل السياسي ، فقد كان يكتب في هذه المجالات كلها، ويصول ويجول في ميادينها بحنكة تدل على تجاربه العميقة في هذه المجالات التي كان يوازن بينها، بحيث لا تغطي إحداها على الأخريات، وإن كان العمل التربوي هو المقدم عنده، لأنه أمضى سنوات مديدة مع طلبة الجامعات ، يربيهم ويغرس غراس الإيمان والتضحية والبذل في نفوسهم، ليكونوا مؤهلين لتسلم العمل المناسب لكل منهم، وليكونوا قادة المستقبل وحملة الراية من بعد.
كان يعتبر تغليب العمل السياسي على العمل الدعوي و التربوي انحرافاً عن مسار الجماعة نحو أهدافها وغاياتها، مع أن العمل الدؤوب لإقامة الدولة التي تحكم بما أنزل الله ، لم يغب عن باله قط.
ويرى الدكتور الأفندي أن الجماعة في عهده صارت المعارضة الأولى في البرلمان المصري ، وقد حققت صموداً عجيباً، بل حققت معجزة الانتصار على محاولات الإفناء والتغييب، ولم تكتف الحركة بالمحافظة على بقائها في ظروف صعبة تمثلت في عداء نشط من قبل الأجهزة و الدولة ، ومن المناخ العالمي، بل تفوقت كذلك على كل منافسيها، بحيث أصبحت الحركة السياسية الأولى في البلاد.
والذي يقرأ كتاباته في كتبه وفي الصحافة ، يعرف أي جراءة في الحق كانت تعتمل في نفس الرجل ، فتتفجر على سنان قلمه، فيكتب ما يكتب في نصاعة بيان، ووضح ، بلا جلجلة ولا غموض.
والذي يطالع رسالته التي بعث بها إلى الرئيس الأمريكي بوش الابن، بعيد انتخابه، يعرف أي رجل هذا الشيخ رأيته آخر مرة عام 1988 وهو يمشي على قدميه فوق أحد الكباري الضخمة في القاهرة ، وكان غاصاً بالسيارات وبشمس القاهرة المحرقة، إنه قائد ولديه الكثير من مقومات القيادة الرصينة الزاهدة معاً.
الحق يقال: إن الشيخ مصطفى مشهور صاحب مدرسة فكرية و سياسية و دعوة تحتاج إلى دراسة دقيقة لاستخلاص أطرها وعناصرها ومقوماتها وما فيها من دروس وعبر، وهذا ما سوف أنهض به إن شاء الله تعالى إن فسح الله في العمر ووهب الصحة والفراغ، ولكنني أدعو إخوانه وأولاده وتلاميذه الأقربين، وطلاب الدراسات العليا، أن يسعوا إلى جمع آثاره، فمقالاته منثورة في عدد من الصحف والمجلات التي قد لا تصل إليها أيدينا هنا خارج مصر .. هذه أمانة نضعها في أعناق محبيه ومحبي دعوته وأبناء جماعته.
الرحيل
دخلت عليه ابنته في غرفته قبيل العصر فرأته مرتمياً على الأرض في غيبوبة ما لبث أن أفاق منها، وقام ليتوضأ، رجته ابنته أن يشفق على نفسه ويصلي العصر في البيت، فأبى وخرج إلى المسجد ، وبعد صلاة العصر أصيب بجلطة دماغية ألقته أرضاً، ليدخل في غيبوبة استمرت سبعة عشر يوماً، منذ التاسع والعشرين من تشرين الأول، وحتى وفاته في الساعة السادسة مساء الخميس التاسع من رمضان المبارك 1423هـ الرابع عشر من تشرين الثاني2002م.
شيع جثمانه الطاهر عقب صلاة الجمعة (15/11/2002) من مسجد السيدة رابعة العدوية بمدينة نصر في القاهرة .
صلت عليه جموع غفيرة، أمهم المستشار الشيخ محمد المأمون الهضيبي ، ثم حمل جثمانه في صندوق خشبي متواضع وضع في سيارة ميكرو باص، وسار خلفه المشيعون، وكانوا مئات الآلا ف وصل تقرير بعضهم إلى نصف مليون، وقال آخرون: كانوا مليوناً يسيرون في موكب مهيب، يبكون في صمت وحزن وخشوع.
وشارك في التشييع عدد من رؤساء الأحزاب المصرية، وأساتذة الجامعات ، والعلماء ، والشخصيات الاعتبارية، وأعضاء مكتب الإرشاد، ونواب الإخوان في البرلمان ، وكان حضور الصحافة العالمية كبيراً.
وكان شباب الإخوان يرفعون المصاحف إلى الأعلى من حين خروج الجنازة من المسجد إلى أن ووري في مثواه الأخير، وفي مقابر (الوفاء والأمل) التي تضم جثماني المرشدين السابقين التلمساني وأبي النصر ، رحمهم الله رحمة واسعة، وقد استغرقت الجنازة مدة ساعتين من المسجد حتى القبر.
وألقى المستشار الهضيبي كلمة وداع ووفاء على قبر الفقيد الغالي.
وفي المساء تقبل الإخوان العزاء الذي حضره عشرات الآلاف، تحدث الأستاذ مأمون الهضيبي عن مسيرة المرشد الفقيد في ميادين للعمل الدعوي طوال خمسة وستين عاماً، تحدث عن نضاله وعن فترات السجن الطويلة، وما لقي فيها من ألوان العذاب، كما تحدث عن جهوده في إعادة الجماعة إلى الحياة المصرية، وتعاونه مع الأستاذ عمر التلمساني في سبيل ذلك.
حضرت العزاء شخصيات سياسية وفكرية مرموقة ومعروفة، مصرية وعربية، وكان الحضور (الناصري) كثيفاً ولافتاً للأنظار، ونعى رئيس الحزب الناصري الأستاذ (حامد محمود)، المرشد الفقيد بقوله: (رحم الله مرشدنا) وأضاف: (يدرك الحزب الناصري أهمية حركة الإخوان المسلمين في العمل الوطني، وإذا كان الشيخ مصطفى مشهور قد فارقنا، فإن إخوانه يحملون الراية).
أصداء وفاته
نعت الصحف المصرية والأردنية والفلسطينية واللبنانية واليمنية والسودانية وسواها، وكثير من الأحزاب والهيئات الفكرية والاجتماعية، المرشد الفقيد، ورثاه العالم الجليل الشيخ حامد البيتاوي ، خطيب المسجد الأقصى ، ورئيس رابطة علماء فلسطين ، وكان مما قاله:
(ها هي مصر ، أرض الكنانة، بل الأمة الإسلامية ، فقدت علماً من أعلام المسلمين في هذه العصر، فقدت قائداً من قادة الفكر والدعوة والسياسة.. إنه رجل حمل هموم المسلمين و راية الدعوة الإسلامية ، منذ أكثر من ستين عاماً، وتربت على يديه، ومن خلال كتاباته في فقه الدعوة ، أجيال من الدعاة ، وهو خير من كتب في هذا الموضوع الذي تلقاه يافعاً، ومارسه شاباً، وعاشه واقعاً مع الإمام المؤسس: حسن البنا فترة من الزمان تقرب من عشر سنوات قبل أن يلقى البنا ربه شهيداً، فأفاد من ذلك كثيراً .. لقد عاش – مشهور – المسيرة الإسلامية فيما تعرضت له من ابتلاء وتمحيص صبر وثبت، وواصل السير على طريق الدعوة دون انحراف أو تبديل إلى أن لقي الله عز وجل في هذه الأيام المباركة، مرشداً لهذه الدعوة).
رحم الله فقيدنا الغالي، وأسكنه فصيح جناته، مع الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
المصدر: مجلة المجتمع
ألبوم صور