أنيسة حسن المغربي
مقدمة
إلى كل مؤمنة استقر الإيمان في قلبها، وإلى كل حائرة أمام بريق المذاهب الخادعة، وإلى كل متعلمة حيل بينها وبين أن تعرف سير الصالحات في العصر الحديث، وإلى كل أم وأخت لها رسالة خطيرة في المجتمع تود أن تؤديها كاملة لوجه ربها، وإلى كل أمينة على مستقبل الشباب في جيلنا والأجيال القادمة نستكمل نماذج المجاهدات على طريق دعوة الأخوات المسلمات.
إن التضحية نبات صغير يرويه الإنسان بالعطاء والبذل وقهر هوى النفس.. من أجل الآخرين، وإن قليلاً من النساء وضعن لأنفسهن هدفًا وغاية يسعين له ويعملن من أجله.
امرأة في وجه الصعاب
في البداية نود أن نقف حول موقفها الذي جعلها ترتقي إلى ما ارتقى إليه الرجال وهو مواجه الصعاب وحسن التوكل على الله.
وعن قصة كتابة «عندما غابت الشمس» وهو من الكتب الهامة التي تؤرخ لفترة هامة جدا وهو فترة عبد الناصر وما قام به نحو الإنسانية من تعذيب ويعود الفضل في إنقاذ هذا الكتاب من السجن الحربي وإخراجه للنور يعود للسيدة المجاهدة أم جهاد يقول الأستاذ عبد الحليم خفاجي: «الفضل لله العالي وحده، ثم لاثنين من الأخوات في إخراج هذه المذكرات، من الظلمات إلي النور، في وقت كان يجبن فيه عن التضحية أشجع الرجال الأولي هي الأخت أم جهاد زوجة أحد الأخوة المعتقلين، والثانية هي الأخت نفيسة زوجة الشهيد أحمد نصير ..
الأولي غامرت بتهريبها إلي خارج المعتقل، رغم سلسلة التفتيشات التي يتعرض لها الزوار والمعتقلين علي السواء ..والثانية لم تتردد في الاحتفاظ بالكشاكيل الخمسة التي سُرَّبت إليها تباعًا، رغم أنه لم يكن قد مضي علي استشهاد زوجها بالمعتقل عدة أشهر، وكان بيتها لذلك هو أصلح مكان للحفظ بعد أن خفت الرقابة عليه ولولا هاتين الأختين المجاهدتين لطويت الفكرة في الصدور .. فلله الفضل والمنة إن ربي لطيف لما يشاء.
ويضيف قوله: ولكن محنتي الحقيقية كانت تبدأ فور فراغي من كتابة كل كشكول، إذ كيف أخترق به الحواجز البوليسية، إلي خارج أسوار الدولة البوليسية، قبل الشروع في الكتابة من جديد .. لم يكن أمامي إلا انتظار الأعياد الإسلامية، والمناسبات الوطنية، حيث يترخصون في تسلم الأطعمة، في مختلف الأوعية، بشرط سرعة إعادتها فارغة داخل علبها الكرتونية ..
وبنفس السرعة أكون قد نجحت في إلصاق الكشكول في قاع الكرتونة، مستخدماً «النشا» «والأوراق» بحيث يبدو القاع طبيعياً، بمساعدة من أثق بهم من الشباب من آل "البرديني" وكم تصببت عرقاً كلما شاهدت السجان وهو يمعن في فحص علبة الكرتون، إلي أن يمر المشهد بسلام فأخر ساجداً لله.
وعندما ضاقت بنا السبل ذات مرة، ولم نجد منفذاً عن طريق الزيارات تَصَنّعَ أبو جهاد المرض؛ ليدخل المستشفي، حيث زارته أم جهاد بها، واستطاع أن يغافل السجان ويدس لها الكشكول في صدرها، ولم يتشكك أحد، وإلا لقامت إحدى السجانات المخصصة لهذا الغرض بتفتيشها.
ثم يقول: ولم أنس في غمرة ذلك كله دور الأختين المجاهدتين ، فهما صاحبتا الثواب الأكبر – إن شاء الله- ، وابتسمت وأنا أتذكر ذلك الضابط الصغير، الذي هاله أن تسمي الأخت الضعيفة ابنتها جهاد بعد أن وضعتها عقب اعتقال زوجها، وأجري تحقيقاً شديداً معها في مبني المباحث عن دوافع هذه التسمية، وهددها بسوء المصير إذا لم تغير هذا الاسم.. وربط الله علي قلب هذه الأخت الوحيدة في دولة الطواغيت، ولم يتزعزع إيمانها.. وكافأها الله علي ذلك في الدنيا برؤية هذا الجهاد.. أما يوم القيامة فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون» (1) .
لقد تحملت أم جهاد صعابا كثيرة وصبرت واحتسبت كل ذلك لله، ولا ينس احد موقفها ليلة اعتقال زوجها في أحداث 1965م، وهي الأحداث التي ذاق فيها الإخوان أشد أنواع التعذيب ويصف الحاج عبد المنعم قابيل –زوجها- بقوله: «كان الاعتقال الثاني يوم الثلاثاء 5 أكتوبر 1965م، وكنت في ذلك الوقت لم يمرَّ على زواجي سوى بضعة أسابيع، وكنت قد تركت العمل في المصانع الحربية، وعملت محاسبًا في إحدى شركات المقاولات بروض الفرج، على الرغم من أن المرتب الذي كنت أتقاضاه من المصانع الحربية كان ضعف ما كنت أتقاضاه من العمل كمحاسب، ولكنني فضلت أن أعمل بمؤهلي، وفي هذه الليلة فوجئنا في وقت متأخر من الليل بقوات أمنية مكثفة ومسلحة تطرق الباب، ولم ينتظروا لكي نفتح لهم بل قاموا بكسره وسألوا والدتي أين غرفة نوم عبد المنعم؟! فقالت لهم هذه فاقتحموا الغرفة بكل همجية..!!
وعندما سألتهم عن سبب ذلك لطمني الضابط بلكمة قوية في وجهي، فالتزمت الصمت، وقلبوا الغرفة رأسًا على عقب؛ لدرجة أن أحدهم فتح باب الدولاب فسقطت المرآة المعلقة على أحد "ضلف" الدولاب طبعًا كنت لسه عريس في ذلك الوقت والفرش كان جديدًا فصعب عليه أن يترك "الضلفة" الثانية بمرآتها فقام بكسرها هي الأخرى، وأثناء تفتيشهم للغرفة داس الضابط على المصحف فصرخَتْ زوجتي وقالت: حرام عليك المصحف، فلطمها بيده على وجهها فسال الدم منها، فقلت لزوجتي وأنا في أشد الحزن والأسى والغيظ أيضًا: "تستاهلي.. أنت مش عارفة إن المصحف له رب يحميه".
فقال الضابط لي بعد أن فاجأني بلطمة أخرى أقوى من سابقتها: "ما إحنا عارفين يا بن ؟؟ إن المصحف له رب يحميه"، وبعد ذلك قاموا بتفتيش جميع غرف الشقة، كما لم يسلم الحمام والمطبخ من التفتيش؛ لدرجة أن أحدهم وجد "حلة" ملوخية على البوتاجاز فقلبها في الحوض ظنًّا منه أنه يوجد بها قنبلة لا سمح الله!!
وأثناء تفتيشهم للشقة ظلت أمي تتوسل للضابط وتقول له بحسن نية وطيبة مفرطة: "يا بيه ده عبد المنعم طيب وغلبان ... ده حتى من الإخوان المسلمين، وكل أسبوع بييجي يزوروه فلان وفلان وفلان وأنا بأعملهم أكل وبيقعدوا يتكلَّموا في الدين".
وأنا أصرخ وأقول: "كفاية يا أمي.. كفاية.. حرام عليكِ اسكتي"، والضابط أصرَّ أن يعرف من والدتي أسماء من كانوا يتردَّدون عليَّ، فقالت والدتي بحسن نية له بعض الأسماء التي تذكَّرَتْها في هذه اللحظة، ثم قال الضابط لي: "علشان والدتك الطيبة دي ارجع البس حاجة ثقيلة علشان احتمال تقعد عندنا شويه"، فرجعت بالفعل ولبست بلوفر وجاكيت وأكثر من بنطلون، ثم أخذوني وسط بكاء شديد من والدتي وزوجتي العروس» (2) .
ميلاد الزهرة
كما رأينا مواقف هذه السيدة الفاضلة التي ضحت من اجل دعوتها ومن اجل دينها ووقفت أمام الطغيان فلم تلن لها قناة ولم تركع إلا لله فمن هي؟
هي أنيسة حسن المغربي من مواليد 25/ 4/ 1946م بشيرا الخيمة محافظة القليوبية لمصر وهي من الأماكن التي تجمع نسيج الأمة حيث تجمع عدد كبير من المسيحيين وسط المسلمين.
والدها كان يعمل مفتشا في السكة الحديد، وسعد بالذرية الصالحة فقد رزق غير أنيسة بأربعة ذكور وأثنين إناث، وهذا أهلها للالتحاق بمراحل التعليم المختلفة إلا أنها تخرجت من الصف الثاني الثانوي بسبب ظروف زواجها.
الزواج المبارك
ما كادت تصل إلى الفرقة الثانية الثانوية حتى تقدم لها الأستاذ عبد المنعم عبد الحليم حسن قابيل فوافق عليه والدها والزواج من مواليد 3 يناير 1937م، نشأ في منطقة روض الفرج بالقاهرة كأحد أبناء الحي الفقراء في بيت متواضع يسكنه عدد من الأسر، والده عامل بالسكة الحديد وينتمي إلى الجمعية الشرعية التي كان يرأسها في ذلك الوقت مؤسسها الشيخ محمود خطاب السبكي-رحمه الله.
حصل على الشهادة الابتدائية عام 1951 من مدرسة مكارم الأخلاق الإسلامية بروض الفرج، حصل على التوجيهية قسم علمي عام 1956م، من مدرسة روض الفرج الثانوية بمجموع 73%، ورغم أن مجموعَه كان يؤهِّله لدخول كلية الطب التي كان يتمنَّى الالتحاق بها.
حيث كانت تأخذ حينها من 71.5% إلا أنه لم يدخلها بسبب الفقر وعدم قدرته ووالده على مصاريف الكلية، فاضطُّرَّ لدخول كلية العلوم التي كانت رسومها 6 جنيهات ونصف الجنيه، في حين أن كلية الطب كانت مصاريفها 21.5 جنيهًا، ورغم ذلك لم يستمر في كلية العلوم سوى 4 أشهر فقط؛ حيث كان مرتب والده لا يتعدى الـ6 جنيهات، وحوَّل لكلية التجارة التي كانت رسومها 85 قرشًا فقط بعد أن اضطُّرَّ للعمل عاملاً في المصانع الحربية عن طريق الصاغ وليام إبراهيم نجل ناظر المحطة التي كان يعمل فيها والده.
بعد حصوله على بكالوريوس التجارة والعمل محاسبًا بإحدى شركات المقاولات بروض الفرج قرَّر الانتساب إلى الحقوق، لكن الاعتقال حال بينه وبين استكمال الدراسة بكلية الحقوق الذي قضى فيها عامين.
انضم إلى دعوة الإخوان المسلمين عام 1950م واعتقل عام 1954م لمدة يوم ونجاه من بقية الاعتقال وجود أحد زملائه فى زنزانة قسم روض الفرج وكان يدعى عاطف وهو ابن أخت أحد الرتب العالية فأخرجهم جميعا من السجن.
اعتقل مرة ثانية يوم 5/ 10/ 1965 بعد الساعة الواحدة ليلا، وظل في السجن حتى نوفمبر عام 1971م.
تعرف على زوجته وتم الزواج في يوليو 1965م ورزقهما الله بجيهان (جهاد) عام 1965م ثم سمية عام 1972م ثم راوية 1973م ثم رباب عام 1975م ثن أحمد 1976م ثم رحاب عام 1978م.
بعد خروجه حصل على عقد في السعودية وقضى بها ما يقرب من 17 عام من عام 1982م حتى عام 1999م (3) .
رحلة مع الزوج
ما كاد يستقر بها المقام مع زوجها حتى اعتقل مرة ثانية، فجلست مع والد الزوج ووالدته لتقوم على خدمتهم ولترعى ابنتها جيهان والتي طلب الشهيد سيد قطب تغير اسمها لجهاد فتم ذلك وهو ما عرضها للسؤال والضغط من ضابط القسم.
في عام 1968م اتصلت بها الحاجة فاطمة عبيد (أم احمد) فكانت تعاونها في رعاية بيوت الإخوان المعتقلين، كما كان لها الدور الأساسي في تهريب مسودات كتاب عندما غابت الشمس كما ذكرنا.
وعندما سافر زوجها سافرت معه وهناك لم تنس دعوتها فتعرفت على الأخوات هناك وكانت تربيهم على المعاني التي عاشتها عمليا أثناء محنة الإخوان كما أنها كانت قبلة للكثيرين لمعرفة قصة الأخوات في سجون عبد الناصر.
لقد تعرضت لمضيقات كثيرة من قبل العسكر فكانت ترد عليهم بقولها: «لو شاطرين اعتقلونا معهم فهم أشرف الناس وأعظم الناس».
وفي إحدى الزيارات استطاع الإخوان أخذ ابنتها جهاد منها دون علم العسكري وإدخالها للسجن لوالدها وأخذوها إلى فضيلة المرشد الأستاذ حسن الهضيبي في المستشفى، فقبَّلها ودعا لها، وكذلك قبلها وحيَّاها ودعا لها أساتذتنا الكبار الفضلاء أمثال: أحمد شريت وعمر التلمساني ومصطفى مشهور.
وأثناء اعتقال زوجها أشيع أنه توفي بسبب أن الأطباء أخطأوا أثناء إجراء عملية الزايدة الدودية حتى ظنوا انه مات، وعندما علمت بذلك فما جزعت ولا قنطت واحتسبته عند الله.
وفي فبراير 2007م جاء أحد رجال أمن الدولة ليأخذ الحاج عبد المنعم، فخرجت له الحاجة أنيسة وأخذت تعظ رجال الأمن، وعندما ذهب الحاج للأمن بمدينة السلام قال له الضابط: العسكري بيقول إن زوجتك عاملة مثل زينب الغزالي بتاعة زمان (4) .
المراجع
- 1-عبدالحليم خفاجي: عندما غابت الشمس، 27 رجب 1399هـ الموافق 22/ 6/ 1979م، نسخة الكترونية، صـ 3، 4.
- 2- موقع إخوان أون لاين: 12/10/2007م الموافق الجمعة 30 رمضان 1428 هـ.
- 3- حوار أجراه الأستاذ عبده مصطفى دسوقي مع الحاج عبد المنعم قابيل يوم 25/ 4/ 2009م.
- 4- المصدر السابق.
لمزيد من الروابط
روابط داخلية كتب وملفات متعلقة
- كتاب: قسم الأخوات المسلمات .. الرسالة الأولي
- كتاب: صور من مواقف الأخت المسلمة
- كتاب: محمود الجوهري .. حارس الأسرة الأمين
- كتاب: عندما غابت الشمس....للأستاذ عبد الحليم خفاجي ،للتحميل
- ملف: نساء مجاهدات على طريق الدعوة
متعلقات
- ألبوم صور: مجاهدات علي طريق الدعوة
روابط داخلية مقالات متعلقة
- مقال: صمود الأخوات ... على طريق الدعوة
- مواليد: 1946
- مواليد: أبريل
- تصنيف:
روابط خارجية مقالات متعلقة
- مقال: عبد المنعم قابيل.. دفتر ذكريات الإخوان الحي ،موقع إخوان أون لاين
وصلات فيديو