ابتسام صالح
إبتسام صالح ... رحلة نحو النور
لقد كرم الله تعالى الإنسان وفضله على كثير من خلقه، وشرفه أعظم تشريف حين خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، وأسكنه جنته، وأقال عثرته، وقبل توبته، وجعله خليفة في الأرض، وزوده بنوره وهداه من أول الطريق، ليمضى في الحياة على هديه طائعاَ لربه، محاذراَ الإعراض عن ذكره، وعلى امتداد الطريق البشرى الطويل، تجلت رعاية الله تعالى لعباده.
إن الله عز وجل وضح الطريق أمام الإنسان فقال: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» {سورة الشمس: 7. 10}.
وابتسام صالح واحدة من الذين عرفوا الطريق وساروا فيه يكللها جهد زوج مجاهد لم يبخل بنفسه وماله في سبيل الله.
نشأتها
في حي المعادي الهادئ توجهنا لفيلا المجاهد عبد الرحمن البنان، فوجدنا في وجهه البشر والفرح والطمأنينة، ووجدنا زوجته لا يشاركهما احد فيها يتكأن على بعضهما البعض ليكملا مسيرة الحياة، بعد أن تعرضا لمحن قاسية.
في هذا الحي أيضا نشأت السيدة ابتسام يحي أحمد صالح، لأب كان يعمل في بنك الاستثمار العربي، وكان مولدها يوم 7 سبتمبر 1949م، وتربت وسط تسعة من الأشقاء فاعتنى بهم الوالد، إلا أنها نمت وتربت في فترة الحقبة الناصرية، وهي فترة حكم جمال عبد الناصر لمصر والتي امتدت من عام 1955م حتى عام 1970م، ولقد كانت هذه الفترة من أقسى الفترات التي مرت بها مصر حيث الحكم المستبد، وتدهور البلاد والعباد وانهيار أمام الكيان الصهيوني، إلا أن شخصية عبد الناصر كانت مسيطرة على بعض النفوس التي وجدت فيه الخلاص، فتربت ابتسام على هذه المعاني فكانت شديدة التعصب للناصرية وحقبة عبد الناصر، ولم تفق على الحقيقة المرة إلا بعد وفاة عبد الناصر وتدهور الناصرية وأنها السبب في ضياع البلاد، وجاء تخرجها من كلية الخدمة الاجتماعية عام 1972م ليضع حدا فاصلا بينها وبين الناصرية.
زواجها
لابد وقبل كل شيء نتعرف على الشخصية المحورية التي غيرت شخصية الحاجة ابتسام مما كانت سببا لتحولها إلى طريق الدعوة والعمل من أجل الدعوة بقدر استطاعتها، فمن هو زوجها؟
زوجها هو الأستاذ عبد الرحمن محمد البنان والذي ولد في 10 مايو 1931م في حي شعبي هو حي المناصرة، يصفه بقوله: «ولدت في حي مصري قديم حي شعبي تعبق منه رائحة البخور والعطارة، وتملأ سماءه بين الحين والحين أصوات ندية توحِّد الله وتصلي على نبيِّه المصطفى، وتتردد أصوات المؤذنين العذبة معلنةً الأذان بصوت رخيم عذب».
رباه والده على معان حب الله والجهاد وكره المستعمر الانجليزي وكل محتل لبلاد الإسلام، حيث كانت تعقد في بيتهم جلسات سياسية يتبارى فيها الجميع في التعرف على أحوال الوطن وطبيعة المحتل فيه.
التحق بالمدرسة الثانوية، وكان يعيش حياة لعب ولهو حتى تعرف على شخصية وائل شاهين والتي غيرت فيه الكثير، حتى أنه دعاه لرحلة في قلب جبل المقطم وهناك رأى قوة رجال جوالة الإخوان المسلمين وحسن عبادتهم وحرصهم على طاعة الله، وحسن تدريباتهم، كما لفت نظره شخصية عمر شاهين، ومن وقتها عرف الطريق.
ثم جاءت حرب فلسطين عام 1948م وفتح الإخوان باب التطوع لإنقاذ فلسطين وشعبها من أيدي الصهيونية، ودفع الإمام البنا برجال الإخوان حيث أرسل كتيبة لقطنه لتكون تحت إمرة المجاهد الدكتور مصطفى السباعي مراقب سوريا، والأخرى عن طريق غزة تحت إمرة الشيخ محمد فرغلي والأستاذ كامل الشريف ويوسف طلعت، هذا غير ما انضم إليهم من إخوان الجيش كعبد المنعم عبد الرؤوف ومعروف الحضري وغيرهم.
تحت دافع الشوق للجهاد وحب الشهادة، غامر عبد الرحمن البنان مغامرة عظيمة للذهاب للجهاد حيث اشترى الملبس على حسابه ووصل بدون تصريح، وأبلى بلاء حسنا في الحرب، وثبت مع إخوانه بالرغم أن عمره كان ستة عشرة عاما، وظل معهم حتى عاد بعدما عادت كتائب الإخوان وقبض عليه وزج به في معتقل الطور حيث قضى عاما في المعتقل مع إخوانه، وبعد خروجه أكمل تعليمه غير أنه لم يحصل على الشهادة الجامعية إلا في الخمسينات بسبب تعنت الجامعة معه.
وما كاد مصطفى النحاس باشا يعلن يوم 8 أكتوبر 1951 إلغاء معاهدة 1936م بقوله: «من أجل مصر وقعتها ومن أجل مصر ألغيها» حتى اندفعت كتائب الإخوان تدك حصون المحتل الإنجليزي، واندفع معهم الفدائيين من كل صوب يوجهون الضربات لصدور الإنجليز مما أفزعهم وحيرهم.
وما كاد عبد الرحمن البنان يستقر حتى جاءه تكليف بالسفر للقنال فالتقى بصحبة حرب فلسطين أبو الفتوح عفيفي، ومحمد علي سليم، وفتحي البوز.. الذين وحدهم الهدف والغاية، ووقع الاختيار على عبد الرحمن البنان للقيام بعملية نسف القطار الحربي القادم من بورسعيد إلى السويس، وبدؤوا إعداد الخطة وكانت تسمى عملية الموت لأن من سيقوم بها فهو في عداد الموتى وقبلها البنان واتجه للقيام بهذه العملية بعد الإعداد والتخطيط الجيد، وقام عبد الرحمن البنان بها على خير وجه وعاد لأصحابه.
يقول أحد المجاهدين:
- «وتم بالفعل تنفيذ هذه الطريقة في قطار بريطاني كان يتحرك من بورسعيد في اتجاه الإسماعيلية وعليه حمولة من الدبابات والبترول وبه عربتين لنقل سرية من الجنود وعربة أخرى في المؤخرة تحمل عشرة جنود مسلحين لحراسة القطار وتم وضع الألغام وعند مرور القطار ضغط احد الفدائيين واسمه عبد الرحمن البنان على جهاز التفجير فانفجرت الألغام وخرجت القاطرة وسبعة عربات عن الخطوط».
اندمج الأستاذ عبد الرحمن البنان مع إخوانه في النظام الخاص حتى اعتقل في أغسطس عام 1954م وبعد المحاكمات حكم عليه بـ 15 عام أشغال شاقة غير أنه قضى عشر سنوات وخرج في نوفمبر من عام 1964م بعد أن قضى في سجن طرة ما يقرب من خمسة أشهر ثم سجن الواحات ما يقرب من ثلاثة سنوات ثم سجن المحاريق ما يقرب من عامين ثم سجن القناطر والذي خرج منه.
يقول فريد عبد الخالق:
- «رأيت بعيني ما يجعلني كمان غير الكراهية العامة كراهية خاصة لأني شوفت أحد الإخوان اسمه عبد الرحمن البنان لا أنساه شاب كان في حياته مؤمن، زكي النفس .. عُذِب بالكلب وشوفته في السجن الحربي سُلِط الكلب عليه فأخذ قطعة من لحمه أي والله أخذ قطعة من لحمه فأنا شوفت قطعة اللحم خدها الكلب».
ما كاد يهنئ وسط أهله حتى تم اعتقاله مرة أخرى بعد قرار عبد الناصر الذي قرر فيه اعتقال كل من سبق اعتقاله، فتم اعتقاله في سبتمبر عام 1965م بعد هروبه لمدة شهر حيث ذهب به لسجن أبو زعبل، ثم سجن القناطر وقضى بها حتى وقعت النكسة في 5 يونيو 1967م وبعدها وفي عام 1968م بدأت بعض الإفراجات فكان منهم.
قرر الهجرة من مصر وذهب إلى أمن الدولة ليأذنوا له بالسفر، فكان بينهما حوار جيد يقول فيه: «أخذ يقلب في الملف الخاص بي، وقال لي: إننا نعرف كل شيء عنك، أولاً لقد اشتركت في حرب فلسطين، ثم في حرب القنال، قلت له: أجل، وهذا يشرفني، إلا إذا اعتبرتم هذه الأعمال من الذنوب والأعمال ضد نظام الحكم، قال لي: ألا تدري أن هذه الأفكار، وهذه الأحاسيس من الكراهية تهمة إضافية لك، إذا سجلت في ملفك، ولكني أعتبر نفسي وكأني لم أسمع منك شيئًا، قلت له: هل تريدني أن أكون منافقًا؟ قال: ألا يمكن أن تنسى وتسامح؟ قلت له: إن ذلك ممكن؛ إذا أعدتم لي فترة شبابي الذي قضيته في السجن بدون ذنب ولا مبرر، قال لي: إن خروجك سيسيء إلى سمعتنا، قلت له بابتسامة حزينة: وهل حالنا وما نحن عليه بعد احتلال اليهود لـ«سيناء» و«الجولان» و«الضفة الغربية»، وما نحن فيه من سوء حال لم يسئ إلى سمعتنا بعد؟
أطرق الضباط طويلاً، ونظر إليَّ طويلاً، وقال: إني أعذرك، ولعل الأيام تنسيك ما قاسيت، وإنني أتمنى أن أخدمك، ولكن عندنا تعليمات بمنع سفر أي شخص كان معتقلاً».
إلا أن الله سخر له صديق الحرب في فلسطين الأستاذ نجيب جويفل الذي ساعده في استخراج جواز سفر والسفر خارج مصر.
قضي في الخارج فترة طويلة ثم عاد فتزوج ثم سافر وعاد بعدها لينشأ حضانة من أعظم الحضانات في المعادي والتي بلغت شهرتها أن أصحاب المناصب العليا كانوا يرسلون أولادهم لها.
لم ينسه أمن الدولة فكان يرسل له بين الحين والأخر، شديد الصلة بإخوانه حتى أنه عندما فاز الإخوان بثمانية وثمانون مقعدا في مجلس الشعب أقام حفله كبيرة حضرها المرشد العام وأعضاء مجلس الشعب وكثير من إخوان الرعيل الأول في يناير 2006م، إلا أنه بعدها أصيب بفقد النطق فحمد الله على ذلك الفضل (4) .
كانت هذه شخصية المجاهد زوجها والذي غير حياتها كثيرا، حيث تعرف عليها عام 1983م أثناء توجهها لأداء واجب العزاء في أخت من الأخوات وكانت هناك خالة عبد الرحمن البنان والتي رشحتها له، وبعدما رآها قال: «هذه البنت غير كل البنات وأريد أن أرتبط بها».
ولقد وافقت بالرغم من فارق السن الكبير بينهما بالإضافة لإدراكها أن هذا الرجل ليس بالعادي حيث أن الاعتقالات تنظره، لكنها بالرغم من ذلك وافقت على الزواج، وتم ذلك وسافرت معه للكويت حتى عام 1986م.
بعد عودتهم واستقرارهم في المعادي كان بيتهم قبلة للإخوان المسلمين حيث كان دائما يزورهم الأستاذ محمد حامد أبو النصر والأستاذ مصطفي مشهور والأستاذ محمد مهدي عاكف.
محن على الطريق
ربما يظن الداعية أن المحن التي لابد أن تواجهه لابد أن تكون سجون ومعتقلات فحسب لكن المحن ربما تكون أشد في أشياء أخرى.
وقد تعرض عبد الرحمن البنان لفترات كبيرة في حياته لهذه المعتقلات فصبر ورضي، إلا أن زوجته شاركته هذه المحن، وإن كانت ليست محن الاعتقال لكنها محن من نوع أخر، فقد ابتلهما الله بعدم الإنجاب فلم يرزقا بالذرية طيلة حياتهم فصبرت على ذلك وأعطت جل وقتها لزوجها.
وليس ذلك فحسب فما أن عادا إلى وطنهما مرة أخرى وجمعا ما رزقهما الله من الغربة طيلة السنوات حتى قاما بإيداعه في شركات الريان والشريف لكن مع مرور الوقت وجه الحكومة المصرية ضربتها القوية للاقتصاد الإسلامية بأن صادرت كل شركات الريان والسعد ولم ترجع للأهالي أية شيء بالرغم من أن الأهالي ظلوا ينادون ويرجون الحكومة بأن يخلوا بينهم وبين أصحاب الشركات وهم سيعطونهم أموالهم لكن الحكومة كانت قد خططت لضرب كل اقتصاد إسلامي ومن يجرؤ على التعامل معهم فقدوا أموالهم كلها، فكانا مثلا للصبر على ابتلاء الله لهما.
وما كادت تمر هذه المحنة، حتى تعرضت لمحنة أخرى هي وزوجها حيث تعرضت عينه إلى مرض شديد وتكونت عليها مياه بيضاء كانت سببا في عجز العين عن النظر، لكنها ظلت بجوار زوجها تدعو الله أن يخفف عنهما ما ابتليا به.
وليس ذلك فحسب فما كاد يوم 2 فبراير من عام 2006م يهل حتى كانت تنتظرها مفاجأة أخرى وهي فقدان زوجها للنطق، ومع ذلك كان حريصا على صلاة حتى في أوقات الغيبوبة.
وبالرغم أنها سعت على الأطباء إلا أنهم قرروا أنه لا فائدة فأصبحت هي اللسان الذي ينطق به، والعين الذي ينظر بها.
وعندما فتحا حضانة الفجر الجديد في فيلاتهما بالمعادي الجديدة كانت تنظرهما مفاجآت متتالية وهى تمركز عربات الأمن أمام الحضانة بل وصل الأمر أن ضباط أمن الدولة كانوا كثيري التردد على الحضانة مما اضطرهما لإغلاقها عام 2001م.
وبعد مرور هذا العمر ظنت أن زوجها بعيد عن أعين أمن الدولة لكنها فوجئت في شهر مارس عام 2003م بطلب لزوجها في مكتب أمن الدولة بالمعادي من الرائد أحمد حمزة، فقالت له: لابد أن اذهب معك، وألبسته أشيك البدل حتى يظهر أمامهم بعزة المسلم وقضوا معه وقت في الأسئلة ثم انصرفا، وبعد فترة أوقفوه في المطار إلا أن الإجراءات عادت لطبيعتها مرة أخرى.
مشروع الحضانة
أثناء وجودهم في الكويت تعلموا طريقة إدارة الحضانات الإسلامية بطريقة علمية صحيحة، وعندما عادوا بدأوا ينفذون هذا المشروع.
فقد وضعوا منهجهم في تشيد حضانة إسلامية كبيرة في فيلتهم وأطلقوا عليها «الفجر الجديد»، وأثبتت الحضانة مكانتها في فترة وجيزة وأصبح الإقبال عليها شديد حتى وصل الأمر أنهم كانوا يأخذون بأسبقية الحجز، ووصل الأمر أن كثير من ضباط الشرطة كانوا يرسلون أبناءهم في هذه الحضانة لأنها أثبتت فعلياتها، فقد كانوا يغرسون في الأطفال المبادئ الإسلامية عن طريق تمثيل هذه القيمة أو عن طريق القصة، ولم يعتنوا بالأطفال فحسب بل امتدد اعتنائهم للأولياء الأمور فكانوا يعتنون بأولياء أمور الأطفال ويرشدونهم للمثل العليا، وكيفية التعامل مع أطفالهم في هذه الفترة.
بلغت شهرة هذه الحضانة وطريقة إدارتها أن بعض المسيحيين أرسلوا أطفالهم للتعلم فيها فقد كان بها أربعة من المسيحيين وكان منهم طفل يسمى أنطوان عادل تأثر بما شاهد حتى فوجئوا أنهم يرفع الأذان مما كان سببا لتحرك الكنيسة وإخراج الأطفال من هذه الحضانة، وليس ذلك فحسب بل أصبحت الحضانة قبلة رجال أمن الدولة فقد كانت تقف عربة كبيرة أمام الحضانة كل يوم، وبدأ التضييق عليهم مما دفعهم لغلق الحضانة بسبب التضييق الواقع عليهم عام 2001م.
كلمة لابد منها
ما زال الحاج عبد الرحمن البنان يعيش في بيته وبالرغم مما مر به فلم ييأس أو يقنط أو يجزع هو أو زوجته بل تغلبوا على وحدتهم بالتواصل مع رجال الدعوة من الرعيل الأول سواء من ظل على طريق الدعوة أو بعد عنها لظروف، وما زال فضيلة المرشد العام يعوده ويزوره بين الحين والأخر.
لقد كان بيتهم غرفة عمليات في انتخابات 2005م للوقوف بجانب مرشح الإخوان المسلمين الدكتور محمد منصور، ومع ذلك ما زالوا يقدمون للدعوة بقدر استطاعتهم (5) .
المراجع
- حوار مع الحاجة ابتسام صالح أجراه الأستاذ عبده مصطفى دسوقي.
- كامل الشريف المقاومة السرية في قناة السويس- دار الوفاء- الطبعة الثالثة، 1987.
- أبو الفتوح عفيفي: رحلتي مع الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى،1424هـ- 2003م.
- حوار مع الحاج عبده صالح أجراه الأستاذ عبده دسوقي، وأيضا مذكرات عبد الرحمن البنان.
- حوار مع الحاجة ابتسام صالح.