بنان علي الطنطاوي
بقلم : محمد علي شاهين
المولد والنشأة
الأم الشهيدة، ثانية بنات الداعية الإسلامي الشيخ علي الطنطاوي ، ولدت في دمشق الفيحاء، نبتت نباتاً حسناً، وتربت في بيت العلم والفضيلة على العفّة والطهارة والحياء، وتتلمذت على أبيها، الذي تميز بالعطاء المتواصل طوال ستين عاما في مختلف المجالات التعليمية والثقافية والقضائية والاجتماعية، وأسهم في التوعية الإسلامية، ورد الشبهات، ونقض الافتراءات، وتفرد بالإبداع في مناهج القول، واستقت من معارفه، وتثقّفت على كتب التراث والأدب، تزوّجت من الأستاذ عصام العطار المراقب العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، الذي ضيّق عليه النظام السوري في أعقاب استيلاء البعث على السلطة 8/3/1963 واضطهده، فكانت كلّما طرقوا دارها وانتزعوا زوجها ليلقوه في غياهب السجون، وقفت بجرأة وشموخ أمام كلّ الإجراءات القمعيّة التعسّفيّة إلى جانب الحق والقوّة والحريّة التي بشّر بها زوجها .
يروي الدكتور أحمد البراء الأميري ابن الشاعر الإسلامي الكبير عمر بهاء الدين الأميري في مقالة منشورة له بعنوان: (امرأة تُبكي الرجال!): كنت أزور والدي في السجن وكانت الأخت بنان تزور زوجها في سجنه بعد أن اعتقله النظام الحاكم، فسمعتها تقول لزوجها " يا عصام، أنا والأولاد بخير وسلامة، فلا تقلق علينا، كن قويا كما عرفتك دائما ولا ترِ هؤلاء الأنذال من نفسك إلا قوة وصلابة واستعلاء الحق على الباطل" كانت تتجلد وتصبر نفسها أمامه، لتربط على قلبه، وكم بحاجة هي لمن يربط على قلبها.
وهاجرت معه بعد منعه من دخول سوريا بعد تأديته مناسك الحج ، وأقامت إلى جانبه سبعة عشر عاماً من التشرد والغربة، قبل أن ينفّذ القتلة جريمتهم المدبّرة، وأخذت تبشّر بالإسلام عقيدة وشريعة، وتدعو بنات جنسها إلى التمسك بقيم الإسلام والالتزام بمبادئه، وعلى يديها التزم العديد من السيّدات بالدين الحق، وكان (المركز الإسلامي النسائي للمسلمات) الذي أنشأته في مدينة آخن الألمانيّة منارة إيمان وصحوة في ديار الاغتراب .
كانت نموذجا يحتذى وقدوة لنساء عصرها، أليست هي المرأة التقيّة النقيّة الصالحة التي وقفت مع الدعوة، وعاشت رحلة الاغتراب، وربّت أبناءها على حب الإله والعمل الصالح، وختمت حياتها بالشهادة.
وتستعيد الابنة الصالحة هادية العطار سيرة والدتها الشهيدة فتكتب قائلة: كانت أمي رحمها الله تعالى تُكْثِر من قراءة القرآن، وتكثر من الدعاء، وكانت تقرأ بفهمٍ وتدبّر، وخشوعٍ وتأثّر، وكنّا نراها أحياناً وهي مستغرقة في تلاوة القرآن، فنرى الدموع تفيض من عينيها على خَدّيها وصدرها.
وكانت حريصة على سلامة موقف زوجها لأنّها أدركت أنّ الرجل موقف، وأن انحراف القائد وتنازله عن ثوابت عقيدته انحراف أمّة وتخاذل شعب بأكمله، فوقفت تشدّ أزره وتدعوه للثبات والصبر.
وفي إحدى رسائلها لم تنس تذكيره بدعوته، فها هي تقول له: نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا، ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذي يرضي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله حيثما كنت وعلى أي حال كنت، والله معك يا عصام، وما يكتبه الله لنا هو الخير.
وعندما أصيب زوجها (أطال الله عمره ومتعه بالصحّة) بالمرض، لم تتخل عنه ووقفت معه في محنته، وكانت تقول له: لا تحزن يا عصام، إنك إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك - إن اضطررنا- الخبز اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام.
وكانت أديبة مثقفة، تتقن فن القول، نشرت العديد من المقالات في الصحف والمجلات الإسلاميّة، وكانت تؤمن بأنّ للمرأة دوراً اجتماعيّاً وثقافيّاً لا يقل أهميّة عن دور الرجل، ومهمة دعويّة مؤتمنة عليها، إلى جانب دورها الطبيعي في رعاية الأسرة وتربية الأجيال، وصدر لها كتاب: (دور المرأة المسلمة).
وفي السابع عشر من آذار سنة واحد وثمانين وتسعمائة وألف، كانت بنان على موعد مع الشهادة، اقتحم المجرمون شقة جارتها (الألمانيّة) وأجبروها على أن تحدثها في الهاتف أنها قادمه لزيارتها، حينها فتحت "بنان" الباب فاقتحم ثلاثة من القتلة المأجورين منزلها بمدينة آخن الألمانيّة، وعندما لم يجد القاتل زوجها المعارض للنظام لتنفيذ جريمته، أطلق القاتل الجبان عليها خمس رصاصات، أصابتها في العنق، وفي الكتف، وفي الإبط، فسقطت مضرجة بدم الشهادة.
أستشهادها
في 11 جمادى الأولى 1401 هـ الموافق يوم الخميس يوافق 17/3/1981م أستشهدت الدكتورة بنان علي طنطاوي أبنة الشيخ علي الطنطاوي وزوجة الأستاذ عصام العطار المراقب العام الأسبق للإخوان المسلمين بسوريا في مدينة آخن بألمانيا على يدي رجال نظام الرئيس حافظ الأسد.
فبعد أكثر من سبعة عشر عاماً من التشرد والغربة مع زوجها." عصام العطار" أم أيمن بنان بنت الشيخ علي الطنطاوي قتلت بخمس رصاصات : اثنتان في الرأس ، واثنتان في الصدر ، وواحدة تحت الإبط..وكانت وحدها في البيت عندما اقتحمه المجرمون وقتلوها فيه، وكان زوجها هدفا للاغتيال كذلك.
وقد صلي عليها بمدينة آخن، وشارك في تشيع الجنازة وفود من جميع الاتحادات الاسلامية في أوروبا...
يستعيد الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله) ذكرى مقتل أبنته في مذكراته والدمع يملأ مآقي عينيه والخفقان يعصف بقلبه الجريح فيقول:
إن كل أب يحب أولاده، ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي بناتي... ما صدّقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت، إنني أغفل أحيانا فأظن إن رن جرس الهاتف، أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها، تكلمني مستعجلة، ترصّف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائما كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها، وأن هذا المجرم، هذا النذل .... هذا .......يا أسفي.
فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة (الألمانيّة) بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان والجبان إذا ضرب أوجع، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها كأن فيها بقية من أعراق أجدادها.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
- ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ويواصل الشيخ وصف الجريمة فيقول: ثمّ داس القاتل بقدميه النجستنين عليها ليتوثّق من موتها كما أوصاه من بعث به لاغتيالها، دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته، قطع الله يديه ورجليه، (آمين) لا بل ادعه وأدع من بعث به لله، لعذابه، لانتقامه، ولعذاب الآخرة اشدّ من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.
وفي اليوم الثاني للجريمة طلعت الصحف والمجلاّت الألمانيّة على الملأ تصف جريمة الاغتيال المدبرة وصفاً صادقاً وعطوفاً، وألقي القبض على الجاني، فانهار واعترف بجريمته، وأدلى بمعلومات في غاية الأهميّة عن الجهة التي أرسلته لتنفيذ ما أقدم عليه.
وكان أشد الناس حزناً عليها زوجها الشهيد الحي الذي فدته بروحها، فرثاها بقصائد باكية رقيقة، جمعت في ديوان: (رحيل) ومنه هذه الأبيات:
بنان" ياجبهةَ الإسلام دامية
- مازال جرحك في قلبي نزيفَ دمٍ
"بنان" ياصورة الإخلاص رائعةً
- ويا منال الفِدى والنبل والكرم
عشنا شريدين عن أهلٍ وعن وطنٍ
- ملاحماً من صراع النور والقيم
الكيد يرصدنا في كل منعطفٍ
- والموت يرقبنا في كل مقتحم
ومضت سنوات طوال وذكرى اغتيال الشهيدة بنان حي في ضمائر الأحرار، لأنّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون.
يقول الشيخ علي الطنطاوي عنها
لقد كلمتها قبل الحادث بساعة واحدة,قلت: اين عصام؟
قالت: خبروه بأنّ المجرمين يردون اغتياله وابعدوه عن البيت,
- قلت: فكيف تبقين وحدك؟
قالت: بابا لا تشغل بالك بي, انا بخير.
ثق والله يا بابا انني بخير. ان الباب لا يفتح الاّ ان فتحته انا. و لا افتح الاّ ان عرفت من الطّارق و سمعت صوته. انّ هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السّلامة, و المسلّم هو الله.
ما خطر على بالها انّ هذا الوحش, هذا الشيطان سيهدد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي, فتطمئنّ, فتفتح لها الباب.
ومرت الساعة فقرع جرس الهاتف, وسمعت من يقول لي: كلّم وزارة الخارجية.
قلت: نعم.
فكلمني رجل احسست انه يتلعثم و يتردد, كأنه كلّف بما تعجز عن الادلاء به
ثم قال: ما عندك احد اكلمه؟
و كان عندي اخي, فقلت لأخي:
خذ اسمع ما يقول, و سمع ما يقول, و رأيت قد ارتاع مما سمع,و حار ماذا يقول لي, وكأني احسست انّ المخابرة من المانيا,و انّه سيلقي عليّ خبرا " لا يسرني,و كنت اتوقع ان ينال عصاما" مكروه فسألته: هل اصاب عصاما شيء؟
قال: لا, و لكن..قلت: و لكن ماذا؟ عجّل يا عبده فانك بهذا التردد كما يبتر اليد التي تقرر بترها بالتدريج, قطعة بعد قطعة, فيكون الالم مضاعفا " اضعافا" فقل و خلّصني مهما كان سوء الخبر.
قال: بنان.
قلت: ما لها؟
قال, و بسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء.
و فهمت واحسست كأنّ سكّينا" قد غرس في قلبي, و لكني تجلدتّ , و قلت هادئا" هدوءا" ظاهريا", والنار تتضرم في صدري: حدّثني بالتفصيل بكل ما سمعت.
فحدثني.
و ثقوا انني لا استطيع مهما اوتيت من طلاقة اللسان, و من نفاذ البيان,ان اصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعت.
وانتشر في الناس الخبر و لمست فيهم العطف و الحب و المواساة...
ووصلتني برقيات تواسيني و انها لمنة ممن بعث بها و ممن كتب يعجز لسان الشكر عن وفاء حقها و لكني سكت فلم اشكرها و لم اذكرها, لأن المصيبة عقلت لساني, و هدت اركاني.
و اضاعت عليّ سبيل الفكر, فعذرا" و شكرا" لاصحاب البرقيات و الرسائل.....
كنت احسبني جلدا" صبورا", اثبت للأحداث , و اواجه المصائب , فرأيت اني لست في شيء من الجلادة و لا من الصبر و لا من الثبات...
لقد ذكرت مولدها و كانت ثانية بناتي, و لقد كنت اتمنّى ان يكون بكري ذكرا"
و قد اعددت له احلى الاسماء ما خطر على بالي ان يكون انثى.
و سميتها عنان وولدت بعدها بسنتين بنان اللهم ارحمها و هذه اول مرة او الثانية التي اقول فيها اللهم ارحمها و اني لأرجوا الرحمة لها و لكني لا استطيع ان اتصور موتها.
و لما صار عمرها اربع سنوات و نصف السنة اصرت على ان تذهب الى المدرسة مع اختها, فسعيت ان تقبل من غير تسجل رسميا".
فلما كان يوم الامتحان و وزعت علماتها المدرسية و قد كتب لها ظاهريا" لتسر بها و لم تسجل عليها. قلت هيه؟
ماذا حدث؟
فقفزت مبتهجة مسرورة و قالت بلهجتها السريعة الكلمات, المتلاحقة الالفاظ: بابا كلها اصفار اصفار اصفار.
تحسب الاصفار هي خير ما ينال.
يقول زوجها الأستاذ عصام العطار
مضى في هذا اليوم 17-3-1981م ثمانية وعشرون عاماً على استشهاد زوجتي بنان علي الطنطاوي « أم أيمن » رحمها الله تعالى
ثمانيةٌ وعشرون عاماً مضت على غيابِ هذا الكوكبِ الذي أضاءَ حياتي وحياةَ أُسْرتي في أحلك ليالي الغُربة والتشرّد والخطر والمرض ، وأضاء لمن كان حولنا حيثما سَرَيْنا في الأرض .
ثمانية وعشرون عاماً مضت على فراق زوجتي وحبيبتي وصديقتي ورفيقة دربي ، وسَنَدي وعَوْني حيث لا سندَ ولا معينَ إلاّ الله
ثمانيةٌ وعشرون عاماً مضت على رحيل هذه المسلمة العظيمة والزوجة العظيمة والأُمّ العظيمة والإنسانة العظيمة .. لم تحمل في قلبها وفكرها هموم بلدها وأهلها وأخواتها وإخوتها فحسب ، بل حملت مع ذلك هموم عالمها العربيّ والإسلامي ، وهموم الإنسانية والإنسان أَنَّى كان هذا الإنسان ، وفاضت في قلبها الرحمة فشملت سائر المخلوقات ، وكم رأيتُها تبكي لمآسي ناس لا نعرفهم في بلاد لا نعرفها ، وكم سمعتها تُذكِّر في أحاديثها ودعوتها إلى تعارف الشعوب وتراحمها وتعاونها على الحق والعدل والخير ، بقول الله عزَّ وجلَّ لرسوله الكريم : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (الأنبياء : 107)
وقول الرسول صلي الله عيه وسلم :
- « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ تبارك وتعالى . ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ الرَّحِمُ ... » رواه الترمذي وأبو داود وأحمد ، وقول الله تبارك وتعالى :(... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ... ) (المائدة : 2)
لم تكن الأخوةُ الإنسانيةُ والمسؤوليةُ الإنسانيةُ وعالميةُ الإسلام عندها مجرَّد شعارات أو كلمات ؛ ولكنها كانت حقيقةً راسخةً مُؤَثّرةً في الفكر والشعور ، والضمير والسلوك
وكانت -رحمها الله- تعرفني وتفهمني وتُحِسُّ بي إحساساً عجيباً كأنها تسكن في داخلي ، وتعيش معي مشاعري وخواطري ، ولو لم أنبس ببنتِ شفة . كانت تستطيع بنظرةٍ واحدة خاطفة أن تستشفّ ما يدور في خَلَدي ، وأن تعرف -مهما كنتُ عادِيَّ الْمَسْلَك ، هادئَ المظهر -إن كنت في أعماق نفسي حزيناً أو مسروراً ، مشغول البال أو مطمئن النفس ، وكانت وهي شريكةُ حياتي كلِّها تستطيع أن تُقَدّر دون سؤال أسبابَ ما أنطوي عليه من سرور أو حزن ، ومن طمأنينة أو قلق ، وما كان أقدرَها عند ذلك على أن تحيطني من محبتها وفهمها ومشاركتها الوجدانية العميقة الصادقة في ظروفنا المختلفة الصعبة بكلّ ما يُسَرّي عن النفس ، ويُجدّدُ العزمَ والنشاط ، ويعين على متابعة الطريق مهما كانت المصاعب والظروف
كانت -رحمها الله- قادرة رغم حساسيتها الشديدة ، وتأثُّرِها الشديد ، بكلّ ما يعرض لنا ، أو ينـزل بنا ، قادرةً على أن تَسْتَنْبِتَ أزاهيرَ سُرورٍ في أراضي الأحزان ، وتُوَفِّرَ لنا لحظاتِ مُتَعٍ بريئةٍ في زحمة الواجبات والأعمال ، وأن تُحَوِّلَ غُرَفاً حقيرةً سكناها إلى ما هو أحلى من قصور ، وأن تجعلَ سعادةً غريبةً تسكنُ معنا وتعيش بيننا حيثُ سَكَنّا من البلدان ، وكثيراً ما شعرنا في غُرَفِنا الحقيرة بهذه السعادة الغامرة ، وبِنَشْوَةِ الاستعلاءِ على الشدائدِ والمغرياتِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ ، فردَّدْنا أو أنشدنا -بنان وأنا وطفلانا الصغيران : هادية وأيمن- فُرادَى ومُجتمعين هذه الأبياتَ القديمة الرائعة التي كانت وما تزال تهزّنا هزّاً ، والتي كانت تُعَبّرُ وما تزال تُعَبّرُ عنّا وعن حالِنا وخيارِنا الجميل النبيل الأليم :
فإن تكُنِ الأيّامُ فينا تَبَدَّلَتْ
- بِبُؤْسَى ونُعْمَى والحوادثُ تفعَلُ
فَمَا لَيّنَتْ مِنّا قناةً صَليبَةً
- وَلا ذَلَّلَتْنا لِلَّتي لَيْسَ تَجْمُلُ
ولكنْ رَحَلْناها نُفوساً كَريمةً
- تُحَمَّلُ ما لا يُسْتطاعُ فَتَحْمِلُ
نعم ، لم نكن دائماً في طباعنا ورغباتنا وآرائنا وخياراتنا في أمور الحياة المختلفة صورةً واحدةً لا نختلفُ أبداً في حُبٍّ أو كُرْه ، وفي تقويم أو حُكْم ، وفي رَأيٍ أو خيار .. ولكن لم يكن يطولُ أو يشتدُّ بيننا خِلافٌ إن حصل -ونَدَرَ ما كان يحصل- بيننا خلاف ، فالبواعثُ في حياتنا واحدة ، والمنطلقاتُ واحدة ، والغايةُ واحدة ، والأهدافُ واحدة ، والمقاييسُ والموازينُ واحدة ، والحبُّ العميقُ المتجدِّدُ لا يَنْضَب ولا يضعف ، والإعجابُ والتقديرُ والعرفانُ يزدادُ يوماً بعد يوم
كانت إذا أحَسّتْ في نفسها ، أو أحَسّتْ منّي في حِوارِنا ونقاشِنا في بعض الحالاتِ النادرةِ بَوَادِرَ زَعَلٍ أو غضب لم تسمح لهذا الحوار والنقاش أن يستمرَّ ويشتدّ ، وانفردتْ بنفسها ساعةً تطولُ أو تقصر تقرأ القرآن -كما تَعَوَّدَتْ- بقلبها وعقلها ولسانها ودموعها .. ثم تنهض أَهْدَأَ ما تكونُ حالاً ، وأرضى ما تكونُ نفساً ، وأكثرَ ما تكونُ انشراحاً ونشاطاً ..
« لِلّهِ هذه المرأةُ المسلمةُ ما كان أَوْثَقَ ارتباطَها بكتاب الله عزَّ وجلَّ ، كان القرآن العظيم حقيقةً لا كلاماً ولا وهماً ربيعَ قلبِها ، ونورَ صدرِها ، وجَلاءَ حُزنِها ، وذَهابَ همّها .. كان القرآن حياتها وباعِثَها ، ودليلَها وهاديها في مختلف مشاعرها ومواقفها وخطواتها ، وكان حِصْنَها الحصين ، وملجأها الأمين ، عندما كانت تُطْبِقُ علينا في بعض أيامنا الظلمات ، وتعصفُ حولَنا العواصف ، وتطرُقُ أبوابَنا المخاوفُ والمخاطر ، فلا يكونُ أحدٌ في الدنيا أكثرَ مها وهي تعتصم بالإيمانِ والقرآنِ طُمَأْنينةً وأمناً ، ولا قدرةً على الثبات والصبر ، وعلى تحدّي الطاغوتِ ولو ملأ بطغيانه الدنيا » .
قلت قبل قليل : كانت بنان -رحمها الله تعالى- إذا أحسّتْ في نفسها ، أو أحست منّي في حوارنا ونقاشنا بوادرَ زَعَلٍ أو غضب لم تسمح لهذا الحوار والنقاش أن يستمرّ ويشتدّ ، وانفردتْ بنفسها ساعةً تطولُ أو تقصر تقرأُ القرآن -كما تعَوّدتْ- بقلبها وعقلها ولسانها ودموعها .. ثم تنهض أهدأ ما تكونُ حالاً ، وأنعمَ ما تكون بالاً ، وأوفرَ ما تكونُ انشراحاً ونشاطاً ، ولا نستأنفُ ما كنّا فيه من حِوارٍ ونقاش ؛ ولكنها تكتبُ إليَّ قبلَ أن ينصرمَ النهارُ ، ويَنْسَدِلَ الظلامُ رسالةً فيها ما يشاءُ المحبون الصادقون من رِقّةٍ وعاطفةٍ وأناقةٍ وجمال ..
رسالةً مِلْؤها الحبُّ والعرفانُ وشُكْرُ الله عزَّ وجلَّ على ما أنعم به علينا من الإيمان والطاعة والمحبة والسعادة ، ومن سائر النعم ، ثمّ تعرضُ عرضاً موضوعيّاً أميناً ما دار بيننا من حِوارٍ ونقاش ، وما اتفقنا عليه أو اختلفنا فيه ، وتشرحُ وجهةَ نظرِها بهدوء ووضوح واختصار ، ثم تترك في نهاية الرسالة الأمر إليّ أختار فيه ما أراه ، وأنا أختار عادةً في أمورنا الخاصة ما تختاره هي ، فإذا تعلّق الأمرُ بواجب من الواجبات ، أو بما يجرُّ نفعاً أو ضرراً لآخرين ، عاودنا الجلوس والحوار والنقاش بهدوء وانبساط واستيعاب ، وانتهينا فيه إلى اتفاق على ما نراه صواباً أو أقرب إلى الصواب
وكتابة الرسائل عند « أم أيمن » رحمها الله إلى زوجها عادةٌ من أرسخ العادات عندها وأجمل العادات وأنفع العادات ؛ فهي تكتب إليّ ونحن نعيش في بيت واحد ، ونتحدّثُ ما شئنا الحديثَ في أيِّ ساعةٍ من ساعات الليل والنهار في أيِّ أمرٍ من الأُمور كَبُرَ أو صَغُرَ بشغف وبعفوية وبساطة دون أيّ تكلّف أو حرج ؛ ولكنها مع ذلك تكتب إليّ .. تكتب لتعبّر بأسلوبٍ بليغ ساحر عن أعمق أعماق نفسها ، وعن أَدَقِّ أحاسِيسِها ومشاعرها ..
عن محبتها الغامرة لزوجها وطفليها وأهلها .. عن حنينها الدائم للشامِ وأحبابِنا في الشام ومَدارجِ طفولتِنا وشبابِنا وذكرياتنا في الشام .. عن مآسي العرب والمسلمين والإنسانية والإنسان ، وعن همومهم ومآملهم في كلّ مكان .. وعن واجباتِنا الكبيرةِ الكبيرةِ التي يجب علينا أن ننهضَ بها ، ونكرّسَ لها حياتنا كلَّها حيثما كُنّا من الأرض
هذه الرسائل التي كتبتها بنان بقلبها وفكرها ، وأحاسيسها ومشاعرها ، وثقافتها وتجربتها ، وآمالها وأحلامها .. هذه الرسائل كنـزٌ إسلاميٌّ إنسانيٌّ أدبيٌّ لا يقدّر بثمن ؛ ولكنني أضعت هذا الكنـز وا أسفاه ، أضعتُه أو سُرِقَ مني مع ما ضاع أو سُرِقَ من أوراقيَ الأُخرى ، عندما فُرِضَ عليَّ فَرْضاً من سلطاتٍ ألمانية ألاّ أستقرّ في مكان ، فهناك -كما قالوا- قتلةٌ مسلّحون يقتفون أثري ، ويريدون قتلي ، فيجب أن يتغيّر عنواني وسَكَني باستمرار ..
قلت لهم :دعوني أُقْتَل فأنا لا أخافُ القتلَ ، ولا أرهبُ الموت ، ولا أُحَمِّلُكُم ولا أُحَمِّلُ أحداً غيري مسؤولية ما يصيبني
قالوا :إنّ وجودك في مكانٍ دائم يُهَدِّدُ حياةَ غيرك من السكّان وينشُرُ القلقَ والفزع في الشارع الذي تسكن فيه ، ويصنع كذا وكذا وكذا من الأخطار والأضرار ، فلا بدّ لك -كما طلبنا- من تغيير عنوانك وسكنك باستمرار!
وجمعتُ أوراقاً مهمةً لي ، أثيرةً عندي ، ومن أهمّها رسائل أم أيمن القديمة والحديثة ، ووضعتُها مع المصحف الشريف في حقيبة خاصّة ، وأسلمت نفسي لقضاء الله وقدره
سَنَةٌ ونصفُ السنة ، لا يكادُ يستقرُّ جنبي في بلد أو سَكَن حتى يُقالَ لي : إرحلْ فقد عرف مكانك! إرحلْ .. إرحلْ .. إرحلْ ، وفي هذا الرحيل المتواصل في الصيف وفي الشتاء ، وفي الربيع والخريف ، بين مدنٍ وقُرىً ، وفنادقَ ومنازلَ منقطعة عن العمران ، يباعد بعضَها عن بعضٍ أحياناً مئاتُ الكيلومترات ، وأنا مُتعَبٌ مُرْهَقٌ مَريضٌ مَريض .. في هذا الرحيل المتواصل فُقدَتْ منّي -أو سُرِقت مني- أوراقي وفيها .. وفيها .. وفيها رسائِلُ أم أيمن رحمها الله ، وكلماتٌ من كلماتها ، فلم يبقَ لي إلاّ بعضُ رسائل وكلمات سبق نشرها أو نُسِخَ منها من قَبْلُ نُسَخٌ أُخرى
يا قرائي الأعزاء
- ما أحبتْ زوجةٌ زوجَها أكثرَ ممّا أحبتْ بنانُ زوجَها
- وما فهمتْ زوجةٌ زوجَهاأكثرَ ممّا فهمت بنانُ زوجها
- وما أعانت زوجةٌ زوجَها أكثرَ ممّا أعانت بنانُ زوجَها
- وما تعبت زوجة بزوجها ، ولا ضَحّت زوجة من أجل زوجها أكثرَ ممّا تعبت وضحت بنان
- ما شاركت زوجة زوجها في النعماء والبأساء ، والسرّاء والضرّاء ، واليُسر والعُسر ، والصحة والمرض ، والأمن والخوف ، والغربة والوطن بقلبها وفكرها وكلِّ كيانها وطاقاتها ، وآثرتْ زوجَها على نفسها في مختلف ظروفها وحالاتها أكثر من بنان
لقد امتزجتْ حياتُها بحياتي قَلْباً وفكراً ، ورؤيةً وأملاً ، وإرادةً وعملاً .. كان قلبي ينبضُ في صدرِها فَتُحِسُّ ما أُحِسّ ، وتطلبُ ما أطلب ؛ وكان قلبُها ينبضُ في صدري فأُحِسُّ ما تُحِسُّ وأهفوا إلى ما إليه تهفو ، فكأننا في معظم أمورِنا شخص واحد : إذا تكلمتْ -كما يعرف ذلك كلُّ من صَحبنا أو عَرَفَنا أو سَمِعَنا- فالروحُ روحي ، والنّبْرَةُ نَبْرَتي ، واللهجةُ لَهجتي ؛ وإذا كتبتْ فاللغةُ لُغتي ، والأسلوب أسلوبي ؛ فما يُفَرِّقُ بين ما أكتُبه أو تكتبه إلاّ ذَوّاقَةٌ خبير
يَخْطُرُ لي أحياناً خاطرٌ مفيدٌ أو طريفٌ أو جميل ، وأهمُّ بأن أُكاشِفَها به ، فَأُفاجَأُ بأنّهُ قد خطرَ لها مثلي ، فهي تتحدّثُ إليّ به قبلَ أن تَسمع مِنّي
وأفكّرُ في عملٍ واجبٍ نافع ، فإذا هي تلفتني إلى مثلِ هذا العملِ الواجبِ النافعِ ، وما نبستُ بشأنه بحرف ، ثمّ إذا هي تُسابقني إليه وتَسبقني في الحماسةِ والتخطيط والتنفيذ ، وتَبْسُط يدَها المحبّةَ الحانيةَ لزوجِها المريض لِتعينه على أداء الواجبِ ومُتابعةِ الطريق
هذه لمحةٌ خاطفة -لمحةٌ خاطفة فقط- من « بنان » وحياتي مع بنان
هذه لمحة خاطفة فقط من حياتي مع زوجتي الشهيدة التي اغتالوها ظُلْماً وغَدْراً على عَتبةِ بيتِنا في آخن
هذه لمحةٌ خاطفةٌ من حياتي مع زوجتي العظيمة التي فقدتُها قَبْلَ ثمانيةٍ وعشرين عاماً في 17-3-1981م ، ففقدتُ الحبيبَ والصديقَ والمعين
قال مَلِكٌ عربيٌّ لمسؤولٍ كبيرٍ جدّاً في دولةٍ عربيةٍ أُخرى :
- نحنُ نفهمُ أن تقتلوا عصام العطار ، أمّا أن تقتلوا زوجته .. !!
قال المسؤول الكبير في ذلك الحين :
- نحن لم نقتل عصام العطار كما أردنا ، ولكنّنا أصبناه في مقتل .. لقد قَطَعْنا بقتلِ زوجتهِ بنان يدَه ورجلَه ، ولن يستطيعَ بعدَها أن يتحرّكَ كما يَتَحرّكُ وأن يعملَ كما يَعمل
يا قرائي الأعزاء
إنّ نفسي تموج في هذه اللحظة بالذكريات والمشاعر والخواطر والدموع ، ولكنّ يدي المهتزةَ المرتجفةَ الواهنة لم تَعُدْ قادرةً على الكتابة ولا على الإمساكِ بالقلم ، فوداعاً هذا اليوم ووعداً لكم أنني سأتابعُ معكم الحديث -إن شاء الله تعالى- عن هذه المسلمةِ العظيمة ، والشهيدةِ العظيمة ، فهذا حقُّ اللهِ عَلَيّ ، وَحَقُّ التاريخِ عليّ ، وحقُّ أجيالٍ إسلاميةٍ جديدةٍ تحتاجُ القدوةَ الصالحةَ بمثلِ هذه المؤمنةِ الرائعةِ الشامخة
ولقد كتب خالد التوم في مجلة المجتمع عنها فقال :
لقد عانت الأخت المجاهدة بنان كثيراً من زوار الفجر الذين طالما طرقوا دارها وانتزعوا زوجها ليلقوه في غياهب السجون، ظانين أنهم بذلك سيطفئون في قلبه شعلة الإيمان، ويخفون في أعماقه حبه للدعوة والجهاد.
وما أحوج الزوج المؤمن في هذه اللحظات الحرجة إلى زوجة قوية الإرادة تمده بالصبر والثبات، وكانت له "بنان" بحق خير معين في محنته.. فاستمعي إليها ـ أختي ـ وهي تكتب له في سجنه عام 1966م:
"لا تفكر فيَّ وفي أولادك وأهلك، ولكن فكر كما عودتنا دائماً بإخوانك ودعوتك وواجبك".
وحينما ضُيِّق عليه الخناق وأُجبر على فراق الأهل والديار والزوجة والأولاد، واصلت الزوجة مواقفها العظيمة وراسلته تحثه على الثبات وعدم الخضوع.
"نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا، ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذي يرضي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله حيثما كنت وعلى أي حال كنت، والله معك (يا عصام) وما يكتبه الله لنا هو الخير".
وحينما أصيب زوجها بالشلل في بروكسل كتبت تواسيه:
- "لا تحزن يا عصام.. إنك إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا.. وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا.. تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك ـ وإن اضطررنا ـ الخبز اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام".
فأي قوة هذه التي تحيل المحنة إلى منحة، وتنسج من خيوط الألم واليأس بردة زاهية من الأمل المشرق. ولم ترض الزوجة المجاهدة بالبقاء وسط الأهل وزوجها مطارد في دينه وإيمانه، ولم تطب نفسها أن تتركه وحيداً رهين "الغربة والشلل"، فلحقت به مهاجرة إلى ألمانيا، وهنالك واصلت نشاطها، وهنالك أنشأت مركزاً نسائياً للمسلمات، وقد أكرمها الله فتاب على يديها الكثيرات.
حين نتحدث عن الأخت بنان قد نتساءل: كيف تسنى لهذه المرأة أن تكون بهذه الصفات في وقت ظلت فيه بنات جيلها أسيرات الكريم والمساحيق، وبيوت الأزياء والكوافير؟ ولكن قد يزول عجبنا حينما نعلم أن الزوج هو عصام العطار، الذي تعلمت منه بنان معاني الصبر والتضحية، فاسمعيه وهو يقول:
- "طريق الحق والواجب ليس مفروشاً بالسجاد الأحمر والأمن والملذات، فلابد أن نمشي على الأشواك والمخاوف والآلام، وأن تدمى عليه نفسك وقدماك، وربما فقدت فيه الحياة، ولكن تذكر أن نهايته الجنة ورضوان من الله أكبر، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور".
وهنالك في بيتها في ألمانيا.. والزوج غائب.. جاء ثلاثة من أعوان الطغاة ليضعوا نهاية لقصة كُلها كفاح وجهاد، جاءوا يلاحقون الزوج فلم يجدوا إلا الزوجة المؤمنة تحرس البيت فأفرغوا في صدرها ونحرها خمس رصاصات، أسقطتهم في حمأة الخسَّة والغدر، وعلت بـ"بنان" شهيدة في الجنان إن شاء الله وكان ذلك في 17- 3- 1981م.
ماذا تقول ابنتها هادية عصام العطار عنها
كانت أمي رحمها الله تعالى تُكْثِر من قراءة القرآن ، وتكثر من الدعاء وكانت تقرأ عندما تقرأ ، وتدعو عندما تدعو ، بفهمٍ وتدبّر ، وخشوعٍ وتأثّر ؛ وكنّا نراها أحياناً وهي مستغرقة في تلاوة القرآن ، فنرى الدموع تفيض من عينيها على خَدّيها وصدرها.
وكتب الشيخ علي عبد الخالق القرني
هاهي بنان الطنطاوي ؛ ابنة الشيخ الوقور علي الطنطاوي غفر الله لنا وله، وتجاوز عنا وعنه؛ زوجة عصام العطار علمت مسؤولية الزوجة في البيت، وآمنت بربها، ودعت بما تستطيع، وهيأت لذلك الداعية أن يدعو إلى الله –عز وجل-. انطلق يرد الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الغواية إلى الهدى والهداية، فأغاظ ذلك المنافقين، والذين يَشْرَقُونَ بالنور، والذين ما يعيشون إلا في الظلام، فما كان منهم إلا أن سجنوه في سجن من السجون، فأرسلت إليه رسالة، فما فحوى هذه الرسالة
يا أيتها الداعية، يا أيتها المعلِّمة، يا أيتها المتعلِّمة؟ اسمعي إلى هذه الرسالة ماذا تقول لزوجها وهو في سجنه؟ تقول له: لا تحزن ولا تفكِّر فيَّ، ولا في أهلك، ولا في مالك، ولا في ولدك، ولكن فكِّر في دينك وواجبك ودعوتك؛ فإننا –والله- لا نطلب منك شيئًا يخصُّنا، وإنما نطلبك في الموقف السليم الكريم الذي يبيِّض وجهك، ويرضي ربك الكريم، يوم تقف بين يديْه حيثما كنت، وأينما كنت، أما نحن فالله معنا، ويكتب لنا الخير، وهو أعلم وأدرى سبحانه وأحكم.
انظر إلى هذه الكلمات، كيف وقفت معه وهو بعيد عنها، وقفت معه لأنها تعلم أنها على ثغرة وأنَّ ثغرةً ذهبت فسدَّت تلك الثغرة، ثم يشاء الله أن يخرج من ذلك السجن ليُشرَّد في ديار الغرب، وما أُخرج وما نُقِم منه إلا أن قال: ربي الله، واعتز بدينه ومبادئه، شُرِّد في بلاد الغرب ، ويبتليه الله –عز وجل- هناك أيضًا ليرفع درجته بإذن الله –عز وجل- ، ويوم ابتلاه الله –عز وجل- هناك بكونه يعيش بين الكفار، وكونه مشردًا عن أهله وغيرهم، يُبتلى بالشلل، يُشلُّ في ديار الغرب، لا أهل، ولا صاحب، ولا صديق، لكن له الله الذي أُخْرِج من أجله، وله الله الذي سُجِنَ من أجله، وله الله الذي دعا من أجله. فماذا فعلت هذه الزوجة؟ بعيدة عنه، بعيدة بجسمها لكن قلبها معه، وروحها معه، هدفها وهدفه واحد؛ وهو نشر دين الله، ولقاء الله، والتعامل مع الله –عز وجل-.
كتبت إليه رسالة هناك وقالت: لا تحزن يا (عصام)، ولا تأس، يرفع الله من يبتليه، إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، والله معك، الله الله معك ولن يَتِرَك، ولن يضيع لك ما أنت فيه. ثم تنطلق بعد ذلك لتلحق به في ديار الغرب إلى هناك، لا لتجلس بجانبه تندب حظَّها، ولا لتجلس بجانبه وتقول: جَنَت الدعوة عليه، لا ، وإنما لتجلس بجانبه هناك، لتأخذ أفكاره، وتأخذ علمه، فيكتب هو بيدها، ويسير بقدمها، فتنشئ مركزًا إسلاميًا في ديار الكفر، فلا إله إلا الله .
كم من تائبة تابت على يديها هناك، وكم من ضالة كافرةٍ لا تعرف شيئًا إلا الحياة البهيمية ردها الله على يد (بنان الطنطاوي)، هناك مع زوجها تستشيره ليعطيها المعلومات، فتنطلق ويأبى أولئك الذين يَشْرَقُون بهذا الدين أن يروا للخير قولة أو جولة، ويأتي ثلاثة رجال يبحثون عن ذلك المشلول في تلك البلاد، وما وجدوه إلا أن دلُّوا على شقته، فجاءوا فاقتحموها، وتقدموا على هذه الداعية المسكينة امرأة في بيت غربة، وبعيدة.
لكن معها الله الذي قدمت نفسها له- فإذا بها يُطلق عليها خمس رصاصات؛ في العنق، وفي الكتف، وفي الإبط، لتسقط مُدْرَجة بدمائها. أسأل الله أن يجعلها من أهل الفردوس الأعلى. أسأل الله أن يكتب لها ولمن بعدها من أهلها النعيم المقيم السرمدي الأبدي الذي لا يزول. وأسأل الله أن يوقظ في بنات المسلمين ومعلمات ومتعلمات المسلمين نماذج مثل تلك النماذج، وأَعْظَمَ من تلك النماذج.
كانت أديبة مثقفة، تتقن فن القول، نشرت العديد من المقالات في الصحف والمجلات الإسلاميّة، وكانت تؤمن بأنّ للمرأة دوراً اجتماعيّاً وثقافيّاً لا يقل أهميّة عن دور الرجل، ومهمة دعويّة مؤتمنة عليها، إلى جانب دورها الطبيعي في رعاية الأسرة وتربية الأجيال، وصدر لها كتاب: (دور المرأة المسلمة).
المصادر
- أعلام الصحوة: الشخصيّة رقم 285 محمد علي شاهين (مخطوط)
- مجلة الغرباء الإلكترونية
- مجلة الرائد عدد 266
وصلات خارجية
للمزيد عن الإخوان المسلمون والمرأة
للمزيد عن الإخوان في سوريا
1- الشيخ الدكتور مصطفي السباعي (1945-1964م) أول مراقباً عاماً للإخوان المسلمين بسوريا ولبنان. 2- الأستاذ عصام العطار (1964- 1973م). 3- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1973-1975م). 4- الأستاذ عدنان سعد الدين (1975-1981م). 5- الدكتور حسن هويدي (1981- 1985م). 6- الدكتور منير الغضبان (لمدة ستة أشهر عام 1985م) |
7- الأستاذ محمد ديب الجاجي (1985م لمدة ستة أشهر). 8- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1986- 1991م) 9- د. حسن هويدي (1991- 1996م). 10- الأستاذ علي صدر الدين البيانوني (1996- أغسطس 2010م) 11- المهندس محمد رياض شقفة (أغسطس 2010) . |