دولت مكاوي
مقدمة
لم يقتصر الوضع على النماذج الطيبة لأخوات القاهرة فحسب، بل ظهرت نماذج رائعة لأخوات الأقاليم, وخارج مصر, فكما كان الإسلام مصنع الرجال، كان أيضًا مصنعًا للنساء المؤمنات في مصر وغيرها.
إن التضحية نبات صغير يرويه الإنسان بالعطاء والبذل وقهر هوى النفس.. من أجل الآخرين.
من هي؟
هي دولت أحمد مختار مكاوي, ولدت في 1 نوفمبر 1930م، في قرية بشبيش التابعة لمركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية, نشأت في بيئة غنية بالمعاني التربوية، فقد كان والدها رجلاً ثريًّا، وبالرغم من ذلك كان يعمل على تربية أولاده تربية إسلامية.
فنشأت محافظة على صلواتها والتزامها بطاعة ربها، لم تكن وحيدة أبويها، بل كان لها خمس شقيقات وشقيق واحد أصبح لهم فيما بعد الحصن الحصين من نوازل الحياة، توفي والدها وهي ما زالت في سن صغيرة، فكانت أول صدمة تتعرض لها، لكنها واجهتها بقلب مفعم بالإيمان.
تلقت تعليمها في مدارس القرية حتى حصلت على الابتدائية آنذاك -وحفظت بعض السور من القرآن الكريم.
دولت مكاوي هي أخت وزوجة وأم لبعض الإخوان الذين تركوا أثرًا عظيمًا في دعوة الإخوان؛ فهي أخت للمهندس عبدالمنعم مكاوي وهو أخوها الوحيد حيث تخرج في كلية الزراعة بالإسكندرية، وتعرف على دعوةالإخوان في وقت مبكر، واعتقل عام 1948، ثم اعتقل عام 1954 وحكم عليه بخمس عشرة سنة, ولم يخرج إلا بعد موت جمال عبد الناصر, ثم اعتقل مرة أخرى عام 1981, اختير عضوًا بمكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، ومشرفًا على قطاع وسط الدلتا, توفي عام 1998م.
كما كانت زوجة المهندس علي أبوشعيشع، والذي ولد في 26/12/1918 بكفر الشيخ، والذي عمل مهندس مساحة بدمنهور، وقد تعرف على دعوة الإخوان المسلمين عام 1937م, وأصبح من رجالها المخلصين, اعتقل عام 1948م, وكان صديقًا للمهندس عبد المنعم مكاوي، واعتقل عام 1965 وعذب في السجن الحربي, ثم اعتقل مرة أخرى عام 1981, وتوفي في 17/11/ 1992م.
وابنها هو الدكتور حسن أبوشعيشع أحد قادة الإخوان في كفر الشيخ، والذي ولد عام 1958، وتخرج في كلية الطب, وقد انضم إلى الإخوان امتدادًا لرافد الوالد والخال, تم اعتقاله في أحداث 1981, وكان مرشح الإخوان في انتخابات 2005م، وهي من الدوائر التي أوقفت الحكومة الانتخابات فيها.
تعرفت الحاجة دولت على دعوة الإخوان من خلال أخيها، والذي تعرف على دعوة الإخوان أثناء فترة دراسته بكلية الزراعة بدمنهور.
بعد وفاة والدها تولى رعايتها أخوها الوحيد، ومن ثم كانت شديدة التعلق به، حيث اعتبرته الأب والأخ والصديق, لكنها استيقظت على كابوس مرعب حيث اعتقل أخوها عام 1948، وأودع سجن الطور, فكانت صدمة لها بسبب ذلك، وبالرغم من ذلك كانت تحث أمها على الصبر والاحتساب لله، بالرغم من أن قلبها كان يتفطر حزنًا لفراق أخيها, لكنها كانت تعلم أن الطريق ليست سهلة.
زواج مبارك
تعرف علي أبو شعيشع على دعوة الإخوان عام 1937, وأثناء دراسة الأستاذ عبد المنعم بكلية الزراعة بدمنهور توثقت الروابط بينهما, وسارا على الدرب معًا كما اعتقلا معًا في محنة 1948م, أراد المهندس علي أن يتزوج فبحث عن زوجة فلم يجد، وفي هذا الصدد يقول:
"بلغت سن الثانية والثلاثين، وأحسست بحاجة ملحة إلى الزواج، وأحس إخوان دمنهور بذلك فنشطوا، وكان على رأسهم الأخ (أحمد نجيب الفوال)، لكن لم يتيسر الحصول على الزوجة المطلوبة, ولما كان الأخ عبدالمنعم مكاوي على صلة وطيدة بأسر الإخوان فقد رأيت أن أفاتحه, وفي لقاء بمنزله في سخا فاتحته برغبتي، وأخذ يستعرض شقيقات الإخوان فوجدني على علم بظروف بعضهن، وعدم ارتياحي لهن, وإذا به يفاجئني في أسلوب مرح: "خلاص يا سيدي عندي أختي.. تعال أجوزها لك، ومتهمناش الفلوس..
أدي طقم الصالون، ونجهز لك حجرة نوم"، وكانت مفاجأة, فأجبته بالموافقة, فاشترط أن أراها وتم ذلك، وأردت أن استوثق بمعرفة شيء عن حياتها، فاتصلت بالأخ جلال عبدالعزيز لأنه على معرفة بهم فأجابني على أسئلتي.
وأخيرًا قررت الزواج بها لثقتي وحبي للأخ عبد المنعم، وصارحت والدتي فوافقت, واتفقت مع أهل العروس على أن يكون البناء في يناير 1954م غير أنه لم يتم بسبب اعتقال أخيها في يناير 1954، ولم يخرج إلا في مارس، ثم انتقلت العروس للحياة معي إلى أبي المطامير بحيرة بعد أن تم الزفاف في 1/6/1954م.
فراق وألم
ما كاد العروسان يهنآن بالزواج حتى حدثت حادثة المنشية في 26/10/1954م، وتم اعتقال أخيها للمرة الثالثة، وحكم عليه بخمسة عشر عامًا, فأخفى الزوج عنها الخبر، لكنها علمت مصادفة, ولقد اعتقل أخوها من منزله بكفر الشيخ، وترك أمه وحيدة، والتي فقدت بصرها.
فعادت الابنة ورافقتها في هذه المعاناة، وبدأت سلسة الأحزان من أجل شقيقها، وسلسة الخوف من أجل زوجها، فصبرت واحتسبت, وتأقلمت على الحياة الجديدة، حتى كانت أول زيارة لأخيها في الواحات, ثم كانت الزيارة الثانية التي ذهبت إليها وهي حامل في ولدها حسن, وكان يرافقها في كل زيارة زوجها وأمها، ومما خفف عنها أن الله رزقها في عام 1956 بابنتها الأولى نجوى، والتي انشغلت في تربيتها، وما كاد عام 1958م يهل حتى رزقها الله بمولودها الثاني حسن، وقد أصرت على تسميته حسن لرؤيا رأتها أن أخاها أتاها في المنام وقال لها: إن الله سيرزقك بحسن فتمسكت بالاسم الذي سماه أخوها لها في المنام.
نموذج حي من الصبر
كانت السيدة دولت تعيش في بيت أبيها حياة مترفة، لكنها عرفت المحن مبكرًا؛ فقد توفي أبوها، ثم اعتقل أخوها، وبعد زواجها كان الزوج موظفًا بدمنهور ولم يكن له سوى مرتبه فصبرت على شظف العيش, يقول ابنها الدكتور حسن: "تزوج أبي بأمي قبل محنة 1954 في أبي المطامير بالبحيرة, وكانت حياتها خشنة بعد الترف الذي كانت تعيش فيه, ومعاناة مادية بسبب التزامات زوجها ناحية أسرته، وحرمانه من الترقي الوظيفي, فكان من أبرز سماتها أنها كانت مدبرة مقتصدة في معيشتها، ولم تشكُ لأحد حالها، بل كانت تظهر السعادة لأقربائها, وكانت تشعرهم أنها تحيا حياة مترفة رغدة لا ينقصها شيء، كما أنها لم تتخل عن أهل زوجها يومًا ما, بل كانت تطالب زوجها بحسن رعايتهم".
وأثناء حملها الثالث توفي الجنين، وحاول الأطباء إجراء جراحة لها لإنزال الجنين لكنه لم يحدث حيث نزل وحده بفضل الله.
ولقد اجتمعت عليها المصائب؛ فبعد اعتقال أخيها اعتقل زوجها, وتعرض للاضطهاد, والمراقبة الشديدة من قبل المباحث والتفتيش المستمر, بل النقل من العمل بأبي المطامير إلى كوم حمادة, كما تعرض لأزمة مالية حتى تعذر عليه توفير الخبز للأولاد, حتى إن أحد القياسين [والقيّاس: هو من يقوم بقياسة الأرض الزراعية كان يشتري لهم الخبز بالأجل؛ وهذا على حد قول المهندس علي في مذكراته، فلم تتبرم ولم تقنط، بل كانت نعم الزوجة الصابرة المعاونة لزوجها المواسية له في همومه.
وفي 8 سبتمبر 1965 داهمت المباحث شقتها في كوم حمادة، واعتقلت زوجها، وتعرض البيت للتخريب وبعثرة الأشياء, فتصرفت بشكل مناسب رغم ما في قلبها من ضعف نسائي لتجديد الأحزان عليها؛ فقد اعتقل أخوها منذ عشرة سنوات، وها هو زوجها يختطف من وسط أبنائه.
وجاء والد الزوج وصحبها معه لكفر الشيخ حتى أفرج عن زوجها بعد شهور، إلا أنه كان تحت المراقبة الشديدة, وحددت إقامته, ولم يستطع السفر لرؤية أبيه وأمه إلا بإذن من الأمن، وأحيانًا كان أمن كفر الشيخ يلغي الزيارة فيعود دون إتمامها, وابتعد الناس عنهم لخوفهم من الاعتقال، فاجتمع عليها همّ الخوف من الزيارات المتكررة من قبل الأمن, وهمّ من العزلة حيث لم يكن يزورها أحد.
انتقلت مع زوجها إلى كفر الشيخ عام 1969 حيث الأهل، فخفت المعاناة بعض الشيء، ووصلت السعادة إليها بعد الإفراج عن أخيها أواخر عام 1970م؛ حيث كان أول بيت يزوره بعد خروجه كان بيت أخته،فلما رأته سقطت مغشية عليها، وما كادت تهنأ بخروج أخيها حتى توفيت أمها, فعز في نفسها فراق مصدر الحنان، فتترست بالإيمان الصادق وطاعة ربها.
جهاد على طول الطريق
لم ينته دورها بخروج أخيها وزوجها من محن عبدالناصر, فقد عمدت إلى تربية أبنائها, فعندما التحق ابنها حسن بكلية الطب وأصبح أحد شباب الحركة الإسلامية لم تقف في طريقه رغم ضعفها كأم، وما زالت محنة أخيها وزوجها راسخة في ذهنها، لكنها كانت سعيدة بأن أبناءها ساروا على نهج الرسول ، لقد كان بيتها في فترة السبعينيات ملتقى الشباب بفعل أخيها وزوجها وابنها.
فكانت محل اعتزاز الإخوان والأخوات، حيث رأوا فيها مثالاً حيًّا يجب أن يحتذى به, فقد كانت من الطراز الاجتماعي النادر؛ حيث كانت تقوم بحل مشاكل الأسر, وتعين المحتاج, وتحكم بين المتخاصمين, وكان لسانها لا يعرف إلا الحق، فكانت تواجه المخطئ بخطئه، فنالت حب الجميع حتى الجيران من النصارى ما زالوا يذكرونها بخير واعتزاز شديد لعلاقتها الطيبة معهم.
ومرت الأيام وما كاد يوم 9/10/1981 يشرق حتى وجدت ضابط المباحث عبد الرحيم سعدة يدق على الباب؛ حيث أتى لاعتقال نجلها حسن، ولم يعرف مكانه أحد, وما كادت تفيق من هذه الصدمة حتى تم اعتقال زوجها يوم 22/10/1981, وفي نفس الليلة اعتقل أخوها من سخا، وتم ترحيلهم لسجن بورسعيد، أما ابنها فلم تعرف أين ذهب، فتراكمت الهموم على قلبها، لكن الهموم لم تجد مكانًا، بل وجدت قلبًا مفعمًا بالإيمان, صابرًا, محتسبًا.
ظل زوجها وأخوها وابنها -الذي رحل لسجن المنصورة- معتقلين لمدة عشرة أشهر حتى أفرج عنهم، وكانت في هذه الفترة ملتزمة بالرضا, وكانت حواراتها مع الجيران والأرقاب دفاعًا عن موقف الإخوان.
ولقد تكالبت عليها الأمراض؛ فقد أصيبت بالسكر، وخشونة المفاصل مع اعتقال زوجها وابنها وأخيها عام 1981م, ومع ذلك كانت تحافظ على زيارتهم, واتصفت في هذه المرحلة بالصلابة، ولم تقبل ضعف بعض الأمهات اللاتي اعتقل أبناؤهن وأزواجهن، فكانت تحثهن على الصبر، وكانت دائمة الزيارة لأسر الإخوان المعتقلين.
وكانت توزع الحلوى على الزوار، وبعد خروج زوجها وابنها عانت من الوحدة والغربة بسبب انشغال زوجها وأخيها بإعادة البناء التنظيمي في كفر الشيخ، فكان أكثر وقته بالخارج حيث يدور على الشُّعب والقرى ليرسخ دعوة الإخوان، فكان كثيرًا ما يتركها وحدها ولا يلتقيان في آخر يومهما إلا على الطعام والنوم, فعانت قسوة الوحدة الشديدة بالرغم من زيارة الأخوات لها، لكن تسبب غياب زوجها عنها في تولد هذا الشعور، فكانت تجلس في الشرفة تنتظر عودة زوجها.
ومن المواقف المشهودة لها أنها عندما أراد ابنها الزواج لم تتدخل بفرض اختيار معين، وعندما عرض عليها الفتاة التي اختارها ذهبت إليها لرؤيتها وعقبت له بقولها: "إن هذه تصلح أن تحمل كراتين وتلف وراءك في المعتقلات".
فراق
تكالبت عليها الأمراض واشتدت بها الأوجاع حتى توفيت بارتفاع مفاجئ في ضغط الدم يوم 30/7/1990م, واجتمع خلق كثير لتشييع جنازتها، وكان زوجها يجلس بعد ذلك يتذكر لها مواقفها ومحنها ووحدتها, وحالها وهدوءها وقت خروجه وعودته، ووجهها البشوش الذي كانت تقابله به, وظل حزينًا عليها حتى توفاه الله في 17/11/1992.
المراجع
- حوار أجراه الأستاذ عبده مصطفى دسوقي مع الدكتور حسن أبو شعيشع
- علي أبو شعيشع: يوميات بين الصفوف المؤمنة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى، 1421ه-2000م.