سراديب الشيطان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سراديب الشيطان
صفحات من تاريخ الإخوان المسلمين
سراديب الشيطان
التاريخ السري للمعتقل

أحمد رائف

الزهراء للإعلام العربي

توطئة

بسم الله الرحمن الرحيم

" وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو هدانا الله لهدينكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص* وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم "صدق الله العظيم

إهداء

إلى روح المرحوم الأخ جابر رزق المجاهد المسلم الذي عاش حياته يدعو إلى الله على بصيرة , تحمل المحن الشدائد, ولم يغير ولم يبدل , ووافاه الأجل في بلاد غريبة ؛

ثم رقد في سلام بجوار أستاذه عمر التلمساني المرشد العام الرابع أو الخامس لجماعة الإخوان المسلمين , حيث ينعمان بالرضوان والملائكة يدخلون عليهم من كل باب , سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار .

أحمد رائف

مقدمة الطبعة الثانية

سراديب الشيطان هي تلك الأنفاق المجهولة المخوفة التي يضع المستبد فيها شبعه خوفا منه وكراهبة له !
والمستبد , أى مستبد والشعب , أى شعب لا يلتقيان أبدا.
والمستبد قاهر وقادر , والشعب مستكين مستضعف .
والصراع بينهما لا ينقطع لحظة واحدة حتى يقضي أحدهما على الآخر .

والاستبداد شجرته خبيثة , تنبت في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين والمستبد لا يستعين في عمله بعاقل أو رشيد أو صاحب مروءة , وكل من يعاونه من أكابر المجرمين الذين يقوم دولاب الظلم, وهم جميعا شركاء في الوزر لا ينقص أحد من وزر الآخر شيئا .

ولكن الله سريع الحساب كما أخبرنا القرآن الكريم ويعتقد بهذا كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها , وهو ينتقم من هؤلاء الظلمة في الدنيا , ويوم القيامة تراهم وقد وجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا .

وقديما سئل الفقيه العظيم مالك عن حائك المنصور , هل هو من أعوان الظلمة ؟ فأجاب بأنه من الظالمين . وقال لو امتنع هذا الحائك عن صناعة الملابس للمنصور لما خرج إلى الناس ليقيم فيها الظلم بتقلباته ورجفاته .

إن كان هذا هو رأي الفقيه في حائك المنصور فماذا يكون رأيه في حائك القوانين , ومن يمسكون السيف والسوط لمن هو دون المنصور إدراكا للقيم والأخلاق وما يصلح الناس ؟

والمستبد قديما كان يخفف من استبداده وظلمه بقية من دين , وقلة من فقهاء كانوا يشيرون لظلمه على استحياء .

واليوم من للمستبد والظالم ؟ ليس غير الحوقلة ومصمصة الشفاه والدعاء عليه في السر والجهر , بالنهار وفي الليل , وليس هناك أبعد من هذا .

وقد أوصي القرآن الكريم بمقاومة الظلم والاستبداد والعمل الدائب على القضاء عليه (والذين إذا أصابهم البغي هم ينصرون)

وجعلت السنة الشريفة أفضل الجهاد كلمة حق يقولها صاحبها عند سلطان جائر . وجعلت صاحبها سيدا للشهداء في مقام حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلي الله عليه وسلم إن دفع حياته ثمنا لها والله من قبل ومن بعد.

كنت أستمع إلى الخطاب الرئيس حسني مبارك بمناسبة عيد العمال في 1 مايو 1989 , وأنا في العادة لا أستمع لخطاباته لانشغالي الدائم حيث لا أجد الفرصة

ولكني أصبت بنزلة برد فوجدت نفسي أمام التليفزيون أستمع إلى خطاب الرئيس . وتذكرت جمال عبد الناصر وكيف كنا نستعد لسماع خطابه قبلها بأسبوع .

لقد كان خطابه هو الفرصة لإلقاء قنابله على العالم وكان يحتوى على جديد دائما , فانتظاره مفيد لمعرفة ما يكون .

وكانت تنعقد لجان الدراسة حول خطاب عبد الناصر بعد انتهائه .وتنشغل مصر كلها بدراسة خطابه والتعليق عليه .

وكانوا يطلبون منا ذلك ونحن معتقلون . وكان أكثرنا يفعل , أو تتكون لجنة من " المدربين " للتعليق وتبيان أوجه العظمة والعبقرية التي ابتدعها الخطاب .

وكانوا يأخذون هذا التعليق إلى " لاظوغلي " حيث يلقون به في احدي سلال المهملات , ومن يستطيع الاطلاع على مائة ألف تعليق قد جاءت من كل أرجاء مصر ؟

وكانوا في العادة يطلبون من المعتقلين تأييدا لما جاء في الخطاب , ولو لم يكن به ما يستدعي التأييد.ولكنها سياسة الاستخفاف بالناس وإذلالهم وتعويدهم العبودية والصغار . وجاء من بعده السادات.

وكنت أحرص على خطابه من باب المتعة والتفكه,فأنا لا أشاهد برامج التليفزيون والمسرحيات وكان خطاب السادات هو فرصتي لتحقيق شئ من الاستمتاع.

ثم جاء حسني مبارك . وخطاب الرئيس حسني مبارك ليست به مفاجآت. وسبقه في الخطابة عدة أشخاص غابت أسماؤهم عني .

وتكلم من سبقه للناس وكأنه في حاجة إلى تقديم . وتكلم من سبقه عن عظمته وقدرته وبعد نظره وأنه لولاه لهلكنا وكنا من الخاسرين. والخطباء يخطبون والناس تصفق .

وكأنك في مزرعة الخنازير التي حكي لنا عنها " جورج أوريل " كل واحد يشيد بعبقريته ودهائه وقدرته على الإدارة وكأن هؤلاء الخطباء لا يعيشون في مصر .

وكأن الحال التي وصلنا إليها من سوء المنقلب في الأهل والمال والولد قد فعلها شيطان خبيث وليس للإدارة المصرية دخل فيها .

على كل حال كان هذا شيئا طبيعيا , فالذين يخطبون هم أصحاب المصالح الحقيقية في هذا البلد الظالم أهله وهم يمجدون سيدهم لأنه في نظرهم الرازق والباسط والمانع والمعز والمذل .

وكلمة منه ترفع وتخفض , هذا ما وصلت إليه مصر من سوء المآل في دراما مثيرة قد بدأ عرضها في ذلك الصباح الكئيب يوم 23 يوليو سنة 1952 .

لم يعرض عليه واحد من الخطباء مشكلة من المشاكل التي يعيشها الناس كل يوم وهي مشاكل كثيرة ومتنوعة تبرز بأعناقها وتفرض نفسها على الجميع .

ولم يقل له واحد إننا قد سئمنا الاستبداد وسوء الإدارة والفساد الذي غشي كل شئ والرشوة التي صارت منهجا ونظاما .

ولم يقل له واحد : أنت لست أقدر الأحياء على حل المشكلات, وهناك غيرك من يقدر ويستطيع وإن من علامات الساعة أن يوسد الأمر إلى غير أهله .

لم يقل له واحد : إنك ميت وإنهم ميتون , فالهوينى الهوينى في الظلم والقهر والاستبداد قبل أن تقرع القارعة بابك. أو تحل قريبا من دارك .

وأعظم الظلم أن يتسلط بشر على بشر دون إذن منهم أو حق أو يمثل دورا قبيحا أنه جاء بإرادة الناس ورغبتهم ثم يلقاهم أحيانا بمسحة كاذبة من الطيبة والتواضع والتسامح وإنكار الذات .

وسوف تظل مشكلة الحكم المصري في يد الزمن أو رهن إرادة عزرائيل وسوف ينقضي الوقت وتتوالي الأيام وسوف يأخذ الناس حقهم في الحكم ويحصل كل فرد على نصيبه من الكرامة والحرية .

(وتلك الأيام نداولها بين الناس) ووقف الرئيس يخطب ويذكر أرقاما ويبين أياديه البيضاء على هذه الأمة المنكودة وهو يقاطع بالتصفيق .

وتدور كاميرا التليفزيون على الوجود المجتمعة فلا تجد رشيدا تطمئن إليه , وهي تقترب بحذر من المشير السابق " أبو غزالة " الذي عزل عن منصبه منذ أيام .

والعالم كله يضرب أخماسا في أسداس ولا يستطيع أحد أن يعرف سبب الطرد الذي كان في لحظة من نهار .

وهو الذي كان أبو غزالة أقوي رجل في مصر منذ أيام ! وتقف عنده الكاميرا قليلا فتجده جالسا بجوار شيخ الأزهر الشريف .." الإمام الأكبر ".

وكأن الحال التي وصلنا إليها من سوء المنقلب في الأهل والمال والولد قد فعلها شيطان خبيث وليس للإدارة المصرية دخل فيها .

على كل حال كان هذا شيئا طبيعيا , فالذين يخطبون هم أصحاب المصالح الحقيقية في هذا البلد الظالم أهله وهم يمجدون سيدهم لأنه في نظرهم الرازق والباسط والمانع والمعز والمذل .

وكلمة منه ترفع وتخفض هذا ما وصلت إليه مصر من سوء المآل في دراما مثيرة قد بدأ عرضها في ذلك الصباح الكئيب يوم 23يوليو سنة 1952 .

لم يعرض عليه واحد من الخطباء مشكلة من المشاكل التي يعيشها الناس كل يوم وهي مشاكل كثيرة ومتنوعة تبرز بأعناقها وتفرض نفسها على الجميع .

لم يقل له واحد إننا قد سئمنا الاستبداد وسوء الإدارة والفساد الذي غشي كل شئ والرشوة التي صارت منهجا ونظاما.

لم يقل له واحد : أنت لست أقدر الأحياء على حل المشكلات , وهناك غيرك من يقدر ويستطيع وإن من علامات الساعة أن يوسد الأمر إلى غير أهله .

ولم يقل له واحد : إنك ميت وإنهم ميتون , فالهوينى الهوينى في الظلم والقهر والاستبداد قبل أن تقرع القارعة بابك, أو تحل قريبا من دارك .

وأعظم الظلم أن يتسلط بشر على بشر دون إذن منهم أو حق أو يمثل دورا قبيحا أنه جاء بإرادة الناس ورغبتهم ثم يلقاهم أحيانا بمسحة كاذبة من الطيبة والتواضع والتسامح وإنكار الذات .

وسوف تظل مشكلة الحكم المصري في يد الزمن أو رهن إرادة عزرائيل , وسوف ينقضي الوقت وتتوالي الأيام وسوف يأخذ الناس حقهم في الحكم ويحصل كل فرد على نصيبه من الكرامة والحرية .

(وتلك الأيام نداولها بين الناس)

ووقف الرئيس يخطب ويذكر أرقاما , ويبين أياديه البيضاء على هذه الأمة المنكودة وهو يقاطع بالتصفيق .

وتدور كاميرا التليفزيون على الوجوه المجتمعة فلا تجد رشيدا تطمئن إليه , وهي تقترب بحذر من المشير السابق " أبو غزالة " الذي عزل عن منصبه منذ أيام . والعالم كله يضرب أخماسا في أسداس ولا يستطيع أحد أن يعرف سبب الطرد الذي كان في لحظة من نهار .

وهو الذي كان أبو غزالة أقي رجل في مصر منذ أيام ! وتقف عنده الكاميرا قليلا فتجده جالسا بجوار شيخ الأزهر الشريف ... " الإمام الأكبر ".ثم كان جلوسه بجوار شيخ الأزهر الشريف يتأمل تقلبات الليل والنهار .

ولا أحد يعرف السبب , وما ينبغي لأحد أن يعرف السبب , ونحن نعيش في بلاد تنعدم فيها الحقوق , ولا يعمل حساب للشعب , فهو في معيار الحكام وموازيهم لا قيمة له ولا اعتبار , ومن الأفضل ألا يعرف شيئا , حتى يظل عمره في دوامة من السحر والألغاز والهيبة البالغة وأن يظل الرئيس في نظر الناس عظيما قادرا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

ومشي الرئيس في خطابه يتكلم عن زيادة السكان التي يقابلها موارد لا تزيد.

ولماذا لا تزيد الموارد ؟ لم يبين لنا الرئيس ! وعندما اشتد غضبه على الشعب والناس صار حديثه حادا لائما :

- أعمل لكم إيه ؟..

وقاطعه شخص من آخر القاعة وهو يقول :

- ازرع الأرض يا ريس .

هكذا في بساطة وبديهة حاضرة ألقي إليه الحل العبقري الذي يعرفه الجميع , وسكت الرئيس برهة ثم كست وجهه بسمة خفيفة وقال :

- أزرع إيه ولا إيه ؟

ثم أشار إشارة غامضة إلى الوالي يوسف وقال :

- عندكم وزير الزراعة .

ثم عاود الكلام من جديد .بلاد لن يصلحها إلا ميزان العدل وزئير الحرية .

وأرض لن يستقيم حالها إلا بزوال الطواغيت والظلمة من سدة الحكم .وهو أمر سوف تأتي به الأيام , طال الزمن أو قصر .

نظام الحكم في مصر يتخبط بين ديمقراطية غائبة وديكتاتورية مستحيلة , ديمقراطية قد أملي شكلها ظروف لا نعرفها , وشرق الناس وغربوا في فهم دواعيها وأسبابها .

لماذا يتمسك النظام بهذا الشكل الديمقراطي الزائف ؟

أليست الديمقراطية هي حكم الأغلبية أو الشعب ؟

هل هذا ما هو كائن ؟

اللهم لا .

يحكم البلاد رئيس جاءت به الأقدار .

ومن حوله لفيف من أصحاب المصالح الذين ينفذون إلى مصالحهم دون التقيد بأخلاق أو عرف أو دين .

وهم قلة مهما كثروا بجانب أغلبية الشعب المسكين .

فمصر يحكمها نظام وليست جماعة لها وجهة نظر قد أقنعت بها بقية الناس فهم وراءها ويؤيدونها .

والنظام هو تركيبة من بعض الناس يتحكمون في المقدرات والإمكانات , مفتاحهم شخص واحد وهو يمسك بيده كل الخيوط التي تسير المسئولين ولا تقف بجانبه قوة مهما عظمت , فهو يرفع ويخفض ويعز من يشاء ويذل من يشاء , ولا معقب لحكمه أخطأ م أصاب وهو ليس مسئولا أمام أحد , ولا يقدر أحد على محاسبته مهما فعل , والشعب يئن غيظا من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ؟ وهو كما قلنا ضعيف مستخز لا يقدر على شئ .

وهو استبداد قد اعتمد الديمقراطية شكلا في تحقيق استبداده لسبب لا نعرفه على وجه اليقين كما أسلفت ولكننا نضرب لفهمه أخماسا في أسداس من باب الظن والتخمين .

وقالوا إن النظام قد اعتمدته وتبنته الولايات المتحدة الأمريكية وبينه وبينها حبل سري .

وهي تمده بالغذاء والماء والهواء .

وهو لا يملك إلا أن يدور في فلكها وينفذ لها ما تريد والولايات المتحدة الأمريكية دولة قادرة غنية عظيمة , وهي تحكم أكثر من نصف العالم من خلال التلاميذ المدربين .

ولها " موضة " تفرضها على المريدين كل عقد من العقود . ففي الخمسينيات والستينيات اعتمدت الانقلابات العسكرية يقوم بها البكباشية المسعورون للمال والجاه والنفوذ والفساد

ثم جعلتهم يخلعون الملابس الكاكية في السبعينيات وأوصتهم ببيوت الأزياء العالمية وأشارت عليهم بالعطور الباريسية .

ثم جاءت الثمانينيات فقالت لهم الديمقراطية وحكم المؤسسات وهم يفعلون ما يؤمرون أو يفقدون السلطان والجاه والفساد .

وقد مر هذا النظام بمرحلة الديكتاتورية الصريحة الغاشمة أيام عبد الناصر عندما كان يحكم البلاد بجسد مريض قد هدته الأوجاع وهي تملي عليه قراراته المتخبطة العرجاء وهو يظلم ويستبد بوضوح وصراحة , حتي إنه لا يستح من سجن الضباط الكبار فالناس جميعا تتذكر كيف اختار مجموعة من كبار الضباط وقدمهم للمحاكمة بحجة أنهم السبب في هزيمة الجيش .

ومن طريف ما يروي أن صدقي الغول قائد الفرقة الرابعة المدرعة قد سأل رئيس المحكمة :

- هل أعد أدواتي للعودة إلى البيت وأغادر السجن؟

ولم يستطع رئيس المحكمة العسكرية أن يخفي أسفه للواء صدقي الغول الذي قدم للمحاكمة ظلما , ثم أكد أنه لابد من عودته إلى بيته.

ثم فوجئ قائد الفرقة الرابعة المدرعة بالحكم خمسة عشر عاما والطرد من الخدمة , وكان من الطبيعي أن تصدر أحكام ضد هؤلاء القادة العسكريين فلو حكم لهؤلاء العسكريين بالبراءة فمن يكون المسئول عن الهزيمة أمام الرأي العام الذي يسهل خداعه في العادة إلى حين .

كان الشيطان الأكبر هو سبب الهزيمة وهو مهندسها , ولابد أن يقدم أكثر من كبش فداء عوضا عنه .

والغريب أنه أعلن أكثر من مرة أمام الميكروفونات وأمام العالم أجمع أنه المسئول عن هزيمة يونيو , وكان يقابل بالتصفيق في كل مرة يعلن فيها ارتكابه لهذه الجريمة .

ومضت السنون ولم يصدر ضده حكم بالإدانة . وأغلقت الحكومة ملفا لم تفتحه قط, هو ملف هزيمة يونيو .

ولكنه بين يدي التاريخ يفتحه كل يوم ويضيف فيه أسطرا جديدة كانت هذه هي الديكتاتورية الصريحة التي دمرت كل شئ بإذن ربها .

واليوم...

يعيش النظام حالما بهذا العهد الذهبي للاستبداد .يفكر فيه ويتمناه ولا يقدر عليه .فنحن نعيش عصر الديمقراطية الغائبة والدكتاتورية المستحيلة .
ازداد عدد الناس وهبت رياح الحرية وكتبت الكتب ونشرت الصحف ,والشعب يطالب الحكومة بدفع الحساب .حساب التخلف والضياع والتبعية والفقر .وهناك من يطالب بدفع هذا الحساب دما وقتلا وتدميرا .

ونحن نقول للظالمين قولة هادئة :

ردوا الحقوق إلى أصحابها , ودعوا الناس يحكموا أنفسهم , وكفاكم ما جري , وهذا الكتاب " سراديب الشيطان " محاولة هادئة لمنع طوفان الدم الذي يلوح في الأفق البعيد .

(وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون)

الثلاثاء 9 مايو سنة 1989 م

4 شوال سنة 1409 هـ

أحمد رائف

مقدمة الطبعة الأولي

ما زالت مصر تعاني من أيام حكم عبد الناصر!

وسوف تعاني لسنوات لا يعلم عددها إلا الله . فقد استطاع أن يفسد الشعب والجيش والدولة ويغير مفاهيم الناس وأخلاقهم واستخدم في ذلك أداة بسيطة الشكل عظيمة الأثر هي السوط .

ولم ينتبه أحد لهذا عندما جاء إلى الحكم .وتسلل إلى الناس عبر شعارات براقة , ونجح في إحكام قبضته .

وذلك الجيل الذي تكون عبر عشرات السنين قبل قيام الثورة الذي استطاع أن ينشغل ويهتم بما يدور في بلده بدليل أنه شارك في تغيير النظام الملكي , هو نفسه الجيل الذي قهر على يد عبد الناصر تحت وطأة التعذيب القاسية , وهو الذي انصرف عن الاهتمام بما يدور خوفا من السجن وفرقا من العذاب .

ثم ظهر جيل آخر وثالث لم يعرف ماذا حدث , ولا كيف تكون هذا التصور السلبي في أذهان الناس لكل ما هو هام وله صلة ببناء الوطن وقضايا الدين , ولم يعرف أحد أن عبد الناصر قد سلك بالناس في سراديب الشيطان حيث ينعدم كل شئ , ويصير الإنسان أسير الغريزة يبحث عن البقاء وليس أكثر من ذلك .

حتى يزول هذا الشعور لابد من جيل رابع يتعلم في مناخ مختلف يسمح بتطور الأفكار ونموها , وهو أمر قد حال دون تكونه جمال عبد الناصر بنظامه الفريد الذي صنعه .

وهو نظام لا يسمح بأى شئ غير بقاء الحاكم على كرسي الحكم , ولا يوجد قوة أو قانون يزحزحه عن مكانه بغير الإرادة الإلهية وحدها.وهذا في حد ذاته بلاء من ربكم عظيم .

بلاء عظيم إذا نظرنا إلى الناحية الأخرى من الوادي , حيث ذلك الشباب الذي تكون فجأة , وصار كموج البحر والناس عنه غافلون ..

وكل ما نسمعه أنهم شباب متطرف.

وما معني متطرف ؟

لا تسمع إجابة شافية من أحد .

ولا توجد فرصة لسماع رأيهم لمناقشتهم .

والنظام يزيد في الهوة بين جميع الفرق

القمع البوليسي يشتد..

والصحف القومية تنشر أخبارا لا ندري مدي صحتها .

والصحف غير القومية تنشر أخبارا آخر .

وكأننا في بلدين مختلفين .

ولكن المؤكد أن الحال سيئة على جميع المحاور وبكل الموازين والمعايير على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني .

القمع البوليسي يزداد .

وما يسمونه بالتطرف ينتشر .

كنا نسمع عنه أنه يحدث في الصعيد .

ثم رأيناه وسمعناه في القاهرة.

ألا يعني هذا التطور والانتشار أم ماذا يعني ؟

هل في وسعهم أن يأتوا بشرطة تملأ البلاد فيكون هناك شرطي لكل مواطن ؟ هذا أمر مستحيل ولكنهم لا يفهمون .

وهناك حل أسهل من ذلك أسهل بكثير , ولكنهم لا يريدون إن جمال عبد الناصر رغم موته لم يترك الحكم لحظة , فهو يحكم من خلال بعض الأراجوازات والمهرجين , وهم يحتمون به ولكنهم لا يعرفون أنه مات .

والطوفات جارف أو هو قادم يقتلع كل شئ أمامه .ولابد لمن يعنيه الأمر أن يعرف أنه مات .يجب عليهم أن ينتبهوا لهذه الحقيقة ففيها نجاتهم من غضبه لا يعرف أحد مداها ولا أبعادها .

تغير العالم ولم يعد فيه مكان لديكتاتور صغير أو كبير.وهذا الفساد الذي استشري , فيه هلاكهم لو يعلمون وقد علمتنا الأيام أن لا شئ يدوم.

لقد أفسد عبد الناصر كل شئ. ومما أفسده مستقبل الحاكمين الذين يحكمون الآن .

ويمكنهم الحفاظ علي هذا الشعب من الانهيار وهم بالتأكيد سوف ينهارون معه لو استجابوا لمطالبه ورفعوا الوصاية عنه وعاشوا مثلنا مواطنين لا آلهة .

الحل الوحيد في نظري للخلاص هو طي صفحة عبد الناصر إلى الأبد , فيصير شيئا تاريخيا مثل محمد على والخديو إسماعيل والملك فاروق .

وكفي عبثا بمقدرات الشعوب لأن غضبتها لا يتحملها حاكم مهما ظن نفسه قويا وحوله الجند والأمن .إزالة كل الألغام التي وضعها عبد الناصر في طريق الأمة .

الفساد – الرشوة - القمع ضياع حقوق المواطنين - التبعية الكاملة للغرب - فقدان الهوية .عمالة كبار الموظفين وكثير من المسئولين لجهات لا نعرفها .

عدم القدرة على الحياة . التخلف والضياع والاضمحلال .حكم الجهلة والمختلفين حسب نص الدستور , ولا أدري هل هو الثالث أو الرابع أو الخامس منذ كان عبد الناصر .

فلا توجد أمة عاقلة تشترط أن يكون المجلس التشريعي بها لا يقل عدد الجهلة فيه عن النصف . قد جربتم الحل الاشتراكي لإحكام القبضة على الشعب . والشعب يخرج من قبضتكم ولن تستطيعوا منعه .

جربوا الحل الرأسمالي كمرحلة قبل أن يجرب الشعب الحل الإسلامي , وسوف يجربه بالتأكيد , ويمكنكم معرفة هذا لو قرأتم التاريخ.

أو اتركوا الناس يختاروا ما يشاءون .هذه نصيحة عاقلة مخلصة أقولها قبل الطوفان .أخرجوا مصر من سراديب الشيطان قبل أن تبطش بكم .

جربوا شيئا قد جربه العالم .

الحرية .حرية إصدار الصحف حرية تكوين الأحزاب .

كل من عنده شئ دعوة ليقوله للناس . بيعوا القطاع العام للمصريين فتسددوا الديون التي ليس للشعب ناقة فيها ولا جمل .

اشترطوا أن يكون المجلس النيابي من المتعلمين والمثقفين والمفكرين لا أن يكون نصفه من العمال والفلاحين . اختاروا هيئة تأسيسية لوضع دستور دائم .

امنحوا الناس فترة انتقال احكموا فيها وتنعموا قبل أن يضيع منكم كل شئ . ( ولن ترضي عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم )وقد فعلت بلا فائدة . يا من بيده الأمر . نجاتك وفلاحك وربحكم أن تساعد الشعب على أخذ حقوقه التي سلبها عبد الناصر .

أن تعود بالبلاد إلى حالتها الطبيعية مثلما كانت في أيام الرجعيين والباشوات والخديو إسماعيل . وهذه ليست سخرية , فقد كان الشعب أسعد حالا في حكمهم .

على الأقل لم يكن يسجن ويضرب وتلفق له القضايا .كم باشا يحكمون مصر الآن ؟ كم بريئا اعترف أنه أطلق الناس على حسن أبو باشا ؟

أنتم تمنعون زراعة الصحراء .. لماذا ؟ ولحساب من ؟ أنتم تمنعون إقامة المصانع .. لماذا ؟ ولحساب من ؟ أنتم تحرمون الناس من حقهم في الحكم .. لماذا ؟ ولحساب من ؟

هل تظنون أن هذا يحيمكم ويبقيكم ؟ هل تصرون على صيغة عبد الناصر في الحكم ؟ الحاكم الفرعون !.. والناس كلهم عبيد !

إن كنتم تصرون على هذا فالعاقبة وخيمة .. عليكم وليست لكم. (ويؤمئذ لا ينفع الظالمين معذرتهم). احكمونا بقية حياتكم بعهد منكم تشرف على تنفيذه لجنة وهيئة تنتخب على أن نأخذ حقنا في الحكم والمشاركة فيه بعد موتكم .

وهذا اتفاق عادل ومعقول . وأعلنوا هذا للناس فتطمئن الصدور وتهدأ الضمائر أو أنتم الذين ستضيعون في سراديب الشيطان بعد أن يخرج الشعب المصري منها .

إن عبد الناصر لم ينج من لعنة التاريخ رغم كل ما يقوله الناصريون , وإن لعنة الشهداء والمعذبين سوف تطارد سيرته وتاريخه , وهي محل حساب وعقاب من الله .

عبث بمقدرات أمة . وقتل العزة والكرامة في نفوس أبنائها . وحولنا من شعب منتج إلى شعب متسول . وصنع نظاما قد اعتمد الدعارة وسيلة وطريقة للحكم والسيطرة .

وضيع جهاد الآباء من أجل الحرية والاستقلال والتفوق ولم يترك مصر إلا بعد أن أخضعها لإسرائيل خضوعا لا رأي فيه ولا كرامة ولا نملك غير أن نفعل ما يأمرون . كان غاية همه السيطرة والغلبة على أفراد شعبه المساكين ..

وماذا كانت النتيجة ؟ مات كما يموت الناس . ولا يعرف أحد سر موته .ولكن المهم أنه قد مات . وهذه هي سنة الحياة, فكل حي يموت . ولكنه ترك نظاما يتمسك به كل من يأتي بعده بتعديل طفيف .

ومن مفاسد نظامكم أنكم تصنعون هوة خطيرة بين الشرطة والشعب , وسوف يقف كل منهما أمام الآخر في يوم قريب إن لم تتداركوا هذا !

أنتم تجندون مئات الألوف لحمايتكم , وأجدر بكم أن ترسلوهم إلى الصحراء ليزرعوها وإلى المصانع فيعمروها أما أن تحولوا شبابا في عمر العمل والبذل إلى وحوش مفترسة العصي وتحطم الجماجم في صيحات لا تصدر إلا في الغابة ففي هذا نهايتكم .

افتحوا النوافذ . والبرنامج بسيط. حرية كاملة لكل المواطنين بلا استثناء . من أراد أن ينشئ حزبا فليفعل .يستوي في هذا الإخوان المسلمون والشيوعيون والأقباط , وكل من لديه شئ يقوله للناس , والعاقبة لمن يقنع .والحكم لمن يقبله الناس .

ولتكونوا أنتم أيضا حزبا ولتتقدموا للشعب ببرنامجكم وهو بالتأكيد لن يختاركم إن ظل على ما هو عليه , حيث يجمع أصحاب المصالح والذين يكرهون مصر كراهية عمياء منذ أيام إسماعيل صدقي .

لا تتآمروا على إفقار البلاد فإن فعلتم فلن يرحمكم التاريخ , هذا بالإضافة إلى عذاب الله سبحانه وتعالي , وصدقوني إنه يسمع ويري وثيب ويجازي في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم .

الأمراض كثيرة ومتفشية في جسد هذه الأمة .وعلاجها سهل وبسيط يتمثل في كلمة واحدة .لا تعضوا على الحكم بالنواجذ وكونوا مواطنين أمثالنا إن كنتم حقا مخلصين . وخذوا العبرة من التاريخ البعيد والقريب .

وإن لم تفعلوا فسوف تكونون أنتم عبرة وعظة لمن بعدكم (وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون) .

السبت 13 جمادي الآخر 1409
21 يناير 1989
أحمد رائف

الفصل الأول: " وجاءت سكرة الموت بالحق "!

بعد موت الزعيم الخالد

تعلمنا من موت عبد الناصر أن الناس تقدر وتدبر, ويضعون في حسبانهم ما يعرفون مما يقع أو يمكن أن يقع مما يدخل في إدراكهم وتلتقطه الحواس أو يتصوره العقل

وتعلمنا أن معظم الناس لا يضعون في حساباتهم العوامل الإلهية الغيبية التي لا تتوافر لأحد إلا من كان قلبه عامرا بالإيمان فهي غامضة غير جلية يلتقطها القلب ولا يضبطها العقل ,وتتعلق بالخطة الأزلية للخلق وهنا يكمن الفرق بين المؤمنين وغيرهم .

العبرة من موت عبد الناصر

كنا قد نسينا في غمرة العذاب والاضطهاد أن عبد الناصر بشر يجري عليه ما يجري على سائر الناس من ألم ومرض وموت .

وكانت الأجهزة في مصر حريصة كل الحرص على إخفاء أخبار مرضه وما يشكو منه , وكانوا يعتبرون مرضه من أسرار الدولة العليا التي يعاقب من يفشي سرا من أسرارها بصرف النظر عما يمكن أن يكون لهذا المرض من أثر على قدراته ومنها ماله صلة وثيقة بمستقبل العرب والمصريين .

ولعلنا لا ننسي قصة الدكتور أنور المفتي الذي تردد أنهم قد قتلوه بالسم لأنه تكلم في جمع من معارفه نصفهم من المخابرات عن مرض عبد الناصر وكيف أنه تسبب له في ازدواج الشخصية , وهو يحكم بهذه الشخصية المزدوجة في آن واحد , وقراراته تصدر مرة عن هذه وأخري عن تلك .

ولكنه مات فجأة دون توقع من أحد أو انتظار ! وتغيرت الحياة تماما في معتقل طره السياسي , بعد أن تأكد الجميع من موت الزعيم الخالد في زعمهم وقد ظلوا حتى يوم دفنه يشكون في الأمر.

ومرت فترة من الوقت لا يستطيع الناس فيها استيعاب ما حدث ولا يصدقونه وفي موته تكمن المشيئة الإلهية القادرة الغالبة على غير ما يريد الناس أو يتمنون ويرغبون أو تكون على نحو لا يتصوره أحد ولا ينتظره إنسان .

وقد أخذنا من موت عبد الناصر عبرا كثيرة وعظات بالغات .

تعلمنا من موته أن الناس يفكرون ويقدرون ويدبرون , ويضعون في حسابهم ما يعرفون مما يقع أو يمكن مما يدخل في إدراكهم , وتلتقطه الحواس أو يتصوره العقل وتعلمنا أن معظم الناس لا يضعون في حساباتهم العوامل الإلهية الغيبية التي لا تتوفر لأحد إلا من كان قلبه عامرا بالإيمان , فهي غامضة غير جلية يلتقطها القلب ولا يضبطها العقل , وتتعلق بالخطة الأزلية للخلق .

وهنا يكمن الفرق بين المؤمنين وغيرهم .

(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة).

وهنا يكمن الفرق أيضا في درجات الإيمان وقرب الإنسان وبعده من الله سبحانه وتعالي .

وهنا تكون الثقة في وعد الله وعنايته , وأن كل ما يمر على المؤمنين من تصاريف ينبغي الرضا بها والشكر عليها وأن الغيب سر لا يفهمه أحد وهو يسير على نحو لا يتعلق بالمدارك الصغيرة والرغبات الساذجة المتعلقة باللذة والألم .

وعندما مات عبد الناصر وأعلنت وفاته كانت المفاجأة البالغة .

وشك الناس أياما في هذه الحقيقة ! ثم رأوه على شاشة التليفزيون وهو يدرج في قبره !وأهالوا عليه التراب أمام جميع المصورين وجميع وكالات الأنباء .

عندئذ ..

تحول الشك إلى يقين وتأكد الناس من موته .

وانسابت بين الجميع موجة من الارتياح العارم , وشفيت صدور كثيرة .

وعرف الجميع أن كل الخطط البشرية يمكن أن يطرأ عليها عامل غيبي إلهاي ليس في الحسبان يغير كل الموازين المطروحة , ويبدل جميع الآفاق التي يفكر فيها الإنسان أسير الحواس التي لا تري بعيدا .

وهو ينبه الناس دائما إلى ضرورة تزكية الإيمان وتثبيته في النفس وهو يقول إن كل قوانين البشر يمكن لها أن تتغير في لمحة من زمن , وفق إرادة إلهية حيث يتغير على ضوئها كل شئ . وهو يقول إن اجتهادنا محدود وقاصر, وإن دائما صغير وضئيل .

وهو يؤكد أن كل ما يراه الإنسان ويسير في خطة من رسم البشر إلى غاية قدروها وفهموها يمكن أن يتبدل في لحظة من ليل أو نهار فالقوانين لا تحكمها ولا تحيط بها والغيب هو بحر المعرفة الأعظم الذي لا يدركه الناس .

والله وحده يعلم أن إرادته لو اقتضت غير هذا واستمرت حياة عبد الناصر زمنا آخر أطول .. ماذا كان يمكن أن يكون ؟

الاضطهاد والمحن طريق أصحاب الدعوات

ربي الإخوان في السنين الماضية على النصر.

وهيأتهم المناهج والظروف والبطولة التي قاموا بها لحكم البلاد.

واستقر هذا في وجدان شبابهم .

وعندما واجهتهم المحنة الأولي ظنوا أن بينهم وبين التمكين في الأرض رمية قوس .

وخيل إليهم أنما هي خطوة واحدة تخطوها الجماعة إلى الأمام فيصيرون على رأس المجتمع فيحكمون بالقرآن وتسود شريعة الإسلام .

وتعلموا خطأ أن العالم كله ينتظر إشارة منهم فيركع تحت أقدامهم وقد يرجع هذا إلى كلمات الإمام الشهيد الملتهبة التي لم يفهم مرماها على وجه اليقين , فقد غطي وهج الكلمات على عتمة الواقع وأساه .

وقد يرجع إلى عظمة الدعوة وأهميتها في إعادة تكوين الإنسان والمجتمع ,وأنه ليس من العقل رفضها أو الوقوف ضدها .

وهو يرجع بالتأكيد إلى عدم قراءة التاريخ , وعدم استيعاب السنن والنواميس . ثم توالت الأحداث وتتابعت المحن !

وفوجئ الإخوان بأن طريقهم ليس طريق النصر القريب , ولكنه طريق المحن الطويلة والدلائل صارت تشير إلى أنه لا نهاية لها .

وتأكد ليدهم ووثقوا أنها حرب إبادة من أعدائهم !

وكانت محنهم الأخيرة التي شاهدت فصولها وعشتها معهم بكل ما فيها من قسوة الحكام وتجبرهم وطغيانهم , وكراهيتهم العمياء لوطنهم وأهلهم .

واختل الميزان في نفوس المعتقلين فهم للمرة الأولي تنجلي أمام أعينهم الحقائق وإن كانت لم تغب عن بعضهم وللمرة الأولي يتبينون أن هناك محنا يمكن أن تستمر حتى تستغرق العمر كله , وتأخذ في طريقها جيلا أو جيلين وربما أكثر وأن عوامل جمهور المعتقلين أن هناك أجيالا قد يكون من قدرها أن تعمل وتعمل وهي تعرف أن ثمار جهدهم سوف يقطفها قوم آخرون , يأتون من بعدهم ولا يزالون في رحم الغيب , بينما هم يقتلون ويعذبون ويشردون .

ليس النصر بإرادة الناس , ولكنها سنن ونواميس وفق مشيئة ونظام ويدخل فيها ما لا يعرفه أحد وما لا يمكن لبشر أن يصل إليه .

حقيقة العالم من داخل المعتقل

كانت وفاة عبد الناصر فجأة بمثابة تأكيد الأمل والثقة في قدر الله وقدرته في نفوس قد أضناها العذاب والشوق إلى العدل ذلك الوهم الذي لا تراه إلا عبر رؤى مبهة تأتي في الليل , أو تنبثق كفلق الصبح مع انبعاثه الفجر الحزين الذي كثيرا ما سمع أنات العذاب أو شهقات المحتضرين في ساحة قد ملئت بالكلاب والضباط الذين باعوا شرفهم ودينهم , ثم ضربوا بالأحذية في صيف قائظ على رمال سيناء عام 1967 .

كانت أيام المعتقلين مليئة بالحزن والآسي العميق , وكانت لياليهم أرقا وسهدا قد امتزج بالآسي والغضب والرفض , في حزن عارم يؤذي النفس .

وتذكرت مسلم بن عقبة المري الذي أرسله يزيد بن معاوية إلى المدينة كي يؤدب الصحابة وأبناءهم في يوم أغبر كئيب أطلق عليه المؤرخون اسم " يوم الحرة " فقتل من قتل وأسر الباقين , ورفض البيعة إلا أن يعترفوا بأنهم عبيد ليزيد .

لم يقبل منهم غير هذا ووافقوا نجاة من القتل ! ومع اختلاف العصور والزمن فقد فعل بنا عبد الناصر وضباطه أسوأ مما فعله السادة والمتجبرون في العصور القديمة .

كانوا ينظرون إلينا نظرتهم إلى العبيد ,وليس لنا الحق في الحياة إلا بالقدر الذي يريده ويشاءه سيدنا ومولانا .

كان الناس جميعا خارج المعتقل يعيشون في واد . وكنا نحن معشر المعتقلين نعيش في واد آخر .

فالمعتقلون وحدهم هم الذين يرون الحياة في مصر على حقيقتها , وهم ليس سواهم الذين يعرفون كذب الرئيس , ونفاق الموظفين والجلادين الصغار .

كان عبد الناصر مولعا بالطبل والزمر , شأنه شأن كل طاغية قد ظهر من قبل, فهو يسعد لسماع صوته ويدعو الناس إليه ويحشدهم ويرفع طبله عاليا بينما أصوات زمره تصم الآذان ومن ثم لا يصل إلى الناس إلا هذه الجوقة الصاخبة التي لا أول لها ولا آخر .

فكان يكذب على الناس وهم يصدقونه .يخدعهم وهم يصفقون له . يقتلهم وهم يهتفون بحياته .وأعوانه يقلبون الحق باطلا ويمهدون له رغبا أو رهبا أو هي وظيفتهم كما يقولون .

وكانوا يعرفون زيف حكومتهم , وأنهم يخدمون الباطل ويعبدون الشيطان وكل واحد فيهم عبارة عن " ترس " صغير في آلة ضخمة لا يملك حيالها , فهو يديرها ويدور معها , ويلعن نفسه في أعماقه ,ويلعنه أهله وأصدقاءه في أعماقهم وكان هؤلاء الأعوان هم أقدر الناس على رؤية الزيف والضلال .

المؤيدون والمعارضون

وكما سمعت فقد كانوا يمهدون للإفراج عن الإخوان المسلمين المسجونين في خلال عام 1958 على أمل غلق هذا الملف إلى الأبد .ثم ظهرت فتنة المعارضة والتأييد فأحدثت أيامها شرخا كبيرا بين الإخوان .

ودار حوار بين المؤيدين وأحد زبانية عبد الناصر حيث قال له أحد هؤلاء المؤيدين :

- قد أيدنا الحكومة زمنا ولم يتم الإفراج عنا :

وقال له الضابط الكبير ساخرا :


- وهل تظن أننا نصدقكم في أنكم تؤيدون الحكومة ؟

وفغر ذلك المؤيد فاه من الدهشة وقال :

- ماذا تعني ؟

واستمر الضابط في سخريته :

- إن كنا نحن ولم يلحقنا هذا العذاب والهوان لا نؤيد الحكومة في أعماقنا .

- أنتم؟

- نعم نحن ..

- هذا غريب والله ! ولكن بالنسبة لنا ..

- ماذا عنكم ؟

- هل نحن نمثل عليكم في تأييدنا للحكومة ؟

- بالتأكيد .. نحن واثقون من هذا .

- إذن لا فائدة من الإفراج عنا ؟

- من قال هذا ؟

وفي يأس قال له المؤيد :

- نؤيد الحكومة فلا تصدقوننا وتقولون نمثل عليكم ! إذن فمتى يفرج عنا ؟

وفي ابتسامة شيطانية قال له الضابط الكبير :

- نحن ننتظر حتى تتقصموا الدور وتندمجوا في التمثيل !
- وبعدها تفرجون عنا ؟
- بالضبط .

هكذا كانت تدور الأمور , الكل يخدع من حوله , وأصبح الزيف منهجا وطريقة في التعامل والحياة وصار الكل يمثل دورا ينبغي عليه إتقانه , ويستغرق فيه حتى يصدق نفسه في النهاية وينسي ما بداخله من أعماق قد تختلف عن سائر ما يؤديه من أعمال أو ما ينطق به من أقوال .

وبعد موت عبد الناصر وقبل دفنه كانت أمارات على وجوه الناس تقول إن هناك أمدا للخداع وإن طال .

ومع أن الموت شئ عادي وطبيعي , ويصيب جميع الناس إلا أن موت عبد الناصر كان له شكل يختلف , وكنا نلمح هذا حتى في وجوه بعض الضباط الذين كانوا ينظرون إلينا باسمين بين الحين والآخر , وكأننا قد انتصرنا على عبد الناصر .

فهذا الجبار بحياته , وعندما أنهزم في يونيو عام 1967 وأجبره الشعب على البقاء صارت كلمات تخرج على استحياء من هنا وهناك تنقد الأوضاع في مصر , وتنادي بضرورة التغيير , وأن النظام بما قدم كان سببا في تلك الهزيمة القاصمة أمام اليهود .

وكثرت هذه الكلمات وصارت رأيا عاما ينادي بهذه الضرورة , ولعلهم كانوا يريدون أن يقولوا إن من يجب تغييره هو رأس النظام نفسه ولكنهم لا يستطيعون .

وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة

وكان هو في الواقع سبب الفساد والهزيمة , أو الهزيمة التي جاءت من الفساد .. وقد تعلمنا من التاريخ أن كل مستبد أو طاغية يحيط نفسه بمجموعة من الأوغاد قد تربوا معه ونشئوا على هديه وأشربوا تعاليمه؛

ولا يجعل أحدا جديدا ينفذ إليه من هذا الإطار أبدا وعلى من يريد النفاذ والاقتراب من دائرة السوء هذه عليه أن يكون أكثر فسادا من حاشية الزعيم , وهو أمر صعب جدا فمدرسة المستبد تجعل من يحيطون به في الدرك الأسفل من الفساد والإفساد ويصعب أن يتجاوزهم أحد ومن ثم فمن أين يأتي للناس بجديد وحاشيته محدودة والنفاذ إليهم كما قلنا ؟

والشعب ينادي بالتغيير , ويتجاوب الزعيم الخالد مع هذه النغمة ولكن من يغير ؟ طغمة قد عرفها وعرفته من أيام 23 يوليو يعز من يشاء ويذل من يشاء منهم وهذا هو التغيير , والذي لا يعجبه ينفلق .

يؤوي إليه زكريا محيي الدين ثم يصرفه ويأتي بعلي صبري ثم يصرفه , وهناك أنور السادات وحسين الشافعي وكمال رفعت وحسن التهامي وبعض المصارعين والأفاقين والقتلة والمتآمرين .

كان السيد كمال رفعت يشرف بنفسه ويأمر بجلد الناس وسلخهم في السجن الحربي وكذلك كان يفعل السيد على صبري , وكلمة " السيد " هذه كانت لازمة من لوازم عصر الثورة .

فكل وغد يضعون قبل اسمه كلمة " السيد " وما هو بسيد .

وجميعهم قتلوا .

وجميعهم سرقوا .

وجميعهم أفسدوا في الأرض .

وليرفع أحدهم رأسه ويعلن أنه برئ من القتل والسرقة والإفساد في الأرض وسوف نلقمه حجرا إن فعل .

وقد يكون الشعب مخدرا ومضحوكا عليه, أما الذين عاشوا محنة السجن والمعتقل فمن الصعب خداعهم , فهم الذين رأوا الوجه الصحيح القبيح لهؤلاء المتأنقين الذين تطالعنا الصحف بوجوههم الكالحة التي امتلأت بغضب الله ظاهرا في القسمات , وهم يبتسمون ويصرحون ويكذبون ويخدعون وجميعهم جهال لا يقدرون على شئ مما كسبوا , فما بالك بحكم الدول ؟

ولم يكن لأحد عند الزعيم الخالد حرمة فهو ينكل ويشرد أقرب المقربين إليه هذه هي مصر التي يعرفها المعتقلون في طره في ذلك المساء من يوم 28 سبتمبر عام 1970 ليلة مات الزعيم ومصر التي يعرفها أعوانه أيضا .

وقد تلقينا خبر موته بارتياح بالغ , وشكرنا الله كثيرا على هذه المنة وعرفنا دور القدر الذي يغفل حسابه معظم الناس , ولكنه يصدر عن خطة أزلية من تدبير الله سبحانه وتعالي .

ومن ثم يقلب الموازين وبغير جميع المخططات !

وللمستبد في نفوس أتباعه هيبة ورهبة وعبادة , حتى إنهم ليضفون عليه صفة أو صفات مما اختصها الله سبحانه وتعال لنفسه ومنها الخلود فهم في العادة يظنونه دائما لا يموت , أو أن موته بعيد لا يدركونه .

وعندما يأخذه الله سبحانه وتعالي في لحظة أخذ عزيز مقتدر فإن هذه النفوس تفقد توازنها وكأن الكهرباء قد صعقتها وكان أكثر الناس ذهولا بموت عبد الناصر هم أتباعه وخدامه إذا استثنينا أولئك الذين قتلوه إن صحت الشائعة التي قيلت وقتها وصدقها الكثيرون ورغم كثرة شواهدها إلا أنه لم يقم دليل حاسم عليها بعد.

وكان عبد العال سلومة قائد معتقل طرة السياسي أكثر خدم عبد الناصر إخلاصا له فيمن نراهم , وعندما مات عبد الناصر أصاب عبد العال زلزال , وتصدعت نفسه من هول الحادث , وظل أياما لا يصدقه , أو لا يريد أن يصدقه .

وعندما تبين له أنه قد مات أرسل يطلب كتابة برقيات عزاء في وفاة الزعيم ! نرسلها باسم من ؟ لا أذكر !

برقيات العزاء الزائفة

وحدث جدل كبير بين المعتقلين هل نرسل برقيات تعزية أو لا نرسل ؟ والحقيقة أن الموضوع نوقش بحدة أقل وبفكاهة أكثر , وكتب قليل من المعتقلين برقيات عزاء وهم إلى الفرحة أقرب , وربما كانوا يريدون أن يعيشوا وفاة عبد الناصر بشئ من الجدية واليقين .

وذهب الشيخ عارف بعد تشييع الجنازة إلى مبني الإدارة وفي يده حزمة من البرقيات وصار يناقش الحارس :

- نريد أن نرسل برقيات تعزية في الرئيس , لا أراكم الله مكروها .

- ويرد عليه الحارس في ضجر :

- يا شيخ عارف إحنا مش فاضيين .

- يا سيدي لازم نعزي ونقوم بالواجب

- والنبي تسيبنا في حالنا .

- والله كنا نريد أن نرسلها مع مخصوص إلى جهنم ليسلمها إلى سيادته شخصيا .

- ويضحك الشيخ عارف ملء شدقيه وهو يعود من المكاتب ممزقا في طريقه تلك الأوراق التي كانت بيده .

الساداتية مكان الناصرية

شمل الصخب أرجاء المعتقل بعد إعلان خبر وفاة الرئيس وبعد إذاعة دفنه على الهواء عبر التليفزيون , ومن خلال هذا الصخب كان هناك صمت في الأعماق حيث يفكر الجميع في مستقبل البلاد وهي فريسة لهؤلاء الأوغاد الذين يمسكون بتلابيبها ويمزقون أوصالها ويقتلون الرجولة والكرامة في أبنائها.

هزيمة يونيو عام 1967 عرف الناس نتيجة الاستبداد ورأوا آثاره واضحة وعندما مات عبد الناصر بطل السحر وهز الناس رءوسهم ليفيقوا .

ولقد دخلنا المعتقل ولا يجرؤ مخلوق على نقد الحكومة همسا , وكنا أثناء التحقيق حيث التعذيب نشيد بالزعيم الخالد وتفوقه وعظمته التي ليست لها حدود .

ورويدا رويدا صرنا نتهامس بما يعن لنا من أفكار أو انتقادات .وتطورت الأمور , وارتفعت أصواتنا نقدا ونقاشا مع من يأتي إلى المعتقل من طوائف جديدة تنتمي إلى النشاط المعادي..

حيث تكون التهمة أكثر غموضا وعدم تحديد أو من يأتون بهم من منظماتهم الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب أو من جاءوا كممثلين للكنيسة القبطية وأغرب ما كنا نجده بعض القادمين الذين يؤمنون بعظمة الزعيم الخالد , أولئك الذين تم اعتقالهم بعد خراب مالطة .

ثم تجاوز النقد والكلام أية حواجز ووصل خبره إلى كل مكان وبدأ بعض الساخرين يقول إن الناصرية قد انتهت وبدأ عصر الساداتية.

وانزعج عبد العال بك وقال :

- هل معقول أن يوجد من يدعي الساداتية ؟

- وقلت له :

- يا عبد العال بك هذا أمر طبيعي .

- وضاقت عيناه وهو يقول :

- إذن فالكلام صحيح !

- صحيح مائة في المائة .

- هل ينسي الناس الرئيس عبد الناصر بهذه السهولة والسرعة ثم يتحولون إلى ساداتيين ؟ هل هذا يصدق ؟

- هذا هو قانون مصر الخالد يا عبد العال بك .

- ماذا تعني ؟

- هل تعرف من هو أول الساداتيين في هذا المعتقل ؟

- وباهتمام شديد سألني :

- من؟

- سيادتك أول الساداتيين .

هذا هو قانون مصر الخالد " اللي يجوز أمي أقوله يا عمي " قد مات عبد الناصر يا عبد العال بك ومن الأفضل لك أن تنساه , وأن تفكر في السلطان الجديد الرئيس أنور السادات .

- وبدا على الرجل الشرود والتفكير , بينما واصلت الحديث معه :

- هل تشك في أن الرئيس هو أنور السادات ..؟

- وقاطعني وهو يضحك :

- مش راكبه عليه ... الرئيس أنور السادات ؟... والله ما هي راكبة !

- لازم تركب يا عبد العال بك ..وهز رأسه وهو يسألني :

- ماذا كنت تقول ؟

- أقول هل تظن أن الرئيس السادات سوف يهتم قليلا أو كثيرا بالرئيس عبد الناصر ؟ وفزع الرجل وقام واقفا من مكتبه :

- ما هذا الكلام ؟ هل يتنكر السادات للرئيس عبد الناصر ؟

- سوف تري بنفسك , ومن الحكمة أن تفكر في المستقبل , وتعرف اتجاه الريح , وإلا فالمباحث لا ترحم , والرئيس مهما كان اسمه جبار عظيم .

- وعاد عبد العال بك إلى مكتبه في هدوء .

- يبدو أن الحق معك . وبماذا تنصح ؟

- والله يا عبد العال بك أتمني لو تنسي ما كان , ولا تعد تهتم بما كان يسيطر عليك في الماضي قبل موت عبد الناصر فلا شئ يدوم كما تري , ولا أحد يعرف ماذا يأتي به الغيب ومصر تدخل مرحلة كبيرة من المتغيرات .

- هل تظن هذا ؟

- بالتأكيد .

- وسكت واجما بعد أن أدرك قانون مصر الخالد وكان قد نسيه للحظات .

بدأ الناس في المعتقل يعيدون النظر في القضايا السياسية التي اعتقلوا بموجبها أو على هامشها كل هذه السنوات التي مضت .

وصار المعتقلون يتفكرون في خلق المحققين الذين عذبوهم وأهانوهم وقتلوا بعضهم وكان غاية همهم هو التلفيق وهم يعلمون .(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) !

فهذا مثلا قائد المعتقل لماذا كل هذه الشراسة في معاملة المعتقلين ؟ إنه يمقتهم ويتمني قتلهم . لماذا ؟ سؤال تصعب الإجابة عليه .

استهوته الشياطين في الأرض حيران

لعل عبد الناصر معذور فيما فعل إذا علمنا أن هناك دورا عليه أداؤه لتثبيت حكمه وهو أمر يتوقف بالتأكيد على إرضاء قوي أجنبية في الشرق والغرب , وهو لا يمكنه عصيان هذه القوى , وإلا فقد شرعيته في عالم العمالة والخيانة الوطنية ومن ثم يفقد سلطته .

فقد كان عبد الناصر واضحا في جميع تصرفاته وكان منسجما مع نفسه وفي سبيل تحقيق أهدافه ولا يخفي ذلك إلا على البلهاء والخائبين , أما الذين ينظرون إلى الأمور بوضوح وحكمة فلا يخفي عليهم من سلوكه شئ .

أراد العزة فأخطأ طريقها , ظنها في الغرب مرة , وبحث عنها في الشرق مرة أخري , وصار كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران , له أصحاب يدعونه إلى الهدي أن ائتنا فيقتلهم ويسجنهم .

ضرب الإخوان ضربا مبرحا في عام 1954 وهكذا كان الاتفاق , ومن الوثائق التي كشفت عنها الخارجية الأمريكية بعض البرقيات المتبادلة بين السفير الأمريكي وبين الوزارة ومن يقرؤها يأخذ هذا الانطباع وهو أن السفير يفهم ويعلم ماذا يدور بين الحكومة والإخوان رغم أن هناك قانونا يمنع نشر كثير من المعلومات في الوثائق لحماية عملائهم في بلدان العالم .

فمن ذلك القليل من الأوراق التي سمحوا بنشرها يفهم هذا فماذا لو سمحوا أو جاء الوقت فنشرت جميع الأوراق ؟ واليقين عندنا أن كل هذه الأسرار سوف تكشف يوما ما بالوضوح الذي لا يجعل فيها لبسا أو غموضا .

فإن كان هذا هو شأنه فما بال الضباط والمحققين ؟همي ينفذون سياسة الحكومة .لا بأس من هذا , ولكن هل يتجردون من الوطنية , ومن الإنسانية , ويهبطون إلى هذا الدرك الأسفل ؟

تتحول كل أجهزة التحقيق بمن فيها إلى أجهزة عميلة تعمل لحساب القوي الأجنبية وهي تعرف وتدرك ماذا تفعل , وفي الوقت نفسه تعذب المعتقلين عذابا شديدا وتنتزع منهم اعترافات تفيد هذا المعني .

أن تخلوا كل القلوب من الشفقة والرحمة ومعاني الوطنية بوعي وإدراك. هل هذا ما فعله الرئيس الراحل بمصر أم أن شعبها مهيأ لهذا الدرك الأسفل من أنواع الحياة ؟ أما الاثنان معا ؟

وقد تحتاج هذه الأمور إلى علماء في الاجتماع والفلسفة والتاريخ ولكن من الملاحظات البدهية البسيطة نري أن الشعب المصري بما يحمله من سبعة آلاف سنة حضارة هو شعب مستكين بليد لا يثور ولا يغضب ولا يحتج ولا يحرك ساكنا إذا ما ظلم أو اضطهد .

هذا هو الواقع المؤسف الحزين الذي يجب علينا أن نفهمه ونعيه حتى لا نكون كالذي ينفخ في " قربة " مقطوعة .

وعلى دعاة الإصلاح والإسلام في هذا البلد أن يعوا هذه الحقيقة جيدا , وأن يتصرفوا مع الناس على ضوئها .

مصر بلد كلها عبيد لمن غلب .

والذي لم يقرأ التاريخ يأتي فيشاهدنا ونحن نتقلب من معتقل إلى معتقل وتلفق لنا القضايا ونحاكم عليها ويري هذا ويبصره كل قطاعات الشعب ولا يرتفع صوت باحتجاج أو بنصيحة .

حتى علماء الدين ومشايخ الأزهر كانوا يصفقون ويباركون المستبد وهو يعلق المشانق ويسلخ الجلود .

ربما لو ربي هذا الشعب على الإسلام قد تتغير أحواله وتتبدل طبيعته , ولكن ليس قبل هذا .

ومن الحكمة أن يتوجه الدعاة إلى الناس بالتربية وتغيير المفاهيم وليس من الحكمة أن يطلب منهم أكثر من هذا .

والتربية وتغيير المفاهيم تحتاج إلى إصرار وإلى أجيال , وإلى فهم من الدعاة الذين يقومون على هذا .

فهم لطبيعة العالم الذي نعيش فيه .

وفهم لطبيعة حكامنا فكلهم صنائع الغرب والشرق , قد تم إعدادهم عبر قرن من الزمن وهم يتبادلون استعمالهم وهم في الأول والآخر أعداؤنا وعداوتهم مستقرة في قلوبهم ومن انتابه شك في هذا فلينظر ماذا يصنعون بنا .عندما نام الشرق أقسم الغرب ألا يوقظه من سباته أبدا .

كنا مستضعفين في الأرض

كل الشعوب تثور على حكامها الظالمين إلا شعبنا المسكين , وقد سقاه عبد الناصر خوفا وذلا وقهرا لن تخف درجته قبل زوال جيلين أو ثلاثة .

وكان الأجدر بالناس أن يرفضوا ويحتجوا وهم ليسوا في حاجة إلى تنظيم يقودهم . كان على الكاتب الشريف ألا يطبل ويزمر ولو مات جوعا وكان على الصحفي أن يمتنع عن التزييف .

وكان على الضابط الوطني ألا يضرب مخلوقا ولو مزقوه .

والقاضي لا يحكم إلا بالعدل مهما حدث .

وشيخ الأزهر يتذكر الحديث الشريف " سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله "

وكان عبد الناصر إماما , وهكذا قال القرآن الكريم (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) يجب أن تنتشر الطليعة المؤمنة حتى تشمل سواد الشعب كله , وعندها سوف ينجز ما يريده المؤمنون بهدوء ودون ضجيج ولكن ليس قبل هذا أبدا . استطراد نعتذر عنه .

مصر بكل طوائفها في المعتقل

ونعود إلى معتقل طرة السياسي بعد يوم 28 سبتمبر 1970 .

ولم يكن في مصر اتجاه سياسي أو ديني ليس له من يمثله في معتقل طرة السياسي وليس في هذا القول أدني مبالغة .

فقد كان هناك الإخوان المسلمون وهم بطبيعة الحال يمثلون الحجم الأكبر من المعتقلين عددا ونوعا ومعاملة .

وكان هناك ممثلون لكل الجمعيات الإسلامية المشتهرة والتي لم يسمع بها إنسان من قبل .

وكان هناك فصائل التمرد والرفض الإسلامية التي خلقت في رحم المعتقل وكانوا في ذلك الوقت أفرادا يتجاوزون العشرة بقليل , وكانوا يقيمون في غرفة رقم ثلاثة من عنبر اثنين عنبر, عنبر الخطرين .

ومن خلال هؤلاء صار هذا الزخم الهائل الذي يملأ مصر وكل بلاد العالم العربي منه وغير العربي , الإسلامي وغير الإسلامي .

ويرجع الفضل في هذا أولا وأخيرا للرئيس جمال عبد الناصر . ويرجع أيضا لمباحث أمن الدولة وسائر أجهزة التحقيق والاستجواب والغريب أن كل أجهزة الأمن آنذاك كانت أجهزة تحقيق واستجواب .

هؤلاء هم الذين حقنوا ذلك الشباب بالتمرد والرفض . ( ولتعلمن نبأه بعد حين ) ! وكان في المعتقل مندوبون عن الكنيسة القبطية لا يعرفون سبب اعتقالهم ويجيبون بهذا عندما نسألهم في ابتسامة طيبة صادقة .

وكان ضباط المباحث لا يعرفون سبب اعتقالهم أيضا !ومثل هؤلاء كثيرون في معتقل طرة السياسي .

شباب وشيوخ من كل الاتجاهات لا هم ولا غيرهم يعرف سببا لوجودهم معنا .

وقد عرفنا بعد ذلك أن التنظيم الطليعي الذي كان له وجود في كل مكان في مصر يمكن أن يوصي أى فرد من أفراده باعتقال أى مواطن من خلال من تقرير يكتب لا يحقق أحد في صدقه من كذبه, ويذهبون بهذا التقرير إلى رأس كبيرة شريرة نجسة فيقوم صاحبها بكتابة كلمات لا تزيد عن ثلاث ويمهرها بتوقيعه " يتم اعتقال المذكور " ويتم ذلك بمعرفة ضابط لا يعرف السبب ويلقي المسكين بطرة , وبعد أن يمل من كثرة الأسئلة يستسلم لمصيره ,ويحمد الله عندما يسمع منا قصص العذاب التي مرت بنا , ويشعر أنه في نعمة غامرة وقد يفرج عنه لسبب لا يعرفه أحد وفي وقت لا يتوقعه أحد يفرج عنه وقد صار له ملف بمباحث أمن الدولة .

يراقبونه ويتتبعونه ويمنعونه من السفر أحيانا وإن أذنوا له بالسفر فهم يترقبون وصوله , ويفتشونه ويحققون معه ويسألونه أين كنت ؟ وماذا كنت تعمل ومن قابلت ؟ ولا تكذب علينا , نحن نعرف كل شئ .

وقد يعيدون اعتقاله مرة ثانية عندما يفعلون ما يسمي بضربة إجهاض أو الاعتقال الوقائي والمسكين لا يعرف شيئا ويظن أنها طبيعة الحال في مثل هذا المجتمع وقد تتطور أحواله ويري نفسه منسلكا في تنظيم من التنظيمات أو حزب من الأحزاب التي كثرت في مصر هذه الأيام .

حوار مع الشيوعيين

وكان الشيوعيون بطبيعة الحال ولعلهم الوحيدون الذين توجسوا خيفة من موت عبد الناصر فقد كانت الريح معهم والدولة معهم , وهؤلاء المعتقلون منهم ربما كانوا بمثابة رهائن لضمان حسن سلوك الذين في الخارج , وربما كان اعتقالهم كنوع من الصراعات الداخلية في الاتحاد الاشتراكي , أو ما يسمي بالتنظيم الطليعي أو ما يسمي بالسيد على صبري .

الله أعلم !

ولكنهم أجفلوا عندما سمعوا النبأ العظيم .

ولعل توجسهم وخوفهم لأنهم شعروا بغريزتهم السياسية أن موت عبد الناصر هو بداية توقف المد العلماني اللاديني الذي شمل مصر .

وكانوا حديثي عهد بالحرية فقد اعتقلوا بعد عام 1968 وكانوا يحدثوننا عن ظاهرة صارت واضحة في مصر, بدأت واستشرت بعد النكسة , فتيات محجبات قد ظهرن في الطرقات والمجامع والأسواق والحرم الجامعية, وكانوا يقولون إنها ظاهرة خطيرة وتمثل ردة إلى الدين , نعم هكذا كانوا يقولون , ردة إلى الدين , وإن هذه الردة قد تقوي لو وجدت الظروف المناسبة .

وكان توقعهم في محله , وكان موت عبد الناصر بمثابة فتح الباب لمن أراد العودة إلى الدين , وقد كان .

وكانوا يوجعون رءوسنا بكلام كثير لا معني له ويسألوننا عن البرنامج .برنامج إيه ؟

وكنت أقول لبعضهم مثل هذه البرامج التي تتحدثون عنها علاقاتها عضوية بالواقع الذي نعيشه , فهي خطط للتعامل مع المجتمع بشكله الردئ الذي ترون والمسألة أبعد من هذا وأعمق .

ويقول قائلهم :

- كيف ؟

- وأرد عليه :

- لو رأيت رجلا يغرق وعلمت أنه مصاب بصداع في الوقت نفسه هل تشفيه من الصداع أم تنقذه من الغرق ؟

- ويرد في حيرة :

- ماذا تعني ؟

- مجتمعنا رجل يغرق , والبرنامج هو المسكن الذي يشفيه من الصداع , وهو أصناف وأنواع متغيرة , وكل يوم تطلع علينا الشركات بأسماء عديدة منه . والذي يجب علينا أن ننتشله من الغرق أولا , ثم نعالجه من الصداع .

- والغريب أن كل ما كانوا يرددونه أمامنا من هراء هيجل وماركس عن " الدياليكتيك " والدافع الاقتصادي للحياة , وانه الدافع الوحيد والصراع الطبقي , ديكتاتورية البروليتاريا , والتفسير المادي للتاريخ كل هذا دخل المتحف الآن وفي زمن وجيز وصارت الدول الشيوعية تفكر بطريقة مختلفة ,وتبحث لها الآن عن مخرج من الإشتراكية الآخذة بتلابيبهم ولعل هذا القرن لا ينتهي حتى تنتهي معه هذه الأفكار , وتصير المسألة فرقة من الفرق التي ظهرت وماتت مثل " المزدكية " أو " الزراشتية " أو غيرها مما تحول إلى كلام باهت في كتاب قديم .

- وكنا نقول لهم :

- ما سبب إعجابكم بعبد الناصر وإخلاصكم له ؟ هل هي حمى عبادة الفرعون التي أصابت مصر منذ آلاف السنين ؟

- وكان يرد واحد فيهم قد نسيت اسمه الآن وكان عصبيا صاحب مزاج متغير طول الوقت , وهو أيضا مغرم بالكلام العظيم الفخيم الذي ليس وراءه معني محدد واضح ..

كان يقول ..

- عبد الناصر أول قيادة وطنية تأتي مصر منذ آلاف السنين .
- دعنا من آلاف السنين فهذا أمر من الصعب الحكم عليه .

- كيف ذلك ؟

-:يصعب علينا تجزئة التاريخ , الماضي مرتبط بالحاضر والمستقبل .

- فماذا تقول في صلاح الدين الأيوبي بيبرس وقضائهما على التتار ؟
- هذه قصة أخري .
- ما هو معني القيادة الوطنية في نظركم ؟

- ويفكر قليلا ويقول :

- القيادة الوطنية هي تلك المجموعة العفوية غير المريدة تكونت عبر التراكمات الكمية والتي يفرزها الشعب من خلال تفاعل عوامل الميثولوجيا مع الدياليكتيك الطبيعي آخذين في الاعتبار كل ماله صلة من فينو مولوجيا التغيير لتحقيق ديكتاتورية البروليتاريا وينظر بعضنا إلى بعض بين الهزل والجد ويرد أحد الظرفاء :

- هذا تحتاج إلى صيدلي ليتولي شرحها .

القيادة الوطنية قيادة إسلامية

وأقول له :

- القيادة الوطنية هي التي تعمل لصالح الوطن وترفض العمالة للشرق أو الغرب وتغلب مصلحة البلاد على مصالحها الشخصية وهي التي تدرس المشروعات قبل تنفيذها , وتقدم أهل الخبرة , وتعطي الشعب حريته وتصون كرامة الأفراد , وتنشئ جيشا قويا يصمد في المعارك وينتصر وتسمح بحرية التعبير وحرية اختيار ممثلي الشعب في مجلس نيابي حر منتخب , وأزيد على ذلك فأقول لك قولا قد تراه عظيما , وهو أن القيادة الوطنية هي التي تسمح بإنشاء الأحزاب وحرية إصدار الصحف .
- وبدا الذهول والعجب في عنبر الشيوعيين فقد كانت مسألة الأحزاب وحرية إنشائها وكذلك الصحف قد صارت غريبة وعجيبة وعدت من دنس العهد البائد الذي انتهي بقيام الثورة المباركة ودرس التلاميذ في المدارس أن سبب فساد مصر هو الأحزاب .

- وارتعشت شفتا الزميل وهو يقول :

- هل تري أحزابا في مصر ؟
- أنا أعرف لك القيادة الوطنية ومصر بها أحزاب غير معلنة بالفعل فكل منا أنا وأنت ينتمي إلى حزب غير معلن .

- كيف ذلك ؟

- أنا أنتمي إلى الحزب الإسلامي , وأنت تنتمي إلى الحزب الشيوعي العلماني .

- هل هذه هي الصورة في نظرك ؟

- هذه هي الحقيقة التي لا مراء فيها , وهي تبدو جلية واضحة لا ينكرها إلا جاحد
- القياد ة الوطنية في مصر يجب أن تكون قيادة عمالية .

- وأسرعت أقول له :

- أنت قد قلت بنفسك إن القيادة الموجودة بمصر ليست وطنية وإنك تنتظر قيادة عمالية لن تكون أبدا .

- وقال لى في تحد :

- وأنت ماذا تنتظر ؟

- وقلت له واثقا :

- أنا أنتظر قيادة إسلامية يسرع الزمن في تحديدها وسوف تكون .

- وينظر إلى الزميل نظرة خنزيرية وهم يتمتم:

- مصر فقدت استقلالها وكرامتها بالاستعمار الإسلامي هكذا قال وعندما جاء العرب وحكموا هذه البلاد أفسدوا كل شئ واضطهدوا المسيحيين وحولوهم عن دينهم بالقوة .

- وقلت له في هدوء :

- ينبغي على من يتعرض لتغيير المجتمعات مثلك أن يقرأ التاريخ وأن يعي درسه , وألا يلقي الكلام على عواهنه .أنت تتكلم عن الاستقلال والكرامة اللتين فقدتهما مصر بالفتح الإسلامي.

ويجب أن تعلم أن مصر قبل هذا الفتح كانت مستعمرة رومانية وكان السادة البيزنطيون الذين يحكمون البلاد يدينون بمذهب مسيحي مخالف لمذهب الكنيسة القبطية وهو المذهب الملكاني الذي يقول بالطبيعتين للمسيح ثم أنزلوا اضطهادهم بآباء الكنيسة حتى هربوا إلى الصحراء الغربية في أديره لا يعلم مكانها أحد, خوفا من القتل والحرق .

وقد تم إعطاء الأمان لكل الهاربين وترك حرية الاعتقاد ,ولم يجبر مسيحي واحد على تغيير دينه والدليل على ذلك بالإضافة إلى ما كتبته التاريخ هو وجود المسيحيين معنا في عنبر اثنين , فلو كان المسلمون قد قضوا عليهم بعد اضطهادهم لما رأيتهم معتقلين معنا اليوم , ولما وجدت قبطيا واحدا في مصر .

أما مسألة اضطهادهم التي تقول بها فقد يأتي مؤرخ " حمار " بعد ألف عام ويقول إن عبد الناصر كان يضطهد المسيحيين في مصر , ويستدل على هذا بالمسيحيين الموجودين بالمعتقل الآن , وينسي أن مع كل معتقل من القبط يوجد مائتا معتقل من المسلمين فأي مستبد ظالم يضطهد الجميع ويظلمهم , ولا يفرق في البطش بين الناس وهأنت ذا تري بنفسك الرئيس الراحل وهو يضطهد جميع المصريين .

ويحاول أن يغير الموضوع بعد أن يتبين جهله :

- يجب أن نفكر فيمن سوف يأتي بعد عبد الناصر, لقد ترك فراغا عظيما .
- إن أعظم ما قدمه عبد الناصر لبلاده أنه مات , وهو أمر للأسف لم يكن له فيه اختيار ولا فضل له فيه , فقد كان أحرص الناس على حياة وإن موته فرصة عظيمة للتنفس ومحاولة لتحقيق الأهداف .

- ويكمل إلى مستفسرا :

- الوطنية ؟

- وأقول له قاطعا :

- الإسلامية .

لست بصاحب مبادئ فلماذا يعتقلونني؟!

ثم يجلس في عنبر النشاط المعادي هؤلاء المساكين الذين لا ينتمون إلى المسلمين ولا إلى الشيوعيين , بل لهم تهم غير واضحة وليست محددة المعالم , ومنهم من عذب ليس بالقدر الذي أصابنا ولكنه قدر كاف أن يعبد الحكومة من دون الله ومنهم من لم يعذب , بل اكتفي بإيداعه في مكان أمين إلى أجل يعلمه الله سبحانه وتعالي .

وكان هناك عظيم من المعتقلين من هؤلاء المسمين بالنشاط المعادي وكان ينتمي إلى حزب كبير قبل الثورة , وقد تم اعتقاله على أثر جنازة المرحوم مصطفي النحاس باشا وكان قد ضاق ذرعا بالاعتقال الطويل لا يبدو له آخر ونمسك عن ذكر اسمه لمكانته الكبيرة الآن في صفوف المعارضة المصرية بمجلس الشعب ..

كان يقول :

- أنتم لكم في أنفسكم ما يبرر اعتقالكم فأنتم مؤمنون موحدون , أصحاب مبادئ تموتون في سبيلها وتستعذبون هذا أما أنا فلست كذلك .
- كل ما يدينني هو انتمائي إلى حزب قد مات وانتهي وقضت عليه الثورة بقرار , فلماذا يعاملونني الآن معاملة الزعماء وأبقي هذا الوقت الطويل في المعتقل ؟ لا أمثل قضية ولا أدافع عن وجهة نظر , وليس لى شأن بما يدور في هذه البلاد , ولست أدري ماذا ينبغي أن أفعله حتى يفهم الناس الذين يحكموننا حقيقتي ولو أعرف طريقة أفهم بها الحكومة هذه الأمور لفعلت .
- وكنا نستمع إليه باسمين مشفقين وتتسع ابتساماتنا الساخرة بعد مرور تلك السنين الطويلة على هذه الأحداث , عندما نري ذلك العظيم وقد صار عظيما كبيرا , وقطبا من أقطاب المعارضة , ونضحك ونحن نراه الآن يحاول أن يأخذ لنفسه مكانا في صفوف الحكومة بأية طريقة والحكومة ترفضه ولا تثق فيه .

زعيم بلا قضية وليست له وجهة نظر وقد صرح بهذا أمامنا منذ أكثر من عشرين عاما ! كان إنسانا مسكينا جرحته الثورة وضربت كبرياءه وجردته من كل معاني الإنسانية التي تحتويها نفسه .

أمريكا هي التي صنعت الانقلاب

كان البعض يقول غن حكومة الثورة هي قيادة وطنية قد حققت أهدافا عظيمة ونقلت المجتمع نقلة هائلة إلى آفاق جديدة وكان الذين يقولون بهذا خائفين ومرعوبين من الحكومة , ويعرفون أن الطريق الوحيد إلى الخروج من هذا المعتقل الطويل هو الكذب والنفاق والتضليل , وصاروا يكذبون ويكذبون , ومع مرور الوقت صاروا يصدقوا أنفسهم , ويتوهمون أن هذه هي أفكارهم الحقيقية الصحيحة واختلط الحق مع الباطل في عقولهم وقلوبهم وكنت تلمح هذا جليا واضحا في النقاش فتجدهم سرعان ما يتشككون ومن ثم يسكتون لا يوافقونك ولكن لا يردون .

- لماذا قام هؤلاء الضباط بالانقلاب ؟

- من طبيعة الأشياء أن يتشوف الناس إلى الأحسن , وكان الضباط مغامرين يريدون التغيير ويحدوهم في هذا أمل للإصلاح يتوهمون الوصول إليه عبر حكم البلاد .

- لن تختلف حول هذا المعنى ليكن كما قلت , فماذا فعلوا وماذا كانت النتيجة ؟

- أخبرني أنت .

- كانت البلاد تحكم حكما ديمقراطيا فاسدا وهناك ملك يملك ويتدخل في الحكم .

- ويقول متحمسا :

- أنت قد قلت بنفسك .

- واندفع قائلا :

- هذا الفساد الذي تكلمت عنه يصعب علينا الوصول إلى درجته بعد أن تمزق المجتمع وقضي عليه .

- ويهدأ صاحبنا من النشاط المعادي ويقول :

- لنعد إلى الموضوع ولا داعي للتفريع .
- اتفق الضابط بمعرفة عبد الناصر مع الأمريكان وتم أخذ الإذن منهم قبل القيام بالانقلاب .
- هذا أمر مشكوك فيه .
- هذا أمر لا خلاف عليه .

- لنكن موضوعيين , كيف اتفق الضباط مع الأمريكان ؟

- بعد الحرب العالمية الثانية ضعفت بريطانيا العظمي وتأخرت , بينما تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية لتأخذ مكانها وبدأت نشاطها في مناطق نفوذ البريطانيين بعمل انقلابات عسكرية والذي يعنينا هنا هو منطقة الشرق الأوسط . وكان انقلاب حسني الزعيم في سوريا عام 1949 , وفشل الانقلاب .

ولم يتحقق استقرار هناك ومن ثم اتجهوا إلى مصر .

وكانت الإستراتيجية الأمريكية آنذاك هي العمل على منع الدول الفقيرة من الوقوع في أحضان الشيوعية التي كانت خطرا في هذا الوقت.

وفكر الأمريكان في أن يقوم الملك فاروق بعمل انقلاب على نفسه ويتم هذا من خلال توزيع عدة إصلاحات وإصدار تشريعات تحول بين الجماهير الفقيرة وبين الثورة واقترحوا توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين , وأوعزوا إلى بعض أعوانهم بعمل ما يسمي بحزب الفلاح لهذا الغرض , وجاء رجال المخابرات الأمريكية إلى مصر , واتصلوا بالملك والسراي , وعرفوا ما يدور على الساحة المصرية من توثب لتغيير النظام الملكي وأن هذا تيار غالب تؤيده الجماهير في أعماقها وينبغي مسايرة هذا الاتجاه لقوته .

وبطبيعة الحال كان من السهل الوصول إلى تنظيم في الجيش المصري يصدر المنشورات ويتصل بكبار الصحفيين, ومن السهل أيضا التنسيق مع بعض الضباط ذوي الطموح وتشجيعهم ودفعهم إلى الانقلاب مع وعد بالمساندة والتأييد واندفع معترضا :

- هذا محض خيال .
- لا يتم انقلاب عسكري في بلد من بلدان العالم الثالث إلا بهذا .

- وأراد أن يستكمل وبدت عليه الرغبة في السماع :

- فلتستكمل الكلام .

- وقلت :

- اتفق على تنفيذ الانقلاب في وقت يحدده الضباط , وليس بالضرورة أن كل من اشترك في هذا الانقلاب من العملاء ولكن يكفي واحد أو اثنان .

- وفي اليوم الأول أرسلوا على صبري إلى السفارة الأمريكية وكان على صلة بها , وهذا ليعلمهم بما حدث , ونشرت الصحف أو قالت الأخبار يومها إن هذه الزيارة ليطمئن الأمريكان على أرواح الأجانب ومصالحهم , ولا أظن أن مجرد ذهاب أحد الضباط إلى السفارة بمثل هذه العبارة يطمئن أحدا , بل من الضروري أن يكون هناك اتفاق مسبق حول هذا .

- ولم يخرج فاروق من مصر أو يتنازل عن العرش إلا بعد لقاء السفير الأمريكي كافري , وبعد أن تأكد أن هذه هي رغبتهم وأصر على حضور السفير مراسيم وداعه ليضمن السلامة وبوجوده .
- وسار قطار الثورة عليه العلم الأمريكي بنجومه الكثيرة .وكان أول المشروعات التي طرحها أصحاب الانقلاب هو مشروع الإصلاح الزراعي الذي فكروا في تنفيذه من خلال فاروق , صم صرفوا النظر عن هذه الفكرة وأثاروا التغيير على النحو الذي صار .

والإصلاح الزراعي وتحديد الملكية الزراعية مشروع ظاهرة الرحمة , وباطنة من قبله العذاب فهو يعطي الفقراء والمحرومين بضعة أفدنة يزرعونها , وفي الوقت نفسه يضرب الإنتاج الزراعي في مقتل , ففي الوقت الذي يتجه العالم فيه إلى " الميكنة " الزراعية , ولا يتم هذا إلا من خلال الرقعة الزراعية الفسيحة التي يمكن أن تتحمل تكلفة " الميكنة " ورأس المال المبذول من أجل زيادة غلة الفدان, إذ بنا نجدهم وقد فتتوا الأرض الزراعية؛

وقد ظهر هذا بشكل لا ينكر بعد توالي السنين , ولعلنا الآن ونحن نعيش عصر الاضمحلال نري أثر هذا واضحا , فقد انقرض الفلاح , والله وحده هو الذي يعلم كيف تحضر هذه الأرض كل عام , وكيف تدهور كل شئ , وكيف تحولت القرية من وحدة منتجة إلى وحدة مستهلكة حيث يعكف الفلاحون على أجهزة الفيديو التي تبث الأفلام المكشوفة وهذا بعد أن ينتهي الإرسال التلفزيون , والوقت الذي كان ينهض فيه الفلاح المصري من نومه قبل شروق الشمس صار هو الوقت الذي يخلد فيه إلى النوم حيث رؤى الأفلام تداعب أحلامه في نوم متقطع مضطرب .

وقاطعني مستاء :

- أرجوا ألا تخرج عن الموضوع نريد أن نصل إلى نتيجة , ودعنا من حديث الفلاحين .
- لنتكلم عن العمال .

- أهناك حديث عن العمال ؟

- شغب العمال في كفر الدوار فحكموا بالإعدام على اثنين منهم بريئين وشنقوهما , البقري وخميس , لعلك تذكرهما .

وشرد ببصره وقال :

- اتهموا وقتها أنهم قد حرضوا من دولة أجنبية .

- وضحكت وأنا أقول له :

- أنت نفسك متهم أنك على صلة بدولة أجنبية .

- ورد بعصبية :

- هذا غير صحيح .
- أعلم أنه غير صحيح, كل من في هذا المعتقل متهمون بأنهم على صلة بدولة أجنبية وهو غير صحيح , ولكن هذا هو منطق الشرطة في التلفيق والدس للناس وتشويه صورتهم فهي تهمة لا دلالة لها أو معني وليس هذا ما يعنيني يا صديقي في الحديث .
عندما حوكم البقري وخميس , التقي محمد نجيب بالسفير الأمريكي , وكان محمد نجيب هو الوجه الظاهر ورأس الانقلاب , وحاول أن يعرف وجهة نظر الأمريكان في القضية هل يعدمهما بعد التصديق على الحكم أو يخففه إلى السجن المؤبد ولم يعطه السفير جوابا شافيا .
- هذا الكلام غير منطقي .

- لماذا ؟

- فهمت من حديثك أن جمال عبد الناصر هو رجل أمريكا .
- هذا صحيح .

- ما دخل محمد نجيب الذي يحاول إرضاء الأمريكان ويريد أن يعرف وجهة نظرهم في قضية العمال ؟

هل محمد نجيب عميل هو الآخر للأمريكان ؟


- حاول محمد نجيب إرضاء الأمريكان , ولو شاءوا لصار عميلا لهم ولكنهم راهنوا على عبد الناصر الذي اتفق معه من قبل .

- إذن محمد نجيب هو الآخر عميل أمريكي ؟

- أراد ولكنهم رفضوا , فللأمريكان حساباتهم .

ولكن الثابت والمشتهر أن الإنجليزفي القنال أعلنوا الطوارئ بين قواتهم هناك وسرت شائعات مضمونها أنهم قد يتحركون إلى القاهرة في محاولة للقضاء على الانقلاب في سلسلة من التحرشات المشتهرة فما تفسير هذا ؟

- هو سلطان قديم يري نفوذه يتبدد ويري الريح مع سلطان جديد قادم فهو لا يسلم بهذا في بساطة بل يحاول استبقاء سلطانه الذي يضيع .. الإنجليزيفهمون أن الأمريكان قادمون , ويأخذون مكانهم على عرش النفوذ في مصر, ويعرفون أنها طبيعة الأشياء , وأنها التطورات الطبيعية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية , وربما دارت بينهم وبين الأمريكان مناقشات حول هذه المسلمة ولكنها حلاوة الروح كما يقولون , فلو استطاعوا استبقاء سلطانهم ونفوذهم في مصر إلى عقد أو عقدين من الزمن فيها ونعمت وكانت وسيلتهم هي محمد نجيب الذي كان يميل إليهم كلما رفضه الأمريكان أو ازوروا عنه .

- معني هذا أن حكامنا عملاء ؟

- معني هذا أن أمريكا تقتسم العالم هي وروسيا والنصيب الأكبر في منطقة الشرق الأوسط يتبع أمريكا ومصر من هذا النصيب , ولولا الأمريكان لما نجح الانقلاب .
- هذه هي بدهيات التاريخ المصري الحديث في تفصيل طويل يفهمه ويعقله العالمون .

- ثم ماذا بعد ؟

- بعد سقوط الخلافة العثمانية , ظهور نزعات التحرر القومية بين العرب وصيحات الاستقلال الوطني في بعض البلاد, وارتفاع نغمة تدعو إلى الإسلام من جديد صارت تكبر في مصر ممثلة في الإخوان المسلمين, وصدي هذه الدعوة في البلاد الأخرى المجاورة ونشوء إسرائيل في موضع القلب من العالم العربي وكل هذا أدي إلى تفكير دهاة العالم في عزل مصر عن العرب وضخ الدماء في شرايين إسرائيل وتحويلها إلى دولة عظمي في المنطقة ويتم ذلك بعد القضاء على موجة المد الديني بضرب الإخوان المسلمين وتشريدهم وتمزيقهم وإيجاد نظام علماني فاسد يخنق الحريات ويقضي على كرامة الأفراد وتضييع موارد الدولة في المغامرات المختلفة ومن ثم يسهل إضعاف هذه المنطقة لمائة عام .
- حدث الانقلاب وأهداف الأمريكان واضحة من الوهلة الأول .
- وسار التخطيط على النحو الذي رسموه .

لم يحدث تصريح واحد لأحد من الضباط ضد الكيان الإسرائيلي , بل على العكس كانت هناك الاتصالات والمراسلات بين بن جوريون وعبد الناصر , وكان الوسيط روبرت أندرسون الذي صار يطير بين تل أبيب والقاهرة ينقل الرسائل والأفكار والمبادرات .

وكان اليهود على وعي كامل بطبيعة النظام المصري ,ويقولون إنهم كانوا يعلمون طبيعة شخصية عبد الناصر الذي عرفوه أثناء مباحثات الهدنة وأثناء الحصار في الفالوجا في حرب فلسطين عام 1948 , وأنه كان على علاقات وثيقة ببعض الضباط اليهود.

وكانت حكومة إسرائيل من خلال ما تعرف , ومن خلال تأكيدات الأمريكان لهم تعرف أن النظام المصري لن يقدم على حرب ضدهم مهما حدث .

وهو الأمر الذي زاد من تحرشهم بمصر, على عكس ما هو متوقع أو ما ينبغي أن يكون وربما كانت وجهة نظر اليهود أن هذه بلاد ينبغي أن تخضع على المدى الطويل , وأن الزمن ربما لا يجود بمثل هذه الفرصة , وأن الإرهاب والتخويف والقهر يعمل عمله إلى حقب كثيرة من الزمن , ولا ينمحي أثره بسهولة من نفوس الناس .

فالجارة القوية القادرة مصر يمكن لنا أن نخربها بالرعب من الخارج , وهو يتمثل في تحرشات الحدود والحروب الخاطفة, ومن الداخل بمعرفة النظام البوليسي القاهرة والاعتقالات والقتل والتعذيب , وجعل الفساد هو المنهج العام لكل العلاقات فيها وهذه الأمور تخلق اليأس في نفوس المصريين , وتقتل عندهم الأمل , ويستشري الاستسلام في وجدانهم وينطبع في عقولهم عقيدة أن إسرائيل هي السيد , وأنه لا فكاك منها أبدا ويظل غاية ما يطمعون فيه هو سلم معها ,وأن تكف أذاها عن مصر والمصريين, وأن تعربد بعد ذلك ما شاء لها أن تعربد مع الشعب الفلسطيني والبلاد العربية الأخرى .

ولو نظرت إلى تاريخنا القريب الذي عايشناه ورأيناه لتأكد لك ما أقول وخيم الصمت على الجالسين ونظر إلى بين المصدق والمكذب وقال وهل ينطبق هذا على حرب عام 1956 مع اليهود ؟

لم يكن تأميم القناة عملا وطنيا

- دعنا نسترجع الأحداث .

قامت الثورة ونجحت وحكم الضباط , وطلب الأمريكان منهم العمل على تمهيد الناس لصلح مع إسرائيل , وكانت إسرائيل دولة محدودة القوة في ذلك الوقت , وكان لها ميناء صغير على خليج العقبة هو " إيلات " بعد استيلائهم غدار وقسرا على قرية " أم الرشراش " القريبة من الميناء عام 1949 .
- ولم تكن لهذا الميناء أية أهمية لاستحالة دخول أية سفينة إلى خليج العقبة لوجود القوات المصرية عند المضايق التي تعتبر بمثابة بوابة الملاحة هناك .
- واليهود أكثر خبرة وحنكة ودراسة من الأمريكان , فهم قد يخططون وقد ينفردون فيما يريدون عمله , وهم على أى حال طامعون متوثبون .

- وقاطعني في حماسة :

- هذا أعظم عمل وطني قام به عبد الناصر وهو الذي رفع شعبيته إلى عنان السماء .
- أختلف معك في تقدير هذا العمل , واتفق معك أنه قد جعل من عبد الناصر بطلا , وتردد اسمه على كل لسان .

- وقال مذعورا :

- تأميم قناة السويس ليس عملا وطنيا ؟!
- كلا على الإطلاق ,لعله كان عملا جماهيريا يلهب الحماس , ولكن إن أردت أن تزنه بميزان الوطنية ومصالح الأمة فهناك معايير أخري .

- هل كانت ضرورة لهذا العمل ؟

- ما هي الأرباح والخسائر في حسابات تأميم قناة السويس ؟

- إن أجبت على هذين السؤالين بدقة فسوف تأخذ جانبي في هذا الموضوع ,وحتى لا نتفرغ نعود إليه بعد ذلك .

وأجابني موافقا :

- نتكلم عن الحرب واليهود .
- كانت الأمة العربية في حالة انتفاضة والمسلمون مستنفرون ضد اليهود , ورفض عبد الناصر كل التحذيرات والمعلومات التي وصلت إليه والتي تقضي بأن إسرائيل

قد أبرمت اتفاقا مع بريطانيا وفرنسا على الحرب ضد مصر, وحددوا لها موعدا الأسبوع الأخير من أكتوبر , أو الأسبوع الأول من نوفمبر , وعد عبد الناصر هذه المعلومات مجرد هراء أخذا في اعتباره صلته المستمرة باليهود , والتمهيد لصلح معهم , ووقوف الأمريكان معه وحمايتهم له .

ولم يكن عبد الناصر سياسيا ضليعا يعرف أحاييل السياسة والمناورات الدولية وكان يظن أن إسرائيل مجرد دولة تابعة للولايات المتحدة ولم يكن يعرف أن لها حساباتها ولها أيضا عملياتها الخاطفة التي تحصل بها على بعض المكاسب والأرباح وأنهم أفهم للسياسة الأمريكية وعوامل الشد والجذب ومتي يتقدمون وفي أية نقطة يتأخرون .

- أنت هكذا تجرده من كل المزايا .
- أنا ألقي ضوءا على ما حدث وأقدم وجهة نظري , وما فهمته عبر التاريخ الكئيب هل أستمر أم أمسك عن الحديث ؟
- وكان الكل في لهفة , وقد بدت على وجوههم علامات الخوف من قفل باب الكلام في هذا الموضوع , حيث حديث يدور للمرة الأولي بهذه الاستفاضة حول جمال عبد الناصر وثورة 23 يوليو .
- لا لا .. لا بأس من الكلام , قل كل ما عند ولكني أحتفظ بحقي في الرد بعد أن تنتهي .

- وقال أحد الجالسين :

- حقك في الرد محفوظ بطبيعة الحال , ونحن هنا محبوسون ليس وراءنا غير الكلام , والكلام باستفاضة على الأقل في هذه الأيام المباركة السعيدة التي تسبق " أربعين " الزعيم .
كان الجميع فرحا مسرورا لا يستطيع أن يخفي سروره العارم بموت الزعيم حتى صاحبنا الذي كان يدافع عنه ويصعب على تحليل هذه الأشياء .

وضحك الموجودون وعدت أكمل ما بدأت من حديث :

- حرك جيشه شرق القناة باتجاه إسرائيل , ثم جاءه الإنذار البريطاني الفرنسي الذي يقضي بانسحاب كل فريق من المتحاربين عشرة أميال شرق وغرب القناة ففكر وقدر وأمر بانسحاب الجيش , وصار يلقي هذه الأوامر بنفسه من القيادة العامة .
- وبطبيعة الحال ضاع الجيش في الصحراء وسحقته إسرائيل ودمر سلاح الطيران بأكمله في مأساة ساخرة , مضحكة وكأن القائمين عليها لا يعرفون شيئا من أمر الحرب والقتال .

ثم تدخلت أمريكا بعد أن رأت أن ما حدث يتمشي مع خطتها العامة.تجاه مصر والمصريين والعرب والمسلمين, وهو الخط الذي يؤدي إلى الانتهاك والتجويع والقهر , وأن تدور الإدارة المصرية في فلك السياسة الأمريكية أحقابا؛

حصلت إسرائيل على حق الملاحة في خليج العقبة , ولم يعرف المصريون بما حدث , وكانت هذه هي بذور هزيمة يونيو عام 1967 المروعة .

ووضعت إسرائيل حجر الأساس في بناء الحرب النفسية تجاه العرب بأنها قوة قادرة وقاهرة لا تغلب , بعد أن كان الجميع يستهين بها ويتحرق شوقا إلى قتالها عام 1948 .

وبدت إسرائيل ماردا في نظر العرب يصعب عليهم قتاله وهزيمته ولا يزال يتكدس هذا المعني حتى يشاء ربي شيئا .

هذا هو أمر فرعون , وما أمر فرعون برشيد .الحكم الصالح بأية معايير هو الذي يعمل لصالح هذه الأمة ويجتهد لها , والفرعون هو الذي يعمل لصالح نفسه ويهمه بقاؤه في الحكم ضاربا بهذا صفحا عن أية مصلحة عامة.

والفرعون يأتي من بعده بفراعين فهي أسرة من أسرات الحكم لا تنقضي إلا بغضبة الشعب عليها واقتلاعه لطغيانها من جذوره وشعبنا طيب مسكين خانع ليست له نظرة في معال الأمور , ومن ثم فلا نجاة من الفراعين إلا بقدر الله , فهو إن شاء غيرهم أما نحن فلا خير فينا ولا نستطيع شيئا حيال الطاغوت؛

وانبري محتجا :

- مهلا فوجودنا بالمعتقل دليل على أن شعبنا ليس بالخانع أو الذليل .
- لقد رأيت بنفسك , فقد ضربنا بالأحذية وعذبنا عذابا شديدا , وصفق الجمهور وارتفعت عقيرة الكتاب والصحفيين بالإعجاب والتهنئة عددنا قليل يا صديقي بجانب المستذلين المهانين وهو سواد هذا الشعب !.
- وسيطر شرود على الجالسين !
- كأنه ليس هناك أمل في ثورة شعبية تقضي على الفساد والطغيان؟
- ليس قبل أجيال تنقضي وفراعين صغار يموتون أو يقتلون .

- هل نعود إلى حديث الحرب والقتال ؟

حاكم فاسد ظالم قاهر لا يقوي إلا على شعبه , وهو نعامة في الحرب , إن حاربه اليهود قهروه وهزموه وأذلوه , وإن حارب العرب في اليمن مسحوا به الأرض وجعلوه عبرة وهو لا يعلم أنه سبب ذلك كله .

كيف يحكم المسلمون؟

بعد موت عبد الناصر ظهرت بوادر التمرد والغضب على كل المعتقلين حتى أولئك الذين دربوا على الطاعة ومثلوا دور الأتباع المخلصين وتهيأ الجميع لتغير المنظر على المسرح .

وأذكر حديث دار مع الإمام الهضيبي عليه رحمة الله , وتفاؤلي بأن شيئا عظيما سوف يحدث في مصر بعد موت عبد الناصر .

وتأمل الرجل قليلا وكان حكيما عظيم العقل , وقال بصوته الهادئ :

- لا يا بني ... ليس الأمر على الصورة التي تظنها , تداعي الأحداث في الأمم والشعوب يأخذ وقتا طويلا, ولا تنس التغيير الذي أحدثه عبد الناصر في الحياة بوجه عام ولا تنس أيضا أن موته لا يعني شيئا كثيرا , هو مجرد سد قد انزاح .
هناك مدرسته هي التي تحكم مصر , وحتى ينصلح الحال لابد أن يختفي الضباط إلى الأبد من ساحة الحكم والسياسة .
الطريق أطول قليلا مما تظن يا بني .

- وقلت له :

- كيف يحكم الإخوان؟

- وفي هدوء أجابني :

- لو شئت فقل كيف يحكم المسلمون, الإخوان هم طليعة الشعب المسلم , وليس بالضرورة أن يسند إليهم الحكم , والحكم حاجة طبيعية للأمم والشعوب وهو تعبير عن ذلك , وهناك ركام كثير يجب إزالته لنصل إلى هذا الأمل المنشود , وهو حكم المسلمين .
- ومد الرجل عليه رحمه الله يده وتناول المصحف مبتسما , وفتحه كأنه يستأذنني في الانصراف ,وكان ودودا رقيق الحاشية بالغ الأدب والتواضع مع حدته وصرامته وقوته .

وغادرته خارجا من مستشفي المعتقل حيث كان يقيم , وفي طريقي إلى العنبر وجدت شكري مصطفي جالسا وحوله حلقة من شباب ينفث فيهم الثورة , ويملأ صدورهم بالغضب ! ويعدهم لقتال ضروس مع أئمة الكفر إن قدر لهم أن يخرجوا من هذا السجن الطويل.

وكنت تراهم حوله وقد امتلئوا غيظا وغضبا , وقد أحمرت وجوههم وآذانهم وألقيت عليهم السلام فلم يرد أحد , بينما لم يستطيع شكري أن يمتع ابتسامة ودودا أرسلها إلى وعقل يغلي كالمرجل ,وقد اختلط فيه الماضي والحاضر والمستقبل في نهر الزمن المتدفق الذي اختلط .

كنا نسكن في عنبر 2 عنبر الخطرين

وكان يسكن في عنبر 1 الشيوعيون واليهود والنشاط المعادي والأقباط .

وكان العنبران في مبني واحد ولهما دورة مياه مشتركة قد قسمت إلى قسمين كما شرحت من قبل .

وكان هذا أخطر مبني في المعتقل على الإطلاق , فيه يقطن كل المتطرفين في نظر الحكومة .

وكان وفاة عبد الناصر قد أحدثت الكثير من ردود الفعل المتنوعة .

وكان أكثر المعتقلين توجسا هم الشيوعيين فقد كانوا يعلمون أن هذا هو عهدهم وأن سلطانهم قريب , وأنهم قاب قوسين أو أدني من ديكتاتورية البروليتاريا , وأن اعتقالهم هو اختلاف داخل الأسرة الواحدة سرعان ما يحل على النحو الذي يحبون.

لم يكن الأقباط يهتمون كثيرا بوفاة عبد الناصر بل كانت تري أمارات الدهشة على وجههم وهم يرون فرحة الإخوان وتجهم الشيوعيين .

وكان النشاط المعادي مترددا بين الفرحة والتوجس حسب اقترابه وبعده من قطبي الرحى في المعتقل:الإخوان والشيوعيين .

أما فرحة الإخوان فقد كانت عارمة , فلم تكن أمامهم فرصة للنجاة إلا بموت الزعيم الخالد, وكانوا أقدر الناس على فهم معادلات السياسة .

عمر التلمساني لم يكترث لموت عبد الناصر

التقيت والمرحوم عمر التلمساني وتحدثت معه حول وفاة عبد الناصر وبدا الرجل غير مكترث ولا يرى أى تغيير كبير قد حدث وقال

عبد الناصر أداة صغير في يد أجهزة جبارة لا ترحم , شديدة العداوة للإسلام والمسلمين , ولن يعدموا آخر يحل مكانه , لا شك أنه كان أكثر العملاء ضراوة في ضرب الدعوة , ولكن سوف تأخذ الحرب بين الإيمان والكفر شكلا آخر بموته , ولكن ألن تكون هناك خطة للإخوان على ضوء ما تغير ؟

وشرد الرجل حزينا بنظرة خابية نبيلة مليئة بالإيمان والثقة وقال :

" الأعداء لا يسمحون لنا بالتخطيط والعمل ولكننا نبذل جهدنا , وعلينا أن تحارب في كل جبهة وليت قومنا يعرفون أى خير نسوقه إليهم, وليتهم يساعدوننا على ذلك , على أى حال ربما تكون وفاة عبد الناصر سببا في زوال مفعول السحر ومن يدري ماذا تأتي به الأيام .

نحن لا نكفر مسلما نطق بالشهادتين

وكان الانشقاق قد حدث بين الإخوان حول مفهوم الدعوة وإستراتيجية الحركة والأطروحات التي ينبغي طرحها للناس .

وكانت مشكلة المستشار الهضيبي تتلخص في كلمات ..

نحن لا نكفر مسلما نطق بالشهادتين .

ويضيف إليها شكري مصطفي ومن قبله الأستاذ محمد قطب ..

وعمل بمقتضاهما , فكان هناك من حدد الإيمان عبر مبادئ معلنة .

وهناك من شدد على أنه مجموعة من الأعمال , وأنه لا مجال للتقية في أدائها وأملي المرشد العام حسن الهضيبي كتابا على ابنه المستشار مأمون الهضيبي يبين فيه طبيعة الإيمان , وما الذي يخرج الإنسان من الملة , واستند فيه إلى محكم آيات القرآن قلوبهم الاضطهاد فصعب الفهم والالتقاء .

وزادت حدة المناقشات بعد موت عبد الناصر .

وكانت ترتب الاجتماعات في المسجد المهجور القائم بجوار المستشفي في معتقل طرة السياسي في عز الظهيرة حيث لا يتجول إنسان .

وكان المرحوم الإمام الهضيبي على مرضه وسنه ينتقل إلى هناك ليجلس إلى الأستاذ محمد قطب وتلاميذه يحاورهم ويناقشهم ويحاول أن يردهم إلى ساحة الجماعة ويحذرهم من الفرقة والتباغض .

كان الهضيبي يمثل الأساسي في الجماعة أو إن شئت فقل المحافظين وكان محمد قطب يمثل التقدميين مع الاعتذار لهذه الكلمة , كان يري الحسم وعدم الهدنة مع أعداء الإسلام ومواجهتهم ومجابهتهم .

أما الهضيبي بسنه وبتجربته وحكمته فكان لا يري مصادمة نواميس الكون , وأن على العقلاء أن يغالبوها ويحولوا تيارها ويستعينوا ببعضها على بعض , وكان شكري مصطفي يري القتال الضروس والإرهاب وقتل كل من اشترك في تعذيب المعتقلين ليكونوا عبرة لغيرهم ويجب تعليم الشباب معني الشهادة والتضحية وأنه لو قتل ضابط واحد فلن يفكر آخر في تعذيب معتقل واحد بعد ذلك.

وكان يري أن الحرب لن تنتهي وأن عليهم أن يزيدوا في أوارها وحدتها , وأنه لا ينبغي أن يتم اعتقالهم على النحو الذي كان ويكون ويقول إنه من العار على المسلمين أن يمسك بهم كالدجاج دون مقاومة وإن كنا نؤمن حقا أن الموت في سبيل الله أسمي أمانينا فلماذا لا نستشهد عندما يفكرون في القبض علينا وأن يقتل كل واحد من الإخوان واحدا من الشياطين قبل أن يمسك به , ولماذا لا نبدؤهم بالحرب ؟ ومن السهل اصطيادهم في كل مكان, وكان يقول إننا نستطيع تصفية هذه الحرب لصالحنا بقتل بضع مئات من الضباط قبل أن ينتبهوا .

ويسأله عاقل :

- وما نتيجة ذلك في نظرك ؟

- ويحدق فيه شكري بعينيه الواسعتين السوداوين :

- سوف نخلق جيلا جديدا من الضباط المؤمنين سيخافون من القتل , وينتبهون لكلمة الإسلام , ولن ينفذ واحد منهم الأوامر نحن نسلب الظالم سيفه الذي يضرب به الناس .
- ويهز الشيوخ رءوسهم أسفا .

- ويسألهم شكري محتدا :

لماذا كل هذا العناء الذي عانيتموه في حياتكم الطويلة العريضة ؟

أنتم لم تصبروا على المحنة.
- نحن نعيش المحنة بأولادنا وأهلينا وأنفسنا .
- المحنة التي تهربون منها هي الموت في سبيل الله . أن يتوالي سيل الشهداء لا ينبغي أن يخلو شهر واحد من شهيد يقاوم الكفر .
- لست في سنكم أو تجربتكم ولكني أفهم معني الموت في سبيل الله وأطلبه وأدعو إليه , وتستطيعون أن تقودوا هذا الشعب المسكين لتحقيق الغاية التي يريدها الله منه ولكنكم حريصون على الحياة .. أية حياة .. شغلتكم أموالكم وأهلوكم ولن يغفر الله لكم .

- ويقول حكيم :

- أنت تدعو إلى فتنة تأكل الأخضر واليابس .

- ويرد شكري في حماسة :

- قد هلك الفرعون , وكل من تركهم كلاب , والتغلب عليهم سهل ويسير كل ما هو مطلوب منكم أن تشعروهم بالخوف (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين)
- يجب أن يكون هلاك الطاغية نقطة انطلاق لحرب دينية مقدسة يعلن فيها الجهاد ولن يصمد أمامنا أحد .

- ويهز الشيوخ رءوسهم أسفا وهم غير موافقين بينما يستمر شكري في حديثه غاضبا :

- - أنتم تحبون الحياة وسوف تموتون كالكلاب واحدا بعد الآخر , نعم ستموتون مصحوبين بلعنة المسلمين وخيبة أمل الناس فيكم , أما ذلك القتل الذي تتحدثون عنه وأنهم يوف يقتلوننا عن آخرنا فلعلكم كنتم تكذبون على أنفسكم وعلى الناس عندما كنتم تقولوه الموت في سبيل الله أسمي أمانينا , وهو كما هو واضح غاية ما تخشونه وتخافون منه .
- لو قتلونا فسوف يأتي من بعدنا من يكمل وسيكون دمنا هو وقو النصر ,لن تحقق الأهداف بغير القتل والقتال والموت في سبيل الله , لو قتلنا عزلا فسيأتي من يحصل على الأسلحة ولن يقوي العالم علينا .

لقد حرص الحسين رضي الله عنه على الموت في كربلاء ليضرب لأمثالكم المثل ويعطيكم القدوة , أنا أعلم أن كلامي لن يصل إليكم , فالأقفال قد أغلقت قلوبكم وأنت تحاورون وتناورون؛

ومن الخير لكم أن تخرجوا من المعتقل وتذهبوا إلى الاتحاد الاشتراكي وتقدموا فروض الطاعة والولاء للسلطان الجديد بحجة أنه ليس بينكم وبينه ثأر , اخدعوا أنفسكم وصدقوها وانسوا الجهاد ,وابحثوا عن شئ آخر تفعلونه في هذه الحياة , ثم يستبدل الله قوما غيركم ولن يكونوا أمثالكم .

عندنا خططنا لتحقيق الإسلام في المجتمع بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن .

- أنتم تضحكون على أنفسكم ,وإن كنتم صادقين فما هذه الخطة ؟
- وينفض الاجتماع دون نتيجة , بينما يزداد عدد الشباب الذي يسر ويعجب بهذا الفكر الاستشهادي .

الإخوان يتجمعون من جديد

مات عبد الناصر وانهار السد وصار معتقل طرة السياسي يمثل المجتمع المصري على نحو يكاد أن يكون دقيقا ومعبرا .

انتهت كل التحفظات من نفوس الجميع , وصاروا يناقشون كل القضايا في جرأة ووضوح وعدم احتراز .

وبرزت مدرسة الإخوان كالمارد الذي ينتظر الفرصة للخروج الحكمة ووضح الرؤية والنفس الطويل وعدم استعجال النتائج .

وظهرت القيادات الخفية التي لم ينتبه أحد إليها طوال سنين الاعتقال , رغم وجودها وأداء مهامها , ولكنها بدأت تظهر على السطح في وضوح أكثر .

- الحاج مصطفي مشهور .
- الحاج حسني عبد الباقي .
- الدكتور أحمد الملط .
- الأستاذ أحمد حسنين .

وكان من أبرز النجوم طول الوقت المستشار مأمون الهضيبي وكانت هنالك القيادات التقليدية الحائرة .

- الأستاذ فريد عبد الخالق .
- الأستاذ عبد القادر حلمي .

أعضاء مكتب الإرشاد جاءوا من السجن بعد انقضاء فترة العقوبة مثل المرحوم عمر التلمساني .

وكان حسن الهضيبي يضم هؤلاء جميعا ويمسك بهم بقبضة حديدية رغم تقدم السن وضعف الصحة .

ولكنهم كانوا جميعا يدينون له بالسمع والطاعة .

وهذه أعظم سمة تميز جماعة الإخوان .

وكانت جميع الخلافات والحوارات تنتهي بكلمة واحدة ينطقها الإمام الهضيبي , قد يسمعها البعض ولا يسمعها البعض الآخر ولكنهم يتناقلونها , وتصير دستورا لا يمكن نفضه أو الخروج عنه .

وبدأت المكاتب الإدارية تتشكل وتتكون أو يعاد تشكيلها وتكوينها .

وبدأت الأسر تتكون على استحياء وحذر .

وأعاد موت عبد الناصر تشكيل الجماعة من جديد .

كانت قيادة الإخوان تتجمع وهي حذرة تترقب.

وكان من الواضح أنهم سوف يستمرون في الكفاح والجهاد , وأن هلاك عدوهم هو العلامة على ضرورة الانطلاق والعمل .

وكان يسودهم جو من التشكك وعدم الثقة من سنوات السجن والاعتقال الطويلة المريرة ومن نافلة القول أن تقول إنهم قد مروا بمحنة من أقسي ما مر بهم من محن في تاريخهم الطويل .

والذي لا شك فيه أنهم كانوا في حاجة إليها ليميز الخبيث من الطيب .

مصطفي مشهور

بدأ نجم مصطفي مشهور يلمع في الشهور الأخيرة من الاعتقال , وربما في العامين الأخيرين .

كان الرجل يقضي أيام المحنة في الصلاة والعبادة وقراءة القرآن والصمت فقد كان الصمت من ذهب بحق في تلك الأيام المباركة .

وكان يخرج عن عادته مع أقرب المقربين إليه الذين عاش معهم في السجن وكان مسئولا عنهم لسنوات .

وليس من الأسرار أن نقول أنه صاحب خبرة عريقة في التنظيم والإدارة والتجنيد, وإن شئنا الدقة قلنا إنها ملكة وسليقة قد صقلتها التجارب وشحذتها الأحداث , وصارت الحكمة بالغة والحذر لا حدود له , وكان مهيأ بحق القيادة السفينة التي تتقاذفها الأمواج .

وقد بينت الأيام صحة هذه الملاحظات .

وكان الحاج صالح أبو رقيق عضو مكتب الإرشاد وأحد الزعماء القدامى ممن يرون مهادنة العهد القادم والالتفاف حوله , ولا أحد يعرف أو يتكهن متى ينتهي , وليس من الحكمة مصادمته , وكان يشايعه على ذلك قوم, وكل هذا كان ينتهي عند كلمة المرشد العام الصارمة التي لا تقبل المناقشة .

كان هيكل الجماعة ينتشر ويتكون عبر معتقلين من كل جهات مصر وكانوا يختارون الأعضاء العاملين بمعايير خاصة جدا لا أستطيع أن أتبين ملامحها الآن بعد انقضاء هذا الزمن .

وكان بعض الذين لا يختارون ينظرون بغضب وحسرة , ولا يستطيعون التعبير أو الشكوى والقيادة صارمة لا تقبل المناقشة وخططها سرية غير معلنة ولا ينبغي لها أن تكون غير ذلك .

وظني أن الإستراتيجية كانت الاستمرار والبقاء وحفظ الأفراد من التآكل والضياع والاستعداد للحظة غامضة قد يأتي بها الزمن .

وبين هذا التكوين الجديد كان يقف جمع غفير من المتفرجين الذين تم اعتقالهم تحت راية الإخوان , ثم تركوا لشأنهم يدبرون أمورهم بالكيفية التي يريدون وفي رأيي أن هذا كان خطأ من قيادة الإخوان , وربما كان خطأ أملته الظروف وقسوة الحوادث والمحنة الضارية التي مروا بها .

الشيخ عارف يريد البيعة

وكان الشيخ عارف رحمه الله ساخرا كما وصفته , وجاءني شاكيا :

- الناس مجتمعون عند سقيفة بني ساعدة يبايعون .

- وقلت له في دهشة :

- يبايعون من ؟

- يبايعون المرشد .

- ألم يبايعوه من قبل ؟

- هم يجددون البيعة ويأخذها نائب عنه .

- من ؟

- هذا من الأسرار العليا .

- وأنت لم تبايع ؟

- كلا.. هم يأخذون البيعة من الحكماء , وأنا لست كذلك فأنت تعرف أنني سليط اللسان وقد أتسبب في مشاكل هم في غني عنها , وأنت ؟

- ماذا عني ؟

- ألم تبايع ؟
- لم يدعني أحد إلى هذا .

وقال الشيخ عارف ساخرا :

- ولا أظن أنهم يدعونك .

- لماذا ؟

- أنت من الذين يناقشون كثيرا وهذه مرحلة السمع والطاعة , وليس هناك أى وقت لوجع الدماغ والأسئلة الكثيرة .
- وبدت على وجه الشيخ عارف نظرات حزينة آسفة , وزايله مرحة , وانهمرت دموعه على خديه , وصار يمسحها بيده يحاول أن يخفيها .

- وقلت له :

- ماذا بك ؟
- حزين جدا أنهم لم يدعوني للبيعة .
- في المعتقل تكثر الشائعات وربما ليست هناك بيعة .

- وتجاهل جملتي وقال :

- لقد عشت حياتي كلها في جماعة الإخوان المسلمين ويحزنني أن أنهي أيامي بعيدا عنها , أو أن تتجاهلني الجماعة , أو يروني أقل من أن أحظي بشرف البيعة والانتظام في الصف .

- وقلت له مواسيا :

- ليس في وسع أحد أن يخرجك من جماعة الإخوان . دعهم يفعلون ما يشاءون وسوف تجد مكانك يوما , ويجب أن تقدر الظروف .

- وسرعان ما عاوده مرحه من جديد وقال :

- على أى حال هم في حاجة إلى بعض من يشتمون الحكومة ويسبونها ولا يكونون مسئولين عنهم , وأنا أقوم بهذا الدور خير قيام , وقد يأتي يوم أنتظم فيه بالصف وأبايع .. من يدري ؟

الإخوان هم حكام المستقبل

وكان الشيوعيون ينظرون إلى تحركات الإخوان في حذر وخوف وجائني واحد منهم وسألني :

- هل يعيد الإخوان تشكيل الجماعة ؟

- لست أدري .

وبدأ عليه التشكك والحذر وقال :

- هم قوم لا يقدرون العواقب .

- وقلت له :

- أختلف معك ... الإخوان يقدرون العواقب أكثر مما ينبغي .. ولعل عيبهم هو المبالغة في تقدير العواقب .

- عاد يقول مهددا :

- ولكن الحكومة لن تسكت , والتقارير تذهب إليها كل يوم .

- وقلت له :

- لن تستطيع الحكومة أن تفعل مع الإخوان أكثر مما فعلت , ليس في وسع الحكومة شئ للإخوان .

- هل تظن هذا ؟

- وهل تشك في هذا ؟ الإخوان هم حكام المستقبل طال الزمن أو قصر

- وجاء عبد العال سلومة ليقول مضطربا :

- الأسر والتشكيلات تنتشر في العنابر والزنازين .
- هذا خبر عجيب ولكنه ليس بالجديد .

- ماذا تعني ؟

- الأسر والتشكيلات موجودة منذ اللحظة الأولي من الاعتقال لقد جمعت الحكومة الإخوان في معسكر كبير ومنعتهم من مغادرته طول الوقت .
- لن ترضي المباحث عن هذا !

- وماذا تفعل المباحث ؟

- ونظر الرجل إلى متعجبا لا يعرف الرد , فقد فعلت المباحث غاية ما يمكنها فعله قتلت وعذبت واعتقلت وشردت ومنعت لقمة العيش وكانوا فوقهم قاهرين .
ولم يغن هذا شيئا, فماذا تبقي بعد ذلك ليفعلوه ؟

وقلت لعبد العال :

موضوع الإخوان المسلمين موضوع تاريخي , ولن يقوي أحد على القضاء على هذه الجماعة , هل تعرف من كان يدرك هذه الحقيقة أكثر من غيره؟

وقال باهتمام :

من ؟

وقلت له :

- جمال عبد الناصر , كان عضوا بها ويعرف البناء الحديدي لهذه الجماعة .

- وقال عبد العال سلومة باستهانة :

- سنوات طويلة استطعنا فيها أن نخرج من صفوف الإخوان كثيرا منهم قاموا بتأييد الحكومة , وخرجوا عن الصف , وتبرأت منهم الجماعة , وسلكوا طريقا آخر وقلت له باسما :

- أنت في حديثك تعترف بوجود الجماعة , وأنها تخرج من تشاء من الصف وتقبل من تشاء فيه .

- وماذا يعني هذا الكلام ؟

- سوف يأتيك خبر هؤلاء المؤيدين بعد حين ... في ظني أن من سلك طريق الإخوان ليس من السهل عليه تركه مهما تظاهر بهذا , وتتغير الأيام والظروف ثم يأتي دوره وتجده مبايعا وفي داخل الصف .

- من أخبرك بهذا ؟

- هذه ليست أخبارا .. هذه مجرد ملاحظات .

خلاف حول الإستراتيجية والتكتيك

وكان أفراد النشاط المعادي من أكثر المجموعات إعجابا بالإخوان وتماسكهم ووضوح رؤيتهم حول الدين والسياسة وكانوا يتمنون لو ينخرطون في سلك الجماعة .

وكان مصطفي مشهور صارم النظرة عميق التجربة لا يفرح بالكثرة بل كان يهتم بالنوع, ولو تخلي عن هذه الفكرة لكان في صفوف الجماعة اليوم جمع غفير أكثر بكثير مما هم عليه الآن .

وكان محمد قطب يدعو إلى أفكاره بوضوح وصراحة ودون سرية لا إله إلا الله محمد رسول الله هي معركة المستقبل ولا يجب أن تلتبس على أحد.

وكان شكري مصطفي ومن معه شعارهم واضح :" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " وكانت الحكومة تتهاوي وتتخاذل بعد أن نخرها الفساد وبعد أن هلك الزعيم , ولكن النتيجة في بلاد مثل مصر تظهر بعد حين بعيد , ولكنها واضحة المعالم لكل من قرأ التاريخ .

ومن بين الشد والجذب واختلاف الحوادث قد يظهر شئ جديد . ولكن الشئ المؤكد أن عبد الناصر قد مات وبدأ أصحاب الحق يستردون تركتهم المنهوبة التي عدا عليها اللصوص .

ألا لعنة الله على الظالمين !

أدرك المعتقلون الموجودون بمعتقل طرة السياسي أن ساعة الإفراج عنهم قد اقتربت بموت الزعيم وأن الحائل الذي يحول دون حريتهم قد ذهب إلى غير رجعة فتحول اليأس أملا , والوهن عزيمة وقوة .

وسرت فيهم روح جديدة اختفلت كثيرا عن عهدهم السابق عندما كانوا يستمعون إلى " الملهم " يزعق في الميكروفونات التي تملأ العنابر أن لا ملجأ منه إلا إليه , والعياذ بالله .

كانت الجماعة شيئا أساسيا في شعور الإخوان ووجدانهم , ورغم كل ما فعلوه وقالوه البعض منهم بالتأكيد إلا أن أحد فيهم لم يفكر في ترك هذه الجماعة !

وقد يعود هذا إلى برامج التربية التي استغرقتهم سنين , والألفة والمحن القاسية التي جمعتهم في بوتقة واحدة من هنا وهناك , كما كان ظهور حقهم وصلاح وجهة نظرهم وزهوق باطل غيرهم وفساد وجهة نظر الحكومة كل ذلك صار جليا للعيان .

كانت الشهور التي سبقت موت الزعيم يقضيها المعتقلون في السخرية من الحكومة ومن تصرفاتها الرعناء التي تتسم بالارتجال وعدم الحكمة بعد الهزيمة المنكرة التي لقيها الجيش المصري الذي أهين إهانة بالغة كانت حديث العالم كله؛

وبعد أن علق الجيش الإسرائيلي المنتصر لافتة كبيرة على ضفاف القنال يراها المصريون من الناحية الأخرى (وتمت كلمة ربك الحسني على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) وكان الجنود المصريون يقرءونها كل صباح ومساء وهم في داخلهم ممزقون بين الثورة واليأس والغضب والشعور بالإحباط .

وكانت تأتينا الأخبار ! ونعجب من إصرار هذه الحكومة الفاسدة الحكومة المصرية على هذا التكالب على الحكم على هذا النحو المهين , وأين الرجولة والإحساس بها ؟ولماذا لا ينتحرون أو يستقيلون ؟ ولكنهم ساروا في طريق مضحك ساخر , وأذن مؤذن بينهم أنهم قد فازوا وانتصروا في هزيمة سنة 1967 !!

ووقف الغربان والوطاويط والبوم في المجامع والمحافل والندوات يثبتون هذا الوهم في أدمغة الخنازير ويقولون إن الهدف من المعركة كان القضاء على الحكم الثوري في مصر , ولم يستطيعوا , ولهذا فنحن انتصرنا !!

ويتجاهلون أنهم الذين بدءوا المعركة , وأنهم لم يكونوا على استعداد لها ولا يزالون .

وسمعنا الصدى يجيب (ألا لعنة الله على الظالمين) وبدءوا ما سموه في تلك الأيام بحرب الاستنزاف !!وما أدراك ما حرب الاستنزاف ؟

يفتحون النيران على طول الجبهة , وتطلق المدافع داناتها ,وقالوا أيامها إن ثمن " الدانة " الواحدة خمسة وأربعون جنيها و كانت هذه النيران تطلق بلا توقف على كثبان رملية في الجانب الشرقي من الشجرة المباركة على قناة السويس , وكنا نضحك ملء أشداقنا بعد أن بكينا ليلة الهزيمة حتى ذبلت أعيننا.

وجاءهم الرد الإسرائيلي صارما وبالغ القسوة والعنت والسخرية معا !.. كنا نطلق مدافعنا على الرمال على ما في هذا من خسارة حقيقة , وجهد ضائع ودم مسفوك لا قيمة له من الجانب المصري , وهم يحرقون بقنابلهم معامل البترول في السويس , وأزالوا من الوجود مدن القناة وجعلوها ركاما , وحولوا أهلها إلى لاجئين تجاوز عددهم المليونين أكثر من مهجري فلسطين وهدموا قناطر نجع حمادي , وضربوا مصانع الصلب في أبي زعبل .

وعربدت الطائرات الإسرائيلية في سماء مصر ! هم يصيبون أهدافا حقيقية ونحن ننفق أموالنا وجهدنا ونطلق مدافعنا على مثبان رملية ألا بئس ما يصنعون .

وهذا هو منطق الديكتاتور ! الطبل والزمر مهما ارتفع ثمنه وغلا والصحف " بتاعت المرحوم والدهم " يكتبون فيها ما يشاءون وتقرأها النعاج في الصباح وتصدق أو لا تصدق وهذا لا يعنينا في كثير أو قليل .

كل هذا هز الثقة في نفوس الشيوعيين والناصريين المعتقلين حول جدية الحكومة وأهميتها . وهو نفسه ما عمق الإيمان في نفوس الإخوان المسلمين .

الصلح مع إسرائيل بدأه عبد الناصر

ثم جاء " الملهم " فنظر ثم أدبر واستكبر ثم قال إن هذا إلا سحر يؤثر فلنقبل مبادرة " روجرز " والخنازير لا تعرف مبادرة روجرز وما هي إلا لواحة للبشر عليها تسعة عشر , ورحم الله السادات !

قبل " الملهم " مبادرة " روجرز " والشعب لا يعرف شيئا عنها وصفقت له لجنة الخنازير المتطورين في الاجتماع الثنائي المتفيهق المنبثق عن الإلهام الجماعي لكل قوي الشعب غير الواعية بما يدور حولها أو في أى مكان ( هكذا كان اسمها !)

اعترف " الملهم " بإسرائيل بعد أن قضي على مصر وكرامتها وكانت قلة من الإخوان المسلمين الذين يعرفون التفاصيل لعمقهم في فهم لعبة السياسة وبقية جمهورهم يعرفون الأمور بوجه عام , أو يسألون عما لا يعرفون أو ما استغلق عليهم .

المعتقلون ممن على ديانة آمون !

بدأ عصب الإخوان يشتد من جديد فقد ظهر للجميع قصور السياسة المبنية على عبادة الفرد وتقديس الفرعون ولو أدي هذا إلى هدم معابده على رءوس الكهنة والسدنة والجمهور .

وكنا نسأل الناصريين المعتقلين في طرة السياسي :

لماذا يعتقلونكم وأنتم على دين آمون ؟ ولماذا يسجونكم وأنتم تسجدون للشمس من دون الله , وقد زين لكم الشيطان أعمالكم فأنتم في أحسن حال معهم ؟

ويتصنع ذلك المتفيهق من عنبر واحد الحكمة والوقار ويقول :

- يا رفيق ... لابد من تناقضات ثانوية بين الأصدقاء وأصحاب الطريق الواحد , وهي موجودة وقائمة ولكنها بصدد الحل , أما التناقضات الأساسية بيننا وبينكم فهي تناقضات لا حل لها ولا تنتهي إلا بانتصارنا عليكم وسوف ينتهي الصراع بالقضاء عليكم وظهورنا وتمكننا , وينعم من بقي منكم بديكتاتورية البروليتاريا .

- وأقول له وأنا أحاول جاهدا ألا أبدو ساخرا :

- وكيف تعالجون هذه التناقضات الثانوية التي تقع بينكم وبين أصدقائكم ؟

- ويرد الرفيق كأنها مسلمة لاشية فيها :

- بالحوار.

وأضحك وأنا أقول له :

- بالحوار من جانبكم , أما تلك التناقضات الثانوية فتعالجها الحكومة معكم بالحذراء وهو أبلغ وأوقي من الحوار .

وكان جمهور العوام من الإخوان في أول عهده بالشيوعيين والناصريين في المعتقل يتعجب لكلامهم الكبير يسخرون ويضحكون من الكلام الفخيم العظيم الذي لا معني له وصاروا أقوي إيمانا مما كانوا من قبل , وعرفوا الكفر على حقيقته , وأنه نجس لا يلتبس بالإيمان أبدا , ولو حمله عظماء المجتمع وكبراءهم والرئيس نفسه , فقد كفر فرعون على ملكه العريض .

وكان المسلمون يرون ببساطة أن كل من لا يري الإسلام منهج حياة لا يعد في قائمة المؤمنين وزاد من تماسك الإخوان ما كانوا يرونه من حال الشيوعيين والناصريين .

وقوي من يقين الإخوان ما رأوه في اليهود المقيمين بعنبر ثلاثة من عبادة وتقي فهم يجتمعون في أول النهار وأخره لصلاة الجماعة على النحو الذي يعرفون ووضحت المعادلة في أذهان الناس بجلاء وظهور.

دولة دينية طائفية أقامت مجتمعا قويا وانتصرت باسم الدين هي إسرائيل ودولة علمانية فاسدة أضاعت معالم الدين والأخلاق فلم تصمد ساعة واحدة أمام آلة الحرب الإسرائيلية هي مصر عبد الناصر .

ورغم ذلك لا يريد أن يتركها في حالها ويذهب وكفاه ما فعله بها !

وقال قائل :

- لو انتصر عبد الناصر في حرب يونيو وهذا ضد قوانين الطبيعة ونواميسها لهدم الأزهر , ولأقام مكانه معبدا مثل معبد الدير البحري , ولصنع لنفسه تمثالا عظيما , ولنصب من نفسه إلها ولأرغم الناس على عبادته .

وعندما توالت الهزائم بعد يونيو , وظهرت نوايا " الملهم " تجاه الفلسطينيين وإسرائيل , بطل السحر واستفاق الناس !

وكان معظم الإخوان صامتين قبل موته لا يتكلمون كثيرا في السياسة وأسرارها , بشكل عام شامل يلفت الانتباه ويدعو إلى الإنصات وبعد موته انحلت عقدة ألسنتهم وصاروا يتكلمون ويناقشون ويحللون ويجهرون بآرائهم .

فكنت تري الناس من متوسطي الثقافة ومن الأميين وهم جمهور الذين سجنوا في نكبة 1954 وقضوا سنوات السجن يتعلمون ويتناقشون هؤلاء صاروا ممن يفهمون في السياسة وأحابيلها ومعادلاتها المعقدة وكانوا يبهرون الناصريين والشيوعيين لفهمهم العميق وبساطتهم في عرض أفكارهم ووضوحها .

الإخوان مثل جبل الثلج

وقال قائل الشيوعيين والناصريين مبديا إعجابه مرة :

- لو كنتم عددا كبيرا لحكمتم مصر وبلاد العرب .

- ورد عليه خردواتي بسيط من قرية من قري الجيزة قد نسيت اسمه :

- الإخوان مثل جبل الثلج الذي لا يظهر منه غير جزء صغير فوق الماء , نحن عددنا كبير وأكثر مما تظن أو تظن الحكومة .
- وصرت أتأمل كلمات أخينا الخردواني على ما فيها من حكمة وعلم ووعي وضرب ذكي للمثل , وهو لم يسافر ليري جبال الثلج المختفية تحت الماء , ولم يقرأ الكتب والموسوعات , لكنه ربي في مدرسة السجن .

صلح الحديبية

كان موت عبد الناصر بمثابة صلح الحديبية , مع التجاوز في التشبيه !

فقد كان المعتقل كما قلنا من قبل به مبينان رئيسيان على اليمين عنبر ثلاثة وأربعة ,وعلى اليسار عنبر واحد واثنين وفي الفناء كانت بعض المباني التي ذكرنا من قبل بالتفصيل مثل المطبخ والكانتين والملاحظة ومن خلف هذا على مسافة كانت المستشفي وبجوارها المسجد المهجور الذي لا يصلي فيه أحد حتى اتخذه شكري ومن معه للعبادة في أواخر الأيام وبعد أن هجر الناس وهجروه , وكان عنبر واحد به الشيوعيون والناصريون والنشاط المعادي واليهود , وعنبر اثنين به الخطرون من الإخوان حسب تصنيف المباحث .

وكان العنبران على اتصال , ولهما بوابة واحدة بينهما مفتوحة طوال الوقت .

وكذلك كان الحال في عنبري ثلاثة وأربعة اللذين قالت عنهما المباحث إنهما أقل خطرا والجميع على درجة واحدة من الخطر لو يعلمون !

فيكفي أن تعرف أن بعنبري ثلاثة وأربعة كان يقطن الحاج مصطفي مشهور , والحاج حسني عبد الباقي , والدكتور أحمد الملط , والأستاذ فريد عبد الخالق وقبل هؤلاء جميعا الأستاذ مأمون الهضيبي , والحاج صالح أبو رقيق ومعظم الزعماء . فأين دقة التصنيف ؟

كان أهل عنبري ثلاثة وأربعة يلتقون وأهل عنبر اثنين في حدود ضيقة وأثناء الطوابير التي كانت تستمر طوال النهار في فناء المعتقل .

وكانوا يلتقون على استحياء وبحذر بالغين , وندر أن جاء زائر من عنبر ثلاثة وأربعة لزيارة أحد من عنبر اثنين .

وبعد موت عبد الناصر كثرت الزيارات بين أهل القسمين , وكنت تري من أهل عنبر ثلاثة وأربعة من يقيم ط وال النهار في عنبر اثنين حيث الخطرون من الناس .

والذي أذكره أن محمد قطب لم يكن يذهب لزيارة عنبر ثلاثة وأثنين بل كان يكتفي بلقاء من يحبون لقاءه في الطابور العام الذي يكون بالفناء أثناء النهار .

وكان يحضر الاجتماعات التي يدعي إليها في المسجد المهجور , ولم يكن يعتذر عن الذهاب إذا ما دعي لذلك أبدا , هذا حسبما تسعفني الذاكرة بعد مرور هذا الوقت الطويل .

الحوار بين الإخوان

كانت ظاهرة التزاور بين أهل العنابر تمثل الصراع الفكري , أو لو شئنا قلنا هو تبادل وجهات النظر حول الموضوعات الكلية , والاختلافات حول الأفكار الرئيسية ومستقبل الجماعة في عام قد بدأت له معالم جديدة وما هو مستقبل النشاط وكيف يكون ؟ وكانوا قد أجمعوا أمرهم على الاستمرار .

وكان موت عبد الناصر هو الذي أكد لهم ضرورة هذا الاستمرار .

وتستطيع أن تستنتج ببساطة فرسان النقاش والحوار إن كنت تعرف الإخوان , وكل حسب تكوينه وما يحمل من خصائص ومميزات وسمات .

ولا شك أن المنظم الحقيقي لهذا الحوار هو الحاج مصطفي مشهور , رغم أن المراقب يصعب عليه إدراك ذلك , إلا إذا دقق النظر , وكان مهتما ويرقب بإمعان شديد أما المباحث والإدارة فقد كانتا مهتمتين بسفاسف الأمور .

وأشهد له فقد كان الرجل مصطفي مشهور بارعا في حركاته وسكناته بشكل يصعب معه رصد ما يفعل لغير العالمين بما يدور عليها وعاشوا فيها .

فالمرشد العام على ما هو عليه من واجب طاعته من كل أفراد الجماعة يتميز بصموده العظيم أمام الفتنة الطاغية التي عاشها في المحاكمات الأولي عام 1954 ثم في المعتقل ثم في الليمان وبعد أن أفرج عنه وحددت إقامته ووضع الحرس أمام بيته ثم باعتقاله ومحاكمته مرة أخري عام 1965 , وذهابه إلى السجن فبيته فمرة أخري إلى معتقل مزرعة طرة السياسي .

هذا هو رأس الهرم وقيادته ليست محل شك أو نزاع أو مناقشة وكان الصمود هو المعيار الأساسي في النظر إلى القيادات وفي ظني أنه معيار له ألف مبرر لاعتماده في التصرف والاعتبار .

وكان قليل الحركة لمرضه ورغم ذلك كانوا يلتقون معه , وظل الأستاذ مأمون الهضيبي المستشار هو ضابط الاتصال مع القيادة الجديدة التي أفرزتها الظروف ويأتي بعد المرشد العام في سلم القيادة مكتب الإرشاد الذي حكم عليه بأحكام تتراوح بين خمسة عشر عاما والأشغال الشاقة المؤبدة .

وهؤلاء لم أر منهم إلا المرحومين عمر التلمساني والشيخ أحمد شريت , وربما كان هناك آخر لا أذكره وكانا في حالة من المرض والإنهاك لا تسمح لهما بالحركة الكثيرة المكثفة لجمع الشمل وتقريب وجهات النظر وصناعة الهيكل الجديد.

أما القيادة الفعلية الحركية القادرة فكانت تتمثل في أربعة يأتون بعد المرشد العام مباشرة .

مصطفي مشهور .. أحمد حسنين ... د. أحمد الملط

ورابع لا أذكره .. ربما كان الحاج حسني عبد الباقي , وأغلب ظني أنه هو .

مجتمع العشرات غير المؤيدين

وأود أن أسجل هنا أن ما أكتبه ليس تاريخا بقدر ما هو ملاحظات ومشاهدات لواحد ممن قدر لهم أن يعيشوا هذه المحنة وأن يشترك فيها عن كثب أحيانا, وعن بعد في أكثر الأحيان , وفي تقديري أن ما أقوله ليس من الأسرار .

ثم تأتي العشرات:

وما أدراك ما العشرات ؟

هم الذين قضوا في السجن عشر سنين ولم يؤيدوا الحكومة ولم يجل ذلك بخاطرهم أبدأ ... فهم العمد الخرسانية للتشكيل الجديد’ هم الذين أجمعوا أن يكونوا وقودا للدعوة حتى يموتوا وكنت تجلس مع بعضهم فتجد أن خاطر النصر والتمكين في الأرض ليس ببالهم ولا خاطرهم وغاية ما عندهم أنهم يؤدون واجب الدعوة حتى الموت وبعدها يفعل الله ما يشاء .

وكان فكرهم واضحا وبسيطا لا يعتوره تعقيد أو تركيب , ولا يدخلون في متاهات النظريات والتفصيلات , وغاية ما يعرفونه أن تستمر الجماعة قائمة , وأن ضياعها يؤثر تأثيرا حقيقيا على أمل المسلمين في النهوض من كبوتهم مرة أخري , ولا يخفي على أحد أن " العشرات " هم أعضاء ما سمته الحكومة عام 1954 بالجهاز السري للإخوان المسلمين .

وكان أحد الظرفاء من هؤلاء يقول في أبي زعبل للتعارف :

- أخوكم فلان الفلاني من العشرات فئة " الزعبلاوي " إقامة " القطبي " مذهبا ويقول عندما ينتهي من الطعام .
- الحمد لله العلي الكريم الذي أطعمني وسقاني وجعلني من الإخوان المسلمين , ومن الجهاز السري العظيم الحديث منه والقديم .
- ولا شك أن هؤلاء العشرات على ما بينهم من تماسك وترابط , وما يتسمون به من صمود قد كانت بينهم بعض التناقضات تلك التي كان يتكلم عنها من قابلناهم من الشيوعيين والناصريين وكانوا يقولون إنها في العادة تكون بين الأصدقاء والتي يطلق عليها التناقضات الثانوية ولم تكن لتظهر أو تراها إلا إذا اقتربت أكثر وأكثر حتى تجد نفسك في البؤرة وعندها تلمحها بوضوح وهي أحيانا في التفكير وأحيانا أخر في أسلوب الحركة والتصرف حيال مجتمع طاغ ونظام مستبد سفيه , أو في كيفية تبليغ هذه الدعوة إلى العالم متجاهلين واقع السجن وكم كانت تتلاشي هذه التناقضات عند قانون السمع والطاعة الشديد الصرامة .

- ولا أدي إن كان الأمر يمثل ميزة أم عيبا أم يحتوي على كثير من المزايا وقليل من العيوب أو العكس : كثير من العيوب وقليل من المزايا وأغلب الظن أنه نظام يحتوي على الاثنين معا بقدر لا أدريه ويصعب قياسه حيث نعيش التاريخ بأحداثه اللحظية والحكم النهائي يحتاج شيئا من الوقت غير قليل.


الطبقة الثانية من الجماعة

ثم يأتي بعد ذلك أهل السجون من غير " العشرات " بدرجات متفاوتة في القرب والبعد من ثقة القيادة أو من مكانهم في الصفوف .

ويمثل كل هؤلاء أقلية بالنسبة لجمهور المعتقلين على ذمة قضايا الإخوان المسلمين .

فقد كان هناك الذين سبق اعتقالهم وجاءوا بحكم العادة أو الناموس وكان هناك أيضا الذين اعتقلوا للمرة الأولي وكانوا من الإخوان ولم يكونوا ضمن قوائم تعرفها الحكومة , ثم جاءت بهم الظروف وانتظموا في الصفوف؛

وكان هناك نوع آخر من المعتقلين على ذمة هذه القضايا ولم يكونوا من قبل من الإخوان المسلمين أو غيرها من الجماعات ومنهم من لم تكن له علاقة بالنشاط الديني على أى صورة من الصور وعدد كبير من هؤلاء صار من أشد الناس تحمسا للإسلام وقضاياه؛

ومن ثم انخرطوا في الأنماط الإسلامية العديدة التي أفرزها الاضطهاد الشديد ومن أشهر هؤلاء المرحوم شكري مصطفي الذي اختط لنفسه طريقا متفردا, وأغلب الجدد من المعتقلين حفظوا " المأثورات " واندرجوا ضمن جماعة الإخوان ولعلهم لم ينتظروا أن يدعوهم أحد إلى ذلك .

كانوا يقرءون ورد " الرابطة " عند المغيب ولم يبق بين المعتقلين غير القليل النادر الذي اعتزل أو تظاهر بالبعد عن كل أنواع هذا النشاط .

أما الأمر المؤكد فهو أن جميع من كانوا بالمعتقل الذين جاءوا تحت اسم الإخوان المسلمين كانوا أو صاروا من أشد الناس حماسا واهتماما بالإسلام وقضاياه ومن المؤكد أيضا أن أعظم ما صهرهم وجعلهم يتقاربون ويتآلفون ويتصادقون هو بوتقة الاضطهاد الشديد , والتعذيب الجماعي المشترك؛

فقد صنع هذا نوعا من الود والتفاهم يصعب شرح كيفية تكونه ويستحيل نسيانه أو تجاهله على مر الزمن , فقد يلتقي شخصان في الطريق وآخر عهدهما بلقاء منذ عشرين عاما أو أكثر ولكن سرعان ما يعتنقان وكأن آخر لقائهما كان بالأمس القريب عندما كان يتجولان بين العنابر , قبل " صفارة " الصول التي تعلن انتهاء الطابور .

وفي بعض الأحيان عندما يذهب المرء إلى مأتم لتقديم العزاء في أخ كريم قد رحل , فتنظر في السرادق وتجول العين في أنحائه فيجد إخوة كراما أعزاء , وقد عمل فيهم عامل الزمن بفرشاته فكأنهم فريق من الممثلين قد جرت يد " ماكيير" مبدع عليهم فتغيرت ملامحهم ولكن تعرفهم بسيماهم , وكثيرا ما يقوم هذا ليحيي ذاك في حب صادق وشوق حقيقي ويتحول العزاء إلى نوع من الاحتفال باللقاء .

القيادة من الحرس القديم

بدأت قيادة الإخوان نشاطها في جمع الشمل قبل موت عبد الناصر وبلغ هذا النشاط ذروته بعد موته , ولعلهم قد صنعوا شيئا غريبا فريدا في نوعه , فهو تنظيم بغير تنظيم , وترابط بغير تشكيل , وبيعة غير معلنة وعهد صامت وتصميم حديدي على العمل من أجل الإسلام , والتزام لا تعرف كيف نشأ وصعب عليك أن تدرك كيف تكون والمباحث لا تدري وما ينبغي لها أن تدري وما تستطيع والله من ورائهم محيط.

ويقف خلف هذا البنيان رجال من الصلب والفولاذ هم قيادة الحرس القديم واستطاع رجال الحرس القديم الذين قاموا على أمر الجماعة في هذه الفترة المضطربة أن يكونوا " كوادر " جديدة لم تؤثر فيها الخلافات والتناقضات الثانوية التي تحدث بين الأصدقاء كما يقول أصدقاؤنا الشيوعيون ولولا الشك والحذر لصاروا في حالة أكبر وأعظم مما هم عليه الآن .

فقد كانوا يتحركون والشك قانون يحكمهم والحذر ميراث فرضته عليهم التجارب والمآسي التي مرت بهم وجرت عليهم .

ورغم هذا فلم ينجح رجال الحرس القديم في تسوية النتوءات الحادة التي ظهرت في مجتمع معتقل طرة السياسي والتي تمثلت في بذور جماعات تنتهج العنف والحرب كطريقة لا محيص عنها في مواجهة أعداء الدعوة .

وعندما تنظر اليوم تجد أن هذه البذور قد أفرخت فيضانا من الجماعات والتصورات قد ملأت البلاد وانتشر أثرها إلى خارج مصر , وأصبح لا يخلو مكان في المعمورة منهم , وقد عظم أمرهم اليوم وصارت حالتهم أكبر من أن يحتويها نقاش أو حوار؛

وأغلب ظني أنهم الذين يرثون الأرض , بغض النظر عن صحة منهجهم من عدمه فجميع الأطراف تتعاون على تمكينهم بعضهم عن قصد والبعض الآخر عن غير ذلك, وكل الظروف تشير إلى أنهم يسيرون في طريق نهايته الحكم والسيطرة والانتقام ممن خانوا قضية الإسلام , هم في نظرهم كثير.

كانت مهمة رجال الحرس القديم شاقة وعسيرة ولكنهم كانوا يقومون بها بجد وحماس ودأب ودون فتور , وكانت تقابلهم العثرات والمشكلات والصراعات كلما اقتربنا من قمة " الهرم الإخواني " إن جاز التعبير .

فهناك نوعان من هذا الحرس :

حرس مستأنس داجن ثابت على دعوته حريص عليها بطريقته , وحرس حديدي صارم مستفز , مصر على تحويل الهزيمة نصرا مهما كانت العقبات .
وكان الصراع بين النوعين وكانت الغلبة للأخير لأنه الأكثر حماسة والأقرب إلى نفوس المستذلين والمستضعفين في الأرض .

كان الصنف الأولي يري احتواء الحكومة والنظام وأن من السهل الدوران حوله واختراقه وخداعه أما الصنف الثاني فيري التجمع والترابط , وترك هذا النظام حتى يذوي ويتلاشي ويغرق في أخطائه حتى الموت , وكان لا يري الاقتراب منه , بل يري الحذر من الاختلاط به , ولا يري هدنة معه بحال من الأحوال .

وكانت كل الأسماء لامعة ومشتهرة من الفريقين .

وقد أفرز هذا الصراع مدرسة فكرية ينتمي إليها الكثير ويمكن أن نطلق عليها مدرسة الإخوان المسلمين وقد يخرج عن هذه المدرسة شئ جديد لا يزال في رحم الغيب .

أو أن هذا سوف يكون فهي سنة الأيام وقانون التاريخ , واختلاف الليل والنهار .ولعل هذا هو سبب اضطراب الأجهزة في تصنيف الناس ,فصعب على الأمن أن يتصور ما آلت إليه جماعة الإخوان (وما ينبغي لهم وما يستطيعون).

فقد صار الأمر أكثر عمقا من تقرير يكتبه مخبر جاهل ليقرأه ضابط لا خبرة له , في عالم قد تعددت مساربه وصار أكثر تعقيدا وتركيبا من أن تفك طلاسمه عبر ملفات قد غطاها التراب , أو تقارير أقل ما يقال عنها إنها سطحية بعيدة عن الصدق والدقة في معظم حالاتها .

وأهم عوامل التمكين لهذه المدرسة هو مسلسل الاضطهاد والظلم والتضييق وتجاهل أوليات علم الاجتماع ومبادئ دراسة التاريخ والمعرفة بنواميس الكون , كان من أكبر دعاة الالتفاف حول النظام وتطويقه واختراقه هو الحاج صالح أبو رقيق والأستاذ فريد عبد الخالق وآخرون , وكان منهم المرحوم منير دلة قبل أن يموت وهذه كلها استنتاجات أملتها على المشاهدات والملاحظات .

النظام يصفي نفسه !

وكان المرشد العام المرحوم حسن الهضيبي يميل بطبيعته وبحكم خبرته إلى الصنف الذي يدعو إلى التماسك والترابط وعدم الاختلاط بالنظام وينهي عن مهادنته بل هو يأمر بحرب صامتة لا يستخدم فيها السلاح وانتظار لحظة النصر عبر هذا الطريق وكانت له قولة مشهورة.

سوف يصفي هذا النظام نفسه فلا تستعجلوا الزمن فإن الله لا يعجل بعجلة أحدكم .

وكان محمد قطب نسيج وحده فهو لا يناور ولا يلف ولا يدور , ويصل مباشرة إلى الهدف الذي يريد هو أن جماعة المؤمنين يجب أن تتميز عن المجتمع وتستعلي عليه بما أنعم الله عليها من الإيمان , وتعلن هذا وتدعو إليه , والأمر لا يستحق السرية والشهادة أمر سهل , ولا تكون إلا لمن أنعم الله عليه وكلما دفعنا إلى الساحة بشهيد اقتربنا من النصر وزادت فرصتنا في إعلاء كلمة الله .

والفرق بينه وبين أصحاب العنف أنه يدعو إلى الثبات والمواجهة بكلمة الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , وأن ننطلق بوضوح ودون مواربة وإن كان لابد من شهداء فليسقطوا تحت هذا الشعار ويوما سوف ينتصرون ويتبين الشعب إلى أى شئ يدعون الناس .

والآخرون يرون المواجهة بالرصاص والمدفع والانتقام والبطش بالجبارين و البحث عنهم وترصدهم وتصفية كل من يعاونهم وإن سقط أبرياء في هذا المجال ويقولون إنه مهما مات من الأبرياء فلن يبلغ عددهم عدد الذين ماتوا من الجوع والعطش على رمال سيناء عام 1967 أو الذين حصدتهم نيران اليهود في الحرب والذين ضاعوا وأبيدوا بإرادة قائد جاهل وزعيم كاذب لا يري ذاته في مرآة المجتمع والتاريخ .

وكانت هناك اتجاهات مختلفة وكثيرة تجمع من بين هذه العناصر, وتمثل أشياء جديدة تختلف عن سائر ما قدمنا وشرحنا , ولكنهم جميعا يندرجون في مدرسة الإخوان المسلمين التي نجت من الفناء , وصارت كشجرة طيبة قد ثبت أصلها فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها على نحو ما وبطريقة ما .

(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

وقد استقطبت هذه المدرسة إليها كثيرا ممن اعتقلوا تحت اسم آخر غير الإخوان المسلمين , وهؤلاء جري عليهم ما جري على غيرهم في التوجه الإسلامي بأنماطه المختلفة وصوره المتعددة .

والذي أذكره ولا أنساه أبدا أن الأيام الأخيرة لى في المعتقل قد شهدت وسمعت كل جموع المعتقلين وهم يفخرون بانتسابهم إلى الجماعة ويعلنون ذلك ولا يتبرءون منه وتذكرت أيام الاعتقال الأولي حيث الإرهاب الذي لم يسبق له نظير عندما كانوا يأمروننا بلعن الجماعة والتبرؤ منها فرادي أو ونحن مجتمعون عبر هتافات مؤلفة مؤثرة التنغيم كاذبة المعني , يعرف كذبها كل من يرفع عقيرته بها عاليا وكنا نفعل ذلك بالليل وفي النهار , وفي كل مناسبة وبلا مناسبة حتى أدرك كل واحد فينا أنه عرض ردئ لنص بالغ السوء لا يشعر به الممثلون ولا يحسونه , فهم يقدمونه كل ليلة على خشبة المسرح وإحساسهم كبير بالغثيان .

ولكن يأتي الوقت الذي يغير فيه الممثلون أداءهم ويرفضون النص الهابط ويعلنون ذلك بغير مواربة , ويظهر موقفهم الحقيقي في أشد الظروف ظلاما وقسوة .

فق لعن عبد الناصر وعهده بأعلى صوت , وأعلن الكل تمسكه بشرف الانتماء إلى جماعة الإخوان ولتذهب التقارير إلى الجحيم , ولتذهب كل الأجهزة أيضا إلى الجحيم لقد صنعت هذه الأجهزة لهؤلاء الناس شيئا عظيما لم يكونوا ليقدروا عليه , جعلتهم يؤكدون هويتهم وكانت العودة إلى الذات .

جماعة الأربعة

كانت جماعة الأربعة إن جاز التعبير تجوب العنابر شرقا وغربا للنقاش وتأكيد العهد وإزالة ما اعتري النفوس من آثار التحقيقات وكانت ندوب هذه التحقيقات كثيرة ومنها ما عميق يصعب البرء منه, ولكن وضح أنهم قد حققوا شيئا في هذا المجال , حيث صفت النفوس , واجتمع الشامي مع المغربي كما يقولون بعد أن افترقا كثيرا تحت فرقعة السياط والكلاب العاوية التي تنهش اللحم والضباط اللئام الذين لا يعرفون الشرف والمروءة بل وأبسط قواعد الرجولة والأخلاق .

وكان تكثيف الجماعة جماعة الأربعة على العشرات فمن بعدهم وهكذا حتى تصل إلى ذلك الجديد الذي يدخل المعتقل للمرة الأولي لغير سبب وجيه أو غير ذلك , قد جاء هكذا ولا أحد يعرف لماذا جاء وشاء حظه أن يبقي حتى التصفية النهائية فصار من الأقطاب , وصنف في أول القوائم .

حوار مع المرحوم الهضيبي

كنت كثيرا ما أتسلل إلى مكان المرشد العام المرحوم حسن الهضيبي حيث كان يقيم في المستشفي وكان يساعدني على ذلك الأستاذ مأمون الهضيبي فقد كانت هناك أحاديث عامة في قضايا مختلفة, وينبغي أن تنقل إلى جمهور المعتقلين من الإخوان ولا يتسني ذلك بغير هذه اللقاءات.

وكنت أحد الذين يقومون بمثل هذا الدور .وكانت هناك أحاديث خاصة تنقل إلى الإخوان عبر قنوات لا أعلم عنها شيئا ولم يكن لى دور فيها من قريب أو بعيد .

وفي مرة من هذه اللقاءات سألته:

وكان رحمه الله مهذبا صبورا جم الأدب , يعمل حسابا للصغير قبل الكبير , رغم مكانته وهيبة الجميع له بلا تمييز وقال لى :

- من أى ناحية ؟

- من كل ناحية .

وشرد الرجل ببصره قليلا وقال :

- كثيرا ما سألتني عن هذا الموضوع كأنك لم تشف غليلك بعد!

- كلا يا فضيلة المرشد .. ولكن ألا تراه موضوعا يستدعي الأسئلة الكثيرة ؟

- معك الحق يا بني .

هو موضوع جدير بالتأمل والبحث , ولكن سره قد مات مع إعدام هنداوي ومحمود عبد اللطيف والتفسير الحقيقي لهذا الحادث عندهما , وربما عند آخرين على قيد الحياة , ولكن أني لنا معرفتهم ؟

- يقولون هو من صنع الإخوان دون إذنك .
- ليس هناك ثالث لهنداوي ومحمود يعرف شيئا عن هذا الموضوع , وليس من العدل أن تعتبر هذه الجماعة الكبيرة قد انحصرت في هذين , ظني أنهما قد استدرجا إلى هذا الأمر , أحدهما أو كلاهما , بطريقة لم يتسن لى معرفتها شخصيا رغم أني قد أكثرت في الأسئلة مثلك مع عشرات ممن أعرف , وهناك من الجرائم ما يصعب الكشف عنها لسنين طويلة , ثم تعرف فجأة وقد يأتي ذلك اليوم .

- والجهاز السري ؟

- تقصد النظام الخاص ؟

- الاثنين معا يا صاحب الفضيلة .

- الجهاز السري اسم أطلقته الحكومة على النظام الخاص بعد أن أعيد تكوينه وابتسم الرجل وشرد ببصرهوقال :
- هل تعرف أن هذا الملف لم يغلق بعد؟

- وسألته في لهفة :

- أى ملف يا فضيلة المرشد ؟

وقال الرجل :

-: ملف النظام الخاص.

واعترتني الدهشة وأنا أقول :

- رغم كل ما جري من تحقيقات ؟

- لم تحدث تحقيقات على الإطلاق في كل قضايا الإخوان بعد ثورة يوليو .

- وبماذا تسمي ما حدث ؟

- يمكنك إطلاق أى اسم عليه غير اسم التحقيقات .

- واستعاد روح القاضي القديم وهو يجلس للحكم على المنصة :

- نعم يا بني ... التحقيقات شئ يختلف .. ما حدث ليس بتحقيقات ووجدت الرجل رحمه الله زاهدا في الحديث حول هذا الموضوع ويفضل الابتعاد عنه والكلام في أى شئ سواه ورغم هذا ألححت عليه بالسؤال :

- كانت سياستك هي تصفية النظام الخاص.

- هذا من الطبيعي يا بني .. نظام خاص كان عبد الناصر أحد أفراده , ثم انتقل إلى الجانب الآخر ويعرف كل شئ عنه , ماذا تنتظر مني أن أفعل وأنا على رأس الجماعة ؟

- وقلت له بإصرار : كان ذلك قبل الثورة .

- قبل الثورة كان الأمر يختلف ..

- وسكت قليلا كأنما يتذكر ما حدث في السنين الماضية ثم قال :

- كانت هناك مجموعة قد عرفت لأجهزة الأمن , وكان لابد من ابتعادها قليلا عن دائرة الضوء , وكان النظام قد ابتعد قليلا عن أغراضه في تحرير البلاد الإسلامية وعلى رأسها مصر التي كانت تحت الاحتلال , وإن شئت الدقة فقل إنه أوشك أن يبتعد عن أهدافه وأغراضه , وقد جئت للجماعة والعاصفة الهوجاء تهب على الجماعة ويجب أن نعمل حسابا لهذه العاصفة ومن حقي أن أعزل رئيس النظام وأن أضع آخر مكانه لأمور أراها وأقدرها, وقد أتكلم فيها مع بعض؛
وقد أذكر كل الأسباب والدواعي وقد أخفي بعضها حسبما يقتضيه الظرف وحسب التقدير العام للموقف والقرار هو كحكم القاضي وهو لا يصدره إلا بعد توافر كل المعلومات لديه , أمر القاضي وقراره يختلف عن رؤية المتفرجين؛
وإن كان القرار يتعلق بكيان الحركة الإسلامية في العصر الحديث فلك أن تقدر صعوبته والوقت الذي استغرق لإقراره ,والتفكير العميق حوله قبل ذلك , ومن الصعب الدخول في تفصيلاته الآن لا يزال الملف مفتوحا !

- وسكت الرجل عليه رحمة الله مسترجعا ما فات من أحداث .

- وجلست أمامه صامتا أنظر إليه وأتمنى لو أكمل حديثه , واستمر :

- بعد قيام ثورة يوليو وتأكد انفصالها عن حركة الإخوان كان لابد من رؤية جديدة وشاملة لكل شئ .. مجموعة كانت معك وتأتمر بأمرك أو هكذا كانت تدعي , ثم أقامت دولة وانفصلت عنك وهي تعرف كل أسرارك .. هذه حالة تحتاج إلى معالجة جديدة مختلفة يجب أن تعيد ترتيب البيت من جديد وكل ما يعرفونه عنك ينبغي أن يدخل عالم الأسرار مرة أخرى فكان لابد من تصفية النظام الخاص الذي يعرفونه تصفية حقيقية وكاملة لحماية الإخوان حيال عدو شرس لا يتقيد في عداوته بقواعد الأخلاق والدين .

- وبدت في وجه الرجل الذي غضنته السنون امتعاضه الذكري ..

وأسرعت أسأله :

- ولكن فضيلتك أقمت نظاما جديدا مكان القديم .

- وقال :

- هذا جيش وحتى تعمل على علاج حالته لابد من تشكيل جديد.

- قد فكر هذا التشكيل الجديد في مقاومة الحكومة والقيام بحركة الاغتيالات .

- من قال هذا ؟

وابتسم وقال :

قد قلت لك , لم تكن هناك تحقيقات وهناك فرق بين التفكير وتبادل الآراء حول بعض النقاط , ثم تذهب هذه المناقشات إلى صاحب القرار فيري فيها رأيه حتى ما تسميه بالتحقيقات لم يثبت فيها أنني أمرت بشئ من هذا على الإطلاق .

- لماذا اختفيت ؟

- جاءت معلومات مؤكدة أنهم ينوون قتلي .

- وهل تخشي الموت أو القتل ؟

- وعاودته ابتسامته الواثقة وقال :

- لكل أجل كتاب .. ولكن .. لو اغتالتني الحكومة بأية طريقة ألا تتصور أن هناك فتنة دامية سوف تكون ؟ لقد اختفيت خوفا من إراقة دماء المسلمين , لم يكن جمهور الإخوان يعرف طبيعة ما يجري , وظل عدد كبير منهم يظن أن ما يراه من خلاف مع الحكومة إنما هو خلاف داخل صفوف الجماعة .

- واليوم .. ماذا تري ؟

- وبابتسامة عذبة قال :

- البركة فيكم .

وكانت هناك عشرات الأسئلة كان يجيب عنها بالصمت ولا يتكلم إلا عندما أغير السؤال أو أتكلم في موضوع آخر .

الحاج صالح أبو رقيق

اختفلت شخصية الحاج صالح أبو رقيق كثيرا بعد موت الزعيم فقد فارقه قدر كبير من حذره الذي اشتهر به كان يتكلم ولكن في حدود بعد هذا الحادث المفاجئ الذي غير الحياة في مصر صار يتكلم بحرية أكثر وحذر أقل .

عندما تنظر إليه تلمح في عينيه دهاء بعيد الغور , ويشملك بنظرته فكأنه الصحراء المترامية لا تعرف مداها ولكنها محيطة بك .

ويقول:

- قصة الإخوان سياسية في المقاوم الأول وينبغي على الإخوان أن يدركوا هذه الحقيقة ويتبينوها ويتعلموها أيضا , نحن في صراع لا ينتهي أمام قوي نعرف بعضها ولا نعرف البعض الآخر , ولكن عندنا من الوعي والنظر ما يمكننا من فهم ما يحيط بنا ولا ينبغي أن نقف جامدين أمام الأحداث بل علينا أن نستوعبها ونطوقها ونغير من خططنا حسبما تمليه علينا الدواعي والظروف .

وأسأله مداعبا :

- وقصة الاتصال بمستر إيفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية أثناء مفاوضات الجلاء عام 1954 ؟
- ويضحك ساخرا ملء شدقيه في مرح حقيقي ويقول :
- هذه قصة قد أكل الدهر عليها وشرب , وأنت تعرف حقيقتها , وقد مات من أدخل عليها التعديلات المخلة , هذه قصة قديمة .

- وهل هناك قصة جديدة ؟

- ويأخذ وجهه طابع الجد وهو يقول :

- نعم .. موت عبد الناصر هو علامة لتغير في سياسة مصر والعرب وفي نظرة الغرب إلينا .. هو بداية لمتغيرات كثيرة أن نعيها ونفهمها ونتصرف على ضوئها .. يجب أن ندرك العلامات المهمة التي تطرأ على الحياة ويجب أن نعرف كيف نستفيد منها , وينبغي ألا نتأخر في فهم الحدث إذا وقع .

- وماذا هناك ؟ مات عبد الناصر وجاء السادات !

وهز رأسه نافيا :

- لا .. الأمر مختلف وسوف تري . لقد ترك عبد الناصر مدرسته تحكم وتدير البلاد .. وهي تتخذ السادات سلما للوصول إلى الحكم وقلت له :

- وما هي مدرسة عبد الناصر ؟

- أووه .. على صبري .. سامي شرف .. محمد فوزي ..هيكل .. الاتحاد الاشتراكي .. المخابرات . الدولة كلها ..والسادات على رأسها .

- هو دخيل على هذا الكيان , وسيحاول الخلاص منه في أقرب فرصة وهل يستطيعون ؟

- وسكت الرجل طويلا وعيناه تدوران في محجريهما وقد تجمع فيهما خلاصة ما يمكن للمرء أن يتخيله من دهاء وعمق وتفكير ثم سكن وبدت عليه علامات الاهتمام والجد وقال:

- لا أظن.. هناك صدام وشيك سوف يخرج فيه السادات منتصرا ودهشت :

- ويتخلص من كل هؤلاء ؟

- نعم ..

- كأنه يقضي على الدولة ؟

- هو يقضي على دولة عبد الناصر ويقيم لنفسه دولة جديدة هو رئيسها وولي النعم فيها , هذه سنة الحياة .. السادات شخصيته لا يعرفها كل هؤلاء .. يرونه غرا يسهل عليه وتسييره وهو ليس كذلك .

- وما دخل الإخوان بكل هذا ؟

- وتبدو علامات الاستنكار على وجه الرجل وهو يقول :

- دخلنا بكل هذا ؟ هذه هي فرصتنا للخروج من هذا القمقم الذي وضعنا فيه .. والفرص الكبيرة لا تتكرر كثيرا في هذه الحياة .. يجب أن يستوعب الإخوان هذا الموقف ويستثمروه لصالحهم .
- أنت تتكلم عن غيب لم يأت بعد , بل تتصوره وسامحني لو قلت تتوهمه .
- سوف تري بنفسك وفي وقت قريب .

- وأمريكا ؟

وانفعل الرجل وهو يقول :

- وما أمريكا ؟ هم حفنة من البشر لهم عقول ولنا عقول هم رجال ونحن أيضا رجال , ولا نقل مهارة عنهم ولا ينبغي لنا .

فريد عبد الخالق

وفي ملابس جميلة أنيقة وبابتسامة عذبة لا تفارقه أبدا تجد الأستاذ محمد فريد عبد الخالق وهو يسير في الفناء جيئة وذهابا , وفي وجهه بشر لم يفارقه أبدا منذ رأيته لأول مرة مسلوخ الساقين من التعذيب في السجن الحربي , حتى أناقته في الطابور بمعتقل مزرعة طرة السياسي بعد موت عبد الناصر .

ويقول في استنكار :

- ما العجيب في موته ؟ أليس بشرا يجري عليه ما يجري على الأحياء ؟

- وأقول له :

- سامحني يا أستاذ , رغم يقيني بما تقول فإني أري موت عبد الناصر عجيبة من العجائب وغريبة من الغرائب , وأنا على يقين من أنه بشر كما تقول .

ويضحك الرجل بعذوبة ويقول :

- لقد صنع لنفسه نظاما كان سيقتله ويقضي عليه لو لم يمت , وهذا هو منطق المستبد عبر التاريخ .. وما يعنينا الآن هو ماذا بعد عبد الناصر ؟

- وقلت له مستدرجا :

- السادات بعد عبد الناصر .
- وضحك الأستاذ فريد عبد الخالق ضحكته العذبة المميزة :
- أتكلم عنا نحن الإخوان المسلمين .
- المفروض أن هناك قرارا بحل الجماعة .

وقال الأستاذ فريد :

- مثل هذه الجماعة لا تحل بقرار لأنها أمل المسلمين في القرن العشرين , وعليها أن تواجه محنتها بشجاعة , والطريق الوحيد في رأيي هو الاهتمام بالتربية والثقافة والتعليم فينشأ الجيل المسلم القادر على تحقيق الأهداف .
- أما موت هذا وحياة ذاك فهي أمور مما يجري على الكون والناس . صحيح إنها فرصة جيدة لاستنشاق مزيد من الهواء النقي , ولكن ليس الكثير, علينا أن نهتم اهتماما كبيرا بالتربية والثقافة فهما الطريق المضمون المأمون .
- وقطع حديثنا بعض الذين جاءوا يحيونه ويتحدثون معه واستأذنني بتلطف . وأدب بالغين .

الاتحاد الاشتراكي نظم جنازة عبد الناصر

مات عبد الناصر تاركا بلده وقد احتله اليهود وتحكمت فيه أمريكا أكثر.

وكان من تركته المثقلة ذلك العدد الكبير من المعتقلين أو من صفوة الدين يحملون الأفكار على تناقضها وتباينها ولم يكن ينوى أن يفرج عن شخص واحد من كل هؤلاء المجتمعين في طرة , فقد كانت هذه عادته منذ أن منيت البلاد بحكمه , فعندما سحق الجيش وارتفع العلم الإسرائيلي على ضفة القناة , حشر فنادي فجاءوا بالسياسيين والأعيان والكبراء وكل من يظن فيه قدرة على إبداء الرأي والمقاومة ورأيتهم بعيني يوم الجمعة 9 يونيو سنة 1967 في معتقل أبي زعبل السياسي , ثم نادي في ظلمات التليفزيون أنه يتنحي وأهل الرأي والسياسة يضربون في أبي زعبل وحملت الشاحنات الأنفار والصعاليك من كل بلاد مصر حتى تري صحافة العالم كيف يتمسك المصريون ببطل إسرائيل الذي قدم لها أعظم خدمة في تاريخها القصير .

وقالوا ببجاحة ووقاحة إنها مظاهرات تلقائية تعبيرا عن رغبة قوي الشعب العاملة في دعم الإمبراطورية اليهودية.

وأخبرني أحد الأصدقاء وكان محافظا لمحافظة بالوجه البحري , وكان أيضا من الضباط الأحرار أنه في ذلك اليوم الأغبر المشئوم جاءته إشارة عاجلة من الأمين العام للإتحاد الاشتراكي بالاستيلاء على كل وسائل النقل في محافظته وشحن أكبر عدد يمكن له من النعاج والحمير وإرسالهم إلى القاهرة على وجه السرعة , والأوامر أن يلقي بهم في أى ميدان أو أى مكان , وهناك سيجدون الدليل الذي يقودهم إلى بيت" الملهم " لمنعه من التنحي "

وقد أخبرني ذلك الصديق أن الأوامر كانت تقضي بصرف مبالغ لكل رأس من خمسة وعشرين قرشا إلى جنيه , وحددوا التعريفة فالأفندية يصرف لهم جنيه والعمال والفلاحون خمسة وعشرون قرشا على ما في ذلك من مناقضة لنص صريح

وعندما زال خطر العقلاء والسياسيين القدامي صرفوهم وأخرجوهم , وكان ذلك بعد أن قال الشعب كلمته .

ونزولا على إرادة الأمة وامتثالا لأمر الشعب ظل " الملهم " جاثما على صدر مصر .

وخبا الأمل في النفوس , وضاعت الفرصة في الخلاص . ولم يكن هناك من حل غير " عزرائيل " وبالصورة التي يراها وحسبما هو مقدر ومكتوب .

وجاء الحل فريدا وعبقريا ولا تهمنا الطريقة التي استخدمها عليه السلام.ولا يعنينا هل دسوا له السم ؟ هل فعلها أصدقاءه أو أعداءه ؟.

ولكن الذي أثار اهتمامنا وأبهجنا أنه قد ذهب إلى غير رجعة ,وكل من تركهم من تلامذته وصبيانه يتساقطون واحدا بعد الآخر بذلك الحل العبقري الفريد , فليس للشعب من دور لقد حطمت كبرياء الأمل وقل بها عدد الرجال ,ولم يعد أمام أحد غير النظر والاعتبار في السنن والنواميس .

وبالنسبة لمصر سوف يظل" عزرائيل هو الحل " ولفترة لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالي , وبالطريقة التي سطرت في الأزل .

( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)

هكذا قال لى شكري مصطفي عندما سنحت الفرصة بصعوبة للحديث معه عن موت الزعيم بذلك المسجد المهجور في يوم حار عند انتصاف الشمس .

الفصل الثاني:" وقد أفلح اليوم من استعلي " الطريق إلى العنف

" من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ,ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون * ولله الأسماء الحسني فادعوه بها , وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون * وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون)

الاضطهاد وهو الأب الشرعي للعنف

بين موجة الفرحة الغامرة التي شملت الناس جميعا غداة موت الزعيم , والتي شملت كل من بالمعتقل المؤمنين منهم وغيرهم على حد سواء , وبعد أن فرض الخبر نفسه وصار حديث الجميع بغير تمييز , كان هناك واحد من أشد أعدائه لددا وخصومة وحقدا وبدا وكأنه قد اغتاظ من موته , وقد ظهر ذلك في تقطيبه الشديد وتجهم وجهه الذي زاد .

هذا هو زعيم التكفير حسبما يحلو للمباحث أن تسميه شكري مصطفي.

فعندما بلغني خبر موت الزعيم كان من أوائل من خطروا ببالي هو شكري مصطفي وظننت أنه سوف يكون أسعد الناس بهذا الخبر , ولما رأيته على هذه الحال التي زاد معها ضيقه تعجبت , ولم أربط في أول الأمر بين خبر الوفاة وما بدا عليه من تجهم وضيق , وقلت لنفسي لعل أمورا أري تعكر مزاجه فأنسته الفرحة بموت عبد الناصر , التي تعني الخلاص من هذا السجن .

وترجع معرفتي بشكري مصطفي إلى أيام التعذيب الأولي في السجن الحربي, ثم رجعنا إلى معتقل أبي زعبل على قدر , وجمعنا عنبر الزعماء هكذا كانوا يسمونه ثم انفصل مع الآخرين إلى زنازين شمال عندما رفضوا تأييد " الملهم " حينما كنا نرفع عقيرتنا بالهتاف بأننا وراءه إلى أى مكان حتى الجحيم وكانوا يرغموننا ويكرهوننا إكراها أدبيا وماديا أن نكتب وثائق بالدم لتأييد " الملهم " وأننا فداءه , وهذا ما قاله الشعب لكل الفراعين .

وهو ما رفضه شكري مصطفي وجماعة معه ذكرت أسماءهم بالتفصيل في البوابة السوداء . وتغيرت أحوال شكري مصطفي داخل زنازين شمال .

ومن داخل هذه الزنازين نضج فكر الرفض الذي بلغ مداه عندما قالوا بكفر الحكومة , وزادوا في هذا حتى اعتبروا أن الأرض كلها دار حرب ليس فيها إسلام .

وقد تم هذا كله على مراحل , كانت تزداد حدتها وحرارتها مع توالي أيام الاعتقال وزيادة الضغط , وخيبة أمل الحكومة في كل المجالات , وفشلها المتلاحق في أمور السياسة والحرب والتنمية ورغم أن هذه كلها ليست مبررات كافية لموقف فكري بالغ الحدة والتوتر إلا أن هذا هو الذي كان و وليس هنا مجال توصيفه وشرحه .

ثم غادرنا معتقل أبي زعبل السياسي وغادره معنا أهل زنازين شمال , وذهب الجميع إلى معتقل طرة السياسي حيث المستقر والمستودع إلى أن يأذن الله بما يشاء وفي معتقل طرة السياسي تميز الناس , ومات الزعيم فتميزوا أكثر , ووضحت الرؤية أمام الجميع , وانحاز كل إلى حيث يزيد .

وفي معتقل طرة السياسي انعزل شكري مصطفي وفريق معه, وتجنب الآخرين تجنبا كاملا لا يؤاكلهم ولا يشاربهم ولا يحادثهم هو ومن تبعه من المؤمنين به وزاد من هذا الانفصال ذلك الموقف الذي وقفه شكري أمام حسن طلعت رئيس المباحث الذي جاء يزورنا ليواسينا فسمع من شكري يومها ما أوجعه وما أوجع الإخوان وأسعدهم أيضا, فقد أشبع رغبتهم في النيل من هذه الحكومة المستبدة , وفي الوقت نفسه خافوا من تقرير حسن طلعت إلى الإدارة السياسية العليا , وهي بالتأكيد سوف تزيد في النكال بهم .

لهذا كان الإخوان يعجبون بشكري مصطفي أنه وقف وسب الحكومة سبا بالغا ,لكنهم يتجنبونه ويتحاشونه وهو أيضا يفعل ذلك , ويسرف في هذا التجنب استعلاء عليهم فهم من وجهة نظره على الباطل ويحبون الدنيا ويكرهون الموت لهذا كان موقفهم المتخاذل أمام هذه الحكومة المستبدة العنيدة الكافرة الفاجرة من وجهة نظره .

حوار مع شكري مصطفي

احتلت حتى أجد شكري مصطفي وحده فأتكلم معه وسنحت هذه الفرصة يوما ما بين صلاة الظهر وصلاة العصر , ووجدته في المسجد المهجور جالسا وحده يقرأ في المصحف, وجلست بجواره صامتا أنتظر أن يفرغ من قراءته .

وفرغ منها ولم يلتفت إلى وأيضا لم يغادر المكان ففهمت أنه غير مستاء لوجودي وتشجعت وتحدثت :

- كنت أود الحديث معك منذ فترة طويلة .

- .....


- لماذا لا ترد ؟ هل ضايقك وجودي ؟

- واعتدل شكري مصطفي وصار يتأملني للحظات ثم قال :

- أحببت أن أعرف رأيك في موت جمال عبد الناصر .

وأجاب بسخرية واضحة :

- تحقيق صحفي ؟

- ليس هكذا بالضبط . لا توجد هنا صحافة . أم تقصد شيئا آخر ؟

- وتنهد وبدا عليه كأنه يشفق على وقال :

- لست أدري وأنت العاقل الرشيد كيف ترضي بما أنت عليه من كفر ؟

- وابتسمت وقلت :

- سوف أجيبك عن سؤال بعد أن أسمع إجابتك.
تسألني عن رأيي في موت جمال عبد الناصر ؟

- وقلت له مشجعا :

كأنك اغتظت من موته .
- هذا صحيح

- لماذا ؟

كنت أود أن أحظي بشرف قتله .

- هذا أمر صعب .. هناك الحرس والجند والمدافع .. ثم أخبرني لماذا تقتله ؟

ألا تراه يستحق القتل ؟

- وقلت له :

- قد يكون مرتكبا لجرائم يستحق عليها القتل .. ولكن من يعطي لنفسه حق القتل ؟ لابد من محاكمته وأن يقضي قاض بهذا إن كانت التهم ثابتة . وأن يمنح حرية الدفاع عن نفسه وأن يمكن من هذا .

- وضحك ساخرا حتى ظننت أنه لن يكف عن الضحك ثم قال :

- هذه أول مرة أضحك فيها من قلبي منذ أيام التعذيب .
وكنا في أيام التعذيب نضحك كثيرا من جهل الضباط وما نراه من مفارقات كثيرة ثم كف عن الضحك ونظرا إلى جادا وقال :
- أنت تسخر بطبيعة الحال .
- أنا جاد كل الجد.
- أريد أن أعرف رأيك أنت بصراحة ألا تراه يستحق القتل ؟

- وفكرت قليلا ثم قلت له :

- هو من وجهة نظري يستحق القتل ولكن لابد أن يحكم بهذا قاضي الشعور شئ والعدل والإحسان ونظام المجتمع شئ آخر , ونحن لسنا قضاة وقال شكري ساخرا :

- انتم دعاة لا قضاة..

وكان هذا هو الشعار الذي رفعه حسن الهضيبي وسري في مجتمع المعتقلين وقلت له :

- هذا صحيح نحن دعاة لسنا قضاة

- ألا تري الأمر مضحكا ؟

- لا .. ليس مضحكا على النحو الذي تظن . ولو أعطيناك حق قتل جمال عبد الناصر دون محاكمة وهذا أمر صعب فسوف نعطي غيرك حق قتلك , سوف نمنح الفرد حرية القصاص على النحو الذي يراه , ومن ثم ستعم الفوضى كل أرجاء البلاد.
- من يرد أن يقتل آخر فسوف يفعل .. أى حياة سوف يحياها الناس لو صار الأمر على هذا النحو ؟ كل إنسان له من عدوه من يفكر في قتله . الظلم والاضطهاد ووجود حكومة فاسدة شريرة مثل التي تحكمنا أقل ضررا من التصور الذي تقوله .
- وسكت طويلا مطرق الرأس .. وكنا متربعين على الأرض , قد جلس شكري على قطعة من القماش يحملها أينما ذهب , بينما جلست بجانبه على التراب فلم أكن أحمل قماشا مثله في يدي أثناء تحاولي عبر العنابر والفناء.
وطال صمته!

وقلت له :

- لم تخبرني برأيك فيما قلت .
- ورفع رأسه وكانت عيناه الواسعتان السوداوان تمتلئان بالشرر , ولكن تكلم في هدوء وقال :
- أنت لا تري مقاومة الحكومة والعمل على القضاء عليها ؟

- وقلت له :

- حكومة مثل حكومة جمال عبد الناصر من لا يعمل على إزالتها مخطئ إثم مقصر في حق نفسه وبلده, وهو لا يختلف عن الدواب .

- وحملق في وجهي مستفسرا بينما واصلت الحديث :

- لا يوجد شخص واحدا في هذا المعتقل موافق على بقاء هذه الحكومة , والدليل على ذلك هو وجودنا جميعا في الأسر .

- وفي حدة قال :

- هي حكومة كافرة وكل من لا يري هذا كافر مثلها .
- لو تأملت لوجدت أن هذا ليس لب الموضوع هذه كلمات مطاطة غير واضحة الدلالة مثل الإنسانية المعذبة واليأس القاتل والأزمة الطاحنة , هذه كلمات تقع تحت باب الأدب والفن أكثر مما تقع تحت باب القانون والشريعة , ونحن أولي الناس بفهم هذه المعاني .

- ونظر إلى شاكا ثم قال :

- هل أرسلك الإخوان لتؤثر على؟
- مشكلة الإخوان أنهم لا يدركون خطورتك ولا يفكرون فيك , ولا يتناولونك تناولا جادا , أما أنا فأري المستقبل لأني قرأت الماضي وفهمته , وأكاد أتخيل ما سوف تفعله عندما تغادر هذا المكان .

- وهل نغادر هذا المكان ؟

- دوام الحال من المحال .

وأطرق ثانية ثم رفع رأسه وقال :

- لو انضممت إلى فسوف نعمل شيئا يتحدث عنه التاريخ .
وسكت طويلا محدقا في وجهه ناظرا في عينيه اللتين لا تطرفان , ويخرج منهما وهج كأنه الشمس في يوم حار , وتذكرته في عنبر 12 وديعا لا يعرف شيئا مما يدور , ويسألني عن قصة الإخوان والحكومة والإسلام والأمويين والعباسين والفاطميين وحسن البنا وجمال الدين الأفغاني؛
ولم يكن يعرف شيئا عن هذا كلها وقتها , وها هو ذا الآن يضع نفسه في قائمة دعاة الإسلام العظام الذين غادروا الحياة بعد أن تركوا فيها أثرا ليس من الصعب تجاهله , وشردت بأفكاري خلال وجهه وعينيه وأفقت على صوته :
- لماذا سكت ؟ ما قولك ؟ انضم معي وسوف نفتح هذا العالم .

- قلت :

- أيام الحروب بين المسلمين والبيزنطيين على ثغور الروم, كان كل فريق يأخذ أسري من الجانب الآخر وكان المسلمون يحسنون معاملة الأسري على العكس من البيزنطيين الذين كانوا يسيئون معاملة أسرارهم من المسلمين , وكان هؤلاء الأسري يقضون في الأسر سنين طويلة .
- وكان منهم من مات في الأسر ومن يفرج عنه ويعود إلى أهله ووطنه فهو ذو حظ عظيم ويعتمد ذلك على قدر الله سبحانه وتعالي , وعلى ظروف سياسة تقضي بحسن التعامل بين الحمدانيين والبيزنطيين , فيعقدون اتفاقا ويفرج عن بعض الأسري , ولم يكن هذا يحدث كثيرا فأقل مدة قضاها أسير مسلم عند الروم لم تقل عن عشر سنوات إذا استثنينا أبا فراس الحمداني فقد قضي أقل من هذه المدة لتدخل سيف الدولة .

وقاطعني شكري مصطفي في ضيق :

- هل هي محاضرة في التاريخ ؟

- أنت تدعوني لأمر عظيم فلا أقل من أن أعرض وجهة نظري , وأناقش ما تعرض على قبل الرفض أو القبول , وهذه أبسط الحقوق .

- وطأطأ برأسه موافقا وقال :

- الحق معك .. تفضل سوف أحسن الاستماع .

- وأنا لن أطيل عليك .. تخيل هؤلاء الأسري المسلمين الذي كانوا يعيشون في معسكرات قد أقامها لهم البيزنطيون شبيهة بهذه المعتقلات التي نعيش فيها الآن وربما كانت أحوالهم أكثر سوءا تخيلهم وهم يشغلون أنفسهم طوال النهار وشطرا كبيرا من الليل يقولون فيه لأنفسهم إنكم كفرة ويجب حربكم وينبغي قتالكم ثم ينبري واحد ويقول لو خرجت من هذا الأسر فسوف أقتل رومانوس الأول القيصر البيزنطي؛ثم يدعو غيره لموافقته والانضمام معه والاتفاق على هذا , ألا بعد ذلك ضربا من الجنون ؟

م تخيل شخصا آخر من الأسري أسري المسلمين يذهب إلى الضابط البيزنطي المشرف على حفظ النظام وترتيب المعيشة في المعسكر الأسري , ويقول له : أنتم قوم عادلون, ولو أطلقتموني من الأسر فلن أعود لحربكم مرة أخري , يقول له هذا ليخدعه بعد أن ضاق بسوء المعيشة والأسر الطويل وشوقا إلى أولاده ووطنه, وهو لا يعني هذا الكلام ولا يعتقده؛
بل كل ما يطمع فيه أن يكتب اسمه في قوائم الأسري الذي يسلمون إلى المسلمين لو حدثت معاهدة أو مفاوضات .. هل بعد مثل هذا الرجل كافرا قد ترك الملة ؟ لا أظن.

وشرد شكري مع كلامي قليلا وقال :

- أنا لا أعرف الحمدانيين والبيزنطيين ولكنهم جميعا كانوا على ملة واحدة هي الكفر .
ولم يكن القتال بينهما من أجل إعلاء كلمة الله ولكن للسيطرة والقوة .
- أنت هكذا تجرد الإسلام والمسلمين من تاريخهم هل قرأت تاريخ الحمدانيين ؟
- كلا ..

- إن كنت تنوى أن تقيم جماعة إسلامية تدعو إلى الله على بصيرة , أليس من الأولي والأجدى أن تعرف أن تعرف تجربة المسلمين بقراءة تاريخهم ؟ وعاودته سخريته ومرارته وقال :

- تريدني أن أقرأ تاريخ الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين وأولئك الذين قلت عنهم الحمدانيين ؟

وقاطعته:

- وقبل هذا كله تقرأ السيرة النبوية وتفهمها وتدرس القرآن وتفسيره وتعرف آراء أئمة الفقه مثل الشافعي ومالك وابن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم .
بل تقرأ تاريخ العالم وتلم بعلم الاجتماع وعلم النفس و...

وقاطعني ضاحكا من جديد وقال :

- تقصد أن أعكف على الدراسة ؟ كم يستغرق هذا من السنين حتى يمكن لى أن أفهمه وأستوعبه ؟
- لست أدري ولكن هذا هو الطريق الوحيد لمن يريد التعرض لمثل ما تريد أن تتعرض له .. أنت تكون جماعة لتقيم دولة .. وأبسط القواعد أن تعرف كل ماله صلة بهذا الموضوع . لقد اختلف العالم كثيرا عن ذلك الذي تتخيله منذ أكثر من ألف سنة .. وأقول تتخيله ولا تعرفه ... فالخيال شئ والمعرفة التي تبني على الدراسة شئ آخر .
وكان سكوته معناه أن الكلام قد لقي موقعا ما في نفسه .

وبعد فترة من الصمت شملتنا سويا قال :

- وما رأيك في الخوارج والشيعة ؟

- رأيي في الخوارج والشيعة ؟

- نعم .

- وفكرت قليلا وأنا أجهد نفسي حتى أستميله ولا ينقطع الحوار :

- هم أحزاب المعارضة في صدر الإسلام ... قد حكم الأمويون ومن بعدهم جاء العباسيون ولكل دولة تصورها ووجهة نظرها , وخالفهم في هذا التصور الخوارج والشيعة وأرادوا انتزاع السلطة منهم على ضوء ما اعتقدوه .

وشرد مفكرا وقال :

- أحزاب المعارضة في صدر الإسلام ؟ هل في الإسلام أحزاب ؟
- هذا ما جري .. قد تحزب الناس طول الوقت منذ أيام الرسول صلي الله عليه وسلم هذه طبيعة البشر والأشياء .. لا يتفق الناس على رأي واحد لاختلاف التصورات والرؤى ..

- وما قولك في الشافعية والحنفية والمالكية وغيرهم ؟ ألا تري في ذلك نوعا من التحزب ؟

- هو نوع من التحزب على نحو ما .. ولو كان فهم الإسلام ومبادئه وتفاصيله شيئا واحدا لقال كل من مالك والشافعي وأبي حنيفة كلاما يتفق تماما مع الآخر ...
- ولما وجدوا أصلا .. الأمر يحتاج إلى شئ من التفكير .. والتفكير العميق المتروي والانفعال لا يقيم الدول ولا ينشئ المجتمعات , بل هو يدمرها ويقضي عليها ..
- لا يحتاج الأمر إلى كل هذه القراءات والدراسات .. الإسلام واضح .. ليست معك .. هل يمكن " لتمرجي " في مستوصف بقرية صغيرة من قري ريف مصر أن يجري جراحة دقيقة في المخ ؟ أو يقوم على تغيير صمام في قلب ؟

وانفعل غاضبا :

- ماذا تعني ؟ هل أنا " تمرجي " ؟

- وحاولت تهدئته :

- كلمة " تمرجي " ليست سبا ,والإسلام قد سوي بين الجميع , أم تراك نسيت ؟ ولكن إقامة الدول أمر أصعب من إجراء جراحة في المخ , وأكثر تعقيدا من تغيير صمام في القلب , ولا يقوم بهذه الأعمال إلا خبير , و الخبرة شئ أكبر وأعظم من الدراسة وهي تأتي بعدها وإن كنت صادقا مع نفسك فلا ينبغي المغالطة على الأقل أمام نفسك .

- وعدنا إلى الصمت وقطعه قائلا :

- وأنت ؟
- ماذا عني ؟

- هل ترفض ما عرضته عليك ؟

- لم أرفضه بعد, نحن نتناقش ونتحاور لنصل إلى شئ .
- الإيمان بالله لا يحتاج إلى كل هذا التفكير والجدال .

- وغاظني كلامه , ولكني كظمت غيظي وقلت :

- في هذا المعتقل الذي نعيش فيه ما الذي يفرق بيني وبينك , وما الذي يجعلك مؤمنا ويجعلني غير ذلك ؟

- وسكت و لم يجب عن سؤالي .

وقلت :

- كل هذا من آثار التعذيب , هناك ما يبقي على الظهر والساقين من بقايا السياط , وهناك ما يبقي في العقل والنفس , والأجسام تختلف , كذلك العقول والنفوس والهدم سهل والبناء أصعب وأكثر تعقيدا .
- لم تخبرني هل توافق على الدخول في جماعة المسلمين وتبايع الإمام ؟


- تقصد أنت والدكتور عصمت بدوي ؟

- والدكتور عصمت بدوي كان هو الوحيد في ذلك الوقت الذي يتبع شكري , وكان أستاذا في كلية الصيدلة شابا عميق الإيمان, ليس على شئ من الخبرة والثقافة بأمور الدين وكل ما يعرفه أن إمامة هو شكري , وكان هذا بعد سلسلة من الانشقاقات؛

ثم انفصل هو شخصيا بعد هذا الوقت , وصار أميرا لجماعة جديدة ,وكان أعضاءها واحدا فقط هو عم حنفي وكان يعمل طباخا في فندق الهيلتون قبل اعتقاله ولا أذكر بقية اسمه .

- وقال شكري :

- وهل هناك غيرنا ؟

- هناك غيركم بالتأكيد يرون ما ترون مع اختلافات طفيفة لم يتسن لى معرفتها فهناك عبد الله بن أحمد السماوي , وهناك الشيخ على إسماعيل , وهناك ... وهناك ..

وصرت أعدد له الجماعات الإسلامية الجديدة بمعتقل طرة السياسي والتي تجاوزت الثلاثين وعدد أفرادها مجتمعين لا يتجاوز العشرين !!

- وقال شكري بإصرار :

- نحن على الحق وهم على الباطل .

وقلت له بإصرار أكثر:

- جميعهم يقولون ذلك .
والحقيقة أن كل واحد فيكم يري جانبا ضئيلا صغيرا من الحق ..
أما الحق فهو أكبر وأعظم من تلك المقولات المتناثرة على ألسنتكم هنا وهناك والحق لا يعرف بالرجال , ولكن يعرف الرجال بالحق ..

- ما يغيظني منك هو قدرتك الفائقة على الكلام الكثير والجدل .

- وما يعجبني فيك هو سعة صدرك وحسن استماعك وصبرك .

وأرضته هذه الجملة فابتسم وقال :

- وما هو رأيك أنت ؟
- في أى شئ ؟

وفي حدة بالغة تكلم وقد ارتفع صوته :

- ليست هناك أشياء غير الإيمان والكفر .. إسلام أو لا إسلام وفي هدوء وصوت منخفض قلت له مذكرا .. لقد اعتقلنا جميعا باسم الإسلام .

- وزادت حدته وارتفع انفعاله :

- ثم كفرتم وغيرتم وبدلتم (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار , جهنم يصلونها وبئس القرار)

- وتمالكت نفسي وأنا أخشي من انقطاع الحديث وأن يقوم آخذا فراشه ومصحفه ويغادرني , فقلت له متحسسا كلماتي :

- أنت تستخدم الآية وتستدل بها في غير موضعها , هذه واحدة .
والثانية أننا لم نكفر ولم نبدل ولم نغير .. وإلا فأين الدليل على ذلك ؟

- ما رأيك في محمد قطب ؟

- وتعجبت من هذه النقلة العجيبة .

ولكني قلت :

- رجل عالم فاضل مسلم يعي درس التاريخ, وله نظر واجتهاد

- وحسن الهضيبي ؟

- هذا هو المرشد العام للإخوان المسلمين , وخلاصة التجربة الإسلامية في محاولة التحرر في النصف الثاني من القرن العشرين وهو رمز للصمود عظيم .

وفي حدة بالغة قال :

- هؤلاء لا يفهمون الإسلام , وحسن الهضيبي قد استأنسته الحكومة .

- ولم أتعجب أو أستغرب من كلامه فهذا هو منطقه وهذه هي شخصيته , وعندما فكرت في لقائه والحديث معه لم أتوقع أقل من هذا وقلت له هادئا :


- قد فشلت الحكومة في استئناس حسن الهضيبي وهذه حقيقة شبيهة بالشمس في سطوعها .

- لم تخبرني برأيك ... ما هي خططك من أجل تحقيق الإسلام ؟

كيف تفكر ؟

- الحكمة والموعظة الحسنة.
- الحكمة والموعظة الحسنة ؟ نؤيد الحكومة ؟ بالروح بالدم نفديك يا جمال ؟
- أنا لم أقل هذا .. لقد ذكرت لك نصا قرآنيا .. واللفظ الذي نطقته هو " الحكمة والموعظة الحسن " حسبما أمرنا القرآن الكريم مبينا لنا سبيل الدعوة إلى الله .

- كيف تترجم هذه الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى الله مع الأخذ في الاعتبار واقعنا الذي نعيش فيه , وسيطرة الجاهلية والكفر على كل شئ ؟

- وتصورت أنها بادرة طيبة لنقاشي لعله يسفر عن نجاحي معه فيما لم ينجح فيه أحد من قبل ولعلي كنت من أكثر الناس إحساسا وشعورا بمنهج شكري رحمه الله وقلت :
- هذا هو الكلام العلمي المنضبط وأتمنى أن يكون هذا هو منهجك في التفكير دائما ,فلنسم العالم الذي يحيط بنا بأية تسمية قد تختلف عليها ولكننا سوف نتفق على ضرورة تغييره والتغيير يحتاج دائما إلى الأسلوب الأمثل .
- لابد أن نتفق على التسمية .
- الشئ المؤكد أننا نتفق على التغيير .

- نتفق على تغيير شئ نختلف في تعريفه ؟

- ولم لا ؟ كل منا يري الأشياء من وجهة نظره , وتختلف وجهات النظر في تحديدنا للأشياء .

- وقال منتصرا :

- وتختلف أيضا وجهات النظر في التغيير .

وقلت له :

- هذا صحيح.. ولكن هناك درجة من الاتفاق على الأسلوب الأمثل فمثلا إذا اتفقنا على إزالة بناية ما وإقامة غيرها فهناك قواعد عامة منطقية تحكمنا في هذا فيمكن مثلا أن نضربها بالمدافع وندكها دكا على من فيها من سكان وقد يترتب على هذا هدم بنايات مجاورة ناهيك عن قتل من فيها من بشر وهذه طريقة من الطرق .
وقد تخليها من السكان ويخرجون بأشيائهم ونكلف المهندسين بالإزالة دون أن يتعرض أحد للخطر .
- دعنا من ضرب الأمثال .
- هذا هو أسلوب القرآن الكريم , وأنت رجل مسلم فاهم للقرآن .

- وهدأ قليلا وقال :

- فلتستمر في الحديث .
- الأسلوب الأمثل هو تفهم الزمان والمكان وعدم مصادمة نواميس الكون والاقتراب من الهدف في هدوء ودأب وصبر دون تحطيم .
- هذا كلام إنشائي لا يحمل خطة .
- هذا كلام يحدد منهجا للعمل الإسلامي في بلدك مصر .

- هل يصلح هذا في بلد يحكمه جمال عبد الناصر ؟

- قد مات جمال عبد الناصر , وكنت تود قتله .

- وقال شكري يائسا :

- سوف يحكمه جمال عبد الناصر آخر صغير .

- وقلت له :

- لاحظ العلامات والتغيرات نحن ننتقل من الأسوأ إلى الأقل سوءا .
جمال عبد الناصر نفسه فهم قبل أن يموت أنه لا يستطيع المضي قدما في سياسة القمع إلى النهاية فسمح بثقب صغير للتنفس ,جمال عبد الناصر الآخر الصغير سوف يزيد من هذه السياسة تحت ضغط الشعب وهكذا .
- لا يوجد شعب .
- نحن نوجه الناس ونعلمهم وندعوهم إلى الأحسن ويوما ما سوف يستجيبون , ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .
- هذا مشوار طويل .
- لا يوجد غيره .

- وضحك شكري مصطفي ساخرا وقال :

- وبعد بيان 30 مارس يمكن أن يسمحوا بتطوير مجلس الأمة , وما يدريك ربما يسمحون بعمل أحزاب وانتخابات ... إلى آخره إلى آخره ..
- ولماذا تستبعد هذا ؟ تأكد أن هذا كله سوف يكون .. وربما يصل المسلمون من خلاله إلى شئ .
- نحن نريد هدم كل شئ لأنه قام على الباطل , وأنت تفكر في استخدام الوسائل الجاهلية لتحقيق الإسلام , المجالس النيابية تلك التي بلينا بها من أوروبا؛
- أنت مخطئ يا صديقي .

وانتبه شكري باهتمام :

ماذا تعني ؟

المجالس النيابية التي جاءتنا من أوروبا أصلها إسلامي , وقد أخذها الأوروبيون من المسلمين ثم تطورت مع الزمن حتى وصلت إلى ذلك الشكل الذي نراه الآن .

وبدت عليه دهشة بالغة وكأنه غير مصدق وسألني :

ما هذا الكلام ؟ كيف كان ذلك ؟

استولي المنصور بن أبي عامر على خلافة الأمويين في الأندلس , وحكم باسم هشام المؤيد الصبي الصغير , وحكم أبناءه من بعده , وحدثت الفتن وانهارت الدولة الأموية هناك , ثم ظهر ما يسمي بدول الطوائف في الأندلس .
وفي كل مدينة كبيرة أو إقليم كان هناك حاكم قد كون لنفسه عصبية وصار له من أهله وعشيرته ومن الجند والأتباع ما يجعله يستنكف أن يكون تبعا لأحد وتكونت أكثر من عشرين دولة طوائف في ذلك الوقت , على النحو الذي تعيشه بلادنا الآن .

وكان الحال في قرطبة عاصمة الخلافة يختلف عن سائر المدن والأقاليم فلم يكن فيها ذلك الكبير صاحب العصبية عدا فتيان من بني أمية تتابعوا على الحكم وبدا على شكري مصطفي أن صبره أوشك أن ينفد وقال :

- لعلك لا زلت تراني ذلك التلميذ القديم الذي كان يجلس إليك في معتقل أبي زعبل لسماع الدروس والاستفسار .. أنا لا أحب هذه المحاضرات الطويلة عن التاريخ .

وقلت له متلطفا :

- لابد من مقدمة لفهم الموضوع يا صديقي وليس من داع للغضب

- ورد في ضيق :

- أنت تتكلم عن المجالس النيابية وأن أصلها إسلامي .
- لو انتظرت قليلا لفهمت ما أريد .

وتنفس الصعداء وقال :

- لا بأس من الصبر .

وحاولت جهدي أن أشرح له دون أن يغضب وينفر من السماع وينتظر حتى نهاية الحديث وقلت :

- كما قلت لم تكن قرطبة عاصمة الأندلس كمثيلاتها من المدن والأقاليم , لو توجد الشخصية ذات العصبية والأتباع التي يمكن لها أن تسيطر , وزادت الفوضى فاتجه وفد من الأعيان والكبراء والتجار والعلماء وقادة الجند للقاء أبي الحزم بن جهور قاضي قرطبة آنذاك؛
وكانت للرجل مكانة في نفوس المواطنين لدينه وعلمه بالفقه أصوله وفروعه, وهو القاضي قبل هذا كله وطلبوا منه أن يحكم المدينة لضبط النظام وفي هذه العصور المضطربة ذات الطبيعة الخاصة لم يكن لقاضي مثله أن يحكم وكل ما يحمله من مؤهلات هو ورعه وعلمه بالقضاء وأداؤه له .
وكانت مشكلة واجهته ففكر فيها فابتدع نظاما جديدا فريدا استنبطه من الإسلام لعلمه بأصوله , وأنشأ أبو الحزم بن جهور ما يسمي بحكومة الجماع اختار وزيرين هو رئيسهما واتفق أن يسير الحكم من خلال هذه اللجنة وألا تكون القرارات وأية مراسيم إلا ممهورة بتوقيع الثلاثة مجتمعين , وكأنه مجلس للوزراء صغير له رئيس؛
وهذه اللجنة تدعو مجلسا كلما استدعت الظروف مكونا من هؤلاء الذين ذهبوا إلى ابن جهور , واختاروهم بعناية من أرباب الحرف , يعني رئيس كل طائفة مثل الحدادين ومثل النجارين وغيرهم ومن التجار والأعيان وقادة الجند كما بينت؛
وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى اجتماعهم فهناك لقاء دوري يبحثون فيه المشكلات ويرون الرأي فيها , ثم يرفعون ما يرون لمجلس الثلاثة فتخرج المراسيم والقرارات .
وبدأت حكومة الجماعة بنظام جديد أيضا , لم يكن له وجود من قبل أدي إلى ثراء البلاد وغني أهلها .
فقد أمر أبو الحزم بن جهور بتوزيع الأموال الخاصة بالدولة على التجار وأصحاب الحرف يتجرون فيها وللدولة رأس المال دون ربح , ولها أن تطلب ما تحتاج وفق نظام وضعوه واتفقوا عليه؛
وكانت النتيجة أن ازدهرت الحياة في قرطبة ومن ثم فقد جاءتها التجارة والبضائع من كل مكان وأرسلت هي الأخرى ما أخرجته مصانعها إلى كل مكان , وصارت من أغني البلاد في حوض البحر المتوسط في تلك الآونة من الزمن .

- ثم ماذا ؟

وبدا على شكري مصطفي الاهتمام بالحديث فواصلت :

وكما تعلم وهو لم يكن يعلم كان في الجانب الشمالي من بلاد الأندلس الممالك النصرانية الشهيرة مثل أراجون وليون ونافار وقشتالة .
وكان ملوك قشتالة هؤلاء يتبنون مشروع حرب الاسترداد لطرد المسلمين من الأندلس, وكان ملوك قشتالة هؤلاء رغم كراهيتهم العميقة للمسلمين أكثر الناس إعجابا بهم لتفوقهم الهائل في العلوم والفنون والثقافة بشكل عام , فكل العلوم كانت تدرس بالعربية في معظم جامعات أوروبا أنذاك .
ورأى هؤلاء الملوك أن يستفيدوا من هذه التجربة الفريدة التي صنعها أهل قرطبة رغم ما تتسم به من الاقتراب الكثير من النظم الجمهورية الحديثة فأنشئوا ما يسمي " بالكورتيس " وهو مجلس من الأشراف والنبلاء شبيه بذلك الذي أقامه أبو الحزم بن جهور من حيث الشكل ثم تطور مع الزمن , ومنه انتقلت إلى أوروبا فكرة إنشاء هذه المجالس , وعمل الزمن عمله حتى صارت على النحو الذي نراه اليوم .

وقال شكري :

- هذا كلام عجيب .

- وواصلت حديثي :

- ولو تأملت لوجدت أن أبا الحزم بن جهور بمجلسه هذا الذي صنعه إنما هو تطوير وتفسير لما يسمي عند الفقهاء بأهل " الحل والعقد "

ولكنه وضع في اعتباره اختلاف الزمان والمكان وأنه في بلد إسلامي أوروبي حيث لا توجد العصبية أو قوة الجند أو أى من العوامل المشتهرة في تلك الأيام مما يثبت الملك ويرسخ دعائمه .

واستغرق شكري مصطفي في التفكير وكان رحمه الله رغم كل شئ من أصحاب النظر رغم غرابة نزعاته ورؤاه في ذلك الحين , وكان آخر عهدي به في المعتقل فلم أره خارجه , ولو أني كنت أتوقع تطورات ما جري منه وما جري له ووجدته يفكر متقبلا للحديث فقلت .

- يجب أن نفهم أن ما يحدث في التجربة الإنسانية ليس بالضرورة غير إسلامي , وليس كل ما في الكون جاهليا نجسا .. فالحضارات تتزاوج ويخرج من خلالها ما يفيد الإنسان .

- وامتلأ وجه شكري مصطفي بانفعالات شتي , هي مزيج من الدهشة والتعجب والتصديق والتكذيب والاقتناع وعدمه وصارت تعبيراته متنافرة متباينة ولكنه سرعان ما اعتدل في جلسته وواجهني في تحد وارتدي قناعه الساخر وقال لى :

- تريد أن نصنع مجلس " للكورتيس " لنحقق الإسلام في هذه البلاد التي تعفنت من الكفر والجاهلية ؟

- وأحسست بخيبة أمل ولكني تماسكت وليس هذا ما أقصده بالتأكيد وقلت :


- لقد أردت فقط أن أبين لك أن هذا المجالس النيابية لها أصل إسلامي ولم تأت من جاهلية أوروبية كما يظن الكثير.. فشأنها شأن فلسفة اليونان .

- وماذا عن فلسفة اليونان ؟

- قد ترجمها المسلمون وأعادوا صياغتها ثم قدموها للناس عربهم وعجمهم مسلمهم وكافرهم ولولا حركة الترجمة الضخمة لكتب الأولين والتي نشأت في العصر العباسي الأولي لما عرف العالم أرسطوا وسقراط وأفلاطون وأفلوطين وغيرهم وقهقه شكري ساخرا :
- لقد ذهبت بنا بعيدا !! وماذا عنهم ؟ وما أهمية أرسطو وسقراط؟

- وتخوفت من النتيجة فآثرت التراجع وقلت :

- على أى حال هذا موضوع آخر .

- وانفجر غاصبا كالبركان ساخرا :

- والفارابي وابن رشد وابن سينا والكندي ... هؤلاء الملاحدة الكفاة . لم يفسد المسلمين غير الكلام ... الكلام الكثير , وهم أحوج ما يكونون إلى العمل وفي هدوء سألته :

- هل قرأت شيئا للفارابي أو ابن رشد ؟

- وحدق في ولم يرد وعدت أسأل :

- هل قرأت عنهما ؟

- ولم أنتظر إجابته بل واصلت :

- الإجابة لا .. وهذا ليس من العدل في شئ .. حتى يمكننا الحكم على الأشياء يجب علينا أن نحيط بها ونفهمها ويعجبني ديكارت عندما وقاطعني كأنما قد لسعته عقرب .

وقال :

- هل قلت يعجبني ديكارت ؟

- نعم ..
- انتهي الحديث بيني وبينك .

- أظن أن عقلك أكبر من أن تنهي الحديث لأني قلت جملة لم أكملها وعاد يضحك ساخرا :

- إن كان ابن حزم لا نقيم له وزنا فتقول أنت ديكارت ؟ وما ديكارت ؟ حمار كافر من حمر الغرب المسيحي الملحد ..
- إن كان الكلام للتسلية والممازحة فلا بأس.. وإن كان موقفا علميا فأنا أعترض ولا أرضي لك هذا .

ووقف وهو يلملم فراشه وقال لي :

- هل تنضم إلى جماعة المسلمين وإمامهم وتطرح ما أنت فيه من شرك وكفر ؟

- ولم أملك نفسي من السخرية والمرارة وأنا أقول له :

- كم أنت مسكين يا عزيزي شكري .. لو كانت لديك فكرة واضحة عما تقول أو ما تدعو إليه لكان الكلام أولي وأجدي .. كل ما عندك هو غضب قد امتزج بعنف هائل مع رغبة عظيمة في التحطيم والانتقام وليس هذا سبيل المؤمنين..

- وهذه من جرائم عبد الناصر .
- وكأني قد رأيت الشرر وهو يخرج من عينيه عندما غادرني دون سلام أو كلام.

هل حقا الموت في سبيل الله أسمي أمانيكم ؟

ووقفت مشدوها حزينا أنفض التراب الذي أثاره قيامه المفاجئ السريع وأنا أري بعين خيالي غبار الخيل التي كانت تحمل الخوارج وهم يغيرون على الكوفة فيقتلون الأبرياء لأنهم لم يجدوا جند الوالي, وكأني أري الغيب فقد كان شكري مشروعا خطيرا يوشك أن يكون , قد قام المعتقل بإعداده إعداده جيدا واشرف مشروعا خطيرا يوشك أن يكون , قد قام المعتقل بإعداده إعدادا جيدا وأشرف عبد الناصر وضباطه على صناعته ولم يغفلوا تفصيله صغيرة فيه .

وفوجئت به يعود , دهشت ووقفت صامتا , وبدأ كلامه وقد أصفر وجهه من فرط الانفعال , وكان كلامه كأنه طلقات من مدفع آلي سريع الطلقات .. وكان يتكلم دون تلعثم أو ارتباك رغم تأثره البالغ :

- أنت وأمثالك هم أعداؤنا الحقيقيون فأنتم درستم وقرأتم وعرفتم وصار الدين في نظركم مجرد أفكار ترددونها , ونظريات تكونونها عن حركة التاريخ وسير الأحداث وإن قلنا لكم الأمويين وظلمهم قلتم عمر بن عبد العزيز , وإن ذكرنا العباسيين وعبد الله السفاح قلتم الظاهر بالله الذي كان يصوم النهار ويقوم الليل ..

هذا كلام سمعته منك في أبي زعبل وليس من غيرك .. سوف نقيم جماعة على التقوى وسوف نغير كل شئ ولن يقدروا علينا, لقد رأيت كل شئ في رؤاي بالليل , وهي تأتي في العادة كفلق الصبح .. أنتم ماذا فعلتم للإسلام ؟ تكلمتم كثيرا وعندما يأتي وقت العمل تدخلون المعتقل كالجرذان المذعورة .. لماذا لم تموتوا قبل أن يقبضوا عليكم ؟...

- هل حقا الموت في سبيل الله أسمي أمانيكم ؟ لا أظن .. هي مجرد شعارات جوفاء ليس في الواقع منها نصيب .. لو قتلك عبد الناصر مثلما قتل سيد قطب ألا تعتبر نفسك شهيدا ؟

ولكنكم تخافون الموت وترتعد أبدانكم عندما تتذكرونه ..وعظماؤكم من قادة الإخوان ماذا فعلوا بالشباب الذين ساقوهم إلى الموت وليس لديهم أى تصورعن الدولة التي يفكرون في إقامتها .. ماذا فعلوا بكم ؟ قد ألقوكم في السجون والمعتقلات وأنتم تسيرون خلفهم كالنعاج لا رأي لكم ولا مشورة .

قد وليتم يوم الزحف .. يوم التقي الجمعان ... فئة تقاتل في سبيل الله وأخري كافرة .. نكصتم على أعقابكم .. وبعد هذا هل تظن أن أى واحد منكم من المؤمنين ؟

- سأقيم جماعتي من قريتي فأنت نبت عفن قد أفسدته العلوم والثقافة ودمرت عقله الكتب , سأبدأ بالأميين وأنتهي بهم , فهم الأصل , وهم الذين نزل من أجلهم القرآن وهو يخاطبهم وليس غيرهم.. وسيزداد عددنا ولن يقدر أحد علينا .. هذا ما أؤكده لك .. وسوف يأتي اليوم الذي تسمع فيه بخبرنا .. ويومها ربما أقول لكم اذهبوا فأنتم الطلقاء .. والطليق ليس له الحق في الخلافة .. هذا بعد أن نثخن في الأرض .

وربما تكون من قتلي معركة الكفر والإيمان التي توشك رحاها أن تدور ..أنا أقول لك هذا الكلام لأن لم في نفسي منزلة , ولا أريدك في معسكري الكافرين صدقني أنتم في نظرنا لا تختلفون عن غيركم .

- قال هذا الكلام أو ما هو شبيه به , فقد مضي وقت طويل على هذا الحادث , ووقف ينتفض من الغضب والانفعال , قد تصبب عرقا وتأملته صامتا لا أقول شيئا وهو ينتظر مني الحديث .

- مالك لا تنطق .

- وقلت له مهدئا :

- لست مهيأ لسماعي يا أخي العزيز .

- وثار كالبركان :

- لست بأخيك .


- لكلام لا يجدي .. لو كان الكلام يجدي معك لا نتفعت بما قلته لك عندما التقينا في عنبر 12 .. أنت حالة نفسي , وينبغي أن تعرض نفسك على طبيب نفساني بعد الخروج من المعتقل قبل أن تفكر في إنشاء الجماعة .
- هذا ما قاله المشركون عن رسول الله ... قالوا مجنون .

- وشعرت بالآسي والأسف وقلت له :

- أود الانصراف .. هل تريد أن تقول شيئا آخر .
- نعم .
- تفضل إني أستمع إليك .
- هيا .. اذهب وأخبر المباحث بما سمعت فتنال الحظوة وتخرج مع الخارجين في كشف الإفراج القادم.

بذر عبد الناصر بذرة العنف في كل بلاد الإسلام

وشعرت بعمق الإهانة وأنني أمام شخص غير طبيعي , وهذا ما أعرفه من قبل ولكني ابتلعت إهانته فليست هناك جدوى من تنبيهه إليها وقلت :

- لقد قلت بنفسك هذا لرئيس المباحث من قبل .

وتركته أنا هذه المرة , وخرجت من المسجد المهجور وأنا أفكر في جريمة عبد الناصر التي ارتكبها في حق هذه الجماهير الممتدة في ذلك الجسد الهائل الممتد من المحيط إلى الخليج فقد صنع نظاما إرهابيا صار قدوة لكل البلدان المجاورة وهم يقلدونه ومن ثم سوف يكون في كل بلد شكري مصطفي آخر بملابس مختلفة وبلهجة أرخي ولكنه سيكون بنفس هذه الروح المدمرة التي ترفض العلم وتلقي بنفسها في مجهول الخرافة؛

وتنتظر يوما يحطم العالم نفسه إثر حرب ذرية بين العملاقين كما كان يقول في بعض أحاديثه الساذجة ويعود الجميع إلى استعمال السيف في الحرب حيث عالم الكهوف والجبال والأحراش.

قد فقد الأمل في الحياة ويريد الموت بطريقة مبتكرة تحوطها هالة من وهج الإيمان الزائف حيث مواكب من الجن والأشباح تشيعه إلى مقره الأخير , وهو يدعو غيره إلى الانتحار , ويبحث عن وقود من البشر لتلك " المحرقة " التي يزمع إنشاءها وتخيلت عالم شكري مصطفي المزمع أن يكون ,... عالما قد ملء بالفتية والفتيات..

وقد ملئت أخيلتهم بأحلام الشهادة وضباب التضحية من أجل غاية لا يفهمونها في سبيل مثل لا وعي لهم بها , ومن خلال طريق مخوفة مجهولة قد فرض الوهم نفسه عليها وغابت عنها الحقائق وتواري العلم بعيدا كأنه نقطة من نور خابية تراها العين .

وقلت ربما هذا طور من الأطوار يتحرك إلى شئ معلوم مفهوم يؤدي إلى شئ ولكننا لا نصنع الكون فنحن بعض أدواته ومن خلالنا يتشكل التاريخ وتكون المشيئة الإلهية على قدر العلم الذي كان .

الشيخ على إسماعيل يرجع عن فكر التكفير

ساعد موت عبد الناصر على زوال الشعور الضاغط بالتعذيب والاضطهاد والذي كان مجسما عند أصحاب التكفير فمنهم من هدأت نفسه وعاد إليه وعيه الذي ضاع مع السياط والأسياخ الحديدية المحماة بالنار .

وجلست مع الشيخ على إسماعيل شقيق المرحوم عبد الفتاح إسماعيل الذي أعدم مع الشهيد سيد قطب وكان يقيم في غرفة " المكفرين " وكان من زعمائهم يوما, ثم اعتزلهم وأقام جماعة وحده .

وكانت غرفة " المكفرين " من عنبر اثنين تضم لفيفا من الجماعات الجديدة أدناها واحد وأكثرها عددا اثنان , بعد أن كانوا لفيفا .

وكان الشيخ على إسماعيل يتميز على الآخرين بأنه من خريجي الأزهر , فقد حصل العلوم الشرعية وعلى إلمام جيد بالفقه والتفسير ويفهم القواعد الأصولية واختلافات الفقهاء وأدلتهم حول هذا الاختلاف ولهذا كان من أهم الشخصيات الموجودة لأنه يستطيع أن يبني تكفيره للناس على قواعد فقهية وعنده من الأدلة والأسانيد ما يجعل الحجج أمامها ضعيفة مع استعداد الناس العظيم لهذا الاتجاه الذي يغذيه العقل الباطن ورفض المجتمع والشعور العارم بالاضطهاد .

وفي غرفة أربعة من عنبر اثنين جلسنا على " نمرة " الشيخ على إسماعيل وكان الرجل عليه رحمة الله كريما خفيف الظل على حس عال بالفكاهة رغم علمه وفقهه وإيمانه بالله , ولا أذكر ماذا قدم لى يومها من حق الضيافة .

وقلت له :

- ما رأيك في موت عبد الناصر ؟

- وابتهج وأشرق وجهه وقال :

- وهل هذه في حاجة إلى رأي يا أبا رائف ؟ لقد رد الله سبحانه وتعالي الأمل الذي كان يتبدد من نفوسنا , الموت حق ولكن هلاك هذا الطاغية قد أعاد الثقة إلى النفوس التي أضناها الظلم , لقد هدأنا وأصبحنا ننظر إلى الأمور نظرة أكثر تعقلا وقد أعملت الرؤية في كل النصوص التي كنا " نكفر " بها فوجدتها يمكن أن تؤخذ على وجه غير ذلك الذي ذهبنا إليه.
ولأول مرة أفهم رأي الفقهاء في شروط الفتيا والجلوس للقضاء فقد كانوا يشترطون عدم وجود أى ضغوط على ذلك الذي يتعرض لهذا حتى يكون رأيه نزيها محايدا .
- وكان يتحدث وهو يتلفت يمنة ويسرة كأنه خائف من أولئك المتناثرين في هذه الغرفة الكبيرة ممن جماعات شتى وعددهم قليل كما ذكرت .

- وهمست له :

- هل تخشاهم ؟

وبدا الحرج على وجهه وقال :

- هم يؤمنون بالتصفية الجسدية لمن يذيع الأسرار .

- وهل توجد أسرار بعد هذا الزمن الطويل في المعتقل ؟

- كل ما كان يقال في هذه الغرفة هو من الأسرار بغض النظر عن طبيعته .

- وهل تنوي أن تحكي لى بعض هذه الأسرار ؟

- وقهقه الشيخ على إسماعيل عاليا وقال :

- كأنك لم تسمع بما حدث ؟
- قد حدث الكثير .

أيها تقصد ؟

وفي همس لا أكاد أتبين منه كلماته قال :

- لقد تركت " التكفير " وعدت إلى صفوف الإخوان .
- هذه قد سمعت بها , ولكني لم أعرف التفاصيل .

وقال لى :

ما رأيك لو خرجنا إلى الفناء نتحدث لأني هنا لا أضمن عاقبة الكلام .

وقلت له :

لا بأس من هذا .. هيا بنا .

ونحن خارجان صرت أنظر يمينا ويسارا إلى أولئك الذين قد جلسوا على " نمرهم " وهم يتلون القرآن في صوت خفيض , فلما قمنا تركوا مصاحفهم وصاروا ينظرون ناحيتنا شذرا , وكانت عيونهم تنطق بالشرر , وتنذر بالخطر , ولا يرون في هذا الاجتماع خيرا أبدا , وجميعهم كانوا من الشباب وأعمارهم أقل من الخامسة والعشرين وتشجعت وألقيت السلام على أحدهم فوضع وجهة في مصحفه ولم يرد على .

وفي الممر بين الغرف ونحن في طريقنا إلى الفناء للحديث قلت للشيخ على :

- لماذا ينظرون إلينا هكذا ؟

وحوقل ومصمص شفتيه وقال : (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)
- ما أسهل أن نستدل بآيات القرآن الكريم .

وكنا قد اقتربنا من الباب المؤدي إلى الفناء الخارجي للمعتقل , وتوقف الشيخ على إسماعيل وقال لى باهتمام :

- هل تعرف أن شكري مصطفي يبحث عن غرفة في عنبر اليهود ليقيم هناك هو وجماعته ؟

- جماعته ؟ تقصد الدكتور عصمت ؟

- نعم .

- الجماعة ثلاثة فأكثر , هكذا تعلمنا من اللغة العربية ؟

- وضحك وهو يقول :

- هناك فرد بأمة أم تراك نسيت " إن إبراهيم كان أمة "

- إبراهيم وليس شكري يا شيخ على ولكن لماذا يفكر في الانتقال إلى حيث يقيم اليهود ؟

- يقول إنهم أهل كتاب , وهم أقرب إلى قبول الدعوة من غيرهم .

- كيف اعتزلت " المكفرين "؟

- جاني من أخبرني أن فضيلة المرشد يريدني فأسرعت إليه .

- ألم تضعوه مع الكافرين ؟

- كنا نضعه في أول القائمة , ولكن سرعان ما نسيت هذا وأسرعت بالذهاب يبدو أن كلامك الذي كنت تقوله صحيحا .

- أى كلام تقصد ؟

- كنت تقول إنها أمور يحكمها الشعور وتحركها العاطفة وليس قواعد الفقه وأصول الدين ... هذا الكلام صحيح إلى حد كبير .. وهذا ما شعرت به شخصيا وجلسنا عند شجرة في فناء المعتقل تقع بين " الملاحظة " والمستشفي كبيرة وارفة الظلال ووجدت دموع الرجل تنساب على وجنتيه فقد كان عاطفيا عميق الشعور , وهذه ظاهرة كنا نراها كثيرا فلا نعجب لها , فهؤلاء المعتقلون الذين صمدوا أمام التعذيب ولم ترتفع أصواتهم بالصراخ والعويل إلا في أقل القليل كان كل واحد منهم أو أغلبهم يحمل بين طيات صدره قلب طفل , وسرعان ما يتأثر لأى موقف له صلة بالشعور فتدمع عيناه ويرق قلبه وتراه في صورة مختلفة , وتركته حتى انتهي واستمعت إليه :
- أنت تعرف كيف أمسكوا بنا وتعرف ماذا فعلوا معنا وكيف جعلونا نعترف بما لم نقترف . وكيف كانت جلسة لدراسة القرآن تسببت لصاحبها في الأشغال الشاقة المؤبدة منها وغير المؤبدة .
وتعرف كيف أعدموا أخي الشهيد عبد الفتاح إسماعيل , وقد رأيته ممزقا بالسياط قبلها لأنه هو الذي جمع الناس لدراسة القرآن وقد رأيت الشهيد سيد قطب وهم يجرونه جرا وهو لا يستطيع المشي مرضا وضربا , وكذلك الشهيد محمد يوسف هواش وغيرهم وغيرهم .. وأنت تعرف كل هذا فقد حدث في وجودك .
- وطافت بخاطري ذكريات التعذيب وكيف كان وحشيا غير إنساني , وتذكرت هؤلاء الضباط وقد تجردوا من كل رحمة وهم يتعاملون معنا , وقد وضحت أمامهم صورة ما كانوا يسمونه بالتنظيم, وأنه ليس بتنظيم , وتذكرت المرحوم فاروق المنشاوي وهم يخلعون أظافره هو وفايز إسماعيل , والمرحوم جابر رزق عندما سقط على الأرض وطلبوا منه النهوض فلم يستطيع رغم لسع السياط , والمرحوم أحمد إسماعيل الفيومي وهم يدقون رأسه على " الفسقية " وكل الشهداء الذين سقطوا في هذا المعترك الدامي , وكان يكفي أن يجمعوهم في صعيد واحد , ويقف أحد هؤلاء الضباط ويعلن في وضوح وصرامة .. ممنوع قراءة القرآن .. ممنوع الاجتماعات لأى سبب كان .. وكان الكل سيمتثل .. وتنتهي القصة بغير ما خلفته من آثار جسام , أقلها أنها سوف تقضي يوما على هذا النظام , وظني أنها تكون نهاية مروعة تصير حديث العالمين فهم يسيرون في الطريق نفسه بعد كل تلك السنين .

- وقلت للشيخ على إسماعيل حزينا من الذكري:

- ومن يستطيع نسيان ما حدث ؟ نعم أعرف كان ما جري .

- وانبري الشيخ :

- أخذوني من بين أولادي بليل وحدث لى مثلما حدث لك .. وتبين لهم أني برئ حتى من حلقات الدراسة التي كانت تجري , ورغم ذلك لم أرحم من العذاب والضرب , وبعد أن تبين لهم براءتي جاءوني بعد أيام وأعادوا العذاب وهم يسألون عن القنابل وكانت مشكلتي أن أبحث في ذاكرتي عن محل لبيع هذه القنابل لأدلهم عليها وكدت أموت يومها من العذاب؛
فقد أصر الضابط أن آتيه على الأقل بقنبلة أو قنبلتين .. وأجهد ذاكرتي فلا أقدر .. ثم نقلوني بين الحياة والموت إلى " الشفخانة " ومكثت بها أياما.

- ثم دخلوا على وجراحي لم تلتئم وظننت أنهم جاءوا للاعتذار عما حدث ,فوجئت برئيسهم يسألني :

- أتذكر مكان القنابل ؟

ومادت بي الأرض وضاق صدري وعرفت أنه الموت , وشعرت بالعجز , وقلت له :

- يا سيادة الضابط القصة ليست قصة قنابل ... أنت تعرف أنه ليس عندي منها شئ , ولا أعرف طريق الحصول عليها , وأنا عالم من علماء الأزهر , وليس هناك ما أفعله بهذه القنابل , الرأي أن تأخذني ومعك القنابل اللازمة ونذهب إلى بيتي ومعك المصورون وتستخرجوها وأنا أعترف عندها أمامهم .

- وقال الضباط :

- تعترف بماذا ؟

وزادت حيرتي ودق قلبي سريعا ولا أدري ماذا أقول له ولكني قلت :

- أعترف بكل شئ .. سيادتك تخبرني بما أقول ولو غيرت حرفا واحدا فأنا بين أيديكم افعلوا بي ما شئتم .. وهكذا تستريح ضمائركم أمام الله .

- وقال الضابط في سخرية ووحشية :

- الله !! كم أنتم حمير يا علماء الأزهر ... لو كانت لديك ذرة من عقل لعرفت بعد كل الذي حدث أنه وهم صنعته فئة في زمن قديم , وزاد من هذا الوهم أن يأتي كل حين من الوقت من يدعي أن الله قد اتصل به وأرسله نبيا , ويصدقه بعض السذج والبلهاء من أمثالك .. دجالون يزعمون أنهم أنبياء ويأتي أغبياء فيصدقونهم ..
- الله هذا لا يوجد في غير رأسك العفن .

- من كان هذا الضابط ؟

- لا أذكر اسمه .. ولكن هكذا قال لى .. وكان يقف معه ضابط آخر والطبيب والكل يبتسم معجبا بكلام هذا المسكين

ورغم علمي بكل هذا ولكن عندما أسمعه أدهش , وسوف أظل هكذا أبدا الدهر أدهش لسماع الجريمة , ولو سمعتها ألف مرة وقلت له :

وماذا قلت له ؟

وقال الشيخ على إسماعيل :

- لم أقل شيئا , ولكن في هذه اللحظة فقط عرفت أنني أتعامل مع كفرة ووضحت الرؤية لى وعممت هذا على الجميع منذ ذلك الوقت.

- وكيف انتهت قصة القنابل؟

- وشرد الشيخ على ببصره ليتذكر وقال :

- سكت, لم أنطق بحرف بعد هذا الكفر البواح الذي سمعته وأعاد على السؤال عن القنابل ولم أرد لأني فهمت الموقف , أنا أتعامل مع كفرة غلاظ شداد لا يعصون الشيطان ما أمرهم وأشار الضابط إلى الطبيب وقال له : أعطه الحقنة المسمومة فنستريح منه إلى الأبد .
- ولحظتها أحسست بالراحة وهم يمسكون بذراعي وأنا لا أقاومهم , وقلت أذهب إلى الله سبحانه وتعالي فأشكو له ما يعلم وأخلص من هذا العذاب .
- وأعطوني الحقنة وغبت عن الوعي .

- والقنابل ؟

- ولم يتحدث أحد معي يشأنها بعد ذلك.
وشرد كلانا قليلا وكل يتذكر ما مر به من أحداث جسام , وطافت بخاطري جملة ابن خلدون الشهيرة " الظلم يؤذن بخراب العمران " وقد خربت العمران والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه .

وأفقت على حديث الشيخ على إسماعيل وهو يقول :

قصصت كل هذا لفضيلة المرشد عندما طلبني وعرف أنني أتزعم فريق " المكفرين " وأنا الذي أمدهم بالآيات والأحاديث والأسانيد الفقهية , وهي كثيرة كما تعلم .

وضحك كلانا من كل قلبه للذكريات المبكية المضحكة وقال الشيخ على :

- اسمع يا " أبو رائف " هل تشك في كفر هؤلاء ؟

- وضحكنا ثانية وقلت :

- هل عدلت عن أفكارك مرة ثانية ؟ ماذا قال لك المرشد؟

- عندما انتهيت من قصتي قال لى : وأين صبر المؤمنين الصادقين ؟ فلندع حساب هؤلاء على الله سبحانه وتعالي , ولنصبر ونحتسب ولنقم بدورنا , وهو يتلخص في الدعوة إلى الإسلام وتفهيم الناس , وينبغي ألا نشتت جهودنا في الهدم ولنفكر في البناء فنحن دعاة لا قضاة .
- ونزل كلام المرشد العام على قلبي بردا وسلاما وذهب ما في قلبي من غضب وضيق وعدت ثانية فردا في جماعة الإخوان المسلمين وأنا أعرف واجبنا حيال هذه الأمة التي ضيعها حكامها .

- وقلت له مترددا :

- ولكن .. هل تراهم كافرين ؟

وقال متحمسا :

الكافرون بشر يمكن لهم أن يؤمنوا يوما ولكن هؤلاء كالأنعام بل أضل هم أقل من الدواب ,هم كافرون كافرون كافرون .
ولكن لا ينبغي على أن أقول هذا فليس ذلك سبيلنا , ويجب أن ألتزم بالصف , وليحتفظ كل واحد بأفكاره لنفسه وينسجم مع ما تراه الجماعة وتقرره؛
ثم ما فائدة أن نصرخ في الناس أنت كافر .. وأنت كافر ... سوف نبدد طاقتنا أو نستفيد قوتنا فيما لا يفيد .. ولن يكون دورنا إيجابيا في هذا المجتمع .

وهل تظن أن هؤلاء الجالسين كالغربان في غرفة أربعة من عنبر اثنين سوف يسكتون ؟

أبدا .. سوف يخرجون يوما من هذا المعتقل وسوف يملئون قري مصر ومدنها بأتباعهم والناس على استعداد لتقبل هذا فالكل يكره الحكومة كراهية التحريم .

وسوف يأتي اليوم الذي يكون فيه إنقاذ المجتمع من التدمير في يد الإخوان المسلمين وقلت له :

- وما رأيك في جمال عبد الناصر ؟

- من ناحية الكفر والإيمان ؟

- نعم

وانفعل الشيخ علي إسماعيل انفعالا شديدا وهو يقول :

هذا كافر سواء وافق المرشد على هذا أو لم يوافق .

ونظر إلىّ متعجبا وقال :

- هل تشك أنت في هذا ؟ بعد كل ما فعل وتسألني هل هو كافر أو مسلم؟ وانصرف غاضبا ولحقت به وهو يتمتم :

- قتل الشهداء وضرب المسلمين وقوي اليهود وأوضاع الأرض . وقال شريعة الله لا تصلح وكتب الميثاق .
- والتفت إلى ضاحكا وعاد إليه صفاؤه من جديد .

حوار مع السماوي

كان عبد الله بن أحمد السماوي شابا وسيما يرتدي الملابس العربية القديمة على النحو الذي يظهر في المسلسلات التليفزيونية الرديئة التي يشرف عليها صفوت الشريف الآن؛

وهذه العبارة لا تقع تحت طائلة قانون المخابرات الجديد , فليس فيها ما يفيد أنه يجيد نوعا آخر من المسلسلات لا يعرض على الناس ولكن كان هناك اقتراح ببيعه للحصول على عملة صعبة من بيروت فهذه كلها مجرد شائعات؛

ونحن نثق في دين الوزير وأمانته وشرفه وتاريخه الحافل في خدمة مصر والإسلام من خلال الكاميرا التليفزيونية الخفية , وأعتذر لهذا الاستطراد ولكني أحببت ألا تضيع الفرصة قبل أن أحيي الرجل الذي قضي حياته , وكان له نبوغ مبكر في عالم الإخراج والتصوير .

ونعود إلى عبد الله بن أحمد السماوي صديقنا الشاب آنذاك .

جاء إلى المعتقل متأخرا ولكن دون سبب معلوم كما جاء غيره من الشباب والشيوخ وكان دون العشرين مهذبا رقيقا هادئا لا يغضب ولا يثور إلا الله؛

وهكذا كان يقول ويتكلم اللغة الفصحى في حديثه العادي معنا أو مع غيرنا , وأحيانا ما يستعملها في الشجار , الأمر الذي كان يستحيل معه الإمساك عن الضحك الشديد ويصير الأمر فكاهيا عندما ينقلب علينا لضحكنا منه وهو ينتظر مناصرتنا له .

وكان يري أن هذا هو أهم مظاهر العودة الصحيحة إلى الإسلام ! وقد سمعت أقواما يتحدثون الفصحى وقد ينفعلون بها ويأتي كلامهم بليغا طبيعيا مؤثرا لا يثير ضحك بل يثير انتباهك وإعجابك لأن ثقافتهم قد اكتملت وصارت هذه هي طبيعة حديثهم فلا تنبو كلمة ولا يشذ لفظ , بل ترتاح الأذن تماما مع الحديث .

وكنت أحب الحديث مع عبد الله بن أحمد وكان اسمه الأصلي طه السماوي وتوقعت له أن يكون زعيما كبيرا في ذلك الوقت , وقد صح توقعي وصار كذلك وكنت عندما أحاول أن أفهم لماذا قبض عليه لا أستطيع , وهو يحكي لك كل ما يمكن أن يساعدك ويساعده على الاستنتاج والفهم بلا فائدة .

وسلك الشاب سبيل " المكفرين " وكان هذا هو السبيل الذي يصعب عليك أن تمنع مثله من ولوجه بعد أن حدث له ما حدث من ظلم واضطهاد .

وصار يتردد على مدارس التكفير المختلفة يستمع إلى هذا ويناقش ذاك ولم يأخذ الأمر منه وقتا طويلا فسرعان ما استقر رأيه وتبلورت أفكاره , وصنع فرقة تكفيرية هو رئيسها ومعه شخص اسمه عبد الحميد الجمال .

وكان هذا أمرا طبيعيا آنذاك في تلك الفترة المضطرمة من الاضطهاد ومن الظلم والاعتقال الذي لا يبدو له آخر .

واستطرد آخر لا مندوحة عنه .

هذه الجماعات التي وصفت " بالتكفيرية " كان لا يزيد عدد أفرادها على ثلاثة وهي تتراوح بين الرقمين : اثنين أو ثلاثة فهي نوع من الانسجام النفسي والتوافق في الميول والنزعات في ظروف قاسية يبحث فيها الشاب عن صديق يحدثه ويستمع إليه ثم يأخذ الأمر بعدا فكريا فجا , تؤصله بعض المعلومات الفقهية التي تأتي من هنا أو هناك حيث يعتورها الخطأ والنسيان والتشويش .

وكانت أغلب شخصيات التكفير رغم التجاوز في إطلاق هذا اللفظ شخصيات " شكسبيرية" لها ملامحها الدرامية المميزة وهي لا تتشابه في شئ إلا في النزوع والنفور والرغبة الجامحة في تحقيق الذات مع التباين الكبير بين الأحلام والقدرات والإمكانات التي يمكن أن تحققها .

وكان أمل كل واحد من هؤلاء وقد أكون مخطئا أن يكون حسن البنا الآخر الذي يأمر فيطاع ناسيا ظروف المكان وتغير الزمن , والإمكانات الشخصية . وكان هذا أحد أسباب الكوارث !

وقد ساعدت الحكومة وممارساتها الإرهابية الإجرامية في تكريس هذا الواقع عن قصد أو غير قصد , والأولي أرجح وأكثر منطقية .

أما حسن البنا فرجل قد اشتركت عوامل كثيرة في صنعه , أهمها ملكاته الخاصة وما ألقي الله سبحانه وتعالي فيه من مواهب وخصائص اجتهد في تطويرها والإفادة منها .

فقد كان هو شخصيا مشروعا إسلاميا ناجحا قد أحسن إدارته وجاء بأحسن النتائج في زمن كان أحوج ما يحتاج إليه فيه , وكانت الساحة كلها مهيأة لظهوره فقد تضافرت عوامل التاريخ والجغرافيا ومبادئ الإسلام في ظهور حسن البنا فكان ظاهرة فريدة من نوعها لتوافر هذه العوامل مجتمعة .

وقد تطورت ظاهرة التكفير وهي تعبير عن رفض المجتمع شكلا وموضوعا في نظام لم يكن يسمح بكلمة واحدة للنقد ضد أى مخلوق يمثل السلطة بشكل أو بآخر .

وكان الحاكم يري نفسه إلها لا يقبل أن يشرك به ولا يغفر ذلك , ويغفر مادون ذلك لمن يشاء , وهو الأمر الذي جعل المعارضة الحقيقية تعتمد في كيانها على الكفر بهذا الإله المزيف .

وما نحن فيه من تيار جارف غالب ما هو إلا ظاهرة من ظواهر التعبير للمعارضة الحقيقية التي لم تتح لها فرصة الظهور بشكل هادئ وطبيعي

نظرية الحاكم الفرعون

ولا يزال النظام يعتمد نظرية الرئيس الحاكم الفرعون الإله , وهي نظرية قد عفا عليها الدهر , ولم تعد تصلح للتعامل مع الناس .

حتى ولو في بلد ضعيف مثل مصر , والمطاوي والسكاكين والجنازير , سوف تجبر هذا الإله على النزول من فوق عرشه وفي تقديري أن فرصة إصلاح هذه المواقف قد ذهب أوانها فعدة الفرعون الإله في مواجهة هذا المد الديني الهائل؛

مع كل التحفظات حول ما يقولون هي جيش من الشرطة قد صنع عداوة مع الشعب فهم يبطشون بالناس دون تمييز وهذا يجعل الجميع يتعاطفون ضدهم , وإذا تكرست العداوة بين الشرطة وجمهور الشعب العادي فإن عواقب وخيمة سوف تكون .

ويعتمد الفرعون الإله في مواجهة هذا المد الديني الذي يمكن أن يكون رشيدا على مجموعة من العلماء المهازيل الذين يتقوتون من فتات الحكومة حتى أن أكبر عمامة في مصر تصدر بيانا يكتب في الصفحات الأولي ويقول بتكفير هؤلاء المتطرفين ثم يقول البيان إنه لا يجوز أن يكفر مسلم مسلما ! وكيف يتأتي هذا وصاحبه يكفرهم في أول البيان ؟

وهؤلاء العلماء المهازيل الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم , وهم لا يعلمون أنهم محل احتقار الجميع الفرعون الهامان والمستضعفين وأنفسهم .. وبعض من عنده بقية احترام للقرآن الذي قرأه والفقه الذي يلوكه بفمه كأنه يمضغ لبانا هؤلاء يرون الشرطة تضرب الناس وتقتلهم فيوجهون حديثهم إلى المضروبين المقتولين ويطلبون منهم الهدوء والتعقل؛

وكان أولي بهم أن يوجهوا حديثهم إلى الضارب إلى صاحب البطش الأكبر وإلي هامان وإلى جنودهما لو كان بيان العلماء قد وجه إلى الحاكم الإله لمنع الفتنة , لو قالوا له أنت بشر تخطئ وتصيب ويمكن أن تموت في ظروف غامضة؛

كما حدث للفرعون الأول لهدأت الفتنة لو قالوا له إنك بشر يمكن أن يأتي قادر ويغرقك بالرصاص كما حدث للفرعون الثاني لسكن الجميع لو قالوا له لا تدفع الشعب إلى موقف ضيق لهدأ الناس , ولقابلوا كلام العلماء بالاحترام ولتوقير ولكانوا أكثر طاعة لهم فيما بعد .

ولكنهم جلسوا في صحن الأزهر وهو لم تعد له المكانة القديمة واهتزت العمائم وومضت عدسات التليفزيون وكل عالم كبير يقف ويلقي كلمة يؤكد فيها أنه ليس من علماء السلطة وأنه لم يأت بأمر الشرطة .

سبحان الله !! وهل اتهمكم أحد بهذا ؟ يكاد المريب يقول خذوني . ثم يتحدثون عن فتنة دامية توشك أن تشمل البلاد , ويقولون إن تغيير المنكر باليد يكون مهمة الحاكم , وتغييره باللسان يكون من مهمتهم يعني أصحاب العمائم .

حسن هذا وجميل ! ولا خلاف عليه أيضا , فليكن الأمر كما قلتم وليس في وسعي جدالكم أو نقاشكم , فأنتم أصحاب نظر وقادرون على الفتيا وتعرفون من أمور الدين والفقه مالا أعرف .

الخلاف حول تفسير معني المنكر !!

هل تقصدون بالمنكر الأشياء المخالفة للإسلام والتي ليس فيها نص صريح أو حكم واضح مثل أن تخرج المرأة سافرة أو أن تعمل في مكان ما , وبعض الجماعات يرون هذا منكرا وللحاكم أن يغيره إن شاء أو لا يفعل ؟هل هذا ما تقصدون ؟
أما احتلال حي بأكمله والضرب بالرصاص على النوافذ والشرفات ومنع التجوال وتعذيب المواطنين ليس في المعتقلات ولكن في داخل هذه الأحياء بالضرب المبرح بكعوب البنادق , والأمر بالقبض على المتهمين أمواتا فهذا ليس من المنكر , بل هي جرائم تستدعي تدخل جماعات حقوق الإنسان في العالم !!

وهل تستطيع الشرطة مهما كبر حجمها ومهما زيدت مخصصاتها مقاومة ما سمي ببؤر الإرهاب التي انتقلت من الصعيد إلى القاهرة ؟ ألا يدل كل هذا على أن هناك خللا ما في التناول ؟

لو وجه العلماء خطابهم إلي الحاكم وإلى هامان لهدأت الفتنة وظني أنها سوف تزيد لأن هناك خللا في كل شئ .

نحن على عتبات عصر الإرهاب والعنف !

والطريق إلى العنف قد بدأ منذ سنين من أيام معتقلات عبد الناصر حيث انعدم القانون وظن الحاكم أنه فوق كل شئ .

صلاح الدسوقي وإلغاء مجلس الدولة

ومن طريف ما يروى..

كان صلاح الدسوقي صديقا " للملهم " ويلعب معه التنس للرياضة كل يوم وصلاح الدسوقي الششتاوي هذا كان من الذين يعذبون المؤمنين في السجن الحربي عام 1954 ثم صار محافظا للقاهرة ولا أدري ماذا تسنم من مناصب أخري بعد ذلك .

سامحوني في الاستطرادات الكثيرة فأنا أكتب ملاحظات ومشاهدات وذكريات . وسامحوني أيضا في قطع الحديث ..

لمحت على المكتب أمامي أثناء الكتابة الآن جريدة الأخبار عدد الخميس 5 [يناير]] 1989 الطبعة الأولي , في الصفحة الأولي خبر مكتوب على النحو التالي :

تطوير صناعة الطعمية

الإسكندرية مكتب الأخبار

يعقد في الإسكندرية اليوم مؤتمر تطوير الطعمية ويبحث المؤتمر طريقة تصنيع الطعمية حاليا , والأساليب العلمية الحديثة في تصنيعها آليا .
وسيفتتح المؤتمر الدكتور سعيد عبد الفتاح رئيس جامعة الإسكندرية والدكتور محمد صباح عميد الدكتور الزراعة بالجامعة , وسيعقد بقاعة المؤتمرات بالكلية ويشرف عليه الدكتور محمد يوسف ومن المنتظر أن يتوصل المؤتمر إلى أسلوب جديد في إنتاج الطعمية هذه ليست نكتة !! وليست كاريكاتيرا !!
وإتماما للفائدة نكتب العنوان الرئيسي للجريدة نفسها لسان حال الدولة بعرض الصفحة كلها وهو كالتالي : المقاتلات الأمريكية تسقط مقاتلين ليبيتين فوق البحر المتوسط .

ولا تعليق !!

ونعود إلى موضوع صلاح الدسوقي قبل أن نستكمل الحديث مع الأخ عبد الله ابن أحمد السماوي وأكرر الاعتذار لعدم الترابط في الشكل رغم تأكده في المضمون والله أعلم .

كان صلاح الدسوقي من ضمن المعذبين , الذين يقومون بالتعذيب وقيل والعلم عند الله أنه أحد مدبري حادث المنشية " تمثيلية محاول اغتيال الملهم للقضاء على الإخوان " وكان هو الصديق للزعيم في فترة , ثم انقلب عليه بعد ذلك وأودع المعتقل مثل غيره ممن انقلب عليهم , وقد كان الرئيس واضحا وصريحا دائما الرئيس عبد الناصر وليست عنده وسطية في الأمور , إما أبيض وإما أسود .. هكذا ..

السجن .. أو الوزارة ولعب التنس ..وكانت هذه مرحلة لعب التنس مع صلاح الدسوقي .

وكان هؤلاء الضباط الذين اشتركوا في صناعة الثورة والذين قتلوا الناس وعذبوهم يتميزون بالحقد الهائل الذي يملك قلوبهم حيال أى مخلوق يختلفون معه ..

كما حدث من واحد فيهم كانت زوجته لا تستلطف جارتها , فأمر ذلك الضابط بالقبض على زوجها وعذب في محنة 1954 ,ومكث سنتين في المعتقل وخرج منه وقد صار من الإخوان المسلمين .

وكان صلاح الدسوقي على خلاف مع أحد وكلاء وزارة الصحة .

خلاف كبير أو صغير الله أعلم .

ولكنه في الاستراحة بين اللعب قال للزعيم :

- هناك واحد بيشتغل في وزارة الصحة وسمعت إنه " بيلسن " علينا .
- وهو تعبير بلدي ! وكلمة " بيلسن " هذه كانت استخداما " رئاسيا " في تلك الفترة وقد استخدمها جميع المرءوسين وهي تعني أن يتكلم في حق الثورة , وهي من " اللسان " عضو الكلام عند الإنسان أو أحد أعضائه , وكانت هذه الكلمة الغامضة التي يتهم بها أى فرد تتسبب في الحكم على المتهم بأى شئ مثل الاعتقال والفصل أو أى شئ , وضع تحت هذه الكلمة أية عقوبة من العقوبات التي تخطر ببالك أو لا تخطر ,وانزعج الزعيم , والتفت ناحية صلاح الدسوقي الششتاوي :

- يعني إيه يا " صلوحة "؟

هذه كانت عادة الزعيم لأنه رحيم وطيب القلب ويدلل خدمه ومساعديه , فيقول لسامي شرف يا مشمش ويقول لمحمود الجيار يا جيّ, وقد نطق الأخيرة أمامي واحد ممن سمعوها منه ,ونطقها غير كتابتها , وقد اجتهدت .
- لا أبدا يا سيادة الرئيس .. موضوعه سهل ..
- حطه في المعتقل مع الإخوان .

وبابتسامة صفراء قدم له صلاح الدسوقي ورقة وهو يقول له :

- احنا صبيانك يا ريس ونعرف كيف نؤدب هؤلاء الكلاب , الاعتقال سهل ولكن لازم نفصله من وظيفته علشان يشحت .

- ونظر عبد الناصر إلى الورقة في يد صلاح الدسوقي وقال :

- ما هذا؟

- هذا قرار جمهوري .. بس سيادتك توقع عليه بالاستغناء عن خدماته وأمسك الزعيم بالورقة عليها دون أن يقرأ الاسم وهو يقول :

- فصله يستدعي قرار جمهوري ؟ هو بيشتغل إيه ؟

- أبدا ده هلفوت ... بيشتغل وكيل وزارة الصحة ..

وأعطي عبد الناصر القرار لصلاح الدسوقي بعد أن وقعه وهو قرفان متعكر المزاج يبدو عليه الضيق وقال :

- أنا يا " صلوحة" مش عارف البلاوي دى بتدحدف علينا من أى داهية ؟

- الزعيم لا يعرف من أين تأتيه هذه البلاوي ؟

تأتيه من الشعب اللي رفع الراية لصلاح الدين وسلمها يمي عبد الناصر ويمينه يمين حسب كلمات الأغنية الملغاة والتي كانت تغنيها أم كلثوم .ثم جاء السادات ومنع إذاعتها بقرار جمهوري !
المهم ..
رفع وكيل الوزارة دعوى أمام مجلس الدولة ضد رئيس الجمهورية بصفته , كما تقضي العادة بذلك. فإذا أصدرت وزارة الزراعة قرار ضد أحد الموظفين وأراد ذلك الموظف أن يقاضي الوزارة فهو يرفع الدعوة ضد وزير الزراعة بصفته , سواء كان الذي أصدر القرار هو الوزير نفسه أم تغير وجاء وزير آخر .

هكذا جرت العادة في المحاكم بمصر المحروسة . يعني القضية ضد القرار الجمهوري وليس ضد عبد الناصر وأى " عرضحالجي " يستطيع فهم هذا الموضوع دون لبس .

وأعتذر للقارئ العزيز إذ أعود لموضوع الطعمية مرة أخري !

فجرائد الصباح كلها على مكتبي وأنا أكتب الحكومي منها والشعبي والكاذب فيها والصادق وألقب النظر بين الحين والآخر في هذه الصحف كنوع من الترويج أو تحت وطأة الأنفلونزا؛

وكما يقولون فالصحف يفسر بعضها البعض ,فأنت تقرأ خبرا في جريدة وقد تسخر منه مثل ذلك الخبر الذي كتبته منذ صفحات عن مؤتمر لصناعة الطعمية وتطويرها تشرف عليه جامعة الإسكندرية ثالث أو رابع جامعة في التاريخ البشري , وقد تظن أن الذي كتبه يتعاطي المخدرات؛

ثم تنظر في الصحيفة الحكومية الأخرى فتجد الكلمة الرئيسية لرئيس التحرير حول هذا الموضوع فتفهم أنها سياسة دولة , ورئيس التحرير في العادة وبحكم الوظيفة في الصحف الحكومية يروق للبعض أن يسميهم كتاب السلطة و(فتح السين أو ضمها لا يغير المعني) لأنهم الذين يروجون أفكار الحكومة بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها .

وجدت في الصفحة الأولي لجريدة الجمهورية إحدى جرائد الحكومة الثلاث في اليوم نفسه عدد الخميس 5 يناير سنة 1989 تحت عنوان :

الصناعات الصغيرة موضة عام 1989 بقلم : محفوظ الأنصاري .
" الموضة" هذه الأيام .. ولأيام قادمة .. هي " الصناعات الصغيرة "
- ستتحدث عنها الصحافة , أخبارا وتصريحات وتعليقات , و" فتاوى"
- ستتمسح فيها المصالح والإدارات والوزارات .. أجهزة العاصمة , وأجهزة المحليات " سيركبها " البعض ليقطع بها طريقا .. ويصل بها إلى " محطة" .. ويسجل بها " أبناطا " .. حتى ينتهي " المولد وينفض .. وحتى تفقد " الموضة " إغراءها وجاذبيتها .. وإلى أن يفتح الله علينا " بموضة " جديدة أو موديل جديد وموسم جديد .. فنبدأ " اللعبة " من أولها وحتى نهايتها .

- قد تبدو الصورة مزعجة بل و" مقرفة "

- قد... قد...... قد......

لكن الشئ المؤكد في صحته .. هو أن " الصناعات الصغيرة " هي الحل .... وعلى وجه الدقة ... هي إحدى الأدوات , والوسائل الأساسية للحل ..

- حل .... حل..... حل .....

- هي كذلك .... هي كذلك..... هي السبيل .....

- ومن أجل هذا وبسببه... تولدت الخشية أو الخوف .. واكتسي الحديث بمسحة تشكك أو تشاؤم ...

فلا يصح أن نتعامل معها بنفس الأسلوب الذي تعاملنا به مع قضايا على الدرجة نفسها من الأهمية والخطورة ,, في السابق .. ولم نكمل فيها المشوار ..

- هل تذكر بهذه المناسبة .. قضية الاستثمار .

- قضية إزالة المعوقات وتبسيط الإجراءات

- قضية الدعم ووصوله إلى مستحقيه.

- قضية الفائض والمخزون ..

- قضية " التكنولوجيا " وعصر الكمبيوتر.

فيكل هذه القضايا ,وغيرها .. تعاملنا معها بأسلوبين :

- إما أسلوب " الموضة " التي تظهر وتملأ الدنيا ,وسرعان ما تخبو وتذوب ويبتلعها النسيان .
- أو أسلوب " الموسم " ... أى الاهتمام الموسمي بمشكلة من المشاكل أو أزمة من الأزمات .. أو قضية , تندفع إلى سطح (البقية ص 3)


- ويملأ الكاتب نصف صفحة ثلاثة هذه بالكامل بمثل هذا الكلام الذي كتبنا معظمه ولا ينسي بطبيعة الحال أن يشيد بعظمة وحكمة الرئيس .
وفهمت أن كل من حكمنا حكماء وعظماء !! وأن الطعمية هي الحل ومن أجل هذا يعقدون لها المؤتمرات الدولية .
وأن سياسية الدولة ربما تأخذ هذا الاتجاه , الأمر الذي له أكبر الدلالة على أننا نعيش في مستشفي للأمراض العقلية أو مصحة للأمراض النفسية على أقل تقدير .
ونعود إلى قضية صاحبنا وكيل وزارة الصحة .

رفع يطلب بطلان قرار رئيس الجمهورية بفصله من عمله .. وأخذت القضية شوطا طويلا . وأوشك مجلس الدولة أن يحكم ببطلان هذا القرار .

وعلم صلاح الدسوقي الششتاوي أحد أبطال مذبحة سنة 1954 مع الإخوان وذهب ليلعب التنس مع الرئيس كالعادة .
وأثناء شربهما للكوكاكولا المستوردة كلمة في الموضوع .

كانت كل المشروبات الموجودة في العالم تأتي إلى الرئاسة والمباحث وأجهزة أخري يحرم القانون إفشاء أسرارها .

فمن الجائز أن تستخدم هذه المشروبات في تنفيذ سياسة عليا !!

قال صلاح الدسوقي للرئيس :

- تصور يا ريس الرجل المجنون اللي سيادتك فصلته من وزارة الصحة .. والله ما أنا عارف أقول إيه ..

- ويحاول الرئيس أن يتذكر :

- راجل مي نده يا " صلوحة "؟
- يا فندم ده رفع دعوى ضد سيادتك

لا يجوز الطعن على قرارات الرئيس أمام أية جهة !

وقامت القيامة ووقعت الواقعة وأصفر واربد وجه الرئيس,وأرغي وأزبد وهو لا يكاد يصدق هذا الكلام , حتى أخرج له صلاح الدسوقي صورة من عريضة الدعوي المقامة ومكتوب فيها عبارة " ضد السيد رئيس الجمهورية بصفته " وفي اليوم التالي كان بدوي حمودة رئيس مجلس الدولة يجلس مرتعدا في مكتب الرئيس الذي كان يروح ويجئ حوله كالضبع الهائج ويقول :

- أنا لا أصدق ما أسمع .. بعد كل هذه السنين يوجد من يجرؤ على رفع دعوي ضدي ؟ هل هذا معقول ؟ انطق ..
ويبتلع بدوى حمودة ريقه وهو ينطق بصعوبة ..

- يا فندم القصة مش دعوى ضد سيادتك شخصيا , ولكن هي دعوي ضد رئيس الجمهورية بصفته .. يعني ..

- ويقاطعه الرئيس مزبدا ..
- يعني إيه ضد سيادتك ومش ضد صفتك .
- لا فندم يعني بصفتك .. أصل القانون .. وهذا لا يكون إلا في مجلس الدولة ..

- ويقاطعه الرئيس بصوت كالرعد :

- اكتب لى قرارا جمهوريا الآن بإلغاء مجلس الدولة .
ويحكي بدوى حمودة للذي روى لى القصة أن هذه العبارة نزلت فوق رأسه نزول الصاعقة , فبعد هذا العمر الطويل في خدمة الحكومة والثورة وتأليف القوانين وتفصيلها على المقاس المطلوب , وأنهي خدمتي بهذه الكارثة , ويتم إلغاء مجلس الدولة على يدي .

وألقي الرئيس بنفسه بورقة في وجه بدوي حمودة وهو يصرخ فيه :

- هيا اكتب القرار الجمهوري .
- حاضر يا فندم .
وراح عبد الناصر وجاء هائجا , بينما جلس بدوي حمودة كالفأر وفي يده الورقة ولا يدري ماذا يكتب فيها .

وفجأة قال للرئيس :

عندي فكرة قانون ستعجب سيادتك يا فندم .. نعم .. قانون يا فندم .. كل قراراتك من أعمال السيادة ولا يجوز الطعن فيها أمام أى جهة .. لا مجلس دولة ولا مجلس الأمن حتى .
وهدأ الرئيس تماما وامتدت يده إلى الجرس وضغط عليه . ودخل الساقي في رتبة وزير , وكل الوزراء يعرفونه ويبجلونه ويتملقونه , وقال له الرئيس :
هات حاجة ساقعة لبدوي .
وكتب بدوي القانون .
وهذا بعض التاريخ السري لمصر عبد الناصر !

نحن لا نكفر أحدا بل نعرض عليه الإسلام

في هذا المناخ العام تم اعتقال عبد الله بن أحمد السماوي , وإذا كان رئيس مجلس الدولة هكذا يسارع بتلبية أوامر الزعيم فما بالك بضابط شرطة أو وزير شرطة سوف يبالغ في تنفيذه هذه الأوامر .

ومنها أن يأتي إلى المعتقل ألف برئ بل عشرة آلاف دون ذنب , ودون تهمة واضحة . ومن هؤلاء عبد الله بن أحمد السماوي الشاب الصغير الذي لم يصل بعد إلى العشرين في ذلك الزمن الأغبر .

وكان من الطبيعي أن يصير من " المكفرين " بعد أن رأي ما رأي من اضطهاد وعذاب وضياع للمنطق والعدل , والعبثية واللامعقول في كل ما يدور حوله من أحداث وحكومة يقول عنها مثلي إنها فاجرة ظالمة لا ترعي مصلحة أحد..

بل لا تهتم بمصلحتها وغاية ما تحرص عليه هو البقاء والبقاء ولو على أشلاء الشعب فلابد أن يحكم عليها عبد الله بن أحمد في ذلك الزمن بالكفر , ولابد له أن يحكم على مثلي بذلك إن لم أوافقه على رأيه ولكنه لم يفعل .

واكتفي بفكرة عرض الإسلام علينا فإن قبلنا , فنحن مؤمنون وإن لم نقبل فنحن الذين اخترنا طريق الغي , وذنبنا يقع علينا .

وقلنا له اعرض علينا الإسلام الذي تراه .

فقال وهل هناك إسلام تراه وإسلام آخر أراه ؟ دين الله واحد .

فقلت له :

قل هذا لنفسك .. دين الله واحد .. ولكن الرؤية ووجهة النظر قد تختلف أحيانا .. هذه هي طبيعة العقل والحياة , ولهذا كان اختلاف أئمة الفقه وكان يقول :

سوف أعرض عليكم الإسلام في الوقت المناسب .

ونضحك معه :

تقصد عندما تكون وجهة نظر ... عندما تستعد .. تقرأ وتدرس ثم تري ماذا يقال , وما يمكن أن تأخذه من نصوص لتخدم فكرة قد كونتها بالفعل في رأسك .. وكان العكس ينبغي أن يكون .
ومرت الأيام والشهور وتحدثنا معه في الكثير وجلس هو إلى الكثير , آخذا في اعتباره أن أهم من يلتقي معهم ويتحدث إليهم هم أصحاب النزعات إلى التكفير ونبذ المجتمع .
وكغيره من أصحاب هذا الفكر الذين التقيت معهم في معتقل طره السياسي .. كانت ميولهم إلى القيادة والإمارة والترأس , فأغلبهم لا يرضي أن يكون مأمورا ,إن صار فلفترة قصيرة ريثما يستعد ويمهد ثم ينصب نفسه أميرا ولو على شخص واحد , وهو الذي يتركه بعد فترة ليصبح أميرا هو الآخر ولو على نفسه .
كان كل ما نراه من فكر التكفير ونزوع أصحابه هو ضرب من الرفض والاحتجاج والغضب والثورة والرغبة في إعلان ذلك إلى الجميع ملتمسا صاحبه غاية ما يقدر عليه وفي أضعف حالاته أن يظل بداخله كراهية مريرة في وجدانه وتصور وفكرة في رأسه بغض النظر عن احتمالات الخطأ والصواب أو دواعي الحق والباطل .

وعبد الله بن أحمد السماوي واحد من هؤلاء , ولكن كانت له من الميزات ما يجعله قريبا إلى قلب من يرفضه فهو لم ينهج سبيل الانفصال والاستعلاء بشكلهما العام وظل على هذا حتى الأيام الأخيرة التي سبقت الإفراج حيث ترك الجميع وأنا منهم .

أما قبل أن يتخذ هذا الموقف , فكان كثيرا ما يحلوا لنا السمر معه , وكنا نتخذ من زنزانة الأستاذ على محمود الصحفي مقرا مختارا لنا , حيث نجلس فيها ويجتمع الشامي مع المغربي , ثم يأخذ بنا الحديث مداه .

وفي هذه الأونة كنا نتحدث معه في فساد فكرة تكفير المجتمع والابتعاد عنه وكيف أنها فكرة سخيفة وغير عملية , وكان الحديث يدور في شئ من الجدية التي تختلط دائما بالدعاية والهزل والسخرية ورغم حرصنا الشديد على غير ذلك.

ولم يكن السماوي كشكري مصطفي عنيفا غضوبا متنائيا عن الناس يمهد لأمر عظيم سوف يكون بعد الإفراج عنه , بل كان ودودا حلو المعشر , يشاركنا جدنا ولا يغضب من هزلنا عندما يكون هذا الهزل له صلة بفكره الذي لم يتكون بعد ولم يأخذ شكله الأخير .

وكان السماوي يحاول أن يلتزم بكل ما يصل إلى علمه من الأوامر والنواهي ويعمل على تطبيقها ولا يفكر حولها أو فيها , ومصدره أى حديث قد سمعه أو قرأه بغض النظر عن درجة صحة الحديث ولم يكن يجهد فكره في التفكير بعيدا عن الدلالة الظاهرة أو سبب وظروف الحديث ويتناسي الزمان والمكان بطبيعة الحال .

فمثلا قرأ أو سمع أن الرسول صلي الله عليه وسلم كان يكتحل , فيصر على أن يفعل ذلك ونحن في المعتقل حيث لا يوجد سوق للعطارة , فيرسل أو يوصي بمن يأتيه بهذا " الكحل " حتى يكون كرسول الله صلي الله عليه وسلم في كل شئ حتى تكحيل العينين , والله أعلم بحقيقة القصة , هل اكتحل الرسول عليه الصلاة والسلام مرة أم كانت عادة عنده ؟

وفي ظروف مثل ظروف المعتقلين الموجودين بطرة السياسي ألا يرفع عنهم حكم الكحل لتعذر الحصول عليه والمشقة في إتيانه ؟

وكان يحاول أن يقلد مشية رسول الله صلي الله عليه كما وصفتها الكتب , وأشياء أخري لا أذكرها , وأغلبها يرتبط بالشكل العام وعلاقته ضعيفة جدا بالمضمون بل قد يؤثر عليه في بعض الأحيان .

وكانت هذه الأشياء تتم فتعطي شكلا فكاهيا في نهاية الأمر , ورغم هذا فقد كان يصر على أدائها مهما كان فيها من عنت ومشقة .

وكنا نتسلي بهذه الأشياء التي نراها ونسمعها في ذلك المعتقل الأصم الذي ارتفعت أسواره وأحكمت أبوابه , ولم يعد أمامنا غير ما نراه ونعيشه .

وكان كل يوم يمر عليه يقربه أو يقترب به من باب الرفض الأعظم وهو العنف والتفكير في سحق كل من يخالفه ولا يتفق معه .

وكان هذا هو شعار كل أصحاب النزعات التي تستهدف الرفض ولو لم يعلنوا.من ليس معي فهو مع أعدائي ضدي !

ولم يكن ذلك صحيحا بكل المعايير فجميع المعتقلين قد أعلنوا عن رفضهم للمجتمع ولكن بطريقة تختلف عن طريقة هؤلاء .. ودليل ذلك كونهم معتقلين .

الهجرة تقوم الحرب الذرية

وعندما مات عبد الناصر كان الأمر قد بلغ مداه بعبد الله بن أحمد السماوي وشعر أن العناية الإلهية تؤهله لدور عظيم , وأن الظروف كلها تسير معه إلى تحقيق هذه الغاية .

وهذا ما قاله لى عندما سألته عن رأيه في موت جمال عبد الناصر !

وكان في هذه الآونة قد اقترب كثيرا من أفكار شكري مصطفي وانتظم في جماعته لفترة قصيرة جدا , ولكن حال دون التقائهما نزوع كل واحد منهما للإمارة والقيادة ولا يجتمع سيفان في غمد كما يقولون .

وكانت في أعماقه رغبة عارمة للحرب والقتال في ميدان لا يراه ولكنه يتمني أن يكون .

وكان ساخطا من ظهور الدبابات والطائرات والحرب الإلكترونية وسائر هذه المسميات وكان يري أن الذي يحكم بين الحق والباطل إنما هو السيف بمعناه الحرفي وليس بمعناه المجازي .

وكان يشاركه في هذا التفكير شكري مصطفي , وربما كان الأخير هو صاحب هذا الرأي , وكانا يتمنيان أن يأتي اليوم الذي يقاتلان فيه بالسيف والسهام حيث الخيل والكر والفر والاحتماء خلف التلال والجبال .

وما زالت هذه الفكرة تلح عليهم حتى تصوروا حربا ذرية سوف تقوم بين الأمريكان والروس وتنتهي الحضارة على كوكب الأرض .. ومن ثم يعودون إلى استعمال السيوف ضد مخالفيهم .

ومن هذا المنطلق تبلورت فكرة الهجرة عن ديار الكافرين والاحتماء بالكهوف والجبال من الحرب الذرية القادمة .

واعتقد عبد الله بن أحمد بعد تلك الفترة القصية التي قضاها تلميذا في مدرسة شكري وربما قد نقل عنه أن خير مكان للاحتماء والحياة حتى يأتي وعد الله هو جبال اليمن , ولم يكونوا قد رأوها ولكنهم سمعوا عنها وعرفوا كم هي شاهقة وعالية ومليئة بالكهوف؛

كانت تصوراتهم عن اليمن من الأخبار المتناثرة التي وردت في كتب الحديث والتاريخ الإسلامي والتي أتيح لنا أن نطلع عليها في ذلك المعتقل ولم يكن كل ما يطلبه الإنسان يجده في المعتقل , فقد كان كل شئ بحدود وبقدر معلوم ومرسوم .

وكان السماوي يتمني أن يجتمع كل المسلمين الفاهمين على رأيه , ويقبلوا قيادته لحرب المجتمع عندما يخرجون أو يأذن الله بزوال هذه الدولة فنخرج من معتقل طرة بعد أن نحطم أبوابه ونحن في جمعنا الغفير .

وقال الشيخ عارف :

- ولماذا نكسر الأبواب ونحطمها إن سقط النظام ؟

وقال على محمود :

- هم سوف يفتحون لنا الباب , ويعطوننا فرصة لجمع أشيائنا ونخرج بهدوء .

ويبتسم عبد الله بن أحمد ويقول من بين ابتسامته التي يحاول أن يعبر بها كثيرا :

- لا .. الرمز هنا مطلوب تحطيم الأبواب والأقفال والخروج في جمع .

وأقول له :

- نسير إلى أين ؟

وينظر إلىّ الشيخ عارف :

- نسير إلى بيوتنا .. ليس هناك مكان آخر نذهب إليه .

ويسأل على محمود في خبث :

- وملابسنا وأشياؤنا التي تركناها كيف نأخذها ؟

ويرد الشيخ عارف ساخرا :

- سوف يعين قائد إسلامي للمعتقل وهو يتولي إرسال الحاجات إلينا وهنا يتدخل الشيخ السماوي :
- لا توجد معتقلات في الإسلام.

- ويرد الشيخ عارف :

- وماذا نفعل بالحاجات .. الأشياء .. الملابس ؟
- نعود إلى الرأي الأول .. لا ضرورة للخروج في جمع غفير .. كل واحد يجمع أشياءه ويخرج في هدوء .

ويقول الشيخ عارف رافعا صوته :

- وماذا سنفعل مع أعداء الإسلام ؟

- ويرد السماوي في صرامة :

- ليس لهم غير السيف .

ويقول على محمود :

- يجب أن يتم التحقيق والمحاكمة لتحديد أعداء الإسلام .

- ويضحك الشيخ عارف عاليا ساخرا :

- نحاكم الشعب كله ؟ وماذا يكون مصيرنا ونحن في المعتقل قبل أن تأتوا إليه ؟ ورجل مثلي سجنت واعتقلت قبل أن تولد ..

- ونضحك ولكن السماوي يأخذ الأمر جدا ويقول :

كل هذه الأمور سوف تبحث بدقة , وظني أن حكمكم سيكون حكم الطلقاء , تدخلون في الإسلام , ولكن لا تتولون المناصب والوظائف العامة .

- ومن سيتولاها ؟

- جماعة المسلمين .

- وأين هم ؟

ويعود الضحك من جديد

الطريق إلى الزعامة طويل

وينظر عبد الله بن أحمد فيجد نفسه صغير السن حدثا , وبالمعتقل عدد غير قليل من المجاهدين أصحاب السابقة في الإسلام من جماعة الإخوان ,ويتحسر ويزداد تحسره عندما يعلم أنه لو سلك نفسه في هذه الجماعة , فلن يصيبه الدور في القيادة قبل زمن غير قليل , وربما لا يأتيه في حياته أبدا .

فكان كثيرا ما يكلمنا عن حداثة السن وأنها ضرورية للقيادة وأن الرسول صلي الله عليه وسلم قد أختار شبابا لها .

وأقول له :

ليس أمامك غير شابين جعلهما رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذا الموضوع فيوم الفتح جعل عتاب بن أسيد أميرا على مكة حتى لا تتنازع المشيخة من قريش , وأسامة بن زيد لتأديب الروم فقد كان موتورا لاستشهاد أبيه زيد بن حارثة في مؤتة , وقد كان ذلك جائزا لا واجبا .

أما بقية القواد والأمراء فقد كانوا من أصحاب السن والتجربة , وعندما مات صلي الله عليه وسلم لم يفز على بن أبي طالب بالخلافة لأسباب كثيرة كان منها أنه حديث السن , وكان الذي يناقش الأمر هم كبار الصحابة .

ويسكت عبد الله بن أحمد يائسا فحجته ضعيفة وسنه صغيرة والطرق إلى الأمارة صعب وطويل ... لهذا كان لابد من رفض تلك " التركيبة " الاجتماعية بمسلميها وكافريها, والأفضل أن يكونا جميعا كافرين , ومن السهل تكوين الجماعة اللازمة لتحقيق الإسلام من الشباب وإن كان فيها كهل أو كهلان فلن يحدث ضرر.

ومن ثم كان لابد أن يضع هؤلاء الذين يراهم في المعتقل والذين جاءوا باسم الإسلام في مصاف المنافقين أو الكافرين أو المسلمين الذين في إسلامهم زيغ ودخن , وهكذا يسهل رفضه , ويستريح ضميره الديني , ويكون أكثر حرية في العمل .

واعتبر عبد الله بن أحمد موت عبد الناصر إيذانا بعصره الجديد وعالمه المختلف , وعليه هو مهمة تشكيله كيفما أراد وعلى النحو الذي يتصوره واشتدت خطاه في هذا الطريق وابتعد عنا رويدا رويدا, حتى اجتنبنا تمام ولم يعد يختلف إلينا , وصار يعاملنا معاملة الكافرين ولكن على استحياء شديد وفي أدب جم .

سقط فاروق بعد أن اضطهد الإخوان

كان كل من بالمعتقل يرفض المجتمع بدرجات متفاوتة فمنهم مجموعات كانت تريد الإصلاح على ضوء المعطيات الموجودة على أن يكون التصادم معه حواريا جدليا .

ومنهم من كان يري أن دور المصلحين والراغبين في التغيير لا ينبغي أن يتخطي مجرد إبداء الرأي والإعلان عنه والناس أحرار فيما يعتنقون أو ما يفعلون .

ومنهم من كان يري أن عليهم واجب القضاء على هذا المجتمع واجتثاثه من جذوره ولو على أشلاء كل الأحياء من كل الفرق التي لا تري رأيهم .

ولكنهم يتفقون جميعا على ضرورة تغيير هذا المجتمع بشكل أو بآخر .. ولم تكن هذه القضايا مطروحة في أيام الاعتقال الأولي , فقد كان الناس في شغل عن هذا كله بالسياط والتعذيب وتمزيق الأوصال والاستشهاد , وهو أمر أكبر وأعظم من أى تفكير .

وقد أخطأ عبد الناصر مرتين ...

الأولي عندما اعتقل وعذب ونكب ونكل .

والثانية عندما تركهم يعيشون سويا في معسكر يفكرون ويناقشون .

فهو قد خدم فكرة رفضه وعزله وتغيير نظامه , وإن طال الزمن بعض الشئ فنظامه بالضرورة إلى زوال .

وقد مر الإخوان المسلمون بتجارب سياسية عديدة قبل الثورة , وكان اضطهادهم من الأسباب الرئيسية المباشرة لسقوط النظام الملكي وقيام ثورة 23 يوليو .

وقد تعلموا كثيرا مع النظم الديمقراطية , فهم الذين جاءوا بصدقي رئيسا للوزراء وهم الذين أسقطوه , وكان شعارهم هو حسن الظن إلى أن يثبت العكس وهم أيضا الذين جاءوا بالنقراشي , وهم الذين دعموه وأيدوه بإرسال العرائض والمكتوبات التي تبين تأييد الشعب له أثناء وجوده في مجلس الأمن ضد شعبية الوفد والنحاس باشا بصفة خاصة .. وهم أيضا الذين قتلوه !

وكانوا ينظمون المظاهرات تهتف بحياة الملك أثناء ذهابه إلى البرلمان , وحتى يطمئن الأمن ويسمح للمظاهرة بالتمكن ويفسح لها الطريق وتقترب من موكب فاروق أكثر , وهنا ترتفع الهتافات الإسلامية الإخوانية .

واستطاعوا بنجاح أن يحققوا وجودهم في مخيلة الملك وتفكيره بجهودهم الذاتية , ناهيك عن تقارير الأمن التي كانت ترفع إلى السراي .

وكان حسن البنا قد سافر إلى السعودية لأداء فريضة الحج والتقي والملك عبد العزيز آل سعود وأخبره أنهم يهتمون بتربية الأجيال القادمة وأنهم يهتمون بأساتذة الجامعة وبأن ينهجوا النهج الإسلامي فصار هذا عونا على تنشئة الطلبة تنشئة إسلامية ودار بينهما حوار طويل .

وسأله الملك عبد العزيز :

- هل تسعون في نشاطكم هذا للحكم وتريدونه ؟

ورد عليه حسن البنا :

- بل الحكم هو الذي يسعي إلينا .

والذي لا شك فيه أن هذا الحوار قد عرفه الملك فاروق أو وصل مسامعه بطريقة أو بآخري وكان بمثابة تحذير وإنذار للنظام !وتداعت الأحداث على النحو الذي صار .

من كل هذا تخلص إلى أن الإخوان قد صارت لهم تجربة عريضة في التعامل مع الأنظمة بشتى أشكالها : الملكي والرئاسي , الديمقراطي والاستبدادي , والتصور أنهم بعد نكبة عام 1965 وما حدث بها من ويلات أخذوا يعون دروسا قد حفرت أخاديدها في قلوبهم ومن ثم فقد استقر رأيهم وفهمهم على سنن ليس من السهل إقناعهم بالحيدة عنها , بعكس أولئك الذين جاءوا للمرة الأولي .

انفجر الطوفان من معتقل طرة السياسي

كان عالم التكفير والهجرة يستعد ويتكون في رحم المعتقل القاسي , وقد شارك النظام الأحمق في صياغته وتحديد مساره , ولم يخطر ببال أحد منهم أن ذلك الاضطهاد الكبير يمكن أن يسفر عنه حقد وكراهية تنمو جذوتها فتتمثل رغبة في الانتقام والتغيير .

وكما قلنا فتلقي الناس للاضطهاد والظلم يختلف من شخصية إلى أخري , ويكون رد الفعل على حسب هذه الشخصية وثقافتها وتجربتها في الحياة؛

فقد نجد رجلا بسيطا كان يعمل في حرفة بسيطة قبل أن يعتقل ثم جاءوا به على قدر من الله بعد أن سلبوه حق رعاية أبنائه , وحرموه من سعيه في طلب الرزق , وألقوا به في مكان لتهمة لا يعرفها وبسبب جريمة لم يرتكبها فهو دائما يصلي بالليل ويتهجد ويدعو على من ظلمه ولا يزال يتذكر ما فعلوه به حتى يستقر في وجدانه كراهية كل ما يمت إلى الحكومة بصلة .

وهو رجل بسيط الثقافة نال ضئيلا من التعليم قليل الكلام فلا يختلط بهذا أو بذاك . وهو رغم إيمانه بالله سبحانه وتعالي علمه ويقينه بأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح؛

ورغم كونه تقيا يعمل الصالحات فإنه يري نفسه أقل من معظم الموجودين حوله والمعتقلين معه, من حيث المكانة الاجتماعية , وارتفاع درجة الثقافة والتعليم والهيئة بوجه عام , لهذا فهو ينزوي ويبتعد عن الناس بقدر ما يستطيع حماية لنفسه ولكرامته أو هكذا يظن .

ورغم هذا كله فإنه يجد نفسه في معتقل أبي زعبل السياسي وقد صنف مع الزعماء ووضع في عنبرهم وعدوه ضمن ستة وثلاثين شخصا هم في رأي الحكومة الجاهلة وأجهزتها غير الواعية من أخطر الناس شأنا وأنهم سبب كل بلاء وشقاء .

(لم يكن الحاج مصطفي مشهور ضمن سكان هذا العنبر مثلا)

ويصاب صاحبنا بدهشة عارمة , ويستقر في وجدانه أنه تحت يد باطشة قادرة تفعل ما تشاء , بغض النظر عن علمها أو جهلها , وتستقر نفسه ويهدأ باله بعد فترة من الوقت .

وتتغير أحواله عندما يجلس إليه من يحدثه حديثا جديدا ربما قد سمعه من قبل ولكنه بدأ يستشعر معناه ومراميه بشكل جديد , فيقول له محدثه :

- أنت أعظم من هؤلاء الكبراء والعظماء , وإن كانوا يتكلمون الكلمات الغريبة التي يلوكها المثقفون , فأنت بإيمانك أعظم وأكبر , وهناك فرق بين أمية القلب وأمية العقل , وهناك التفكير والإلهام؛

وإن تقوي الله هي أعظم أبواب المعرفة وأصدقها , وأنت بحسن إيمانك أكثر ثقافة منهم , فقد حرمهم المولي من علمه اللدني , ومنحك إياه , وجعلهم يبيتون ما لا يرضي من القول, أما أنت ففي نعمة وحتى تظل عليها فواجبك هو الإيمان وشهادة أن لا إله إلا الله قولا وعملا ويعني أن ترفض أى إله يعبد من دون الله, على أية صورة كانت هذه العبادة .

ومن ثم تظل دائما أعلي وأكبر من كل هؤلاء .

ويقع الكلام في نفس صاحبنا موقعا حسنا , فهو يراه حلا لمشكلته .

وهو يحقق ذاته وسرعان ما يجد نفسه في صفوف المعارضة العنيفة بالفكر أو بالقتل , والتي تري أهمية البطش بهؤلاء الكافرين أينما وجدوا , أو الموت في سبيل الله .

وتعلمنا في المعتقل أن الطريق إلى العنف سهل وبسيط ويمكن أن يعتنقه عدد كبير وأن نار الاضطهاد هي التي تغذيه وأن التعذيب هو " المحضن " الطبيعي للقضاء على أى نظام .

أعقل الرافضين

من لم يمت بالسيف مات بغيره

تنوعت الأسباب والموت واحد

هذا ما قاله لى محمد قطب عندما سألته عن رأيه في موت جمال عبد الناصر !!

قال بيت الشعر في بساطة , ودون تشف أو أى تعبير يوحي بالفرحة والحبور ثم أردف :

- الموت هو مآل كل حي , والعبرة بما بعد الموت

- وقلت له :

- ألا يعني هذا تغيرا على نحو ما في السياسة المصرية ؟

وقال :

- في السياسة المصرية فقط ؟ والعربية والإسلامية ونظرة القوي العالمية إلى المنطقة .

وقلت له :

- وهل لهذا من توضيح يا أستاذ ؟

وكانت طريقة الأستاذ محمد قطب فريدة في نوعها , فهو عندما تفاجئه بسؤال يجيبك عنه بداهة أو يفكر ثم يتكلم , وعندما يتكلم مجيبا عن السؤال الذي وجهته له تشعر كأنه قد سبق له تحضير هذه الإجابة , فالكلام يخرج من فمه مسلسلا جزلا دون تلعثم وفي ترتيب , وأحيانا يقول : لا أعرف ,وأحيانا أخري يقول : دعنا نفكر بصوت مرتفع , ثم يطرح أسئلة مختلفة حول السؤال فتتضح الرؤية فيه , ثم يمضي في الشرح والإفاضة , وكم قال لنا من أشياء أثناء فترة الاعتقال كنا نعدها ضربا من الخيال ثم حدثت وصارت حقيقة .

وقال الرجل :

- بالنسبة لموت عبد الناصر فهو بمثابة العد التنازلي لثورة 23 يوليو.

وهذا العد التنازلي قد يستغرق عشرين أو ثلاثين عاما .

وفزعت وقاطعته مستنكرا :

- عشرين أو ثلاثين عاما ؟

وابتسم وقال :

- وربما أكثر من ذلك.. هذا يتوقف على عوامل كثيرة نعرف بعضها ولا نعرف البعض الآخر , ولكن المؤكد أن دولة الثورة تسير إلى النقص وليس إلى الزيادة .

- وزادت ابتسامته وقال :

- أنت تستكثر عشرين أو ثلاثين عاما ؟ طيب أنا شخصيا موافق على هذا الرقم بشرط أن يتم الجلاء بعده دون قيد أو شرط .. ثورة 23 يوليو مثل الاحتلال الإنجليزي , هي في نفس حجمه رغم أن تأثيرها في مصر أعظم ألف مرة من تأثير الاحتلال .
كان عبد الناصر يستعد لعقد صلح مع إسرائيل , وكان قبوله لمبادرة " روجرز " خطوة في طريق هذا الصلح , ومات بطريقة لم نعرفها بعد , ولن يتسنى لنا معرفتها إلا بعد انتهاء ذلك العهد بأكمله , ثم تفتح بعض الملفات , وربما يظهر في ملف منها الطريقة التي مات بها , وعلى العموم هذا لا يقدم أو يؤخر في الأمر فهي قد تعيننا على فهم بعض الظواهر وقد لا تضيف إلينا جديدا مهما .
سيقوم السلطان الجديد بإبرام الصلح مع إسرائيل , وإن صدق حدسي فسيتم هذا قبل عشر سنوات , هذا إن ظل على قيد الحياة هذه المدة , وإن مات فسوف يقوم بإبرام الصلح من يأتي بعده ,ولو أني أرجح أن أنور السادات هو الذي يوقع اتفاقية صلح مع إسرائيل .

والحقيقة أنني أحسست بفزع حقيقي وقلت :

- يتم صلح مع إسرائيل ؟

- وعاد يقول لى في تأكيد :

- لقد قامت ثورة 23 يوليو من أجل هذا الصلح مع إسرائيل , ولكنه تأخر بعض الوقت .
ربما لظروف خارجة عن إرادة أصحاب القرار .

وهل يقبل المصريون هذا الصلح مع إسرائيل ؟

وزادت ابتسامته وهو يقول :

- المفروض فيك أنك أحد الذين يفهمون هذه الأشياء .
يقبلون أولا يقبلون ليس هذا مأخوذا في الاعتبار .

وكنت أود أن أستمع إليه ولا أقاطعه , فهو أحد قلة نادرة في بلاد العرب , ممن يفهمون المخططات الاستعمارية و الألاعيب الدولية , ويعرفون كيف تسير هذه اللعبة ولكني كنت أجد نفسي مضطرا لمقاطعته بين الحين والآخر , وقلت :

- وهل يقبل العرب ؟

- هم أيضا مثل المصريين يقبلون أو لا يقبلون لن يفيد هذا في شئ المهم أن الصلح سيتم بين مصر وإسرائيل , ومعني هذه العبارة أنه سيتم صلح بين إسرائيل والعرب فمصر هي أكبر دولة عربية ويدخل العرب في اللعبة على نحو ما .

- بطبيعة الحال هناك خطط لتحقيق هذا , وهذه الخطط تتغير وفقا للمتغيرات مثل موت عبد الناصر مثلا .

فالصلح به يختلف عن الصلح بغيره , ولهذا وسائله وشكله وللآخر كذلك .

غاية ما تريده أمريكا من نظام 23 يوليو هو أن يعمل على إقرار الأوضاع في الشرق الأوسط .

وهذه العبارة تعني أمن وحماية إسرائيل , وأول خطوة في تحقيق هذا الأمن هو الصلح بينها وبين مصر , ثم تتلوها خطوات كثيرة ومتنوعة ولها اتجاهات مختلفة .

- أهم ما يشغل أمريكا هو المد الديني الذي بدأ في الظهور بمنطقة الشرق الأوسط , وسألته بتعجب :

- وأين هذا المد الديني الذي تتحدث عنه ؟

وقال في ثقة :

- وهل تظن أن عين أمريكا غافلة عما يحدث بالمعتقل هذه الأيام ؟هم قريبون جدا منا , ومعلوماتهم عما يدور في معتقل طرة السياسي أكثر من معلومات أجهزة الأمن, فهم يجمعون المعلومات منهم ومن غيرهم , وعندهم تفاصيل أدق مما لدي غيرهم , وهم يخضعون ما يجمعون من بيانات للفحص والتحليل, ومن ثم تكون قدرتهم على التنبؤ كبيرة على النحو الذي يحدث في مصلحة الأرصاد الجوية , فإذا وقف موظف يقول طقس معتدل شمال البلاد مع احتمال سقوط أمطار خفيفة على الساحل؛

فهذه العبارة تتم من خلال معلومات قد تم تحليلها فأدت إلى هذه النتيجة وقاطعته قائلا :

- معظم تنبؤات مصلحة الأرصاد الجوية غير دقيقة , وتأتي بنتائج عكسية وقال :
- لأنها مصلحة أرصاد جوية مصرية , شأنها شأن أية جهة مصرية , أمنية كانت أو زراعية تعتمد على تحليل معلومات ناقصة فتتوقع نتائج لا تكون في أغلب الأوقات , أما مصلحة الأرصاد الجوية الأمريكية فهي لا تخطئ لأنها تعتمد على معلومات كاملة ومن ثم تكون نتائجها دقيقة والأمريكان عندهم مصلحة للأرصاد السياسية تشمل العالم أجمع ,وهي تهتم بهذا الموضوع اهتماما يفوق اهتمامها بأى شئ آخر فنحن نعيش عصر أمريكا , وهي حريصة على دوام هذه السيطرة ,وتشترك في تسيير الأحداث وخلفها في كثير من الأحيان , ويساعد على هذا شعوب جاهلة مريضة قد قتلها التخلف بعد أن فقدت إيمانها بالله .
- فهذا الذي تراه اليوم في المعتقل من تعدد الجماعات وإن صغر عددها واختلاف الآراء مهما كان بعضها تافها لا يستحق المناقشة سوف ينتقل برمته من المعتقل إلى مصر , ويشملها جميعا بأعداد أكبر وبحدة أكثر , وسوف يشمل كل البلاد العربية والإسلامية وسوف يكون في أوروبا وأمريكا عبر أفواج المهاجرين إلى هناك هربا من الاضطهاد أو بحثا عن الأمن والأمان .
- وعندما يكتمل شكل هذه الجماعات التي أتحدث عنها سوف تعمل أمريكا على إذكاء جذوة الخلاف بينها , وأرجو ألا يخطر بذهنك أنني أتكلم عن جماعة التبليغ , أو الجمعية الشرعية وجمعية الهداية الإسلامية مع الإخوان المسلمين , حيث يوجد لكل مما ذكرت ممثلون شرعيون لهم في المعتقل .

هذا خلاف الإخوان الذين يمثلون الجانب الأكبر والأكثر خطرا بين هذه الجماعات , من جهة نظر الغرب والذين يقومون على رصد الظواهر ومراقبة التحركات والتأثير فيها فأنا أتكلم عن جماعات سوف تظهر في المستقبل القريب , فقد وضعت البذور وأثمرت وأخرجت زرعا , وسوف ينتقل هذا بكامله إلى الخارج وقد تري واحدا ممن نراهم رائحين وغادين هنا وهناك يبحثون عن نصير لهم أو تابع فلا يجدون , ولكنهم خارج هذا المعتقل سوف يتبعهم الكثير أكثر مما يظن أى أحد , ربما عشرات الألوف أو قل مئات الألوف .

- ألا تبالغ قليلا يا أستاذ في الأرقام ؟

وابتسم في تواضع وهدوء وقال :

- هذه رؤيتي على أى حال .

- وهل يسمحون بهذا ؟

- هناك أمور لا يقال فيها يسمح بها أو لا يسمح مثل شروق الشمس وغروبها والصيف والشتاء , وسائر ما يجري في الكون من سنن ونواميس .

- والإخوان المسلمون ؟

ماذا عنهم ؟

- كيف تري مستقبلهم ؟

- وسكت الرجل برهة من الوقت وقال :

- سيأخذون شكلا آخر وسمتا مختلفا .

- كيف ؟

- لست أدري .

قالها الرجل بلهجة من يعرف الإجابة ولكنه لا يحب الخوض في مثل هذا الحديث .

وأنت ؟

- ماذا عني ؟

- ماذا تنوي ؟

- ما ترى .. ليس هناك جديد أضيفه .. ما أقوله هنا سوف أقوله في كل مكان أذهب إليه , يجب أن تتحد المعركة بيننا وبين أعدائنا , وهي معركة العقيدة أولا وآخرا , لا إله إلا الله محمد رسول الله , فإن كانت هذه هي الراية المرفوعة فلن يحدث لبس أبدا عند أحد, وغير ذلك ضرب من اللغو .. ما قلته لك في أبي زعبل هو ما أقوله الآن في طرة , وإن أحياني الله فسوف أقوله في أى مكان وفرقتنا " صفارة " الشاويش معلنة انتهاء الطابور .

- ومضيت أفكر في كلام محمد قطب .

فقد ذهب الشهيد سيد قطب مخلفا وراءه " تركة " أحس شقيقة أنه مسئول عنها عدد لقليل من التلاميذ لهم صلابة وثبات وقوة .

" المشروع الإسلامي " وقد نفض عنه الغبار قبل أن يستشهد .تفسير لمعاني القرآن وروح الإسلام له وهج يعشي الأعين .

أعين الأصدقاء قبل أعين الأعداء .

راية قد نكست لبعض الوقت , وعليها أن ترتفع من جديد. انقسام مع الأهل أملته ظروف الخوف والفزع والرغبة في الحياة .

واجب عليه أداؤه دون أن يتجاوز الخطوط الحمراء .

تلك الخطوط التي رسمها بنفسه لنفسه ,ولم ترسمها له أجهزة الأمن وقوي الشر وغيب قادم قاتم في جلبة تملأ المكان والزمان , وصخب لم يسمعه أحد بعد , فقد كان المسلمون يجتازون عتبة الطريق إلى العنف رغم تحذير العقلاء .

الفصل الثالث:"هل أتاك حديث الغاشية "؟

الحاكم النذل يخلق أمة بلا أخلاق ويقود شعبا كالنعاج . الحاكم المستبد هو غاشية تغشي الناس . تبرز أسوأ ما فيهم , وتقتل كل ما عندهم من ملكات ومواهب .والضرب بالسياط يقتل كرامة الإنسان

طبع في مصر

أغضب كتاب " البوابة السوداء " الناس جميعا عندما ظهر للقراء .

أغضب القارئ لأن الكتاب لم يشف غليله في كثير من الأمور التي تناولها وزعم القارئ أن الكتاب لم يفصح عن هوية المؤلف , وبهذا جاءتني الرسائل .

وأغضب إخوة المعتقل والسجن لأني لم أوف الموضوع حقه ,وتجاوزت عن كثير من الحقائق والحوادث التي يشيب لهولها الولدان .

أغضب الزبانية الذين كشفت عن قليل مما فعلوه من جرائم وأغضب أجهزة الأمن الحديثة فما جاء في الكتاب يصنع إسقاطا على ما يصنعون هذه الأيام في زعمهم , ويلقي أضواء على ممارستهم ومن ثم يثير غضب الناس .

أذكر أنني عندما قدمت الكتاب للرئيس حسني مبارك في معرض القاهرة للكتاب عام 1986 أبدي عجبا شديدا من عنوانه وقلب صفحاته وأطلع على فهرسه وسألني :

- أين طبع هذا الكتاب ؟

- قلت له باسما :

- طبع في مصر .
على طريقة " صنع في مصر " التي عرف بها الرئيس .

سألني مداعبا :

- وهل سمحوا لك بنشر هذا الكتاب ؟

- وناوله إلى أحد مساعديه وقال :

- سوف أقرأ هذا الكتاب باهتمام .

- وقبل أن ينصرف قال لي :

- هذا حدث أيام الرئيس عبد الناصر ؟

- قلت له :

- نعم يا سيادة الرئيس .

- قال متوجسا :

- ولكن هذا لا يحدث الآن بطبيعة الحال .

قلت له وأنا لا أستطيع منع الابتسام :

- الكلام كثير .

وأنا لم أشرف بعد بالاعتقال في عهدكم السعيد .

- نظرا إلىّ متشككا للحظة , وابتسم وانصرف , ومن ورائه عدد كبير من الوزراء والكبراء , وانصرفوا خلفه وهم يتخافتون ويتلفتون كالأفاعي السامة.

من بينهم لمحت عيني أحمد رشدي وهما مزيج من عين الأفعى وعين الصقر .

الذين غضبوا من كتاب " البوابة السوداء "

الكتاب كما يعرفه من اطلع عليه يحكي قصة طغيان عبد الناصر, وفساد الأجهزة العديدة التي أنشأها لحماية نظامه الذي أسس على الفجور والفسق والضلال كما شهدنا وعرفنا .

كانت هذه الأجهزة تتظاهر بحمايته والمحافظة على النظام , وكان الشعب قد تحول بعد الطغيان إلى قطيع من النعاج ومن ثم فليس هناك ما يخيف .

ولكنهم كانوا يخترعون المؤامرات الوهمية , ويختلقون القصص ليعيش الزعيم في جو من يجرفه أمامه , فتركهم يعيثون في الأرض فسادا ويظلمون ويقهرون ويضربون ويعتقلون ويصادرون الأموال ويكبسون البيوت , على نحو أشد واعتي مما كان يحدث في أشد عصور التاريخ ظلاما وقتامة .

كانوا يسرقون وينهبون ويأكلون المال الحرام , وهو في أدني صوره مكافآت التعذيب التي كانوا يتقاضونها وثمن رءوس الشهداء وكانت العطية جزلة وكبيرة كان اللواء أحمد رشدي وزير الداخلية السابق من الذين غضبوا لفتح هذا الملف , ولم يدر أنه ملف لم يغلق لحظة وسيظل مفتوحا حتى لحظة الحساب .

أشهر من غضبوا من نشر كتاب "البوابة السوداء " هو اللواء فؤاد علام وما أدراك ما فؤاد علام !! ثم ما أدراك ما فؤاد علام !!.

غضب أحمد رشدي لأنه قد أعلن توبته من كل ما اقترفت يداه .

والله أعلم بالسرائر .

فؤاد علام

وما بال فؤاد علام لا يتوب مما فعل ؟

وهو الرجل الذي عاش عمره يلهث خلف السلطة , ثم غادرها أو غادرته إلى الأبد , وانتهي دوره في التاريخ المصري الحديث الملئ بالشهداء والمعذبين, وها هو ذا قابع في بيته ينتظر الآخرة, حيث الحساب العسير والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .

وإني لفي دهشة من غضب فؤاد علام , على التعذيب والقتل والتشريد ! فحسب علمي وأنا مؤلف الكتاب لم أعرض له إلا في أقل القليل .

وبرغم دوره البالغ وأعماله التي يعجز القلم عن سردها ووصفها فإننا لم نعرض لها كثيرا , بل كنت أكتفي بالإشارة إليها والمرور عليها , وكنت أفتح له بهذا بابا للاعتذار والرجوع .

ولو أنه اعتذار مقبول ولا يوجد من بين الأحياء من يمكنه قبوله , والذين يملكون الصفح والغفران هم الشهداء , ونحن لا نملك قبول الاعتذار نيابة عنهم بعد أن غادروا الدنيا .

الذين يملكون الصفح هم أولئك الذين استشهدوا على أيد آثمة .. فؤاد علام وأحمد رشدي وأحمد راسخ وحسن أبو باشا وغيرهم من أكابر المجرمين والجلادين .

وسوف تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم وسياطهم وسجونهم , نحن مهما اجتهدنا فلن يمكننا محاكمتهم في كتاب , فأمرهم أعظم عند الله من أن تكتب عنهم صفحات ثم ينتهي الموضوع .

لعلي أتنازل عن حقي وأغفر لهم بضعة آلاف من السياط التي كانت من نصيبي وكذلك ضرب الهراوات المركز الموجع , وقد أسامحهم طمعا في رحمة الله وعدله وصفحه .

لكني بالتأكيد لا أملك الصفح عن فؤاد علام وزملائه في قتل العشرات , ويكفي من رأيتهم بنفسي من الشهداء .

- زكريا المشتولي
- بدر القصبي
- أحمد السيد شعلان .

عقوبة على التأليف

وفؤاد علام شخصية غريبة فريدة ذات طابع خاص , يندر أن تجد له نظيرا أو مثيلا.

فهو يقتل والبسمة على شفتيه ويحرق بالنار من خلال نظرة شاردة حالمة , وله في القتل والتشفي والتعذيب متعة وروعة لا تخفي على أحد ممن وقع تحت يديه , وهو يذكرني بحمزة البسيوني الذي فرمته الأسياخ في لحظة بليل .

كان مريضا صاحب نزعة إجرام وانتقام بلا سبب ظاهر , ولعل هناك في طفولته ما يعلل هذه النزعة للإيذاء , ولكني لا أدعي العلم بتاريخ حياته .

ولم أكن أعرف أنني سوف أقضي فترة العقوبة على ظهور الطبعة الأولي من البوابة السوداء التي كانت قد ظهرت على استحياء في ربيع عام 1974 وكان هذا الكتاب أول كتاب يظهر ليحكي أسرار حكم عبد الناصر, ومن بعده صدرت الكتب تتري وكانت هذه العقوبة قد تأخرت بضع سنين .

عندما أصدرت الكتاب لم يكن يعنيني فؤاد علام وغيره من الجلادين , بل كان غاية همي ألا يتحول جمال عبد الناصر إلى وثن يعبده الناس لجهلهم بما فعل , وكنت أخشي أن تستمر أكاذيبه وشعاراته تسود واقع الناس وتصوراتهم أمدا ثم تتباعد السنون فيصير مثل أتاتورك اليوم في تركيا؛

فأينما تذهب إلى أى مكان في تركيا : قرية أو مدينة أو مبني حكومي أو أهلي تجد وثنا عليه كآبة يمثل الغازي أتاتورك, وهم لا يقبلون مجرد مناقشة أى عمل من أعماله , ولكن الصحوة الإسلامية اليوم في تركيا كفيلة بتحطيم هذه الأوثان في زمن ندعو الله ألا يطول .

ونسي فؤاد علام ما قدمت يداه وقرر أن يعاقبني .

وتأخرت عقوبته سنين !

وقد أخبرني هو بذلك يوما , واعتبره من الظلم الذي يصيب المؤمنين ثم جاءوا به على قدر .

وجعلوه على سجون الأرض ومعتقلاتها . وهو في هذا المجال حفيظ عليم .

ورفعوا درجته , وجعلوه نائبا لمدير مباحث أمن الدولة وهو خبير بالدسائس والمؤامرات ولا يباري في ألاعيبه وأساليبه فهذا عمله واستند على ذلك الذي عينه وهو حسن أبو باشا .

وأهمل مديره وتجاهله وصار يقضي الأمر دونه .

والباشا لا يعرف الحياء ويعرف ذلك كل من عاينوه وخبروه.

ويشهد بذلك يوم القيامة من استشهدوا على يديه .

وقرر أن يعاقبني على إصدار الكتاب .

وكتب ما شاء الله له أن يكتب من زور وبهتان ورفع الأمر إلى هامان وأدرجوني في قوائم الممنوعين من السفر سنين .

وقابلته وعاتبته فادعي كذبا أنه ليس المسئول وقال إن الذي فعل هم رجال الأمن القومي .

وتأملوا معي :

الأمن القومي
الأمن المركزي
أمن رئاسة الجمهورية
الجيش – الطيران – البحرية
وآخرين من دونهم لا نعلمهم !

ومع كل هذا فنحن أضعف الدول , وأقل الناس شأنا في الرقعة العربية , وعلى مستوي الكون نقع في آخر القائمة , إن كانت ثمة قائمة تصنف البشر وتضع لهم الدرجات .

وما يزال الباشا يدوخني ويهد في حيلي ويستعرض أمامي قوته وسلطانه ويمنعني من السفر رغم الخسائر التي ترتبت على ذلك حتى قيض الله عظيما من العظماء أمره ونهاه وزجره , وانتهت مدة العقوبة وخرج من بعدها مطرودا من مباحث أمن الدولة وصار مواطنا عاديا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .

كنت أتردد عليه ليلغي ذلك القرار الظالم , وكنت أصبر على هرائه وادعائه , ولم أكن أملك غير هذا .

انتحار الشهيد كمال السنانيري !!

أذكر مرة أثناء هذه الزيارات أنه أخبرني أن الشهدي كمال السنانيري قد انتحر تعجبت وسألته :

- وكيف تم الانتحار ؟

ونظر نظرة صفراوية وقال :

- أنت لا تصدق إذن أنه انتحر ؟

- وقلت :

أنا أسأل كيف تم هذا ؟

- وانتفخ فوق كرسيه ووضع ساقا على ساق , ومد يده إلى مسبحة أمامه على المكتب وصار يلعب بحباتها , وانطلق صوته كفحيح الأفعى :

- ربط عنقه بفوطة , ثم ربطها بطوع الحوض الموجود بالزنزانة وصار يجذب نفسه حتى مات , وفي الصباح اكتشف السجان الجثة , وجاء الطبيب الشرعي وعاينها وأثبت سبب الوفاة .
قال هذا ثم حدق في عيني بتحد ظاهر .

قلت له :

- ولماذا انتحر ؟

ابتسم ابتسامة شيطانية وقال :

عندما تقابله في الجنة عليك أن تسأله .

قلت له :

المنتحرون في العادة لا يذهبون إلى الجنة .

وقال ساخرا :

- يا سيدي هذا مجاهد قديم , وأمضي عمره في السجون والمعتقلات , وهو من أهل بدر , وما يدريك " لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".

- ولم أستطع أن أجاريه , وخيم علىّ صمت حزين على الشهيد فقد كانت هذه هي المرة الأولي التي أسمع فيها خبر استشهاده , وكنت أعرف أنه يعذب أشد العذاب أملا في معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين , فهكذا كانت الشائعات تملأ كل مكان .

- وقطع الصمت فحيح الأفاعي :

- كأنك لا تصدق أنه انتحر ؟

قلت له :

- ما رأيك أنت؟

- واعتدل في جلسته وقال :

- أنا الذي أسألك .

- بطبيعة الحال لا أصدق ذلك , ولا أظن أن هناك من يمكنه تصديق هذا الكلام , وأنت لا تنسي أنني خبير بالأساليب , وقد تم التحقيق معي بمعرفة سيادتكم , وأيامها كانوا يهربون ولا ينتحرون .

وتنهد فؤاد علام حزينا :

- وماذا نفعل لموضة الديمقراطية والحرية التي ملأت مصر !

- قلت له ضاحكا :

- تقصد الحرية والديمقراطية التي ملأت الصحف وحفلت بها الخطب !

استمر مستاء حزينا :

- نعم .. هذه اللهجة أصبحت لا تسمع لنا بأداء واجبنا على الوجه الأكمل , صرنا نعمل حسابا لصحف المعارضة ولتلك الأحزاب الورقية التي أمرنا بإنشائها السادات , وصار لزاما علينا أن نطور في الأساليب .

- وقلت بعفوية :

- ولكن ما السبب الحقيقي لقتل كمال السنانيري ؟

ونظر إلى نظرة مستنكرة غاضبة فقلت :

- أقصد السبب الحقيقي وراء انتحاره .

- وملأت الابتسامة وجهه من جديد وقال :

- كان يعرف الكثير ولا يريد البوح به فآثر الموت حفاظا على إخوانه .

- قلت له باسما والمرارة تملأ حلقي :

- كان يسر كمال السنانيري أن يسمع هذه الشهادة منك .

- هو يسمعها .. أليس الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ؟

وتعجبت من الرجل :

- أنا لا أفهمك يا سيادة اللواء .
- بل تفهمني جيدا ... كلانا يفهم صاحبه , فلنتكلم في موضوع آخر .. موضوع منعك من السفر .

- متى تأذن لى بالسفر ؟

- تعالي إلىّ في الأسبوع القادم .

شجرة تنبت في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين

هذا مثل من الزبانية الذين كانوا يحكمون مصر .

وهو نبت كالح كئيب .. نما واستشري وصار له وجود في كل مكان في أرض مصر هو فساد سرطاني قد استشري بعد أن وضعت بذرته في 23 يوليو 1952 .

وظهر هذا الفساد واضحا جليا في معسكرات التعذيب والاعتقال الناصرية .

فقد كان الجلادون يبذلون غاية جهدهم في التنكيل والعذاب و كانوا يستطيعون أن يخففوا منه , فلم يكن هناك من رقيب غير الله الذي يراهم , ولكنهم لم يكونوا يعملون له أى حساب والظن أنهم لم يكونوا يؤمنون به وبوجوده بل كان إيمانهم بعبد الناصر وخوفهم منه أعظم وأكبر , ويظنون أنه يراهم هو وقبيله من حيث لا يشعرون .

وكانوا يسرفون لأن إلههم الذي يعبدونه يراهم , وهم لا يعرفون سواه ولا يؤمنون بغيره .

ذلك الإله الزائف هو الرئيس جمال عبد الناصر !

وبقيام ثورة 23 يوليو أغلقت بوابة سوداء ضخمة على شعب مصر .

ونصبوا الوثن وزينوه وانتشر من حوله السدنة والكهنة والويل لمن رفض عبادته وتقديم القرابين له .

وانتهت أحلام الإصلاح وقضاياه .

وذهب أمل الناس في مجتمع جديد يسوده العدل .

لم يعد هناك من شئ يشغل أحدا غير عبادة الفرعون الجديد.

وصار هو الوطن والدين والانتماء , والخروج عليه خروج على كل هذه المعاني وصارت معارضته خروجا عن الملة والعياذ بالله .

وصار عبد الناصر هو مركز الثقل , وهو المحور الذي يدور حوله كل شئ وكل ما عداه صار باطلا , ووهما ولم يعد أحد يفكر في سواه .

وأقاموا المشانق والشياط لكل من يخرج عن هذه الخطة .

والحقيقة أن عبد الناصر قد غير تاريخ مصر والعرب والمسلمين أو غير مساره لسنوات لا يدري عددها إلا الله .

وشعب مصر شعب مؤهل ومدرب على الذلة والخنوع والهوان وهو يعرف كيف يتماوت كالثعلب إذا رأي الخطر .

ولعمري ليس ذلك من شيم الكرام !

المصريون يقتلون محمد كريم

تحضرني قصة رواها الجبرتي عن السيد محمد كريم الثائر البطل الذي قاوم الفرنسيين , ودعا المصرين باسم الإسلام لمقاومتهم ,وكانت له في هذا المضمار قصص كثيرة , وكاد يجمع القاهرة صفا لمقاومة الغزاة .

وبعد أن فعل الأفاعيل بالفرنسيين قبضوا عليه وأودعوه السجن ثم حاكموه وحكموا عليه بالإعدام .

وتدخل بونارت الرحيم وخفف الحكم لو استطاع محمد كريم أن يدفع ثلاثين ألف ريال كغرامة أو فدية لحياته .

وكانوا قد صادروا أمواله من قبل وصار فقيرا معدما .

حددوا لإعدامه موعدا بعد صلاة عصر يوم في قلب القاهرة .

وأرسل الشهيد إلى بعض مدينيه يطلب دفع الفدية من ماله الذي عندهم فتهربوا واختفوا .

وجاء موعد الإعدام

وطلب محمد كريم أن يسمح له بجولة في شارع الأزهر يبحث عن مدينيه .
وسار الرجل مكبلا بالحديد والجند يلكمونه ويكزونه وكلما وقف أمام متجر من المتاجر لم يجد فيه غير الصبي , ويسأل عن صاحب المتجر فيقال له إنه لم يأت بعد من صلاة العصر .

وقطع الطريق جيئة وذهابا بلا فائدة وصار يصرخ قبل إعدامه :

- اشتروني يا مسلمين .. فليدفع كل واحد خمسة ريالات من أموالي التي دفعتها لكم من قبل .
واختفي التجار الجبناء وعلق الشهيد .
ولست أدري لماذا لم يجمعوا له الفدية ؟

فيصل يتشفع في سيد قطب

وتذكرت قصة حكاها لى مؤخرا أحد الوزراء في عهد عبد الناصر والقصة عشية إعدام الشهيد سيد قطب .

كان هذا الوزير يجلس مع عبد الناصر لمناقشة بعض الأمور الاقتصادية كان يحضر الجلسة أنور السادات وحسين الشافعي .

ودخل سامي شرف وفي يده ورقه , وحاول أن يهمس في أذن عبد الناصر الذي رفع صوته محتدا :

- إيه ؟ ... فيه إيه ؟

- وتمتم سامي شرف :

- يا أفندم هذه برقية من الملك فيصل يلح في الرجاء في عدم إعدام سيد قطب .

وبدأ الغيظ والضيق على وجه عبد الناصر وقال :

- أنا مش عارف أولاد ... دول مهتمين ليه بسيد زفت ده ؟

ووقف سامي شرف مرتبكا , وصرخ فيه عبد الناصر :

- انصراف .

وأسرع سامي شرف يغادر المكان .

واستوقفه عبد الناصر ثانية وقال له :

اسمع ..

- أفندم ..

وفكر عبد الناصر قليلا وقدر , فقتل حيث قدر , ثم قتل حيث قدر , ثم أدبر واستكبر وقال :

- أعدموه في الفجر بكره , واعرض على البرقية بتاعت سي فيصل بعد الإعدام ثم أرسل برقية اعتذار له .. وينكتب في الأهرام تم الإعدام في سطرين .

- والتفت إلى فردتين وقال ضاحكا ممازحا :

- مش كده ولا إيه ؟

وشاركاه في الضحك , وانصرف سامي شرف .

وأعدم سيد قطب مع الصبح .
ومعه محمد يوسف هواش
ومعهما عبد الفتاح إسماعيل

وأقيمت المآتم في كل البلاد الإسلامية .

أما الناس في مصر فكانوا يسيرون في الشوارع في ذلك الصباح كالخنازير وجف حلقي وأنا أسأل الوزير :

- وأنت ماذا قلت ؟

- وقال :

- أنت لا تعرف عبد الناصر .. ليس هناك من يستطيع مناقشته .. فما بالك بالاعتراض على حكمه .

- وقلت للوزير :

- وانتهي الاجتماع بطبيعة الحال بعد هذا القرار الفظيع .

- وقال الوزير السابق :

- على العكس استمر أكثر من ساعتين , وفاتت مني يومها صلاة المغرب ولم أستطع الاستئذان للصلاة .

- سألت :

- وهم ؟ ألم يكونوا يصلون ؟

فكر الوزير قليلا وقال :

- لم أر واحدا منهم يصلي إلا في العيد أحيانا أمام كاميرات التليفزيون.

- وسألته واجما :

- وبعد تنفيذ حكم الإعدام أم يظهر واحد من الوزراء الألم أو الاحتجاج ؟

- وقال الرجل :

- بعد تنفيذ حكم الإعدام في الشهيد سيد قطب كان كل وزير يحرص على أن ينقل عنه للرئيس كلمة تدل على الفرحة والابتهاج وشردت بأفكاري .

- وتذكرت الحاج صالح أوزجان عندما قال لى :

- دخلت على الملك فيصل رحمه الله عندما أعدم الشهيد سيد قطب , ولم أكن أعرف بالخبر بعد, ووجدته حزينا دامع العينين .

- وتعجبت ودهشت وسألته فقال لى :

- عظم الله أجرك في الشهيد سيد قطب , فقد لقي ربه اليوم .

- وتمتمت:

- إنا لله وإنا إليه راجعون .

وقال الملك فيصل

- أرسلت إليه وتوسلت أن يطلقه حيا ويطلب فيه ما يشاء , ولكنها إرادة الله , ولكل أجل كتاب , ولابد لهذه الأمة من شهداء .
وعدت بالذكري إلى اليوم الذي جاءنا فيه خبر إعدام الشهيد .
وكنا أيامها بمعتقل أبي زعبل السياسي .

وكان الكلام حراما وممنوعا .

والرعب يخيم على العنابر والزنازين .

وكانت رغم هذا أول صلاة جماعة في فناء المعتقل .

وكانت صلاة المغرب .

وقرأ الإمام :

( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر , قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين )

وضج المعتقل بالبكاء .

اليابان تبحث سر النهضة المصرية أيام إسماعيل

استطاع عبد الناصر أن يحول الأمة كلها إلى قطيع من النعاج .

ضرب الصغير والكبير بالحذاء .

صارت كلمته هي القانون والقضاء .

أجهض كل أمل في الإصلاح .

حكم الأمة بنفسية مريضة مليئة بالأحقاد والأهواء , وبجسم عليل قد هده المرض وأثر في فكره وعقله , وصدق أنه إله ودعا الجميع إلى عبادته ولم يرحم في حكمه شيخا أو امرأة أو صبيا , فقد رأينا كل هؤلاء يعذبون بأمره وبأيدي رجاله وزبانيته أبعد الحكماء ورفع السفهاء وعاد بالبلاد إلى دوره بعيدة المهوي عميقة القرار .

ومن عنده شك في هذا فلينظر إلى الناس كيف يعيشون اليوم في مصر .

بدأت نهضة مصر في الوقت الذي بدأت فيه نهضة اليابان .

وكانت مصر قد قطعت شوطا في التقدم والازدهار .

وروي الرافعي في كتابه تاريخ الحركة القومية في الجزء الخاص بعصر إسماعيل أن وفدا يابانيا قد قدم إلى مصر عام 1868 م وفيه علماء وحكماء ومفكرون , جاءوا ليدرسوا سر هذه النهضة حتى يسيروا علي نهجها بعد سنين من التخلف كل هذا منذ أكثر من مائة عام !

وانظرا اليوم إلى اليابان وأية قمة وصلت إليها !

وتأملوا مصر وأى درك نزلت إليه .

قطار الرحمة والضباط

قامت الثورة فانتشرت الملابس الكاكيه في طول البلاد وعرضها ونحي الحكماء والعلماء وحل محلهم الشاوشية والصولات .

ووغد زنيم أطلق عليه لقب " مندوب القيادة " وصار له مكتب في كل وزارة وفي كل مصلحة من المصالح الحكومية وكل مهمته أن يحول الجميع إلى جواسيس وإلى كتبة تقارير ويسرق ويسرق قدر ما يستطيع .

وكان الشعب المسكين يحلم بآفاق جديدة فوثق بهؤلاء الأوغاد وخرج " قطار الرحمة" يجوب البلاد بطولها وعرضها يطلب التبرعات وفي القطار اجتمع الضباط مع الفنانات .

وبدأ الفساد من اللحظة الأولي

وعاد كل ضابط ومعه حقيبة مليئة بالنقود هي حصيلة التبرعات ورقم تليفون فنانة وعنوانها من أولئك اللائي كن في صحبته ويحكي أحد الذين شهدوا هذه المهزلة فيقول :

كانت الفاحشة ترتكب في كل مقصورات القطار في المسافة بين المحطة التي قام منها والمحطة التالية , وعندما يقترب القطار من المحطة الجديدة يسرع الجميع بارتداء ملابسهم , وتسرع الفنانات بوضع الماكياج على وجوههن ثم يخرجن إلى المساكين الذين اجتمعوا لدفع التبرعات .

وذكر أسماء شهيرة من رجال الثورة المباركة , وكيف عادوا بالمال وبالمطربات والفنانات .

ويحكي عن اسم شهير قدمت له كنيسة صليبا من الذهب تبرعا لقطار الرحمة وكيف تم ضبطه وهو يحاول كسره وأخذ قطعة منه , ولكنه لم يستطع , فلم تكن معه الأدوات اللازمة لهذا ولما أعيته الحيل وضع الصليب بأكمله بين جلده وبين السروال .

هكذا بدأت الثورة عهدها المبارك في مصر غير المحروسة .

كان الناس يحلمون بالعدل فأشبعهم الشاويشية ضربا على القفا بعد قيام الثورة كان يحلمون بالشبع بعد الجوع , وأوشكوا اليوم أن يأكلوا الروث .

كان يطمعون في مزيد من المشاركة في حكم بلادهم , قامت الثورة وأخذت من الجميع توكيلا موقعا على بياض , وصاروا يعيشون في بلادهم بلا حقوق .

انتهي جيل العمالقة

حفلت مصر قبل الثورة بمئات الشعراء والأدباء والمفكرين والعلماء والباحثين فالحرية هي المناخ الذي يسمح بتفجر الطاقات في جميع المجالات .

فإن قلت الشعر قبل الثورة المباركة تسامت الأسماء أمام مخيلتك ووجدت الدواوين تملأ رفوف المكتبات ..

أحمد شوقي ... حافظ إبراهيم ... إبراهيم المازني ... إبراهيم ناجي .. على محمود طه ... محمد الأسمر ... الشيخ محمد عبد المطلب ... إسماعيل صبري .. عزيز أباظة وتستطيع أن تملأ مجلدا بأسماء شعراء عظام .

وتسأل عن الشعر بعد الثورة فلا تجد إلا مجموعة من " السناكيح" والصعاليك والأفاكين , سماهم من يدعي عبد القادر حاتم بشعراء فصاروا كذلك , وأضاف إلى القائمة من يدعي ثروت عكاشة .

ولكم من هم ؟ وأين هم ؟

ليسوا سوي أسماء هزيلة قد كتبت في كشوف مهترئة بأيد خجلة رغم بجاحتها وإن قلت الأدب والرواية قفزت الأسماء تفرض نفسها :

محمد حسين هيكل .. محمود تيمور .. توفيق الحكيم ... نجيب محفوظ ... محمد عبد الحليم عبد الله .. على أحمد باكثير .. محمد فريد أبو حديد .. سيد قطب .. أحمد حسن الزيات .. محمود شاكر ..وتستطيع أن تملأ بأسمائهم مجلدا ... وانظر إلى مصر بعد أن أوسعها الشاويشية ضربا بالشوم وصفعا على القفا فلن تجد من تسميه أديبا غير أولئك الذين فرضوهم علينا فرضا عبر قوائم لا نملك مناقشتها ولا يعرفهم أحد إلا إذا عاد إلى تلك القوائم واطلع عليها .

وانظر مثلا إلى العقاد وطه حسين وهل صار لهما مثيل أو شبيه بعد أن غلب اللون الكاكي على أرض الكنانة ؟

الإجابة لا لأن من يقتل الكرامة في أمة يقتل معها الموهبة والإبداع ويزرع الخوف فتتغلب الغريزة على كل نظرة أو أمل في السمو .

حكم الشاويشية والصولات

طرد الضباط كل أصحاب الموهبة والخبرة في كل المجالات ولم يكن أمامهم غير الاستعانة بالصولات.

فهم يأتون بضابط يجعلونه وزيرا أو مديرا أو رئيسا , وينشغل هذا الضابط بالإمرة والرياسة والسرقة , والعلاقات النسائية التي لم ينج أحد منهم من إغرائها وبريقها .

ثم يترك أمر الإدارة التي وكلت إليه إلى صول الكتيب الذي كان يخدم معه أيام الفقر والوطنية .

ويجد حضرة الصول نفسه وقد صار كبيرا ينحني أمامه وكيل وزارة , يحمل لقب دكتوراه ويسأله التوجيه في أدق الأمور الفنية .

ويستعرض الصول المشكلة بعقلية ضحلة خربة ثم يصدر فيها القرار !

وقد حكي لى أحد الأصدقاء وكان يعمل في مصلحة المناجم والوقود التابعة لوزارة الصناعة في أول الثورة , عن أحد هؤلاء الصولات الذين تمكنوا في غفلة من الدهر .

ويقول هذا الصديق إن ذلك الصول الذي كان يحكم تلك المصلحة كان يستعين في حكمها وإدارتها ببعض من يعرف من الشاويشية والأنباشية في تأديب الموظفين وإذلالهم .

وكان الحضور في الثامنة صباحا ..

ثم يرفع سجل التوقيع ويجمع الذين تأخروا , وفي غرفة جناب الصول أمروا بخلع أحذيتهم وارتفع صراخهم وهم يجلدون بالعصا على أقدامهم وكان منهم وكيل للوزارة يعمل في المصلحة .

وفعل به مثلما فعل بالآخرين واحتج وقدم استقالته .

واستدعاه سيادة العقيد , وصار يصفعه على وجهه حتى غشي عليه .

هذه ليست أساطير , ولكنها حقائق قد عاينها الكثير من الناس .

وانضبطت أحوال المصلحة في الحضور والانصراف وملازمة المكاتب . وذهب الإنتاج ولم يعد حتى كتابة هذه السطور .

وكان هذا الصول يحضر الاجتماعات ويرأسها عندما يكون سيادة العقيد منشغلا مع صديقته وكان وقته كله لها .

وفي هذه الاجتماعات التي يحضرها الفنيون والأساتذة والاختصاصيون كان الصول يقول لهم :

- كنتم ستخربون البلد يا جهلة يا أولاد الكلب , نعم ... هكذا كان يخاطب الصول أساتذة الجامعة .

وهكذا كان يفهم الحكام أصحاب السترات الكاكية .

كانوا يظنون أن العناية الإلهية هي التي وضعتهم على كرسي الحكم.

فقد هبطوا بمصر والعرب وظهرت للجميع هذه الأيام

فقد هبطوا بمصر والعرب إلى هاوية بعيدة القرار , والخروج منها يقترب في حكمه من المستحيل الذي لا يعقله أحد , وفقا لنواميس الكون والحياة . وأذكر أن جنديا من جنود التعذيب في السجن الحربي وكان من صنف لو قوم بالمال أيام بيع العبيد في أسواق النخاسة لعلقت على سترته ورقة بالسعر , ولا أظنه يتجاوز ثلاثة قروش فهو لا يساويها ( وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير ) قال هذا الجندي وهو منتفخ الأوداج :
- كنتم تريدون الحكم يا أولاد الكلب ! أنتم فاكرين إنها سهلة ؟ ها نحن في الحكم وتعبانين ولا ننام الليل .

هذا الجندي الذي يرد عند البيع لو طلب فيه صاحبه قرشين .. لا يختلف كثيرا عن أولئك الذين تسنموا المناصب العالية مثل جمال عبد الناصر وعلى صبري وعلى شفيق والمشير عبد الحكيم عامر وكل زملائهم بلا استثناء .

والفرق بينهم وبين ذلك الجندي الذي يحكم معهم أنه كان يقوم على سرقة ما تيسر له من " تعيينات " السجن وأدواته على قدر استطاعته .

أما الآخرون فكانوا يرتدون الملابس الغالية الثمن والعطور الفرنسية يضمحون بها أجسادهم ليخفوا بها رائحة الجيف المنبعثة من صدورهم العفنة .

وهم يسرقون كل شئ بلا استثناء , وكل ما يعجبهم يأخذونه .

أخذوا ما أرادوا دون خجل أو تحفظ

البيوت والأراضي وحتى الزوجات والبنات , وأين فؤاد علام وأبو باشا وأحمد راسخ رشدي من كل هذا الفساد والإجرام ؟
لقد كانوا كذلك الجندي الأبله البسيط , يقومون بدوره ولكن بملابس أكثر أناقة كما قلت , وحظهم في الغنيمة أكثر من سرقة " التعيينات " أو حصيلة " الكانتين ".

وكانوا يساومون على الجرائم المؤلفة التي شاركوا في وضع السيناريو لها بخيالهم المريض ونفوسهم العفنة .

هؤلاء لو شنقوا ألف مرة لكان ذلك عقابا دون العدل.

ولو ظل الرصاص ينهمر عليهم دهرا وهم يموتون ويحيون لما أخذوا ما ينبغي لهم من عقاب .

تغيير النظام في مصر

ذهب كل أمل في الإصلاح مع حكم الضباط.

وهذا شئ بديهي ومن السهل فهمه فالحكم والسياسة ينبغي أن يقوم عليهما المتمرسون بشئونهما, ولا ينبغي أن تترك هذه الأشياء للهواة والجهلة ويتم تغيير مسار أمة من الأمم تحت ضغط مفكريها وكتابها والرأي العام الذي يمكنهم صنعه وتعميمه .

ولنتخيل مثلا مؤسسة ضخمة مثل مؤسسة الطاقة النووية ..

هل يمكن أن يقوم على إدارتها مجموعة من النجارين أو الحدادين ؟

وشركة مثل شركة " جنرال موتورز "

هل يتيسر لمجموعة من الحلاقين أن يديروها ويضعوا لها السياسة ؟
قد يصير الأمر على هذا النحو لأمور لا دخل لإرادتنا بها ..

ولكن كيف تكون النتيجة ؟

سوف يعود هؤلاء غير الاختصاصيين بهذه المؤسسات إلى درجة الصفر المطلق , ولو أراد الله لعاد النمو من جديد وتكونت مجموعات من القادرين والفاهمين , ويعودون إلى النقطة التي تسلم فيها الإدارة الحدادون والنجارون والحلاقون ولكن متى يتم هذا حسب السنن والنواميس ؟

ربما بعد مائتي عام !

فعندما يسود الجهلة والمتغطرسون ويحكمون تراهم يصنعون تقاليد جديدة ويعملون على تربية جيل يرثهم ويسير على نهجهم ومنوالهم .

وهذا الجيل الجديد يأخذ أفكاره وأخلاقه من سادته ويورثها .

وتدور البلاد في ساقية نكدة من الفساد

وتسود المفاهيم الخاطئة , ويتعود الناس المنكر, ومع الزمن لا ينكرونه بقلوبهم , وذلك أضعف الإيمان كما يقول الحديث الشريف .

ومن أطرف ما يجري هذه الأيام وهو نتاج تجربة أصحاب الملابس الكاكية أنك تقرأ الصحف اليومية فتشهد بعض الملاحظات .

تلحظ أن السرقة والاختلاس وبيع الذمم وشراءها صار شيئا مستساغا لا يغضب له أحد ولا يدهش .

تجد أصحاب المناصب الكبيرة في قفص الاتهام بتهمة السرقة والكسب غير المشروع .

محافظا سابقا مثلا !

وتتأمل .. فتجد العجب العجاب !

هذا المحافظ كان في اتحادات الطلبة أيام الزعيم الخالد !

وكان يكتب التقارير عن زملائه .

وكان السبب في اعتقال عدد منهم !

وشجعوه على هذا وغرسوا في نفسه هذه المفاهيم . وجعلوه نائبا لوزير أو وزيرا .

وأجلسوه في ناحية من مجلس الوزراء أثناء انعقاده واختل ميزان الكون في عقله وقلبه .

وجعلوه قدوة لمن يريد أن يكون فاسدا أو عميلا .

ثم دارت دورة الأيام ونصبوه محافظا , وصار يسرق ويسرق والدنيا كلها تعرف وما ينبغي له أن يكون أمينا , فقد ربي على غير هذا .

فما الذي حدث اليوم ليحاكموه بتهمة السرقة ؟

والمحافظون الآخرون الذين يسرقون اليوم والأمس متى يحاكمونهم ؟

ما هي معايير محاكمة اللصوص من الحكام ؟

لا شك أنها معادلات يضيق العقل عن فهمها .

وأولئك الذين في مكان أكبر من المحافظين !

طبقة الوزراء .. ماذا عنها ؟

والذين هم أكبر من الوزراء ؟

وهنا يرتعد القلم ويتوقف عن الكتابة فما ينبغي لنا أن ندخل قدس الأقداس في عالم الجريمة والفساد في بلاد أقل ما يقال عن أهلها وسكانها أنهم أقل من النعاج ! وتلاحظ ملاحظة أخري لا تقل عجبا عن الأولي .

كان المجرمون الأوائل يعذبون المواطنين خلف البوابة السوداء سرا ولا يسمحون بتسرب الأخبار والتفاصيل عن هذه الجرائم .

واليوم ! قد تطورت الأمور تطورا بعيدا , وصار مهوى الدرك لا يصل إليه أحد.

فالصحف قد ملئت بأخبار المعذبين .

والصور قد نشرت للمساكين وهم مكبلون بالأصفاد , والسياط علاماتها قاطعة على ظهورهم وجنوبهم .

ويقدم بعض الضباط إلى المحاكمة بتهمة تعذيب المواطنين .

ويقوم بعضهم بضرب المحامين في قدس المحكمة وأمام حضرة القاضي .

ثم يحكم لهم بالبراءة ! لنقص الأدلة !!

وصارت جميع أقسام الشرطة بلا استثناء تقوم على جلد المواطنين وتعذيبهم وتنشر هذه الأخبار ويقرؤها الناس .

ولا شي بعد ذلك !

كانت الإشارة إلى تعذيب مواطن في صحيفة تقيم الدنيا وتقعدها .

أما اليوم فقد اعتبر الناس هذا عملا عاديا , أو خبرا لا يلتفت إليه , ولا يهتم به أحد , مثل قيام الرئيس بافتتاح محطة للمجاري أو كوبري يهوي ويسقط بعد أن ينصرف الرئيس بأيام .

قد تعود الناس سماع أخبار الجرائم , ولم يعودوا يستنكرونها .

وهذا والله أمر عظيم !

ومن الملاحظات أن تأتينا الصحف بخبر عن مجموعة من العاطلين أو غير العاطلين قد اختطفوا فتاة واعتدوا عليها , وتركوها بين الحياة والموت , ومرة يقولون إنهم طعنوا أخاها أو زوجها بمطواة وأخري يقولون إن الفتاة عمرها عشر سنوات وثالثة إنها في العشرين .
وتتابع الصحف هذا الخبر يوما أو بعض يوم , ثم تنتقل إلى خبر آخر مثيل له . وفي بداية ظهور هذه الأخبار اهتم الرأي العام بها وقامت الصحف بعمل كثير من التحقيقات الصحفية وعمل لقاءات مع علماء الاجتماع والقانون والذين يفسرون الظاهرة ويبحثون عن طرق تلافيها ويقترحون العقاب الصارم الرادع لمن يفعل هذه الجريمة النكراء .
ومع الزمن اعتاد الناس هذا النوع من الأخبار وصار أمرا عاديا أن يقرأه الناس كل يوم أو كل يومين ويجدوه مكتوبا في زاوية مهملة من الصحيفة وقد لا يعلق عليه أحد ولا يستنكره إنسان .
وصارت أخبار اغتصاب الفتيات في أعمار مختلفة مثل تصريحات رئيس الوزراء أو وزير التموين في عدم أهميتها وجداوها .

واعتاد الناس المنكر وألفوه , وصار جزءا من حياتهم اليومية , يقرءونه ويسمعونه ويرونه , وأصبحت سمة الحياة في مصر الجريمة والباطل والاضطهاد والظلم والاستكبار وكل ما نعيشه ونحياه هذه الأيام هو الثمرة التي غرسها ورعاها المجرمون الأوائل وتعهدوها بالسقاية والاهتمام , حتى خرجت إلينا شجرة خبيثة تنبت في أصل الجحيم ( طلعها كأنه رءوس الشياطين ) .

شروط أساسية للمنصب الكبير

كان الحاكم في الماضي تعبيرا عن إرادة الأمة بشكل أو بآخر وتغيرت الدنيا , وصار الحاكم تعبيرا عن رفض الناس وكراهيتهم وازدرائهم كان أصحاب الحكم في الماضي لهم كرامة وكبرياء واعتداد بأنفسهم ومن مسته شبهة أو أقل من ذلك استقال وترك الحكم , ورفض أن يعود حتى بعد ظهور براءته في يقين لا يقبل الشك.

وأصحاب الحكم اليوم على النقيض !

لا يحصل على المناصب الكبيرة إلا من هو مجرم وضالع في الكبائر , ولا بد له من ملف أسود كريه يخلد صاحبه في جهنم .

قصة اختيار المدعي الاشتراكي

روي لى المستشار مأمون الهضيبي حكاية اختيار المدعي الاشتراكي الأستاذ عبد السلام حامد , وهي عجيبة من العجائب ولكنها تتسق مع طبيعة النظام .

كانت الشائعات تتردد حول هذه القصة , وكان من يعرف تاريخ الأستاذ عبد السلام حامد يستبعد هذه الشائعة ويظن أن النظام ليس في حاجة إلى وضع رجل كان ممثلا للنيابة في يوم من الأيام ويقوم بنفسه على تعذيب المتهمين والشهود وليس ثمة ضرورة لهذا .

وفي يوم كان مجلس الشعب مجتمعا , وعرف المستشار الهضيبي أن الأمر ليس مجرد شائعة وأنهم ينوون عرض هذا الأمر على المجلس وإقراره في نفس اليوم فقام من مجلسه إلى حيث يجلس يوسف والي في مقدمة الصفوف , وهو رجل صاحب مناصب كثيرة أغلبها غامض ومجهول , ومن المعلن فيها أنه نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة منذ زمن بعيد , وله صفة أخري في الحزب الوطني الحاكم لا أذكرها .

والحزب الوطني هذا هو خلاصة تجارب أصحاب الملابس الكاكية ومستشاريهم حتى يواكبوا عصر الكمبيوتر , ويتطوروا مع الزمن .

ومعذرة للاستطراد

همس مأمون الهضيبي في أذن يوسف والي :

هل صحيح أنكم سوف تعرضون اسم عبد السلام حامد لمنصب المدعي الاشتراكي ؟

ورد عليه يوسف والي حذرا في صلف وبرود :

نعم

وقال المستشار :

- وهل أجريتم التحريات اللازمة للترشيح لمثل هذا المنصب ؟
- وقال يوسف والي في كبرياء وأنفة :
- نحن لا نرشح أحدا من فراغ .
- كيف ؟
- عندنا كل المعلومات عنه .
- هذا غريب والله .
- أى شخص يرشح لمنصب كهذا تجمع عنه التقارير من كل أرجاء الأرض وتشترك جميع الأجهزة في صياغة هذه التقارير وحتى تكون الصورة واضحة وانبري في تكبر !
- هل لك اعتراض عليه ؟

- وقال مأمون الهضيبي :

هل تعرف أنه كان يقوم على تعذيب المتهمين في السجن الحربي عام 1965 ؟

وبدا الاستنكار على وجه يوسف والي :

- لقد كان رئيسا للنيابة.
- أعرف .

- واعتدل يوسف والي في جلسته وبدا عليه الاهتمام ولو أن الموضوع برمته لا يعنيه وكأنه أراد أن يعرف أبعاد هذا الكلام وقال :

- يا أستاذ مأمون : هذه شائعات وأنت رجل قاض وكنت رئيسا للمحكمة ومن السهل اتهام رجل شريف بتهمة هو برئ منها ولا يملك الرد عليها في نفس الوقت .
- وقال له مأمون الهضيبي في هدوء .
- لقد حقق معي شخصيا وأمر بتعذيبي أثناء التحقيق وتم ذلك , رغم تنافيه مع كرامة النيابة وكرامة الإنسان نفسه ,ولن تعدموا شخصا آخر يقوم بنفس الدور وعلى نفس الدرجة من الخدمة , وليس من داع لهذا بالذات .

وظهر القلق على يوسف والي .

قلق ليس مصدره التهم الموجهة إلى المدعي الاشتراكي الأستاذ عبد السلام حامد فهو يعرفها بالتأكيد ويعرف أكثر من ذلك عنه وعن سائر الجالسين .

ولكنه لم يكن يظن أن الأمر مشتهر ومعروف إلى هذا الحد , وهم يحرصون على أشخاص ملفاتهم في حرز مصون ما أمكن لا يعرف ما بها أحد, وهذه أصول لعبة الحكم والنظام في مصر .

وتلفت يمنة ويسرة .

ووقعت عيناه على صفوت الشريف وزير الإعلام .

وابتسم ابتسامة ساخرة غامضة , وعاوده الجد من جديد وقلت النظر في الوجوه .

واستقرت عيناه على من يدعي كمال الشاذلي , وهو أحد الإفرازات " الكاكية" إن جاز التعبير .

وأشار إليه فأسرع نحوه .

وقص عليه ما سمع .

وبعظمة وتعال قال الشاذلي كمال كأنه قد وجد المخرج :

- سيادة المستشار من السهل الكلام , ولكن هل عندك الدليل على هذا ؟ الدليل هو الحل , ولو وجد فسوف نسحب ترشيحه .

وسأله المستشار الهضيبي سعيدا لهذه النتيجة :

- وهل تستطيعون ذلك ؟
- وانتفخت أوداج الشاذلي كمال إلى غاية ما يمكن للأوداج أن تنتفخ وقال – سوف نطلب من الرئيس أن يسحب الترشيح

قال الهضيبي  :

رئيس من ؟
- رئيس الجمهورية .. والآن .. عن طريق التليفون

وكان يتكلم بنبرة عالية وفي ثقة بالغة :

- ولكن لابد من الدليل يا سيادة المستشار , يجب ألا نلقي التهم على عواهنها وفي هدوء أخرج مأمون الهضيبي ورقة من جيبه وقدمها لهما :
- هذا هو الدليل .. وثيقة حكومية تدينه بتهمة التعذيب وهو رئيس للنيابة . واضطرب كل من يوسف والشاذلي وهما يتخاطفان الورقة ليقرأ ما فيها وقد بدا عليهما الهم والغم , وصارا يقلبان النظر وكأنه قد أحيط بهما .

وأردف المستشار الهضيبي  :

- أرجو أن يبلغ أحد كما سيادة رئيس الجمهورية أنه ليس من مصلحته أن يكون عبد السلام حامد مدعيا اشتراكيا وله هذا التاريخ غير المشرف , وأبلغوه أيضا أن لديكم قوائم بمئات يصلحون لمثل هذا المنصب ولا توجد أدلة ضدهم ومن الصعب الحصول عليها ياليتكم تختارون رجلا نظيفا لهذا المنصب , ليس ضده أى شئ موثق أو غير موثق .
- خرج يوسف والي والشاذلي وثالث من نفس الشجرة , وعادوا بعد قليل قال يوسف للمستشار الهضيبي  :
- قد طلبنا سحب الترشيح من الرئيس ولكنه رفض .

وتعجب الهضيبي:

- رغم ما أخبرتماه عنه ؟

قال أحدهما :

- قد تهتز مكانه الرئيس وهيبته لو سحب الترشيح ومعناه أنه لا يستطيع الحكم على الرجال .

- وقال الهضيبي في دهشة :

- لا يعيب الرئيس أن يسحب ترشيح عبد السلام حامد من منصب المدعي العام الاشتراكي بعد أن تبين له أنه قد ارتكبها , وهذا يزيد من قدره أمام الناس .

- وقال الذي عنده علم بالنظام :

- خلاص .. انتهينا .. الرئيس قرر أن عبد السلام حامد سيكون المدعي الاشتراكي .. ولا راد لقضاء الرئيس .

وكان من قل يؤكد أنه يستطيع أن يأمر الرئيس بسحب الترشيح فيفعل ! وقال الهضيبي آسفا :

- لا حول ولا قوة إلا بالله .
- وقاد معركة شرسة وكشف عن تاريخ الأستاذ عبد السلام حامد أمام حضرات النواب المحترمين .
وتم التصويت .
وتم تعيين عبد السلام حامد في منصب المدعي الاشتراكي رغم أنف مصر .
ربما فات المستشار الهضيبي أنهم كانوا يعرفون عنه ما قاله لهم , بل يعرفون أكثر وأكثر مما لم يتح لمأمون الهضيبي أن يعرفه .
ولكنه لم يفته أنهم يختارون على علم بما يفعلون , وأهم صفة لصاحب هذا المنصب الكبير أن يكون له ملف أسود ملئ بالجرائم , حتى يكون متسقا مع نفسه في واجب حماية النظام الذي هو جزء منه , والذي يحرص عليه حرصه على حياته , فلو سقط هذا النظام فسوف يقدمه أى نظام جديد للمحاكمة .

محاكمة عادلة !

الحكم فيها الإعدام !
وكم هو صعب ومحال أن نجد وطنيا شريفا يجلس في المنصة العالية , وصارت هذه الظاهرة مما يعرفه رجل الشارع ولا يملك معها غير الضحك والسخرية .
وكم من كلام عجيب وغريب أسمعه , ورغم ما أعرف عن النظام وطبيعته ومنهجه في اختيار السدنة إلا أنني أحيانا لا أستطيع التصديق .

كيف يختارون الوزراء ؟

اختاروا مرة وزيرا لوزارة مهمة .

وعرفت هذا الخبر على مائدة للعشاء في مطعم بلندن , وكنا قد عدنا من معرض فرانكفورت للكتاب عام 1986 وكان الجالسون على المائدة ممن يشتغلون بالثقافة

وسمعت اسم الوزير للمرة الأولي .

ولم أكن قد سمعت به من قبل .

وسألت الجالسين عنه فأجابتني الضحكات المجلجلة من معظم الحضور وتعجبت وسألت :

- ماذا هناك ؟ هل غريب أنني لم أسمع باسم هذا الوزير من قبل ؟ هل هو أول وزير نكرة يأتي إلى الحكم بعد الثورة؟

وهمس واحد في أذني ( وهو ناشر كبير ) :

- لا نستطيع أن نخبرك بسبب الضحك لوجود سيدات على المائدة .

وامتلأت دهشة وعجبا وأنا أقول :

وهل للضحك صلة بهذا الوزير الجديد ؟
وعاد الهمس من جديد .
وأخبرني بما يقال عن ذلك الوزير !

وبالفعل لم أصدق .

ولكن جاءني الجواب :

- أمره أكثر شهرة من أن تصدق أو تكذب .

- وصرت أضرب كفا بكف وأنا أقول :

- أنا أعرف أنهم يأتون بمختلس أو جلاد أو.... أو.... ولكن ليس إلى هذا الحد.

وضحك محدثي مجلجلا وهو يقول :

لا ويجد حد للاختيار , ولعل هذا يكون أقل سوءا من اللصوص والجلادين ووجدت الحق معه .
ووضعت وجهي في الطبق أزدرد طعامي بلا شهية , والضحكات والنكات تتعالي وكلها تدور حول الوزير الجديد.
هذه هي مصر المحروسة التي تمكنت منها الشياطين وأعانهم على ذلك شعب ميت بليد خانع ذليل .

حكاية جمال باشا فوزي

قد يكون الحاكم نذلا , وهو كذلك في أغلب الحالات .

وقد يأتي النقائص معتمدا على أن الغاية تبرر الوسيلة مهما كانت وضيعة ومشينة , وكم تدور من فظائع وراء الستر والحجب .

حدث أثناء الصراع بين محمد على باشا والسلطان العثماني أن فوجئ جمال باشا فوزي قائد الأسطول التركي بتعيين خورشيد باشا صدرا أعظم , وكان على خلاف معه والكراهية بينهما شديدة .

وكان جمال باشا يرابط بأسطوله في أحد المواني على بحر " إيجة"وجاءته الأوامر من الآستانة بالقفول إليها , فعلم أنه العزل من المنصب .

وكان جمال باشا يري أن الخلافة العثمانية قد دب في جسدها السوس ونخر عظامها وهي في حاجة إلى دم جديد ورأس قوي يدير هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف .

وكان أمله في محمد على باشا كبيرا , ويظن أنه القادر القوي الذي يستطيع أن يغير التاريخ لو جلس على كرسي السلطنة في الآستانة .

وكانت الدلائل جميعها تشير إلى ذلك وإمكانياته .

فقد استطاع محمد على أن ينشئ جيشا قويا قادرا , وأن يقيم المصانع في مصر وعلى الأخص مصانع الذخيرة والسلاح وكان مؤهلا لهذا الغرض لو ساعدته الظروف .

فكر جمال باشا فوزي وقدر .

ثم قفل بالأسطول إلى الإسكندرية ووضع نفسه تحت تصرف محمد على باشا , وصار الأسطول المصري أقوي الأساطيل الموجودة في البحر المتوسط آنذاك .

ومضت رايات محمد على باشا خفاقة مرفوعة , حتى فهم الغرب أن وصوله إلى الآستانة خليفة للمسلمين معناه تغير التاريخ وأنه يستطيع أن يحشد كل هذه القوي والطاقات لدحر الغرب وهزيمته .

وأجمعوا أمرهم على هزيمته ونجحوا.

واستطاعوا أن يحجموه ويرغموه على قبول معاهدة لندن عام 1840 , وأن يتم الصلح بينه وبين السلطان على ضوئها , وكسائر المعاهدات التي تبرم كان لها بنود معلنة وأخري سرية لا يعرفها إلا من يهمه الأمر .

والبنود المعلنة قد كتبتها الكتب وأطنبت في شرحها .

أما البنود السرية فمنها عودة الأسطول التركي وتسليم جمال باشا فوزي للعقاب وتم عودة الأسطول التركي إلى السلطان .

وأبي محمد على أن يسلم جمال باشا فوزي .

وأصر السلطان على تسليمه و فبهذا قضت المعاهدة .

وأصر محمد على باشا على الرفض .

وتدخل أهل الخير بينهما للتوفيق .

جاء وافد السلطان إلى القاهرة , وقال لمحمد علي :

- الوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المأزق هو موت جمال باشا فوزي , وأنت تعلم أن الموت حق على رقاب العباد .

وأخرج من جبته شيئا قدمه لمحمد على وهو يقول :

- هذه قارورة بها شئ نادر , ولا يوجد مثله إلا في خزائن السلاطين والملوك. ويقيني أنها تفيدك , فهي تسرع بقدر الله وقضائه وانصرف وافد السلطان .

- وجلس محمد على باشا يقلب القارورة بين يديه مفكرا ,وكان قد حضر المقابلة أحد خلصائه فتقدم منه وتناول القارورة وهو يقول :

- دعني أعفيك يا سيدي من هذا العناء .
- وتركها له محمد على باشا وهو ينظر في أثره ساهما .

وذهب ذلك الياور إلى قصر جمال باشا فوزي بالقاهرة , واستأذن في المثول بين يديه وأذن له .

وتحدث معه طويلا عن شجاعته وبلائه وإيمانه بربه ورضاه بقضائه , وذكرت بالموت وأن ما عند الله خير مما عند الوالي والسلطان , وأن الموت هو الراحة الكبرى في مثل هذه الأيام الكالحة , وأنه من الخير للإنسان أن يأتيه الموت في بيته بين أهله وخدمه وفي هدوء وبلا ضجيج

ثم أخرج القارورة من جيبه , وصار يقلبها أمام نظر جمال باشا فوزي الذي أدرك ما يراد , بينما أردف الياور وهو يحدق في عينيه بثبات :

- لو أمرت بصنع القهوة فسوف يكون الأمر سهلا :

- وامتقع وجه جمال باشا وأيقن أن لا نجاة .

وقال له متلعثما :

أنا لم أصل العصر بعد .
وقال له الياور : لسنا على عجلة من أمرنا , نستطيع السمر حتى صلاة المغرب , ويمكننا أن نصليها جماعة .

وقام جمال باشا فوزي في هدوء مهدودا وهو يتمتم :

- تكفي صلاة العصر وتقبيل الأولاد:

وعاد بعد برهة بعد أن ارتدي أجمل ما عنده من ملابس , ومن خلفه خادم يحمل في يده صينية القهوة وعليها فنجانان وفتح الياور القارورة , وأفرغها في فنجان جمال باشا فوزي وهو يقول :

- لم يأخذ الأمر أكثر من نصف دقيقة والأولاد في رعاية مولانا الوالي , وليس هناك من ألم سوف ينتهي كل شئ بأسرع مما تظن .

- وظهرت من خلف الستر طفلة صغيرة صارت تنظر إلى أبيها الذي تناول القهوة وصار يرسف منها ويردد :

- قسمت ... قسمت

يقصد أن هذا هو قضاء الله .

وأرسل محمد على باشا إلى السلطان يعتذر إليه عن عدم القدرة على تسليم جمال باشا الذي مات فجأة .

حديث الغاشية

الحاكم النذل يخلق أمة بلا أخلاق , ويقود شعبا كالنعاج.

الحاكم المستبد هو غاشية تغشي الناس , تبرز أسوأ ما فيهم , وتقتل كل ما عندهم من ملكات ومواهب .

والضرب بالسياط في المعتقلات يقتل كرامة الإنسان .

وعندما تموت الكرامة في شعب فذلك أسهل الطرق وأقربها إلى الانحدار ونحن في مصر في آخر درك ومزلق من الانحطاط من هول ما مر بنا في ظلمات الاستبداد وفرقعة السياط وحكومة لا ترحم , وهي فاجرة لا تعرف الله , وما نحن فيه اليوم هو نتاج العذاب والسيطرة .

عذاب المؤمنين الصادقين في السجون والمعتقلات .

والسيطرة على الفنانين والفنانات والعبث بكل المقدسات في دولة قد حجبت الله سبحانه وتعال عن فكرها وعبدت فردا وقدسته وارتكبت في ساحة معبده كل الموبقات .

وكان حديث الغاشية التي تعشي الناس اليوم بعذابها الأليم .

الفصل الرابع " وتلك الأيام نداولها بين الناس "

" ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين , إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يجب الظالمين ) آل عمران : 139 , 140

• كان صيف عام 1951 في بلدة شبين القناطر حيث ولدت ونشأت وهي تقع على بعد ثلاثين كيلوا مترا تقريبا من مدينة القاهرة .
• ولم تكن مدينة آنذاك بل هي شئ أشبه بالقرية ولكنها ليست كالقرى التي نراها في ريف مصر هذه الأيام , حيث المنازل غير المنتظمة , والروث الذي يملأ الطرقات , ودروب وسكك قد اضطربت ونشأت بين هذه البيوت والبهائم والبشر الذين يسيرون بين الأزقة في انتظام وتزامل , ثم يبيتون ليلتهم في أماكن متجاورة .

كانت في ذلك الوقت شبيهة بالقرى الإنجليزية , ويمكن أن يتخيلها من قدر له زيارة الريف الإنجليزي بطرقه المستوية النظيفة وحدائقه المتعددة حيث ينعدم التراب كأنه لا وجود له والنظافة التي تشمل المكان في عبق عبقري .

هكذا كانت شبين القناطر في ذلك العام !

بلدة نظيفة الطرقات ,وبها عدة حدائق بأماكن مختلفة , يقوم العاملون على ترتيبها كل صباح ومساء وكذلك يفعلون بالطرقات .
وكانت الإدارة تهتم بنظافة البلدة آنذاك اهتماما فائقا .
وكانت الدوائر الحكومية تقوم على عملها باهتمام ويقظة وشعور بالواجب والمسئولية عميق ,وكانوا لا يتقاضون الرشوة وهو أمر عجيب وغريب , قد يستغربه ويتعجب منه شباب هذه الأيام التي نعيشها حيث الفساد الضارب بأطنابه على كل شئ والرشوة التي يتنفسها الموظفون في مصر فهي لهم كالماء والهواء .

فكان مفتش الصحة يقوم بواجبه ومعه موظفوه ومساعدوه , وهم يمرون على القنوات والمستنقعات التي تقع خارج البلدة حيث يضعون المواد التي تمنع تكاثر البلهارسيا وكذلك الرش المستمر للقضاء على الناموس والذباب .

وهم يمرون كل يوم على الأحياء الفقيرة وكانت معظم الأحياء فقيرة لا تزال ويقومون بتطهير المنازل من الحشرات الضارة وغاية ما يأخذونه من أصحاب البيت هو كوب صغير من الشاي .

وكانت هناك وحدة مكافحة الانكلستوما والأمراض المستوطنة وتعمل بجد ونشاط وتقدم العلاج المجاني كل يوم .

والمستشفي الأميري حيث العناية الكبيرة بالمرضي الفقراء , وتقديم العلاج المجاني أيضا وكذلك العمليات الجراحية وكانت العيادات الخاصة لا تزيد على ثلاث وكانت هناك المدرسة الثانوية حيث تقدم الوجبات الساخنة اليومية للطلاب في مطعم المدرسة , وهي مكونة من طبق به خضروات تعلوه قطعة كبيرة من اللحم . وطبق من الأرز وآخر من السلطة ورغيفين وحلوي أو فاكهة الموسم ,, هذا الطعام يقدم ظهرا بالإضافة إلى وجبة باردة بعد الدرس الثاني كل يوم .

وكانت هناك المدرسة الجديدة أو مدرسة " حافظ الفقي " لأنها كانت قصرا لصاحبها ثم أجرها أولاده للحكومة حينا من الدهر حتى استولت عليها حكومة الثورة .

وكانت هناك مدرستان أوليتان : مدرسة مصطفي الجندي الأولية حيث تعلمت فيها , وهي تقع على مقربة من ضريح سيدي سعيد , ومدرسة أخري قد نسيت اسمها وتقع في شارع الفقهاء , الشارع الرئيسي في البلدة , وكان هذا الشارع مستويا لا أعرفها في آخر عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وقد زرتها مؤخرا فوجدت آثارا قليلة منها باقية .

وكان التعليم في تلك الأيام يبدأ من " الكتاب " حيث يحفظ الطفل ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم على الأقل , ثم ينتقل إلى المدرسة الأولية فيقضي فيها سنوات , ثم ينتقل إلى المدرسة الابتدائية , حيث الشهادة الابتدائية القديمة مفخرة العهد البائد الذي سبق الثورة المباركة .

وكان التلاميذ يتعلمون في تلك الأيام !

وكان بالبلدة مركز بوليس حيث المأمور , تلك الشخصية المهيبة في البلدة كلها , وكان هناك الأمباشي والشاويش , وأى منهما له قيمة كبيرة فيكفي ظهوره في أى مكان حتى يستقر الأمن وينتهي الشغب .
كان الأمباشي أو الشاويش يذهب إلى مكان الحادثة بغير سلاح وكان يعامل معاملة من معه جيش كامل , فقد كان الناس في تلك الأيام يحترمون النظام والقانون ويعملون لهما كل حساب , رغم أن البوليس في تلك الأيام لم يكن يضرب أحدا أو يعذبه , ولم يخطر ببال رؤسائه في ذلك الوقت أن يجردوا جيشا للقمع وقتل الأبرياء كما يفعل " الأمن المركزي " هذه الأيام بأوامر وزير الداخلية وكان وزير الداخلية في تلك الآونة رجلا وطنيا محترما له رأي وتصور وتصدر تصرفاته عن مسئولية كاملة وكان عف اللسان شأنه شأن جميع الوزراء آنذاك .

ويذكرني هذا بوزير داخلية حديث , من الذين أفرزتهم أيام الثورة السوداء وأشاعوا عنه أنه كان يتاجر في الحشيش ويعمل على تهريب البضاعة لبيعها للناس , ثم وضعوه وزيرا واتصل به صحفي كبير يتوسط لابن أخته في دخول كلية الشرطة وهذه الأيام كما تعلمون لا يتم فيها شئ إلا بالواسطة .

وعبر التليفون دار الحديث الآتي :

  • الصحفي الكبير : إزاي صحتك يا سعادة الباشا ؟
الوزير : الحمد لله وانت يا .. بيه ؟
  • الصحفي الكبير : طول ما أنت بخير أن بخير يا باشا .
الوزير : تحت أمرك يا .. بيه .
  • الصحفي الكبير : والله كنت أريد من سعادتك خدمة .
الوزير تحت أمرك يا ... بيه .
  • الصحفي الكبير : ابن أختى أريد أن ألحقه بكلية الشرطة .
الوزير : بالتأكيد . بالتأكيد .. اعتبره قد التحق بها .
  • الصحفي الكبير : ربنا يعمر بيتك يا معالي الوزير.
الوزير : وعلى فكرة يا ... بيه .
  • الصحفي الكبير : تحت أمرك.
الوزير : الواد ابن اختك ده جايب كام مجموع ؟
  • الصحفي الكبير: خمسين في المائة يا معالي الوزير .

وجلجلت ضحكة الوزير عالية عبر أسلاك التليفون وقال :

الوزير : يعني ابن العاهرة عاوز يدخل كلية الشرطة بهذا المجموع ؟
  • ولم ينطق الصحفي الكبير وارتج عليه !
ولكنه ذهب يشكر الوزير بعد أن التحق ابن أخته بكلية الشرطة بعد أيام .

ما علينا من هذا فليس هو موضوعنا .

في بلدتنا شبين القناطر كان هناك مبني المحكمة حيث جلس الزعيم مصطفي النحاس باشا قاضيا على منصتها يوما ما .

وكان القاضي يحكم بالعدل ولا يرتشي , ولم يكن لأحد أى سلطان عليه مهما علا ذلك الأحد .

وكان هناك النادي حيث يجلس فيه الموظفون بعد الظهر لشرب الشاي ولعب البلياردو وهي لعبة أدخلها الإنجليزإلى مصر .

نسيت أن أخبركم أن المدرسة كان بها جميع الملاعب لكل الألعاب المعروفة وكان عدد التلاميذ في الفصل لا يزيد على عشرين ويعرفهم المدرس بالاسم واحدا واحدا , وفي تلك الأيام كاد المعلم أن يكون رسولا كما قال الشاعر فهو محترم من التلاميذ ومن الآباء ومن كل أهل البلدة .

وكان التلاميذ الذين يأخذون دروسا خصوصية يعدون على أصابع اليدين , وكانت معرة ولا يفعلها إلا أخيب التلاميذ , ويحاول أن ينجو منها بسرعة , ولا دخل للمدرس في نجاحه أو رسوبه آخر العام بمعني ألا يعطيه المدرس نموذج الامتحان فيدخل وهو يعرف طبيعة الأسئلة أو نصها .

كان المدرس محترما جدا !وكان التلاميذ يذاكرون ويجدون وكانت هناك محطة القطار الذي يغادر إلى القاهرة كل ساعة , ويصل في موعده بالتمام ويغادر في الوقت المحدد له دون أن يتغير ذلك أبدا وكانت العربات جميلة وأنيقة والكراسي في سفرهم ولا تجد واقفا أبدا .

وكنا نذهب للنزهة إلى محطة القطار لجمالها وأناقتها وحسن تنسيقها والورود التي كانت تحيط بها من كل جانب تأخذ اللب وتبعث البهجة في النفوس .

وكان قضيب السكة الحديدية يفصل ما بين البلدة والحقول المترامية المتناسقة التي لا يصل البصر إلى مداها مع الخضرة الغامرة وتغريد الطيور الذي لا ينتهي .

وكنا نخرج إلى هذه الحقول للمذاكرة والقراءة أيام الخريف والربيع حيث الهواء النقي والنسيم العليل كما يقول الأدباء .

وكان التعليم لكل الأولاد لا فرق بين صغيرهم وكبيرهم وكان هناك ما يسمي بالتعليم الإلزامي وهو يفرض التعليم على الأطفال لسن معينة , ويعاقب ولي الأمر الذي لا يلحق ابنه بهذه المدرسة .

وكان يجلس في الفصل الواحد جميع التلاميذ  : ابن المأمور , وابن الخفير ولم نكن نسمع في تلك الأيام بالمدارس الخاصة وربما لم تكن قد نشأت بعد .

وكان الناس يعرف بعضهم بعضا , ويتزاورون في المآتم والأفراح , ويجامل بعضهم بعضا في كل المناسبات ويجلسون لفض الخلاف في بيت أحد الكبراء أو العقلاء ولا يذهبون إلى البوليس والشرطة إلا فيما قل وندر .

هكذا كانت الحياة في بلدتي قبل الثورة المباركة !

وقد يظن البعض أنني أبالغ في الوصف ولكنها الحقيقة التي وعيتها طفلا ثم تأملت فيها رجلا بعد مضي السنين .

هذه هي الصورة البهيجة لبلدتي في ذلك الزمن .

والصورة القاتمة كانت تتمثل في الفقر الذي كان يشمل قطاعات كبيرا منها , وقد تضاعف حجمه في هذه الأيام التي نعيشها حتى صار أغلب الناس فقراء , فقد كنا نري صورا للفقر أيامها وندعو الله أن تنتهي يوما , ثم جاءت الثورة وازداد عددهم وها هي ذي الثورة تقترب من نهايتها , ولكن بعد أن حولت معظم الناس إلى مساكين لا يستطيعون الوفاء بالتزاماتهم اليومية أمام أنفسهم .

كنا ننعي القذارة التي نراها في بلدتنا في بعض الأحيان , وكان يحدها من الشرق والغرب ترعتان لتصريف المياه وري الأرض , وكان بعض الفقراء يرسلون نساءهم لغسل الملابس هناك على الشاطئ وكنا نعد هذا من القذارة ثم رأينا ما حدث بعد ذلك بسنين طويلة وكيف تحولت تلك البلدة إلى مدينة تموج بالقذارة بكل أنواعها , فقد ألغيت الحدائق تمام , وأقيمت مكانها المباني غير المستوية والمحلات والمتاجر , واختلط الروث مع البشر مع " مياه المجاري " حيث تضع البائعات خضرواتهم أو جبنهن في وعاء من " الخوص " على الأرض وقد نفذت إليه هذه المياه القذرة , والناس يرون هذا بأعينهم ويشمونه بأنوفهم . ثم يشترونه ويأكلونه بأفواههم ولا يملكون لهذا البلاء ردا أو تعديلا .

فالفقر والجهل والمرض والقذارة والتخلف أمور نسبية بطبيعة الحال .

كنا في تلك الأيام نري أنفسنا فقراء رغم ما وصفت , وكنا نعلم أننا جهلاء ولا يقدر أحد على أخذ حظه من التعليم وكنا نري المرض يستشري بين الناس ,

ثم مرت السنون وعلمنا أن ما حلمنا بتغييره لا نحلم الآن بالعودة إليه .

ولات حين مناص !

كان غاية الظلم في بلدتي آنذاك أن يرسل المأمور جنديا من جنوده ليشتري الزبدة حسب التسعيرة وكنا نري هذا ظلما ومقتا واستكبارا في الأرض .

واليوم أسمع عن مركز البوليس في بلدتي شبين القناطر أن الناس يساقون إلى هناك حيث يضربون ضربا شديدا موجعا , ومنهم من مات من هذا الضرب , والناس في بلدتي صاروا كالخنازير لا يحسون ولا يغضبون وهم كغيرهم في بلاد مصر .

كانوا يأخذون القتيل ويغسلونه ويصلون عليه في الجامع الكبير , ثم ينصبون سرادقا حيث يجلس الشيخ عبد العاطي ناصف ليقرأ القرآن , وقد يأتي القاتل ومعه المأمور للعزاء , وقد يفرح بهذا أهل القتيل , ويتحدثون عن الواقعة بفخر واعتزاز وكيف أن المأمور بنفسه قد حضر للعزاء .

ويسمعون القرآن ويتمايلون يمينا ويسارا وينفض الحفل , وصاحبنا ملقي في المقابر يأكله الدود ولا ينتقم له إنسان , ثم نسي الناس قصته بعد حين .

وهذه هي بلدتي مثل كل بلاد مصر قد حلت بها اللعنة ونزلت بها النقمة فهي عبرة ومثل للمكذبين .

كان الأمن والنظام مستتبين في بلدتي في تلك الأيام .

وكان الخروج على القانون أمرا نادرا غير ملحوظ , ومن يفعل فهو يحاسب وكانت دوريات الشرطة على الخيل تجوب البلدة بالليل , وتخرج أيضا إلى الطرقات المتصلة بها في القرى المجاورة .

واليوم آلاف الأحكام بالسجن والغرامة ولا يتم تنفيذها !

وليس من مصلحة الشرطة أن ينفذ المجرم هذه الأحكام , فكل مرة يذهب المخبر لتنفيذ أمر الضبط والإحضار يتقاضي من المجرم مبلغا يتراوح بين عشرة جنيهات وخمسين جنيها , فمن مصلحة الشرطة ألا يتم القبض على هذا المجرم , فالقبض عليه يعني انقطاع هذا المورد . ولا شك أن المخبر يقتسمه مع آخرين على أكتافهم النجوم والنسور والكلاب .

كانت الشرطة في بلدتي عندما كنت طفلا في خدمة الناس , فهي تحميهم وتحقق الأمن وتفض مشاكلهم , وصارت اليوم ماردا جبار مخيفا, يقتل ويسرق ويهتك الأعراض .

كان المأمور عندما كنت طفلا رجلا مهيبا يخشاه الجميع ولكنه رجل طيب لا يرتكب الجرائم وما ينبغي له أن يفعل .

والمأمور اليوم يرسل وراده كل نهار إلى التجار , إما لأخذ الطعام الحرام دون أن يدفع ثمنه أو الجزية التي يفرضها على المحلات والدكاكين والكل يدفع خوفا من تلفيق القضايا , والضرب والتعذيب حتى الموت , ثم يأتي وكيل النيابة ويزيف محضرا لينجو القاتل من حملة النجوم والنسور والكلاب على أكتافهم .

وعندما كنت طفلا كان وكيل النيابة رجلا فاضلا ليست له صداقات وينعزل عن الناس ليظل محايدا طول الوقت وهو يعيش تحت سلطة ضميره الذي يقوده إلى الصواب دائما .

أما اليوم فهو يشارك في السهرات الماجنة بالليل حيث الخمر والميسر وما تيسر من النساء وكذلك يفعل القاضي .

والناس يدورون في دوامة من البلادة والبلاهة وهم كالبهائم والخنازير .

كان مجتمع البلدة في ذلك الوقت من صيف عام 1951 يتكون من شرائح مختلفة :

كبار الموظفين ويندرج تحت هذا الاسم المأمور ومعاون المباحث والضباط ووكيل النيابة والقاضي وسكرتير المجلس البلدي ونظار المدارس ومفتش الصحة وأطباء المستشفي الأميري ورئيس بنك التسليف الزراعي .
وصغار الموظفين , وهم الذين يعملون تحت إمرة السابقين .
وهاتان الشريحتان تتداخلان , ولا يوجد حد فاصل دقيق بينهما , ويتم هذا التداخل من خلال العمل وطبيعته , واتصال التلاميذ بعضهم ببعض في فصول المدارس المختلفة .
وتلحق بهما شريحة أخري أو تسبقهما وتتداخل معهما أيضا .
هذه الشريحة تتمثل في الأعيان من أصحاب الأراضي الزراعية والتجار أو إن شئنا أن نكون أكثر تحديدا فإننا نقول كبار التجار, وهؤلاء في بلد صغير مثل بلدتي لم يكونوا كبارا على النحو الذي نراه اليوم , بل يمكن القول إنهم تجار الجملة في البقالة والخضروات والفواكة وغيرها من المحاصيل .
ثم طبقة العمال وصغار الحرفيين وأولئك الذين يعملون لدي أصحاب المتاجر والحوانيت وكان هؤلاء يمثلون قطاعا كبيرا في البلدة .

ومن خلال طبقة صغار الموظفين كان مدرسو المدارس الإلزامية , وهي تعد بحق أهم شريحة في البلدة وهي التي تمثل القيادة الفكرية , ولها شعبية ونفوذ في سائر أنحاء البلدة .

وكان هناك في تلك الأثناء عالم من علماء الأزهر , يطلقون عليه الشيخ على الواعظ ولا اذكر وظيفته على وجه التحديد, وغاية ما أذكره أنه كان ملتحيا ويصادق كبار الناس في البلدة , ولا يختلط بصغارهم .

أما الزعامة الدينية فقد كانت للشيخ محمد العروسي مأذون البلدة , حيث كان درسه اليومي بين صلاة المغرب والعشاء .

وكان يجلس إليه بعض الصالحين من صغار الموظفين والتجار والعمال , وكان يحضر إليه أيضا بعض الطلبة .

وكان يخطب في جامع " المعلويين " الشيخ عبد الباسط فواز , ثم ورثه ابنه الشيخ أحمد عبد الباسط .

وكان هناك أيضا الشيخ يس وكان كفيف البصر له خطبة مشوقة تشد الانتباه وهو يشبه الشيخ عبد الحميد كشك في طريقة خطابته .

وعلى وجه عام لم يكن للعلماء نفوذ يذكر في بلدتنا ولكن يرحب بهم في الولائم والاحتفالات .

وكانت هناك طبقة يسمونها " الفقهاء " وهي لا تعني المدلول الذي نعرفه ولكنهم قوم قد حفظوا القرآن الكريم وهم يقرءونه على المقابر أيام الخميس حيث يذهب الناس زرافات ووحدانا لزيارة الموتى ويتقاضون أجرا زهيدا على هذا هو مليمات وهي عملة لم يعد لها وجود فعلي في عالم اليوم ولكن كانت لها قوة شرائية في تلك الأيام , أو يكون الأجر رغيفا من الخبز المتواضع المصنوع من دقيق الذرة .

ومن يترق من هؤلاء " الفقهاء " فهو يعمل خادما في مسجد , حيث يؤذن للصلاة وفي وقتها أو يفتح كتّابا يحفظ فيه الأطفال القرآن , أو يقرأه على الناس على مكث في المآتم والمناسبات .

ولم يكن أغلب أهل هذه الطبقة بأصحاب دين , وربما كان منهم من لا يقيم الصلاة وكان الناس يعرفون هذا ويسخرون منهم .

وتبقي فئة لم نذكرها ولعلها كانت أهم فئة في البلدة آنذاك.

طلبة الجامعات والمدارس الثانوية وهم الذين كانوا طلائع البلدة ومثقفيها وأصحاب التوجهات الثورية والسياسية .

ولم يكن في بلدتنا شيوعي واحد !

ولم يكن فيها من ينكر الدين ويلحد في ربه !

كان بالبلدة كثير من العصاة ولكنهم مؤمنون في ضمائرهم وقلوبهم ويظهر هذا في كلامهم وأحاديثهم .

كنا عند ذهابنا إلى المدرسة صباحا عن طريق القنطرة , حيث نفق يمر من تحته الناس والعربات ويمر القطار من أعلاه نري لافتة كبيرة قد كتب عليها بخط جميل باللون الأبيض بينما اللافتة قد طلبت بالأسود .

" عمر عبد الفتاح التلمساني " المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة "

وكان هذا الرجل العظيم من أبناء بلدتي وقد قدر له أن يكون المرشد الثالث لجماعة الإخوان المسلمين بعد وفاة المرشد الثاني المرحوم حسن الهضيبي , وهو أيضا من قرية تتبع بلدتي إداريا , هي عرب الصوالحة مركز شبين القناطر .
والغريب المثير للدهشة أن الناس كانوا في ذلك الوقت متحزبين كل ينتمي إلى حزب من الأحزاب السياسية التي كانت موجودة مثل الوفد والأحرار الدستوريين والحزب الوطني الأصلي , وكان كل من ينتمي إلى حزب من الأحزاب يدافع عنه ويتبني قضاياه , ولا يتهاون في سبيله ويضحي بكل رخيص وغال من أجل فوز هذا الحزب وتفوقه .
وكانت هناك في ذلك الوقت طائفة تتبع حزب الحكومة ,وهي الآن نفسها أو أبناءها اليوم هم أتباع الحزب الوطني , ليس ذلك الذي أنشاه مصطفي كامل , ولكن ذلك الحديث الذي أنشاه المهرجون والمطبلون وأولاد الأفاعي على أنقاض هيئة التحرير والاتحاد القومي والاشتراكي والمنابر فحزب مصر .

فرصة دون الحديث عن الخطيئة والخلاص والمحبة وسائر المقولات المسيحية وكان جميع مدرسي اللغة الإنجليزية من الأقباط وكذلك كان معظم مدرسي الحساب والرياضة .

وكان كل الصرافين من الأقباط .

كنت تجدهم يحتلون أماكن عجيبة وغريبة في مجتمع بلدتنا ولكن كانت العلاقات بينهم وبين المسلمين طيبة طول الوقت , ولا أذكر حادثة واحدة قد حدثت يفهم منها أن هذه العلاقة ليست على ما يرام .

وكان يستذكر الدروس معي في البيت زميل اسمه " فائق مسيحه عبده " لا أدري أين هو الآن , كان أبوه يعمل صرافا فيما يسمي " بنك ريتشو " وريتشو هذا كان من أكبر تجار القطن في البلاد آنذاك .

وكانت عائلة " فائق " زميلي هذا متدينة إلى أبعد الحدود وأسرته مكونة من الأب والأم وأربع بنات وصبي آخر وكانوا يذهبون إلى الكنيسة بانتظام ثم إلى ما يسمي بمدارس الأحداث حيث النشاط الرياضي والتثقيفي .

وقد صنع الإخوان المسلمون مدارس الجمعة على هذا الغرار عندما نشطوا بعد محنتهم الأولي من جديد وكانت هذه المدارس – مدارس الجمعة - تحت إشراف الأخ حسن عيسي عبد الظاهر بالأزهر, والذي قدر له أن يكون بعد ذلك الدكتور حسن عيسي عبد الظاهر الأستاذ بجامعة قطر الآن .

كانت " الخمارة " الوحيدة في البلدة للخواجة " بني " وهو يوناني أقام في سبين القناطر وفتح محلا للبقالة يبيع فيه الخمر أمام قهوة " عسر " وقد انتهت معالمها الآن ,وكانت تقع في ميدان المحطة .

ثم اتفق الخواجة " يني" وأعد دار للسينما مع بعض اليهود في القاهرة , وكان يوم افتتاحها يوما مشهودا فقد اجتمع الناس الذين لم يجدوا تذاكر للدخول خارج دار السينما وكانوا قد جاءوا من القرى المجاورة ليروا هذه العجيبة وكلما تذكرت هذا اليوم تذكرت معه عبارة الإمام الشهيد حسن البنا :" ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة , ولكن غالبوها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض "

هذه العبارة الفريدة لأولئك الذين يحرمون السينما والتليفزيون وأدوات الفن المختلفة من ناحية المبدأ وكان أولي بهم وأجدر أن يحرموا ما يقدم من خلالها إن كان حراما ويحلوا ما يقدم فيها إن كان حلالا.

فلو رأيت الناس وهم يملئون المكان خارج السينما وفي وجوههم بهجة ودهشة لفهمت النفس البشرية , وكيف هي مولعة بكل عجيب وغريب .

ومما يستدعي التذكر أيضا أن الأفلام التي كانت تعرضها " سينما سني " وهي الأفلام المصرية القديمة كانت كلها تخض على مكارم الأخلاق ,وتدعو إلى الفضيلة ولم تعد كذلك الآن بطبيعة الحال .

وأذكر يوم عرض فيلم " ظهور الإسلام" في هذه السينما وكيف ملئت القاعة لحافتها ولم يعد هناك جالس وواقف , بل هي كتلة بشرية قد اجتمعت منقطعة الأنفاس في انبهار شديد وكأنهم يرون الإسلام في أيامه الأولي ورغم رداءة التمثيل وضعف الأدوات في ذلك الوقت ,لكن كان جمهور المتفرجين في هذا اليوم , وكنت معهم يكبرون ويهللون وينفعلون مع المواقف وظل الفيلم حديث الناس زمنا طويلا , وكانت عربات " الكشري " تقف على مقربة من دار السينما تبيع للرواد .

وكذلك عربات الترمس والكبدة المقلية واللب والفول السوداني .

ولنجاح هذه السينما وتأثيرها في مجتمع بلدتي الصغير حيث كان جميع الناس يرتادونها وأذكر بعض الذين كانوا يذهبون كل ليلة ليروا نفس الفيلم , كان الشيخ يس يخطب خطبته على هيئة فيلم , بمعني أنه يبدأ الخطبة فيقول :

- سوف نعرض لكم اليوم فيلما هو آدم وحواء .
ويمضي في الخطبة كأنه يحكي قصة فيلم , وكيف خلق الله سبحانه وتعالي آدم ومن بعد حواء وخطيئتهما وكيف جرت الأمور كما يرويها القرآن الكريم وهذا لشدة انجذاب الناس للسينما في ذلك الوقت .
وكان عدد أجهزة الراديو في بلدتي محدودا جدا .
والذين يحوزونه في بيوتهم يشار إليهم بالبنان .
وأذكر يوم اشتري والدي رحمه الله جهاز راديو , اجتمع كل أهل الحي يستمعون إلى نشرة الأخبار وهم في ذهول من تكلم الحديد , والبعض منهم يدور حول الجهاز يحاول أن يفهم سر هذا الكلام الذي يسمعه وكيف يصدر من هذا الصندوق وأذكر أن ثمن هذا الجهاز وهو من ماركة " فيلبس " كان واحدا وعشرين جنيها تدفع بالتقسيط المريح على حين من الدهر , وكان يوجد ما يسمي بالراديو بسماعات وهو عبارة عن " إيريال " هوائي ينصب فوق أسطح المنازل وينزل السلك إلى سماعات هي من مخلفات الجيش الإنجليزي وعبر إبرة تنتقل على قطعة من " الكحل " يمكن التقاط بعض الموجات الإذاعية .

وكان راديو السماعات هذا له أيضا انتشار محدود .

وكانت الإذاعة المصرية في ذلك الوقت على بساطتها وقلة ساعات إرسالها تقدم مادة جيدة للمستمع وكان كبار الكتاب مثل عباس العقاد وطه حسين وغيرهما يلقون الأحاديث اليومية , وكانت جادة ولا تقدم إلا ما هو مفيد للناس , بالإضافة إلى برامج الترفيه البريئة التي لا تسئ ورغم ذلك كنا نسمع بعض المتنطعين من المشايخ يقول إنها حرام .

ولله في خلقه شئون !

ولست أدري السند الذي اعتمدوه في تحريم الراديو في ذلك الوقت , ولا أفهم لماذا ينشغل هؤلاء الناس بتسفيه كل ما هو جديد بغض النظر عن فائدته أو عدم فائدته .. ولعلها طبيعة في الناس فعندما يتدني المجتمع لا يفكر علماؤه إلا في التوافه من الأمور , ولا ينشغلون إلا بما هو هزيل وسخيف ولعلنا لم نسمع فتوى واحدة يقول فيها صاحبها في ذلك الوقت إن قبول الاحتلال الإنجليزي حرام ويجب مقاومتهم بكل طريقة ووسيلة , وإن من يقتل في سبيل ذلك فهو شهيد .
وإني اذكر هنا عندما دخل " الحبر " المستورد إلى اليمن " كيف اختلف العلماء خوله هل هو حرام أم حلال ؟ ذلك أن بالحبر مادة " الكحول " وهي مسكرة .
وقد قال أحد الظرفاء معلقا – ولم يكن عالما – إن شربه حرام والكتابة به حلال , وقال : لا أعرف عاقلا يشرب الخمر .

والذي يثير الحسرة أن علماء الإسلام في العصر الحديث وأقصد بهؤلاء فقهاء السلطان الذين يحلون ويحرمون حسب مزاج الحكومة وطلبها لا يتماشون مع أى عصر رغم عدم انضباطهم وانعدام ورعهم , وهم متخلفون ثلاثمائة عام عن أى نقطة زمنية يعيشون فيها .

وهذا من علامات عصر الانحطاط والجهل والتبعية .

ولعل السبب في تشددهم في المسائل التافهة هو تسيبهم في الأمور الكبيرة فهم يرتكبون الكبائر والمنكرات بموافقتهم ورضاهم على الظلم وبعد الحكومات عن الدين . ثم يثرثرون بعدها فيما لا يفيد .

وما أبلغ كلمة المسيح :" ويل لكم أيها القادة العميان الذين يغصون بالبعوضة ويبلعون الجمل ".

وكان يخاطب الكهنة من بني إسرائيل , وما أشبه كهنة اليوم بهم .

وهم في هذه الأيام نسوا الراديو , وكانوا قد انشغلوا بعده بالتليفزيون , ثم نسوه هو الآخر , وصاروا يتكلمون في الأفلام الرخيصة التي استجدت وصارت تملأ الدنيا ومعذرة للاستطراد .

وأنا هنا لا أكتب مذكرات , ولكني أحاول أن أنقل تجربة عشتها , عسي أن يقرأها من يستفيد منها , ونحن خلالها نستعرض كيف سارت الأمور .

رغم الحرية والديمقراطية التي كانت مناخا طبيعيا يعيشه الشعب , وهم يخافونها ويهابونها طول الوقت .

ولكنهم مستذلون مستضعفون مهانون من جميع الحكام حسبما رأيت وشاهدت فهناك من الحكام من يضربهم بالحذاء وهناك من يضربهم بالقبقاب أو " الشبشب وهم مضروبون على جميع الأحوال والأوضاع . ورغم هذا فقد كان مجتمع بلدتي أكثر نضجا ووعيا منه في هذه الأيام !

وأذكر يوما زرت فيه أحد أقاربي وكنت قد تركت البلدة منذ زمن , واعتذر لعدم استطاعته تقديم الشاي لى لعدم وجود ماء , وقال إن المياه والكهرباء قد انقطعتا عن المدينة منذ عشرين يوما .

وتعجبت يومها وسألته :

- وماذا فعل الناس ؟

ونظر إلىّ في عجب واستغراب وقال :

- لم يفعلوا شيئا ؟

إلى هذا الحد من السلبية والهوان صار الناس !

وكان أكثر الأحياء شهرة في بلدتي حي " القيسارية " وبه محلات البقالة أو " مسمط " وبعض الترزية الذين يفصلون الملابس الإفرنجية أو أولئك الذين يصنعون الجلاليب والبيجامات.

وربما تعود كلمة " القيسارية " هذه إلى قرون بعيدة أيام حكم الرومان , فكل بلد به حى بهذا الاسم , وبه المحلات التجارية .

و" القيسارية " هي " القيصرية " وتنسب إلى قيصر الذي كان يحكم البلاد , وعلى مقربة من هذا الحي في بلدتي كان " مصنع حلج الأقطان " المصنع الوحيد آنذاك ثم أغلق في عهد الثورة المباركة بعد أن تم التأميم مع سائر ما أغلق من مصانع لم يجدوا لها مديرا أو لم يهتموا بها أو ليسبب آخر لا أعلمه .

وقد زرت المدينة بعد ذلك فوجدتهم قد هدموه وأقاموا مكان مساكن دفع فيها المقاول رشوة لمجلس المدينة , فهي تنقض على رءوس ساكنيها المساكين , أو ربما تكون قد انقضت بالفعل عندما يصل إليك هذا الكتاب .

وكان هناك حي " الجبسة " وهو يقع على حدود البلدة الجنونية الشرقية على مقربة من المقابر حيث الطريق إلى كفر حمزة فالقاهرة , أو الذي يسمي طريق المعاهدة وسمي المتقدمون في السن اسم " الخليج " لأنه كان يجري مكانه خليج أمين المؤمنين وهو الاسم الذي اختاره عمرو بن العاص على الترعة التي تصل النيل بالبحر الأحمر .

ومن الواضح أن إطلاق أسماء الرؤساء أو الملوك على المشروعات التي تقام تقليد مصري قديم قد جري عليه المسلمون عندما فتحوا البلاد .

وقبل الدخول إلى طريق كفر حمزة بعد المرور على مقابر البلدة نجد ما يسمي " بتل اليهودية " وهي أنقاض مدينة " رمسيس " التي بناها رمسيس الثاني والمظنون أنه فرعون موسي عليه السلام .

وحسب النظرية التي تقول إن الطرق الرئيسية في أغلبها طرق قديمة الإنشاء فإننا نتصور أن هذا الطريق هو نفسه الذي سلكه بنو إسرائيل خلف موسي وهم يخرجون من مصر حسب القصة المشهورة التي رواها القرآن الكريم .

وكان في بلدتنا أحياء أخري كثيرة مشتهرة في ذلك الحين ,وهي تنسب إلى الأماكن أو العائلات مما يؤكد أن هذه العائلات كلها من أصل عربي قدم مع جيوش الفتح الإسلامي , فالعرب وحدهم هم الذين يتمركزون في أماكن من أسرهم وذويهم فهناك " الصوافين " و" الحبايبة " و" الوكلاء " و" الشعالنة " و" الخولة " و" الطنانية " وكلها أسماء عائلات وأسماء أحياء في الوقت نفسه .

وأحيان ما كانت تحدث بعض الخلافات بين فردين من عائلتين مختلفتين فيخرجون للشجار والقتال , ويخرج رؤساء العائلات الأخرى للحجز بين المتشاجرين وهو للشجار والقتال ويخرج رؤساء العائلات الأخرى للحجز بين المتشاجرين وهو أيضا تقليد عربي قديم.

وكانت أقوي العائلات وأغناها في بلدنا آنذاك هي عائلة الفقي , ومن هذه العائلة كانت أمري يرحمها الله .

وهناك قصة سمعتها وأنا طفل صغير وهي أن جد أمي , وكان كبير البلدة قد التقي وعرابي باشا وهو عائد مهزوما من معركة التل الكبير عام 1882 أمام الإنجليز, وقد أكرم جدي هذا وفادته , وطلب عرابي منه أن يهدم قنطرتين على الترع التي تدول حول البلدة حتى يعوق تقدم الجيش الإنجليزي إلي القاهرة .

وانصرف عرابي بعد أن حدثه جدي حديثا طيبا ووعده بفعل ما يمكن , وبعد ذهابه قال جدي لمن حوله :

- هذا الرجل لا يفهم في العسكرية والقتال . لقد عاد بشرذمة قليلة من الضباط على الخيل , وانتهي الجيش المصري , وهل يمنع تدمير القنطرتين من احتلال مصر ؟
- لقد تحققت الهزيمة وتم الاحتلال ,ولن يخسر غير تكلفة القنطرتين عندما يأتي الإنجليزبعد يومين أو ثلاثة , ويجبروننا بقوة السلاح على بناء القنطرتين من جديد ,ويجمعون التكلفة من الفلاحين .
- ولا أدي هل كان جدي محقا في رأيه هذا أم لا ؟! فكل حادثة في هذا الكون تخضع لملابساتها الخاصة .

وكان أغلب أصحاب الحرف يتجمعون أيضا في حارات أو أحياء خاصة بهم فهناك " الجزماتية " والحدادين " و" النجارين "و" العطارين " وغيرهم .

وبطبيعة الحال قد تغير كل هذا الآن واختلط الحابل بالنابل وصارت المدينة كما قلت خلطة عجيبة من الحيوانات والبيوت والبشر , وتراها – لو قدر لك – من طائرة هليكوبتر ذات شكل عجيب من خلال هذا الزحام .

كانت قوة البوليس قليلة العدد ولكنها تحمي الأمن والنظام وكان عمال البلدية لا يتجاوزون العشرين ولكن النظافة هي الطابع العام فهم يخرجون قبل الشمس لكنس الشوارع ورشها بالماء , ويخرج كل بستاني مسئول عن حديقة ليهتم بها ويرعي شئونها .

وكانت المدارس قليلة ولكنها منضبطة ومنظمة وتعلم التلاميذ

وكان كل شئ على أتم ما يرام ولكنه لم يكن يعجب أحدا وكان الكل يفكر في الثورة وتغيير النظام .
وكانت البيوت منتجة ففيها البهائم حيث اللبن والزبد والجبن , وفيها الدجاج حيث البيض وقد اختفي هذا الإنتاج الآن وصارت مدينة مستهلكة يستورد لها الطعام ويباع في المجمعات الاستهلاكية حيث الرشوة والواسطة للحصول على ما تريد فالذي يعرض لا يكفي كل المستهلكين .

وكان الناس فقراء ولكنهم كانوا شرفاء أيضا !

وكانت القاهرة شيئا بعيدا لا يذهب إليها أحد إلا في القليل النادر , فكل شئ متوافر في البلدة ولا يذهب إلى القاهرة إلا عدد قليل من الطلبة الذين يدرسون في الجامعة وبعض الموظفين , أما باقي الناس فلم تكن هناك ثمة ضرورة تحتم عليهم الذهاب .
وكان هناك شخصان يقومان بالسفر كل يوم إلى القاهرة , ويسمي كل واحد منهما ( الأبونيه ) ومهمته أن يشتري الأشياء التي يحتاجها الناس من القاهرة , وهم يأتون إلى داره حيث يوزعها عليهم في المساء نظير رسم صغير محدود وهو أقل بالتأكيد من أجرة التذكرة للمسافر إلى القاهرة .
وكنا نذهب إلى القاهرة كتلاميذ في رحلة نشاهد فيها حديقة الحيوان تلك الحديقة التي أقامها الخديو إسماعيل وصنع لها سورا لا يزال قائما , ولا يمكن لجهة أخري في مصر اليوم أن تقوم بإنشاء سور مثله مهما بلغت قوتها وخبرتها فقد تغير نو ع البشر . أو نذهب في رحلة لزيارة المتحف المصري والمتاحف الأخرى وكذلك الأهرام والقناطر .

وكنا نذهب بقطار المرج إلى الزيتون في الأجازات لزيارة مكتبه الزيتون ونمكث وقتا في المطالعة , ولا أعرف مصير هذه المكتبة الآن ولما كبرنا في السن قليلا كنا نذهب إلى دار الكتب في باب الخلق بالقاهرة ,حيث نري كتبا أكثر ويمكننا الاستعارة منها .

ولا أظن أحدا يرتاد هذه المكتبات العامة في هذه الأيام التي نعيشها الآن إلا نادرا , وأتصور أنها قد تحولت إلى شئ آخر , ولم يعد لها وجود .

كان سعر البيضة سبعة مليمات .

وكان زوج الحمام " بخمسة أبيض " يعني قرشين ونصفا .

ورطل اللحم الكندوز بثمانية قروش ونصف وأقة البطاطس بقرشين هي الأخرى .

وكان الحذاء لا يتجاوز خمسة وعشرين قرشا , ويستعمل إلى يوم القيامة .

والبدلة الواحدة , قماشا وتفصيلا , تساوم فيها فتدفع ثلاثة جنيهات من أصواف إنجليزية مستوردة .

وتستطيع القياس على هذا كيف كانت الحياة تسير .

وقد يقول قائل كان عدد الناس في هذه الأيام عشرين مليونا , أما اليوم فقد تجاوز الخمسين !

فإن قالوا هذا قلنا لهم عدد الناس أيام محمد على باشا الكبير لا يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة .

ولكن الحكومات المتعاقبة تراعي هذه الزيادة المطردة وتعمل على مواجهتها بزيادة الإنتاج وخطط التنمية .

وهذا على خلاف ما فعلته الثورة المباركة !

فقد كان غاية همها المعارك في الكونغو , والشهيد باتريس لومومبا ,والحروب هنا المؤامرات هناك , واعتماد خورشيد , والكلام الفارغ الذي لا أول له من آخر كانت صناعة الحكام قبل الثورة هي المدارس والمصانع والتطوير ..

وصارت صناعة الحكام بعد الثورة هي الكلام والكلام والكلام , ثم القهر والتعذيب وقتل الشرفاء وتحويل المواطن إلى فأر ذليل .

وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح ! وبلغوا غاية نجاحهم وظهر أثره في 5 يونية عام 1978 عندما ضرب موشي ديان جمال عبد الناصر على قفاه أمام العالم أجمع , ثم سقاه جونسون –

الرئيس الأمريكي وقتها – من مياه المجاري .

ونعود إلى صيف عام 1951 الذي بدأنا به الحديث .

كانت إجازة المدارس وكان الجو حارا وكنا نسير على شاطئ الترعة وكان رمضان حيث العطش الشديد لأطفال لم يتعودوا الصيام

وسمعنا الآذان فتنبهنا .

كان الأذان قادما من شقة في إحدى البنايات المطلة على شاطئ الترعة , وكانت أول مرة نسمع فيها أذانا ينطلق من شقة ففي العادة لا نسمعه إلا من المساجد .
واقتربنا ووجدنا لافتة كبيرة قد وضعت على مدخل المنزل وقد كتب عليها " شعبة الإخوان المسلمين بشبين القناطر "
ودخلنا وأدينا صلاة العصر خلف المرحوم مصطفي شحرور نائب الشعبة آنذاك.
وبعد الصلاة علمنا أنها جميعها تقام في الشعبة وكان بها عدد وفير من مختلف المهن والطوائف .
وأخبرونا أن درسا يقام بعد صلاة التراويح .
وتذكرت صلة قديمة كانت لى مع الإخوان .

كانت هذه الصلة قل ذلك التاريخ بخمس سنوات يعني عام 1946 وكنا نلعب أمام منزلنا الذي يقع أمام محطة القطار .

وكانت القطارات تأتي وتروح كل ساعة بانتظام كما قلنا .

وكان يلذ لنا أن نقترب فنشاهد القطار وهو يدخل المحطة , وفي هذا اليوم لمحنا شيئا غريبا لم نره من قبل .

كانت القطارات مليئة عن آخرها وتموج بالبشر, وهناك ضجة كبيرة وينزل الركاب وينتظمون صفوفا كأنها طوابير الجيش , وهم يرتدون ملابس عادية ,ثم يسيرون في خطوات منتظمة ومعهم قائد يقودهم وانطلقت الهتافات يدوي بها قائد الطابور ويرد عليه الباقون في صوت كالرعد :

الله أكبر ولله الحمد .

لا إله إلا الله , محمد رسول الله عليها نحيا وعليها نموت ... وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقي الله . الله غايتنا , والرسول زعيمنا , والقرآن دستورنا , والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمي أمانينا .

في سبيل الله قمنا

نبتغي رفع اللواء

فليعد للدين مجده

ولترق فيه الدماء

وساروا يخترقون شوارع البلدة على النحو الذي وصفت , وأنا أسير خلفهم مشدوها أسمع الهتافات تدوي , والنسوة يرددون الزغاريد في إيقاع مثير ,وانتابتني نشوة غامضة وأنا أسير مسحورا خلف هذا الموكب متجاوزا الخط الأحمر الذي رسمته لنا الأسرة في دائرة البيت .

وفي نهاية المطاف وجدنا سرادقا ضخما قد أقيم في " النعناعية " وهي ناحية من البلدة قد ملئت بالحدائق وأشجار الكافور والسنط .

وصار هؤلاء القادمون يأخذون أماكنهم على الكراسي التي أعدت , وقد تركوا في مقدمة السرادق أكثر من عشرة صفوف واستمر التتابع والناس يأتون يرددون الهتاف على النحو الذي وصفت , ووجدت حسنين أفندي نصر وكان ناظرا للمدرسة الإلزامية الثانية في البلدة يقوم على النظام والترتيب .

ثم دوي صوت الطبل من بعيد في إيقاع عسكري مهيب .

وتكأكأ الناس من النظارة وأنا منهم لنعرف سبب الضجة

ورأيت طابور الجوالة الخاص بالإخوان المسلمين يتقدمهم شاب يرتدي ملابس العلماء بعباءة بيضاء ,هو الإمام الشهيد حسن البنا , وكان يسير على الإيقاع في مشية عسكرية رغم ثيابه التي يرتديها و من خلقه شاب يرتدي الملابس الكاكية يحمل علما أخضرا كبيرا قد رسم عليه سيفان بينهما مصحف , وكلمة الإخوان المسلمون , وبين قاعدة السيفين كتبت كلمة " وأعدوا "

وخلف هذا الشاب كان خمسة يسيرون متجاورين , وهم الذين يقومون بالضرب على الطبل , ثم طابور الجوالة الكبير بالملابس الكاكية والمشية العسكرية المنضبطة . وعند ظهور الشيخ حسن البنا جاوزت الزغاريد عنان السماء في ترجيع مهيب عجيب ما زلت أذكر أثره حتى الآن .

وامتلأ المكان بالضيوف وكان في مقدمة الجالسين في الصفوف الأولي كل رجال الإدارة في البلدة وعلى رأسهم مأمور المركز.

وتلي القرآن الكريم ثم قام الإمام الشهيد ليتكلم بعد أن قدمه حسنين أفندي نصر في حماسة وحب وفخر وإعزاز .

وتكلم الرجل ....

وخشعت الأصوات للرحمن ..

وانطلق يجلجل , وليس من صوت يبين غير كلامه المتهدج المؤثر , وصوت الرجل يعلو ويعلو حتى استحال إلى قبسة نورانية من الإيمان والجلال , وكانت له وقفات في الحديث يعلو فيها هتاف الإخوان المشهور الذي ذكرته منذ قليل ..

كان عمري وقتها صغيرا جدا , ولهذا لم أكن أعي كلامه على وجه التحديد كل ما أذكره أنه كان يتكلم في موضوع يمكن أن نضع له عنوانا هو :

كيف نفهم الإسلام ؟

وتأخرت يومها عن البيت , فقد انتهي الرجل من خطابه قرب الساعة الحادية عشرة مساء .

ولم يفارق هذا الموقف خيالي بعد ذلك قط؟

وكانت هذه أول مرة أسمع فيها عن الإخوان المسلمين وأراهم في ذلك العرس البهيج وعلمت في اليوم التالي أن معظم أهل البلدة قد ذهبوا إلى السرادق يستمعون .
وظل هذا الحفل حديث الناس لأيام طويلة ,وكنت أسمع أبي – رحمه الله – يتكلم مع ضيوفه وزملائه عن ذلك الذي حدث , ولكني لا أفهم القصة على وجه التحديد لصغر سني .
كل ما شعرت به أن طاقة من النور قد انبثقت في قلبي وظلت تقودني دهرا طويلا , ولم يغب عن بالي قط حتى هذه اللحظة حرارة اللقاء.

كانت صورة حسن البنا يومها غريبة رائعة مؤثرة ,وكأنه الإسلام نفسه وقد انبعث على صورته , بعد أن اغتيلت الخلافة العثمانية ووطئوها بالأقدام , ثم دفنوها في التراب , وأقاموا حفلا بهيجا صفق فيه العلمانيون وطبل فيه اليهود والمشركون وكل أصحاب الثارات القديمة من الإسلام.

بدأ الضياع الذي شعر به المسلمون على أثر سقوط الخلافة العثمانية يتبدد , وبدأ حلم جديد يغزو نفوسهم , حلم لم يتهيئوا له التهيئة الكاملة فقابلوه بالفرحة والزغاريد , ولم يكونوا يعملون أنه في سبيل تحقيق هذا الحلم سوف يسقط شهداء وشهداء .. فتية أطهار , وحتى ذلك الرجل نفسه صاحب اللباس الأبيض والصوت الرخيم المعبر , سوف يخر كالأسد الجريح من طلقات رجال الشرطة في الشارع العام , لم يكن أحد يعلم أن رمز الإسلام حسن البنا سوف يقتل.

ولم يكن أحد يعلم أنه بعد قتل الإمام البنا سوف يكون كل واحد ممن سمع صوته وانتبه إليه وصاحبه في سفر .. سوف يكون حسن البنا آخر .

نعم على أى نحو من النواحي سيكونون حسن البنا سواء في قوتهم أو ضعفهم , في قربهم أو ابتعادهم , في صمودهم أو بأسهم , وهم أحرار أو في ظلمات السجون .

وهذا ما حدث بعد حسن البنا

ذهب الإمام شهيد إلى ربه في ليلة من ليالي آخر الشتاء .
وقامت جماعة الإخوان تعيد ترتيب الدار من جديد في مناخ قاس وزمن صعب , قامت تضمد جراحها بعد أن فتن من فتن , وتماسك من تماسك .
ولكن أغلب المسلمين أصروا على الاستمرار في طريق الدعوة بعد أن رأوا صدق نبوءة مرشدهم فالتشريد والاعتقال والسجن الذي وعدهم به قد حدث وعاينوه بأنفسهم وتأكدوا أنهم من أصحاب الدعوات اختلطت الذكريات في رأسي وتداخلت , فلا أعرف ماذا حدث ثانيا وماذا حدث أولا .
الشوارع تدهن بالجير الأبيض الذي يغطي مساحات كبيرة من أسوار البيوت وترسم صورة عربي يرتدي عقالا ويكتب بجوار الصورة :تطوعوا لإنقاذ فلسطين الجريحة .
وفي منزل جدتي .. ملئت حجرة كبيرة بكراسي من الخيزران ومكتب خشبي قديم وبعض اللافتات , ومنها ذلك العلم الأخضر الذي كتب عليه شعار الإخوان وكان يحمله الشاب الجوال الذي كان يسير خلف الإمام الشهيد تحت قرع الطبول .

ولافتات كثيرة تدعو إلى القتال في أرض فلسطين .

وأسأل جدتي عن هذه الأشياء فتقول :

- هذه أشياء تخص المسلمين .

- ولماذا جاءوا بها إلى بيتك؟

- ومن بين الحزب والتعب تقول لي :
- الحكومة الكافرة وضعت المسلمين في السجن .

ومن بين حزنها شرحت لى القصة , كيف باعوا ممتلكات الإخوان في المواد العلني وقد اشتراها أحد أقاربها الطيبيين حتى يردها للمسلمين يوما .

وإطفاء الأنوار, وغارات اليهود بالطائرات على مصر وهرج ومرج كثير . والمدرسون يأمروننا بالقيام لحضرة الناظر الأستاذ مصطفي الجندي , الذي يشرح لنا فظائع اليهود وما يفعلونه بالفلسطينيين العرب الأبرياء , ويطلب من كل التلاميذ التبرع بمصروف الغد من أجل إنقاذ فلسطين .

وعند خروج الناظر من الفضل لن أنسي همسة جعفر أفندي الطناني لحضرة الناظر .

- حكيت لهم ما يفعله اليهود بالمسلمين ولم تخبرهم بما يفعله المسلمون بالمسلمين .
- وكنا صغارا فلم يهتم كل من الناظر بالحديث أمامنا , رغم نظرة حضرة الناظر الحرجة ناحيتنا وهو لجعفر أفندي :
- وكانت الصحف تتكلم عن الأوكار والسيارة الجيب الانفجارات والإرهابيين ,ولم يكن فيها من حديث عن الإنجليزأو اليهود .

وأذكر أنني سمعت أمين أفندي صقر , وكان صديقا لأبي ويأتي إليه بين الحين والآخر ويجلسان للسمر الطويل سمعته يقول له :

شركة الإعلانات المصرية التي فجرها الإخوان المسلمون كانت وكرا لليهود في مصر , ألف عفارم على الإخوان ..
لم أكن وقتها بقادر على تحديد صورة صحيحة منضبطة عما يدور في مصر ! كنت أسمع جملا وكلمات متفرقة من هنا وهناك وأعرف أن غليانا يدور , ولكن ما هي طبيعته ؟ لست أدري !
وظلت رؤى الإخوان والإسلام تتخللني بين الحين والآخر حتى دخلنا الشعبة في ذلك اليوم من أيام صيف عام 1951 .
لعلي لا أكون مبالغا لو قلت إنني اكتشفت في الشعبة عالما غريبا .
فقد كان بها معظم الزملاء في المدرسة المشهور لهم بالجد والنشاط .

ولاحظت أن كل واحد فينا يعجب لوجود زملائه معه في نفس المكان , وكان كبار الطلبة من المشهورين في البلدة يملئون الغرف , والشعبة كخلية النحل وفي غرفة من الغرفات جلسنا إلى الشيخ حسن عليان من عرب الصوالحة يعلمنا قراءة القرآن ويفسره لنا وكان شابا نشيطا قد درس بالأزهر , وكان صارما حازما يعاملنا معاملة الكبار ونحن ما زلنا أطفالا وظلت هذه الذكريات تعاودني دائما بعد مرور السنين وأساءل نفسي هل كان الشيخ على حق ؟؟ وأجد أنه كان على حق فقد استطاع أن يشعرنا بالمسئولية والجدية في وقت مبكر جدا , ولهذا فقد اختلفت نظرتي للأمور ونظرة جيلي كله عن جيل أولادنا مثلا .

ففجأة وخلال شهور قليلة كنا ندرك من أمور السياسة وما يدور في مصر ما قد لا يفهمه كبار هذه الأيام , أصبحنا نعرف أبعاد المشكلات التي يتداولها السياسيون صرنا ندرك معني الأحزاب وظروف تكونها , وما هي العقدة في إخراج الإنجليزمن مصر ومن هم أصحاب المصلحة في بقائهم , وما هي أهمية الجهاد في سبيل الله .

وهل هو جهاد من أجل مصر وحدها . أم من أجل تحرير كل الأقطار الإسلامية التي تقع تحت نير الاستعمار , وما هو واجب المسلم في هذا العالم الذي نعيشه وما هي الشروط والاستعدادات حتى يؤدي هذا المسلم واجبه ؟

كل هذا تعلمناه أو سمعناه في ذلك الصيف .

دخلنا المدرسة مع الخريف . وكان النحاس باشا قد ألغي معاهدة 1936 .

وخرج الفدائيون إلى القنال من شباب الإخوان يدمرون القطارات ويهاجمون المعسكرات ويموتون .

وصارت القاهرة هي بؤرة الأحداث , وجاء إليها كل مندوبي الصحافة ووكالات الأنباء من سائر أنحاء العالم , وبدأ الضغط الجدي على بريطانيا في الجلاء عن مصر ,

ويبدو أنها قد استجابت لهذه الضغوط الممثلة في الاعتداء على معسكراتهم ومحاولة خلعهم بالقوة من مصر .

وبدأ العد التنازلي للاحتلال الإنجليزي لمصر, وصار واضحا لجميع المراقبين والمحللين أن الإنجليزيبحثون عن طريقة مثلي للخروج من مصر وأن المسألة مسألة وقت ليس إلا .

وكان الإنجليزيتفاهمون مع الأمريكان في ذلك الحين على ترتيبات الخروج وكيف ستكون السياسة بعد خروجهم , وكيفية تكريس انفصال مصر عن السودان .

ولم نكن ندرى في هذا الحين ما يدور .

كل ما كنا نعرفه هو الحركة السياسية اليومية , وتفاعل الأحداث وتطورها والخروج في مظاهرات ضخمة , حيث يتجمع الطلبة من القوي الوطنية كافة بالمدرسة ثم تبدأ بالهتاف ويسخن الجو وينضم إليهم بقية التلاميذ المسطحين الذين لا رأي لهم ولا إنماء فجو الحماسة جو ينتقل بسرعة إلى من يعيش فيه .

وقد تنتظم بعض الفصول وسرعان ما يذهب إليها بعض الطلبة القادرين ويجبرون الأستاذ على إخراج التلاميذ للانضمام إلى المظاهرة .

ويرتفع الصراخ ويخرج الناظر فيقابله التلاميذ بهتاف واحد يشق عنان السماء نريد العلم ... علم المدرسة .

وفي تلك الأيام الخوالي كان لكل مدرسة علم ويستجيب الناظر للضغط .

وتخرج المدرسة كلها في طابور إلى محطة القطار , وهتافاتهم تثير البهجة والحماسة في نفوس كل المواطنين وهم في طريقهم إلى المحطة يمرون على مركز البوليس حيث يقف بعض الضباط وبعض الجند ولا يتعرضون لهم بحال , بل هم يبتسمون معجبين ومحيين .

وفي القطار الذاهب إلى القاهرة نجده قد ملئ بالمدارس الأخرى فالزقازيق الثانوية وبلبيس وأبو كبير والتل الكبير . وفي الطريق تلحق بنا قليوب الثانوية وبهتافاتها العالية .

ثم يتوحد الهتاف , ويصير لهذه المظاهرة هتاف مميز يخرج من فم واحد ويردده الجميع .

وفي ميدان باب الحديد نجد المدارس قد جاءت من كل أنحاء مصر .

وتختلط الأصوات والصرخات وتتباين الهتافات ثم تتوحد , فنجد أن هتاف الإخوان المسلمين هو الذي يسود المكان .

الله أكبر ولله الحمد .

ولعلي قد تجاوزت الخريف إلى الشتاء .

ولعلي أقف مع مصر وهي تشيع شهداء الإخوان الذين ماتوا في القنال!

وكان يوما مشهودا في القاهرة .

وفي هذا اليوم وضحت الرؤية , فقد تحدد مصير النظام وظهر خطر الإخوان في منعطف جديد .

ولله في خلقه شئون !

كانت المدرسة في ذلك الوقت تضم جمعا كبيرا من طلبة الإخوان , أو من كانوا يسمونهم بالأشبال , وكان هناك مسئول عن المدرسة من الطلبة , وهو على ما أتذكر الدكتور عبد الفتاح خالد منصور, وكان له سلطان على المدرسين وأيضا على الناظر , وكان مهذبا دمثا يعقد اجتماعاته كل يوم اثنين , وكان هناك مسئول عن كل فصل , وربما كان في الفصل الواحد عدة أسر , والأسرة تتكون من خمسة لهم نقيب , ولهم برنامج دراسي ورياضي وتربوي وتثقيفي ولهم حضور واحترام بين المدرسين والتلاميذ كافة .

وكان أكثر من نصف المدرسين من الإخوان , وكان الناظر نفسه من المتعاطفين مع الجماعة وكان ينظر برضا وحبور إلى نشاطهم وإلى حسن أخلاقهم وجديتهم وتفوقهم في دراستهم .

كل هذه النظرات والذكريات محاولة لرسم صورة الإخوان ودروهم في المجتمع المصري في تلك الأيام التي سبقت ثورة 23 يوليو.

كانت هناك شعبة في كل قرية ومركز من حولنا , ويجتمع في هذه الشعبة صفوة المثقفين وأهل العلم والطليعة الرائدة التي لها دور في تغيير المجتمع الصغير والكبير من خلال التدخل في فض المنازعات ومن خلال التربية والتعليم والتثقيف , وجعل العبادة منهجا يوميا يحرص الجميع عليه .

بالإضافة إلى هذا كان للإخوان الدور الرائد في تنبيه الشعور القومي والوطني وبعث الحس الإسلامي الكامن في نفوس الذين يحلمون بدولة عظيمة يحكمها الإسلام .

واستطاعت شعبة الإخوان أن تجند الشعب المصري كله بطوائفه كافة في مختلف المجالات وفي حدود نطاق وجودها لحرب الإنجليزوالسراي والفساد .

وخرج المتطوعون إلى القنال .

وكانوا جميعا من الشباب صغار السن كما وصفنا .

وسرت في القرى والكفور والنجوع روح غريبة جديدة .

وكانت الشعبة الرئيسية في مركز شبين القناطر لها نظام ثقافي وتربوي ورسالي , فكل يوم جمعة يذهب إمام وخطيب إلى قرية مجاورة لخطبة الجمعة .. إلى معظم القرى تقريبا .

ويخطب الخطيب بروح جديدة , وبعد الصلاة يجلس في " دوار " ويجتمع وشباب القرية وشيوخها وأهلها , ويساعده أهل شعبة القرية فيجتمع كل الناس , ويكون مؤتمر شعبيا دينيا , تناقش فيه كل القضايا , وكان يحدث في أحيان كثيرة مناظرات مع أصحاب الأحزاب الأخرى , تبدأ بعداوة وتحد وتنتهي باتفاق وصداقة .

واستطاعوا في زمن وجيز يسير أن يجعلوا من القضية الوطنية الدينية شغل الناس الشاغل .

وبدأت جماهير الشعب تفكر في الجرائم التي يرتكبها القصر والبوليس السياسي . وظهرت صور حسن البنا في البلاد والبيوت والمساجد والمدارس .

وتهيأ المسرح لحدث جديد سوف يكون وبدت معالمه !

كان الناس قد بدءوا يتعودون عادات جديدة مع ظهور الإخوان في البلاد , فتغيرت طبائع الصناع والموظفين وصار الجميع حريصين على تغيير المجتمع من خلال رفض العادات الموروثة التي لا نفع منها , والتي كانت تعمل عمل السوس في البنية الأساسية للدولة والمجتمع .

صار يتردد أن الملك هو سبب كل مصيبة , وأن رجال الحاشية هم الذين يمدون له في الغي .

وكثرت الحركات الوطنية وكلها كانت تصب بروافدها في نهر الإخوان المسلمين ولعميق الأسف لم يكونوا على وعي كامل وواضح بكل ما يراد بهم .

وكانت الدوائر تحيط بهم , الأعداء يعدون عدتهم لحربهم والقضاء عليهم واستئصالهم وأكد هذا اشتراكهم في حرب فلسطين , ثم المقاومة الساخنة للإنجليز في القنال .

واتصل بهم الشيوعيون يحاولون التنسيق معهم .

وكذلك فعلت جماعة مصر الفتاة

وعزفت معزوفة جديدة تعلن حياة جديدة لما أطلق عليه بعد ذلك " دول العالم الثالث "

وتهيأ الجميع وشاركوا في انقلاب 23 يوليو 1952 .

عودة إلى الشعبة

كان دور " الشعبة " في حياة الناس دورا رئيسا في تلك الفترة الميمونة التي سبقت الثورة التي سموها المباركة ولم تكن كذلك .

واستطاعت أن ترسل نورها عبر جيل من الرواد العظام الذين لم يبق منهم على قيد الحياة الآن غير عدد قليل يعدون على أصابع بعض الأيدي .

وعظمة الإنسان قد تقاس بقدر تأثيره في الناس وتغييره من طبائعهم ومن سلوكهم بالقول والتعليم والسلوك و التصرف والصمت أحيانا .

ذوكانت عظمة هؤلاء الناس عندما أتأملها عبر عشرات السنين التي مرت على أحداث الطفولة والصبا , تتمثل في بساطتهم ويسرهم ولينهم , وتكمن أيضا في شدتهم وقوتهم وحزمهم وصبرهم , وتراها وتبصرها في وعيهم العالي بالتاريخ وإدراكهم بمشكلة الإسلام والمسلمين في تلك الحقبة من الزمن , في إصرار لا حدود له , وثبات لم أجد له مثيلا بعد تطاول السنين .

كانوا فقراء وضعفاء في ظاهرهم ولكنهم يقفون أمام الملك ورجال القصر والحكومة ومن خلف هؤلاء جميعا الإنجليزواليهود بأنيابهم الكاشرة .

وكانوا يدركون أى عدو يواجهون في حربهم التي بدأت ولا يعرفون موعدا لانتهائها .

وكانوا يعلمون أن السجن والاعتقال والشهادة أمر حتمي لكل من يسلك هذا الطريق فكانوا ينتظرونه , ويتوقعونه لا يتهيبون أن يقع شئ منه , وكان هذا أيضا من مظهر عظمتهم التي يعجز أمامها المحللون والمفسرون, رغم أنها ببساطة قبسة من روح الإسلام .

كانوا فقراء لا يملكون الكثير ولكنهم في المواقف تراهم أثرياء يفعلون الكثير . ف

الشهيد الحاج محمود يونس ذلك الرائد الذي لا ينسي من عرب جهينة مركز شبين القناطر , وأحد الذين ندين لهم بالفضل ونذكره ونترحم عليه , كان من أوسط الناس وهو إلى الفقر أقرب , ولكنه يبيع ما تركه له أبوه من قطعة أرض لا تزيد على فدانين وهي كل ما يملك لأن الإمام الشهيد حسن البنا يريد أن يشتري دار للإخوان المسلمين في القاهرة .

ويعود الشهيد محمود يونس إلى قريته بعد صلاة العشاء الآخرة ثم يرجع إلى القاهرة ويسلم الإمام الشهيد ثم الأرض بعد أن أدي معه صلاة الفجر في الجماعة .

كانت حياة هذا الداعية المجاهد ملكا للدعوة وهو لا يعرف غيرها في صحوه أو منامه , في حله أو ترحاله , أعطاها كل ما يملك , ولما فاض به الكيل وهبها حياته شهيدا في كرم وإيثار وأريحية في قصة خالدة في قصص التعذيب الوحشي الذي كان يجري في مجلس قيادة الثورة وقصر عابدين والسجن الحزبي الشهير .

وكانت هذه النماذج الرفيعة التي عرفتها في صباي تذكرني بالصحابة عليهم الرضوان فهم إليهم أقرب وسلوكهم بهم أشبه , حيث التجرد ونكران الذات والإخلاص الذي لا تبدو له حدود كالبحر في تدفقه .

ولم أكن أعرف في تلك الأيام الصفة التنظيمية لبعض هذه النماذج العالية , فحتى هذه اللحظة لم أعرف ما هي الصفة التي كان يحملها الشهيد محمود يونس , ولعلي لم أسأل ولكني كنت أراه في كل موقع وأثناء أية مناسبة , فقد كنت أعرف أيامها أن الحاج الحسيني يونس وهو نائب شعبة شبين القناطر , ثم عرفت بعد تطاول السنين أنه كان مسئولا عما يسمي مركز الجهاد بمركز شبين القناطر .

وكنت أري الحاج حسن عليان الذي أنشأ وأقام مدارس الجمعية حيث كان يقوم على التدريس بها حسن عيسي عبد الظاهر كما ذكرت , ثم عرفت بعد تطاول السنين أن الحاج حسن عليان هو مسئول الجهاد عن مركز الخانكة آنذاك .

وكانت عواطف هؤلاء الناس رقيقة وعميقة يلفها شئ غير قليل من وهج التصوف ونور الإشراق الإلهي في قناعة وتجرد , فكان تأثيرهم في الناس عظيما , فهم الوجوه وهم السادة , وهم الذين يرحب بهم في أى مكان وكان الشهيد محمود يونس أحد أربعة ذهبوا لتقديم العزاء للمرحوم أحمد عبد الرحمن البنا والد الإمام الشهيد يوم استشهد .

وتم اعتقاله مع غيره بعد تقديم العزاء !

عواطف متأججة وعميقة كانت تلف هؤلاء الناس فينفثونها نورا يؤثر فيمن يلقونه بغير تمييز .

وكان هذا من أشهر ما يميزهم ويختصون به .

وتذكرت واقعة قريبة في استطراد لا مندوحة عنه ..

كنت أجمع معلومات عن حياة الإمام الشهيد حسن البنا الشخصية , لموضوع أرجو من الله النجاح والتوفيق فيه .

وأشار على الصديق العزيز الحاج حلمي عبد المجيد بمقابلة الحاج عبد الله الصولي شقيق المرحومة زوجة الإمام الشهيد .

وقلت له : وأني لنا به ؟ فقال : هو صديقي وسوف أحدد لك معه موعدا وفي يوم حار أخذنا طريقنا إلى الإسماعيلية حيث يقيم الحاج عبد الله الصولي بعد أن حدد لنا الحاج حلمي عبد المجيد موعدا معه .

وصعدنا السلم في بناية عتيقة تنبعث من ثناياها رائحة التاريخ القريب وعبقه . وجلسنا في غرفة الضيوف في انتظار الحاج عبد الله الصولي الذي لم يكن في استقبالنا وقد عللت ذلك وقتها بأننا قد حضرنا مبكرين عن الموعد قليلا .

ثم هل علينا الرجل الطيب صاحب الدار .

وفوجئت به شيخا قد تجاوز الثمانين يسير محني الظهر بصعوبة شديدة وفي يده عصا غليظة يتوكا عليه .

وساعدناه حتى أجلسناه .

وقدمني إليه الحاج حلمي عبد المجيد وشرح له طلبي وغرضي من الزيارة وارتسمت أمارات الارتياح على وجهه الذي غضته السنون .

ثم وجدت الدمع ينهمر من عينيه فظننته رمدا فيها , ثم رأيته يبكي بكاء مرا ويلتفت إلى الحاج حلمي معاتبا أنه لا يأتي لزيارته كل هذه السنين الطويلة وعرفت أنهما لم يلتقيا منذ سنين .

وتحدثا فكأنهما لم يفترقا لحظة من زمن .

وصرت أرقبهما في عواطفهما الجياشة وهما يتذاكران الأحداث البعيدة والقريبة في حالة هي أقرب لما يسميه المتصوفة بالوجد , وتحدثنا معه ما شاء الله لنا أن نتحدث ثم جاء موعد الانصراف , وبكي الشيخ بكاء مرا مرة أخري , فقد أزعجه ذهاب صديقه أو انصرافه .

وتعانقا ثم افترقنا فإذا بالشيخ ينادي من بين بكائه :

- يا حلمي ..

- وانقلب إليه الحاج حلمي عبد المجيد مسرعا :

- نعم يا سيدي .

ومن إشراقة الوجد وتلألؤ الدمع وصدق العاطفة قال له الحاج عبد الله الصولي ( الذي كان جالسا أثناء وداعنا لصعوبة قيامه وإصرار الحاج حلمي على بقائه جالسا ) : قال :

- دعني أقبلك مرة أخري قبل أن تنصرف يا حلمي. ومسكت دموعي وأنا أتامل هذا الفيض من الجلال والبهاء , وتلك العواطف الغريبة العجيب التي لم يعد لها وجود .
- ونزلنا السلم صامتين وقد لفت كل واحد منا عواطفه وأفكاره .
هذه العواطف كنت أراها في عالم " الشعبة " في شبين القناطر في تلك السنين البعيدة التي انصرمت مع تقلبات الليل والنهار .
وهناك أسماء لا ينبغي أن تنسي بل يجب أن تسجل وبحروف من نور .

فإلي جوار اسم الشهيد محمود يونس والحاج حسن عليان من الأحياء – مد الله في عمره - والمرحوم الحاج الحسيني يونس نضع اسم المرحوم الشيخ عبد الفتاح السيد من عرب العليقات والمرحوم الشيخ أمين الفحل من كفر شبين القناطر والمرحوم الشيخ إبراهيم البلاد والمرحوم الشيخ الهادي الزلباني والمرحوم محمد سليمان الهضيبي الذي هاجر ومات في أرض الهجرة والشهيد محمد صوابي الديب من الشوبك والذي مزقته السياط والأسياخ المحمية في أتون السجن الحربي فاستشهد يافعا كمصعب بن عمير .

وبجانب هؤلاء من الأحياء الحاج حسن حافظ الفقي – مد الله في عمره – وكذلك الحاج الحسيني ثابت , والحاج محمد المخ من عرب جهينة .

والأسماء كثيرة ولامعة وكلها مضيئة.. تتوهج بالإيمان واليقين .

وأنا أكتب حسب ما تسعفني الذاكرة .

فقد كان من الغر الأماجد المرحوم عبد الفتاح العسيلي والمرحوم إسماعيل الدبيس والمرحوم محمود وهبة , والحسيني أبو زيد ولا أدري هل هو بين الأحياء أو الأموات , والمرحوم عبد العزيز البشوتي .

وهناك وجوه أراها بمخيلتي ولكني لا أستطيع النطق بأسمائها لضعف الذاكرة وتقدم السن وتوالي الأحداث .

ولكن وهج هذه الأسماء , ومثلها يتكرر في كل مدينة ومنطقة هو الذي حفظ هذه الدعوة وحماها من التآكل والنسيان ومن خلف ذلك إرادة الله القادرة الغالية المريدة .

أخشي أن نغرق في بحر الأسماء .

كان النشاط في تلك الأيام عجيبا وغريبا , لم يعهده أحد من الناس , ولكن كان الإخوان المسلمون يعملون على تغيير المجتمع ووضع قواعد جديدة وقيم لم يعرفها الناس من قبل على وحي من الإسلام وعلى هدي من روح القرآن .

فذلك التعارف الذي ينبغي أن يكون بين الإخوان في رحلاتهم وفي زياراتهم الدائبة التي لا تنتهي , حيث تذهب مجموعة لزيادة مجموعة أخري في بلدة أخري , ويتم التعارف بينهم , ومن الواجب أن يذكر كل واحد اسم أخيه وصناعته وأين يقيم وكيف يقيم وكم ابنا له أو بنتا وما هي المشكلة التي يواجهها وكيف يستطيع أن يساعده في حلها ؟ ولابد له أن يتفهم ظروف أخيه , ويصير ذلك أكثر عمقا في محيط الأسرة وهي وحدة البناء في مجتمع الإخوان المسلمين فقد نسمع ضابطا يتكلم عن آخر فيقول .

فلان هذا من دفعتي , فتفهم مدي عمق الصلة بينهما على الفور .

وعلى غرارها قد تسمع واحدا من الإخوان يذكر آخر فيقول :

- الأخ فلان كان في الأسرة .
- وهنا نعرف أن بينهما صلة ليست بين اثنين في أى مجتمع آخر .
- كانت شعبة الإخوان المسلمين بشبين القناطر مراكز من مراكز الجهاد كما قلنا وكان المحرك الرئيسي للنشاط في تلك المنطقة هم إخوان العرب وعلى وجه التحديد عرب الصوالحة وعرب جهينة .
- وكانوا ينوون إقامة مركز للجهاد في بنها .

وفي سبيل ذلك اتفق أن يذهب الشيخ حسن عليان – مد الله في عمره – ومعه الشهيد محمد صوابي الديب إلى بنها حيث يعاونهما هناك الشيخ عز العرب فؤاد حيث كانت النية تحريك بنها وما حولها فتكون بؤرة للنشاط مثل شبين القناطر والخانكة وهذا عرفته مصادفة بعد سنين طويلة .

ولكن أحداث التاريخ أخذت وجهة أخري فلم يتمكنا من ذلك .

وكان نائب الشعبة في شبين القناطر هو المرحوم الحاج الحسيني يونس الموظف بالمجلس البلدي آنذاك .

وكان الموظفون في المجلس البلدي في ذلك الوقت لا يزيدون على عشرة .

وهم الآن يقتربون من الألف , وهي أرقام تجعل الحليم حيران .

وكان هذا الرجل – عليه رحمة الله – محل احترام وتوقير كبار رجال البلدة حتى مأمور المركز كان يعمل له كل حساب ليس لموقعه كنائب للشعبة ولكن لخلقه الرفيع وعظيم تأثيره في الناس .

وكان مجال الدعوة والنشاط في ذلك الوقت هو الطبقة الوسطي حيث الموظف الصغير والعامل والفلاح ومدرس الابتدائية وصغار التجار ثم الطلبة بكل تخصصاتهم وتوجهاتهم, ولو صعدنا قليلا فإلي مدرس الثانوي.

ولا أذكر في تلك الأيام أنني رأيت طبيبا واحدا في الشعبة لكن كثيرا من الطلبة آنذاك صاروا أطباء مشهورين .

ولا اذكر أيضا أنني رأيت مهندسا واحدا- ربما كان هناك ولكني لا أذكر – لكن كثيرا من الطلبة الذين كانوا ينتظمون في الأسر صار منهم اليوم بعض المهندسين المشهورين ومنهم من صار عميدا لكلية من كليات الهندسة , بل هناك أكثر من عميد .

كانت الحركة كلها والتوجه بأكمله في خطوط نشطة ناحية الطبقة الوسطي أو ما تحت ذلك إن جاز التعبير .

ولعل الذين أخذوا حظا أعظم من العناية والاهتمام هم العمال والفلاحون أو الطلبة, وذلك لسهولة الاقتراب منهم والتعامل معهم .

وكانوا يقومون بتمويل أصحاب الصنعة الصغار حتى يستقلوا بعملهم . وأذكر الأخ " مصباح " الخياط الذي كان يعمل في محل خياط , محل المرحوم عبد الفتاح الخولي , وجمع له الإخوان ثمن ماكينة خياطة واستأجروا له محلا صغيرا , واستقل بعمله وصار من أصحاب الحرف وأرباب العمل .

وكل ذلك كان يتم بجهود ذاتية قليلة الحجم ولكنها مباركة التأثير.

كان الإخوان المسلمون يقلبون المجتمع تقليبا في ذلك الوقت ويعملون على تغييره تغييرا أصليا ونجحوا نجاحا عظيما في توصيل دعوتهم إلى كل بيت وقد لا نكون في هذا مبالغين .

كانت هناك محاضرة تلقي يوم الخميس من كل أسبوع , وكانوا يحددون لها وقتا بين صلاة المغرب والعشاء , ويحضر هذه المحاضرة أغلب من له علاقة بالإخوان المسلمين من المركز والقرى المجاورة , وكنت أري الإخوان يمرون على المحلات التجارية بعد صلاة العصر يدعون الناس لحضور هذه المحاضرة .

وفي بعض الأحيان كان يأتي زائر من القاهرة من الدعاة الكبار الذين لهم شهرة مثل حسن دوح والدكتور محمد خميس حميدةوالشيخ عبد اللطيف الشعشاعي والدكتور سعيد رمضان والمرحوم عمر التلمساني.

وقد رأيت الشهيد سيد قطب وهو يلقي كلمة في الشعبة أيام أن كانت في منزل المرحوم عليوة الوكيل عمدة البلدة .

وبعد أن وضع المرحوم الحسيني يونس دعائم الشعبة وسار النشاط فيها على النحو الذي يحبون ويرضون أوكلوا بها الحاج حسن الحافظ الفقي نائبا ومسئولا , ثم رأيته بعد ذلك يتلقب في السجون والمعتقلات مثل غيره من الرواد الأوائل .

وكان هناك تقليد متبع في كل من أيام الجمعة كما قلنا .

ففي هذا اليوم تخرج مجموعات الدعاة من المركز إلى القرى التي ليست بها شعبة فتخرج ثلاث سيارات أو أربع حسب ما هو متوافر من الدعاة

داعية ومعه ثلاثة أو أربعة من المرافقين ويذهبون إلى القرية وقد يكون هناك ترتيب فيخطب الجمعة حيث يكلم الناس بلسان جديد ولهجة لا يعرفونها من قبل , أو يستأذن فيسمح له بالكلام بعد صلاة الجمعة و ويكون ذلك فتحا جديدا في القرية .

وكانت هذه القافلة لا تقبل الضيافة إن كانوا لا يعرفون أحدا من هذه القرية ولعل جماعة التبليغ قد أخذت هذا التقليد من تلك الأيام , فقد كان زعيم التبليغ الحاج فريد العراقي أحد رؤساء هذه القوافل التي تخرج للدعوة يوم الجمعة .

وقد يكون من أهل القرية من يعرفون فيقبلون ضيافته , ونذهب إلى " الدوار " ونتناول الغداء , ثم يكون مؤتمر مشهود يحضره الوافدون ومعظم أهل القرية وتكون ندوة عن الإسلام : حاضره بين ماضيه ومستقبله .

وكان هذا الداعية يثير في ذلك اللقاء قضايا غريبة ومركبة في الدين والسياسة على هؤلاء الفلاحين البسطاء الذين كانوا يتقلبون الكلام ويعجبون به ويشغفون بسماعه ومن ثم تتغير آفاقهم وأفكارهم من هذا اللقاء .

وقد يفتح الله على الداعية فيصر الحاضرون على إنشاء شعبة للإخوان وكان ممن يخرجون في هذه القوافل كل جمعة الشيخ عمر إسماعيل منصور وكان طالبا في كلية دار العلوم في ذلك الوقت وكان بليغا متكلما , ودودا متلطفا في قوله يقترب من الناس في مودة ولين ويسر , ولا أذكر أنه تخلف مرة عن هذا الخروج .

وكان ممن جلسنا إليهم وتعلمنا منهم , كم شرح لنا أساليب دعوة الإسلام ودورها في تغيير المجتمعات والناس , وكان كثير المواظبة على قراءة القرآن ,يحضر إلى الشعبة كل يوم وكأنها بيته الثاني, فهو يكاد لا يفارقها .

ثم فرقت بيننا الظروف والأيام ولم ألتق به في سجن أو معتقل.

وبعد أن انزاحت الغمة وهدأ الضجيج سمعت أنه من أعضاء الحزب الوطني في نفس البلدة التي شهدت جهاده القديم .

وفي كل مرة أسمع أنه يشارك في انتخابات الحزب الوطني بتلك الطقوس الغريبة المشتهرة حيث يجعلون الموتى يدلون بأصواتهم ويحرمون على المواطن إبداء رأيه ويخوفونه بالحكومة إن أراد أن ينتخب غير مرشحها فلا أكاد أصدق فالرجل صاحب دين وخلق وقد تعلمنا منه الكثير .

ولكنها تقلبات الليل والنهار , وفي كل مرة أسمع عنه هذا تعتريني الدهشة والتعجب وكأني أسمع ذلك للمرة الأولي , ثم أتذكر كلماته العذبة المؤثرة عن عالم الإسلام الذي نحلم بوجوده وبمجده الذي نتمناه ثم أعجب وأدهش أن الرجل كان أحد من صنعوا جيلا من المسلمين لا يزال متمسكا بكلماته التي ألقاها عليهم منذ عشرات السنين , فقد كان من أشهر من يقفون للكلام في الشعبة , فهو المتحدث إن غاب زائر كان مقدرا له أن يجئ وكان متمكنا من الكلام على علم بتفسير القرآن , وعلى وعي بأسلوبه في مناجاة النفس البشرية وغرس دعائم الإيمان فيها , وعهدي به صلبا قويا فاهما , ولا أدري ماذا حدث له أو ماذا حدث للناس ,ولكني أعود فأتذكر أن الله يحول بين المرء وقلبه كما كان يخبرنا وما أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين .

وعندما أتذكر تلك الأيام البعيدة تأتيني الآية الكريمة :

( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) ثم تلح على مخيلتي آية آخري  : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) ( الأحزاب : 23 , آل عمران : 179 ).

فهذه المحن التي يلاقيها أصحاب الدعوات هي جزء من الخطة الأبدية التي رسمت من الأزل وأن الإنسان المسلم بحياته المحدودة التي تتراوح ما بين ستين عاما وثمانين لا يستطيع أن يضع قواعد كل شئ , وعليه أن يقوم بالواجب ويؤديه وأن ما يفعله قربة إلى الله سبحانه وتعالي , وألا يفكر في نتائج هذا العمل ’ وثمرة ذلك الجهاد فهو يفعل الواجب ويترك الخطة الأبدية لصاحبها الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور , وأن يفعل ما ينبغي عليه قربة إلى الله سبحانه وتعالي وأن ينسي أن عليه أن يأخذ أجر هذا الجهد والجهاد في الدنيا وإنما هي جولة من جولات الشمس في طلوعها وغروبها حتى يفد الإنسان إلى ربه فيحاسبه على ما قدمت يداه وأن عمر الأمم لا يقاس أبدا بعشر سنين أو ضعف ذلك أو ضعفيه , ولكن عمر الأمم يقاس بمدي تدخل القدرة الإنسانية ودرجة الإخلاص لله سبحانه وتعالي وموقعها وموقفها من خطة الأزل .

ولم نع هذا الدرس إلا بعد سنين طويلة فقد ربي الإخوان في الماضي على النصر القريب وكانوا على يقين من " حسني " عرفوها من " الحسنيين " هي النصر وكان خاطر كل واحد أنها إنما هي جولة بالخيل , فينجلي الغبار فيجدون أنفسهم في المكان الأعلى من النصر والتمكين في الأرض ولم يدر في خلد واحد – إلا من عصم ربي – أنه قد يمر عمره وينتهي ولا يصل إلى غاية النصر المرجو والذي يداعب شوقه خلجات النفس في كل لحظة من الصحوة أو خلجة من خلجات الحلم في الليل .

وقد صنع ذلك وهج الحماسة ونور الإيمان وقلة الخبرة بظروف الحياة وتصاريفها وعدم الوعي بنكد الواقع الأليم الذي نعيشه بلاد الإسلام .

وكم من مخلص مؤمن قضي حياته في الجهاد وتوفاه الله ولم ير ذلك المجتمع الذي نحلم به ونعمل على تكونه ووجوده وقد يري ذلك قوم لم يأتوا بعد , أو آخرون جاءوا بعد أن فاتهم عمل قديم .

كان برنامج الإخوان المسلمين في الشعبة يعتمد على التربية و على التثقيف , فقد كانت هناك مواد معدة قام على ترتيبها ووضعها اختصاصيون أصحاب درجات كبيرة في تخصصهم وكانوا يهتمون بالقرآن الكريم وتلاوته وتفسيره , يهتمون بالسنة النبوية وبالأحاديث وعلمها , ويهتمون أيضا بالسيرة النبوية وماذا حدث لرسول الله صلي الله عليه وسلم من أمور , وكيف سار بجهاده منذ بعث بالإسلام حتى توفي عليه السلام بالمدينة والدروس المستفادة في العهد المكي وكيف كان تصرفه وفعله باليهود والمنافقين والذين أشركوا في المدينة حتى أشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وأسلم كل من فيها .

وكانت هناك دروس في كل التخصصات والمجالات للتثقيف العام ولخلق جيل يعي دوره في تغيير المجتمع بعد الهجمة العلمانية الإلحادية الشرسة من أجل تحقيق مبادئ الإسلام وقيمه .

وكانت هذه الدروس تعد إعداد دقيقا يتناسب مع أعمار من يذهبون إلى " الشعبة " وثقافتهم وتوجهاتهم وكانت تطبع في رسالة صغيرة قليلة الثمن يستطيع دفعه أى واحد مهما قل دخله .

وكان هناك قسم للطلبة وقسم للعمال ولكل قسم برنامجه في التثقيف والإعداد وكانت الشعبة بوجه عام كخلية النحل في العمل والدأب والنشاط , فقد كانت تغص بالناس يروحون ويجيئون فهي مليئة كثير من فيها فمنهم المحب والصديق ومنهم من يعجبه هذا اللحن الغريب الذي يعزف ومنهم العضو العامل الذي يقوم بواجبات الدعوة وأعبائها ويفعل ما فهمه من واجبات الجهاد .

وكان هذا كله محل تأثير وإعجاب من كل أهل البلدة أو بقية من ظلوا بعيدا في نظر وترقب .

ولم يكن من العجيب أن تجد أتباع حزب الوفد وكانوا أغلبية في بلدتنا قبل قيام الثورة وبعد قيامها فلم يكن مستغربا أن تجد كثيرا منهم يرتادون " الشعبة " وكانت هناك بقية من الأحرار الدستوريين وهو حزب من الأحزاب البائدة التي ذهبت كأن لم تغن بالأمس , وكانت هذه البقية ترتاد " الشعبة " أيضا .

لم يكن أحد يجد غضاضة في ارتياد " الشعبة رغم اختلاف التوجه السياسي ورغم العداوة الشديدة التي كان يحملها رؤساء هذه الأحزاب للإخوان المسلمين .

وكان أتباع هذه الأحزاب ممن يرتادون دار الإخوان يميلون كل الميل فيذرونها كالمعلقة فكل واحد منهم حزبي التوجه إخواني الهوى , على بقية مما ترك سعد زغلول وغيره من زعماء الأحزاب , في أمور شكلية المظهر غير بعيدة العمق , لا تكفي حاجة الروح والعقل وغالبا ما ينتهي الحال بمثل هؤلاء إلى أخ عامل من الإخوان المسلمين .

ويذكر لى الشيخ أمين الفحل – عليه رحمه الله – أنه في لقائه الأول والإمام الشهيد حسن البنا وكان ذلك اللقاء في منزل الشيخ أمين بكفر شبين , توجه الإمام الشهيد بالنقد إلي حزب الوفد وكيف نسي القضية الأصلية وهي الإسلام وتكلم في أمور أخري فرعية , ثم عرج في حديثه على سعد زغلول .

ولم يملك الشيخ أمين الفحل – رحمه الله - نفسه فزجر حسن البنا الذي غير الحديث ولم يتكلم في الموضوع بقية الليلة .

ومضى الزمن وصار الشيخ أمين الوفدي المتعصب نائبا لشعبة الإخوان , كان ما يحدث في شبين القناطر هو نفسه ما يحدث في سائر البلاد بأنحاء مصر , وكانت هذه الجماعة تسري في شرايين المجتمع رويدا رويدا وتوشك أن تصبغه بصبغتها بشكل نهائي وكامل .

وكان الكل يتهيأ لتغيير كبير يشمل مصر كلها وقد مهد له الإخوان تمهيدا جيدا , وأصحاب الأحزاب بتوجهاتهم الوطنية المختلفة كانوا يجدون حاجتهم النفسية والروحية عند أصحاب " الشعبة " بغض النظر عن توجهات القيادات الحزبية في العاصمة .

وكانت حوادث الإخوان القريبة رغم الإعلام السيئ الذي رسمته لهم الحكومة بكل أجهزتها والصحافة العالمية ووسائل الإذاعة المختلفة , قد مهدت لزرع فكرة أن هؤلاء الناس هم من يقومون على قيادة المجتمع نحو الأحسن .

وتردد بين الجماهير أخبار انتشار الجماعة في كل بلاد الدنيا حتى إن واحدا مثل أبي الحسن الندوي من أعظم علماء الهند المسلمين قد كبد نفسه المشقة وجاء واجتمع ولفيف يمثلون أعضاء الجماعة وتحدث في اجتماع سري معهم قد أحسن ترتيبه ثم أصدر محاضرته لهم في كتيب سماه "أريد أن أتحدث إلى الإخوان "

ولم يعد عند أحد شك في أن هذه الجماعة هي الأمل الوحيد والباقي لنهضة المسلمين وتقدمهم وأنها البديل الفكري والحركي عن الخلافة الضائعة التي ضيعها المسلمون بحمقهم وقصر نظرهم وحرصهم على مملكة هنا وإمارة هناك , ولا وعي لهم بما يدور في عالم المخططات والأساليب السرية لتمزيق الجسد الإسلامي .

هذا النشاط " لتحتي " الذي كان يقوم به الإخوان المسلمون من خلال الشعبة التي وجدت في أغلب بلاد مصر هو الذي مهد تمهيدا جيدا لتغيير النظام الملكي الذي كان على وشك السقوط .

وقد استطاع القائمون على " الشعبة " بنشاطهم الدءوب أن يفهموا الناس معنى الحقوق وأهمية الواجبات ,وتمكنوا من تبديد " السلبية " وغرس روح الاهتمام والمشاركة بين الناس في كل القضايا التي تهم الوطن , الذي أصبح بعد نشر المفاهيم الدينية الصحيحة جزءا من الدين , ولم يعد في حد ذاته غاية ينتهي إليها الجهاد .

كان الإخوان على يقين من تغيير النظام الوشيك , فهم يعملون من أجل ذلك وهم في نفس الوقت يفهمون تطور الأحداث وتبدلات الأيام , وكانوا يتحدثون بهذا في مجالسهم , وربما كانوا يفضون بذلك إلى بعض أصدقائهم الذين يتفقون معهم في الميول الوطنية .

ولعل المراقب والمطلع على أحداث التاريخ التي سبقت الملكية والتي أعقبت ذلك يري دور الإخوان المسلمين واضحا في هذا التغيير على المستويين : التغيير الفعلي وعملية الاطاحة بالملكية , وتقبل الناس لذلك وتأييدهم له ومساندتهم الشعبية التي كانت عاملا أساسيا في نجاح هذا التغيير .

ومن ملاحظاتي الشخصية أن " الشعبة " التي عشت أياما فيها أثناء صباي كانت هي المصدر الأساسي لكل صور الرفض للاستبداد والقيم غير الإسلامية والتي ظهرت بصور مختلفة أثناء حكم الثورة المشئوم الذي لا يزال ينوء بكلكله عن البلاد كليل امرئ القيس الكندي.

لم يكن أحد من الإخوان يعرف أن هذا الجهد الكبير الذي يبذل من أجل التغيير إنما هو من أجل " فصيل " انتهازي التفكير والأخلاق سوف يمكن له حيث يضع بصماته الجاهلة الغاشمة على البلاد والعباد لسنين لا يعلم عددها إلا الله .

والثورات دائما حلم عبقري في خيال بعض المؤمنين يقوم على صنعه جمع من المجاهدين ... وقوده الشهداء المجهولون ويجني ثماره الانتهازيون والجهلة واللصوص والأفاكون ,وأصحاب حتمية الحل الاشتراكي في عالم يسوي التراب على قبر الإشتراكية الشيوعية التي ماتت منذ حين .

كانت كل المقدمات منطقية لانقلاب 23 يوليو سنة 1952 .

الفصل الخامس " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " الإخوان بين المطرقة والسندان

( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين , وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) ( آل عمران : 146 -147 )

النظام الخاص

• ارتبط تاريخ الإخوان المسلمين بالنظام الخاص الذي أنشئوه .

وينعي عليهم هذا كثير من الكتاب وأصحاب الدراسات , وهنا ربط مستمر ودائم بين الإخوان والإرهاب في خطة تم نجاحها وآتت أكلها ضعفين .

ولعل هذا الكلام له حظ من الدعاية أكثر من حظه العلمي الموضوعي والغريب أن كثيرا من كتاب الغرب الذين تعرضوا بالبحث والكلام عن الإخوان هم أنفسهم أو هم نفس المدرسة التي مجدت وأشادت بالمقاومة الفرنسية للاحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية .

وقد أشاد كتاب الغرب بوجه عام بدور المقاومة الأوروبية للنازية في تلك الحقبة سواء حدث هذا في فرنسا أو هولندا أو بلجيكا أو أى مكان آخر من أوربا , وكتبت الروايات ودون التاريخ ودبجت القصائد وعبئ العالم كله , واحتشد لتحية هؤلاء الأبطال الذين قاوموا النازي , لم يصفهم كاتب واحد بالإرهاب , رغم أنهم كانوا يطلقون الرصاص على القوات النازية المحتلة , وكانوا يطلقونه أيضا على المتعاونين معهم من المدينين ولم يفرقوا في هذا بين رجل وامرأة , فكل من تعاون مع النازي كان لابد أن يقتل , وبأية طريقة , سهلة كانت أم صعبة , هادئة أم تتسم بالوحشية والقسوة .

ويتبادل الوطنيون التهنئة في الصباح كلما سمعوا باغتيال خائن بالليل , وأطلق " النازي " كلمة " الإرهابيين " على هؤلاء الأبطال الذين قاموا بأعمال المقاومة ضدهم , رغم أنهم كانوا محل تقدير وإعجاب وإعزاز وثناء من كل المثقفين في العالم آنذاك ولا يزال التاريخ يمجدهم ويشيد بدورهم .

ونعود إلى النظام الخاص الذي أقامه الإخوان المسلمين فنجده لم يفعل أكثر مما فعله النظام الخاص الفرنسي عندما أطلق الرصاص على الألمان وعملائهم من أهل البلد .

وقد تكون النظام الخاص للإخوان المسلمين في ظل الاحتلال الإنجليزي لمصر .

وقام بدور وطني كان له أثره في الجلاء بعد ذلك .

وعندما أعلنت الدولة اليهودية في فلسطين في 15 مايو عام 1948 كان أول من ذهب لقتال اليهود هم أعضاء النظام الخاص , كانوا هناك من أول [يناير]] .

ولو لاحظنا الفترة الأخيرة من تاريخ مصر الحديث لوجدنا أن هذا النظام كان له دور كبير في مسائل أساسية .

ولو مررنا أيضا مرورا سريعا على أعمال المقاومة التي كانت في الفترة ما بين إنشائه حتى ظهور سافرا مدججا بالسلاح لوجدنا الأمر كما يلي :

دوره في حرب اليهود بفلسطين عام 1948 .

تصعيد المقاومة إلى ذروتها ضد الإنجليزفي القنال عام 1951 .

التحضير والقيام بالاتفاق مع الضباط بثورة 23 يوليو عام 1952 .

وهذه أكبر ثلاثة أعمال قام بها النظام الخاص للإخوان المسلمين وقد يكون هناك من يقول إن هذا النظام كان تشكيلا جهاديا وطنيا , قد أسس على التقوى وطاعة الله ولكن كانت له أخطاء .

وإن كان الأمر كذلك فهو شئ طبيعي , فكل تشكيل له أخطاء , ولكن ما هي هذه الأخطاء على وجه التحديد ؟

تختلف الأقاويل والرؤى حولها , فالبعض يقول لم يكن من المناسب اغتيال أحمد الخازندار القاضي , ويرد عليهم من يقول إنه كان عميلا للإنجليز , وإنه كان يقول بشرعية الاحتلال وإن وجود القوات الإنجليزية في مصر كان بموجب معاهدة شرف وصداقة – يقصد معاهدة 1936 – وإنه قال هذا في المحكمة ردا على الدفاع الذي كان يشير إلى دوافع المتهمين الوطنية في عدوانهم على العساكر الإنجليز.

وهناك من يقول إن قتل النقراشي باشا كان من أخطاء هذا النظام , والصواب والخطأ يخضعان لظروف الحادث ونحن هنا نذكر أقوال المحايدين وبطبيعة الحال هناك أعداء الإخوان وأصحاب المصلحة في عدم وجودهم على الساحة المصرية , وهم الذين وصفوهم بالإرهابيين وألصقوا بهم هذه التهمة ونحن هنا لا نناقش هؤلاء بأى حال .

وكان هناك من المحايدين من وصف مقتل النقراشي باشا بأنه عمل وطني يستحق الإعجاب والثناء لأسباب موضوعية أطنبوا في شرحها ووصفها .

وعموما فقد اختلفت رؤى المحللين السياسيين حول نشاط النظام الخاص , فهناك من دافع عن وجوده بشكل عام , وأثني ووافق على كل جزئيات نشاطه , وهناك من أقر وجوده , ووافق الإخوان على مثل هذا النوع من النشاط في مواجهة قوي الاحتلال الإنجليزي , ولكن كانت لهم تحفظات على بعض الممارسات والتصرفات .

نشأة النظام الخاص

تكون النظام الخاص على فترات ومراحل , وكان يستهدف كما قلنا – وحسب رأي الذين كونوه وأداروه وكذلك أعضاؤه – الإنجليزفي مصر واليهود في فلسطين وكذلك مساندة المجاهدين المسلمين في كل الأقطار الإسلامية التي تعاني من الاستعمار , سواء كان إنجليزيا أو فرنسيا أو غير ذلك.

وكان الإخوان ينوون نقل هذا النشاط الجهادي إلى كل هذه الأقطار , وكان عندهم ما يسمي بقسم الاتصال بالعالم الإسلامي يقوم بالعمل على تنظيم هذا وترتيبه .

وقد لا نعلم أن " الحبيب بورقيبة " عندما هرب إلى مصر في الأربعينيات لجأ إلى دار الإخوان المسلمين , وأقام فيها , وهناك من خرج معه إلى شارع إبراهيم باشا – الجمهورية الآن – ليشتري له بعض الملابس للمعيشة والخروج من قمصان وبيجامات وغير ذلك .

وكذلك كان " هوارى بومدين " رئيس الجزائر السابق من المقيمين في حارة متفرعة من شارع الأزهر , ومعه كثير من حكام الجزائر السابقين والحاليين , وكان الذي يقوم على مصالحهم وشئونهم هو الأستاذ صالح أبو رقيق , وهو أيضا الذي كان يقوم بدفع أجرة هذا البيت بمعرفته من ميزانية الإخوان .

وتفصيل ذلك يطول فلو تتبعنا هذا الأمر على هذا النحو لوجدنا طلائع المجاهدين المسلمين في شتى الأقطار قد جاءت إلى مصر واتصلت بالإخوان , وأن هناك تنسيقا ما من أجل طرد المستعمر , أو التخلص من الحكومات الظالمة المستبدة على النحو الذي حدث فعلا في الثورة اليمنية عام 1948 وما عرف عن صلة الإخوان الوثيقة بهذه الثورة , وكانوا يأخذون على الإخوان اغتيال الإمام يحيي رغم أن الحقيقة قد أظهرت بعد ذلك أن من قام بقتله هم شباب من القبائل اليمنية كافة .

وهناك بطبيعة الحال من يعد هذا من مفاخرهم وحسناتهم .

واختلفت الآراء حول نشأة النظام الخاص للإخوان بشكل عام .

وهناك من يقول إنه قد تكون عام 1937 , على أثر ظهور الخطر اليهودي في فلسطين وعلى الأخص بعد ثورة فلسطين الإسلامية عام 1936 .

وهناك من يقول إنه قد تكون في بداية عام 1942 مع تحرك الصراع بين الألمان والإنجليزفي الحرب العالمية الثانية ,واقتراب قوات المحور من الأراضي المصرية قادمة من ليبيا على يد الغازي روميل آنذاك .

وبسؤال الكثير من أهل الذكر حول هذا الموضوع يبدو أنه لا يوجد تاريخ دقيق أعلن فيه نشأة هذا النظام .

ويبدو أنه قد نشأ على مراحل ,وعلى صور مختلفة , وبأشخاص متعددين ويتضح لنا ذلك من تعدد الروايات حول نشأته , ويبدو أيضا أنها حلقات قد تداخلت بعضها في بعض حتى أخذت شكلها الأخير ربما مع عام 1944 .

فقد حدثني أحد قادة هذا النظام أنه كان عضوا في تشكيل جهادي يضمه مع آخرين قد أقاموه بأنفسهم وبمعرفته هو وزملائه قبل أمر حسن البنا عليه رحمة الله له بالاندماج ومن معه ليتكون النظام الخاص .

وكانت هناك مجموعات أخري شبيهة ليست تابعة لأحد , ولكنها قامت من منطلق عقائدي جهادي .

وهناك أوجه كثيرة للنظر حول هذه النقطة عن كيفية نشأة النظام الخاص للإخوان ولكن ليس هناك بالتأكيد توقيت دقيق لتاريخ تسربه إلى الجيش المصري , ولكن بالبحث والسؤال نستطيع أن نصل إلى بعض المعالم .

ففي غضون عام 1942 كان قسم العمال بالمركز العام للإخوان المسلمين يستهدف ضم أكبر عدد ممكن إلى صفوف الإخوان , ونشر الدعوة بينهم والتغلغل في صفوفهم .

وكان يقوم على هذا القسم المهندس (....) برغم أنه كان نائبا لرئيس القسم وكانت منطقة المعادي بما فيها من مصانع هي هدف هذا النشاط .

ومن خلال العمل على تجنيد بما فيها من مصانع هي هدف هذا النشاط .

ومن خلال العمل على تجنيد أكبر عدد ممكن استطاعوا الوصول إلى صف الضباط الفنيين العاملين بالقوات المسلحة من سلاح الأسلحة والمهمات .

وقد كانت الصلة وثيقة بين هؤلاء العمال الفنيين من العسكريين .

وكان هؤلاء الفنيون من صف الضباط يذهبون إلى المركز العام لحضور درس الثلاثاء ومن أشهر هؤلاء الحاج عباس السيسي .

وكانوا يظهرون بين الناس بملابسهم الرسمية , وقد قال البعض إن المشهد كان مليئا بالعسكريين في يوم من أيام الثلاثاء هذه .

وأزعج هذا الإمام الشهيد حسن البنا , وكان رجلا بعيد النظر كثير الحرص بالغ الحذر وهو الأمر الذي جعله يفكر في عزل هؤلاء العسكريين والتنبيه عليهم بعدم الظهور بهذا الشكل السافر , في بلاد يحكمها الإنجليز, ويعرفون أخبار الناس ونشاطهم من خلال القلم المخصوص أو البوليس السياسي فالمباحث العامة , فمباحث أمن الدولة فيما بعد .

ومنذ هذا الوقت بدأ التفكير بشكل جدي في نشر الدعوة بين صفوف الجيش وتطلع الإمام الشهيد إلى ضم ضباط إلى النظام الخاص .

وعهد إلى الصاغ محمود لبيب وكيل الجماعة آنذاك بالعمل على تحقيق هذا , وقد نجح نجاحا كبيرا في هذا المجال , ولعله هو الأب الحقيقي لثورة 23 يوليو 1952 .

وقد أدي إلى تدعيم هذا الاتجاه وتقويته ظهور الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف في المركز العام للإخوان واستماعه إلى درس الثلاثاء , واجتماعه والمرشد العام , وكان عبد المنعم عبد الرؤوف ضابطا وطنيا متدينا متحمسا, به بعض الاندفاع , وله خصائص مميزة بوجه عام , ومن الذين يجيدون الترتيب والتجنيد والتنظيم وكان أحد العوامل الهامة التي دفعت عجلة الإخوان بسرعة داخل صفوف الجيش , وكان عزيز المصري يعاون محمود لبيب في نشاطه .

وكان عبد المنعم عبد الرؤوف ضابطا له شعبية داخل صفوف الجيش صنعتها محاولته – مع آخرين – تهريب الفريق عزيز المصري إلى صفوف الألمان عندما كانوا على مقربة من الحدود المصرية وسقوط الطائرة عند قليوب في قصة غامضة في تفصيلها حتى الآن ,وتدور حولها الكثير من علامات الاستفهام .

بدأ الإخوان يكونون خلايا سرية بين صفوف الضباط في الجيش .

وكان الجيش مهيأ تماما لمثل هذا النشاط !

فعندما ألغي أتاتورك الخلافة العثمانية عام 1925 تبدد كل أمل للمسلمين في الكرامة وتحقيق الهوية .

ثم تكرست دول سايكس – بيكو على أنقاض خلافة الإسلام .

وجد الإنجليزوالفرنسيون في تزكية الشعور القومي والوطني بين المسلمين , وهو الأمر الذي لم يكن له وجود من قبل بقدر ما هو موجود الآن بين أهل إقليمين في دولة واحدة .

وبدأ تلامذة المستعمرين في العالم الإسلامي في تحريك أكبر حملة للتغريب وطمس الهوية الإسلامية للأمة بين الناس .

وقامت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 , وكأنها جاءت على قدر مع إلغاء الخلافة , وكأنها رد الفعل الطبيعي ضد هدم المآذن ورفع الصليب وإبعاد القرآن .

ويمكننا القول إن أكثر المثقفين والذين كانوا لا يزالون على دينهم وتداعبهم أحلام المجد المنصرم كانوا يفكرون في استعادة ما كان عليه المسلمون .

ولم تكن آمال التحرر من المستعمر هي التي تداعب نفوسهم فقط , بل كان الأمر أبعد من هذا وأعمق فقد كان هؤلاء جميعا تداعبهم فكرة الإسلام في دولته الكبيرة القادرة التي كانت منذ قرون , ثم ضيعها عبث الحكام .

ولا شك في أن كثيرا من ضباط الجيش المصري المسلمين كانت تداعبهم هذه الخيالات , ويرون إمكانية تحقيق ذلك عبر القوة , ومن خلال تجربة لم يقدر لها ما يلزمها من نضج واكتمال .

وكان يدعم هذا الخيال في نفوسهم ظهور العسكريات المتغطرسة في العالم, وكانوا يرون " هتلر " وهو يطأ أوروبا بحذائه , وفي حياله تستطيع أشباح القياصرة الرومان , وكان العالم متقطع الأنفاس وهو يرقب " هتلر " أثناء حربه مع العالم أجمع بشعب كان مهزوما هزيمة قاسية منذ قليل .

وكان " هتلر " هو المثل الأعلى الحديث في نفوس الشباب كافة من أهل البلاد النائمة أو كأنه المثل الذي ضرب للمستضعفين في الأرض .

كل هذا جعل الكثير من الضباط يسارعون إلى الانضمام لتشكيل تنظيم الإخوان السري في الجيش , مع احتفاظ كل منهم برؤيته الخاصة حول كل شئ .

وكان هذا الانضمام يخضع لنظام دقيق محكم , فلم يسمح لكل المتعاطفين والذين امتلئوا حماسة أن يكونوا أعضاء عاملين , كما كان كل ضابط يخضع لتجارب عديدة وإلى كثير من الاختبارات والتهيئة حتى يظفر بهذه المكانة .

ويظل الباقون بعيدا حتى يأتي دورهم فهم يمثلون الرأي العام أو البيئة التي تسمح بالاختيار والنشاط .

وكان جمال عبد الناصر من المسارعين في الانضمام إلى هذا النظام .

واجتاز كل الاختبارات حتى جلس للبيعة ذات مساء .

والأمور تجري على قدر الله ومشيئته بعد التفكير والتقدير .

وقد باشر نشاطه كعضو عامل في النظام الخاص للإخوان عام 1944 .

وكان معه عدد من الذين قدر لهم أن يشتهروا بعد حين :

كمال الدين حسين - حسين الشافعي – حسن إبراهيم – خالد محيي الدين – حسين حمودة .

وكان يرأس هؤلاء الجدد الضابط صلاح خليفة , شقيق الدكتور كمال خليفة واشتكى عبد الناصر أن رئيسه في التنظيم أقل رتبة منه , وهو أمر لا يتفق مع تقاليد الجيش . وحكم الأقدمية الذي يحدد القيادة والرئاسة .

ووصلت هذه الشكوى إلى الإمام الشهيد حسن البنا أخبره بها عبد الرحمن السندي عن طريق أبي المكارم عبد الحي , وكان مسئولا عن تشكيل الإخوان في الجيش بجوار عبد المنعم عبد الرؤوف أو بالاشتراك معه .

وكان كل من عبد المنعم وأبي المكارم يتبعان الصاغ محمود لبيب في التسلسل القيادي لهذا التشكيل الجديد .

وكان تعليق الإمام الشهيد على شكوى عبد الناصر أن الرئاسة والمسئولية في صفوف الإخوان تعتمد على السابقة في الدعوة وحسن الإسلام .

وضرب مثلا بأخ من الإخوان اسمه محمد رسمي كان كاتبا عموميا أمام محكمة إمبابة ولم يأخذ حظا من التعليم , ولكنه كان نقي القلب مخلصا مطيعا وله سابقة في الدعوة , وكان يرأس أسرة من بين أفرادها الدكتور عبد العزيز كامل والدكتور حسن الباشا , وهما من أساتذة الجامعة و قد يكون في هذا الكلام شئ من النقد والاعتراض , ولكن لابد أن نأخذ في اعتبارنا ظروف تلك الفترة وطبيعة المجتمع آنذاك .

وقال الإمام الشهيد إن تنظيم الإخوان في الجيش يتبع جماعة الإخوان, وهو مقيد بنظامها وتقاليدها – يقصد عبد الناصر – وإن تنظيم الإخوان في الجيش ليس من مؤسسات الجيش .

وابتلع عبد الناصر اعتراضه وسكت على مضض .

وكانت سياسة محمود لبيب المسئول عن النظام تقضي بالتشاور والتفاهم مع أبي المكارم عبد الحي وعبد المنعم عبد الرؤوف وتستهدف التحام الجيش والشعب , ونقل الخبرات وتبادلها من خلال مجموعات منتقاة .

وكانت هناك خطط وأفكار ودراسات لتصرف كبير تفضي الأحداث إليه والكل يخطط له رويدا رويدا .

القيادة بين الجيش والشعب

تم الاتفاق على تكوين نشاط مزدوج بين العسكريين والمدنيين على مستوي قيادات النظام الخاص .

وقد تم الاتفاق على عشرة لبدء التجربة ولتنفيذ هذا الاندماج من خلال معسكر صيفي صغير بصحراء " الصف " على مقربة من بلدة " أطفيح " حيث يعيش الحاج حسنى عبد الباقي أحد هؤلاء العشرة , وهو أيضا من أعيان الناحية .

واتفق على أن يقوم العسكريون بتقديم كل ما عندهم من خبرات عسكرية أثناء انعقاد هذا المعسكر , وكانت هذه الخبرات قليلة جدا ولا تعدو عدة كتب في الاستراتيجية والتكتيك , بالإضافة إلى قوانين الضبط والربط العسكرية .

واتفق أن يقوم المدنيون بتقديم خبراتهم المتقدمة جدا في عالم المفرقعات وكيفية تركيب العبوات الناسفة .

وقد استفاد عبد الناصر من هذا الدرس واستخدمه شخصيا وبمعرفته أثناء أزمة مارس 1954 في القاهرة , وقد راح ضحيتها بعض المدنيين حسبما روي عبد اللطيف البغدادي في مذكراته .

وكان هؤلاء العشرة : سبعة من المدنيين هم :

1- عبد الرحمن السندي .
2- مصطفي مشهور .
3- حلمي عبد المجيد .
4- حسني عبد الباقي
5- محمود الصباغ .
6- السيد فايز عبد المطلب .
7- أحمد حجازي .

وثلاثة من العسكريين هم :

1- عبد المنعم عبد الرؤوف .
2- أبو المكارم عبد الحي .
3- جمال عبد الناصر حسين .

وأثناء انعقاد المعسكر كانوا عرضة للكشف مرتين !

وكانوا قد أقاموا معسكرهم في بقعة مهجورة من صحراء , لا يرتادها أحد , وقد ذهبوا إليها بليل حيث الظلام الذي يستر كل شئ .

ولم تكن الشرطة أيامها على تلك الدرجة من الهيمنة والبطش , على النحو الذي صار بعد ثورة 23 يوليو 1952 ,وكان من السهل إقامة مثل هذا المعسكر .

وفي ليلة من ليالي الصيف الحارة , وأثناء نوبة عبد الناصر في الحراسة قام بإيقاظ زملائه في قلق وعلى عجل .

واستيقظوا مسرعين وأخذوا وضع الاستعداد .

وكانت تبدو عند خط الأفق أنوار كاشفة لسيارات بعيدة تتجه صوبهم .

وتشاوروا مشاورة سريعة , وألح عبد الناصر في اقتناص هذه السيارات والقضاء على من فيها .

ووجود معسكر يضم مجموعة من العسكريين وأخري من المدنيين أمر لا يخطر ببال حكومة من الحكومات , هذا بالإضافة إلى أن الكشف عن مثل هذا يؤدي إلى خطر عظيم لا يخفي على أحد .

وكانت معهم المدافع الآلية وكمية الذخيرة اللازمة للدفاع والهجوم وكانوا يستطيعون السيطرة على هؤلاء المجهولين القادمين .

وعمرت المدافع الآلية ووضع كل واحد ما يلزمه من ذخيرة بجواره .

وكان آمر المعسكر هو المرحوم عبد الرحمن السندي .

وكانت تلك السيارات القادمة قد فقدت طريقها إلى أحد المحاجر ثم صارت تبتعد في هدوء ودون قصد عن النقطة التي كانوا يعسكرون عندها .

وكانت وجهة نظر عبد الناصر هي اصطياد هذه السيارات ومن فيها , رغم زوال الخطر من باب التدريب على حرب العصابات .

واستنكر الباقون منه هذا ووبخوه عليه .

وتكررت حادثة شبيهة بالأولي , ومرت بسلام لحسن الحظ , وتغلبوا عليها في هدوء وانفض المعسكر في موعده المقرر بعد أن حقق الغرض منه .

من تقاليد النظام الخاص

كان النظام الخاص للإخوان في تلك الفترة يمثل نواة نشطة لدولة فتية قادرة شديدة الحماس , حيث يقوم الأفراد بواجباتهم قربة إلى الله سبحانه وتعالي وتحقيقا للإسلام وتمهيدا لتغيير المجتمع في وقت يرجونه قريبا .

وكان هذا النظام يشمل خليطا متميزا من المجتمع المصري , وفيه سائر أصحاب الاختصاصات , وشتي أنواع المهن من شباب دون الثلاثين في أغلب الأحوال , وكانوا يختارونهم عن وعي وعلم وبتمحيص شديد , ويمر الذي وقع عليه الاختيار بشتى أنواع الاختبار .

وكان موغلا في الصرامة والسرية , ولا يجوز لمن وقع عله الاختيار ثم انضم إليه طائعا أن يتركه أو يستقيل , فليس هذا واردا بأى حال.

وليس من المتوقع أو المنتظر أن يخون واحد من أعضائه بأن يفشي أسرار النظام , ومن يفعل " يخل سبيله " هي عبارة غامضة لا يخطئ أحد دلالتها , ولم يحدث هذا حسبما نما إلى علمنا .

وربما يرجع ذلك لصعوبة الاختيار ودقة الاختبار , ثم حماسة أعضائه وإيمانهم الفائق بأهمية تحقيق الإسلام في المجتمع .

وكان هذا النظام يقوم بعملية هيمنة وسيطرة عل المجتمع المصري وهو أمر سهل في بلد قد تمزق بين المحتل الإنجليزي وعملائه من بين الحاكمين .

وكان الإنجليزحريصين كل الحرص على ألا يصل إلى كرسي الوزارة , أو أن يتولي رئاستها إلا من كان ضالعا في العمالة لهم بشكل أو بآخر .

وكانوا رغم سوئهم – عليهم رحمة الله – لم يسيئوا إلى مصر والمصريين بالقدر الذي فعله من جاء بعدهم من الوطنيين الشرفاء الذين خلقوا فينا العزة والكرامة كذابا وادعاء وما زلنا نعيش في ضلالهم وزيفهم ولكننا نبصر في ابتهاج شمسهم المائلة إلى المغيب في بحر لجئ لا يرحم هو بحر التاريخ .

اهتم هؤلاء الحاكمون الذين جاء بهم الإنجليزبكل شئ عدا الشرطة والأمن السياسي على العكس من الذين جاءوا من بعدهم وأولئك الذين اهتموا بالأمن السياسي وتركوا كل شئ عدا ذلك وأهملوه .

حتى استقلال البلد فرطوا فيه وأضاعوه .

ونترك الاستطراد فنقول إن الظروف هي التي مهدت للنظام الخاص التغلغل في كل الأنشطة , ويخطئ من يظن أنه كانوا – كما قلنا – هم النواة لدولة جديدة تتدرب على الإدارة والحكم , وهي أيضا تتناول كل المشكلات بالعلاج ووضع الحلول .

وقد عملوا في هذا المجال دون سابقة من خبرة أو تجربة وكانت لهم رؤية بها قدر كبير من الشمول والخيال .

وكانت تلك الحقبة من الزمن التي نشأ فيها النظام تتسم بالإثارة والرغبة الجامحة في التغيير والتبديل وقد ظهر هذا في اتجاهات شتى :

أقام النظام الخاص الشركات المختلفة في عالم التجارة والصناعة وكأنهم كانوا يضعون النواة الأولي للاستقلال الاقتصادي.

وكانوا قد وضعوا الأساس للصناعة الوطنية .

ولعل فكرتهم في إقامة مصنع للذخيرة والأسلحة لم تكن مبالغا فيها , إذا أخذنا بعين الاعتبار الهمة العالية التي كان يتميز بها أولئك الناس .

ولم يكونوا بأى حال مسرفين في الخيال بالقدر الذي لم يكن يتناسب مع الزمان والمكان .

واستطاعوا باقتدار أن يقيموا فروعا وإدارات مختلفة تشكل كل نواحي الناشط كما قلنا .

كانت هناك مجموعة تهتم بالسياسة والأخبار والحركة التي تشمل العالم وتقوم بإعداد الدراسات والتقارير حول هذا .

وهناك جماعة تقوم على رصد نشاط السفارات والشخصيات العامة وعمل تقارير مفصلة عن كل هذا .

وجاء الوقت الذي صار فيه جميع الذين يتحركون في السر أو في الخفاء من ساسة وكتاب وضباط كبار تحت عدسة النظام المكبرة فهم يعلمون عنهم كل شئ في وقت غابت فيه المعلومات وعزت , والناس ينشطون ويتحركون ولا يعلم أحد ما يدور .

استطاع رجال النظام الخاص أن يكونوا تصورا واضحا عن حركة كبار رجال وزارة الداخلية , فهم يعرفون إلى أين يذهبون للسهر مع عشيقاتهم وكيف يرسلون بتقاريرهم إلى الإنجليزفي سفارتهم , ودور العشيقات في نقل الأخبار بين الداخلية والإنجليزواليهود .

وقد كشفت كل هذه الأسرار في قضية السيارة الجيب عندما ضبطت , وكان ضبطها خطأ كبيرا وقع فيه بعض القائمين على النظام .

حصلت الحكومة على عدد ضخم من التقارير حول كل ما يدور في مصر المحروسة ولهذا كان البطش عظيما بهم, وهو بطش يهون إذا قيس بما حدث بعد ذلك !

وكانوا يهتمون اهتماما خاصا بالشرطة ورجالها وصلة اللواءات بكل جميلة ومشتهرة بين الممثلات , وعلى الأخص من كانت يهودية منهن .

ونذكر هنا تلك الصلة الشهيرة بين عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية والممثلة كاميليا التي ماتت في حادث احتراق طائرة .

وكان لهذه الممثلة صلات حميمة بالقصر والإنجليزواليهود , وربما جهات أخري لا نعرفها .

وقد استطاع النظام الخاص ولأول مرة أن يكشف ما يدور خلف الستار في غيبة وغفلة من المصريين .

وكما قلنا كان لكل مسئول ملفه الخاص به .

كل تحركاته وهواياته وصفاته وعاداته وكل ما يهتم به , وصلاته المختلفة بهذا وذاك ومن طريف ما يروي أن الشيخ عبد المنعم النمر تعجب لإلقاء القبض عليه في ذلك الوقت في أواخر الأربعينيات وإيداعه سجن الأجانب , وكان الرجل وطنيا يتعاطى الإرهاب ضد الإنجليزوأعوانهم كسائر الأحرار من رجال لأزهر في ذلك العهد .

وكان الشيخ النمر يتلطف في نشاطه هذا , يفعل ما يشاء ولا يشعر به أحد ثم جاء المرحوم أسعد السيد مسئول المخابرات في النظام الخاص وأعد التقارير الخاصة به بعد وقت غير قليل من رقابته وتتبع خطاه وأودع التقرير أرشيف النظام , ثم عثر عليه ضمن ما عثر عند ضبط السيارة الجيب واعتقل الشيخ النمر وكان يتعجب .

لماذا كتب أسعد هذه التقارير عنه ؟

وفي سجن الأجانب التقي معه وسأله :

- لحساب من كل هذه التقارير ؟

- لحساب الإخوان يا مولانا .

وفي دهشة سأل الشيخ النمر :

- وما الفائدة منها ؟

وسكت أسعد قليلا ثم قال :

- للتاريخ .

- وفي انفعال قال الشيخ النمر :

- وأنت تظن نفسك الجبرتي ؟

الإنجليزوالقصر في مواجهة الإخوان

انتبه الإنجليزوالقصر لخطورة نشاط الإخوان المسلمين ولم يكونوا يعرفون حجمه بعد ولا إلى أين يسير ,وكان ذلك قبل حرب فلسطين , ولكنهم عرفوا أنهم يعزفون معزوفة جديدة تختلف عن كل ما عزف تحت عنوان الجهاد الوطني آنذاك , كلام جديد وروح جديدة سوف تضر بالتأكيد .

وعرفوا أن الإخوان قد أخذوا طريقا لو ساروا فيه أكثر من ذلك فنهايته وخيمة العاقبة أو ينبغي أن تكون فهم يحلمون بمجتمع إسلامي دستوره القرآن وطريقهم في هذا هو الجهاد في سبيل الله , حيث الرسول زعيمهم والموت في سبيل الله أسمي أمانيهم .

ومن فقد فتحوا عيونهم جيدا لحربهم .

وربما لم ينتبه الإخوان لهذا مع الأسف أو انتبهوا ولم يكن في وسعهم شئ ومضي النظام الخاص في تحقيق غاياته عبر الوسائل التي ارتضاها .

مقتل سليم زكي وآخرين

قتل سليم زكي باشا حكمدار القاهرة مصادفة في حادثة شارك هو شخصيا في صنعها .

فقد اقتحم الباشا كلية الطب لفض المظاهرات والاعتصام , وكان يجلس على مقدمة سيارة مصفحة وفي يده مدفع آلي في شكل مستفز يثير الغضب , وكان الطلبة ينظرون إليه على أنه صنيعة الإنجليزوعصاهم التي يضربون بها ومن الدور الثالث أو الرابع ألقي أحد الطلبة الشبان قنبلة من النوع الذي لا يقتل , ولكنها أصابته في موضع قاتل .

ولم يكن طالب كلية الطب هذا – الذي صار فيما بعد طبيبا كبيرا – يقصد قتله أو حتى إصابته , ولكن هكذا شاءت إرادة الله .

ثم قتل الخازندار والنقراشي , وبدأت أحداث المسلسل تتصاعد في عنف لا يستطيع أحد وقفه.

وكانت المواجهة صريحة مع الإخوان من الحكومة التي يساندها القصر والإنجليزومن لا نعلم .

ولعل من أخطاء النظام الاستجابة لتحرشات الحكومة , وكان عليه أن يتجاهل هذا كله ليحقق أغراضه ولكن تلاحق الأحداث , وتنوعها ربما لم يدعا لهم هذه الفرصة , هذا إذا أخذنا في الاعتبار إعلان الدولة اليهودية في فلسطين المحتلة ودور النظام في حرب العصابات ضد اليهود .

فالحوادث تتلاحق ويأخذ بعضها بخطام بعض , وإن تجاهلنا هذه لا يمكن لنا أن نتجاهل تلك فقد أجبر الإخوان على البروز بقوتهم ولا أدري هل كان يمكنهم تحاشي هذا الموقف أم لا ؟

ففجأة وعلى غير انتظار فوجئ العالم أجمع أن هذه الجماعة بمعرفة الشيخ حسن البنا قد استطاعت أن ترسل فريقا كبيرا من المتطوعين المدربين من الشباب للقيام بحرب العصابات ضد اليهود

وتعجب الجميع عندما رأوا المسلحين يخرجون من الشعب للحرب .

وكانت غاية ظنهم أنها جماعة لا تختلف كثيرا عن سائر الجماعات الإسلامية التي تملأ مصر اللهم إلا في درجة الحماسة, ولكن أن يكونوا مسلحين ومدربين فذلك أمر جديد يثير الترقب والانتباه والحذر.

الفصل بين المدنيين والعسكريين في النظام الخاص

كانت حرب فلسطين عام 1948 هي العلامة الزمنية للفصل الحقيقي بين العسكريين من الإخوان والمدنيين منهم من أصحاب النظام الخاص .

وكان جمال عبد الناصر قد ذهب مع آخرين إلى بيت في حي الصليبية حيث قام بالبيعة على السمع والطاعة كما قلنا من قبل .

وصار عضوا عاملا في التشكيل العسكري للإخوان .

وحدثت الظروف التي شرحناها آنفا مثل حرب فلسطين والعثور على السيارة الجيب و بها كل المستندات المطلوبة لفهم نشاط النظام الخاص .

ومنذ ذلك التاريخ اتفق على فصل نشاط العسكريين عن المدنيين لحمايتهم من البوليس السياسي الذي نشط وصار يتتبع آثار أعضاء التنظيم في كل مكان , ولعل هذا التوقيت هو الذي حدد فيه جمال عبد الناصر إمكان الانفصال عن تشكيل الإخوان مع الحفاظ على دعمهم وتأييدهم والاستفادة من شعبيتهم الجارفة.

ولكنه أخر إعلان ذلك رسميا حتى ثلاثة أيام مضت على نجاح الانقلاب .. وصارت محاورات ومناقشات كلها تضع " بروتوكول " الانفصال الشكلي مع بقاء الصلة العضوية .

واتفق على أن يكون مجال عبد الناصر ومن معه هو ضم ضباط جدد إلى التنظيم من كل المسالك والاتجاهات , وكان الذي يجدون فيه تدينا وصلاحا يرسلونه إلى الإخوان ويبقي معه أصحاب النزعة الوطنية الذين لا يتقيدون بقواعد الدين ولا يريدون .

وكان هذا لسلامة الضباط وعدم تجريم الإخوان في اتصالهم بالجيش أو هكذا استطاع أن يقنعهم بذلك .

وكانت هذه النقطة هي بداية انطلاق عبد الناصر في التحرر من التبعية للتنظيم الإخواني مع الاحتفاظ بتأييده ودعمه لكل خططه .

وهو في قراره نفسه لم يكن يدين لهذا التنظيم أصلا , بل كان يعتبره وسيلة لغاية ما وقد أثبتت الحوادث صدق ذلك فيما بعد , وما جاء مستقبلا من أحداث ومع الأيام تكرس الانفصال بين النظام الخاص وتنظيم الضباط الأحرار الذي سماه بهذا الصاغ محمود لبيب بعد أن كانت الصلة بينهما عضوية .

ولم ينتبه الإخوان لهذا " التاكتيك " الذي استخدمه عبد الناصر , فقد كانوا يعتبرونه عضوا منهم قد بايع ,أقسم على السمع والطاعة ولم يكن هناك ما يريب في الأمر .

كان الصاغ محمود لبيب هو الذي يعرف شخصيا كل من هو عضو في تنظيم الإخوان من ضباط الجيش وثم سلم هذه القائمة لجمال عبد الناصر عندما اشتد به المرض .

وسلمه أيضا الأموال الخاصة بهذا التنظيم وكان مصدرها اشتراكات الضباط وقد حضر هذه الواقعة الصاغ حسين حمودة آنذاك .

كانت حرب فلسطين عام 1948 هي العلاقة الزمنية التي أظهرت قوة الإخوان وخطرهم على المصالح الغربية في مصر وبلاد العرب .

وكانت حرب فلسطين أيضا هي النقطة التي فتحت الآفاق أمام جمال عبد النار وطورت أحلامه إلى إمكان السيطرة على مصر من خلال انقلاب علماني وطني في زعمه تكون جماعة الإخوان فيه أداة مفيدة وذات دور فعال .

ومن الصعب الحكم على نوايا عبد الناصر في تلك الآونة , ولكن من السهل تفهم هذا من النتائج التي صارت بعد ذلك عند تتبع الحوادث وما أدت إليه وكانت قضية السيارة الجيب هي العلامة البارزة لنهاية النظام الملكي , فقد حوكم النظام أثناء نظر القضية وعند محاكمة المتهمين .

وكانت حرية الصحافة في تلك الأثناء حقيقة واقعة , وليس كما يحدث في هذه الأيام فكل ما يدور في المحكمة تنتاوله الصحف وتكتب عنه ويهتم به الرأي العام وتهيأ جميع المصريين إلى أن هذا النظام لن يكتب له الاستمرار بعد نظر قضية السيارة الجيب فقد نشرت المخازي والمساوئ وعرف فساد الحكم والقائمين عليه , وبدأت القوي الوطنية تنادي بأهمية التخلص من الملكية وما يتبعها .

بدأ الأمريكان والإنجليزيدركون أهمية تغيير هذا النظام خوفا من ثورة اشتراكية شيوعية حيث كانت تلك هي المخاوف العالمية آنذاك .

وكان لدي عبد الناصر من الانتباه ما يجعله يدرك ويفهم هذه الأمور !

ولم يكن الأمريكان بعيدين عن التيارات الوطنية ولكنهم كانوا يرصدون الشارع ويرقبون الأحداث ويتهيئون ويهيئون لعالم جديد في مصر .

وكانت بريطانيا العظمي قد خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة ولكن بعد أن فقدت لقبها الذي تميزت به أكثر من قرن .

ولم تعد بريطانيا العظمي بل صارت بريطانيا فقط !

والارتباط بين أمريكا وبريطانيا ارتباط عضوي يحقق مصالح واحدة , وأمريكا فتية ذات مال كثير ونفوذ , وهي في أول عهدها بالانفتاح على العالم وتستطيع أن تحل محل بريطانيا في منطقة الشرق الأوسط.

والأمريكان وفقا للمنهج الغربي الذي طوروه عن المسلمين عبر اتصالات استمرت قرونا أثناء الحروب الصليبية والدراسة في جامعات الأندلس ,وكانوا أصحاب علم ودراسة ,وهم خلاصة التقدميين الذين هاجروا إلى العالم الجديد بعد اكتشافه .

فهم يرصدون الظواهر ويجمعون المعلومات في دقة ودأب ومن تكن هذه هي طريقته فهو يستطيع أن يتفهم حركة التاريخ , ومن البديهي أن تكون له ملكة التوقع والتنبؤ وإن كان ذا قدرة فيمكنه التدخل في سير الأحداث , ويقدر على تحريكها وتوجيهها .

وكان كل شئ مرصودا في مصر أثناء السنوات العشر التي سبقت قيام ثورة يوليو 1952 .

وكان الأمريكان يعلمون طبيعة سير الأحداث ونشاط الضباط في الجيش وصلة ذلك بالإخوان المسلمين .

وكان الأمريكان أيضا يعرفون طبيعة التنظيمات الشيوعية وحجمها وقدرتها بل كانوا يشكلون بعض هذه التنظيمات وينفقون عليها للهيمنة والفهم واستقطاب وتحديد كل أصحاب النزعات الإشتراكية والتحكم في بورصة التنظيمات السرية .

وكان هناك تنسيق بين المخابرات الأمريكية والمخابرات الإنجليزية في التعامل مع الحالة المصرية لحلول الأولي محل الأخيرة في النفوذ والسيطرة .

ومن ثم فهناك اتفاق وتصور لما ينبغي أن يكون .

ويتم هذا من خلال العقل الإنجليزي الذي يفرض تصوره على القدرة الأمريكية في عالم ضعيف قد فقد حضارته ويستعد لاستقبال سيد جديد هو " العم سام " وكان على السيد الإنجليزي القديم أن يرحل عن ضفاف النيل وهو في غاية الحزن والأسف فقد أجبرته الظروف على ذلك وكان أمرا مفهوما ومقررا بعد أن قد اسمه وشرفه وسمعته في البلاد عبر حملة إعلامية استمرت أكثر من سبعين سنة هي عمر الاحتلال الإنجليزي .

وكان هذا السيد الإنجليزي قد فقد قدرته على الإنفاق بعد أن خرج من الحرب منتصرا ولكن بعد أن استهلك أثناءها الكثير من أرصدته وقدرته وذهب جيل الساسة والإداريين العظام .

أما السيد الأمريكي الجديد فلا يزال فتيا قادرا على الإنفاق في بلاد لابد أن يتحكم فيها الغرب بغض النظر عن الشكليات وأهميتها في نوع السيطرة والهيمنة .

وكان الضباط الوطنيون قد اشتركوا في معسكرات للتدريب في فلسطين المحتلة قبل قيام دولة إسرائيل .

وكانت هذه المعسكرات تحت إشراف الإنجليز, ولم تكن بعيدة عن أعين الأمريكان حيث الدراسة والفحص والبحث وتحديد الهوية لشباب من الضباط يتسم بقلة الثقافة وضيق الأفق وعدم إدراك ما يدور في العالم مع الأمية السياسية والبعد الكامل عما يسمي بلعبة الأمم في عالم المتغيرات .

وقد قدر لهؤلاء الضباط أن يحكموا مصر بعد ذلك أكثر من ثلاثين عاما فكان منهم المحافظ والوزير ورئيس البنك والمسئول عن المؤسسات المختلفة .

أما السيد الأمريكي الجديد فلا يزال فتيا قادرا على الإنفاق في بلاد لابد أن يتحكم فيها الغرب بغض النظر عن الشكليات وأهميتها في نوع السيطرة والهيمنة .

وكان الضباط الوطنيون قد اشتركوا في معسكرات للتدريب في فلسطين المحتلة قبل قيام دولة إسرائيل .

وكانت هذه المعسكرات تحت إشراف الإنجليز, ولم تكن بعيدة عن أعين الأمريكان حيث الدراسة والفحص والبحث وتحديد الهوية لشباب من الضباط يتسم بقلة الثقافة وضيق الأفق , وعدم إدراك ما يدور في العالم , ومع الأمية السياسية والبعد الكامل عما يسمي بلعبة الأمم في عالم المتغيرات .

وقد قدر لهؤلاء الضباط أن يحكموا مصر بعد ذلك أكثر من ثلاثين عاما . فكان منهم المحافظ والوزير ورئيس البنك والمسئول عن المؤسسات المختلفة .

وكان منهم من أقام جهاز المخابرات المصري بعد الثورة .!

وكان الإخوان على وعي بما يدور على شكل ما .

ولكن كانت هناك هوة كبيرة بين الوعي والقدرة على إبطال المخططات .

رياح الثورة تهب

جاء عام 1950 ومعه المشكلات والزوابع في بلد قد تحدد مصيره من وجهة نظر الكبار الذين يتحكمون فيه .

وكان قد تكرس الانفصال الشكلي بين الضباط الأحرار والإخوان وجاءت انتخابات نادي الضباط .

ووقف الضباط الأحرار في تماسك شديد خلف اللواء محمد نجيب مرشح الجيش ضد اللواء حسين سري عامر مرشح القصر .

وكان أمام الضباط الأحرار مرشحون ثلاثة :

الفريق فؤاد صادق .

السيد طه بطل الفالوجا في حرب فلسطين .

هكذا سموه .

اللواء محمد نجيب .

وتم اختيار اللواء محمد نجيب عقب لقاء بين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب في بيته بحلمية الزيتون .

وقصة إصرار الضباط الأحرار على اختيار محمد نجيب رئيسا للنادي رغم إرادة الملك قصة مشتهرة ومعروفة وتناولها الكثيرون من الكتاب شرحا ورواية , ودارت تفاصيلها أمام أعين المخابرات الأمريكية اليقظة.

ولم يفهم الملك فاروق يومها أن مصيره قد تحدد , شأنه في هذا شأن أى حاكم في البلاد المتخلفة , حيث يعتمد في رؤيته على تقارير للأمن أغلبها مختلق وتعوزه الدقة هذا بالإضافة إلى تغلغل النفوذ المخابراتي الأجنبي في صفوف الأمن .

ويظل الحاكم في البلاد المتخلفة دائما بعيدا عن القارعة حتى تحطم رأسه ! وهم يعيدون نفس الخطأ في تكرار ممل بطئ ينتهي دائما بنهاية محتومة, حيث يعرف الجميع أن شمسه مائلة للمغيب , أما هو فيعيش مع أوهام التقارير التي يكتبها له رجال الأمن , وهم في العادة بين أمرين إما أنهم على وعي بما يكتبون فهم مسيرون أو على جهل وتخبط وعجز والأولي هي ما أعتقد وأظن والله أعلم , وكانت جماعة الإخوان تضمد جراحها في تلك الفترة بعد نكبة 1948 .

ولعلهم كانوا يعتمدون منهجا آخر وخطة جديدة بعد اغتيال الإمام الشهيد وتمثل هذا في اختيار المرحوم حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان .

بين عبد الناصر ومحمد نجيب

ومن طريف ما يروي أن عبد الناصر عندما زار محمد نجيب في منزله بحلمية الزيتون , وبعد عودتهم من حرب فلسطين ذكر له بالتفصيل كل ما يفعله الضباط الأحرار وطبيعة النشاط , والمنشورات التي يكتبونها ويعدونها ويرسلونها إلى جميع الضباط وكل المكاتب .

وسأله سؤالا مباشرا :

هل يقبل قيادتهم أم لا ؟

وذكر له أنهم سوف يمضون في هذا الشوط بعيدا , وأنهم ينوون عمل أشياء أكثر تقدما وخطورة وأن أوانها قد جاء , ولم يكن نجيب ساذجا .

ورحب الرجل صاحب التاريخ الطويل في التنظيمات السرية .

فقد اشترك محمد نجيب في جمعيات سرية مختلفة منذ عام 1920 .

وكما قلنا كان الناس جميعا مشغولين بالتغيير , وتداعبهم أحلام التحرر والاستقلال , وكانوا يعملون على هذا بكل التوجهات السرية والعلنية .

وكل الفاهمين يريدون تحقيق الهوية الإسلامية للأمة بعد سقوط الخلافة العثمانية وأفول شمسها للمغيب .

وقال عبد الناصر لمحمد نجيب :

- المجموعة التي أنتمي إليها من الضباط تشترط أن يكون شخصك بعيدا عن كل أنواع النشاط التي نقوم بها .

وفكر محمد نجيب قليلا وسأل :

- لماذا ؟

وفي براعة قال عبد الناصر

- أنت رتبة كبيرة ولا نحب أن نعرضك للكشف .

وسكت محمد نجيب متأملا موافقا , بينما أردف جمال عبد الناصر حازما :

- سوف أكون أنا صلتك بالتنظيم فما رأيك ؟

وكان من الطبيعي أن يوافق محمد نجيب , فلم يكن من المنطقي أن يشاركهم في طبع المنشورات , أو أن يقوم بتوزيعها مع صغار الضباط .

وكان من الحكمة أن تدخر هذه الشخصية ليوم مثل 23 يوليو عام 1952 .

وهنا تبرز طبيعة جمال عبد الناصر الذي عاد إلى مجموعته , ولم يكن هو رئيسها بل كان فردا منها , وهم ينتخبون مسئولا عنهم كل فترة على طريقة الإخوان وقال عبد الناصر لمجموعته :

قد اشترط محمد نجيب شرطا أساسيا للموافقة على رئاسة التنظيم .

وحدق الضباط في وجه عبد الناصر الذي قال :

- لا يتم أى اتصال به إلا من خلالي هذا حتى نحقق أمنه الشخصي ونحافظ عليه ,

فلا يصل علم الأمن إليه .

وأمّن الحاضرون على هذا الشرط .! وهكذا صار عبد الناصر نائبا للأمام الغائب ومن ثم فقد استطاع أن يتحرك بعيدا وباقتدار , وأن يمسك بخيوط كل واضعا هدفا أمامه .. أن يكون يوما على رأس التنظيم .

وقد ساعده على هذا سرعه حركته ودأبه ومثابرته .

بدأ العد التنازلي لتغيير النظام في مصر

اجتاز الضباط أزمة انتخابات ناديهم بنجاح .

كان يسند محمد نجيب تنظيم الضباط الأحرار والقواعد الإخوانية العريضة في صفوف الجيش من صغار الضباط .

وكانت الأزمة في صفوف الإخوان بعد الحملة الإعلامية العاتية ضد ما أسموه بالإرهاب , وما أطلقوا عليه ممارسات التنظيم الخاص , واكتشاف الوثائق التي تؤكد قيام النظام بالتجسس على الأحزاب والبوليس .

وقتل الخازندار واغتيال النقراشي ,ومحاولة اغتيال حامد جودة وكانوا يرتبون لإبراهيم عبد الهادي والتبس الأمر عليهم فنجا .

وكان سيل المقالات في الصحف والمجلات .

وانفض كثير من الإخوان خوفا من الحكومة !

واستجاب الكثير للدعاية المضادة , وأعلنوا براءتهم من الإرهاب .

واغتيل الإمام الشهيد حسن البنا في مشهد درامي مؤثر , حيث قامت الحكومة بتنفيذه كما تفعل أية عصابة من العصابات , دون اعتبار لقدسية الحكومة – أية حكومة – ومكانتها ودورها في المجتمع .

وبدأت القوي الوطنية في مصر كافة تستعد للتغيير وتتهيأ له ,وتحاول أن يكون لها دور في صناعته حتى تأخذ جانبا من الغنيمة , أو يشارك في الحكم على نحو ما .

وكانت الحكومة هي الجهة الوحيدة التي لا تشعر برياح التغيير التي تهب , رغم قدرتها المفترضة على الحصول على كل ما تريد من معلومات على الأقل في هذه الناحية .

وكان الأمريكان قد استقر عزمهم على إجراء التغيير بعد أن فقدوا الأمل في فاروق , وإمكان استغلاله في إحداث انقلاب ضد نفسه .

وأخطروا الإنجليزبنيتهم هذه !

وبدأ العد التنازلي لتغيير النظام في مصر!

وصارت كل القوي تبذل غاية جهدها في تحقيق ذلك والحكومة غافلة نائمة .

مقتل حسن البنا كان عاملا من عوامل انفراد عبد الناصر بالتنظيم

لا شك أنه بعد ضرب الإخوان في عام 1948 واستدعاء جمال عبد الناصر لمقابلة إبراهيم عبد الهادي لشكه في وجود صلة بينه وبين الإخوان تجمد النشاط السياسي إلى حين , وصارت كل الاتصالات مشوبة بالحذر الشديد والتوجس , وبلغت حد التوقف في فترة من الفترات .

كانت صلة جمال عبد الناصر عبر تنظيم الإخوان بالجيش من المفروض أن تنتهي في التسلسل الهرمي بشكل أو بآخر إلى عبد المنعم عبد الرؤوف ثم عبد الرحمن السندي رئيس النظام الخاص على الرغم من انفصال النشاطين العسكري والمدني .

وكان عبد الناصر قد استطاع أخيرا أن يستحوذ على التنظيم من الناحية الميكانيكية على الرغم من انتماءات معظم أفراده إلى جماعة الإخوان , ولكنه كان يدرك أن التنظيم يتبعه في النهاية وتكون النتائج حسب القدرة على " التاكتيك " وإمكان التحرك وسرعته .

ورغم أن تنظيم الضباط الأحرار هو إخواني الهدف والتشكيل إلا أن عبد الناصر بدأ ينفصل رويدا رويدا عن الجماعة من خلال تجاهله للقنوات الشرعية التي كان يتصل بها من خلاله , وفي عام 1950 التقي صلاح سالم موفدا من قبل جمال عبد الناصر والصاغ صلاح شادي , التقيا في تفصيل طويل رواه الأستاذ صلاح شادي في كتاب حصاد العمر .

وكأن صلة جديدة بين تنظيم الضباط الأحرار والإخوان نشأت عبر قناة جديدة وكأنه مشروع جديد تماما لا صلة له بجذوره القديمة , ولعلها الخدعة الكبرى التي قام بها عبد الناصر , ولعلها قد انطلت تماما على أستاذنا الأستاذ صلاح شادي وحسن النية من جانبه وراد بالتأكيد , وكذلك انطلت على كل مجموعة الاتصال الجديدة .

كانت الفترة بين عام 1948 وعام 1952 من أشد الفترات في تاريخ مصر صخبا وقلقا وتنظيما وترتيبا أيضا وكانت هي المدخل والبيان لثورة يوليو .

فعندما اغتيل الخازندار وقتل النقراشي وكانت محاولة نسف مبني المحكمة وخروج النظام الخاص سافرا عن وجهه أخذ المثلث يضع اللمسات الأخيرة لمحاولة القضاء على الإخوان , وإنه مثلث يقع بين نقاط ثلاث : القصر والحكومة والإنجليزوتم اعتقال جماعة الإخوان , أو من وصلت أسماؤهم إلى علم البوليس السياسي .

وتدخل بعض السياسيين في الوساطة بين حسن البنا والنظام وكانت شروط الصلح قاسية جدا.

وعرضوا عليه أن يقوم بتسليم كل قطعة سلاح في حوزة الجماعة أو يدل عليها وطلبوا منه قائمة بأسماء أعضاء النظام الخاص في الجيش والشعب .

وألمح المفاوضون , وكانوا مجموعة من الساسة مثل صالح حرب باشا ومصطفي مرعي وغيرهم إلى أنه نظير هذا سيسمح للإخوان بالنشاط .

وأضاف مصطفي مرعي على استحياء أن الحكومة على استعداد لدفع منحة شهرية لحسن البنا .

وكان غاية ما يفكر الرجل فيه المعتقلون من الجماعة وكيفية إنقاذهم من المعتقل .

وكان وحيدا حائرا إلا من بعض الأصدقاء الذين يزورهم بين الحين والآخر على تخوف من إحراجهم لرقابة البوليس الصارمة له .

وكان هناك من يحرص على لقائه سرا في خفية عن أعين البوليس ,ذلكم هو المرحوم حسن الهضيبي المرشد الثاني .

وذهب إليه حسن البنا وقص عليه القصة , وأخبره أن ثمن الإفراج عن المعتقلين والصلح وعوده الجماعة هو ما ذكر .

وأكد له حسن الهضيبي أن هذا فخ يسوقونه إليه ونصح بعدم الاستجابة إلى هذا الطلب, ووقف مشاورات الصلح , فهي خدعة يجب ألا تنطلي عليه , وأنها مفاوضات شكلية الغرض منها كسب الوقت لعمل شئ ما , وكان هذا هو رأي حسن البنا أيضا .

وفي هذا اللقاء أكد المرشد الأول للمرشد الثاني أن وقف مفاوضات الصلح معناه القتل على قارعة الطريق , وأن هذا مصير لا ينبغي الهرب منه أو الخوف من حدوثه وأدرك حسن الهضيبي أن الأيام الباقية لحسن البنا قليلة .

وكان هذا آخر لقاء بينهما !

واستشهد الإمام الشهيد بعد ذلك بأيام على قارعة الطريق بيد الحكومة الآثمة وترك بمستشفي قصر العيني ينزف حتى الموت .

والذي لا شك فيه أن موقف الإمام الشهيد من الصراع السياسي والمسلح ضد السلطة والإنجليزكان موقفا تمليه حركة الأحداث السريعة المتلاحقة التي لم تسمح له بالتقاط الأنفاس أو الاختيار , وإحساسه باعتقال الإخوان .

ونعود إلى عبد الناصر عضو النظام الخاص الذي خرج من النافذة بحجة الحفاظ على تنظيم الضباط الأحرار الابن الشرعة لجماعة الإخوان , ثم دخلها من الباب الخلفي بعد أن أخفي هذا الوليد ونسبه إليه .

دخل الجماعة من الباب الخلفي على أثر ذلك اللقاء الذي تم بينه وبين صلاح شادي والذي مهد له صلاح سالممن قبل .

كان يريد التخلص من عبد المنعم عبد الرؤوف وأبي المكارم عبد الحي ومعروف الحضريوفؤاد جاسر وغيرهم وغيرهم من القيادات التي يمكن أن تجعل مكانه بعيدا عن الصدارة على مائدة الاجتماعات بوجودهم وتألقهم وإعجاب الضباط بهم .

وبدا التحضير للثورة من خلال تنظيم للضباط انقسم أعضاءه حول تحديد هوية هذا التنظيم بعضهم يظن أنه إخواني الشكل والمضمون والآخرون من السكارى والمخمورين المغامرين يرونه تنظيما وطنيا , وهو أداة جيدة للمغامرة والانقضاض على السلطة .

ولم يكن أحد يعرف أنه تنظيم جمال عبد الناصر فقط غير جمال عبد الناصر نفسه .

المرشد الجديد والنظام الخاص.

وبدأ المرشد العام الجديد حسن الهضيبي- عليه رحمة الله – يعيد ترتيب البيت, وكانت أول مشكلة تواجهه أو تعرض لحلا هي وضع النظام الخاص وصلته بقيادة الجماعة , وما هي صلاحيات هذا النظام وقائده ؟ وأين ينبغي أن يقف ؟

وإنصافا للحق فمن خلال ما قرأناه وسمعناه عن شخصية المرحوم عبد الرحمن السندي نري أنه كان مغامرا جريئا مقداما , وكان من الشخصيات النادرة في عالم التنظيمات السرية واختيار الكوادر وفق قواعد دقيقة مدروسة .

وقد ساعدته انتصاراته المتعددة في عمليات كثيرة وتخطيطه المحكم في تحقيق نفوذ بالغ العمق على مساعديه وأعوانه .

وقد أخبرني واحد من هؤلاء, من أعضاء النظام الخاص – وهو شخصية كبيرة الآن – أنه كان ينظر هو وغيره إلى عبد الرحمن السندي على أنه عملاق ما رد ليس له نظير أو شبيه .

سألته: وكيف كان يدور الحديث بينكما ؟

دهش الرجل كثيرا وأجاب :

- أى حديث يمكن أن يدور بيننا ؟ أنا رقم 146 ,لقد كنت أراه فقط في اجتماعات الثلاثاء التي يحضرها الإخوان كافة , ولم يدر بيني وبينه حديث قط كانت صلتي بالنظام الخاص لا تعدو المجموعة ورئيسها ولا شئ أبعد من هذا .

وقلت له :

- مثل الجيش ؟
- أى جيش ؟ لا يوجد أى وجه للمقارنة بين النظام الخاص وأى جيش في العالم .

النظام الخاص تحكمه الطاعة العمياء والإيمان المقدس بأن هذه الطاعة جزء من كمال الدين وتمامه .

هذا الرجل أستاذ في الجامعة وشخصية مرموقة ويشغل منصبا دوليا الآن .

وهذه الأمور التي ذكرت تجعل شخصية عبد الرحمن السندي متوثبة يصعب جماحها وهي بكل المعايير – وهذه وجهة نظري وقد أكون مخطئا – خطر عظيم على النظام العام لجماعة الإخوان , فهو يرأس نظاما قويا حديديا يتبعه مباشرة , وكان هو يتلقي تعليماته من المرشد الأول استشهد , ولعله كان يري نفسه في مكانه لا يساويه أحد فيها ولعله كان أبصر بكل ما يعترض طريق الإخوان من مشكلات .

وهو لا يدين بالطاعة لغير حسن البنا , ومات حسن البنا وجاء من بعده قاض قد تخطي الستين يختلف تماما عن البنا, وقد قابل كل من الهضيبي السندي الآخر ببرود شديد وعدم ارتياح من أول لقاء تم بينهما .

وهو أمر ليس غريبا ويتفق مع طبيعة الأشياء .

رجل عاش حياته على منصة القضاء .

وآخر عاش متخفيا عن أعين الشرطة والرقباء , ويعمل على إسقاط النظام , وعلى الثاني أن يكون مرءوسا للأول ! والأول يرفض ذلك ويري رأيا آخر , وهو ما زاد الأمر تعقيدا شديدا ,وأدي إلى الصدام الذي حدث بعد ذلك .

وعلى نفس النحو كان عبد الناصر ينظر لعبد الرحمن السندي .

وكان لا يري له مكانا بجانبه . لهذا كان حريصا أن تكون صلته من طريق آخر حيث لا يلتقي وهذا الوهج الذي يسلب الزعامة ويضيع الفرصة في التآمر وتحقيق الأهداف ,ولعل الاتصال بالإخوان عن طريق صلاح شادي ذلك الرجل الوديع المهذب الخجول الرقيق الحاشية يكون أولي وأجدي وأنفع لتحقيق الأهداف .

والظن أن عبد الناصر قد استطاع خداع الاثنين معا, واستخدمهما لتحقيق أهدافه علي نحو ما وفي أزمنة مختلفة , والأمور تجري بمقادير .

كان عبد الناصر حريصا كل الحرص على استخدام الإخوان , وعدم الانفصال عنهم إلى آخر مدي ممكن , فهو على يقين من أنهم القوة الشعبية الكبيرة المنظمة القادرة والمسلحة أيضا .

وكانالإخوان يرونه واحدا منهم وكان عبد الناصر حريصا على هذه الصلة ولو أمام جماهير الإخوان البعيدة عن الأحداث , فكان يضع قادة الجماعة في السجن ويذهب ليقرأ الفاتحة أمام قبر حسن البنا ومعه حشد من المصورين والصحفيين .

حسن الهضيبي يتعرف إلى مؤسسات الجماعة

لم تكن جماعة الإخوان المسلمين بعد أن نمت ذلك النمو الكبير في وحدة متجانسة متكاملة ولم يتح لقادتها عمل هذا الانسجام والتناسق بين كل الأقسام المختلفة والمتباينة أحيانا مثل النظام الخاص وقسم الوحدات .

وجاءت الكوارث التي انتهت باستشهاد حسن البنا فقضت تماما على أى أمل قريب في تحقيق هذه الوحدة والتجانس , هذا برغم الكثرة العددية الهائلة إذا ما قيست بأي حزب من الأحزاب .

منذ هذا الوقت كان لدي عبد الناصر معلومات يقينية عن الجماعة , وعلى الأخص جهازها الضارب :" النظام الخاص " .

وكما قلت كان حريصا على قطع العلاقة التنظيمية به , وصنع أو شق لنفسه قناة أخري عبر صلاح شادي وحسن عشماوي وعبد القادر حلمي ومنير دله , رحم الله الأحياء منهم والأموات , وانعدام الوحدة والتجانس في صفوف الإخوان جعل شخصية مثل حسن الهضيبي وهو على رأس الجماعة لا يعرف بتفصيل ما يدور بين جماعة الاتصال هذه وتنظيم الضباط الأحرار ولا يعرف موعد الانقلاب إلا قبل وقوعه بأيام حيث طلبت منه الموافقة وضغط عليه في قبولها بحجة ضيق الوقت رغم تردده الشديد لنقص المعلومات لديه وارتيابه في إمكان النجاح .

واضطر جمال أن يؤخر موعد الثورة يوما حتى تأتيه موافقة المرشد التي تعني وقوف الشعب المصري بأكمله خلف حركة الجيش .

وفي هذا الوقت كانت الأجنحة المتصارعة لا تعرف على وجه اليقين حقيقة ما يدور لم تكن مجموعة الاتصال لديها الخبرة الواسعة بإقامة الدول وتغيير المجتمعات وكيفية التنسيق مع قوة مثل قوة الضباط .

وكانت تضع اليقين محل الشك وتفكر في الأمور بقلبها وليس بعقلها .

ولم تكن تعرف طبيعة الشخص الذي تتعامل معه ... جمال عبد الناصر .

تصرفت معه على أنه واحد من أعضاء الجماعة, لا قيمة لسلطان الدنيا كلها أمام كلمة المرشد وقانون السمع والطاعة , فاكتفي صلاح شادي الوديع الرقيق بقراءة فاتحة معه على الباب وهو يودعه عشية الثورة !

وكم قرأنا الفاتحة مع أوغاد لم يجعلوا لها أدني اعتبار !

وتحركت آلة الإخوان الضخمة لمناصرة الانقلاب وضمانتها سورة الفاتحة التي قرأها الأستاذ صلاح شادي وحده على سلم بيته مودعا جمال عبد الناصر , ولم يكن بينهما أى اتفاق واضح غير ثرثرة هنا وهناك أغلبها من رياض الصالحين.

وفي العصافرة كان الهضيبي شديد التردد في مناصرة هذا الانقلاب , ولم يكن يعرف كل ما يدور في صفوف الجماعة , ولا شك أن المجموعة التي طلبت منه التصديق على قيام الثورة قد عرضت الأمر من وجهة نظرها وعلى النحو الذي فهمته وكان فهما خاطئا بكل المعايير كما بينت الأحداث ..

ولم يكن أمام الهضيبي غير الموافقة ولكنه بشخصية القاضي استمع بإمعان وسأل عشرات الأسئلة , والقاضي لا يحكم بحسه ولكن بما يقع تحت يديه من أدلة وبراهين ومعلومات .

وهكذا سارت الأمور !

مهرجان الثورة والإخوان

وظل المهرجان قائما مدة ليست يسيرة , الإخوان يظنون أن الانقلاب من صنعهم والضباط المسلمون على يقين من أنهم قاموا بالانقلاب تحقيقا لخطة الإخوان , وعبد الناصر يتعامل مع جميع الفرق المتناحرة ويوسع شقة الخلاف بين الجميع والسكارى والمخمورون من الضباط ينظرون بتوجس وحذر لصلة عبد الناصر الوثيقة بالإخوان , وهو لا يكشف لأحد عن خططه بل يخفيها في نفسه وينظم ما يريد على شكل أحداث تقضي في النهاية إلى رغبته .

وقد حكي لى المرحوم عبد المنعم عبد الرؤوف أمام الأستاذ أحمد عادل كمال وأمام اللواء حسين حمودة أنه عندما ذهب إلى الإسكندرية لحصار رأس التين , وكان أخبر الناس بجمال عبد الناصر , وأكثر معرفة به من صلاح شادي وحسن عشماوي وسائر الإخوان المسلمين – حكي أنه أقترح على عبد الرحمن السندي أن يمده بألف من الإخوان يرتدون ملابس الجيش ويقوم بالقبض على مجلس الثورة ولم يكن يعرفه أحد في ذلك الوقت ويكون الحكم إخوانيا خالصا .

ولم يستطع عبد المنعم عبد الرؤوف أن يحقق شيئا من هذا , الكل كان يظن أنه انقلاب الإخوان فكيف يقومون بالقبض على القائمين به ؟ ولم يستمع أحد لقوله , ودفع الجميع الثمن غاليا بعد ذلك .

واستطاع عبد الناصر استقطاب كل العناصر الإخوانية التي تركت الإخوان وركنت إليه بحجة أنه الأمير الشرعي للحكم الإسلامي المنتظر .

ومن طريف ما يروي أنه تعرف إلى سامي شرف الشهير في " كتيبة " في منزل عبد القادر حلمي , وجمع أشهر معاونيه من بين صفوف الإخوان ,وأسماء أخري كثيرة صارت لها شهرة في عالم الناصرية لا ينبغي ذكرها في هذا المجال , وباختصار حتى لا تضطرب الموازين .

جمال عبد الناصر من الإخوان

التقي المرشد العام وجمال عبد الناصر في بيت صالح أبي رقيق يوم 28 يوليو عام 1952 وقال له :

- ليس هناك اتفاق تفصيلي على شئ مع هؤلاء يا فضيلة المرشد وهاهم أمامك ولم يعلق أحد من الجالسين وكان منهم صلاح شادي وحسن عشماوي .
- وسكت المرشد بقية الجلسة التي استمرت ساعتين .
- وفي نهايتها قال لمن معه :

لا خير يرجي من هذا الرجل

وتحت ضغط الحماس العارم في صفوف القاعدة الإخوانية طلب أعضاء مكتب الإرشاد من المرشد العام الذهاب إلى قصر عابدين وكتابة كلمة في سجل التشريفات يحي بها ثورة الجيش , وكان ذلك بعد أسبوعين أو ثلاثة من الثورة

وكانت الكلمة محل غضب واعتراض ولوم من جمال عبد الناصر وجاءت قصة الوزارة واجتمع مكتب الإرشاد ورفض الاشتراك في وزارة مع ضباط الثورة لأسباب متنوعة , وليس من بينها خطة واضحة المعالم أو رؤية لما هو قادم في عالم الصراع الذي بدأ .

كانت خطة عبد الناصر أن يجعل ضباطه من الإخوان ينقلبون عليهم من خلال إفهامهم أنه صاحب الحق الشرعي , وأن الآخرين عصاة , وكان يسوق الحوادث في هذا الطريق بحنكة ودهاء أكثر – بالتأكيد – من الإخوان الذين كانوا في مرحلة لا يعرفون فيها من معهم ومن عليهم وخططهم غير واضحة ,وخبرتهم السياسية ضعيفة .

وقد ظل كثير من الإخوان حتى آخر لحظة يحسنون الظن بجمال حتى إن يوسف صديققد ذهب لتحذير المرشد العام من خطر عبد الناصر على الحرية وسيره في سبيل تحقيق ديكتاتورية العسكر وليس ديكتاتورية البروليتاريا التي كان ينادي بها يوسف صديق, وكان هذا اللقاء في منزل المرحوم منير دله وسمعت زوجته الحديث فقالت : ينبغي تنبيه الأخ جمال على الفور .

وبلغ الأخ جمال ونكل بيوسف صديق.

وسار في طريقه يدير الصراع في حنكة ودهاء , وأرسل من أوعز إلى المرحوم عبد الرحمن السندي في فترة من فترات الصراع أن يقوم على اغتيال الأستاذ الهضيبي وأكد له أن الحكومة سوف تغض الطرف عن هذا ورفض الرجل هذه الفكرة .!

العالم يرفض فكرة حكم الإخوان

واقترب عام 1952 من نهايته .

وفي الأسبوع الأول من ديسمبر التقي سفراء الدول الأربع الكبرى وجمال عبد الناصر واحدا بعد الآخر . السفير الأمريكي .. الروسي ... الإنجليزي .... الفرنسي وكان لهم مطلب واحد.

وقال السفير الأمريكي :

- نحن لم نساعدكم في الوصول إلى الحكم ليحكم الإخوان ونحن نفضل حكم أى حزب شيوعي على حكم هؤلاء المتطرفين .

- وقال السفير الروسي :

- نحن نفضل حكم الأمريكان علي حكم الإخوان .

وقال السفير الفرنسي :

- إن حكم الإخوان فمعني هذا أن يمتد اللهيب الإسلامي إلى المغرب العربي

وقال السفير الإنجليزي :

- على ضفاف القنال ثمانون ألف جندي بريطاني سوف يتحركون إلى القاهرة إن لم تضعوا حدا لهذه المشكلة الإخوانية .
وأخفي عبد الناصر سروره وانعقد مجلس قيادة الثورة , وكان من به من السكاري والمخمورين قد اجتمعوا من قبل وهؤلاء السفراء .
وطرح الأمر , لخداع الجانب الإخواني في المجلس ,وكانوا بطبيعة الحال على استعداد كامل للانخداع بحكم التكوين وعدم اتساع الرؤية .
وطلب عبد الناصر الرأي من المجتمعين .
ونقل المخمورون ما سمعوه من السفراء !
قوة الإخوان الشعبية كبيرة , وللقضاء عليها ينبغي أن تتكون قوة شعبية أخري تحتويها ثم تلفظها ويتخلص منهما واحدة بعد الأخرى .

وقال عبد الناصر :

- نستطيع خداع الدول الكبرى لو قبل الإخوان تجميد نشاطهم والاندماج فيما يمكن أن نسميه بهيئة التحرير , ويكفي أن ننزع اللافتات من فوق شعب الإخوان ونضع مكانها لافتة عليها اسم هيئة التحرير .
- ثم أرسل البكباشي مؤخرة الثورة – كما كان يسميه – إلى المرشد العام واقترح عليه هذا الاقتراح , وقال له سم من شئت ليكون رئيسا لهيئة التحرير هذه .
- ولكن حكمة الرجل وتجربته جعلته يرفض وعلم أنها الواقعة ليس لوقعتها كاذبة .

الرؤية السياسية للإخوان

والذي نعرفه أن قيادة الإخوان كانت على وعي بالمخططات الاستعمارية وعدائها التقليدي المتوارث من أيام الحروب الصليبية في الشرق والغرب , في بلاد الشام والممالك اللاتينية التي نشأت ثم بادت وفي حرب ما يسمي بالاسترداد في الأندلس المسلمة .

ثم ظهور الممالك الأوروبية والإمبراطوريات عقب عصر الكشوف الجغرافية والصدام الكبير بين البرتغاليين والمماليك في مصر واكتشاف رأس الرجاء الصالح , ثم خروج بريطانيا بأساطيلها لغزو الهند المسلمة , وسائر ما في هذه القصة من تفاصيل القوة التي خرج بها الغرب , والضعف الذي آل إليه الشرق .

وتغير أسلوب الصراع مع الزمن , وصارت السياسة تغني عن الأساطيل والمدافع أو ينبغي أن يكون الأمر كذلك .

وتطورت المعارف والعلوم والنظرة إلى الأشياء . وبدأت صحوة المسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية أو أثناء التمهيد لذلك , وهي علامات تغير الأزمنة وتحولها من طور إلى طور , عبر عالم غامض لا تبدو فيه الحدود الفاصلة بوضوح بين العهود والعصور ولكنها تتداخل في امتزاج يصعب فصله أو إدراك علاماته على وجه التحديد .

سقطت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية , وظهرت أمريكا وروسيا على أنقاض عالم ما قبل الحرب العالمية في الوقت الذي كان المد الإسلامي فيه قد صار يشكل خطرا جديدا وتكوينا يوشك أن يفرض نفسه على عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية .

وهنا تلتقي القوي كافة, في الشرق الملحد والغرب المسيحي , على احتواء هذا المد الجديد, ليس بالحديد والنار , ولكن بالسياسة وحسن التقدير , ومن خلال التلاميذ والصنائع والعملاء , وهم أسهل شئ يمكن عمله في بلاد قد فقدت حضارتها ودينها وشرفها وانهزمت روحيا ونفسيا أمام أعدائها .

ورغم أن قيادة الإخوان ومفكريهم كانوا يدركون هذه الأمور الواضحة وهو ما ينبغي لأهل العلم والثقافة ,فإن الحوادث بتلاحقها لم تكن تدع لهم الفرصة لتبين الخطوات المرحلية , مع العجز عن النظرة الجزئية للتفصيلات التي تأتي وفق خطط مرسومة من هنا وهناك .

وكان جسم الإخوان المسلمين أو البنية الأساسية لهم تعتمد على مدرسي المدارس الإلزامية والصناع بمختلف تخصصاتهم , ورغم الدور الذي لعبه هؤلاء في القرى والأحياء الشعبية في المدن الكبرى فإنهم عكسوا أفكارهم على قيادة الإخوان وعلى مفكريهم أيضا , وكان العكس هو الذي ينبغي أن يكون , لهذا كان الإدراك السياسي العام ضعيفا مع انعدام القدرة على تكوين الكوادر السياسية وقيادة الشارع المصري من خلال تبني مشاكله الرئيسية .

وبوجه عام لم تمنحهم الأحداث الفرصة الكافية العادلة للتفكير والتخطيط وتصوروا خطأ أن طبيعة المرحلة تستدعي الحشد والجمع ورص الصفوف لجند قد لا يتبينون الخطة الكلية , وقادة لا يعرفون غاية في هذا الحشد على وجه واضح مبين .

كل هذا ترك أثره في الجماعة عندما دخلت حربا من نوع جديد لم تعهده من قبل واستغرقتها تفصيلات لم تكن ببالها .

وضع شياطين الغرب أمامهم عدوا قادرا منظما يمدونه بالمعلومات والتفاصيل وهم أيضا يعينونه على الحركة ويرسمون له الخطط لضرب الإخوان وينفذون معه ونصف الإخوان كانوا يظنونه واحدا منهم .

وأكثر من النصف كانوا يتصورونه صراعا داخليا في صفوف الجماعة ذلك العدو هو – بالتأكيد جمال عبد الناصر .

صنعه الغرب ومهد له ووطد لسلطانه , والتقت الغاية فكان حلفا غير مقدس وربما أدرك جمهور الإخوان ذلك في السجون والمعتقلات وفي صحراء الواحات الحارقة حيث النفي والسجن والبعد عن العالم حتى ينسوا الإسلام أو ينساهم الناس.

لماذا قامت ثورة 23 يوليو ؟

كان حسن الهضيبي يفهم هذه الأمور بالتفصيل وقليل ممن معه .

وكانت صلته بالجماعة هي صلة السمع والطاعة وعلى دخن في أحوال كثيرة ولم يساعده قرب عهده بقيادة الإخوان على الإحاطة السريعة بطبيعة المؤسسات المنتشرة داخل الجماعة وقدرتها وتأثيرها في سير الأحداث .

وكانت رغبته عميقة في ترك القيادة , وأبدي هذه الرغبة في ظروف متعددة .

ولكن الواجب أرغمه على البقاء حتى آخر لحظة من حياته ومن ثم أصبح رمزا للصمود والتحدي والصلابة ولم ينتبه الإخوان أن بظهورهم يؤذنون بدولة جديدة مؤهلة لقيادة العالم وسيطرتهم عليه من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي على شواطئ اندونيسيا واليابان , وأنهم مؤهلون لهذا الدور , وأن جميع العوامل تؤدي إليه .

ولم ينتبهوا إلى خصمهم وأساليبه , وكانوا عاطفيين أكثر مما ينبغي في بساطة المؤمنين وسذاجة الصالحين وغفلة المتحمسين .

لم يعرفوا أن هناك المعاهد العلمية والمخابرات العالمية تقوم على رصد الظاهرة الإسلامية وتضع الخطط للقضاء عليها وإبطال مفعولها .

وبعد كل هذه السنين نجد التاريخ يكرر نفسه وهذا ما يحدث الآن مع التطور الكبير في المعلومات وطرق تصنيفها وسرعة الحصول عليها .

وجد الإخوان أنفسهم في حرب لم يفهموها ولم يدركوا أبعادها وتناولوها تناولا ساذجا حتى بدت الصورة لبعضهم ولبعض أصحاب النظرة الجزئية أن الأمر لا يعدو صراعا على السلطة في بلد صغير يقع على ضفاف النيل اسمه مصر .

والحقيقة أنها كانت حربا ضروسا شديدة الوطأة لمحو كلمة الإسلام .

( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )

واستطاع أعداء الإخوان والإسلام أن يشغلوهم عن إستراتيجية الحرب , وأن يشغلوهم بالتفصيلات الصغيرة وأن يستنفدوا طاقتهم في نقاشها وتحديد موقفهم منها بينما الحركة الإستراتيجية ماضية قدما في قتل هذه الطليعة وسحقها , وكان لهم ما أرادوا إلى حد ما .

أو على الأقل في تلك الحقبة التي مضت من الزمن .

لم يع الإخوان درس التاريخ فكانت محنتهم المروعة التي تركت أثرها في التغيرات الاجتماعية الكبرى , ولا تزال .

كان قيام ثورة 23 يوليو لوقف المد الإسلامي ورصد القوى الإسلامية بشكل دقيق , ووضعهم في المختبر لوضع العلاج لمثل هذه الظواهر في مستقبل الأيام فالتاريخ هو نهر الزمن المتدفق عبر الأزل في اتساق مع الماضي والحاضر والمستقبل .

وعندما ندخل في التفصيلات نجد جماعة قد انقسمت على نفسها وقد استغرقتها الجزئيات وهي قادمة على محنة مروعة قد قدرت لهم فيها الإبادة لولا لطف الله ورحمته وعهده بالحفاظ على دينه حسب النواميس التي ارتآها .

كان أمام حسن الهضيبي خياران لا ثالث لهما .

الخيار الأول : أن يدخل في حرب سافرة مع النظام الذي يمثله جمال عبد الناصر واحتمالات انتصاره كبيرة وموجودة رغم كل المعوقات إذ أخذنا في الاعتبار أن جسم الإخوان الأكبر يدين له بالسمع والطاعة , وأن من بين هذا الجسم عددا غير يسير من الضباط , ومن بينهم من هو في موقع قيادي مؤثر , بالإضافة إلى أن البلد ما زال به روح الحرية التي لم يقدر لها القتل بعد وكراهية معظم من في الجيش من الضباط المحايدين لجمال عبد الناصر حسدا أن صار رئيسا لمصر وجلس على كرسي فاروق .

وإذا أخذنا في الاعتبار أن قوة الإخوان الشعبية تسمح لهم بتحرك ناجح يلتف حول السلطة ويأخذ مكان الحكومة في مناورة قد تسفر عن حرب أو قتال ينتهي في النهاية لمصلحتهم . ورفض حسن الهضيبي هذا الخيار .

وكان الحق معه .

فالحابل قد اختلط بالنابل , وسوف يصعد بجماعة إلى كرسي الحكم بعد طوفان من الدم وسوف يؤكد الديكتاتورية ويقوي جذورها باسم الإسلام عبر عناصر لم تكتمل تربيتها بعد ولم تع درس التاريخ , ولا تفهم ما الذي يراد بها ومنها على وجه التحديد في عالم متغير شديد التعقيد .

وأحد الأدلة على صواب نظرته أن معظم الجبابرة الذين حكموا مصر في عهد الثورة وأحكموا رباطها بحذاء الغرب قد مروا على شعب الإخوان يوما ومنهم من بايع المرشد على السمع والطاعة ومنهم من كان في النظام الخاص .

وإذا أعطينا مثلا قريبا إلى الذهن فنقول : (.....) الذي لبث في الوزارة أحقابا وكان من أعضاء شعبة العباسية للإخوان .

ولعل من يقول وماذا في هذا المثل ؟

لنري التغيير الضخم الذي صنعته القوى المعادية للإسلام عبر حكومة الثورة بدءا بضرب الإخوان وانتهاء إلى ما نحن فيه الآن , وما أدراك ما نحن فيه الآن ؟

الخيار الثاني كان ترك الأمور تسير على النحو الذي رسمه الأعداء وهو أبقي للدعوة وإعطاء الفرصة لجولة في المستقبل , وأعمار الأمم تقاس بعشرات السنين .

وليس من صواب الرأي الدخول في حرب لا يدرك القائمون فيها على الجيش أبعاد المعركة وأهدافها .

كان هذا هو الخيار الصعب الذي اختاره حسن الهضيبي مع بذل جهده لتخفيف هذه المحنة ووقعها على نفوس الإخوان .

وبذل في هذا السبيل غاية ما استطاع .

رفض بإصرار أية فكرة لإحداث شغب .

استطاع أن ينقع معاونيه بعدم التفكير في اغتيال عبد الناصر , فالأمر أكبر وأعظم من وجوده أو عدمه .

عرض فكرة محاولة ترتيب البيت من جديد , ومحاولة دراسة المعطيات وكل الظروف المحيطة .

في هذا الوقت كان محمد نجيب يتقرب من الإنجليزويستعين بهم في صراعه مع عبد الناصر , وكان لا يزال يظن أن الإنجليزهم سادة الموقف , وأنهم وراء الأحداث والتغيرات , ولم يتخيل أبدا أنهم – الإنجليز - قد تركوا القيادة وتنفيذ المخططات للأمريكان .

وكان هذا هو الفرق الجوهري القاتل في صراعه مع عبد الناصر ذلك الصراع الذي انتهي تلك النهاية المأساوية التي يعرفها الجميع .

وكان الهضيبي أبعد نظرا , فقد كان يري الحقيقة ظاهرة , فعربة الشرق الأوسط قد جلست أمريكا على مقعد القيادة فيها , وبجوارها جلست انجلترا لمحض إرشاد القائد إلى بعض علامات الطرق لطول عهدها بالمكان .

أما العربة نفسها – عربة الشرق الأوسط – فقد تحدد مسارها بشكل لا يقبل المناقشة أو المراوغة وغايتها منع حدوث انتفاضة إسلامية هائلة تغير التاريخ في ذلك الجسم الضخم المارد الممتد في أكبر بقعة من أرض العالم القديم , وهو أيضا يرنوا بعين متوثبة إلى العالم الجديد.

الهضيبي يريد تخفيف الصدمة

كانت مهمة حسن الهضيبي شاقة وصعبة , فقد استوعب كل المعادلات في عقله ووعاها بوجدانه , وكان من القادرين على فهم حركة التاريخ ودور المسلمين وإمكاناتهم في هذه المحنة المدلهمة التي زاد وغطي عليها ظهور عبد الناصر .

أراد الهضيبي أن يخفف ما وسعه من شدة الصدمة , وحاول أن يجعل المحنة أقل فظاعة مما كانت عليه , ولكن لابد له لتحقيق هذا من وجود جهاز قادر علي درجة مقاربة من فهمه للأمور , ولم يكن هذا متيسرا مع الأسف الشديد .

كانت الظواهر واضحة ولم يدركها أحد على شكلها الصحيح .

أرادوا أن يصدروا بيانا صحفيا ينعي على الاستعمار " الانجلو أمريكي " وقدم خالد محيي الدين البيان لجمال عبد الناصر فاعترض وقال : يكفي الاستعمار الإنجليزي أو الاستعمار فقط , وهذا يحقق المعني المطلوب .

وحكي لي المرحوم منير دله – وكان مستشارا بمجلس الدولة – عن مشروع قانون تابع " للنقطة الرابعة " وكانت النقطة الرابعة هي من مقدمات الاقتراب من هذه البلدان النائمة , وهو يعطي صلاحيات أمريكية على حي شبرا كتجربة تصل إلى المجلس البلدي والشرطة وكل شئ .

كان هذا في الأيام الأولي من الثورة .

والتقي منبر دله بعبد الحكيم عامر وقص عليه القصة وتعجب وقال له هذا غير معقول وأجابه منير دله أن المشروع مقدم من مجلس الوزراء , وكان رئيس المجلس هو جمال عبد الناصر , وأكد عبد الحكيم عامر أن عبد الناصر لا يمكن أن يوافق على مثل هذا المشروع .

وتم لقاء عاجل بين الثلاثة .

وكان عبد الناصر يتكلم بسخرية واستهانة في هذا اللقاء .

قال له منير دلة :

- هل تفهم ماذا يعني هذا القانون ؟

وقال عبد الناصر :

- وماذا يعني ؟
- يعني أننا نضع حى شبرا تحت الإدارة الأمريكية بالكامل .

وقال عبد الناصر:

- والله لو وافقوا على أن يضعوا القاهرة كلها تحت إدارتهم لوافقت ,أنتم لا تدركون مزايا الإدارة الأمريكية والحكم الأمريكي .
وضحك ساخرا .

وقال له منير دله في حزم :

- لن يوافق مجلس الدولة على هذا القانون .

واصفر وجه عبد الناصر انفعالا وقال :

- هذه هي مساوئ الديمقراطية والحرية وسائر ما نعرف من كلام فارغ .

وتودد إليه منير دله وهو يقول :

- هل تدرك يا جمال ما الذي تفعله ؟

- وفي غضب أجاب :

- أدرك جيدا , وسوف يأتي الوقت الذي نحقق فيه أهدافنا دون العودة إلى مجلس دولتكم هذا الذي يضم طائفة من الجهلة المخرفين .

- والتفت منير دله إلى عبد الحكيم عامر :

- ما رأيك يا عبد الحكيم ؟
ولم يرد عبد الحكيم بكلمة واحدة !
ولم تصل تلك المعاني بوضوح إلى جمهور الإخوان .

وعندما قص منير دله هذه القصة على حسن الهضيبي ابتسم ساخرا ولم يعلق ربما لأنه يفهم هذه الأشياء جيدا وليس في حاجة إلى أدلة جديدة وكانت المشكلة الرئيسية عنده هي كيفية التخفيف من هول الصدمة القادمة .

هذا ليس عصر الإخوان

فهم البعض أنه يستجيب لطلبات عبد الناصر عندما قام بفصل قادة النظام الخاص من جماعة الإخوان المسلمين عقب لقاء تم بين قادة الثورة وقادة الإخوان وعلى رأسهم المرشد العام وفهموا أنه يقوم على تصفية الجماعة وقد أخطئوا في هذا الفهم بالتأكيد .

كان الهضيبي يعرف جيدا أن هذا ليس عصر الإخوان ولكنه حكم الأمريكان , والإخوان لا يفهمون هذا وأنهم بصدد محنة ضروس ولكن لا يعلمون والغريب أننا ما زلنا نعيش في حكم الأمريكان .

ولعلها آخر أيام حكمهم !

وبدأت قصة الحمل والذئب , ودوت مدافع حرب الإبادة .

والرجل يعمل جاهدا على تخفيف عدد القتلى والجرحى في معركة ليست متكافئة بلا فائدة .

وأذكر مرة عندما التقيت معه في مستشفي معتقل طرة السياسي.

وسألته : فضيلة المرشد .. هل تنوي كتابة مذكراتك ؟

وسرح طويلا وابتسم وقال :

- كلا ..

وقلت له متأدبا :

لماذا ؟ ألا تري لها أهميتها وفائدتها ؟

وزادت ابتسامة الرجل – عليه رحمة الله – وقال :

- ضررها بالغ ومحقق !
- لماذا ؟
وفتح المصحف معلنا نهاية اللقاء كعادته .

وكثيرا ما فكرت .. ما الذي يمكن أن تحتويه مذكرات ذلك الرجل العظيم ؟

ونعود إلى ما كنا فيه ..

أمريكا تحكم قبضتها على مصر !

عبد الناصر ينوي ضرب الحركة الإسلامية في مقتل ومقتلها هو الإخوان  ! وجماعة تهيئ نفسه للحكم بالإسلام , وهي غير واعية أنها لا تستطيع على الأقل في تلك الحقبة السوداء من الزمن .

ولا يزال سوادها جاثما على المكان !

ورجل على رأس الجماعة يريد أن يدخل بها إلى طور الكمون حتى تتهيأ الظروف بأقل ما يمكن من خسائر في المال والأرواح .

ولعله نجح في بعض ما كان يفكر فيه وربما كان يستطيع النجاح بشكل أكبر من ذلك لو فهمه كل من معه .

ولكن كما هي عادة التاريخ فإن التغييرات الكبرى لا يمكن أن يعيها غير أفراد قلائل وعلامات الأزمنة لا يفهمها غير الندرة والصفوة من الناس .

كانت خطة الرجل بسيطة وسهلة .

وهي تجنب الصدام , ولو أدي الأمر إلى تسليم مفاتيح المركز العام لجمال عبد الناصر مع الفتوى بعدم جواز قتله هو أو غيره .

ولكن ماذا يفعل حيال جمهور قوى غاضب مسلح قد هيأ نفسه للنصر والحكم ؟

وفكرت الحكومة في اغتياله , واختفي تجنبا لرد فعل قتله .

وصارت تعرض الخطط واحدة إثر أخري وهو في مخبئه , ويرفضها واحدة بعد الأخرى واضطر تحت ضغط الظروف إلى الموافقة على قيام مظاهرة مسلحة تنادي بالحرية والديمقراطية عندما يعلن محمد نجيب ذلك من أجهزة الراديو من الإذاعة وكان هدفه الدفاع عن النفس ولكنه كان حلما من الأحلام .

وكان محمد نجيب ممن لا يفهمون معادلات السياسة في مصر هو الآخر , وكان يعيش عصر الإمبراطورية البريطانية التي انتهي عهدها , وأمر حسن الهضيبي بتشكيل الجهاز السري ليرث النظام الخاص تمهيدا لطور الكمون الذي كان يفكر فيه , وكان لابد له أن يسيطر على جميع التشكيلات , ويحصل على كل الأسلحة الموجودة طرف المجموعات .

ولم يكن الجهاز السري الجديد يفهم حقيقة أبعاد ما يجري .

وكان كل تصرف يفعله أو يأتيه الهضيبي يقابله سيل من الشائعات والإعلام المضاد .

وقد صرح لبعض من يثق بهم قائلا :

- يجب أن يتهيأ الإخوان لمحنة قاسية الله سبحانه وتعالي وحده يعلم كيف تنتهي وقال أحد الجالسين :

- عندنا قوة تستطيع أن تقف أمام الجيش .
- ونظر الرجل إليه ولم يرد فلم يكن هذا صحيحا ! وتكلموا في بابا المقاومة المسلحة ورفض الرجل في حزم, ولم يجد من ينصفه فيما فعل , إلا قلة من الفاهمين الذين أدركوا وجهة نظره بوضوح وعلموا أن عين الحكمة هو ما ارتآه : ولو أطاعوه لخف الضرر كثيرا عما كان ولصارت المحنة أخف ضراوة ووحشية مما

حسن الهضيبي يتهيأ للمحنة

وهيأ حسن الهضيبي نفسه لنهاية شبيهة بنهاية سلفه حسن البنا ولهذا كان مطمئنا واثقا من خاتمة المطاف وأن الخير فيما يقدره الله .

وعندما حكمت عليه محكمة الشعب بالإعدام لم ير أكثر هدوءا وانشراحا مما كان عليه .

واتصل أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف آنذاك بالسيدة المرحومة حرم المرشد العام وقال لها :

- اطمئني , نحن نبذل قصارى جهدنا لتخفيف حكم الإعدام إلى المؤبد .

وردت عليه – رحمها الله – في التليفون :

- لقد أخذ مكان رجل أريق دمه على قارعة الطريق العام وهو مهيأ دائما منذ أخذ هذا المكان لنفس المصير , ولكن ما شعورك أنت .. عضوا مكتب الإرشاد السابق فيما يحدث الآن من التنكيل بالمسلمين ؟
- ووضع أحمد حسن الباقوري السماعة دون أن يرد , والله وحده يعلم المشاعر التي كانت تجيش بصدره ونفسه ساعتها .

عود على بدء

لا شك أن اختيار حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان المسلمين بعد وفاة المرحوم حسن البنا كان اختيار مثاليا , فلم تكن توجد الشخصية التي يتفق عليها الإخوان اتفاقا تاما بين أعضاء مكتب الإرشاد , وكان من المشاكل الرئيسية التي تواجه الجماعة وضع النظام الخاص , فهو مع أهميته في الدور الوطني والقومي إلا أن هناك ما ينبغي علاجه له صلة بالنظام عقب الحوادث التي حدثت مؤخرا آنذاك .

استفحل النظام , وشعر رئيسه بصلاحيات وسلطات لا حدود لها بعد نجاحه في كثير من العمليات التي قام بها ضد الإنجليزوأعوانهم , ويقال إنه كان يقوم علي تنفيذ أشياء ون الرجوع إلى حسن البنا .

والذي وضح للأذهان هو قوة عبد الرحمن السندي وسلطانه الذي زاد وشعوره بأهميته وأهمية النظام لحماية الجماعة , وقد يكون الحق معه , ولكن لابد أن يكون هذا في إطار من نظام , وهذا ما بدأ يتزعزع في نفس المرحوم عبد الرحمن السندي .

وكان الإعلان الهائل الذي قامت به الحكومة ضد الإخوان ووصفهم بالإرهاب والمبالغة في تصوير عملياتهم وعرضها على الرأي العام وتشويه صورتها,تغيير دوافعها كل هذا كان لابد له من خطة لعلاجه مع الناس .

فاختيار أحد رجال القضاء يحسن الصورة أمام الناس والرأي العام ,ذلك انه عندما يرون علما من أعلام القضاء في ذلك الوقت قد صار مرشدا عاما للإخوان فإن الصورة تتحسن كثيرا لديهم ولو لم يذهب الموضوع إلى أبعد من هذا .

ولكن لو جاء هذا المرشد الجديد وقال كلاما ضد الإرهاب تمهيدا لتحرك إعلامي جديد فإن هذا يساعد على تحسين الوضع بشكل عام.

كان المرشد العام يعرف أن هذا النظام الخاص معد لتحرير مصر وسائر البلاد العربية والإسلامية من الاستعمار , ولكن الكلام في هذا المجال لا يصلح , والشرح لن يفيد , بل سوف يزيد من سوء الصورة التي صنعها الإعلام .

ولهذا كان كل شئ يحتاج إلى تحرك جديد وتصور مختلف .

وكان هذا هو واجب المرشد العام الجديد رغم معلوماته القليلة عن مؤسسات الجماعة وأعضائها , ومن الطريف أنه هو نفسه – حسن الهضيبي – قام على طبع أحد منشورات الإخوان إبان نكبتهم عام 1948 , ونجح في وضع المنشور على مكتب الملك فاروق بمعني أن صلته بالعمل السري موجودة .

وكان لابد من عمل إعلامي مضاد لإعلام الحكومة , وبدأت الشائعات تخرج من الصفوف الإخوانية , بعضها الإخوانية , بعضها عن غير قصد , والآخر وفق خطة مرسومة .

ولم يعترض الإخوان على شائعة أن حسن الهضيبي هو مرشح الملك, حتى أن جهات الأمن تصورت هذا في فترة من الفترات , وانه قد جاء لإلغاء النظام الخاص ومحو العمل السري , وتنظيم علانية الدعوة , وقد أدي هذا دورا هاما في تحسين الصورة أمام الحكومة والناس والغريب أن ما يقوله الناس تصدقه الحكومة وما تقوله الحكومة لا يصدقه الناس أبدا .

وزادت قوة هذه الشائعات حتى أن الإخوان أنفسهم قد صدقوها , أو صدقها بعضهم وفي لقاء مع المرشد الجديد سأله حلمي عبد المجيد :

- هل صحيح أن فضيلة المرشد ينوى إلغاء النظام الخاص ؟

ورد عليه المرشد الجديد وكان قليل الكلام :

- إن النظام الخاص من الجماعة كحرف الخاء لا نستطيع حذفه .

- وكان قد ذهب إليه من قبل المرحوم عبد الرحمن السندي ومعه الشيخ سيد سابق وسأله السندي عن حقيقة ما يقال عن نيته في إلغاء النظام الخاص , وأجابه المرشد الجديد بكلمة واحدة غامضة :

- لا سرية في الدعوة .

وقيل إن عبد الرحمن السندي كان متغطرسا في هذا الاجتماع وإنه كان يكلم مرشده الجديد بشئ من الكبرياء والأنفة وإن كان قد حدث شئ من هذا فربما شعر قائد النظام بأن ما قام ببنائه يوشك على الانهيار على يد مرشد جديد لا يعرف أبعاد الدعوة وأسرارها من وجهة نظره .

وكان السندي قد طرح اسما على الإخوان ليكون مرشدا هو المرحوم صالح عشماوي, ولكن الإخوان استقروا على حسن الهضيبي وبايعوه .

وخرج السندي ثائرا من اجتماعه مع المرشد وأعلن لأعضاء النظام أو لقيادته يقينه من أن المرشد الجديد قد جاء لإلغاء النظام .

وذهب واحد للقاء المرشد يسأله عن هذه القصة ومدى حقيقتها .

وابتسم الرجل الذي حنكته الأيام وقال لذلك الذي جاء يسأله :

- كيف يتسنى لقائد نظام سري – يقصد السندي – المفروض أنني رئيسه أن يأتي ليسألني في أمر دقيق كهذا ومعه شاهد ؟ هذا يتنافي مع أصول السرية وطبيعتها لو يعلم فهو ليس عنده نظام ولا يعرف السرية .

وسأله الرجل عن حقيقة الموضوع .

وزادت ابتسامة المرشد العام الغامضة ولم يقل شيئا ولم يخطر على بال أحد من أعضاء النظام وقادته وعلى رأسهم السندي – علي رحمه الله – أن هذا النظام وقيادته صار معروفا بأسماء أصحابه بعد الحوادث المشهورة , وأنه من الحكمة أو طبيعة العمل السري أن تتغير كل هذه الأسماء التي صارت هدفا مرصودا .
ولكن هذا يأخذ وقتا ليس باليسير , وهناك أوليات ينبغي عملها وبكل المقاييس كان يجب تغيير كل الأسماء التي ظهرت وعرفت من مكان القيادة ولكن الأحداث تلاحقت فأحدثت ارتباكا في كل توقيت .

تم فصل تنظيم " الضباط الأحرار " الذي أنشأه الإخوان - عن الإخوان عام 1950 قبل أن تتم انتخابات نادي الضباط وقبل ضم محمد نجيب إلى هذه المجموعة وتولي عبد الناصر قيادة التنظيم ثم جاء الوقت الذي اشترط فيه أو استطاع إقناع صلاح شادي بأن صلة " الضباط الأحرار " بالإخوان لا ينبغي أن تكون عبر عبد المنعم عبد الرؤوف أو أبي المكارم عبد الحي وذلك لتأمين التنظيم .

وعرض الأمر على المرشد الجديد الذي يتحسس طريقة لمعرفة الجماعة عبر حقول الألغام التي خلفتها نكبة عام 1948 ووافق ولعلها خطوة من وجهة نظره في سبيل تغيير الأسماء المعروفة التي قد يضر وجودها أكثر مما ينفع .

وتشكلت لجنة للاتصال بالضباط الأحرار مكونة من منبر دله وصالح أبي رقيق وصلاح شادي وعبد القادر حلمي وحسن العشماوي .

ثم توثقت الصلة بين الضباط الأحرار ويمثلهم جمال عبد الناصر , واثنين هما صلاح شادي وحسن العشماوي , وكان الأخير على صلة وثيقة بجمال عبد الناصر وقريبا إلى قلبه ونفسه , وكان الأول هو منافس عبد الرحمن السندي في العمل السري , وكان المرشد الجديد يثق به ويتلمس طريقه عبر الجماعة من خلاله وآخرين .

وكان المرشد يتوجس خيفة من عبد الرحمن السندي , ذلك عندما علم أن ذلك الزائر الذي ذهب إليه يسأله عن حقيقة قصة إلغاء النظام قد جاء بعد اجتماع خطير أعد له عبد الرحمن السندي وجمع فيه نخبة من قيادات النظام مثل مصطفي مشهور وأحمد حسنين وحسني عبد الباقي وحلمي عبد المجيد والسيد فايز والدكتور أحمد الملط وكمال السنانيري ومحمد شديد وجمال فوزي .

وفي حماسة وعنف عرض المرحوم عبد الرحمن السندي فكرة خلع المرشد وتنصيب صالح عشماويمكانه , ورحم الله الجميع .

ودافع عن فكرته , وحاول أن يأخذ قرارا من المجتمعين بهذا ولو وافقوا لتم له ما أراد ولكن المجتمعين أصروا على سؤال المرشد والاستفسار منه .

استقرت الأحوال للمرشد الجديد وبدأ ينفذ سياسته الجديدة لإعادة ترتيب البيت من الداخل وإزالة ما علق باسم الإخوان من إعلام سيئ .

وقضي شهوره الأولي يستمع ويحاور ويسأل ويستفسر حتى انتهي إلى قرار كان هذا القرار هو تنحية عبد الرحمن السندي عن قيادة النظام الخاص .

وكان محقا في قراره فليس من المعقول أن يقوم على رأس النظام اسم معروف لكل دوائر الأمن في مصر والعالم . ذهب الأخ مح

مد شديد إلى المهندس حلمي عبد المجيد وقال له :

- قد قرر المرشد العام عزل عبد الرحمن السندي عن رئاسة النظام .

- ودهش حلمي عبد المجيد , ولم يكن يصدق وأعاد السؤال للتأكد , وأكد له محمد شديد أن هناك مشاورات كثيرة قد تمت لاختيار رئيس جديد للنظام قال حلمي عبد المجيد :

- ليس أمامنا غير السمع والطاعة ومن الذي اختاره المرشد ؟
- أنت
- وأسرع حلمي عبد المجيد للقاء المرشد العام وجلس إليه في بيته , وقال له إنه ممن يسمعون ويطيعون , ولكن هذا الاختيار ربما لا يكون موفقا .
وصار يسوق له من الحجج والمعاذير والأسباب والدواعي ما يجعله يرجع عن قراره وسمي له أسماء أخري تصلح لهذا العمل خيرا منه .

واستمع إليه المرشد العام باهتمام وصبر ثم قال :

- كل ما قدمته من حجج ومعاذير لم أقتنع بها وأرجو تنفيذ التكليف وصار حلمي عبد المجيد رئيسا للنظام الخاص بدلا من عبد الرحمن السندي وكانت عليه مسئولية إبلاغ قيادة النظام بهذا التكليف الجديد .
وكان حلمي عبد المجيد حصيفا فجمع مجلس قيادة النظام وتلطف في إبلاغهم التكليف الجديد وكان حريصا كل الحرص على ألا يثير حفيظة عبد الرحمن السندي , والذي لم يتبين طبيعة البعد " التاكتيكي " والسياسي لهذا القرار , فقد كان يعتبر نفسه هو الأب الشرعي لهذا التشكيل ولا ينبغي أن يقوم غيره على رعايته وازداد حلمي عبد المجيد في التلطيف , وبين أنهم سوف يسيرون على ما كانوا عليه وكل ما في الأمر أنه سوف يكون همزة الوصل بين النظام والمرشد , وأضاف :
- اعتبروني ضابط اتصال وليس أكثر .

وسارت الأمور على دخن !

فالقصة لا تعدو تغيير رئيس بآخر ولكن للمسألة أبعادا كثيرة فلها أبعاد إعلامية وسياسية وخطة ينبغي أن تبلغ مداها لتحقيق هدف المرشد في إزالة كل الآثار التي ترتبت على حوادث الماضي القريب , في وقت كانت جماعة الإخوان فيه لا تزال تضمد جراحها الغائرة الكثيرة .

وبدأ الأمر يظهر على صورته الحقيقية

لم يكن حلمي عبد المجيد مجرد ضابط اتصال فقط , بل جاء بسياسة جديدة ينبغي أن تنفذ وفق خطة متكاملة مرسومة عليه تنفيذها .
وبدأ عبد الرحمن السندي يدرك هذا وهو يرفض تنحيته عن رئاسة النظام شكلا وموضوعا ويعتبر أن هذه هي المنطقة الحرام التي يجب ألا يدخلها المرشد العام أبدا أن التشكيل الذي قام هذا النظام الخاص عليه أبدي ولا يقبل التغيير.
وفي يوم من الأيام فوجئ حلمي عبد المجيد بأن عبد الرحمن السندي يستدعيه لحضور اجتماع لمجلس النظام .
وذهب إلى مكان الاجتماع رغم عجبه الشديد !
وفي الاجتماع الذي حضره كل أركان حرب النظام انبري عبد الرحمن السندي يبين خطورة الانسياق خلف هذه المخططات التي تستهدف تصفية التشكيل في النهاية , ثم ألقي قنبلته في الاجتماع!

يجب تغيير المرشد العام وهي قضية لا تقبل المناقشة وأن له عليهم حق السمع والطاعة ,ولنبحث كيف يتم هذا التغيير بهدوء ودون خسائر .

انبري حلمي عبد المجيد يرد على عبد الرحمن السندي في هدوء وبين أن حق السمع والطاعة للمرشد العام أولا , وقال إن عبد الرحمن قد فقد صفته كرئيس للنظام بقرار المرشد وهو ملزم للجميع والتفكير في غير هذا عبث وخروج عن خط الدعوة , وقال له إنني كنت أمثل ضابط اتصال بين النظام والمرشد إكراما لك فإذا وصل إلى نقطة العصيان فإني منذ هذه اللحظة المسئول عن النظام الخاص بقرار المرشد .

ولم يعترض أحد من الموجودين وبدأ حلمي عبد المجيد يتصرف دون الرجوع إلى عبد الرحمن السندي في شئ ومن أهم ما فعله حلمي عبد المجيد تغيير لائحة النظام الخاص .

فقد كانت حافلة ببعض بنود شديدة منها إخلاء سبيل من يفشي أسرار النظام ومعني إخلاء سبيله مطاط وغامض , ويصل في التفسير إلى القتل .

وكلمة إفشاء الأسرار أيضا كلمة مطاطة وغامضة فمثلا لا يغدر أحد بإفشاء الأسرار بسبب التعذيب .

وكانت هناك حادثة الاعتداء وكانت هناك حادثة الاعتداء على حامد جودة وانهار أحد أعضاء النظام وأدلي بمعلومات كثيرة أثناء التحقيق معه في قسم مصر القديمة , ومن ثم كانت هناك نية أو تفكير في إخلاء سبيله .

وتم تغيير لائحة النظام الخاص.

كان عبد الناصر بحكم صلته العضوية بالنظام وأفراده على علم بالكثير من هذه الخلافات التي لم تكن تظهر على السطح , بل كانت تدور تفصيلاتها بين عدد محدود ممن قدر لهم العلم أو الاشتراك في هذه الأمور , ولهذا كان طلبه أن تكون الصلة بالجماعة من خلال آخرين في الوجه المقابل لعبد الرحمن السندي قد قوبل بارتياح شديد .

وبدأ الإخوان .. المرشد العام ومجموعة قليلة تدرس التفاصيل الخاصة بالثورة قبل موعدها بأسبوع , وآخر الموعد يوما كما هو معروف , واشترط الهضيبي عدم إسالة الدماء وعدم قتل فاروق ويكتفي بطرده من البلاد.

وبطبيعة الحال كانت الأمور تسير دون علم ضابط الإخوان الأصليين بما يدور مثل عبد المنعم عبد الرؤوف وأبي المكارم عبد الحي وغيرهم الذين انفصلوا عن تنظيم الضباط الأحرار ليعطوا الفرصة لإلحاق العناصر الوطنية غير الإسلامية للدخول في التنظيم .

ولكن عبد المنعم عبد الرءوف في لقاء عابر مع صلاح نصر في حلمية الزيتون قبل الثورة بيومين فهم من صلاح نصر أن الاستعدادات قد تمت , وكان الأخير لا يتخيل أن عبد المنعم عبد الرءوف بعيد عن هذه الأمور .

والتقي عبد المنعم عبد الرؤوف وبعض المسئولين في الجماعة ,ولكنه لم يحصل على جواب شاف عن سؤاله .

وذهب إلى حلمي عبد المجيد وقال له :

- هناك تحرك في الجيش يوشك أن يكون بين ساعة وأخري , ولا أدري ما هي علاقتنا بهذا فالإجابات كلها غامضة .
- وما المطلوب ؟
- يجب سؤال المرشد سؤالا صريحا محددا إن كانت هذه الحركة من صنعنا فنحن معها وما هو المطلوب منا , وإن كان يريد إحباطها فأنا ومن معي من الضباط قادرون على ذلك ,وإن طلب منا أن نبقي على حالنا وندع الأمور تسير كما تسير فنحن أيضا ننفذ , المهم ... ما هو المطلوب منا على وجه التحديد ؟

ربما تكون مخطئا في هذه التصورات .

- وأجاب عبد المنعم عبد الرؤوف في حزم :
- أنا على يقين مما أقوله لك .

وسافر حلمي عبد المجيد في قطار الصحافة الذي يقوم الساعة الثالثة صباحا إلى الإسكندرية ووصل إلى بيت المرشد في الساعة السادسة صباحا , ودق جرس الباب , واستقبله المرشد في هدوء , فقد كان من الطبيعي أن يدق بابه أى أحد في أى وقت من أوقات الليل أو النهار .

ودعاه المرشد إلى شرب الشاي والإفطار معه وصار يستمع منه – صامتا لكل ما قاله عبد المنعم عبد الرؤوف .

ثم خرج معه إلى الشاطئ إلى الكابينة التي كانت له بالعصافرة وقال له :

- تكلم معي حتى الساعة الثامنة , فعندها موعد مع أحمد باشا عبد الغفار , وعندما يأتي اذهب أنت بعيدا حتى ينصرف وعد إلىّ.
- وبعد أن انصرف أحمد عبد الغفار باشا عاد حلمي عبد المجيد إلى المرشد الذي قال .
- بلغّ عبد المنعم عبد الرؤوف " وأبو المكارم" عبد الحي أن هذه الحركة حركتنا ونريد لها النجاح و عليهما ألا يدخرا وسعا في ذلك .
ورغم استياء عبد المنعم عبد الرؤوف الشديد , لأنه أقدم في الرتبة من جمال عبد الناصر وأنه ... وأنه ... فإنه ذهب لجمال عبد الناصر ووضع نفسه تحت تصرفه .
وأصفر وجه جمال عبد الناصر عندما فوجئ بحضور عبد المنعم عبد الرؤوف وأنه يعلم التفاصيل , وكان ممن يخشاهم من الضباط على نفسه وقيادته

وابتلع عبد الناصر المفاجأة وقال :

-: اسمع يا منعم .. كل ما أريده منك هو رأس التين .

- وأبو المكارم؟
- قصر عابدين .

وبعد أن أبلغ أحمد أبو الفتح جمال عبد الناصر أن الملك قد عرف كل الأسماء ما عدا اسم جمال عبد الناصر , وأنه ينبغي عليهم التحرك الليلة وكانت ليلة 22 يوليو عام 1952 أصر عبد الناصر على انتظار رأي المرشد الذي كان يدرس كل التفاصيل التي قدمت إليه ورفض بشدة أن يبدأ التحرك دون رأيه وموافقته النهائية .

وقامت الثورة ليلة 23 يوليو عام 1952 .

خرج المرشد من لقائه الأول مع جمال عبد الناصر غاصبا , وأعلن أنه مغامر يريد الحكم وتأكد أنه ليس الأخ الملتزم بالبيعة , والذي يعرف قانون السمع والطاعة .

وقد بني سياسته منذ الوهلة الأولي على أنها حكومة جديدة ويمكن أن تسير في طريق الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي , وعلى التخلص من الملك , وأنه يمكن التعاون معه تحت هذا الباب وليس أكثر .

ولم يتفق واحد قط من الإخوان في الرأي مع المرشد العام حول هذه النقطة !! بل هناك من صار يظن أن عبد الناصر من ذؤابة الإخوان حتى مست الأسياخ المحمية ظهره في السجن الحربي.

وقد أخبرني المرحوم منير دله أنه رأي بعينيه جمال عبد الناصر والذي يدعي بالسيد على صبري أثناء تعذيبه بالسجن الحربي وعندما التقت أعينهما به تواري جمال عبد الناصر وهو الذي طالما تناول الطعام في بيته على مائدته قبل الثورة وبعدها وأياديه البيضاء عليه أكثر من أن تحصى .

أما ما يسمي بالسيد على صبري فقد تقدم ناحية المرحوم منير دله , ووقف أمامه ببجاحة وصلف أثناء تعذيبه وصار يلقي عليه الأسئلة .

كان المرشد العام للإخوان المسلمين المرحوم حسن الهضيبي في واد , وكل الإخوان المسلمين في واد آخر بالنسبة لنظرتهم إلى جمال عبد الناصر والثورة استطاع المرشد أن يفهم المسألة من الوهلة الأولي بينما تأخر فهم الإخوان لها كثيرا .

حكم عادل ومحاكمة ظالمة !

كان درس الثلاثاء من تقاليد الإخوان وعقب الدرس كانت تلقي الأسئلة ويجيب عنها المرشد العام .

ومن الطبيعي أن تكون هناك بعض الأسئلة قد أرسلتها الحكومة أو أوحت للبعض بطرحها وهذا من السهل جدا في تجمع به عدة آلاف من البشر , بل من المستنكر أن يهمل مثل هذا الاجتماع لفهم تيار واتجاه أكبر تجمع شعبي في مصر.

وأعيدت محاكمة قتله المرحوم حسن البنا .

وكان ممن حكم عليهم بالإعدام في هذه القضية إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء الذي قام على تدبير الحادث .

وسأل سائل في نهاية درس الثلاثاء عن رأي المرشد العام في الحكم الذي صدر وأجابه حسن الهضيبي :

حكم عادل ومحاكمة ظالمة .

وجلس إليه أحد كبار الإخوان ومعه مجموعة من الإخوان بعد أن انفض الجمع واحتج على طريقته في الإجابة على ذلك السؤال فقال :

لابد أن يقف المتهم أمام قضائه الطبيعيين وإن نحن وافقنا على هذا الوضع الشاذ فسوف يأتي اليوم الذي نقف نحن أنفسنا فيه أمام هذا النوع من المحاكم وكأنه كان يري الغيب !

الإخوان يقدمون الضباط إلى الشعب

ظل الناس فترة لا يعرفون غير محمد نجيب كقائد للحركة المباركة , وكانوا يرون صورة جمال عبد الناصر ومن معه ولا يعرفون أسماءهم حتى الوقت للإعلان عنهم , وطلبوا من المرشد العام أن يساعدهم في تكوين شعبية لهم وانتووا الخروج في رحلة للوجه البحري يخطبون ويتكلمون ويراهم الناس ويعرفونهم .

وتم عمل تعميم على جميع الشعب بترتيب أحسن استقبال لهم وقد كان .

وخرج ركب رجال الثورة في موكب شعبي كبير من القاهرة إلى الزقازيق وقد شكل هذا الركب أعضاء جماعة الإخوان المسلمين , وكل شعبة برجالها تنضم إلى الركب حتى وصلوا إلى الزقازيق ومعهم جمهور غفير كأن الشعب المصري قد خرج معهم , وعدوى الحماسة تنتقل بسرعة من هذا إلى ذاك .

وكانت الذبائح تذبح أمامهم عند مدخل كل قرية وبلدة , لاحظ جمال عبد الناصر ذلك التجمع الشعبي الهائل ولم يكن يتصوره , وأدرك في هذه الرحلة قوة الإخوان الشعبية , فقد كانت هتافات الإخوان المعروفة تنطلق مع كل خطوة , وهتافات أخري لتحية محمد نجيب ولا أحد آخر .

وتم هذا في " أبو كبير" وكفر صقر والمنصورة والسنبلاوين .

وكان جمال عبد الناصر يخشي من سنمود بلد المرحوم مصطفي النحاس باشا ونبه الإخوان إلى هذا فطمأنوه .

وتم عمل ترتيب خاص لمدينة سنمود

فقد تم احتلال المدينة مع الفجر من جمهور الإخوان من مختلف بلاد الوجه البحري ,ودخل ركب الثورة المدينة ومعه الصحفيون ورجال وكالات الأنباء العالمية , وكان الإخوان يقفون أمام البيوت وعلى مداخل الحارات وفوق السطوح , وكان أعظم استقبال لرجال الثورة في مدينة سنمود موطن الرئيس الراحل مصطفي النحاس .

وكان هذا الحادث في عناوين الصحف في كل أنحاء العالم .

وكانت هذه إحدى نقاط التحول الكبيرة في تحقيق أكبر شعبية للثورة ورجالها وتكررت الرحلة في الصعيد , وبدأت من أسوان في طريقها إلى القاهرة وفي الرحلتين تأكد عبد الناصر أن الشارع المصري من من أقصي البلاد إلى أقصاها يملكه الإخوان المسلمون ملكية لا ينازعهم فيها أحد ..

وقد أثار هذا كل قلق في نفسه وعجل بتفجير الصراع !

كانت كل محطة يقف فيها قطار الثورة لا يسمع فيها إلا الله أكبر ولله الحمد وعندما وصل القطار إلى محطة " الحوامدية " كانت هتافات الإخوان قد بلغت مداها وقد حدث هذا أيضا بكنيسة ببني سويف .

وكان صدر جمال عبد الناصر يغلي كالمرجل من الحقد والغضب والحسد , ووقف القطار وصار جمال يخطب , وعند كل سكتة يرتفع الهتاف :

الله غايتنا ... والرسول زعمينا .. القرآن دستورنا ..

ولم يطق جمال عبد الناصر هذا , وانطلق صوته من الميكرفون يسب الإخوان الذين نزل سبه عليهم نزول الصاعقة , فهم الذين صنعوه .

- لا تكونوا كالببغاوات ترددون مالا تفهمون .

وأعطاهم درسا في الإسلام !

وانفض الجمع يخيم عليه الذهول !

بدأ الانفصال

بدأ عبد الناصر يطرح مشروعاته لاحتواء الإخوان .

فتح معسكرات التدريب للحرس الوطني , فلم يذهب أحد إلا بعض المرتزقة الذين كان يتقاضون خمسة عشر قرشا في اليوم .

وتكلم جمال عبد الناصر مع المرشد ومكتب الإرشاد , وطلب منهم أن يصدروا تعليماتهم بعدم مقاطعة الإخوان لهذه المعسكرات .

وملئت المعسكرات عن آخرها !

ثم كانت هيئة التحرير , وهي أكبر خطة طرحها عبد الناصر لاحتواء الإخوان ورفض الهضيبي الفكرة بحزم شديد .

وقال أحد أعضاء مكتب الإرشاد لجمال عبد الناصر أثناء اجتماع مجموعة منهم معه لثنيه عن هذه الفكرة – وكانوا يحسنون الظن به – إنه لا يمكن أن تضع زيتا وماء في زجاجة وتجعلهما يختلطان ... سيظل الماء ماء والزيت زيتا.

وقال له حسن عشماوي :

- أنت تجمع حثالة الناس في هذه الهيئة .. ولن يأتي فيها غير بقايا الأحزاب , ومن لا رأي لهم, أن تراك تريد شراء البعض ليهتفوا لك ؟

- ورد عليه عبد الناصر :

- أيوه أنا أشتريهم ليهتفوا لى أحسن ما يشتريهم غيري ليهتفوا ضدي .
- الإخوان معك وهم يؤيدونكم .
- هذا غير مضمون

وعندما صدرت التعليمات للإخوان في كل البلاد بعدم الانضمام إلى هيئة التحرير فهموا أنهم بهذا ضد هذه الهيئة , ومن ثم حدث الكثير من حوادث الشغب والاشتباك , حتى وصلت مداها في الجامعة عند استقبال نواب صفوي على ما هو معروف ومشهور .

وتطورت الحوادث بين الإخوان والثورة .

وكان زمام المبادرة بيد الإخوان , وكانوا يستطيعون القضاء على الثورة في بادئ الأمر , ولكن كما قلنا كان الإخوان شيعا وأحزابا في موقفهم من الثورة ورجالها حتى يميز الفريق الذي أدرك الضرر الذي يمكن أن يلحق بالبلاد والعباد من حكومة علمانية تنفذ بيزنطية حول الفتنة ودم عبد الناصر ... حلال هو أم حرام ؟ في الوقت الذي كانت نفوس الإخوان تعبأ ضد الثورة ورجالها عبر المنشورات التي كانت سبب أرق عبد الناصر .

وعرف المرشد العام أنه أمام سنن ونواميس لا يمكن التغلب عليها .

وصدرت التعليمات بهجر الشعب وأن يلزم كل واحد بيته , وأن يسكن الجميع حتى تمر هذه العاصفة الهوجاء .

وفي ذلك الوقت الحرج الصعب كانت هناك أكثر من جهة تتكلم باسم الإخوان , وكان هناك من نادي بجمال عبد الناصر مرشدا عاما للإخوان .. إى والله !

وكان واحد من أعضاء الهيئة التأسيسية يحكي كيف كان في بيت عبد الناصر وهم يهم بالذهاب لأداء العمرة أو الحج – لا أذكر - وكيف ساعده في إحكام ملابس الإحرام على جسده , وكان يحكي القصة على تفاهتها وهو يبكي تأثرا ثم حدث حادث المنشية .

ودخلت الجماعة السرداب إلى حين

أما مصر فتخللتها سراديب الشيطان

الفصل السادس " ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا " حوار مع طاغية صغير

" ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) الأحزاب 67 – 68

قصة التعذيب في سجون الظالمين متنوعة متشعبة كثيرة التفاصيل وقد أمر بها الخنازير , وقام على تنفيذها الكلاب .

وينبغي على من يقرؤها أن يحيط بها ويمعن النظر فيها ويستخلص العظة والعبرة منها وأن يعمل جهده على منع تكرارها وحدوثها .

وإن مات في سبيل ذلك فهو شهيد .

وفي بلاد مثل هذه التي نعيش فيها يصعب منع العذاب والتعذيب والتنكيل قد تغير البشر في بلادنا, واستطاع الظلمة في وقت غير كبير أن يحولوا العاملين في الدولة إلى قطيع من الجلادين والسيافين وكل في مجال اختصاصه , وهم لا يعرفون الرحمة و لا يفكرون فيها ويرونها خورا في الطبيعة وضعفا في الهمة , وهم يمرون على " التنور " مصبحين , وفي الليل فلا يعقلون , وهم يقولون :

- اخسئوا فيها ولا تكلمون .

كما كان يفعل محمد بن عبد الملك الزيات الوزير العباسي مع المعتقلين !

هذا هو منهج الظالمين عبر السنين وهي حجة المستكبرين ومن شايعهم على هذا من صغار الجلادين ." لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة " ويقتلون ويذبحون ويعذبون , وما عليهم من رقيب أو سلطان , لا يعرفون الرحمة , ولم يسمعوا عن الشفقة , وهذا ليس نثرا يقال ,ولكنه واقع عشناه سنين .

ويعيشه غيرنا في هذه الأيام , والظلم صنو الكفر , والقسوة توأم الفسق والضلال .

وعالم الظلمة والجلادين عالم قد عبد الشيطان وسجد له , واستحل الدم الحرام والمال الحرام ,, وهم ربما لا يؤمنون بالبعث والنشور , وإن حدث فلن يهتموا في أى أودية جهنم يكون التكفير عن ذنوب لا تصلح فيها توبة , ولا ينفع فيها تطهير .

وقد ابتلانا الله بحكام حكموا البلاد والعباد بالسطوة والقوة والغلبة أغرقوا الناس في سيل لا ينتهي من الكلمات والشعارات .

وكان هذا غاية ما يمكن أن يقدموه للناس .

ومن اعترض على ذلك قطعوا رقبته وقبل أن يقطعوها سلخوه حيا , وكانوا قد انتزعوا لسانه قبل سلخه وقتله .

عالم سادت فيه القردة وحكمته الخنازير ,وعلت فيها كلمة الشيطان عالم قد غلب فيه الباطل وأزهق الحق .

ولكن إلى حين... وحين قريب بالتأكيد ..

على كل رأس مكافأة

عندما يتحكم فرد في أمة فهي لا تسير إلى خير أبدا , ولابد أن يسوقها هذا القرد إلى مصرعها , ولا يتركها حتى تصير عبرة للأمم فهو يحول السادة إلى عبيد حتى يكون هو السيد الوحيد , ولا يتم له هذا حتى يصير شعبه قد صار أقل قيمة من نعاج شاردة في ليلة شاتية ظلامها شديد .

هذا هو منهج الاستبداد في التاريخ , وهذه هي سطوره مهما اختلف الزمن وتنوعت القرون والثقافات .

وللناس دور كبير في صنع الطاغية وتمكينه من رقابهم ولو شاءوا لما كان هناك طاغية واحد في أي بلد من البلدان .

والمسلمون هم أولي الناس من غيرهم بدفع الظلم عن أنفسهم _ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) ولأن يموت بعض الشهداء في مقاومة حاكم ظالم , أو القضاء علي نظام مستبد , خير من موت الأمور جميعها والقضاء على كل ملكة فيها .

وإني أتذكر الآن كيف كانوا يمسكون بنا من بيوتنا قرب الفجر ونخرج معهم كالدجاج المذعور , ويأذنون لنا بحقيبة بها بعض الأدوات والحاجات لمن أراد ثم يقذفون بها أو يسرقونها , ويدخل الواحد منا زنزانته وحيدا فريدا ليس معه أحد إلا الله .

وكانوا عند الاعتقال يأذنون ويسمحون بأى شئ يطلبه هذا الذي جاءوا من أجل القبض عليه .

وفي العادة لا يعرف القادمون للقبض سبب القبض على وجه التحديد وكل ما يعنيهم هو أن تتم عملية القبض بنجاح علي كل رأس مكافأة فهم يجيبونه إلى كل ما يطلب ما دام سيذهب معهم في النهاية .

أريد أن أصلي ... لا بأس ... فلتصل ..

لم أتناول عشائي ... ما المانع .. تناول عشاءك

أغير ملابسي .. تفضل .. نحن في الانتظار ..

كان هذا يحدث في الماضي ,ولا أدري المنهج والنظام هذه الأيام . بطبيعة الحال هذا هو أسلوب المباحث العامة أو مباحث أمن الدولة بلغة هذه الأيام , فهي أكثر تحضرا وتهذبا من غيرها من الأجهزة في القبض والقمع والتعذيب .

أما أولئك الذين شاء حظهم أن يتم القبض عليهم بمعرفة المباحث الجنائية العسكرية أو المخابرات فالأمر معهم يختلف , فقد كانت قواتهم الظافرة تضرب على سائر من تجده بعد ضربهم وإهانتهم و لا توجد قوائم بأسماء المطلوبين , أو توجد ولكن لا يلتفت إليها ولا يهتم بالأسماء التي بها وفي السجن الحربي يحلها ربنا !

من المسئول؟

عندما جاء الضباط إلى حكم مصر عام 1952 كان كبيرهم يظن أن طريقه إلى الاستبداد طريق طويل وليس سهلا , وكان هذا يورقه ويضايقه وكثيرا ما شك في إمكان الوصول إلى هذا المقام الذي تتسم فيه الألولهية في زعمه .

ولكنه استطاع بعد كفاح أن يعلن للناس بأعلى صوته من فوق منصات الاحتفال :

- أبا ربكم الأعلى .

كان يظن أن الشعب الثائر الذي تعود الحرية سوف يقاوم طغيانه وجبروته ولكنه فوجئ أن الشعب مهيأ لهذا , وأن جميع الناس على استعداد لأن يكونوا عبيدا , وساعدوه ودفعوه دفعا للطغيان والتكبر .

وضاع صوت المؤمنين والراشدين بين الطغاة وجوقة المصفقين الصاخبة قصة عبد الناصر لن تنتهي حكايتها وآثارها قبل قرن وربما أكثر !!

لم يكن عبد الناصر نفسه يظن أن الأمر سيكون له بهذه السهولة التي صارت ويؤكد من عرفه وصاحبه أنه كان يعمل كل حساب للشعب المصري ويخشي منه وكان يجهد نفسه في السيطرة عليه , ورسم الخطط لإذلاله والقضاء على الزعماء الذين يلتف حولهم الناس , وقد تم له ما أراد.

ومن المسئول ؟ الكاتب والقارئ وكل من يعيش في مصر .

الضابط الذي صار إمبراطور

التقيت معه في حفل عشاء .

وكان واحدا من الثوار الذين قاموا في ليلة 23 يوليو 1952 .

وهالني منظره بملابسه الغالية وأزرار الذهب التي تبدو على القميص خارجه بين الكم واليد , والأناقة المتناهية , رغم السن المتقدمة ونظرة التعالي التي يحاول إخفاءها بابتسامة متواضعة كاذبة , ولكنه لا يستطيع .

وجاء حظي أن جلست بجواره على المائدة بين تأففي وقرفي الداخلي أهذا هو الثائر الفقير الذي خرج يوما لإنصاف المظلومين وإعطاء الحق للمحرومين وتحرير البلاد من الجبارين ؟

وبدأ الحديث مترددا وجلا , كل واحد يقدم ويؤخر كلمة أو جملة لا معني لها ولكنها الظروف وحكمها .

وعرف صاحبنا أنني كنت أحد الضحايا الذين لبثوا في السجن سنين .

وأبدي أسفا وحزنا وتأثرا , وتواعدنا على لقاء نتحدث فيه بوعد قاطع مني ألا أحبر عن اسمه أو أذكره .

وكان لقاء...

قصر أو بيت أو شقة هذا لن يهم القارئ في شئ , ولكني أشك أن فاروق كان يعيش في مثل هذا الجو الأسطوري من الثراء والفخامة والخيال .

هذا ما تبقي للثائر الكبير بعد ذهاب السلطة .

ورغم ما هو فيه كان يبدي طيبة وزهدا ويترحم على الشهداء , ويتأسف للمظالم التي حدثت ويضع كل شئ على رأس عبد الناصر .

وأخذ بنا الحديث مناحي كثيرة !

وقال :

كان عبد الناصر يعمل كل حساب لجماهير الشعب المصري فقد كان يعيش فيه , وكان يعرف كل التيارات التحتية التي تحكم الشارع ولا تظهر للعيان , وكان يتخيل حجم التنظيمات السرية وقدرة سلاح المظاهرات وأنه أقوي من كل أسلحة الجيش مجتمعة وأن إسقاط الحكومات سهل على الجماهير لو اتحدت وخرجت إلى الشارع , وكثيرا ما كان يتحدث حول هذه المعاني .

وسكت قليلا يسترجع الذكريات ثم قال :

- كانت هناك بعض عربات " الجيب " تدور على البيوت لتجمع الضباط من بيوتهم ليحضروا اجتماعات مجلس قيادة الثورة في الجزيرة, وانشغلت العربات بإحضار السادة الضباط, وأراد الضابط المكلف بالحملة أن يجامل عبد الناصر فأرسل له سيارة كاديلاك سوداء من سيارات الملك التي صودرت لحساب مصر , أو لحساب السادة الجدد فهم ومصر شئ واحد , على الأقل من حيث الغنائم والأسلاب في نظرهم هكذا قال !!

واستمر يقول وهو ينظر بعيدا عبر الزمن :

- ونزل عبد الناصر من السيارة الكاديلاك الفاخرة وسأل عن ذلك الضابط المسئول عن الحملة , فجاءه يسعي وهو سعيد يظن أن هناك مكافأة .
- وإذا بعبد الناصر يصفعه على وجهه ويسبه سبا قبيحا .

وانتابتني دهشة وأصابني ذهول وقلت :

- يصفعه على وجهه ؟

وضحك الثائر الكبير ولم يرد على سؤالي ولكنه أكمل :

- قال له عبد الناصر وهو يسبه ويضربه : لقد نمت في أرضية السيارة طول الطريق خوفا من أن يراني الناس فتكون الطامة الكبرى ويفتكوا بي .
افهم يا غبي ... الناس يظنون أننا قد جلسنا على كرسي فاروق ونحن قد جلسنا مكانه بالفعل , ولكن لا ينبغي لأحد أن يفهم أننا قد أخذنا ما عنده من سيارات وقصور لنستعملها فإن في هذا نهايتنا .

كان فسادنا أكبر من فساد فاروق

ويقول الثائر الكبير :

- وأخذوا كل شئ وزادوا على ما كان عند فاروق , ولم يفتح مخلوق فمه بكلمة بعد أن ماتت الأمة وانهزم الشعب أمام الجلادين الجدد الذين فاقت ضراوتهم كل من سبقهم ,وقلت له :
- ولكنك كنت أحد المشاركين وأنت ولا ريب أحد الفاعلين .

وسكت الرجل قليلا يستعرض أحداثا مرت عليها سنون , وجرت منذ زمن بعيد , وكأنها ذكريات لا تسره , أو كأنه نادم على ما كان منه واشتراكه فيها وقال :

- صدقت ... ليس من السهل التبرؤ مما حدث , قد اشترك عدد كبير في صنع هذه المأساة , وكنت أحد هؤلاء ولكن لم تكن الصورة تبدو على هذا النحو في مبدأ الأمر , لقد كنا جميعا – باستثناء قلة – من الضباط المخلصين الوطنيين الفقراء , وانصرف نظري إلى القاعة وما فيها من فخامة الديكور وثراء الرياش وأفقت على صوته مستمرا :
- كانت أحلامنا هي الاستقلال التام والتخلص من الملكية الفاسدة ومن سيطرة رأس المال على الحكم وسائر ما سمعت من شعارات لم يتحقق منها شئ ألقيت على مسامع الناس لخداعهم كنا نريد الخير للشعب ونبغي سعادته ولم نكن نعرف أننا نتخلص من ملكية فاسدة مقيدة بدستور وبمجلس من النواب مهما قيل فيه فقد كان قادرا على كبح جماحها , واستبدلنا بهذا ديكتاتورية مستبدة فاسدة طاغية لا يقدر عليها أحد حيث تخشع الأصوات للرئيس , وينعدم الهمس ويعلو جبين الوطن إكليل من العار والفساد .
- لم يكن في تقديرنا أو حسباننا أن هذا يكون .
- كل من نادي بالديمقراطية أو تحدث عن الحرب ضرب على أم رأسه وقال لنا الزعيم إنها الرجعية والثورة المضادة تتحرك لتضيع المكاسب الوهمية التي لم يعرفها أحد ولم يرها إلا عبر الشعارات التي ملأت كل شئ .
- وكل من دعا إلى الإسلام قال لنا الزعيم هؤلاء عملا السعودية وأمريكا ثم قال : الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب .
ولم نكن يومها واثقين أنه الشعب الذي يقصد به هذه المقولة .

ثم أخد جيشا كثيفا من المخبرين والجواسيس يكتبون التقارير ويلفقون التحريات ويضعونها بين يد كبيرهم , ثم يجلسون ويحددون من هم أعداء الشعب .

وجاء علينا وقت كتبت فيه أسماء بعضنا , ونحن الذين قمنا بإنجاح الانقلاب نعم لقد قيدوا بعض أسمائنا في قوائم أعداء الشعب .

ثم اختلطت علينا الأمور ولم نعد نفهم ماذا يجري على وجه التحديد .

ولكن فهمنا أخيرا أن كلمة الشعب تعني الرئيس جمال عبد الناصر وليس لها معني غير ذلك , وظل الأمر هكذا طول الوقت .

وسكت الرجل خجلا مما سرده , قد أصابه حرج بالغ جعل الكلمات تتعثر في فمه , وهو يستلهم المنطق فلا يساعده , وهو الذي عاش حياته كركن من أركان النظام المستبد الذي عاث فسادا باسم الحرية والإشتراكية والوحدة وشعارات أخري لا أول لها ولا آخر , في كنف طاغية شرير لم يعدم من يؤلف له الكلمات وينظم له الأناشيد فيلحنها الملحنون , وتعزف بها الجوقات وينشدها التلاميذ بالمدارس في طابور الصباح .

وصارت الشعارات طقسا من الطقوس على الكهنة أن يؤدوها في قدس الفساد حيث الوثن العظيم الذي لا يجرؤ مخلوق أن يشير ناحيته بيده علامة الرفض والاعتراض .

كل الجرائم بعلم عبد الناصر !!

وقلت مترددا ,وأنا أخشي ألا يجيب أو أن يكذب على :

- يقولون إن الجرائم كانت ترتكب دون علمه .
- وخرج الرجل عن شروده وقال :
- دون علم من ؟
- دون علم الرئيس عبد الناصر .

وابتسم الرجل واتسعت ابتسامته ثم ضحك ساخرا وارتفعت ضحكته وتأملته وهو يضحك وصوت ضحكته يطن في أذني فأرتاب في سلامة عقله , وأشك في قدرته على التركيز.

وتوقف عن الضحك فجأة , وكست وجهه ملامح صارمة , لم يستطع أن يخفيها وتوهجت في عينيه كراهية وحقد وقال:

- كل الجرائم التي ارتكبت في سجون مصر ومعتقلاتها تمت بأمر من عبد الناصر , وبعلمنا جميعا , وهذه أمور يعرفها كل من كان يعمل بالقرب منه , وكنا نخشى أن يصيب الدور واحدا منا , فيجد نفسه في هذا الأتون حيث لن يرحمه أحد وقد كانت تأتينا أخبار التعذيب كل يوم .

وتفرست في الرجل وطرأ على خاطري سؤال :

- هل سمعت عبد الناصر بنفسك وهو يأمر بارتكاب الجرائم ؟
- وعاد الرجل يضحك من جديد وقال من بين ضحكاته :
- نعم بطبيعة الحال , سمعته كثيرا .
- هل تذكر واحدة منها ؟
- وسكت وكسا محياه جد وقال :
- لعله لم يمر عليه يوم واحد منذ قامت الثورة دون أن يأمر بارتكاب جريمة ما ضد واحد أو اثنين أو أكثر ... ولن أنسي يوم كان يلقي أوامره إلى أحمد أنور قائد البوليس الحربي , وإن لم تخني الذاكرة فقد كان ذلك في [يناير]] عام 1954 , وكان الضحية هو أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة .

وقال له عبد الناصر أمامي :

- عايزك " تطرشه الدم " خلي العساكر تضربه بالجزم , بعدما تشبعه أنت ضرب بإيديك , ومتنساش عمر التلمساني وعبد القادر عودة .

وقد كان , فقد ضرب أحمد حسين في هذا اليوم ضربا مبرحا حتى فدق النطق في مبني البوليس الحرب بباب الحديد, حيث مكان عمارة رمسيس الآن , وفي نفس الوقت ضرب زميله عمر التلمساني في مبني السجن الحربي حتى فقد النطق هو الآخر تسألني هل سمعت عبد الناصر وهو يأمر بارتكاب الجرائم ؟ لقد كان هو الذي يرتكبها , كل الجرائم .

وعاد يضحك من جديد في مرارة بالغة .

أنا لا أبرئ نفسي لقد كنت شريكا له في كل ما فعل , وكنا جميعا كذلك كلنا بلا استثناء , لقد شاركنا وسمعنا وأمرنا وفعلنا كل شئ معه , هل كنا مخدوعين ؟ أظن ذلك , تصورنا أننا نقيم بناء جديدا , وأننا نزيل من طريقنا المعوقات , ولم نعرف أننا قد أزلنا مصر نفسها إلا بعد فوات الوقت , وها هي ذي النتيجة أمامي وأمامك وأمام الجميع ,

ومرت لحظة صمت قطعتها بقولي :

- وكيف تقبل أحمد أنور هذا الأمر ؟ هل أبدي حماسا ؟ هل تردد قليلا ؟ هل اعترض ؟ هل تذكر بالضبط ما حدث ؟

وشرد الرجل قليلا وقال :

- نعم أذكر بالضبط ما حدث لأنها واقعة لا تنسي , ولعلهما – يقصد أحمد حسنين وعمر التلمساني – أول زعيمين يضربان في مصر بأمر من الحاكم .
- لقد ذهل البعض , وأبدي البعض الآخر حماسة وإعجابا , وأشاد بشجاعة عبد الناصر , وكان أحمد أنور يردد بصره بين هؤلاء وهؤلاء ثم غلبت عليه نزعته القاسية فقد كان معروفا بيننا بأنه غليظ القلب لا يرحم , واستفاق على زمجرة عبد الناصر وهو يحثه لتنفيذ الأمر , وأسقط في أيدينا وسكتنا , وظننت يومها أن الكون سوف ينهار فهذا شئ جديد لم يحدث من قبل , ولم نسمع به قط , ولكن شيئا لم يحدث ومر اليوم بسلام .
- وتكررت أوامر ضرب الزعماء والكبراء بالأحذية وصاروا يقومون بها بأمر وبدون أمر , حتى حدثت محنة الإخوان المسلمين المروعة , التي فاقت في بشاعتها كل ما حدث في التاريخ القريب والبعيد من مصائب وكوارث أصابت شعبا أو جماعة .
ورأيي أن ما نحن فيه الآن مما نعرف هو عقاب صارم من الله سبحانه وتعالي بسبب من قتل في التعذيب , أو شنق ظلما , أو سجن وهو برئ وقد تم هذا ونحن مشاركون وكل الناس يضحكون ويطبلون ويزمرون .

متى أدركت أن الإخوان مظلومون ؟

طول الوقت , من اللحظة الأولي التي بدأ فيها الصدام بيننا وبينهم .
ولكن غطي هذا الإحساس شعور بالكبرياء الزائفة والخوف من المجهول بالإضافة إلى ما كان ينفثه الزعيم في روعنا من عظمة كاذبة ومن أننا رسل الهداية للمصريين .

عبد الناصر يفكر في القضاء على الإخوان من قبل الثورة

- ومتى بدأ الصدام بينكم وبين الإخوان ؟

- هل تريد الحقيقة ؟

- نعم .
- لقد بدأ الصدام منذ اللحظات الأولي من صباح 23 يوليو عام 1952 أى بعد ساعات قليلة من قيام الثورة.

وامتلأت نفسي دهشة وتعجبا من هذا الكلام وقلت له :

- هذا كلام جديد وغريب وأسمعه للمرة الأولي .
- هذه هي الحقيقة بدأ الصدام مع الإخوان في صباح 23 يوليو عام 1952 وتأكد يوم 26 من الشهر نفسه , أى بعد طرد الملك , تأكد عندما عرفنا أننا قد جلسنا جميعا على كرسي فاروق .

- هل قال عبد الناصر كلاما يفيد هذا ؟

- بالتأكيد .

- ماذا قال ؟

- كنت أهنئه بطرد الملك , وهو أمر لم نكن نظن أنه يسير بمثل هذه السهولة وقلت له إننا قد تخلصنا من كل القوى المناوئة لنا وإن سبيلنا إلى الإصلاح صار واضحا ونستطيع فعل ما نريد .

- ولكن عبد الناصر نظر إلى نظرة غامضة وقال :

- لقد تخلصنا من أضعف أعدائنا خلف الملك طابور من الأعداء يجب أن نتخلص منهم .

وسكت الرجل قليلا كأنه يستعيد الماضي والأحداث ثم قال :

- كنا جميعا نظن أن الحائل دون الإصلاح هو الملك وحاشيته وبعض المنتفعين ولكن عبد الناصر وحده هو الذي كان يعلم أن كل من في مصر هم أعداؤه , وقال هذا بالحرف الواحد.

- ماذا قال ؟

- أمامنا معركة شرسة حتى نطلق أيدينا, لقد بدأنا بالملك وسوف ننتهي بالإخوان المسلمين .

- ويقول الرجل :

- و لا أنسي الدهشة التي تملكتني يومها , وقلت لعبد الناصر إن الإخوان هم حلفاؤنا , وهم الذين يعلمون بالثورة , وهم الذين ساعدونا عليها ,ونحن منهم وهم منا , وقواتهم تحرس المنشآت العامة , وتقف في طريق السويس الآن لمنع أى تدخل إنجليزي .

وصرت أتابعه باهتمام شديد وهو يقول :

- قال عبد الناصر إن علينا القضاء على كل القوي الموجودة بمصر حتى نستطيع تحقيق أهدافنا , وأهم هذه القوي على الإطلاق الإخوان , لأن لديهم ما يقولونه للناس , لديهم برنامج واضح المعالم مستمد من الإسلام , وعندهم قواعد شعبية , ولهم أتباعهم في كل مكان من أرض مصر ولهم أيضا أعضاء في كل البلاد العربية ولديهم مشروع متكامل للتوحيد ومقبول أيضا لدي الناس وفي اليوم الذي نقضي فيه عليهم سوف تظهر قوتنا الحقيقية وقبل هذا علينا بالصبر والانتظار وتهيئة المناخ وكنت أستمع إلى الرجل في ذهول شديد وقلت :

- متى كان هذا الحديث ؟

- في صباح 27 يوليو عام 1952 اليوم الذي تلا طرد الملك .
- علمي أن عبد الناصر كان من الإخوان وكان يرتب معهم
- هذا صحيح ولكنها قصة أخري سوف نتكلم فيها إن أردت .

الجيش هو العدو الذي تبقي

- أظن أنه كان ينتمي للجيش وأظن أنه كان انتماءه الوحيد

سالت المرارة من بين شفيته وهو يقول :

- اكتشف عبد الناصر بعد قضائه على الإخوان أن عدوا عظيما قد تكون في غفلة منه , أعظم من الملك وأقوي من الإخوان , وكان عليه أن يدبر للقضاء عليه , وسألته بحذر :

- الشعب ؟

- لم يعد هناك شعب بعد الاستفتاء الذي حدث عام 1956.

- من ذلك العدو الذي تكون؟

- الجيش .
وقالها في برودة كأنها حد السيف , وصرت أتأمله وأنا في عجب مما يقول وكان ينظر إلى مصمما متحديا كل فكرة قد أعارضه بها وقلت له

- هل تقصد الجيش المصري ؟

- نعم . صار الجيش هو عدوه الوحيد , وفشلت كل محاولاته في التخلص من عبد الحكيم عامر , فقرر أن يحطم الجيش و من ثم يتخلص من عبد الحكيم عامر , وصار يتحين الفرص ويرسم الخطط حتى كانت مأساة يونيو 1967 .

ولم أتقبل هذا الكلام على علاته وقلت له :

- لقد مات عبد الناصر في يونيو 1967 , وأعلنت وفاته رسميا يوم 28 سبتمبر 1970 لا أظنه يقضي على الجيش ويقتل نفسه معه
- هذا ما حدث للأسف .
- يصعب على تصور هذا .

وأشاح بوجهه مستهينا وهو يغمغم :

- كل إنسان حر في تصوره وعدت أقول له في إلحاح :
- عبد الناصر هو الذي دبر للهزيمة في 5 يونيو ؟

وقال بحزم وحسم :

- نعم عبد الناصر هو الذي صنع هزيمة يونيو .

وعدت أتلطف إليه وأحاول أن أفهم :

- تقصد أنه بنظامه الفاسد الذي صنعه هو الذي أدي إلى الهزيمة ؟
- كلا. لقد صنع الهزيمة ودبر لها عامدا وبوعي , للقضاء على عبد الحكيم عامر وعلى الجيش .

- هل هذا معقول ؟

- هذا ما حدث .
- أكرر أنني لا أصدق .

عبد الناصر يفكر في قتل محمد نجيب

- هذا شأنك أن تصدق أو لا تصدق , ولكن لو اقتربت من شخصية عبد الناصر وتفهمتها لصدقت لو رأيته قبل الثورة وبعدها لعرفت ولما تعجبت الذي منعه من قتل محمد نجيب هو خوف الإدانة , وأن أصبع الاتهام سوف تشير إليه وبرغم هذا كان يدبر لقتله, وأعلن ذلك أمام الجميع وأذكر يوم أن قال :

- اليوم هو 23 فبراير , وبعد شهر بالضبط لن يكون هناك ما يسمي محمد نجيب . وطلب منا أن يكون فرقا من القتلة للتخلص من الإخوان المسلمين
- كل هذا معقول , أن يقتل الإخوان المسلمين أو محمد نجيب , ولكن عبد الحكيم عامر صديق العمر , هذا شئ صعب .
- لقد شغل عبد الناصر الجيش في حرب اليمن , وانتهت حرب اليمن , وتكونت طبقة من السادة حول عبد الحكيم عامر , وصارت الطبقة تنظر إلى عبد الناصر على أنه مغتصب لعرش المشير .
الذي ينبغي أن يجلس مكان الرئيس وصاروا يتبادلون هذا الكلام في مجالسهم ولا شك أن شيئا من هذا قد وصل إلى مسامعه وهو حذر بطبعه متآمر بالسليقة وليس بالذي ينتظر حتى يخلعوه .

هزيمة الجيش تقضي على عبد الحكيم عامر

كان الجيش هو القوة التي بقيت تناوئه بعد القضاء على الجميع !

وكان عبد الحكيم عامر ومن معه هم قادة هذا الجيش , ولن يتسني التخلص منهم إلا بهزيمة الجيش هزيمة ساحقة ,يضع فيها أنفه وأنف المشير في الرغام , وكان من السهل تحقيق ذلك مع طغمة من محدثي النعمة قد ملكوا الرقاب , تزوجوا الفنانات وأسكنوهن القصور , فهم ليسوا بالذين يتفهمون جيدا ماذا يدور من حولهم ومن السهل ضربهم والقضاء عليهم وهذا شئ يسير على رجل عاش حياته متآمرا .

وصرت أتأمل في كلامه وأفكر هل يمكن أن يكون هذا معقولا ؟

وقلت له :

- هذه أمور تحتاج إلى إثبات أين الأدلة والقرائن ؟

وابتسم الرجل ساخرا وهو يقول :

- لو رأينا إنسان يقتل آخر , فهل يحتاج الشهود أن يقدموا دليلا على ما رأوه ؟ لا أظن , الشاهد لا يحتاج إلى دليل , بل هو يقول ما رأي , ويفسر الآخرون شهادته كيفما شاءوا , الجرائم والوقائع تفرض نفسها على الوجود , ولا يختلف أحد في تفسيرها .

- تقول إنه قد قضي على الجيش ؟

- أقول إنه قد قضي على الجيش وعلى كرامة الوطن , وصنع من إسرائيل دولة عظمي في المنطقة ليتخلص من صفيه وخليله المشير عبد الحكيم عامر .
- صعب أن أتخيل زعيما يضحي ببلده من أجل الحفاظ على كرسيه أو التخلص من أحد ممن يظن فيهم الخوف عليه .

منطق الجبارين والطغاة

واعتدل الرجل في جلسته وقال :

- يظهر في التاريخ أنماط من الناس تقودهم المقادير إلى الصدارة في بلادهم وهؤلاء الناس تختلط الأمور في رءوسهم فيرون الباطل حقا , والحق باطلا , فهم يحكمون ويظنون أنهم رسل العناية الإلهية وأنهم الوطن والوطن هم , ومن يتطاول عليهم فكأنه قد خان الوطن و تتضخم ذواتهم في نظرهم حتى لا يعودوا يرون في الكون سواها, ولعل هذا بعض ألوهية فرعون ومن سار على نهجه من الجبارين والطغاة فالدولة والوطن شئ صغير بجانب ذاته , وهو يقضي على شعبة من أجل بقائه فهو المهم والأهم أما البلاد , والعباد فيمكن أن نأتي بغيرهم كل شئ يمكن أن يعوض إلا الزعيم الملهم الذي إذا غاب فكأن الشمس قد غابت ولف الناس ليل سرمدي لا نهاية له وهذا يفسر ما يفعله الجبارون .
- كل ما عداهم باطل , وهم يبيحون لأنفسهم فعل أى شئ ما داموا على الكرسي قعودا .

هذا هو منطق الجبارين والطغاة فلا تستغرب أن يفكر عبد الناصر في القضاء على الجيش المصري ليتخلص من رمزة لا يريدها أو تنافسه أو يخشي شرها .

الزعيم هو الدولة والوطن , الذي يخونه الدولة والوطن , وهو منطق قد تغلب وساد عبر التاريخ كله .

- وكيف له أن يتحكم في شعب وهو فرد ؟ وأني له السيطرة على كل من حوله من قوى غاشمة حتى تأتمر بأمره وتنفذ له ما يريد ؟

هناك عوامل ينبغي توافرها اقتصاد قوي , سلع موجودة بالأسواق لا يجد المواطن فيها أزمة كبيرة حلم كبير يبشر به الطاغية , مهابة يحصل عليها من سلاطة اللسان وتهديد القوي التي تحكم العالم وضيق عاناه الناس فهم يحلمون بمستقبل أفضل و وإعلام موجة يعرف ماذا يقدمه للشعب , وفرق للأمن قد فقدت استقلالا ورؤيتها وكل منهم ليس غير " ترس " صغير في آلة ضخمة لا يملك غير الدوران عندما يضغط الزعيم على الزر الموضوع أمامه .

أما الطاغية نفسه فهو متشكك في كل من حوله ينتظر رصاصة تصيبه من أقرب المقربين إليه ينام وتحت وسادته مسدس قد حشاه بالرصاص وهكذا كان يبيت عبد الناصر ومن بعده كان يفعل السادات , فهو غادر ولا ينتظر غير الغدر من الآخرين لا ينام الليل إلا بالمهدئات والحبوب , وأى صوت يفاجئه يمتلئ رهبة وخوفا منه وهذا هو الحال مع كل أتباعه .

وهو عندما يسلب الناس أموالهم يحولهم إلى قابضي مرتبات , من ينقطع عنه راتبه يموت هو وأولاده من الجوع أو يسجد للصنم , وهو مضطر لفعل هذا في النهاية , فهو يؤمم الأموال والشركات ليس من أجل العدل ولكن من أجل القضاء على أية قوة قد تعترضه يوما أو تفكر في ذلك .

وهو في بطشه وقوته لا يعرف أبا أو أخا أو زميلا أو رفيق سلاح.

كان من بعض من يعمل لهم عبد الناصر كل حساب الإخوان : جمال سالم وصلاح سالم وذلك لجرأتهما ووقاحتهما ولفهمهما لطبيعة عبد الناصر .

وكيف انتهي جمال سالم ؟

مات وهو يتجرع غصص العذاب في المستشفي وزاره عبد الناصر في أواخر أيامه , وكان الألم يفتك به , وفشلت جميع المسكنات , فكان يضرب رأسه في الحائط حتى يشجب دما لعله يستريح بلا فائدة .

ألم قاتل ممض أعيا الأطباء تخفيفه عنه , فبطنوا جدر الغرفة التي يبيت فيها بالمطاط حتى لا تؤذي رأسه حين يضربه في الحائط .

وزاره جمال عبد الناصر تحت ضغط من زملائه , وحتى تحسن صورته أمام الناس وانحني جمال سالم عندما هم عبد الناصر بالمغادرة وتمسك به جمال سالم واحتضن ساقه , وعبد الناصر يدفعه حتى وصل بفمه إلى حذاء عبد الناصر وقبله متوسلا أن يبقي فقد صار الزعيم هو الذي يملك مقدرات كل شئ , ويملك أيضا أن يشفيه مما هو به , ورفسه عبد الناصر بقدمه وهو يغمغم :

- ماذا أفعل لهذا المعتوه ؟

وخرج عبد الناصر من غرفة جمال سالم وتركه ينتحب باكيا من الذل والألم , ثم مات موتة الكلاب يعوى ويصرخ دون أن يستطيع أحد له شيئا , هو انتقام الدنيا تمهيدا للحساب في الآخرة عند البعث .
ولم يره عبد الناصر بعد ذلك.
وكانت جنازته أضحوكة مصر.. ووضعت جثته على عربة مدفع , وقد غطيت بعلم جديد لمصر لا يدري أحد ترتيب ألوانه حتى الآن , فهو قطعة من القماش قد اختلط فيها السواد بالحمرة وبينهما شئ أبيض , ولا يعلق في ذهن أحد ترتيب هذه الألوان رغم تطاول السنين ومرورها .

سبعة من المشيعين وخمسون ألفا من المباحث والمخبرين .

وذهب وحيدا فريدا حيث الحساب الدقيق , وكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها , وكل ما قاله في مضابط محكمة الشعب مكتوب .

قطعوا أمعاءه قبل أن يموت ,استأصلوا ورما من رأسه بعد أن حطموا جمجمته , نشروا عظام أضلعه لتضخم كليته .

لم ينطق بالشهادة عندما جاءه الموت , بل كان يعوى ويرتفع بنباحه من الألم والندم حتى سمعه كل من بالمستشفي .

وهذه هي احدي نهايات الظالمين ولله صور شتي في عقابهم قبل أن يفدوا إليه ليعتبر الناس, وليعلموا أنما هو إله واحد , وأن الظلم لمحة من الزمن , تتبخر مع شروق الشمس وغروبها , حتى تأتي إلى نهايتها وتصير ذكري يمقتها الناس ويسبون صاحبها ويلعنونه ما دام اسمه يذكر ويتردد أو كلما ذكر وتردد.

وكان هذا الجمال سالم في الأمس القريب يملأ الدنيا ويشغل الناس في كل ما يأتيه من أعمال , ويأمر فيسجن من يريد , وينظر فيقتل من يشاء بغض النظر عما فعله هؤلاء الضحايا من أعمال .

وصلاح سالمهو الآخر صورة من الانتقام الإلهي البالغ .

يمضي زمن يسير فيتحول عنه السلطان والهيلمان ويذهب فيقترض من هنا وهناك , ويأتي خبره إلى الزعيم فيأمر مدير بنك من البنوك , فيقدم له سلفة يصلح بها من أحواله ويستنيم المسكين للمال الحرام الذي حصل عليه , ويعكف على الخمر ينسي فيها أحزانه ومذلته , فينطلق لسانه ويتطاول على الرئيس , ويذهب خبره إلى الرئيس , فيأمر أعوانه فيطالبونه بالسلف والقروض التي بني بها قصرا وملأه بالرياش , ثم يهددونه بتوقيع الحجز عليه وبيع هذه الممتلكات وضياع النعيم المقيم الذي عاشه , وتضيق الدنيا به فيذهب صاغرا ذليلا , ويقبل حذاء الزعيم في جمع من الفراعين الصغار .

هذا هو تاريخ مصر الحديث وهذا ما جري لرفاق الزعيم الذين شاركوه في سرقة مصر وإلحاق الذل والهوان بشعب مسكين قد أحيط به ,لم يعد يملك من أمر نفسه شيئا .

ثم يموت بالطريقة التي مات بها أخوه ويطويه النسيان بعد أن تجرع من نفس الكأس التي سقي بها كثيرا من المواطنين الأبرياء وأظنك تعرف ما حدث لى , ولا داعي لذكره من جديد حتى لا يعرفني من يقرأ. وتأملته قليلا وقلت له بعد قليل من التردد :

- أنا أقول إنه رجل متحمس قد أخطأ الطريق إلى إصلاح مصر , أراد الاستقلال ودعا إلى مجتمع جديد’ ولم تكن ملكاته تسمح له بمثل تنفيذ هذا المشروع , اتخذ الديكتاتورية والطغيان سبيلا إلى الحكم والغلبة فهزمه منطق الطاغية الذي يعيش في داخله كان يري أن رأيه هو الصواب وأن رأي غيره فساد وخطأ , استعان بمن يثق بهم , دون الأخذ في الاعتبار ما يعرفون وما لا يعرفون , فأهلك الحرث والنسل ولكن دون قصد , كان يريد الخير ولم يعرف الطريق إليه , هذا هو اجتهادي في الزعيم الذي هلك .
وضحك الرجل ضحكة عالية مدوية ثم قال .
- هذه سطحية في تناول الأمور , الطاغية طاغية , الظالم ظالم , ويستوي عمله ونتائجه , وليس هناك ديكتاتور حسن النية وآخر سيئها كل منهم يعمل أعمالا تؤدي إلى الخراب, خراب المنشآت والنفوس , يترك الطاغية بلده بعد أن يقضي على كل شئ فيه, وهو يتركه بعد أن يفرغ مجتمعه من الرجال وهذا ما فعله عبد الناصر كل من تبقي في مصر بعد ذهابه لا يصلحون لعمل سياسي أو اجتماعي , ما زال صوت أسياط في آذانهم وما زالت لسعادته على أجسادهم وعلاماتها لا تذهب أبدا حتى يموتو , يحتاج إصلاح ما أفسده عبد الناصر إلى ثلاثة أجيال ويحتاج أيضا إلى ذهاب هذه الحكومة بكل ما فيها من عوامل الفساد والانحلال , قد تغيرت البنية الأخلاقية للمجتمع المصري وتغيير ذلك إلى أجيال تتعاقب أو ثورة وليس انقلابا ومن ثم نبدأ من جديد وظني أن هذا أمر مستحيل .

الرئيس يضرب الوزراء

وقلت له بصوت خفيت:

- كأنه مثل فرعون الذى ذكره القران.

وانبري محتجا معترضا :

- كلا يا سيدي .. لا وجه للمقارنة على الإطلاق .
- هل كان فرعون أطغي وأكبر ؟

-: كلا.. الفرق بينهما كبير’ فرعون الذي ذكره القرآن الكريم كان جبارا ولكنه كان مهذبا , وكان يقبل المناقشة هل رأيت أو سمعت أن فرعون كان يضرب وزراءه ؟

وأبديت اهتماما شديدا وقلت له :

- ماذا تعني ؟ هل كان عبد الناصر يضرب وزراءه ؟
- هناك حادثة رأيتها بنفسي .
- وامتلأت دهشة وعجبا .

- وكيف كان ذلك ؟

وبدأ الرجل يروي القصة وأنا أستمع إليه في انتباه شديد وقال :

- لم يستخدم عبد الناصر حقه الدستوري في ضرب القوات الانفصالية التي أعلنت استقلال سوريا عن دولة الوحدة عام 1961 , هذا دون الدخول في تفاصيل القصة من أن سوء إدارة الحكم هو السبب في حدوث هذا الانفصال , وأنه كان عليه أن يمنعه والحق معه والقانون الدولي في صفه , وتخيل أنت أن محافظ الإسكندرية مثلا يفكر في الاستقلال بالمدينة وإعلان جمهورية بها , هل يعتب عليك أحد لو أرسلت إليه قوات الأمن المركزي تدكه دكا ؟ وما بالك لو كانت هذه القوات تذهب لأهون من هذا السبب ؟

والطاغية جبان لا يحسن المناورة , ولا يقوي على الحرب , ومن ثم استسلم وترك الانفصاليين يفعلون ما يشاءون .

انتهت دولة الوحدة وظل اسم مصر الجمهورية العربية المتحدة لسنين عديدة وظل الناس والدولة يحتفلان بعيد الوحدة يوم 22 فبراير من كل عام ولا أدري هل ما زالوا يحتفلون به أم لا ؟

وقاطعته قائلا :

- تحدثت أنه قد ضرب وزيرا

وقال لى :

- هذه مقدمة لابد منها

- واستمعت إليه من جديد :

- أصيب عبد الناصر في مقتل بعد انفصال سوريا , وعرف العالم كله – إلا مصر – أنه السبب الرئيسي فيما حدث .

وكعادته أراد أن يفرغ غضبه في مصر والمصريين فهم من يقدر عليهم وأصدر قانون العزل السياسي , وهو باختصار حرمان كل من شارك في الحياة السياسية قبل الثورة من ممارسة حقوقه السياسية بعد صدور هذا القانون .

ورغم أن هذه الحقوق السياسية شكلية فإنه حرمهم من ممارستها منعهم من حق التصفيق له في الاتحاد الاشتراكي ولم يستثن أحد من ذلك .

وكانت تهمة هؤلاء أنهم قد اشتركوا في إفساد الحياة السياسية قبل الثورة .

بمعني أنه مثلا , كل من كان عضوا في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ ينطبق عليه قانون العزل السياسي وهكذا ! ثم غادر القاهرة إلى برج العرب حيث يستريح من جراء ما حدث , وترك زكريا محيي الدين مسئولا عن البلاد والعباد .

وكان وزير العدل آنذاك المرحوم فتحي الشرقاوي .

وذهبت إليه مجموعة من المحامين منهم المرحوم على الخشخاني وطلبوا منه استثناءهم من قرار العزل السياسي لأنهم لم يفسدوا الحياة السياسية قبل الثورة , وأنه من السهل تبين هذا ومعرفته , وصار أخذ ورد بينهم , ورفعوا الأمر إلى زكريا محيي الدين الذي قال إن هذه من الأمور التي لا يمكنه البت فيها , واقترح أن يعد مشروع قانون باستثناء هؤلاء المحامين وكان قد تأكد من أحقيتهم في ذلك .

وقال إن هذا المشروع يوضع في " البوستة " على مكتب الرئيس ليطلع عليه بنفسه ويبدي رأيه فيه منفردا .

وكان من عادة عبد الناصر ألا يستعجل في أمر قد عرض عليه .

يوضع البريد على مكتبه ويخرج من عنده في الوقت الذي يريد .

وهكذا مرت الشهور بعد عودة عبد الناصر من برج العرب دون أن يجرؤ أحد على سؤاله .

ومشروع القانون على مكتبه لم يوقعه ولم يبد فيه رأيا .

ومرة دخل عليه فتحي الشرقاوي .

وتلطف معه الرئيس وسأله عن أهله وعن أحواله .

وتشجع فتحي الشرقاوي وكنت هناك مصادفة !

وسأله وزير العدل عن ذلك المشروع بقانون باستثناء على الخشخاني وآخرين من قانون العزل السياسي .

ولن أنسي ما حدث حتى أموت .

قام عبد الناصر من كرسي مكتبه متجهما رغم ابتسامته الصفراء واقترب من فتحي الشرقاوي وقال له :

- بتدافع عن الرجعيين يا ابن ...

ووصف أم معالي الوزير بصفة يعاقب عليها القانون أفراد الشعب العاديين لو قالها بعضهم لبعض .

وصار يصفعه على وجهه ويلكمه في صدره , ويضربه بقدمه في مؤخرته ويسبه سبا مقذعا .

وقلت له مذهولا :

- وماذا فعلت ؟

وقال لى :

- لم أفعل شيئا .

لقد تجمدت من الرعب .

- وماذا فعل الوزير ؟

- كان يقف أحد السعاة الذين يقدمون القهوة لعبد الناصر وكان أثيرا لديه مقربا منه فأخذ بذراع الوزير يخرجه من مكتب الرئيس وهو يوبخه ويقول له : وزير عدل إيه وأنت بتتدخل في أشياء ليست من اختصاصك .
- ثم طرده من الوزارة في أول تعديل جاء بعد ذلك !

وزير العدل المصري ضربه الرئيس بالشلوت وصفعه على وجهه ثم أشبعه ضربا وسبا , وتم هذا أمامي .

وصرت أتأمل في حديث محدثي مذهولا متعجبا , فهو أسلوب للحكم لا يتناسب مع العصر الحديث بكل المعايير .

فأنا أفهم أن يأخذونا نحن المواطنين العاديين ويقوموا على اعتقالنا وعلى تعذيبنا ويحتجزونا سنوات طويلة أما أن يقوم الزعيم بنفسه بضرب الوزراء على هذا النحو الغريب الفريد فهو أمر يستعصي على التصديق , ويتم ذلك أمام شخصية مهمة أخري مسئولة وهو ما يفسر كل فساد وخسارة قد تم حدوثها في هذه الأيام الغريبة .

فقد كان يكفيه عدم الموافقة على المشروع وإعلان ذلك وإبداء مساوئه إن أراد بمعني أن يناقش الأمر مع الوزير , أما أن يضربه بالحذاء ويسب آباءه وأمهاته فهو بذلك يمنعه ويمنع غيره من تقديم أى اقتراح للإصلاح .

ولعل في هذه القصة تتمثل " فلسفة الثورة " الحقيقية!

وهي الضرب , والضرب الحقيقي وليس المعنوي , وقتل أى توثب أو شعور بالكرامة في نفس كل من يتصل بالزعيم, سواء كان هذا الاتصال مباشرا مثل كبار المسئولين والرفاق الذين قاموا معه بالهجمة على مصر في 23 يوليو عام 1952 .

أو غير مباشر مثل أولئك الذين خالفوه في الأفكار من مختلف الاتجاهات الوطنية كالإخوان المسلمين والشيوعيين وأصحاب الاتجاهات الأخرى .

وكانت آخرة خدمة الغز علقة دائما كما يقولون !

الصاوي أحمد الصاوي الأسطى المحترم نقيب العمال , أخذ ألفين من الجنيهات رشوة , قدمها له إبراهيم الطحاوي , ونشر صورة الشيك أبو الخير نجيب رئيس تحرير جريدة الجمهور المصري في أيام الثورة الأولي واستطاع أن يحرك الدهماء والغوغاء , وعمال السكك الحديدية في إضراب كبير احتجاجا على الحرية والديمقراطية وعلى إجراء الانتخابات .

واستجاب القتلة واللصوص لرغبة الدهماء الذين حركوهم بالفلوس ,وأعلنوا إلغاء الحرية والديمقراطية , واستمرار الثورة تقبض بيد من حديد , وتجعل أعزة الناس أذلة وتفسد وتخرب في كل أرض مصر .

وتصادف أن أعلن عن اجتماع لمجلس الدولة يرأسه الدكتور عبد الرزاق السنهوري ومن سخرية القدر أنه كان اجتماعا عاديا لبحث الترقيات والعلاوات والتعيينات .

وذهب حسين عرفة رئيس البوليس الحربي وكبير البلطجية آنذاك وفتح باب مجلس الدولة الذي أغلق بالجنازير عندما أحاطت قوات الدهماء به ودخلوا وضربوه السادة المستشارين بالأحذية , وهم يهتفون يسقط " العلم والمتعلمين " .. تسقط الحرية والديمقراطية .

هكذا !!

ونقل السنهوري إلى المستشفي مغشيا عليه .

وبدأ في مصر عهد جديد هو عهد ضرب الكبراء الوزراء وأهل الرأي بالأحذية على رءوسهم من أجل التقدم والازدهار .

وخيم الظلام على ربوع مصر .. وما زلنا نعيش فيه .

الشعب المصري نمرود ويجب إزلاله

وعدت إلى محدثي وكان من الطغاة الصغار الذين ساعدوا الزعيم , وارتكبوا في سبيله الجرائم التي يندي لها الجبين , ثم أحس بالتوبة والندم بعد أن أوشك العمر على الانتهاء وقال :

- قد سألتني عما إذا كان عبد الناصر يعلم عن جرائم التعذيب التي ارتكبت , وقد عرفت الحقيقة , لقد كان هو يمارسها بنفسه .

وقد بدأت هذه الجرائم مع الشهور الأولي للثورة .

بدأت بالقتل عبر محاكمات صورية مضحكة استهدفت أول ما استهدفت العمال المساكين بكفر الدوار .

شغب مثلما يحدث في أى زمان ومكان .

ضرب البوليس النار في المليان على غير العادة .

أصر الزعيم الملهم – ولم يكن في ذلك الوقت ملهما بعد – على إجراء المحاكمات في مكان الشغب بكفر الدوار .

وذهب أحد زبانية الثورة وكان اسمه عبد المنعم أمين , وترأس ما أسموه محكمة آنذاك واتفق الزعيم مع عبد المنعم أمين أن يقدموا قربانا للاستبداد , وكان عليه أن يحكم بالإعدام على رجلين أى رجلين من العمال .

وكانت الضحيتان هما البقرى وخميس .

عالمان يتيمان في المدينة .

محاكمة هزلية مرتجلة رئيس المحكمة جاهل حانق غير مؤهل .

جرت المحاكمة في ساحة بلا أوراق , وبلا معني ليس هناك اتهام محدد ...حتى شهور الزور لم يتمكنوا من العثور عليهم !

والبقري يصرخ بين الوحوش :

أنا مظلوم يا سعادة البيه وحياة " الختمة " مظلوم ..
وكان خميس ينظر في ذهول إلى من حوله , وهو لا يدرك حقيقة ما يدور وتبادلت المحكمة الأنخاب والكلام .
ليست هناك وقائع محددة .
ولكن هناك أنياب مكشرة , وأظافر مشرعة , ومشانق قد نصبت ولابد من تقديم قربان ليتعظ الأفندية في القاهرة وليعلموا أنما هو زعيم واحد , وأن عهدا جديدا قد بدأ .

وحتى تكتمل الملهاة قال رئيس المحكمة :

- لابد من محام ليدافع عن المتهمين .
وضحك الموجودون , فقد ظنوا أن رئيس المحكمة يتلطف ويداعبهم .

ولكنه قال :

- أنا أتكلم جد.

ألا يوجد محام هنا ؟

وزاد ضحك الموجودين .
بطبيعة الحال لا يوجد محام وهي محكمة هزلية شكلية , والمطلوب هو قتل اثنين من المساكين .

وعاد عبد المنعم أمين يقول :

- نريد محاميا , لابد من محام يدافع عن المتهمين .
وتلفت الناس من حولهم هازئين ساخرين يتبادلون الابتسامات وهم لا يصدقون أن الرجل جاد في كلامه .

وقام أحد الصحفيين وهو الأستاذ موسي صبري وقال :

- أنا حاصل على ليسانس حقوق .

- وقال له عبد المنعم أمين :

- وماذا تفعل هنا ؟

- أنا أغطي حوادث المحكمة للجريدة .
- وحاصل على ليسانس حقوق تبقي محامي , هيا قل لك كلمتين ..
ولكن إياك وكلام المحامين الفارغ .. التأجيل للإطلاع... ومناقشة شهود الإثبات وسماع شهود النفي ... الأمر كما تري ليس هناك ما تطلع عليه ولا يوجد شهود للإثبات أو النفي ,,, ويجب أن ننتهي من هذه المحاكمة الآن .

ووقف الصحفي الشاب الحاصل على ليسانس الحقوق والذي لم يقف قط أمام محكمة في حياته , وفعل مثلما أمره عبد المنعم أمين , وقال كلمتين ليس لهما معني بين إعجاب رئيس المحكمة واستحسانه .

وتم شنق البقري وخميس .

وقلت له :

- لعل هذه الحادثة لا دخل للزعيم الملهم بها .

وابتسم الرجل في مرارة وقال :

- لقد كنت أعيش الأحداث أيامها ساعة بساعة وقد قتل البقرى وخميس إرضاء للسفارة الأمريكية التي لم تتدخل تدخلا سافرا , بل فهموا أن هذا التصرف يرضيها منعا لحدوث شغب شيوعي في زعمهم .

وكنت أعارض معارضة شكلية لأسمع منه أكثر .

المخابرات نشأت على تلفيق القضايا

وقال :

- في أول أيام الانقلاب وقبل أن يتحول إلى ثورة وكنا نطلق أيامها عليه اسم " الحركة المباركة " صنع عبد الناصر جهازا هزيلا للمخابرات وكان يقوم عليه أحمد أنور مدير البوليس الحربي , وحسين عرفة أول رئيس للمباحث الجنائية العسكرية .
- وكان جهازا ساذجا غير مدرب لا يفهم عمل المخابرات ولا يدرك مهمتها وليست بأيديهم أدوات لهذا وكل ما يعرفونه أنهم مسئولون عن جهاز المخابرات أو يقومون على إنشائه , وكان عليهم أن يتفوقوا على القسم المخصوص أو البوليس السياسي آنذاك فقد كان مجال عملهم الرئيسي هو الجيش , والبحث بين ضباطه وجنوده عن أعداء الزعيم للتنكيل بهم , تم اتسع نشاطهم فشمل الشعب كله بعد ذلك .
- ولم يكونوا فاهمين أو مدركين وهم ضباط صغار غير مثقفين ونصيبهم من التعليم ضئيل وكل ما عندهم مجرد معلومات عامة عن أعمال التخابر وهذا المعلومات مصدرها " روايات الجيب " التي كانت منتشرة في ذلك الوقت والذي كان يترجمها إلى العربية عمر عبد العزيز أمين .

فماذا فعل أحمد أنور وصاحبه؟

صاروا يدسون الضباط من عملائهم لزملائهم فيغرونهم بالخروج على الزعيم ويذكرون لهم ما يعيظهم ويحرضونهم فإن أبدوا تعاطفا أو موافقة قبضوا عليهم وصنعوا لهم قضية .
بدأ جهاز مخابرات الثورة هكذا واستمر على هذا الحال بعد أن تطور .
وأساس القضايا السياسية هو التلفيق في المقام الأول , على ذلك يمكنك تصور ماذا حدث في تلك السنين السوداء التي مرت ..

وقلت له متعجبا :

- قضايا ملفقة للضباط ؟

نعم وأشهر هذه القضايا البكباشي حسني الدمنهوري وهذا البكباشي تم تعذيبه وضربه بمعرفة صلاح سالموزكريا محيي الدين , ثم ضرب أمام الزعيم بمبني قيادة مجلس الثورة .
وحوكم أمام المجلس الذي يرأسه عبد الناصر من الساعة السادسة صباحا , وانتهت المحاكمة في الساعة التاسعة صباحا , وحكم عليه فيها بالإعدام , ووضع القيد في يديه ورجليه , وألقي في عربة , ووضع في السجن الحربي تمهيدا للتنفيذ وثار الجيش وانتفض سلاح الفرسان , وكان من حسن السياسة أن يخفف الحكم إلى المؤبد لقد بدأ التعذيب في مصر بتعذيب الضباط والجنود تأكيدا للحكمة الشهيرة " من أعان ظالما سلط عليه "
فإن كانوا قد قاموا بتعذيب زملائهم من الضباط والجنود الذين قاموا معهم بالانقلاب فهل تراهم يتورعون عن تعذيب المدنيين الذين يرونهم دونهم , مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة ؟

وقلت له مستسلما :

- معك الحق .
- وينبري صاحبنا مسترسلا :

وتسمع في هذا المجال قصصا وأحاديث لولا أنني عشتها وعاينتها بنفسي لما صدقتها لغرابتها وبعدها عن المنطق السليم .

الضابط حسين حمودة أحد الذين قاموا ليلة 23 يوليو 1952 .
كان يجلس على مقهى بميدان الأوبرا هو وصديقه الدكتور محمد حسين غراب ثم قاما منصرفين إلى منزليهما .
وركبا سيارة الدكتور غراب في طريق العودة .
ولمح حسين حمودة واحدا من زملائه الضباط يسير على الرصيف .
فطلب من الدكتور غراب الوقوف , وياليته ما فعل .
سأل زميله إن كان في طريقه إلى البيت فيمكنهما توصيله .

وفي الطريق صار هذا الضابط يتحدث عن ديكتاتورية جمال عبد الناصر , وأنه ينبغي على الضباط الأحرار أن يعملوا على إيقاف هذا الفساد .

وصار حسين حمودة والدكتور غراب يطيبان خاطره , ويقولان له إن المسألة ليست إلى هذا الحد من السوء , ولعل بعض الأخطاء تكون مقبولة في ظل تغيير دولة أو مجتمع .

وجاءت المحطة التي نزل بها هذا الضابط وانصرف وعاد حسين حمودة وزميله الدكتور غراب إلى أحاديثهما العادية حتى انصرفا إلى بيتيهما .

ولم يكن حسين حمودة واشيا أو خائنا وكلمة من صديق غاضب لا تستدعي التبليغ بل عليه نسيانها كما يفعل أى رجل شريف , وليس هناك من خطر يترتب عليها وهذه أحاديث يتردد مثلها الكثير في هذه الأزمنة .

وكان صاحبنا الضابط ممن جندهم أحمد أنور للسير في الطرقات يصنعون القضايا الملفقة لزملائهم فتزداد أهمية الجهاز في عين الزعيم .

وفوجئ حسين حمودة بالبوليس الحربي يأخذه مخفورا إلى مكتب عبد الحكيم عامر زميله ,وهناك فوجئ بعبد الناصر يجلس إلى مكتب عبد الحكيم .

وسأله عبد الناصر إن كان قد التقي والضابط عبد الواحد سبل .

وأجاب حسين حمودة أنه يلتقي معه كثيرا ولم ينتبه إلى الحديث الذي دار في السيارة وما ينبغي له الحديث فيه , فهي أحاديث كانت منتشرة بين الضباط في هذه الأوقات .

واكتشف حسين حمودة أن معلومات عبد الناصر عن القصة مختلفة تماما عما جار من حديث في السيارة من أنه – أى حسين حمودة – قد طلب من سبل التعاون في عمل انقلاب .

وانبري حسين حمودة ينفي هذا بحماسة وصدق في الوقت الذي كان عبد الناصر يضغط على الجرش فيدخل ضابطان من البوليس الحربي فيأخذانه إلى حيث لا يعلم أحد .

وكان هذا يحدث كل يوم .

رجل ألقت المقادير في طريقه بدولة وأراد أن يأخذها خالصة له واستعان على ذلك بمن يساعده على الرئاسة ومن يمكنه منها , وفعل في سبيل ذلك كل ما نهي الله عنه , وارتكب ما يترفع عنه الفضلاء والشرفاء وقتل وسرق وزور وكذب وضرب ولكن الله انتقم منه وجعله عبرة لمن خلفه .

وقلت له مبتسما حذرا :

- ويسألونك عن حادث المنشية .

وقال منطلقا :

- حادث المنشية من الحوادث العجيبة التي لم يكشف سرها بعد , ولكنه يسير مع منهج عبد الناصر في التآمر وهو بالتأكيد ملف ومصنوع للتخلص من الإخوان المسلمين ومن محمد نجيب .

واعترضته قائلا :

- كل هذه المدة ولم يعترف أحد أنه شارك في تدبير هذا الحادث ؟
- يوم 19 مارس 1954 انفجرت أربع قنابل في أنحاء القاهرة , ولم يعرف يومها من الذي فجرها , ثم اعترف عبد الناصر أمامنا بعد ذلك أنه الذي قام بتفجير هذه القنابل لإثارة الذعر والقلاقل . وحتى يومنا هذا لم نعرف على وجه التحديد من قام بتنفيذ ذلك لحساب عبد الناصر .
- هذا هو منهجه : لم يكن يثق بأحد , وله أعوان مختلفون , ولا يعرف أحد عن الآخر شيئا , وكان حريصا على ذلك , حتى يتنافسوا في إرضائه وفي تنفيذ ما يريد .
- وإن كان تفجير القنابل أمرا غامضا فحادث المنشية أقل غموضا منه .
وأصابع الاتهام تشير إلى البعض .

وأحكي لك قصة :

كانت العلاقات بالغة السوء بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر كما يعرف الجميع ولعلك عرفت كيف أخذه حسن التهامي وكمال رفعت إلى صحراء مصر الجديدة وأوسعوه ضربا , ولم يحترموا منصبه كرئيس لجمهورية مصر .

وترتفع ضحكة الرجل مجلجلة وقلت له :

- ما الذي يضحك ؟

وقال هو يغالب الضحك :

- إن كانوا قد ضربوا رئيس الجمهورية وهو لا يزال رئيسا للجمهورية فهل يتورعون عن ضرب وتعذيب بعض المعتقلين العاديين ؟

ووجدته منطقا صحيحا وقلت له :

كلامك معقول .

التخلص من الإخوان بقتل محمد نجيب

واستطرد قائلا :

- قبل حادث المنشية بأيام ذهب عبد الناصر إلى بيت محمد نجيب , تودد إليه وتصالح معه وسط دهشة محمد نجيب لهذا التحول المفاجئ في العلاقة بينهما وقال له عبد الناصر أن هناك اجتماعا في المنشية يوم 26 أكتوبر ويود لو يذهب محمد نجيب إلى هذا الحفل ويخطب في الناس لتأكيد معاني الإخاء والوحدة بينهما وتفاءل محمد نجيب خيرا ووعد بالذهاب في الموعد إلى الإسكندرية .
- ويتدخل القدر ويصاب الرئيس محمد نجيب بالأنفلونزا في نفس اليوم , وترتفع درجة حرارته , ويذعر عبد الناصر ,ويزوره أكثر من مرة في اليوم , وأحس محمد نجيب بالخوف .

وشعر بعريزته أن هناك ما يدبر له وزاد مرضه وازداد تشبثه بالفراش وفي اليوم الذي سبق احتفال المنشية قال لعبد الناصر :

- يبدو أنني لن أستطيع الذهاب إلى الإسكندرية يوم 26 أكتوبر .
- وحاول عبد الناصر أن يثنيه عن عزمه فلم يفلح .
- ولما يئس عبد الناصر من ذهابه تجهم وجهه وبدا الغضب عليه وغادر غرفة نوم الرئيس وهو ينهره بفظاظة وقسوة وقال له :
- عنك ما جيت .

وعندما سمع محمد نجيب الخبر من الإذاعة يوم 26 أكتوبر وأن عبد الناصر قد نجا من محاولة الاغتيال أدرك سر إصراره على الذهاب لإلقاء خطاب هناك .

كانت الخطة واضحة المعالم في ذهن محمد نجيب .

وكان المقصود هو إطلاق رصاص حقيقي عليه .

يتخلص عبد الناصر من محمد نجيب , ويقبض على الإخوان المسلمين .

خطة قد رسمها أحد رجال الجستابو الألمان الذين عرضوا خدماتهم علينا في سنوات الثورة الأولي .

وقلت له :

- هل هذا هو رأيك ؟

وقال لى :

- هذا رأي الرئيس محمد نجيب .

وتعجبت:

- هل يفكر عبد الناصر في قتل محمد نجيب ؟
- لقد قال هذا مرة في صراحة كاملة أمام مجلس قيادة الثورة .

القضاء على مقومات الأمة المادية والمعنوية

وقلت له :

يبدو أن الناس ينظرون إلى الحكام نظرة مثالية خيالية بعيدة عن الواقع
- هذا صحيح .
- يستحيل على الإنسان العادي أن يتصور هذا الضرب من السلوك.
- ربما لا تجد هذا السلوك العدواني في تصرفات الإنسان العادي الحاكم في بلادنا يفكر دائما في الجريمة ويفعلها يقتل ويضع وزر هذا على واحد من أتباعه , فالعظماء لا يقتلون . أو تغلف الجريمة بستار كاذب من مصلحة المجتمع والبلاد .

- وقلت له :

- هذه طبيعة الأشياء فالذي يقبض عليه بتهمة عمل انقلاب أو ثورة هو في نظر الدولة والناس متآمر وإرهابي ومجرم ويحكم عليه بالإعدام
ولكن لو نجح فهو المنقذ من الضلال , وهو البطل العظيم ومخلص البلاد وهو الزعيم الملهم , وتضاف إلى اسمه كل صفات الربوبية والعياذ بالله واعتدل في جلسته وقال :
- خذ مثلا عبد الناصر .
- ماذا عنه ؟

- حتى مات والناس تهتف باسمه وهو لم يفعل خيرا على الإطلاق وقلت له :

- لعل في هذا بعض المبالغة .
- أنا لا أقول كلاما إنشائيا , بل أقرر واقعا تعيشه بلادا لا أحد يدرك حجم الخراب الذي أصاب هذه البلاد من فعل عبد الناصر , سوف أذكر لك شيئين ولن أزيد عليهما .
- وما هما ؟
- الأول مادي , هل تعرف عدد الطائرات التي نسفتها إسرائيل في حرب عام 1967 ؟ عددها ست عشرة وأربعمائة طائرة ثمن الواحدة بأسعار ذلك الزمن خمسة عشر مليونا من الدولارات , هل تعرف كم دبابة فقدناها في تلك الحرب ؟
- ألف ومائة دبابة ولا يحضرني ثمن الواحدة منها الآن .

وهالني الرقم الذي ذكره وصرت أتأمله وهو يتحدث في انفعال شديد: هذا شئ مادي ملموس , والأرقام التي ذكرتها لك بجانبها أرقام أخري كثيرة للخسارة المادية التي لحقت بمصر , أرقام لا تقبل التأويل والتفسير نتيجة الفساد وسوء الإدارة والتوجه المريض .

قلت إنك سوف تذكر شيئا معنويا .

- سوف أذكر لك شيئا واحدا وفكر أنت فيه وحدك .
- وما هو ؟
- عندما هزمت مصر هزيمة منكرة في منتصف نهار 5 يونيو عام 1967 , وأعلن ذلك على الملأ يوم 9 يونيو عام 1967 في خطاب التنحي الذي قرأه عبد الناصر في التليفزيون . ماذا حدث ؟
- خرجت المظاهرات من كل بلاد مصر تطالب عبد الناصر بعدم التنحي , ورقص أعضاء مجلس الأمة عندما وافق الزعيم على الاستمرار في حكم مصر حتى يزيل آثار العدوان حسب تعبيره آنذاك .
- أنت قد قلتها بنفسك .
- لست أفهم ! أين الخسارة المعنوية هنا ؟

- وتكلم الرجل بمرارة :

- ألا تري أى فساد لحق بمصر والمصريين عندما يصفقون ويهتفون ويتمسكون بالذي خرب البلد , ويرقص ممثلوهم عندما يوافق على حكمهم أكثر ألا تري أنه قد أفسد نفوس الناس وعقولهم حتى إنهم لم يعودوا يفعلون الصواب , اختل في داخلهم ميزان الحق , تحولت الأمة إلى قطيع من نعاج بفعل القسوة والجبروت والاستبداد هل تريد تخيل ما حدث ؟ لو رأيت رجلا قد تزوج فتاة من قرية في ريف مصر ,أساء الرجل معاملتها , ثم جاءها بمن هتك عرضها , ثم قطعها بالفأس أمام أهلها , ثم وجدت أمها وخالتها وعمتها يزغردن , ويأتي أهلها من الرجال فيقسمون على هذا المجرم أن يتزوج شقيقتها فماذا تحكم على هؤلاء الناس ؟ لا شك أنهم ليسوا في حالتهم الطبيعية , لا يمكن أن يكونوا أسوياء وهذا ما فعله عبد الناصر بالمصريين أفقدهم القدرة على التمييز وجردهم من الكرامة , بعد أن غرس الذل في نفوسهم .

وشعرت بمرارة وغصة وأنا أقول له :

- وماذا يجدي هذا الآن ؟
- ربما لو فهم الناس فإنهم يخفضون سنوات الضياع القادمة وماذا تعني بسنوات الضياع القادمة ؟

تغيرت آفاق مصر والعرب

- سنوات الطغيان التي حكمها عبد الناصر تضع بصماتها على مص والعرب والمسلمين لقرن من الزمان , لقد أفسد جيلين أو ثلاثة وبناء الإنسان وإعادة تكوين النفسية يحتاج إلى مناخ يختلف عما تركه , فالذين حكموا بعده ساروا على نهجه ولكن بدرجة أخف من الطغيان وهي نفس المدرسة وآفاق العرب قد تغيرت بعد هزيمة يونيو عام 1967 , فقد تحولت إسرائيل إلى دولة قوية قادرة مسيطرة تفرض سلطانها ونفوذها على كل بلاد المنطقة , والويل كل الويل لمن يعارضها .

كان العرب يتكلمون قبل عام 1952 عن قرار التقسيم لعام 1947 بكثير من التأفف والغضب واليهود يتوسلون إليهم أن يقبلوا ويوسطون الدول والرؤساء واليوم ماذا يقول العرب ؟

لقد ضاعت غزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان .

اليوم نريد حماية جنوب لبنان من الاجتياح الإسرائيلي .

من يضمن أن اليهود يغيرون على سيناء والدلتا المصرية ؟ هل تري الأردن بعيدا عن أطماع اليهود .

على العرب اليوم أن يقاتلوا دفاعا عن غرفات نومهم وهذا ما فعله عبد الناصر بهم .

ونظرت إليه في مرارة وغضب بعد أن سكت وقلت له :

- لقد كنت أحد الذين عاونوه على ما فعل .
- هذا صحيح .
- ومن أعان ظالما سلط عليه .
- لقد سلطه الله على وعلى غيري .
- داعبتكم أحلام الحكم بعده , وإذا بالكرة تجري بعيدا عنكم ويتلقفها أحد المتفرجين ويعض عليها بالنواجذ لقد كنت طاغية أنت الآخر .
- صدقت لكني طاغية صغير.
- قد نسينا حادث المنشية .
- هذا حادث لا ينسي فقد ترتبت عليه أكبر عملية بطش قد حدثت بمصر في العصر الحديث ,وأدي إلى القضاء على قوة الإخوان المسلمين إلى حين الأمر الذي أزاح كل القوي من أمام وجه عبد الناصر .

- هل عندك معلومات تؤكد أنه حادث مفتعل؟

- عندي علم يقيني بمنهج عبد الناصر وطريقته في التصرف ,

- وهل هذا يكفي للحكم على هذا الموضوع ؟

- يكفي بالنسبة لى على الأقل ويكفي أيضا لمن هم مثلي , الذين عاشوا الأحداث وعرفوا كيف كانت تدار الأمور , وكما قلت لك قضية القنابل التي انفجرت يوم 19 مارس عام 1954 قد تركتنا نقيم الدنيا ونقعدها بحثا عن الذين قاموا بالتفجير وبعد حين قال لنا إنه الذي قام بهذا وهو الذي دفع فريق العمل لتنفيذ هذا وحتى يومنا هذا لم يعرف أحد من قام بهذه العملية على وجه التحديد .
- المفروض أن يتحدث بها أحد الذين قاموا بالتفجير .
- لا يا صديقي . هذا ضد طبيعة الأشياء .
- لماذا ؟
- هذه قنابل قد انفجرت وأصابت أناسا أبرياء فهل تتصور أن يأتي واحد من الناس وهو بالتأكيد في مكانه مرموقة الآن يم يعترف أنه كان مجرما أو سفاحا أو إرهابيا ؟ لا أظن ..
- الذين قاموا بهذا العمل إما هم الآن من كبار رجال الأعمال الناجحين في مصر والعالم أو بقية ممن لهم ظل من نفوذ في هذه البلاد والأول في نظري أرجح .
- قد اعترف حسن التهامي أنه كان مع عبد الناصر يوم ذهب لاغتيال حسين سري عامر .
- ذلك أنها تضفي عليه هالة من بطولة وقد حكي القصة على أساس أنه يجيد الرماية وتعمد نجاته من الاغتيال وأن الغرض – في نفس حسن التهامي – هو إرهاب حسين سري عامر وليس قتله

- وحادث المنشية ؟

- هذا حديث طويل !

الفصل السابع " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا " ! محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية

( ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين , واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها وإنا لصادقون * قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسي الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم ) يوسف 81 -83

الضباط الأحرار تسمية إخوانية

  • لابد من مقدمة مختصرة للموضوع
كان جمال عبد الناصر أحد الضباط الذين جندهم الصاغ محمود لبيب للعمل في التنظيم السري للإخوان المسلمين .
وقد بايع على السمع والطاعة هو وآخرون من الضباط منهم كمال الدين حسين وخالد محيي الدين في ذلك المنزل بحي الصليبية عام 1944 .

وكانت فكرة الصاغ محمود لبيب أن يطلق اسم الضباط الأحرار على تنظيم الإخوان المسلمين في الجيش , وهذا من باب التمويه وخداع البوليس السياسي وكان من يعرف سر هذا التنظيم تفصيلا الصاغ محمود لبيب والشيخ حسن البنا نظرا لخطورة الأمر والحيطة في عدم إفشاء أسراره .

فأسماء جميع الضباط المشتركين في تنظيم الإخوان بالجيش الذي أطلق عليه اسم الضباط الأحرار في حوزة الصاغ محمود لبيب وكذلك أموال الاشتراكات الشهرية المحصلة منهم .

واستشهد حسن البنا , وسلم الصاغ محمود لبيب قائمة بأسماء هؤلاء الضباط إلى جمال عبد الناصر عندنا زاره الأخير وهو على فراش الموت وقد حضر هذه الزيارة حسين حمودة أحد أعضاء التنظيم .

وكان محمود لبيب قد انتحي بعبد الناصر عندما سلمه هذه الأشياء وقد سأل حسين حمود جمال عبد الناصر عما أخذ من محمود لبيب فأخبره أنها ورقة بها بعض الأشياء يريد شراءها وقد أعطاني ثمنها .

بعد أن أقعد محمود لبيب المرض ثم الموت كان عبد الناصر هو الذي يعرف أسماء الضباط ومن ثم أعاد تشكيل التنظيم من جديد وأسرف في شكلية منع أى اشتباه في الصلة بين التنظيم والإخوان حتى انتهت الصلة بينهما بالفعل واستطاع إقناع ضباط الإخوان مثل كمال الدين حسين بأهمية تكريس هذا الانفصال عن الإخوان لدواعي الأمن .

وسارت الأمور على هذا المنوال حتى صار التنظيم شيئا آخر له صلة غير واضحة المعالم مع الإخوان .

وانضم إلى التنظيم ضباط آخرون باسم تحقيق الأماني الوطنية والقضاء على فساد الملكية في مصر , وصار كل ضابط جديد لا يعرف الصلة العضوية بالإخوان لأنها كانت قد انتهت بالفعل في رأس عبد الناصر .

ثم عاود عبد الناصر الاتصال بالإخوان بعد المحنة التي مرت بهم في عهدي النقراشي وإبراهيم عبد الهادي وقد تم ذلك عبر صلاح سالم الذي أجري اتصالا بالأستاذ صلاح شادي مسئول الإخوان في البوليس والوثيق الصلة بالمرشد العام وزاد الاتصال عندما تهيأت الظروف لعمل الانقلاب وأصبح الجو يسمح بهذا , وكانت العهود والمواثيق وقراءة الفاتحة بين عبد الناصر وصلاح شادي على تحقيق الأماني الإسلامية للأمة .

وقام الإخوان بدورهم في ليلة 23 يوليو عام 1952 وبعد ذلك حتى نجح الانقلاب .

وربما كان عبد الناصر يطمع في زعامة الإخوان المسلمين بعد نجاح الانقلاب , وربما كان يفكر في أن تكون الجماعة هي الهيئة الشعبية التي يحكم بها فيضع في يده الجيش وفي يده الأخرى يضع الشعب ممثلا في جماعة الإخوان ولعل الذي حال دون تحقيق ذلك أمران .

عبد الناصر والإخوان

كانت طبيعة عبد الناصر تنفر من الدين بشكل عام ولم يكن مسلما ملتزما بشكل خاص , وكان يعيب على الإخوان النظام التعبدي والتربوي الذي كان متبعا في تشكيلات الأسر كان لا يري فائدة المأثورات في الصباح وبعد العصر ,قد صرح بهذا الكثير من المسئولين عنه قبل تكريس انفصال تنظيمه عن الإخوان الذين لم يعطوه حقه ومكانه الذي ينبغي نحو التنظيم والأمر الثاني الذي حال دون تحقيق هذه الفكرة – أن يتزعم عبد الناصر الجماعة – هو وجود شخصيات قوية محنكة على رأس هذه الجماعة ممثلة في رجال الصف الأول والثاني والثالث ناهيك عن شخصية حسن الهضيبي الصلبة العنيدة ذات المراس الشديد بالإضافة إلى صغر سنه هو شخصيا .

وربما أدرك عبد الناصر صعوبة هذا قبل الانقلاب ولكنه تأكد من ذلك مع الأيام الأولي منه أو كان يقدر لهذا من أول يوم .

وعندما التقي بالمرشد العام المرحوم حسن الهضيبي يوم 28 يوليو عام 1952 قال له :

احنا لم نتفق على شئ محدد يا فضيلة المرشد وهؤلاء هم أمامك اسألهم .

وعلق المرحوم الهضيبي بعد المقابلة التي تمت :

- ليس في هذا الرجل خير يرتجي .
- وتوالت الأحداث .
- مجموعة من الضباط شكلت ما يسمي مجلس قيادة الثورة
- وصار هذا المجلس أعلي سلطة في البلاد .

وكانوا ضباطا على درجة متوسطة من التعليم وثقافة بسيطة محدودة مع انعدام الخبرة ووهج السيطرة على مقدرات البلاد .

وصار هذا المجلس ينعقد دون جدول أعمال فجدول أعماله كل ما في مصر من مشاكل الحكم والسياسة والاقتصاد .

وكان البناء الأخلاقي لهؤلاء الضباط ضعيفا .

فمن الوهلة الأولي بدءوا في السلب والنهب و كل على قدره وطاقته ومن الوهلة الأولي كانت العلاقات غير الشرعية مع بعض السيدات , ونشأت علاقات بين بعض السادة الضباط وبعض الفنانات ويرجع في هذا إلى " قطار الرحمة " وما جري فيه .

وتطورت العلاقات حتى وصلت إلى بعض الأميرات ويرجع في هذا إلى صلاح سالم والأميرة فايزة شقيقة الملك فاروق !

وكثرت جلسات الميسر والخمر وارتادها السادة الجدد .

كل هذا أدي إلى تعميق الخلاف بين الضباط والإخوان قوم يريدون الدنيا والبغي في الأرض بغير حق .

وقوم يبتغون الآخر .

هذه هي قصة الضباط والإخوان في تركيز شديد .

وقد تناول هذا التاريخ ظنا ويقينا عشرات الكتاب وليس في سرد تفصيله جديد يضاف إلى ما تمت كتابته .

اكتشف الضباط أنهم يحكمون مصر , وأنهم استطاعوا القضاء على شتى القوى التي تقف في سبيل سيطرتهم وغلبتهم .

وانهار المجتمع المصري أمام وطأة الجيش الذي كان يسحق بلا تمييز .

وكان الأمل الأخير للمصريين هم الإخوان المسلمين .

ووقف الإخوان وحدهم أمام الضباط اعتبارا من آخر مارس عام 1954 .

الصراع بين الضباط والإخوان

وكان الإخوان يريدون تهيئة الشعب للحكم بالإسلام , ومن ثم يريدون خلق المناخ المناسب لازدياد أنصارهم وتقبلهم لهذه الفكرة .

لم يكونوا يفكرون في حكم البلاد في هذه الآونة , وكان غاية ما يريدون في هذه الظروف حسب تصريحات زعمائهم حكومة رشيدة عادلة , تعطي مناخا من الأمان والعدل والحرية يسمح لهم بانتشار أفكارهم , مع تحقيق الأماني القومية والوطنية , وكان قطار الضباط يسير مسرعا إلى الديكتاتورية واستبداد الفرد وتسلط عبد الناصر على الحكم وعبر مناخ من فساد جديد لا قبل للناس به .

ولا شك في أن هذه الفترة من تاريخ مصر معتمة وغامضة وغير واضحة المعالم فقد أشار عبد الناصر على الضباط في أزمة مارس أن يكون كل واحد منهم فريقا من القتلة للتخلص من أعدائهم وكان الإخوان هم المعنيين بهذا , وكان هناك من مجلس الثورة من يبلغ هذا إلى الإخوان .

واختفى المرشد العام منعا لفتنة قد تحدث لو تم اغتياله بمعرفة الضباط , وذلك إذا علمنا أن القوة الشعبية المنظمة الوحيدة والمسلحة أيضا هم الإخوان المسلمون , وكانت لهم شوكة وسطوة ونفوذ , من كثرة الأتباع وانتشارهم عبر البلاد , وعندما أوشك الصدام أن يقع بين الضباط والإخوان كانت رؤية الطرف الآخر مختلفة , فالضباط لهم هدف واحد هو القضاء على أية قو ة أمامهم , والتمكين لعبد الناصر الذي أقنعهم أنه يمثلهم , وأن النفوذ هو نفوذهم , وأن الجيش هو الذي سوف يحكم مصر , وأن المغنم ليس هناك في البلاد من يستحقه سواهم , وليس من هو أهل له غيرهم .

أما الإخوان فكان منهم من يظن أن عبد الناصر منهم , وأنها خلافات حول بعض وجهات النظر , ولم تتضح الصورة لهذا الفريق إلا بعد سنين .

فقد كان عبد الناصر من الإخوان , وهذا اقتناع بعض الزعماء منهم , لأنه واقع يعرفونه , وعندما انفصل عنهم لم يخطرهم بهذا رسميا وما ينبغي له أن يفعل , فظل هذا الفريق يتعامل معه على هذه الصفة , في حماسة شديدة وإخلاص بالغ .

دهم قطار الضباط جماعة الإخوان , وهي فريق مختلفة قد تباينت في نظرتها حاول يوسف صديقأن ينبه فريقا من الإخوان إلى خطر عبد الناصر فما كان من هذا الفريق إلا أن أسرع بتبليغ عبد الناصر بمكيدة ذلك الشيوعي الدخيل , الذي يريد أن يوقع بين المسلمين في زعمهم .

وكانت نفس القصة قد حدثت مع محمد نجيب ولكن بصورة مختلفة , فقد أراد خالد محيي الدين وثروت عكاشة أن يعاوناه في القضاء على عبد الناصر وخطره , وظن الرجل الطيب أنها مكيدة يدبرها له الضباط ,وأنهم يريدون التآمر عليه وذهب واشتكي لعبد الناصر هذه الخدع التي لا تنطلي إلا على السذج والبلهاء وسمع عبد الناصر ولم يعقب , وأسرها في نفسه إلى حين .

وهي فترة يصعب فيها تفهم الاتجاهات الصحيحة , وتحديد معالم أية ظاهرة موجودة .

ألغي الدستور , وتغلبت الدهماء ,ونادوا بمجلس الثورة يحكم, ولا تجري الانتخابات كما كان متفقا عليه ,

وكان تقديرالإخوان لمحمد نجيب مبالغا فيه , فرغم أنه رئيس الجمهوري الشرعي المحبوب من الشعب لم تكن وراءه قوة من جيش تحميه , فقد انقطعت صلته بالجيش بعد قرار تعيين عبد الحكيم عامر قائدا عاما للجيش المصري ومنحه رتبة لواء محطمين بذلك كل الأعراف والقواعد العسكرية المعمول بها في مصر والعالم حسب معطيات العصر الحديث .

ولم تكن وراءه تنظيمات شعبية لها تغلغلها ووزنها , اللهم إلا عواطف الشعب المصري المسكين , الذي لا يملك لنفسه ولا له شيئا .

وبقية من جماعة الإخوان المسلمين الذين توحدوا – في رؤيتهم للخطر الداهم – خلف المرشد العام .

وكانت الخطة تقضي باستنفار الشعب في مظاهرة لدعم محمد نجيب عندما يصدر من القرارات ما يمكن أن يضع الأمور في نصابها .

ولعله لم يكن هناك اتفاق حول هذا الشأن وربما لم تكن المسألة تعدو مجرد تصورات مبهمة حول تفاهم لم يتفق بشأنه , أو تسليم بما ينبغي أن يكون.

وكان الضباط أكثر نشاطا من الإخوان , ولم يكونوا ملتزمين بشئ في حركتهم للقضاء على أعدائهم المسالمين رغم تسلحهم وقوتهم .

أجهزة الأمن على علم بما يدور في داخل الإخوان

وطرحت أفكار للاغتيال والتخلص من الضباط واستنكرها ونهي عنها المرشد العام بحزم وبشدة .

وتضاربت الأقوال واختلفت حول طبيعة ما حدث في تلك الآونة .

فهناك من قال إن القوة الحقيقية كانت في يد محمد نجيب , وإنه لا يزال يسيطر على الدولة من خلال شعبيته الكاسحة , وإن الزمام في يده وإن شاء قام بالتغيير المطلوب والعودة بالبلاد إلى الحياة الطبيعية من خلال برلمان أو هيئة تأسيسية منتخبة وإذا أراد الضباط الحكم فعليهم خلع الملابس الكاكيه تمام أن يدخلوا الانتخابات من خلا حزب سياسي .

وقال أهل العلم إن الضباط لن يخلعوا ملابسهم الكاكية إلا بعد التمكن الكامل من حكم البلاد بطرق أخري يدبرون لها غير الانتخابات .

وإن محمد نجيب لم يعد بالقوة القديمة , وإن الضباط قد انتبهوا إليه , فهم يحيطون به , ويعملون على إبطال مفعوله إن فكر في تصرف إيجابي ضدهم .

وأثناء هذا كله كانت الأمور في أخذ ورد بين الإخوان بأجنحتهم المختلفة وكان المسلمون الصابرون حول المرشد يرقبون الأحداث كغيرهم في ترقب وانتظار مشوب بالتردد وعدم المعرفة بالبروجرام الذي يمكن أن تقدمه الحكومة .

وكان البوليس السياسي قد تقدم إلى الحكومة الجديدة – حكومة الضباط وبعد ساعة واحدة من قيام الانقلاب – بعرض خدماته عليها .

فقد كان من الخطة اعتقال كبار الضباط في الجيش المصري وكذلك مدير الأمن العام ومساعديه وإيداعهم معتقل الكلية الحربية حتى ينجح الانقلاب .

وأخبر عبد الرحمن عمار , وكيل وزارة الداخلية والذي أودع المعتقل أن لديه أوراقا هامة ينبغي للقائمين على الانقلاب الاطلاع عليها .

ولم يكن عنده أية معلومات عنهم حتى أسماؤهم لم يكن يعرفها , كل ما كان يعيه أنهم السادة الجدد وعليه أن يتقرب منهم .

وبالفعل اصطحب مجموعة من الضباط إلى وزارة الداخلية حيث فتحت بعض الخزائن , وأخرجت منها أوراق سرية سلمت للقائمين على الانقلاب .

البوليس السياسي والحكومة الجديدة

وفرض البوليس السياسي نفسه على الضباط منذ الساعة الأولي من فجرة يوم 23 يوليو 1952 .

لم يتم الإفراج عنهم ساعتها ولكن تأكدت فكرة الاستعانة بهم .

وتطورت هذه الفكرة مع سير الأحداث وتأكدت .

وكانت صفوف الإخوان مخترقة من جانب الحكومة وتم هذا الاختراق على مستويين .

فقد اخترقت من جانب أجهزة الأمن الممثلة في القلم المخصوص أو البوليس السياسي الذي تغير اسمه إلى المباحث العامة والبوليس الحربي الذي اجتهد في تشكيل جهاز للمخابرات خاص بالحكومة منذ اليوم الأول للانقلاب .

واخترقت الجماعة من قبل أحد أفرادها السابقين , عبد الناصر شخصيا , فقد كان عضوا عاملا وله علاقاته الوطيدة بزعماء الجماعة وكثير من أعضاء الهيئة التأسيسية وقد كانوا يرونه واحد منهم – أتكلم عن بعضهم - وأن الخلاف القائم ما هو إلا خلاف بين فريق واحد حول الوسائل , أما الغاية فواحدة وهي غاية الإخوان المسلمين .

فكان عبد الناصر على علم بما يدور في صفوف الإخوان , وكانت تصل إليه أخبار الاجتماعات وما يقال فيها , ويعرف كل وجهات النظر المختلفة .

ومن الجانب الآخر لا يعلم الإخوان شيئا عما يجري في مجلس قيادة الثورة إلا أقل القليل , وهذا القليل يصل عبر قنوات مختلفة بعد أن يعتوره شئ من التعديل والتبديل .

ولم تكن مواجهة متكافئة بأى حال . فجانب في وحدة كاملة ويعرف ما يريد .

والجانب الآخر ليس لديه هذا التصور الشامل , وكان هناك خلاف شديد بين أعضائه فيما يريد .

وكان المرشد العام قد عمل على تصفية الجهاز القديم , وإنشاء نظام جديد لأسباب يطول شرحها قد تناولها الكتاب في مواضع آخري .

وقام النظام الجديد باختيار أعضائه بسرعة وربما بشئ من عدم الدقة التي كانت أهم علامات النظام القديم .

وكان النظام الجديد سريا بطبيعة الحال أو هكذا ينبغي أن يكون .

ومع هذه السرية ذهب أحد الإخوان الذين ينتمون إلى النظام القديم والمفروض أنه لا يعلم شيئا عن طبيعة ما يدور في النظام الجديد والتقي بالشيخ محمد فرغلي أحد عمد هذا النظام وسأله :

- هل صحيح أنكم كونتم هيكلا إداريا جديدا للنظام ؟

- وقال له الشيخ فرغلي :

- ما الذي تريد قوله بالضبط ؟
ورد عليه الأخ بما يفيد معرفته بالكامل بأسماء رؤساء المناطق وجميع الأعضاء المهمين في النظام الجديد .

واصفر وجه الشيخ محمد فرغلي رحمه الله وسأل عن الأخ :

- كل ما قلته صحيح, فمن أين أتتك هذه المعلومات ؟
ورد عليه :

- عرفتها من أحمد صالح داود .

وهذا الاسم لمن لا يعرفه هو أحد أركان المباحث العامة في ذلك الوقت .

كان كل شئ عن الإخوان مكشوفا أمام الحكومة والمباحث العامة مكشوفا ومفهوما لدرجة أنهم – أى الحكومة والمباحث العامة – يستطيعون التدبير وعمل المؤامرات .

وهم يريدون التدريب أيضا , فلماذا لا يكون هذا مجالهم لتدريب رجالهم ؟

المرحوم السيد فايز!

وكان قد تردد أنه سيكلف برئاسة النظام الجديد ,وهذا يتناقض مع عبد الرحمن السندي , فإن أرسلت إليه شحنة ناسفة ومات فسوف يتهم الأخير بتدبير هذا .
وقد كان واستشهد المرحوم السيد فايز من عبوة ناسفة ذهب بها شخص مجهول إلى بيته , على أنها علبة من الحلوى واتهم أحد الإخوان بذلك وعذب حتى الموت للاعتراف الكاذب بلا فائدة .

والجريمة التي يموت فاعلها ولا يظهر إلى الأبد هي جريمة حكومية على أغلب الأحوال .

وهو منهج قد أقره عبد الناصر في اجتماعات مجلس الثورة عندما صنع الانفجارات وعندما قال لهم إنه سوف يقتل محمد نجيب في خلال شهر ينتهي يوم 23 مارس عام 1954 . وعندما طلب منهم تكوين فريق من القتلة للتخلص من أعدائهم فاصطناع حادث يبرر للناس البطش بالإخوان المسلمين أمر يتناسب مع عقلية عبد الناصر وطبيعته ومنهجه في التفكير .

ولنتناول حادث المنشية بشئ من التحقيق والتأمل .

حسن الهضيبي وحادث المنشية

هناك شخصيات رئيسية لها علاقة وثيقة بحادث محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية .

المرشد العام للإخوان المسلمين المرحوم حسن الهضيبي .

وهذا الرجل كان يعمل في سلك القضاء قبل اختياره مرشدا عاما للإخوان وهو لا يوافق على ارتكاب أية جريمة , ومن رأيه أنه لا ضرورة للنظام الخاص السري الذي كان عند الإخوان .

وعندما وافق على عمل نظام جديد كان ذلك بغرض تصفية النظام القديم وإلغاء السرية في عمل الجماعة وكان يطمع في أن يعطي الجماعة أو أن يضفي عليها ثوبا قانونيا لا يتناقض مع المجتمع في شكله وجهاده , ورأي أن جماعة الإخوان عليها أن تبلغ دعوة الإسلام إلى الناس في بساطة ووضوح وأن العمل السري لا ضرورة له في هذه الآونة .

وإن كانت الجماعة قد اضطرت في الماضي إلى القيام ببعض الأعمال الجهادية ضد الإنجليزوضد الحكومات التي انتهت فليس لهذا من ضرورة الآن .

وقد عبر عن رأيه هذا في مرات عديدة , وقال لجمال عبد الناصر إن رأيت أنه لا وسيلة للاتفاق مع الإخوان فأخبرني وأنا أسلم لك مفاتيح المركز العام بدلا من فتنة تكون بين الناس القاعد فيها خير من الماشي .

وأثبتت التحقيقات التي جرت على جميع المستويات أنه لم يأمر بمثل هذا العمل ولم يدع إلى اغتيال أى فرد من أعضاء الحكومة وأمر بالكف عنهم مهما بلغت درجة إجرامهم .

ولم تثبت التحقيقات أنه قد أمر بترتيب اغتيال جمال عبد الناصر وأثبتت التحقيقات أنه قد نهي عن هذا عندما سمع بعض الشباب المتحمس ينادي بالدخول في حرب سافرة مع الحكومة .

استطاع عبد الناصر أن يخدع حسن الهضيبي مستغلا في ذلك دينه وتقواه , مثلما فعل معاوية مع على رضي الله عنه أيام الفتنة .

سئل كل من كان معه أو حوله فأثبتوا هذه الحقيقة رغم ضراوة التحقيق وشدته وخلوه من كل معاني الإنسانية .

والدفاع عن حسن الهضيبي الذي كان يدرك تلفيق هذا الحادث في دولة صار دستورها الإجرام والتصفية الجسدية لكل من يعارضها لم يجد دفاعا – عن حسن الهضيبي – بقوله إلا أنه ليس مسئولا عن تصرفات لم يأمر بها .

وكان الدفاع آنذاك يستطيع إثبات التلفيق , ولكن وسط هذه الوحشية والضراوة فإن للنفوس طاقة لا تقدر على تجاوزها .

كان الدفاع ممثلا في الأستاذ سامي مازن المحامي .

وقد قال عبارة في مرافعته دفع ثمنها غاليا بعد ذلك .

فقد قال : ما مدي مسئولية الرئيس جمال عبد الناصر عن جريمة قد ارتكبها أحد أعضاء الحرس الوطني الذي يرأسه دون علمه ؟

ولم يجبه أحد , ثم دفع الثمن غاليا يعد ذلك .

كان البطش والإرهاب والتعذيب وإهدار آدمية المتهمين وحرمانهم من أبسط الحقوق يجعل من يتصدي للدفاع في مثل هذه القضايا بطلا من الأبطال يستحق كل احترام وتقدير .

ونتذكر المرحوم حمادة لناحل المحامي المتطوع عن محمود عبد اللطيف المتهم بمحاولة اغتيال الرئيس , وكان يستطيع أن يناقش الوقائع ويبطل كل شئ , ابتداء من شكل المحكمة , إلى طبيعة الإجراءات إلى مناقشة الأدلة وكلها ضعيف متهالك , ولكنه لم يستطع , فللشجاعة حدود , وبعد أن توعده رئيس المحكمة ... جمال سالم ... ذلك الكوميدي الجزار ,,,لم يستطع المحامي غير الدفع بجنون المتهم وعدم مسئوليته عما فعل , وطلب عرضه على الأطباء ورفضت المحكمة لأنه ليس لديها الوقت لمثل هذه الأمور .

ثم ننظر إلى السلسلة التي يمكن أن تأتي منها التعليمات .

محمد فرغلي ... عبد القادر عودة ...يوسف طلعت ... إبراهيم الطيب وغيرهم من جميع الأسماء اللامعة .

أثبتت التحقيقات عدم صلتهم بمحاولة الاغتيال وعدم علمهم بها وينحصر العلم في شخصين , وتدور القضية من ألفها إلى يائها حول رجلين وتنقطع كل صلة بغيرها في هذه القصة .

هنداوي دوير
محمود عبد اللطيف .

كل ما دار حول حادث الاغتيال قد تم بين هذين الرجلين .

كل ما نسخ حول المؤامرة من أقوالهما ومن اعترافاتهما .

وهي أقول واعترافات لم تصل إلى أبعد منها رغم ما كررناه وما يعرفه الكافة من ضراوة التحقيق ووحشيته .

وقد سلم الاثنان من هذا فلم يثبت أن أحدهما قد عذب أو ضرب , اللهم إلا تلك " العلقة " الغوغائية التي حصل عليها المرحوم محمود عبد اللطيف لحظة الحادث , فقد جاءت صوره في اليوم التالي والدماء تسيل من أنفه ووجهه الذي تورم من شدة الضرب واللكم في دولة قد ساد فيها الرعاع والسفلة والقتلة المأجورون .

كانت فكرة الإخوان مظاهرة شعبية ضخمة لتأييد محمد نجيب إن استطاع الوقوف أمام طغمة الضباط في سبيل الحياة النيابية السليمة وكرامة شعب مصر وكانوا يعدون العدة للتظاهر لتأييده إن فعل هذا .

وكانوا مترددين في رد الاعتداء إن وقع عليهم .

وكانت أرجح الآراء عندهم هي الاستسلام للمقادير والشهادة بدلا من فتنة تأكل الأخضر واليابس ويحترق الوطن بنارها .

ونعود إلى القصة كما روتها التحقيقات , وكما أثبتتها المضابط الرسمية .

محضر الجلسة الأولي لمحكمة الشعب

المنعقدة علنا في الساعة العاشرة صباحا بمقر قيادة الثورة في الجزيرة يوم الثلاثاء 9 نوفمبر 1954 الموافق 13 ربيع الأولي من سنة 1374 هـ .

المؤلفة وفقا للأمر الصادر من مجلس قيادة الثورة بتاريخ أول نوفمبر عام 1954 الموافق 5 ربيع الأول عام 1374 هـ , بناء على المادة السابعة من الدستور المؤقت .

والمشكلة برئاسة قائد الجناح جمال مصطفي سالم عضو مجلس قيادة الثورة وعضوي القائمقام أنور السادات والبكباشي ( أ. ح) حسين الشافعي عضوي مجلس قيادة الثورة .

وبحضور البكباشي محمد التابعي المدعي والأستاذ مصطفي الهلباوي رئيس نيابة أمن الدولة عضوي مكتب التحقيق والادعاء .

وتولي تسجيل المحاكمات بالاختزال الأستاذان طلعت الصبان وممدوح توفيق مندوبا مصلحة الاستعلامات .

قدمت القضية رقم (1) لسنة1954 ( محكمة الشعب ) المتهم فيها محمود عبد اللطيف محمد .

ودخل جمال سالم كالوحش الكاسر ومن خلفه أنور السادات وحسين الشافعي الذي كان يصفه عبد الناصر بأنه البكباشي " مؤخرة " وينطق الكلمة العامية التي تشير إلى هذا , وكان يصف عضو اليمين أبنه البكباشي " صح " كناية عن أنه لم يعترض على حرف واحد يقوله الطاغية في أى وقت , وهو يوافقه دائما على طول الخط.

محمود عبد اللطيف يقول أنا مذنب

وأخذ جمال سالم شكل الأسد وهو يدير نظره بعظمة بين الموجودين ثم يعلن :

جمال سالم : فتحت الجلسة .. أولي جلسات محكمة الشعب .. الادعاء... المتهم موجود ؟

ويقوم البكباشي محمد التابعي – المدعي – وهو يقول مسرعا ولا أدري لماذا كان خائفا :

البكباشي التابعي : المتهم موجود والقضية جاهزة .

ويكمل جمال سالم :

جمال سالم : لمحاكمة محمود عبد اللطيف محمد .

ويقف المتهم في القفص ويقول بصوت جهير :

محمود عبد اللطيف : أفندم .

ويرنو إليه جمال سالم بنظرة فاترة ساخرة ثم يقول :

جمال سالم بالادعاءين الآتيين :

" أتي أفعالا ضد نظام الحكم الحاضر , وضد سلامة الوطن في الداخل والخارج وذلك لأنه في يوم 26 أكتوبر من سنة 1954 م وما قبله بمديمنتي القاهرة والإسكندرية :

أولا : اشترك مع آخرين في تنفيذ اتفاق جنائي الغرض منه إحداث فتنة دامية لقلب نظام الحكم , وذلك بإنشاء نظام خاص سري مسلح للقيام باغتيالات واسعة النطاق , وارتكاب عمليات تدمير بالغة الخطورة وتخريب شامل في جميع أنحاء البلاد تمهيدا لاستيلاء الجماعة التي ينتمي إليها علي مقاعد الحكم بالقوة .
ثانيا :شرع في قتل البكباشي أركان حرب جمال عبد الناصر رئيس الحكومة تنفيذا للاتفاق الجنائي المشار إليه في الادعاء الأول ".

( المادتان 2, 3 من أمر مجلس قيادة الثورة الصادر في أول نوفمبر عام 1954 بشأن تشكيل المحكمة وإجراءاتها )

وخيم على قاعة المحكمة صمت بالغ, وجمال سالم ينظر إلى محمود عبد اللطيف ساخرا والرجل قد ملأ نفسه وبدا ذلك على وجهه, ثم قطع الصمت صوت جمال سالم يخاطبه :

جمال سالم : مذنب أو غير مذنب ؟

وراح الرجل – محمود عبد اللطيف - ينظر إليه وإلى الموجودين بنظرات زائغة .

محمود عبد اللطيف :.......

جمال سالم : سمعت الكلام اللي تقال ؟

محمود عبد اللطيف : أيوه

جمال سالم : فاهم الادعاء المقام عليك ؟

محمود عبد اللطيف : أيوه

جمال سالم : مذنب أو غير مذنب ؟

ثم ينقر جمال سالم بقلم رصاص على المنصة وهو ينظر ناحية المتهم ساخرا وكأنه يستحثه على الإجابة , ويقلب محمود عبد اللطيف وجهه في الحاضرين ثم يستقر ناحية جمال سالم ويجيب :

محمود عبد اللطيف : مذنب .

ويبتسم جمال سالم ويعيد عليه السؤال :

جمال سالم : مذنب ؟

محمود عبد اللطيف : ايوه .

الادعاء يقترح إصدار الأحكام قبل المحاكمة

وتحدث ضجة خفيفة ويقلب الجميع بصره هنا وهنا وتتهامس هيئة المحكمة , ويتبادل جمال سالم النظر مع البكباشي محمد التابعي – المدعي - الذي يسرع ويقول :

البكباشي التابعي : المتهم لما أعلن بالادعاء المقام عليه سألناه إذ كان عنده محامي فقال إنه مفيش محامي .. وأمر تشكيل المحكمة لا يحتم وجود محامي ... والقضية جاهزة والشهود مستعدين وموجودين .

وحدثت ضجة خفيفة للمرة الثانية , رغم أن كل الموجودين مع صنائع الحكومة آو المخبرين ولعلهم قد أحسوا ببعض الخجل عندما سمعوا المدعي يقول هذا الكلام الذي يتنافي مع شرف مهنته ومع أبسط حقوق الإنسان , وربما لأن هناك أبعادا للقضية يعرفها الرجل , ومن ثم فلا ضرورة للتمسك بمثل هذه الشكليات .

محام... مرافعة ... شهود

هيئة المحكمة لا تعرف شيئا عن القانون ..

ليست هناك مواد محددة للعقوبة ..

شئ أقرب إلى المهرجان منه إلى المحكمة ..

أو هو مسرح تؤدي عليه تمثيلية رديئة النص والإخراج , ولم تتوافر لها أية عوامل للنجاح .

عاد جمال سالم ينظر ناحية المتهم , ومن الواضح أنه اشترك في جزء من هذه التمثيلية لم يعلن عنه , اشترك فيه مجبرا أو راضيا طائعا :

وتردد المتهم قليلا : ثم قال :
محمود عبد اللطيف : عاوز..

جمال سالم : عاوز مين ؟

محمود عبد اللطيف : المحامي محمود سليمان غنام .
  • جمال سالم : وإذا كان محمود سليمان غنام ما يرضاش ؟
محمود عبد اللطيف: يبقي فتحي سلامة .
محمود عبد اللطيف : يبقي مكرم عبيد .
واحتار محمود عبد اللطيف قليلا لا يدري ما هي الإجابة التي تحوز القبول ولكنه تغلب على حيرته وقال :
محمود عبد اللطيف : يبقي أى واحد تختاره المحكمة .

جمال سالم يصر على وجود محام للمتهم

والتفت جمال سالم ناحية زميله البكباشي محمد التابعي – المدعي – وقال :

جمال سالم : اتصل بالمحامين دول بالترتيب على حسب طلب المتهم .. اللي يرضي منهم يدافع عنه ييجي.. وإذا ما كانش , ولا واحد منهم يرضي ييجي علشان يدافع عنه يبقي ينتدب أى واحد تاني .

البكباشي التابعي : حاضر يا أفندم .

جمال سالم : إذن تؤجل الجلسة ثمانيا وأربعين ساعة على أن تعود إلى الانعقاد في الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس 15 ربيع الأول عام 1374 هـ الموافق 11 نوفمبر عام 1954 .

( رفعت الجلسة في الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة صباحا )

محمود عبد اللطيف : أنا مذنب !!

وانعقدت محكمة الشعب مرة ثانية بنفس التشكيل وزاد عليها إبراهيم فكري أحمد فودة كمندوب لمصلحة الاستعلامات وذلك بتاريخ الخميس 11 نوفمبر عام 1954 في الساعة العاشرة والدقيقة العشرين صباحا بنفس المقر وهو مقر مجلس قيادة الثورة بالجزيرة .

وهذا اليوم يوافق بالتاريخ العربي 15 ربيع الأول عام 1374 هـ .

وأعلن جمال سالم كالأسد الهصور :

- فتحت الجلسة .. المتهم موجود ؟

وقام المدعي مستخزيا وقال :

- المتهم موجود .

وتفرس جمال سالم في الموجودين الخائفين جميعا وقال :

- جاهز؟

- وارتبك المدعي قليلا وقال :

- جاهزين .

وبطريقة المعلمين التفت جمال سالم ناحية المتهم وقال :

- سمعت الادعاء اللي عليك ؟

وأجاب المتهم محمود عبد اللطيف بهدوء :

- أيوه ...

وعاد جمال سالم كالأسد مرة أخري :

- وقلت إنك مذنب ؟
وأجاب محمود عبد اللطيف بنفس الهدوء :
- أيوه .

وانتفخ جمال سالم كالديك الرومي وقال للمتهم :

- إيه أقوالك ؟
ونظر المتهم محمود عبد اللطيف نظرة باهتة لا معني لها ولم يرد .

بينما واصل جمال سالم كلامه له :

- السيد حمادة الناحل رايح يترافع عنك.

ثم التفت جمال سالم ناحية المحامي حمادة الناحل وقال وفي صوته رنة تهديد ووعيد وهو يقلب النظر بين المتهم والمحامي :

- وأحب بالمناسبة دي أقول إن المحكمة تشكر السيد حمادة الناحل لتطوعه بالدفاع عنك .

ولم يقف حمادة الناحل عند رنة الوعيد التي وضحت في طريقة جمال سالم في الحديث , وفي ابتسامة شجاعة قال :

- وأنا بدوري أشكر المحكمة على هذه الثقة وأدعو الله أن يمنحني القدرة على أداء دوري ويوفقني في مهمتي .

جمال سالم قاضيا للمرة الأولي

وساد القاعة صمت ,ويبدو أن جمال سالم لم يكن منتبها إلى ما سبق أن لقنوه من طريقة سير الإجراءات .

وتبادل ممثلا الادعاء نظرات قلقة خوفا من فشل المسرحية ولكنهما سرعان ما عاودهما الاطمئنان عندما تذكرا أن نجاح المسرحية لا يتوقف على جودة النص وحسن الأداء , ولكنه يتوقف أولا وأخيرا على خوف المشاهدين .

وبتكاسل قال جمال سالم للمتهم :

- اتفضل قول أقوالك للمحكمة .

وتبادل ممثلا الادعاء نظرات القلق من جديد ولمحهما جمال سالم وكأنما قد تذكر بقية من نص ردئ لمؤلف مغمور لم يكتب للمسرح من قبل .

واختفي ارتباك جمال سالم وجهله تحت سطوة البدلة الكاكية التي يرتديها وقال مخاطبا محمود عبد اللطيف :

- تحب تتكلم أنت أو السيد المحامي يتكلم عنك ؟

وأجاب محمود عبد اللطيف في استسلام :

- السيد المحامي .

ونظر جمال سالم إلى حمادة الناحل بوجه قاس آمر .

وأخفي المحامي ابتسامة ساخرة كادت تخرج من بين شفتيه وهو يري قاضيا لا يدري من أجلسه على هذه المنصة .

يري قاضيا قد أغلق أذنيه وعينيه عن الحق ولم يعد يملؤه غير الباطل وحكم قد قضي به في نفسه وسوف ينطق به في يوم قريب , وكل ما يتم الآن ما هو إلا هراء في هراء وهو لا يصلح للقضاء على أى حال من الأحوال لعدم صلاحيته ولخصومته ولأسباب كثيرة .

سخر المحامي في نفسه وهو يري الممثل لا يكلف خاطره أن يقوم بدور القاضي بشئ قليل من الاجتهاد والإتقان .

هناك إجراءات ينبغي أن تتم حتى عند التمثيل .

وقال المحامي منبها القاضي الكاذب :

- افتكر نؤخر مناقشته – يقصد المتهم – ونسمع أقوال الشهود أولا .

وشعر جمال سالم بالحرج وسارع رئيس النيابة الذي ترك ضميره في البيت قبل أن يأتي إلى هذه القاعة ويقول البعض إنه لم يترك شيئا هناك , وكثير من الشهود يؤكدون أنه لم يكن في حيازته يوما , أو فقد في صباح ذلك اليوم من 23 يوليو عام 1952 .

قال رئيس النيابة باستهانة شديدة :

المتهم قال في التحقيق كل حاجة .
هكذا !!

إذن فما معني كل ما يدور إن كان المتهم قد قال ك ل حاجة في التحقيق ؟

قال جمال سالم :

- بس يقول إيه أقواله قدامنا .

ونظر المحامي ناحية رئيس النيابة ولم يستطع أن يمنع المرارة التي اختلطت بكلماته :

- ما فيش مانع يقول , وبرضه نناقشه تاني .
وكأنما أراد رئيس النيابة أن ينتهي كل شئ في هذه الجلسة ,لعل الحق كان معه فكل شئ مرسوم ومفهوم والحكم معروف فقال بإصرار .
- المتهم قال كل حاجة في التحقيق , واعترف بارتكاب الحادث وقال عن المحرضين له وعن طريقة التدبير وكل التفصيلات .

سماع أقوال محمود عبد اللطيف

وأدرك حمادة الناحل أنه لا فائدة وتعجب مما يحدث وعرف أنه ليست هناك محاكمة وهم بالجلوس وفجأة صوت جمال سالم يخاطب المتهم محمود عبد اللطيف :

- قول أقوالك .

واحتار محمود عبد اللطيف قليلا ولكنه ربما تذكر ما ينبغي عليه قوله فقال :

- من مدة وأنا في الإخوان ... من سنة 1942 .. ومن مدة 4 شهور بس انضممت للمنظمة السرية .. ودي مكونة من ثلاثة أشخاص .. محمود عبد اللطيف وهنداوي دوير وسعد حجاج.
- وسكت المتهم ويبدو أن داخله يضطرم بذكريات ما حدث له في الأمس القريب قبل أن يمسكوا به , وقبل أن يذهب إلى ميدان المنشية مع مجهولين وقبل أن يضرب ضربا مبرحا في الميدان , وقبل ما دار معه بقصر عابدين في الليالي التي سبقت المحاكمة , ويبدو أنه شعر ساعتها بالضياع وأنه يهوى في بئر لا قرار لها ويبدو أنه أدرك في هذه اللحظة أن كل ما دار واتفق عليه كان سرابا ووهما .
ويبدو أن جمال سالم قد شعر بما يضطرم في نفس محمود عبد اللطيف فنظر إليه مشجعا وحدثه بلهجة مطمئنة فلابد للعرض أن يستمر حتى الستار الأخير ومن ثم تعزف الجوقة السلام الجمهوري لأول رئيس جمهورية مصري من أصل مصري منذ أيام سيدنا مينا ( نارمر ) محطم الوجهين .

- وقال جمال سالم للمتهم .

علىّ صوتك شوية يا محمود , واتكلم على مهلك , وخليك هادي وهز له رأسه مشجعا كأنما يقول له :

- لا تخف. كل ما اتفقنا عليه يكون , وستخرج من هذه المحنة مثل الشعرة من العجين ولكن لابد من الالتزام بالنص .

وفهم محمود عبد اللطيف واطمأن قليلا وارتفع صوته :

- أنا في الإخوان من 1943 – هنا غير التاريخ وربما بسبب الاضطراب – وما انضمتش للهيئة السرية .. الخلية السرية إلا من مدة أربعة شهور بس .... والخلية السرية مكونة من هنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف وسعد حجاج.
وفي الأربعة شهور كنا نجتمع كل أسبوع من نصف ساعة إلى ساعة في بيت هنداوي دوير كل يوم اثنين , وكان اجتماعنا لحفظ القرآن ودراسة السيرة والجهاد في سبيل الله .
وسكت محمود عبد اللطيف , ويبدو أنه قد وصل بحديثه إلى حاجز الصدق .
وتبادل جمال سالم مع أنور السادات وحسين الشافعي النظرات ثم نظر إليه كالصقر وقد امتلأ وجهه بالشر .
وأدرك محمود عبد اللطيف معني النظرة فاخترق الحاجز , وواصل حديثه الذي اختلط فيه الحق بالباطل والواقع بالخيال فقد كان لابد من اكتمال المكتوب مع الفارق الكبير في التشبيه .

وقال محمود عبد اللطيف :

وقبل الحادث بأسبوع واحد كان هنداوي دوير قال لنا على حكاية الاتفاقية , وإن الرئيس جمال عبد الناصر وقع الاتفاقية وإن الاتفاقية دي غلط وخيانة في حق البلد .
وسكت محمود عبد اللطيف مرة أخري واشرأبت إليه الأنظار وحمادة الناحل ينظر إليه متعجبا وجمال سالم ينظر إليه متحفزا .

وهز الادعاء رأسه متململا .

وبدا في هذه اللحظة أن هذا هو كل شئ , ولكن التفاتة من محمود عبد اللطيف إلى المحكمة جعلته يواصل حديثه .

واتفقنا احنا الثلاثة إن اللي تتاح له فرصة ينفذ الاغتيال .

المتهم منوم تنويما مغناطيسيا

هذه هي اعترافات محمود عبد اللطيف أمام المحكمة !!

كل من في القاعة صامت لا يتكلم فمثل هذا النوع من الحديث لا يصلح له غير الصمت فقد تفسده الأسئلة , وهي لم يأت دورها بعد على أى حال .

واستمر محمود عبد اللطيف .

- وبعدين هنداوي دوير جاب لى المسدس قبل الحادث بيومين وقال لى المسدس بتاع سعد حجاجمجاش فنفذ أنت الخطة .
- وبعدين قبل الحادث بيومين قرأت أن الرئيس حيروح الإسكندرية لحضور المهرجانات الشعبية فرحت لهنداوي الساعة العاشرة والنصف بالليل , وقلتله اللي قريته في الجريدة فقال مفيش مانع على بركة الله .
- " ما ننقله هو من المضبطة الرسمية لمحكمة الشعب ورغم أنها نصوص لا تقف أمام النقد الحديث إلا أننا لا نملك سوي الاستشهاد بها على ما بها من ضعف وريبة "

قبل الحادث بيومين هنداوي جاب المسدس .

وقبل الحادث بيومين قرأ محمود عبد اللطيف بسفر جمال عبد الناصر إلى الإسكندرية .

وهذه الاعترافات كلها في فقرة واحدة رغم ما فيها من عدم الاتساق والاضطراب ويبدو أنه النص الذي لا يقبل المناقشة , ويبدو أيضا أنه ليس من حق الدفاع التعليق عليه , فهي أمور كانت تلفها الأسرار والأستار , والله وحده الذي يعلم ما تخفي الضمائر .

ونستكمل أقوال محمود عبد اللطيف أمام المحكمة .

- وفت على سعد حجاج الصبح وقلت له بالأمر فأبدي تأسفه اللي محضرش السلاح بتاعه علشان بيجي معاي .
- ما هي الخطة علي وجه اليقين ؟
- لم يذكر أحد شيئا عنها في هذه الملهاة .

أنا أطلقت الرصاص على عبد الناصر

واستمر محمود عبد اللطيف يقول :

- وتوكلنا وسافرت إلى الإسكندرية في قطر تسعة ونصف اللي يوصل واحدة تقريبا , وبعد كده رحت محرم بك واتمشيت شوية ودخلت مطعم واتغديت , وبعدين رحت لوكاندة دار السعادة , وأخذت حجرة خاصة وغيرت ملابسي وفي الساعة أربعة وربع نزلت على ميدان المحطة , وجدت جماعة متظاهرين رايحين المنشية فمشيت وراهم , وبعدما وصلت الميدان وقفت , ولما جه الرئيس وهو بيتكلم كلمته أطلقت عليه طلقات من المسدس .

ما زلنا نستمع إلى اعترافات أو أقوال المتهم محمود عبد اللطيف :

- بعد كده الناس قبضوا على ورحت البوليس الحربي في الإسكندرية وقلت الأقوال بتاعتي أمام النائب العام وهو اللي كتب المحضر .
- كان النائب العام في انتظار محمود عبد اللطيف في مبني البوليس الحربي حتى يكتب المحضر بعد أن يسمع أقواله أو هكذا يبدو الأمر .

استجواب لا معني له

هذه هي الأقوال التي قالها محمود عبد اللطيف في مستهل المحاكمة ... وبعد أن قالها كان هناك صمت قطعه جمال سالم موجها كلامه إلى رئيس النيابة , ويبدو أن الكل قد نسي ما ينبغي عليهم فعله :

- عايز تسأله ؟

وانتبه المدعي إلى سؤال رئيس المحكمة وقال :

- أيوه؟
- والتفت المدعي ناحية محمود عبد اللطيف , ويبدو أن الأخير كان متوترا مضطربا لا يعرف إلى أى حد يلتزمون معه وإلى أى مدى يذهبون .

وقال المدعي يسأل محمود عبد اللطيف :

- الشعبة بتاعتك فين ؟

وتعجب محمود عبد اللطيف من السؤال ولكنه أجاب :

وينظر المدعي في الأوراق ثم يوجه سؤالا إلى المتهم :

- بتقول إنكم كنتم بتجتمعوا في الشعبة وتذاكروا القرآن والسيرة والجهاد في سبيل الإسلام ..
- وينظر جمال سالم متحفزا ناحي المدعي الذي يسأل المتهم :
- إيه المقصود بالجهاد في سبيل الإسلام ؟

ويرد عليه محمود عبد اللطيف :

- المقصود به محاربة أعداء الإسلام والحرية .

- مين دول ؟

وينظر المتهم ناحية جمال سالم الذي يتفحصه تفحص الذئب ويجيب محمود عبد اللطيف قائلا :

- كنا بنفسرهم إنهم الإنجليزواليهود ومن يقف في سبيل الدعوة الإسلامية وبعدين جت حكاية الاتفاقية وقبل الحادث بأسبوع واحد اجتمعنا واتكلمنا فيها احنا الثلاثة وأقرينا إن الاتفاقية فيها خيانة للبلاد وإنها بخست حق البلاد وإدت الإنجليزكل الحقوق في البلد وعلى هذا الأساس بنينا حكمنا .
- وعندما نتأمل في سؤال المدعي وإجابة المتهم تجد الربط بينهما ضعيفا جدا وكأنه قد لقن إجابة في " بروفة " على عجل وهو لا يستطيع استيعاب كل ما ينبغي عليه قوله , ولا يخفي وعي المتهم بكل ما يدور في البلاد من مشكلات مع إدراكه وحسه السياسي الناضج .

ويسأله المدعي :

- أنت قريت الاتفاقية ؟
- قريت ...وقريت بعض الملاحق .

ويعود المدعي سائلا :

فهمتها ؟

رأي محمود عبد اللطيف في اتفاقية الجلاء

ويبدأ محمود عبد اللطيف يتكلم على سجيته :

- اللي أنا فهمته منها إنها إدت الإنجليزكل الحقوق , وقريت في الجرائد أنها استبدلت بالخمسمائة مليون جنيه الديون بتوع مصر مبلغ 32 مليون جنيه ثمن أسلاك وكابلات في القنال .
وتبادل كل من في القاعة النظر تعجبا ودهشة لهذا السمكري الذي يتكلم في هذه الأمور الدقيقة التي ينبغي ألا تتاح لمثله معرفتها .

وتردد المدعي قليلا قبل أن يسأل المتهم :

- الاستبدال ده كان مذكور صراحة .

وكان المتهم قد نسي الزمان والمكان وصار يتحدث كأنها مناقشة في صالون مقفل بعيدا عن أعين الرقباء والمخبرين وقال :

- كان فيه الملاحق وفسرتها جريدة الأخبار .. كانت قد كتبت استبدال الديون بين كل من مصر وبريطانيا باثنين وثلاثين مليونا ثم كابلات بعض المنشآت في القنال .

- وتدخل جمال سالم كأنما يذكره بشئ قد سبق الاتفاق عليه :

- ولا كان فيه حاجة ثانية مزعلاك في الاتفاقية ؟
- أيوه فيه حاجة ثانية , وهي إنه ما كانش ضروري الاتفاقية لأن وجودهم في مصر بعد سنة 1956 حيبقي غير شرعي وحيطلعوا من نفسهم , خصوصا أن أساليب الحرب اتغيرت والنظم بتاعت الحرب , دلوقت القوات بدل ما تكون مجموعة في حتى واحدة تلقي عليهم قنبلة ذرية فهم كانوا حيفرقوا قواتهم خوفا من القنابل الذرية , وهنا انفجر رئيس المحكمة جمال سالم غاضبا لهذا الوعي الذي ليس من المفروض أن يعبر عنه أمام الموجودين مخالفا بهذا ما كان متفقا عليه وقال له مزمجرا :

- يعني أنت كمان جنرال وتفهم في الشئون العسكرية كويس !!

ونظر محمود عبد اللطيف حائرا إلى جمال سالم وإلى الدفاع وإلى النيابة ثم إلى النظارة الجبناء , فهو يحاول أن يرضيهم ولكن يغلب عليه طبعه وسجيته ووعيه بمشكلات السياسة في مصر حسبما تعلم وتربي في مدرسة الإخوان المسلمين .

ولا يجد ما يقوله فيصمت تماما .

وقام رئيس النيابة لينقذ الموقف :

- رأيك إيه لو ما اتعملتش الاتفاقية , كان الإنجليزحيخرجوا إزاي من القنال رأيك إيه كمواطن أو كأخ من الإخوان.

وتجاهل رئيس النيابة الذي تخلي عن ضميره كل العروض السابقة التي عرضتها بريطانيا على مصر , ورفضتها كل حكومات عهود ما قبل الثورة , وكانوا لا يحيدون عن مطلب واحد وهو الجلاء غير المشروط , والذي أوشك أن يكون عام 1956 عندما وصل نشاط الفدائيين المسلمين والوطنيين إلى ذروته وأصبح لا مفر من الجلاء , والبحث عن طريقة كريمة لتنفيذ هذا .

الجهاد هو الطريق إلى الجلاء

وتوقف هذا الجهاد بحريق القاهرة في 26 [يناير]] 1952 وكل أصابع الاتهام تشير إلى جمال عبد الناصر , وهو نفسه ألمح بهذا في إحدى خطبه .

وتدخل المدعي ساخرا يسأل المتهم ليرضي " الديكة" الذي جلسوا على منصة القضاء خطأ , وقال مكملا سؤال رئيس النيابة:

- وبتدعوا للجهاد .

وتلكم المتهم بثبات :

- خروجهم يحتاج إلى جهاد , والجهاد جربناه قبل كدة في كتائب الجماعة , ولما راحت القنال كان الإنجليزمنزعجين من الكتائب لغاية ما صرحوا في بعض الكتب وقالوا إنهم مستعدين للجلاء بشرط توقف حرب العصابات .

الوعي السياسي للمتهم

وعاد الذهول يلف المحكمة من جديد , فالمتهم الذي لم يلق حظا كبيرا من التعليم يشير بحجة ومنطق إلى خيانة الحكومة في هذه الاتفاقية التي أبرمتها مع قوات الاحتلال الذي أوشك أن يغادر مصر دون أية تنازلات وقد أثبتت الوثائق الإنجليزية والأمريكية هذه الحقائق عندما نشرت بعد ذلك .

وأراد رئيس النيابة أن يحرج المتهم الذي خرج عن النص ,وأن يظهر جهله وضحالته أمام الموجودين ,وأن يغير الموضوع أيضا فقال :

- إنت قلت إنك قريت معاهدة 1936 تقدر تقول لنا إيه هي ؟

- وكأن المتهم قد استسخف السؤال فأجاب بتثاقل :

- هي كانت جعلت للإنجليز كل حق في البلد إنهم يستعملوا كل حاجة بالثمن مثل السكك الحديدية والتموين وأى حاجة في المطارات والمواصلات .. كل ده بالفلوس من أجل ذلك كانت الديون التي على بريطانيا لمصر ترتبت من أجور المواصلات والسكك الحديدية .

- وأسقط في يد رئيس النيابة وعاد يسأل المتهم :

- رأيك إن معاهدة 1936 أحسن أو الاتفاقية أحسن ؟

وألقمه محمود عبد اللطيف حجرا عندما أجاب :

- معاهدة 1936 انتهت طبعا .
وظهر لكل من يسمع ويشهد أن السمكري أكثر وعيا وعلما بالسياسة ومشكلات مصر من كل الموجودين .

وهنا انفجر جمال سالم الذي انتبه إلى هذا وزمجر قائلا :

- افتكر بلاش مناقشة المعاهدات, احنا ما بناقش عبد الحميد بدوي وبنأخذ رأيه في الموضوع .

( عبد الحميد بدوي أحد كبار القانونيين الدوليين المصريين آنذاك)

وكعادة جمال سالم كانت جملته التي نطقها بمثابة وقفة أسكتت الجميع , وفكر رئيس النيابة قليلا ثم وجه سؤاله إلى المتهم .

- أنت دراستك إيه ؟
- أنا درست الابتدائية أربع سنين في القسم الليلي ورسبت فيها وكنت دارس قبل كدة أولي .

فكرة النظام الخاص في رأي محمود عبد اللطيف

وقال رئيس النيابة موجها سؤاله للمتهم :

- فهمت إيه الفكرة من النظام السري ؟
- الفكرة هي الجهاد في سبيل الله ودراسة القرآن والسيرة ...ده كل اللي فهمته الغرض منه إيه ؟
- الغرض منه محاربة أعداء الإسلام وأعداء الدعوة .

الدعي : مين أعداء الدعوة الإسلامية ؟

ورد عليه محمود عبد اللطيف ببساطة كأنه شئ معروف
أعداء الدعوة الإسلامية .
وأعاد عليه المدعي السؤال بإلحاح

مين؟

وأجاب محمود عبد اللطيف :
اللي يقف في طريق الدعوة الإسلامية :

وصار المدعي يقلب في الأوراق أمامه وكأنه لا يدري ماذا يقول , ومن في القاعة صامت يترقب ما يسفر عنه كلام المدعي الذي قال :

- أنت قلت أنه قبل الحادث بيومين هنداوي جابلك مسدس ؟ منين جابه ؟ ونظر المتهم شاردا ثم فاجأته نظرة جمال سالم القاسية فقال :
- ما قالش منين جابه ... هو قال لى استعد وماقالش منين جابه .
- ما اداكش طلقات ؟
- وأجاب محمود عبد اللطيف :
- 15 طلقة .
- ما قالش منين جابه ؟
- لا ما قالش .
- ما إداكش فلوس؟
- إداني اثنين جنيه علشان أصرف منها .

ويجب أن ننتبه جيدا إلى هذه الأقوال لأنه سيأتي ما يعارضها تماما عندما نسير في قراءة المحاكمة وتحليل واقعة ضرب عبد الناصر بالرصاص في المنشية

أدوار قد وزعت ويقوم الممثلون بأدائها بصعوبة بالغة وهناك منهم من لا يلتزم بالنص , ويثور جمال سالم , وتتناثر الشتائم من فمه بلا حساب أو نظام .

والقراءة في محكمة الشعب ممتعة ومثيرة لما فيها من تضارب وتناقض وخروج على أبسط قواعد الأعراف القانونية والأخلاقية وقد لا يستطيع الإنسان أن يمسك نفسه من الاسترسال فيها , ولكن لابد لنا من التوقف ولو قليلا لتحليل ما حدث وما قالوه وارتجلوه في تلك الأيام الصعبة من تاريخ مصر والمسلمين .

أمامنا المتهم محمود عبد اللطيف يعمل سمكريا اشترك في عميلات ضد اليهود في فلسطين وضد الإنجليزفي القنال .

عضو في جماعة الإخوان المسلمين يدين بالسمع والطاعة لولي الأمر من الجماعة على درجة كبيرة من الوعي السياسي وعلى إدراك بطبيعة الأزمة والخلاف بين الإخوان والضباط .

ولكن هل أطلق الرصاص على جمال عبد الناصر في المنشية ؟

هذا هو السؤال الصعب ,والإجابة عنه تحتاج إلى تمعن ونظر في كل ما قدم لنا حول هذا الحادث من الجهات الرسمية , وأقوال الشهود والادعاء والدفاع وتعليقات رئيس المحكمة ,وتوجيهه لمسار الدعوي .

لا نريد أن نمضي كثيرا في أسئلة المدعي العام ورئيس النيابة فأكثرها لا قيمة له ولا معني أكثر من أنهم يحاولون النيل من أعضاء الجماعة ومن الأهداف العامة لها , وإظهارهم أمام الشعب بأنهم طلاب سلطة , وفي سبيل ذلك يفعلون ما يخطر على بالهم , ورغم أن هذا هو غرضهم فإن المدقق في الأقوال يتبين عكس هذا تماما وسوف نتناول هذه المقولات ونري دلالتها في حينها .

ومحمود عبد اللطيف عضو في مجموعة من مجموعات النظام الخاص للإخوان يرأسها هنداوي دوير ويشاركهما سعد حجاج.

وكانت سياسة النظام الخاص للإخوان في هذه الفترة هي الترقب والاستعداد لمواجهة أى موقف قد تتخذه الحكومة حيالهم .

ومن ثم كان التسليح , وكانت محاولات التدريب ومراقبة الجو بشكل عام وكان هناك من يذهب للمؤتمرات التي تعقدها الحكومة لتأييد نفسها لينظر مدي كثافة الحراسة وانتشارها , وكان يستحيل على من يذهب أن يدخل إلى هذه المؤتمرات .

والدليل على هذه الاستحالة تلك الفقرة من الجلسة الثانية من المحكمة :

المدعي : اتفقتم على مين يقتل الرئيس جمال عبد الناصر؟

المتهم : هنداوي قال كل اللي تتاح له الفرصة منا احنا الثلاثة .

المدعي : هل سبق حد حاول .

المتهم المحاولة اللي قمت بها كانت محاولة استطلاع بس ما كانش معايا مسدس .

المدعي : امتي وظروفها إيه ؟

المتهم : محاولة الاستطلاع كانت في مؤتمر الموظفين .

المدعي : اشرحها للمحكمة .

المتهم : في مؤتمر الموظفين قبل الحادث بيومين رحت عند إشارة المرور وشفت الريس وما دخلتش جوه لأن الحراس مانعين الدخول مؤتمرات لا يدخلها مواطن عادي غير مسلح , ولا يستطيع لأن الحراس يمنعون الدخول إلا لفئة محددة من الناس يعرفونها ويعلمونها فكيف بمؤتمر مثل مؤتمر المنشية يوم 26 أكتوبر عام 1954 قد ملئ بعمال مديرية التحرير وموظفيها وبرجال الحرس الوطني ؟!

هل يمكن أن يدخله نفس الشخص وفي حيازته مسدس ويجلس في الصفوف الأولي ويخرج المسدس ويطلق النار على الرئيس عبد الناصر ؟

هذا ما نحاول الإجابة عنه .

رأي للدفاع

خلال المناقشات التي جرت بين رئيس المحكمة جمال سالم والمتهم محمود عبد اللطيف , وبين المدعي والمتهم استطاع المحامي حمادة الناحل أن يستنتج أنه أمام قضية غامضة التركيب , وأن هناك أشياء كثيرة قد حذفت من النص المعروض , وأن هناك اتفاقا ما بالسير في المناقشة إلى وجهات محددة ومنع تشعبها إلى مالا ينبغي .

وقال حمادة الناحل :

- لو سمح لى سيادة الرئيس – رئيس المحكمة – بكلمة

- ورد جمال سالم :

- أيوه اتفضل.

الدفاع : خلال هذه المناقشة آمنت بأنني إلى جوار شخص غير عادي ,.. غير طبيعي .. كنت قد فكرت في هذا قبل أن ألقاه , وبعد أن لقيته مرة ومرة , وبعد أن سمعته الآن آمنت بأن هذه المهمة العصيبة التي ألقيت على كاهلي إنما هي مهمة الدفاع عن شخص مجنون ... لا أريد أن أفرع عن هذا الجنون وعدم المسئولية , ولكنني أستهدف أولا وقبل كل شئ التدليل على أنه لا يوجد مصري عاقل .. مصري يسير كما يسير الأقوياء .. مصري طبيعي , يقدم على الاعتداء على الرئيس جمال عبد الناصر .

لم يدخل هذا الكلام عقل الدفاع , وليست ميسرة له طرق الحصول على أية معلومات وكل شئ منضبط ويسير بنظام, ويواصل كلامه :

الدفاع : لا أريد أن أعطل الدعوى بل نمضي في سماع الشهود , ولكنني أطلب بعد سماع الشهود اليوم إحالته إلى الطبيب الشرعي علشان يقعد معاه ساعتين ويدينا تقرير عنه يجبنا يوم السبت الصبح ... وده ما أظنش إنه حيكون موضوع جدل بيننا وبين الادعاء لأنه لا صلة له بتعطيل الدعوى . ونحن هنا قد جئنا لا لنتحدث في الصغائر , وإنما لنشترك جميعا محكمة وادعاء ودفاعا في رفع خطر عن بلادنا ولذلك أرجو أن تقدروا هذا الطلب وتفصلوا فيه .

لا يجوز أن يتصل محلوق بالمتهم

وكان المحامي يتوسل إلى المحكمة بطريقة بليغة قد أثرت في الحاضرين كما وضح هذا في الوجوه المتوثبة التي تنتظر إجابته إلى طلبه .

وبدا القلق على وجوه أعضاء المحكمة , ورئيسها المقدام الذي لا يرتبك ولا يتعلثم نظر ناحية النيابة , وهم جميعا حريصون على أن يظل المتهم بين المحكمة ومعتقل التعذيب سواء في السجن الحربي أو في قصر عابدين حيث البوليس الحربي وهي الأماكن الآمنة في نظرهم وليس من المناسب أن يذهب المتهم إلى جهة مدنية والأدهى من ذلك أن يقابل طبيبا!

وما يدرينا ماذا يدور بينه وبين هذا الطبيب !

صحيح أنه يمكننا الذهاب بالمتهم إلى أى مكان ومعه صول وهذا الصول يستطيع بما أوتي من صلاحيات أن يجعل وزير الصحة بنفسه ينتفض هلعا , ومن ثم لا فلا يكتب , في تقريره إلا ما يريده هذا الصول الذي يمثل السلطة في مصر .

ولكن لماذا كل وجع الدماغ هذا ؟ يجب عدم المغامرة بخروج المتهم إلى آية جهة كانت ولا يسمح لمخلوق بلقائه .

ما يدرينا ماذا يمكن أن يقول !

ويخبط جمال سالم بقلم رصاص في يده على المنصة مستنفرا الادعاء الذي يفهم الإشارة فينتفض وافقا ويقول:

وكيل النائب العام : الادعاء يعترض على هذا الطلب .

ويبتسم جمال سالم مستريحا ويستند إلى الوراء , وهم بوضع حذائه على المنصة ولكنه تنبه فاعتدل في جلسته وهو يواصل سماع الادعاء وهو يخطب مجلجلا في حماسة :

وكيل النائب العام  : وقد تكلم المتهم طويلا في التحقيقات كما تكلم اليوم أمام حضراتكم واعترف تفصيليا بأنه ارتكب الحادث وبيت النية منذ أسبوع كامل على ارتكاب الحادث .

وانبري يتكلم ويتكلم وثار ثورة عارمة في آخر كلمته وهو يقول :

وكيل النائب العام : وإنما لعل الدفاع يريد مع هذا ويستهدف من وراء ذلك أن يطلب استعمال الرأفة مع المتهم ... ولكن أن يقول عنه إنه مجنون فلا يقبل عقل سماع هذا إطلاقا .

عرض المتهم على الطب الشرعي لن يؤثر

ويبدو على الدفاع أنه لم ييأس بعد فهو يقلب النظر بين الموجودين وبكلمة هادئة يحاول إقناع المحكمة بضرورة عرضه على الطبيب الشرعي ويلمح لهم من طرف خفي أن هذا لن يؤثر على شئ وكأنه قد كون في رأسه نظرية ما عما يدور في هذه الصالة العجيبة .

وكان كلام الدفاع منطقيا ومعقولا , فهو يطلب عرض المتهم على الطب الشرعي ويتم ذلك في وقت قريب وليس أثناء نظر الجلسات ولكن بعد الانتهاء منها وبين أنها قضية غير عادية وينبغي أن تأخذ حقها ولو من الناحية الشكلية التي أهدرت مع قرار تشكيل المحكمة .

تداول جمال سالم مع السادات حسين الشافعي عضوي اليمين واليسار , وانتهي بأن نظر في تبجح وقال :

جمال سالم : المحكمة معترضة على إحالة المتهم على الطبيب الشرعي .

وللقارئ الكريم أن يفكر ويتأمل لماذا الاعتراض !

رأي هنداوي دوير في الصراع بين الإخوان والحكومة

بعد رفض المحكمة لطلب الدفاع بعرض المتهم على الطبيب الشرعي تم استدعاء هنداوي دوير كشاهد بين استياء الدفاع الشديد وقد قابلته المحكمة بالترحاب وألانت له القول وعرضت عليه الشرب وطلبت منه أن يتكلم بهدوء وعلى راحته .

فهي في قرارة نفسها مطمئنة إلى كل ما يمكن له أن يقول .

ويبدو أن هناك اتفاقا مسبقا دقيقا حول كل حرف قاله هنداوي دوير ولكننا لو أخضعنا كلامه - كلام هنداوي دوير - أو شهادته لمقاييس النقد فسوف تتضح لنا حقائق هذا الاتفاق , وسوف نفعل هذا ولكن بعد استعراض كلامه أمام جمال سالم ومحكمة الشعب .

وبعد أن حلف هنداوي دوير اليمين قال له جمال سالم :

إيه اللي تعرفه عن موضوع التهمة بتاعت محمود عبد اللطيف في تعديه على الرئيس جمال عبد الناصر ؟

وتحفز المتهم وبدا عليه كأنه يسترجع ما ينبغي عليه قوله :

- أيوه يا أفندم .

وتحدث إليه جمال سالم في لهجة رقيقة وهو يهدئه :

نرجوك أن تكون هادئا , وإذا كنت عايز كوباية مية نجيبلك كوباية مية : وأشار جمال سالم بيده , فأسرع من يلبي طلب الرئيس .

والملاحظ أن هنداوي دوير قد ازداد توترا وعصبية وتمتم قائلا :

- تسمح لى اتكلم في الموضوع على طول .
- وقال له جمال سالم مطمئنا , وهو يحاول أن يبعث الهدوء في نفسه :
- اتكلم زي ما انت عايز .. اتكلم على راحتك .

وبدأ هنداوي دوير يتكلم بطريقة آلية كأنه يقرأ نصا محفوظا :

- في الأشهر الأخيرة .. من خمس شهور أو أربع شهور أو بعد مارس بالتحديد انقسم أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين إلى ثلاثة أقسام :
- أحدها وعلى رأسها بعض الإخوان زي الأستاذ البهي الخولي يؤيد الثورة , ويري ضرورة إن الإخوان يقوموا بتأييد الثورة .
- وفريق آخر وقف موقف حياد أو على الأقل موقفا مائعا.. ماقدرش يحدد موقفه بالضبط وما أرادش إنه يغضب دول ولا دول , وكان علي رأس هذا الفريق الدكتور خميس حميدة اللي هو وكيل الإخوان .
- والفريق الثالث كان يري أن الثورة ماشية في طريق يعارض الاتجاه الإسلامي وسكت هنداوي دوير قليلا مترددا , ووجه له جمال سالم نظرة صارمة تطالبه بالاستمرار فازدرد ريقه وقال :
- على أثر هذا الخلاف الشديد الهيئة التأسيسية كأعضاء فقدت احترامها في نفوس الإخوان ومكتب الإرشاد لم يستطع أن يقوم بمهمته في توجيه الإخوان وبذلك فقد احترامه فعلا في نفوس الإخوان حتى أصبحت التعليمات التي تصدر منهم لا تلقي تأييدا من الإخوان .

وكان لابد من تعديل الحال فرئي أن هذه الهيئة لا تمثل الإخوان , وما دامت لها صفة من صفات الأبدية وهي التعيين مدي الحياة فلابد من تغييرها إلى وضع آخر يستقيم مع الأمور , فرئي تعديل القانون وفعلا عدل القانون في هذه الفترة إزاء هذا الاضطراب الشديد , سيطر على الدعوة بعض أفراد غير رسميين يعني أفراد مالهمش الصفة الرسمية زي إبراهيم الطيب .

الأستاذ إبراهيم الطيب المحامي .

ووجدنا أن الأجهزة الإدارية في الإخوان المسلمين أصبحت كلها معطلة ماعدا الجهاز الخاص الجهاز السري في الإخوان المسلمين .

وسكت هنداوي دوير وهو ينظر يمنة .... ويسرة .... والكل يستحثه لنطق فأكمل : -

كان الجهاز السري يسير على الموقف ويصدر تعليماته إلى الإخوان على أثر هذا بدأ التعليمات تيجي تلقائيا من المسئول , وكانت في هذه الفترة من الأستاذ إبراهيم الطيب المحامي المسئول عن النظام السري في القاهرة .

وأنا في إمبابة كنت رئيس المنطقة وكنت طول عمري في المنطقة رئيس الجهاز السري .

هذا هو تصور هنداوي دوير عن الوضع والخلاف بين الحكومة والإخوان ووجهة النظر هذه لم تتكون أثناء مثوله للتحقيق , ولكنها تكونت أثناء جريان الحوادث ووقوعها بالتأكيد .

وواضح من كلامه أنه لم يكن راضيا عما كان يدور في ساحة الإخوان بغض النظر عما إذا كان ما حدث قد تم رغما عنهم أم بمحض إرادتهم واختيارهم ولكن هكذا كانت وجهة نظر هنداوي دوير وهي تساند الضباط أكثر مما هي منسقة وملتحمة مع وجهة نظر الإخوان .

ولسنا بصدد مناقشة ما إذا كان الحق معه أم لا , ولكن حسبنا التأمل في الوقائع وما فيها من دلالات وما خلف السطور من حوادث وإشارات .

فقصة محاول اغتيال عبد الناصر عام 1954 وإلصاق هذه التهمة بالإخوان المسلمين هي قصة الجريمة الكاملة التي تمت في العصر الحديث .

ورغم هذا فقد ترك الجاني خلفه الكثير من الآثار التي تدل عليه , ولكن أين التحقيق وقد كادت الآثار أن تضيع تماما لتطاول السنين , والمجرم هنا هو الدولة بكل ما لديها من أجهزة وقوة وهيمنة على كل شئ فقد حكمت بقسوة بالغة .

وجعلت الحديد والنار شعارا لها , فإن تأخر كشف جريمتها فليس هذا بالعجيب أو المستغرب .

أقوال هنداوي دوير عن الحادث

واستمر هنداوي دوير في الكلام أمام محكمة الشعب وجمال سالم ينظر إليه كالذئب يرهبه ويرغبه حتى لا يخرج عن اتفاق سابق قد غاب شهوده

وقال هنداوي :

- وفي أثناء المعاهدة أو بعد الاتفاق المبدئي اللي وقع بالحروف الأولي , قامت الخلافات حول ما إذا كانت هذه المعاهدة صالحة أو ضارة , وبدأ شحن نفوس الإخوان بأنها ضارة , وصدر قرار مكتب الإرشاد اللي وجه إلى السيد الرئيس بخصوص رأي الإخوان في المعاهدة , واللي قيل فيه إن ده مجرد نصيحة , وإنه غير ملزم للحكومة , وإن من واجبنا أن نوجه أي حاجة للحكومة باعتبارنا من الشعب .
- وتطورت الأمور بعد هذا يا سيدي إلى أن بدأت المنشورات تنزل , وكانت تيجي للإخوان علشان يقرءوها وعلشان ينزلوها ويوزعوها للناس الأستاذ إبراهيم الطيب كان بيقول إن الخطة اللي اتخذها النظام السري هي تعبئة نفوس الإخوان من الوجهة الشعبية وتعبئة نفوس الناس ضد المعاهدة

وعلى هذا الأساس نزلت جملة منشورات باعتبار أن الاتجاه هو تبصير الناس – كما يقول الأستاذ إبراهيم الطيب – على أساس أن المعاهدة ضارة .

في الفترة دي يا سيدي شحنت نفوس الإخوان شحنا شديدا ضد المعاهدة ,وكان على أثر هذا إن الإخوان طبيعي كانوا متضايقين من المعاهدة ضيقا شديدا وكانوا يقولوا : ما المصير ؟ إيه يعني ؟ حنعمل إيه ؟

وبعدين بصينا وجدنا فجأة المنشورات انقطعت نهائيا فسألت إبراهيم الطيب :

- أنتم عبتونا وفرغتونا ليه ؟

فقال : إن الاتجاه مش حيكون شعبي , بل احنار قررنا إن الاتجاه يكون اتجاها إرهابيا .

فقلت له : يا أستاذ إبراهيم إن الاتجاه الإرهابي ده لن يؤدي إلى نتيجة وذكرته بما تحمله الإخوان أيام فاروق , وقلت له إن احنا والبلد مس حنجني من هذا الطريق شئ فقال لى إن هناك خطة كاملة واحنا حانفذها طيب يا سيدي أقف هنا عند هذا القدر من كلام هنداوي دوير لأسجل ملحوظة .

هنداوي دوير من أشد الإخوان تحمسا لمقاومة الحكومة في ذلك الوقت بالقوة وكان ينادي بضرورة اغتيال عبد الناصر وكل رجال الثورة , وان الذي يخرج على النظام الخاص " يخلي سبيله " وهذا من قانون النظام الأساسي , وكان العقلاء يردونه في هذا , وقد شهد بذلك من عرفه وتعامل معه , وكان متهورا جريئا ,واختير من ضمن الحكومة ضعفا , وأن عبد الناصر كان عضوا في النظام الخاص ونقض بيعته ومن ثم فلابد أن يخلي سبيله ومعناه الموت .

وأعود إلى أقوال هنداوي :

- قبل الحادث بحوالي خمس عشر يوما أو أكثر قليلا جاني وقال لى إن خطتنا هي أن النظام قرر أن يعتدي أولا على الرئيس جمال عبد الناصر وبعد كده يتخلص – بتحدد اللفظ – يتخلص من الضباط الأحرار بأي صورة سواء بالاعتقال أو بالخطف أو بالقتل .
فقلت له يعني انتم حققتم المسائل دي إسلاميا فقال لى آه .. ولعل حضراتكم تعرفون أن النظم السرية دى ... المسائل اللي تتناقش فيها بشكل أوسع .. وفعلا قال لى إنه انتخب محمود عبد اللطيف ليقوم بإطلاق الطلقات وهي الاعتداء على الرئيس جمال عبد الناصر .

وجاب لى المسدس اللي شفته في القضية , وبعدين أنا اديت المسدس على طول لمحمود عبد اللطيف , وقلت لإبراهيم الطيب , إيه الخطة يا سيد إبراهيم ؟ فقال لى إن الرجل الصعيدي يتتبع خصمه سنة كاملة لغاية ما يتخلص منه ... فالخطة إن محمود عبد اللطيف يعتمد على مجهوده الشخصي في تتبع الرئيس جمال عبد الناصر .

وفي هذه الأثناء – وأنا أقولها يا سيدي الرئيس لوجه الحق ولوجه الله – زارني الأستاذ محمود الحوانطي والأستاذ عبد الفتاح القرشي في البيت يمكن الساعة تسعة .

وقالوا لى إنا احنا بلغنا أن النظام – قالوا لي كده ودي كلمة تطلق على النظام السري – قالوا لى إن النظام قرر أن يتجه اتجاها إرهابيا , وإن الحواتكي علم أن الأستاذ المرشد غير موافق على هذا الاتجاه وإنه قال لى بالتحديد إنني برئ من دم جمال عبد الناصر إذا قتل .

ونقف قليلا مع الشاهد الوحيد ... شاهد الإثبات الوحيد الذي لم يقاطعه جمال سالم , بل ترك له الفرصة كاملة للحديث رغم اضطراب الوقائع التي يسردها وتضاربها أحيانا , شاهد الإثبات الوحيد الذي عومل أحسن معاملة في قاعة المحكمة وسمح له بالشرب وهو شئ لو تعلمون عظيم .

كلام واضح وصريح رغم الخلفيات التي نعرفها والتي لا نعرفها حول شهادته المرشد برئ من دم جمال عبد الناصر إن قتل وهو أعلي سلطة في الجماعة وسمح لهنداوي بالحديث بغض النظر عما يقول من كلام متناقض والمهم أنه أعطي مسدسا أخذه من إبراهيم الطيب وسلمه لمحمود عبد اللطيف وقال له : اتصرف , ثم عاد يسأل إبراهيم الطيب عن الخطة !

ولعل هذا من أسباب سحب مضابط محكمة الشعب من الأسواق بعد ذلك فقراءتها تبين التأمر وتحدد أبعاده بوضوح شديد جدا .

ونعود إلى شهادة هنداوي دوير :

قلت له مين اللي قال هذا الكلام ؟ فقال لى : قاله شخص لست في حل من ذكر اسمه .
وقد سبق أن قلت هذا الكلام في التحقيق .

وبعدين سألت نفسي : احنا رايحين فين ؟

ثم قابلت محمود بعدها على طول – يقصد محمود عبد اللطيف – وقلت له أوقف كل حاجة , وهو موجود أمامكم واسألوه ,وأعتقد أنه صادق وحيقول الحق , وبعدين جاني زارني إبراهيم الطيب وهو كان بيزورني في هذه الفترة كل يوم باعتبار إن دي خطوة أولي , وإن دي هي اللي حتمشي في هذا الطريق .

جاني إبراهيم ثاني يوم فقلت له على حكاية الأستاذ الحواتكي والأستاذ القرشي ... وبهذه المناسبة مكانش الأستاذ إبراهيم الطيب يعرفني بمكانه أبدا .

فقال لى أن هذا الكلام غلط , وإن الناس دول متصلين بالمفصولين وبالأستاذ البهي الخولي وإنهم عاوزين يعطلوا شغلنا .

فقلت له يعني الأمر صادر من المرشد فقال لى ايوه فقلت لمحمود امش في طريقك.

قبل الحادث بثلاثة أو أربعة أيام كان الأستاذ إبراهيم بيتفق معي .. فقال لى حاجيب عدة حاجات لتكون بمثابة العمل الأول اللي تبدأ بعده الخطة وهي مدفعين على أساس إنهم يبقوا كمين يوجه ضد ركب جمال عبد الناصر وجاب لى لغم على شكل حزام , وشرح لى طريقة عمله , وقال إن محمود يبقي يتحزم به وجاب لى طبنجة ثانية , وقال لى إن محمود على النصيري يأخذها ويقوم بدور محمود عبد اللطيف ... اللغم والمسدس جابهم لي يوم الثلاثاء محمود بعد ما أخذ المسدس نزل وراح مؤتمر الموظفين ولم يعمل حاجة .

وفي نفس اليوم الاثنين .... جاني يوم الاثنين بالليل الساعة الحادية عشر ونصف اثني عشر وقال لى إنه مسافر إلى الإسكندرية .

" رغم كثرة الملحوظات على أقوال هنداوي وتضاربها فلا بأس من الإشارات الخفيفة بين الحين والآخر مثل يوم الثلاثاء ويوم الاثنين ".

واستمر هنداوي في أقواله والقاعة يخيم عليها الصمت , والقاضي جمال سالم يراقب وجوه المستمعين والحاضرين ليري أثر كلام الشاهد عليهم , مثل أى مخرج يقف من خلف ستار ليري تأثير العرض على الناس وقال :

- فقلت له علشان إيه يا محمود ؟

فقال لى الرئيس مسافر النهاردة إسكندرية .

فقلت افرض إن مافيش حاجة هناك ؟

فورا في جرائد القاهرة وكان منشور فيها إن الرئيس مسافر إسكندرية .

وبدأ التململ يسري بين الحاضرين للإطالة وعدم التركيز وانتبه رئيس المحكمة إلى هذا فصار ينقر بقلم رصاص في يده على المنصة حسبما روي أحد شهود العيان في ذلك اليوم وعاد الصمت .

وبدا شئ من الاضطراب على وجه هنداوي وهو يقلب بصره هنا وهناك وقال : -

أنا طبيعي الآن في موقف الشاهد ومش عايز أبرئ نفسي باعتبار إن مكتب الادعاء قد أنهي الموضوع , وإنما أقرر أنني قلت لمحمود ما بلاش يا محمود هذا المشوار , فقال لى لازم أسافر .
وهنا اشرأب محمود عبد اللطيف بوجهه ناحية الشاهد لائما يريد أن يقول شيئا خارجا عن النص ولكنه لا يستطيع , فعين جمال سالم ترمقه متوعدة محذرة ساخرة في الوقت نفسه , وعن يمينه وعن شماله يجلس كل من أنور السادات وحسين الشافعي وهما أبلغ في صمتهما من أسدي قصر النيل .

وعاد الرئيس – جمال سالم – إلى هنداوي مشجعا فقال :

- وإن كان هذا الكلام يغلظ العقاب على محمود , أقرر أن محمود كان محتمسا لهذا العمل بالفعل , فقلت له طيب يا سيدي سافر.
- واتسعت ابتسامة جمال سالم الساخرة لهذه الطقوس المتضاربة والتي على الجميع أن يصدقها ولا يعترض عليها ,وليس له دخل في نقد النص من ناحية عدم الترابط والاتساق , وهي طقوس معروف مقدما النهاية التي تفضي إليها .

وقال هنداوي :

- وسافر فعلا - محمود عبد اللطيف – هو سافر يوم الثلاثاء , والكلام ده كان يوم الاثنين بالليل الساعة الثانية عشر اللي هو بدأ يوم الثلاثاء .
وبدا الإرهاق على الشاهد وهو يجهد ذهنه في التركيز فلا يستطيع فيبدو كلامه غير مترابط , وأحيانا غير مفهوم .

وبنظرة الصقر من جمال سالم أرغم هنداوي على الاستمرار :

- جاني الأستاذ إبراهيم الطيب يوم الثلاثاء وجاب لى اللغم والطبنجة , وقال لى ابقي اعرض أحدهما على نصيري .. محمد على نصيري رفض إنه يأخذ اللغم , وأنا كنت أبديت اعتراضي على اللغم , ولكن إبراهيم قال إن العسكريين قالوا إنه كويس كده , وإن احنا مالناش أن نعترض على الناحية الفنية .

طيب يا سيدي يوم الثلاثاء الساعة اثنين ..

أولا أنا كنت في المحكمة في هذا اليوم لغاية الساعة واحدة ونص وكنت أترافع في إحدى عشر قضية ,هذا ثابت في محضر الجلسة كما هو ثابت في التحقيقات التي أجراها رجال الإدارة , وبعدين روحت البيت الساعة اثنين اتغديت أنا وأولادي وخلصت غدا ..

الساعة اثنين ونصف جاني الأستاذ إبراهيم ومعاه اللغم والطبنجة .

ويظهر إن الأستاذ إبراهيم كان جاي في السكة ووراه الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل لأنه جه بعده على طول , فقال لى هات إبراهيم يتغدي عندي , وبهذه المناسبة أقرر أن الأستاذ إبراهيم الطيب قال لى ما تقولش حاجة ز يدي للأستاذ عبد العزيز كامل لأنه معارض في هذا الاتجاه ويمكن أن يقنعك إنك تعدل عن تنفيذ الخطة :

وبعدين قعدت أنا وإبراهيم في أوضة المكتب وجبت له على صينية الشاي طبق خضار وشوية أرز , وبدأ إبراهيم يتغدي .

وفعلا وحبه وجه عبد العزيز كامل وقال ييجي إبراهيم يتغدي معايا ,فقال إبراهيم أنا حاتغدي هنا .

فقال عبد العزيز ابعت حد للحاجة اللي هي الست الوالدة يجيب لنا شوية حاجات .

ودخلت أنا اللغم وكان ملفوف في ورقة وكذلك المسدس في أوضة من أوض البيت .

وقعد إبراهيم وعبد العزيز يتغدوا ويتكلموا ييجي ساعة .

" ويلاحظ أن الدكتور عبد العزيز كامل كان يسكن في نفس البناية اللي كان يسكنها هنداوي دوير , وأنه في طابق يقع تحت الطابق الخاص بهنداوي ".

وبعدين الأستاذ عبد العزيز كامل جاله واحد فلسطيني من الإخوان , فتحت واحدة خدامة تقول له إن فيه واحد عايزه .

ونزل الأستاذ عبد العزيز كامل وبقيت أنا وإبراهيم وقعدنا لغاية الساعة خمسة ونصف , وكان فيها ميعاد أن نصيري حييجي فيه .

وعرضت عليه اللغم فقال لا ده ما ينفعش .

وأخذ المسدس على أساس أنه يقوم بنفس المهمة الموكولة لمحمود عبد اللطيف وعلى أثر ذلك انصرفنا .

انصرف إبراهيم وخرجت أنا ورحت لمكتبي وفضلت فيه لغاية الساعة تسعة وكنت قاعد مع الدكتور موريس إسكندر وهو جاري وصاحب الأجزخانة وبعدين روحت البيت فعلمت في الطريق – وأنا كنت عارف إن محمود في الإسكندرية وما كناش سمعنا الراديو لأن الحتة اللي احنا فيها مفيهاش راديو – وأنا في السكة عرفت أن محمود عبد اللطيف اعتدي على الرئيس .

" هذا جزء من كلام شاهد الإثبات الوحيد في هذه القضية "

واستمر هنداوي دوير يدلي بشهادته أمام محكمة الشعب التي أفسحت له صدرها تماما وكان بحق نجم الشهود والمتهمين المدلل وقبلوا منه ولم يناقشوه رغم ما في كلامه من تعارض وتناقض قد أملاه اتفاق مسبق لم يستوعبه جيدا أو خوف عارم جعله لا يهتم ولا يدري ما يقول .

وقال هنداوي مستمرا :

ومن حمد الله إن الرئيس ما اعتديش عليه ونجا بحمد الله بعد كده أنا قدرت أنه سيقبض عليّ فأخذت الست بتاعتي الساعة 9,30 ونزلنا بسرعة أخذنا قطر 10,15 من الجيزة وروحتها المنيا ودخلنا الساعة 1,30 ورجعت صباحا في قطر الساعة التاسعة ونزلت إلى مركز إمبابة ,وسلمت نفسي إلى البوليس , وأنا جاي في القطر قدرت عدة مسائل منها إن زعماء الإخوان منقسمون على أنفسهم وأن الدعوة في هذه الفترة يسيطر عليها أناس غير مسئولين وغير معروفين للإخوان وأن الاتجاه الإرهابي اتجاه صورته الطبيعية الواضحة البسيطة إنه غير إسلامي , أى القتل على هذه الصورة غير إسلامي, قدرت هذا وقدرت أنه لو وقعت العمليات التي تحت يدي ففيها إرهاق للإخوان , وإرهاق للبلاد وعلى الأمن , وإذا كانت دي ما أصابتش يمكن حاجة ثانية تصيب , وقررت لذلك أن أسلم نفسي للبوليس وأضع نفسي تحت تصرف المسئولين ولذلك قابلت الضابط وقلت له عايز أسلم نفسي للبوليس .

ده الحادث وأنا تحت تصرفكم في أى أسئلة .

وخيم على القاعة صمت عميق .

وبدا كأن جمال سالم كان ينتظر منه أشياء أخري عليه أن يذكرها فقال مشجعا :

جمال سالم : قول أى حاجة عايز تقولها , إذا كان عندك حاجة ثانية عايز تقولها ونظر إليه هنداوي مذعورا حائرا لا يدري ماذا يقول .

وحدجه جمال سالم بنظرة صارمة جعلته يتمتم من جديد :

- إبراهيم قال إن الخطة هي الاعتداء على الرئيس , وبعد كده خطف أو الاعتداء على الضباط الأحرار .. فيه أظن 45 واحدا , وكذلك أعضاء مجلس قياد الثورة وكرر جمال سالم على هنداوي دوير السؤال :

- جمال سالم : ما عندكش حاجة ثانية عايز تقولها ؟

- وكان ينظر له بصرامة وتوعد , وبدا الارتباك على وجه هنداوي دوير وقال وصوته لا يكاد يخرج من فمه :

- هنداوي : لا .. إذا كان فيه أسئلة أنا مستعد للإجابة.

وكانت قد حدثت مشادة بيم حمادة الناحل محامي المتهم محمود عبد اللطيف وبين هنداوي قبل سؤال جمال سالم الأخير وهي ليست مشادة بمعني مشادة , ولكن كانت تقريعا وسبا ولو ما من حمادة الناحل إلى رجل ضعيف مسكين أسير في عرين الذئب لا يملك من أمر نفسه شيئا , بغض النظر عن دوره في هذه المأساة .

هناك ما نسيه هنداوي !

وبدا أن هناك أشياء كان على هنداوي أن يذكرها أمام المحكمة ويبدو أنه لفرط اضطرابه قد نسيها , وهو الشاهد المدلل في هذه المحكمة , وينبغي أن يعامل هكذا حتى اللحظة الأخيرة , ولابد أن تسير الأمور كما رسمت دون ضجيج أو شئ من البلبلة والتشكيك .

وارتفع صوت جمال سالم :

- ترفع الجلسة للاستراحة .
- " رفعت الجلسة في الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والعشرين "
- " أعيدت الجلسة في الساعة الثانية عشرة ظهرا "

والله وحده يعلم ماذا تم في هذا الوقت الذي تجاوز النصف ساعة بخمس دقائق قد أخليت القاعة وسحب الشاهد إلى غرفة رئيس المحكمة ودار بينهما حوار لا يعرفه أحد حتى أسدا قصر النيل لم يشهدا هذا اللقاء .

ومن واقع ما حدث بعد تلك الجلسة يمكن لنا أن نتصور أن جمال سالم قد ذكر هنداوي بأشياء قد غفل عن ذكرها رغم تكرار السؤال له أن كان هناك ما يود قوله .

ويبدو أن الحديث الذي دار بين جمال سالم وهنداوي دوير كان مشجعا للأخير لأنه تكلم بشجاعة وهاجم حمادة الناحل في أول الجلسة كما سنري .

جمال سالم : أعيدت الجلسة

ثم جلس كالأباطرة وبعد لحظات تذكر أن كل من بالقاعة لا يزالون واقفين فأشار بيده فجلسوا كأن على رءوسهم الطير ,وبدا هنداوي في حالة معنوية جيدة بعد تلك الدقائق القليلة التي تمت فيها الاستراحة , وظهر متوثبا يريد الكلام .

جمال سالم : الشاهد فيه حاجة تانية عايز يقولها ؟ وبدا على المدعي البكباشي محمد التابعي أنه لم يحضر المقابلة فقال :

المدعي : هو كان خلص كلامه .

ونظر جمال سالم ناحية المدعي مغتاظا , ثم حول بصره ناحية هنداوي وبتلطف شديد لا يخلو من وعيد قال :

جمال سالم : فيه حاجة تانية ؟

وقال هنداوي متسائلا كأنما ليتأكد مما ينبغي قوله :

هنداوي : بخصوص النظام السري ؟

جمال سالم : هل لك أقوال تانية عايز تقولها من غير أسئلة ومن غير ما نناقشك في الموضوع .. فيه حاجة عايز تقولها يا هنداوي ؟

هنداوي : أيوه يا افندم ..

واشرأبت الأعناق تستمع إلى هنداوي دوير الذي أكمل :

- بس أنا لى شكوى صغيرة بخصوص اعتراض الأستاذ حمادة الناحل على أنني محام وكان هذا ما وصفه به حمادة الناحل قبل أن ترفع الجلسة ونظر جمال سالم ناحية هنداوي الثائر الغاضب مهدئا .
- جمال سالم : خلاص يا هنداوي أنا ردين عليه .

رأي هنداوي في النظام الخاص

وقال هنداوي في شجاعة وبصوت عال موجها كلامه ناحية حمادة الناحل الذي كان ينظر ناحيته متعجبا مبهوتا :

- الإنسان لا يصح أن يجهز على جريح , ولم يكن يليق به أن يطعنني وأنا في هذا الموقف وبيني وبينه خصومة لأنه يحضر ضدي في قضايا خاصة .
- وأنهي الموقف جمال سالم :
- خلاص يا هنداوي .

وهدأت نفس هنداوي والتفت ناحية جمال سالم وبدأ يقول :

أيوه يا افندم ... مسـألة النظام السري في الإخوان المسلمين .... النظام السري هذا ترك من أيام البنا رحمه الله . وأنشئ هذا النظام أصلا لمحاربة الإنجليزولمحاربة الملك السابق , وكان على رأسه الأستاذ البنا كمشرف مسئول باعتباره المرشد العام , وكان يرأسه في ذلك الوقت – على ما وضح في قضية سيارة الجيب – الأستاذ عبد الرحمن السندي , وقد اشترك هذا النظام في حرب فلسطين والطلائع الأولي في حرب فلسطين كانت من الإخوان ومن النظام الخاص بالذات ,وكان يختار أفراده من المخلصين المؤمنين المضحين بأرواحهم وأموالهم في سبيل الله وذلك لتحرير البلاد العربية والإسلامية من الاستعمار الأجنبي .

وهذه هي فكرة النظام الخاص في الأصل , وأساس هذه الفكرة لا غبار عليه لأن المسلم يجب أن يجهز تجهيزا إسلاميا كاملا , فقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :" من لم يغز ولم تحدثه نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية " كما قال :" ارموا وراكبوا ولئن ترموا خيرا من أن تركبوا ".

بقي أن الدولة تحارب التسلح فكان لابد من التخفي .

ولقد اشترك هذا النظام في حرب فلسطين وفي معركة القنال , وعمر شاهين والمنيسي وغيرهما من الشهداء كانوا من أعضاء هذا النظام .

وبعد ما انتقل البنا إلى رحمة الله كان عبد الرحمن السندي يرأس النظام وكان مكونا من عدة جماعات والجماعة مكونة من عدة أشخاص على رأسهم واحد , والشعبة المهمة بها عدة جماعات , وتتدرج على نظام هرمي يرأسه عبد الرحمن السندي .

ومعظم هذا النظام في القاهرة , وقد توجد مراكز أو مناطق إدارية تخلو من هذا النظام مثل أسوان , وذلك لأنها بعيدة ولا يتيسر لها فهم أغراضه .

وانتقل البنا إلى رحمة الله وجاء الأستاذ الهضيبي واختير مرشد عاما ,وأحب أن أقرر هنا كيف اختير مرشدا عاما .

الهيئة التأسيسية

الأستاذ البنا ترك 100 شخص أو أكثر كلهم في حجم بعض ولا يدينون لأحد بالولاء والأستاذ البنا كان غاوي " باترينات "وهنا حدثت همهمات هنا وهناك , وبدا الرضا على جمال سالم وقال : جمال سالم : كان غاوي إيه ؟

هنداوي : " باترينات" .. يعني يبقي مثلا في الظاهر والبترينة في شارع فؤاد , ومعني ذلك أنه كان يضم إلى الجمعية التأسيسية أناسا لا صلة لهم بالإخوان المسلمين فمثلا جه واحد من النيابة خرج برشوة ,بصينا لقيناه عضو في الجمعية التأسيسية .

الواقع أن الشيخ البنا كان يضعهم جميعا في الظل لأنه رجل عملاق فلما الأستاذ البنا أخذ بهذه الصورة , لم يكن للهيئة التأسيسية قوة إدارية أو أية صفة كانت تجتمع به ليقرر ما يشاء , فلما مات برزت وأخذت طابع التوجيه وهم لا يلتفون حول شخص منهم .

اختلفوا ولم يتفقوا على شخص منهم فرأى اختيار أحد الناس القريبين من الإخوان وله اتجاه إسلامي فرشح الهضيبي وانتخب انتخابا حرا على ما نعلم .

وبدأ الصراع بين الهضيبي والسندي لأن الهضيبي أول ماجه أعلن أن هذا الاتجاه خطأ وأعلن أن قتل الخازندار قتل غير إسلامي , وأن قاتله يدخل النار ولهذا بدأ الصراع بينهما وانتهي بفصل عبد الرحمن السندي وبعض زملائه من الإخوان المسلمين .

واستمر الحال على ما هو عليه , وقيل إنهم جابوا قيادة أخري لهذا النظام .

قيادة جديد للنظام وبدأت تتصل بالإخوان .

وبعدين هرب عبد المنعم عبد الرؤوف .

المحكمة تنور الشاهد أثناء الاستراحة

ويخيل إلى أنه أثناء الاستراحة قد طلب جمال سالم إثارة عدة نقاط عند عودة الجلسة للانعقاد , ولكن الوقت لم يكن يسمح بغير إثارة النقاط ويترك التفصيل لهنداوي ونحن نتخيل مثل هذا , فقد مررت بتجارب متشابهة , يعني مثلا أثناء التحقيق الذي كان معي في عام 1965 كان يأتي فؤاد علام ويقترح أن أضع أحد الأسماء في قائمة التنظيم المتهم بإنشائه , فأقول له هذا يستحيل من الناحية الفنية لعدم وجود هذا الشخص بالقاهرة أثناء الفترة التي تتهموننا فيها بالنشاط فيفكر قليلا ويقول عليك أن تضمه للتنظيم وتتصرف في الناحية الفنية هذه ولذلك عندما قال هنداوي عبارة :

وبعدين هرب عبد المنعم عبد الرؤوف .

بدا الارتياح على وجه جمال سالم فكل ما قاله هنداوي من قبل في صالح الإخوان ويبين أن نشاطهم جهادي , وأن النظام الخاص هدفه رسالي , وهذا ما ليس مطلوبا وسأل جمال سالم .

-: مي نده ؟ يقصد عبد المنعم عبد الرؤوف .

- وقال هنداوي :

- ده ضابط في الجيش كان بيحاكم وهرب , فرأت قيادة النظام السري أنها تستعين بمعلوماته في الناحية العسكرية , وأنا شخصيا استضفته يومية أو ثلاثة , جابهولي إبراهيم الطيب , وقال لى ده ضيف سري , ما يصحش حد يتصل به , وفعلا قعد عندي يومين ثلاثة , وكان بييجي يقعد معاه فترة طويلة , وعلى أثر هذا طرأ تعديل جديد على النظام السري و ونظم الجهاز إلى جماعات كل جماعة من سبعة وكل أربع جماعات تكون فصيلة , وهذه الفصيلة تسلح بالأسلحة , مدافع وقنابل وطبنجات .. ده الترتيب اللي جه في النظام السري زي ما أدليت بأقوالي الأولي بمجرد تسليمي لنفسي في البوليس .
وسكت هنداوي دوير , والقاعة يلفها الصمت , وأعضاء الادعاء يتلفتون إلى بعضهم وينظرون من طرف خفي إلى جمال سالم فهو المايسترو الذي يقود هذه الجوقة , وهم لا يعرفون على وجه التحديد ما يريد .

وصار هنداوي ينظر ناحية جمال سالم حائرا , وصار الأخير يحدجه بنظرة قاسية مهدئة مليئة بالوعيد والشر ,فازدرد ريقه وأكمل :

هنداوي: نرجع بقي للخطة العامة ..

واعتدل جمال سالم وبدا عليه الارتياح وواصل هنداوي :

- نرجع بقي للخطة العامة ... في مسألة المعاهدة قيل بعد الاتفاقية إن الثورة تتجه بالبلاد بعيدا عن الإسلام ولابد إننا نجيب حكومة أخري تتجه نحو الإسلام ولا يحكم الإخوان لسببين : الأول أن بعض الإخوان ما يمتلوش الإسلام والسبب الثاني إن البلاد غير مستعدة لتقبل النظم الإسلامية ككل لا يتجزأ ولهذا يحسن أن نسير بالتدريج حتى تستقر الصورة واضحة ولذلك أقول إنه لم يكن في ذهن الإخوان أو المسئولين أن يحكموا.

وسكت هنداوي واعتدل له جمال سالم متوعدا فأكمل بسرعة :

هنداوي : وعلى هذا الأساس رتبت الخطة على أن يعتدي على الرئيس جمال عبد الناصر وأعضاء قيادة الثورة , والضباط الآخرون يعتقلون أو يخطفون أو شئ من هذا القبيل .

وإبراهيم الطيب قال إن فيه اتصال بالرئيس محمد نجيب , والاتفاق على أساس إنه يبقي يهدئ الناس والبلاد أثناء هذا الاضطراب .

محمد نجيب يتصل بالمرشد العام

وانبري هنداوي دوير يتكلم دون مقاطعة من أحد سوي عين جمال الراضية حينا والغاضبة حينا آخر وقال :

هنداوي : أنا سألت إبراهيم الطيب , قلت له يا أستاذ إبراهيم انتم عاوزين تستغلوا الرئيس محمد نجيب في فترة الاضطراب ده علشان يهدي الشعور العام , ولا أنتم واثقين إن فيه صلة قال فيه صلة .

فسألته إيه كنهها فقال ما يصحش إننا نكشف أوراقنا, وبهذه المناسبة أذكر أنه ليلة ماجه المرشد من سوريا كنا في البيت عنده في الصالون وبعدين الساعة الثانية عشرة ونصف... واحدة تقريبا ضرب التليفون ولما سألناه مين ؟ قال ده الرئيس محمد نجيب بيسأل عن المرشد , وعايز يكلمه ضروري , وقال لما يقوم من النوم قولوا له إن الرئيس نجيب سأل عليك , وأنا أذكر المحادثة كما رواها ذلك الأخ .

- آلو ... مين ؟

- أنا الرئيس محمد نجيب ... الأستاذ الهضيبي موجود ؟ أنا عايز أكلمه ..
- ده جه من الساعة تسعة ونام .

- أنا عاوز أكلمه – أنا سمعت إنه جهد لوقت وعايز أكلمه ضروري .

- لأ ده جه من الساعة التاسعة وراح المركز العام والتقي بالإخوان وخطب فيهم . وهو دلوقت نايم .
- طيب لما يقوم قولوا له إن الرئيس محمد نجيب سأل عنك .

ده في ليلة ماجه المرشد من سوريا بالذات .. فلما يكون ده في ذهني ويقول إبراهيم الطيب إن فيه صلة .. معقول إني أصدقه .. ده من حيث الخطة العامة يافندم ..

حضرة صاحب الجلالة جمال سالم الأول

وسكت هنداوي دوير , ويبدو أن جمال سالم قد وصل إلى ما يريد وهو إثبات أن هناك صلة ما بين محمد نجيب وبين الإخوان وقد أقر بها أحد الشهود المهمين في هذه القضية بغض النظر عن صدق الرواية من كذبها , أو أن الأمر لا يعدو أن محمد نجيب كان يريد مجرد قول : حمد الله على السلامة لحسن الهضيبي .

ولكنها الفرصة الذهبية لوضع محمد نجيب في المعتقل ثلاثين عاما , وكان جمال سالم غارقا في أفكاره, فقد كان النزاع بينه هو شخصيا وبين جمال عبد الناصر على أشده وكان لحمقه يظن أن الصراع سوف ينتهي لصالحه , ولكنه أطاح بمحمد نجيب لحساب جمال عبد الناصر وجلس هو شخصيا على المقهى بعد وقت يسير وتخلي عن سلطانه وشاهدوه يجلس في مسجد السيدة نفيسة يبكي ويقرأ القرآن.

ولات حين مناص !

كانت هذه الأفكار تشغله عندما انتهي هنداوي من كلامه كان يفكر في محمد نجيب مطرودا من مكتبه بعد أن يرجع إلى زملائه الأوغاد.

ولهذا اتسعت ابتسامته وهو ينظر ناحية البكباشي محمد التابعي المدعي الذي ينظر ناحيته وهو يرتعد في انتظار إشارة واحدة وقال له :

جمال سالم : الادعاء عايز يناقشه ؟

ولم يكن جمال سالم يهتم بالمدعي الذي بدا عليه الارتباك , وكان غارقا في أحلامه الوردية في التخلص من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وسائر هؤلاء الأوغاد الذين لا يعرفون عظمة جمال سالم وقدراته , وأنه الذي طرد الملك وهو الذي مزق الإخوان, وهو الأول والآخر في حكومة من السفلة والرعاع , وما هي الخطوة التالية في القضاء على كل أعدائه ...ويجب ألا يطول الوقت ولأتزوج من الأميرة فايزة وربما هذا لا يهم .. ولكن قد أفكر في عودة الملكية إلى مصر .

ما أحلي اللقب !

حضرة صاحب الجلالة جمال سالم الأول ملك مصر والسودان ..

وتذكر السودان والاتفاقات السرية في فصله عن مصر , وانتابته حالة من الاستياء ولكن لن يضر... يكفي ملك مصر ...وأستطيع أن أجلس في سمير اميس وأقول ما قاله فرعون قبلي :

" أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي "

واستفاق على نعيق المدعي العام :

المدعي : أيوه .. أنت قلت إن الخطة العامة هي قتل الرئيس جمال ثم تهدئة الحال .

هل كان المقصود أن تقوم ثورة شعبية أو إيه دي ؟

عايزين تفسرها ؟

هنداوي ينظر ناحية جمال سالم الذي يومئ إليه أن يتكلم ,وهو يستحضر كلام المدعي السقيم والتفت ناحية أنور السادات الذي فاجأته نظرته فاضطرب وابتسم له جمال سالم , ثم أعاد النظر إلى حسين الشافعي فاضطرب هو الآخر فابتسم له ورد حسين الشافعي الابتسامة بأخرى بلهاءا من جانبه , كان جمال سالم يحلم باليوم القريب الذي يقفون فيه أمام قاض آخر يحاكمهم من أجل خيانة الثورة ..

وانسابت نفسه بعيدا فوق مجلس قيادة الثورة وفوق مصر .

وقال هنداوي :

- أيوه .. تفسيرها إن الإخوان كان مقصود أنهم يعملوا ثورة شعبية والتفت له جمال سالم مشجعا :
- أيوه .

- وقال هنداوي وكان يشعر أنه يقول كلاما سخيفا مكررا قاله ألف مرة :

- وبعدين في الأيام الأخيرة انتهوا إلى أنهم يقوموا بعمليات إرهابية تنتهي باضطرابات في البلاد يسيطر عليها الرئيس محمد نجيب وينتهي من أعضاء مجلس قيادة الثورة وتكون حكومة تنتهي بالبلاد إلى اتجاه إسلامي .. لعل ده واضح .
- جمال سالم : إيه الخطة ؟

هنداوي: الاعتداء على الرئيس وأعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار فيحدث اضطراب يسيطر عليه محمد نجيب .

وكان جمال سالم غارقا في أحلامه الوردية في السطوة والسلطة والجبروت والانتقام من زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة , وعلى الأخص ذلك الوغد جمال عبد الناصر الذي اكتسب شعبية هائلة بهذه لمهزلة التي صنعوها له وأراد أن يستمر في أفكاره وحتى لا يشغله أحد سأل :

جمال سالم : إزاي الخطة بتوضع ومنين تيجي ومين ينفذها ؟

هنداوي: الخطة بتوضع في قيادة التنظيم السري أولا .

ولا أعرف منه إلا أشخاصا معدودين ,ويطلع عليها المرشد .. والمفروض أن يصادق عليها وأنا أعرف المسئول عن قيادة النظام السري والمسئول يعرف الذي يليه , أنا أعرف إبراهيم الطيب ويوسف طلعت في القسم المدني , وأعرف صلاح شادي وأنه مسئول عن الضباط في الجيش والبوليس .. والخطة توضع في القيادة وتعرض على المرشد العام ليقرها أو لا يقرها ,فإن أقرها تنزل للإخوان لينفذوها .

الفصل الثامن " وجاء من أقصي المدينة رجل يسعي " شهادة إبراهيم الطيب

( وجاء من أقصي المدينة رجل يسعي قال يا قوم اتبعوا المرسلين , اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون , ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون , أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون , إني إذا لفي ضلال مبين , إني آمنت بربكم فاسمعون , قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون , بما غفر لى ربي وجعلني من المكرمين ) يس : 20 -27

إبراهيم الطيب هو الذي كان يأتي بالأوامر من يوسف طلعت إلى هنداوي دوير ومن المفروض أنه الذي أمر هنداوي بتكليف محمود عبد اللطيف بالقيام بعملية اغتيال جمال عبد الناصر وخلافا لأسلوب الإخوان في معالجة هذه الأمور .

وقد اتهم بهذا وعذب عذابا شديدا ليعترف به ولكنه لم يفعل , وكان أحد الذين وقفوا بشجاعة أمام جمال سالم , وعندما قال له الأخير:

- أنا مش عارف إيه اللي عملك محامي ؟

رد عليه إبراهيم الطيب في شجاعة :

- اللي عملني محامي ليسانس الحقوق الذي حصلت عليه , ولكن أنا الذي لا أعرف من الذي عملك قاضي .

وعاد يومها إلى السجن الحربي , وضرب ضربا شديدا وكسرت ذراعه وتركت دون جبيرة أو علاج , وكان يعلقها في عنقه وأهملوه وتركوه على أساس أنه سوف يعدم , فمن ثم ليست هناك ضرورة لعلاج مريض سوف يتم إعدامه بعد أسابيع فهو مضيعة للوقت والمال , بغض النظر عن الجانب الإنساني الذي أفل مع شروق شمس 23 يوليو .

وكان إبراهيم الطيب رجلا عاقلا واعيا تحمل مسئولية النظام الخاص عن منطقة القاهرة وكان أحد صمامات الأمن لمنع أى شغب واضطراب , وكان يريد أن تجتاز الجماعة تلك المحنة دون خسائر كبيرة ,واعتمد في هذا على حسن تنفيذ التعليمات التي كانت تأتي إليه من يوسف طلعت الذي يمثل المرشد العام للإخوان .

وقد اتهم الرجل بأنه الذي سلم المسدس الذي تغير مرتين , والذي زعموا أنه استخدم في محاول اغتيال الزعيم , ولم يكن هذا صحيحا على الإطلاق ورغم كل ما لقيه من تعذيب يفوق الوصف فإنه تحدث بشجاعة وبين أن هذا محض اختلاق وضلال .

ولعلنا لو ألقينا نظرة على أقواله أثناء شهادته في قضية محمود عبد اللطيف لتبينت لنا أمور كثيرة تساعدنا في تفهم هذه القضية وتؤكد أن الموضوع محض اختلاق وأنه خداع في خداع , ومن ألاعيب المخابرات العالمية والخبراء في التآمر وعلاج المشكلات الشعبية المستعصية بالإضافة

علم صناعة الزعيم في البلاد المتخلفة .

وقد شهد في قضية محمود عبد اللطيف الذي لم يتكلم في هذه المحاكمة إلا كلمات قليلة عدد كبير من الشهود , وكانوا جميعا يتكلمون في موضوع آخر غير موضوع محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية لأنهم لم يكونوا يسألون عن هذا الحادث وربما كان كل منهم لم ير محمود عبد اللطيف من قبل ولا يعرفه .

ولكن محكمة الشعب لم تكن منعقدة بغرض محاكمة محمود عبد اللطيف لمحاولته اغتيال عبد الناصر في المنشية كما أعلن عن ذلك , ولكنها عقدت بسبب آخر ولغرض مختلف ليس هنا موضع تفصيله .

واستمعت المحكمة وناقشت شهودا كثيرين لا علاقة لهم بحادث المنشية من قريب أو بعيد وهكذا شاءت وعلى هذا سار السيناريو .

وبعد خمس جلسات , وفي الجلسة الخامسة على وجه التحديد التي انعقدت علنا في الساعة الخامسة والدقيقة الخامسة والخمسين مساء السبت 13 نوفمبر سنة 1954 م الموافق ربيع الأول 1374 هـ والمؤلفة وفقا للأمر الصادر بتاريخ أول نوفمبر سنة 1954

والمشكلة برئاسة..
وعضوية كل من ..
وبحضور البكباشي ..
والأستاذ ..
وتسجيل المحاكمات بالاختزال ..

قدمت القضية رقم ( 1) لسنة 1954 ( محكمة الشعب ) المتهم فيها محمود عبد اللطيف محمد .

( حضر المتهم )

واستمعت المحكمة إلى شهادة صلاح الدين أبو الخير , ومن شهادته نتأكد أن لا علاقة له من قريب أو بعيد بموضوع المحاكمة وهو محاولة محمود عبد اللطيف اغتيال عبد الناصر في المنشية .

وقد سألته المحكمة سؤالا صريحا :

*- هل تعرف محمود عبد اللطيف ؟

- وكانت إجابته : لا

ثم كان الشاهد اللي بعده علي حد تعبير جمال سالم , ونودي على الشاهد عبد العزيز أحمد حسن , وكان هو الآخر لا صلة له بالموضوع من قريب أو بعيد واستدعي في الجلسة نفسها للشهادة السيد حسين أبو سالم مأمور ضرائب في المنصورة وهو أحد شهود الإثبات ضد محمود عبد اللطيف وهو لا يعرفه هو الآخر وليست له به أية صلة تنظيمية والغرض من شهادته أمر آخر غير موضوع القضية المنظورة وقد سألته المحكمة سؤالا :

- تعرف محمود عبد اللطيف؟

- وأجاب الشاهد :
- لا

وعاد القاضي المهرج :

- بص له يمكن تكون قابلته ؟

وينظر الشاهد إلي محمود عبد اللطيف بإمعان ويعود إلى المحكمة :

- لا

ولم يستطيعوا سماع شهادة إبراهيم الطيب في الجلسة الخامس , وأجل سماعه إلى الغد فقد تأخر الليل , ووراء القاضي مهام كثيرة في هذا الليل , ويجب ألا ينقضي دون أن يقضيها , ورفعت الجلسة .

وانعقدت الجلسة السادسة يوم الاثنين 15 نوفمبر سنة 1954.

بالتشكيل نفسه وتخلف الأستاذ رمسيس عبد الشهيد من مصلحة الاستعلامات وجاء بدلا منه الأستاذ رمسيس حنا , وهي القضية نفسها والمتهم نفسه وشهود الإثبات يتحدثون ويسألون في مواضيع أخري غير ما هو منسوب للمتهم ولا يستطيع أحد أن يدفع بهذا .

وكان جمال سالم قد اتفق في آخر الجلسة الخامسة على سماع بقية شهادة الأستاذ عبد العزيز أحمد , ولكن في الجلسة السادسة بدأت بشخص آخر هو محمد عبد المعز محمد عبد الله ولا صلة له بالقضية المطروحة ولكن له صلة بموضوع المحاكمة .

وجاءوا بشاهد آخر هو إسماعيل عارف رزق وهو أيضا لا صلة له بالموضوع ومن بعده الشاهد حلمي عبد السلام , شاهد الإثبات ضد محمود عبد اللطيف , ولم يسأل عن الحادث من قريب أو بعيد , وجميعهم لا يعرفون محمود عبد اللطيف وجميعا كانوا لا يسألون :

- هل تعرف محمود عبد اللطيف ؟

- وتكون الإجابة دائما :
- لا .
- ثم جاء إبراهيم الطيب .
حضر الشاهد.

مثل الادعاء البكباشي إبراهيم سامي جاد الحق والأستاذ عبد الرحمن صالح واشرأبت القاعة وهي تري ذلك الشاب الممشوق الذي هده التعذيب ولكنه لا يزال يرفع رأسه عاليا , واجتاز الممر في شجاعة ووقف أمام ذلك القاضي الشامت الجبان .

جمال سالم : اسمك إيه

إبراهيم الطيب  : إبراهيم الطيب :

جمال سالم : بتشتغل إيه ؟

إبراهيم الطيب : محام .

جمال سالم : عمرك كام سنة ؟

إبراهيم الطيب : 32 سنة

جمال سالم : ده مصحف مش كده ؟

إبراهيم الطيب  : أيوه

جمال سالم : ( قل والله العظيم أقول الحق ولا شئ غير الحق والله على ما أقول شهيد _( أقسم الشاهد اليمين )

ووقف إبراهيم الطيب بثبات وتحد أمام جمال سالم , الذي تفرس فيه قليلا .

وكان جمال سالم وقحا يعرف الجميع فيه هذه الصفة متبجحا ليس بصاحب دين ولا خلق , قد تجرد من الشهامة والمروءة ومات في داخله الضمير .

ولكنه لم يتمالك نفسه لثبات إبراهيم الطيب ,وأراد أن يعطي نفسه فرصة ليجمع وقاحته وعدم مروءته ثم يناقشه ويسأله , فالتفت إلى المدعي وقال :

جمال سالم : المدعي .

ولم يتوقع المدعي هو الآخر أن يبدأ استجواب الشاهد الشجاع فارتبك قليلا , وصار يقلب في أوراق أمامه ثم وجه لإبراهيم الطيب سؤالا :

وكيل النائب العام : إنت عضو في جماعة الإخوان ؟

إبراهيم الطيب : أيوه

وكيل النائب العام : من أمتي ؟

إبراهيم الطيب : من سنة 1945 م

ولم يستجمع وكيل النائب العام نفسه بعد في مواجهة هذا الشاهد القوي الذي يقف أمامهم ورغم كونه شاهدا فإنهم يعاملونه معاملة المتهم .

ومن ثم فقد سأله سؤالا آخر لا معني له سوي اكتساب الوقت لاستيعابه .

وكيل النائب العام :وظللت عضوا فيها حتى الآن ؟

إبراهيم الطيب : أيوه

وكيل النائب العام : قل لنا مركزك في جماعة الإخوان في السنوات الأخيرة .

إبراهيم الطيب : في السنوات الأخيرة كنت متصلا بالقسم القانوني بالمركز العام وبعدين عهد إلى بالإشراف على الجهاز الخاص في القاهرة من ناحية التنظيم والتكوين .

وكيل النائب العام: متى عينت رئيسا للقسم الخاص في القاهرة ؟

( وقال وكيل النائب العام القسم الخاص وصحته النظام الخاص )

إبراهيم الطيب : في حوالي فبراير سنة 1954 .

وكيل النائب العام : هل كانت الرياسة المطلقة لك؟

إبراهيم الطيب : لا .. كان هناك مجلس عال وقيادات أخري ..

وكيل النائب العام: اشرح للمحكمة وفصل .

وكان الوضع في المحكمة غريبا بعض الشئ فالشاهد يقف في مواجهة القاضي وعن يمينه القفص وعن يساره منصة الادعاء , وعليه أن يسمع السؤال ثم يوجه الإجابة إلى رئيس المحكمة وليس مسموحا له أن يلتفت ناحية الادعاء , أما المحاكم الطبيعية العادية فالشاهد يوجه إجابته ناحية المحكمة , وإن التفت شارحا ناحية الادعاء أو ناحية الدفاع فليس عليه من بأس ولكن في محكمة الشعب ممنوع وقال إبراهيم الطيب :

- المجلس كان يختص بمسائل عامة في التنظيم ويتكون من أفراد منهم الشيخ فرغلي الدكتور خميس حميدة ويوسف طلعت والأستاذ صلاح شادي .

- وكيل النائب العام : وبس؟

إبراهيم الطيب : علمت أن الأستاذ عبد المنعم عبد الرؤوف كان مسئولا عن قسم الجيش .

وكيل النائب العام : والمجلس الأعلى كان له رئيس أولا ؟ وإذا كان له رئيس ... يبقي رئيسه مين ؟

إبراهيم الطيب : الرئيس الأعلى لا شك يكون المرشد .

وكيل النائب العام : أنت تخضع مباشرة للمجلس الأعلى ؟ أو أن لك رئيسا تتلقي منه أوامر المجلس أو أوامر المرشد ؟

إبراهيم الطيب : رئيسي المباشر هو يوسف طلعت عن القسم المدني .

وبدا على وكيل النائب العام أنه لا يعرف بالضبط كيف يوجه الأسئلة للشاهد الماثل أمامه على النحو الذي يريده جمال سالم , وليس كما تعود في عمله قبل الثورة المباركة فهو يستجوب الشاهد حسب خطة في رأس مجنون , وهو يخشي الخطأ فيطيح هذا المجنون برأسه فقد كانت قصص جنونه وتهوره تملأ أسماع الناس في مصر آنذاك , وقالوا إنه ضرب سيد مرعي بالشلوت والله أعلم .

وقد فهم المدعي أن عليه أن يسأل الشاهد في كل شئ إلا موضوع القضية الماثلة أمامهم بمعني أن عليه أن يسأله كيفما أراد بعيدا عن موضوع الواقعة .

وقد ذكرني هذا بأحد نواب مجلس الشعب من الجهلة الذين نص الدستور على ضرورة وجودهم تحت قبة البرلمان للتشريع , وكان قد نجح مستقلا عن إحدى الدوائر وحدثت إعادة بينه وبين مرشح الحزب الوطني الحاكم , ووضح في الأفق أنه سوف ينجح في هذه الإعادة واستدعاه النبوي إسماعيل – وكان أيامها وزير الداخلية - وقال له اكتب تعهدا بأنك سوف تنضم إلى الحزب الوطني وإلا فلن نسمح لك بالنجاح , إنت تعرف إن عندنا كمبيوتر وتستطيع أن ننجح من نشاء وأن نسقط من نشاء , وأعطاه مبلغا من المال , وصار عضوا في البرلمان , وقال لى – جمعونا مرة وأخبرونا أننا أحرار في الحديث في أى شئ ما عدا السياسة .

إى والله هذا حدث !

وقال وكيل النائب العام :

- إنت في منطقة القاهرة ..ودي منطقة كبيرة ... طبعا قسمتها إلى مناطق .. يتبعك فيها كام قسم ؟

- ورد عليه إبراهيم الطيب في ثقة :

- 10 أقسام.

وكان وكيل النائب العام يبدو متلعثما من استجواب هذا الشاهد , وكأن في داخله تخوفا من أن يفضح كل شئ وأن يظهر أمام الناس والصحفيين رداءه النص ومن ثم يمكن أن يقول شيئا غير مطلوب في هذا المكان , ولكن سرعان ما تذكر السجن الحربي وأنه يعذب كل ساعة تعذيبا وحشيا فاطمأن قليلا , ولكن قلقه قد عاوده من جديد فالشاهد يتكلم بثقة تبعث على الخوف , وتساءل وكيل النائب العام في نفسه : تري هل هناك ضرورة لجلب فرقة للتعذيب هنا في المحكمة ؟ وتذكر أن هذه الفرقة موجودة بالفعل في الغرف المجاورة , وتساءل مرة أخري : هل نضطر لاستخدامهم داخل القاعة ؟ وطرد هذا الهاجس من نفسه , ودعا الله في أعماقه أن تمر هذه المشكلة علي خير فيشنق من يشنق ويسجن من يسجن , وينجح في أداء مهمته ويرقي .

وعاد يسأل مضطربا , وبهذا شهد من كان في القاعة :

- هذه الأقسام ... هل نظمت فيها الجهاز الخاص في المناطق العشرة ؟

وكان إبراهيم الطيب ينظر في عيني جمال سالم وهو يجيب عن السؤال :

- كل هذه الأقسام منظم فيها الجهاز .

وزاد اضطراب وكيل النائب العام وهو يقول لإبراهيم الطيب :

- اشرح للمحكمة كل ما يتعلق بالجهاز من ناحية الأقسام والعدد وطرق التموين والتجهيز والتسليح .

وكان إبراهيم الطيب يتحدث ببساطة وشجاعة وكانت آثار التعذيب واضحة عليه ويراها المحامون والصحفيون وكل النظارة والأوغاد وقال :

- أيوه .. رئيس المنطقة ويتبعه عدد من نواب الشعب .. وكل منطقة لها رئيس يبقوا عشرة .. يجتمعوا مع بعض .. ولهم ضابط اتصال بينهم وبين القاهرة ..

وكل قائد منطقة له قائد فصيلة معه هو المختص بالمسائل الفنية أو العسكرية .. أما قائد المنطقة فيختص بالشئون الإدارية .

وكيل النائب العام : مم تتكون الفصيلة ؟

إبراهيم الطيب : الفصيلة تتكون من أربع مجموعات كل مجموعة سبعة وقائد الفصيلة وقائد ثان أو وكيل له ... وفيه ضباط اتصال خاصين بالشئون الفنية ويتبعوا يوسف طلعت , وضابط الاتصال الإداريين منهم محمد عبد المعز والأستاذ حسين شعبان .. أما ضباط الاتصال الفنيين فمنهم إسماعيل عارف ومهدي عاكف .. ودول يتبعوا يوسف طلعت لأنه مختص بالمسائل الفنية .

وكيل النائب العام : والتسليح؟

إبراهيم الطيب : كان معهودا به لأشخاص متخصصين في الناحية الفنية زي سيد الرئيس وفؤاد مكاوي .

وكيل النائب العام : تسليح الفصيلة إزاي ؟

إبراهيم الطيب : ما أعرفش لأن دي تفاصيل فنية متعلقة بالجهاز الفني .

وهنا كان رئيس المحكمة قد استجمع نفسه ونظر إلى الشاهد ووجد أنه يمكن أن يتدخل فقال :

جمال سالم : من أين يستورد ؟

ورد عليه إبراهيم الطيب بثبات كعادته :

إبراهيم الطيب : ما عرف شده مش من اختصاص القسم الفني , وأنا اختصاصي أنسب الأفراد لأنسب الجماعات .

وتشجع النائب العام لتدخل رئيس المحكمة وارتفع صوته وهو يسأل :

وكيل النائب العام : إيه اللي بتراعوه في الاختيار ؟

إبراهيم الطيب : يراعي كثير من الاعتبارات الروحية والثقافية والبدنية وإلى جانب ذلك ... التدريب .

وكيل النائب العام : بتقول إن مسائل السلاح مختص بيها ناس ثانيين وما تدخلش فيها .

إبراهيم الطيب : كل تدخل لى في هذه الناحية كان بتكليف من يوسف طلعت لأكلف سيد الرئيس بجرد المخازن .

وكيل النائب العام : ما قدمش لك كشف بنتيجة الجرد؟.

إبراهيم الطيب :لأ ... ده اختصاص يوسف طلعت ..

وكيل النائب العام : لماذا كلفك أنت بأن تقول لسيد الرئيس إن يوسف طلعت يأمره بكذا ؟

إبراهيم الطيب : علشان أوصل سيد الريس بالإخوان في المناطق .

وكان وكيل النائب العام يخشي الانزلاق في الأسئلة فاستمر على هذا المنوال يناقش نقاطا ضعيفة وتافهة ولا دخل لها بالموضوع فقال :

وكيل النائب العام : المنطق يقول إنك اللي كلفته فمن المعقول أن يخبرك بالنتيجة .. وهنا التفت إبراهيم الطيب ناحية وكيل النائب العام ولم يرد عليه وعاد بوجهه ناحية جمال سالم الذي بدا عليه الغيظ من غباء وكيل النائب العام , وقال جمال سالم وهو لا يستطيع إخفاء غيظه :

- مش شرط .. الشاهد بيقول إنه مسئول عن الجهاز الإداري ... فالقسم الإداري مهمته أن يصل الراجل الفني بالمسئولين ... والنتيجة فنية مالوش دعوة بيها .
- ثم حدجه بنظرة قاسية , بينما علق إبراهيم الطيب على هذا قائلا:
- أيوه ..

واضطرب وكيل النائب العام , وعاد يقلب في الأوراق أمامه ثم سأل :

وكيل النائب العام : كان هناك تدبير لإحداث حركة مسلحة ؟

واعتدل جمال سالم ليلقن هذا الذي ملأه غيظا درسا وقال :

جمال سالم : قبل كده فيه حاجة ... ما هو الغرض من إنشاء الجهاز السري ؟

وجه هذا السؤال إلى إبراهيم الطيب , وعاد ينظر لائما ساخرا ناحية وكيل النائب العام الذي لا يفهم وظيفته . وكان الضباط – ولا يزالون – يظنون أنهم يفهمون في كل شئ , ويبدو أنهم كذلك يفهمون في كل شئ عدا مهنتهم .

وقال إبراهيم الطيب  :

الغرض هو بعض المسائل الداخلية والخارجية... وحماية الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج .. في الداخل باعتبار أن التدريب فرض عين على كل مسلم ... أما الناحية الخارجية فلأن بلاد المسلمين منكوبة بحكم المستعمر في الشرق والغرب ...والإخوان يستعدون لتقديم الجنود إذا ما حصل أى حاجة .. فيقدمون رجالا مدربين مجهزين لتونس والجزائر أو في مصر أو في أى بلد آخر .

وانبهر كل من بالقاعة بذلك الشاب الصغير السن الذي يتكلم بهذه الثقة والشجاعة ويعرض مفاهيم جديدة على النظارة الجبناء دون خوف .

وتعلقت أنظارهم بالمايسترو جمال سالم ليروا ماذا يقول وكيف يرد على هذا الشاب الجرئ .. الشديد الجرأة رغم ما به من آثار تعذيب واضحة .

وقال جمال سالم موجها سؤاله لإبراهيم الطيب "

جمال سالم : اشرح لنا الوضع إزاى يكون في مصر .. كيف يؤدي النظام الغرض من تكوينه في مصر ؟

إبراهيم الطيب : فيما يتعلق بمصر لا شك أنه إلى قبل الاتفاقية كان موجود فيه جنود احتلال .. قبل الحركة وبعد الحركة ... كانوا متحكمين في أرزاق المصريين وفي جزء من بلادهم .

وخاف جمال سالم من هذا الاستطراد – رغم عدم جدواه – على الخنازير التي حضرت كما خشي أن ينتقل كلامه إلى الشعب عبر الراديو والصحف ومن ثم فقد قاطعه قائلا :

جمال سالم : مافيش داعي نشرح الكلام ده .. لأننا فاهمينه باعتبارنا مواطنين .. ما هو الداعي لسرية الجهاز ما دامت الحكومة القائمة على البلاد تقاوم الإنجليز؟

ونشي القاضي الكذاب أنهم ينسقون قبل الثورة وبعدها مع الإخوان في مقاومة الإنجليزواشترك حسن التهامي وصلاح هدايت وكمال رفعت مع صلاح شادي في موضوع تفجير سفينة – بواسطة لغم بحري – في قناة السويس كنوع من تنبيه العالم إلى قضي الاحتلال الإنجليزي لمصر وأثره الضار على سير التجارة في العالم, وأنه لولا هذا النظام والإخوان لما قامت الثورة ...

وقيل إن جمال عبد الناصر قد طلب من صلاح شادي أو من غيره أن يرسل له واحدا من الإخوان " ميت القلب " على تعير عبد الناصر ليقوم بمهمة خطيرة ضد الإنجليز, وأرسل إليه محمود عبد اللطيف , وقيل إن عبد الناصر كان يعرفه من أيام حرب فلسطين , فقد كان محمود عبد اللطيف من البارزين في حرب العصابات هناك , وقد أسر , وعرض عليه عبد الناصر أن يعملوا إلى إلحاقه بالعمل في " ميس " الضباط الإنجليزوأن يضع السم لكبار الضباط في الطعام , ورفض محمود عبد اللطيف لأن هذه الطريقة من وجهة نظره ليست من الإسلام وأن المسلم يقاتل فيقتل أو يغلب أما الغدر والاغتيال فليس من شيم المسلمين .

وقال إبراهيم الطيب :

- لم يكن بالسرية المفهومة .. بدليل أن جميع المناطق في القاهرة والأقاليم كان موجودا فيها .. والجميع يعلمون عنه ولم تكن له صفة السرية .

- جمال سالم : أنت مش مسميه النظام ؟

- إبراهيم الطيب : أيوه ... النظام بس ... ولكن لم نقل النظام السري .

- جمال سالم : أنت أقريت إن النظام مسلح ومنقسم إلى جماعات وفصائل وله ضباط اتصال . وله تسليح وتدريب وبه فنيون للكشف على الأسلحة .. وبه قسم مدني على رأسه يوسف طلعت ..

فهل هناك ما يستدعي وجود أسلحة .. أنت تعلم أن به أسلحة .. وقمت بتوصيل سيد الريس لجرد مخازن المناطق والكشف على الأسلحة .. وأنت ما تعرفش نتيجة الكشف ..

جهاز منظم فيه أسلحة وأنت محامي ... فهل قوانين البلاد تسمح بحمل السلاح ؟

إبراهيم الطيب : لا تسمح

جمال سالم : كيف توجد مخازن أسلحة وتنظيم مسلح داخل البلاد بدون علم الحكومة ؟

هكذا قال جمال سالم !!

( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه )..

عبد الناصر يسرق الأسلحة من الجيش للإخوان

كانت هذه الأسلحة يسرقونها من الجيش ويعطونها إلى الإخوان وكانوا يأخذون النقود من الإخوان ليشتروا الأسلحة ,... ومن ضمن المشكلات التي كانت بين الإخوان وجمال عبد الناصر أثناء فترة الوفود التي تروح وتجئ بينهم اشتكي عبد الناصر للوفد, وقال إن فلان يشيع عني أنني أخذت ألفين وأربعمائة جنيه ثمن أسلحة قبل الثورة ولما قامت الثورة لم أسلم الأسلحة أو النقود .. وهذا غير صحيح ,, فقد سلمت بعض هذه الأسلحة قبل الثورة ودفعنا جزءا من الثمن لأمناء المخازن في الجيش كالعادة ..

والمبلغ الذي تبقي قد تم تسليمه إلى الأخ فلان .. وحكاية الأسلحة التي كانت في بيت جمال عبد الناصر وغيره من الضباط يوم حريق القاهرة وكيف استنجد بمنير دله وصلاح شادي وحسن عشماوي لنقلها إلى عزبة الأخير خوفا من التفتيش , وقام هو بإعداد المخزن بنفسه وهي حكاية معروفة , ثم يأتي ويقول كشف مخازن سلاح عند الإخوان !

صحيح اللي اختشوا ماتوا !

وأجاب إبراهيم الطيب وفي صوته سخرية خفيفة :

- لا شك أنه فيما يتعلق بالسلاح فوضعه معارض للقانون .

جمال سالم : وهل ده يبقي سري ولا علني .

إبراهيم الطيب : التشكيل علني والسلاح سري .

جمال سالم : لماذا كونت هذا النظام من قائد الفصيلة وقائد ثان للفصيلة فرئاسة للمنطقة , فرئاسة للقاهرة بمجلس أعلي .. وما الداعي إلى تكوين الجماعة من سبعة لابد أنه لهذا ارتباط بالتكوين والتسليح .

إبراهيم الطيب : أنا مهمتي كانت فيما يتعلق بالتكوين والتنظيم ماليش علاقة بالتسليح .

واعتدل جمال سالم وبدأ ينتعش وشرع في السخرية من الشاهد :

- إذا طلبت منك إنك تجيب لى واحد أكريه للقتل ما هي مسئوليتك ؟

إبراهيم الطيب : لا أوافق

جمال سالم : وإذا وافقت؟

إبراهيم الطيب : غلط

جمال سالم : ما هي مسئوليتك في القانون ؟

إبراهيم الطيب : يعتبر فاعل أصلي ..

ونظر جمال سالم إليه ورفع صوته عاليا :

- كيف تسمح لنفسك إذن بتنظيم نظام وتسليح بواسطة غيرك وأنت رجل تزاول مهنة المحاماة في البلاد ؟
- ورد إبراهيم الطيب بصوت أشد صلابة من نغمته السابقة وقال
- الذي فهمته أن النظام قد يستفاد به في سائر الأقطار العربية والإسلامية الأخرى .. ولا شك أن البلاد محتاجة لرجال مسلحين مدربين .

ونظر إليه جمال سالم بنظرة ثعبانية وقال بنعومة:

- قلنا إن التنظيم ينافي قوانين البلاد .

ورد عليه إبراهيم الطيب بشجاعة واستهانة :

- أنا مهمتي التشكيل بس لا أكثر ..

وبمزيد من النعومة قال جمال سالم :

- انتهينا إلى أنك بهذا تعتبر فاعلا..

إبراهيم الطيب : أيوه

وارتفع صوت جمال سالم كأنه يستجلب التصفيق :

وقارنا بين هذا وبين حكاية الراجل اللي أكريه ..وقلت إنك تبقي فاعل لأنك قمت بعمل تنظيمي مرتبط بعمل تسليح غير مسموح به في القوانين الموجودة في الدولة وأنت محام ومهنتك متصلة بالقوانين ..

إبراهيم الطيب : صح .

وابتسم جمال سالم منتصرا وقال :

- قول لنا بقي الغرض الشرعي .

وابتسم: إبراهيم الطيب واثقا قال :

- لم أفهم أنه لغرض غير شرعي .

وانبهر الموجودون بهذه الثقة والشجاعة والثبات , وهم يرون شابا قد بدت عليه آثار الإرهاق الشديد .

وعلامات التعذيب تملأ وجهه , وبادية في أجزاء من جسده وقد قدم لأداء شهادة فالمفروض أنه شاهد إثبات ضد محمود عبد اللطيف , ورغم هذا يناقش كمتهم مع عدم توافر أية ضمانة آدمية له .

وقد أذيع كل هذا في الراديو وكتب في الصحف ثم جمعوه في كتاب وزعوه وسحبوه بعد حين والناس في بلادي نيام فإذا ماتوا انتبهوا .

وقال جمال سالم له بنبرة من يشكك الناس في أن كلام إبراهيم الطيب متناقض : قلت إن الغرض هو حماية الدعوة في مصر وغير مصر .

إبراهيم الطيب : أيوه .

جمال سالم : قول لنا حماية الدعوة في مصر يكون إزاي ؟

ولعل جمال سالم قد لمح النظرة الساخرة التي لمعت في عيني إبراهيم الطيب فقد كان يقف أمامه مباشرة وقال له :

- فيه جنود احتلال .

وهاج جمال سالم وماج وكأنه وجدها فرصة فهو يتكلم أمام شعب ضعيف الذاكرة ينسي الأشياء القريبة جدا , وربما يتذكر أشياء بعيدة .

وقال جمال سالم هائجا :

- جنود الاحتلال الحكومة تحاربهم علانية , وفيه جيش بتصرف عليه الحكومة ملايين ... وعنده طيارات ومدافع 6 بوصة ودبابات.. فهل التنظيم بتاعك قوته كقوة الجيش ؟.. إذا كنت مخلصا حقيقة وعاوز تساهم .. ساهم بنفسك وباب التطوع مفتوح في القوات المسلحة .

هكذا تكلم جمال سالم !!

ونسي أنه في حكومة قد جاءت نتيجة انقلاب عسكري , وليست لديها أية شرعية تحت كل القوانين والأعراف المعمول بها في العالم أجمع , ونسي أن هذا الذي يقف أمامه شاهدا أو متهما أو الاثنين معا كان أحد الذين ساعدوه ليجلس على كرسي الحكم أملا فيهم .. فجلس ليحاكمهم . ,نسي أنهم – الضباط – كانوا حتى الأمس القريب جدا بعد الانقلاب يتعاونون مع الإخوان من أجل إقلاق الإنجليزفي القناة نسي أو تجاهل كل هذه الأمور ... تجاهل أنهم اختطفوا الحكم اختطافا .. وكل المبادئ التي أعلنوها عملوا على تحطيمها والقضاء عليها .

إقامة حياة ديمقراطية سليمة !

عجبي !!

لأول مرة في تاريخ مصر الحديث يضرب الكبراء والوزراء وعامة الناس ضربا جماعيا دون أى اعتبار لأى شئ .. ودون خوف من ذيوع هذا في كل أنحاء العالم صار جمال سالم يتكلم وقد ظن أن وضعه قد صار شرعيا .. وأنه حاكم حقيقي لمصر ... وقد انتخبه الناس ... ولو بالتزوير .. تلك الأداة التي فاقوا بها كل من سبقهم ..

ورحم الله يحيي إبراهيم باشا الذي لم يزور الانتخابات في تاريخ مصر الحديث وفقد دائرته أمام منافسه وهو رئيس الحكومة آنذاك .. أيام زمان !! ورحم الله الإنجليزالذين سمحوا لعرابي أن يأتي بمحامين من فرنسا للدفاع عنه ... وكذلك كرومر وكل الطغاة الذين كنا نلعنهم ونحن صغار فلما كبرنا وجدنا من هم أكثر منهم ضراوة ووحشية .

جيل من الحكام اعتمد على " النهش " سياسة " كلبية " ليس للعدل والرحمة والحرية فيها نصيب .

( الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب )

هذا هو الشعار الذي ألقوه علينا بعد حين ....

واختلف المفكرون في تفسير كلمة الشعب .. وذهبوا في تفسيرها مناهج شتي ثم انتهوا إلى أنها كانت تعني " الملهم " ومن معه فهم الشعب وهم الوطن ومن خلال أشخاصهم تتحدد المفاهيم , وهم الذين يقولون من الوطني ومن الخائن ومن خلال رضاهم وسخطهم على الناس يتميزون فيرتفعون أو ينخفضون .

واستمع إبراهيم الطيب إلى خطبة جمال سالم ..

وكذلك استمع إليها من في القاعة, وتلقاها الناس بخوف , أما إبراهيم الطيب فقد اخترق حاجز الخوف .. ولم يعد يشغل فكره بهذه الألأعيب والشعارات الجوفاء ولكن كان عليه أن يستمر معه في ذلك الحوار السقيم لإثبات مالا يفهمه أحد , وهو الذي قد جاء ليدلي بشهادة , فإذا به يناقش مناقشة المتهمين .

وقال إبراهيم الطيب بهدوء :

- ده صح ... وفيما يتعلق بهذا التشكيل لم يكن يقصد به أى وضع غير شرعي .
- وفي إصرار وحماقة قال جمال سالم مخاطبا إبراهيم الطيب :

جمال سالم : بين لى النقطة اللي باسألك عليها .. الدفاع عن الدعوة بتقول بمقاومة الإنجليز.. ومقاومة الإنجليزليه ما تكونش علنية , فيه قوات مسلحة موجودة في البلاد مهمتها هذه المقاومة .. فما الذي يدعوك لكي تقيم قوات مسلحة بشكل صغير لتقاوم الإنجليزولا تطرق باب التطوع في القوات المسلحة الكبيرة وهو مفتوح ؟

إبراهيم الطيب : فيما يتعلق بالتطوع الإخوان اشتركوا في التطوع وتقدموا لسائر منظمات الحرس الوطني ..

جمال سالم : إذن ما الداعي إلى إقامة النظام والإبقاء عليه بعد وجود الحرس الوطني ؟

إبراهيم الطيب : علمنا أن الحكومة كانت تشجع التسليح للمقاومة في القنال ..

جمال سالم : علمت من مين ؟

إبراهيم الطيب : علمت من يوسف طلعت .

جمال سالم : ألم تعلم بما طلبته الحكومة من المرشد في مايو ؟

إبراهيم الطيب : معرفش .

وزمجر جمال سالم وانطلق صوته عاليا يهزأ من الشاهد وقال :

جمال سالم : إيه اللي ماتعرفوش ؟ هو أنا لسه قلت حاجة علشان تقول معرفش ؟

إبراهيم الطيب : معرفش الحكومة قالت للمرشد إيه ..

وبمزيد من المغالطة والصفاقة قال جمال سالم :

جمال سالم : إذا كان أنا لسه مذكرتش الواقعة منين بتقول إنك متعرفهاش ؟

وفي هدوء وبساطة قال إبراهيم الطيب :

- أنا أقول إنني لا أعلم أن الحكومة طلبت في مايو من المرشد شيئا .

جمال سالم : ألم يقل لك يوسف طلعت إن الحكومة في مايو سنة 1953 طلبت من المرشد العام ثلاث مسائل ؟

إبراهيم الطيب : لا ... إيه همه ؟

وتكلم جمال سالم كأنما يخاطب الرأي العام كله وليس لمناقشة الشاهد:

- طلبت الحكومة من المرشد ثلاث مسائل ... الأولي عدم التدخل في القوات المسلحة بضم أفراد منها إلى جماعة الإخوان المسلمين في تشكيلات حتى لا تتكون في داخل القوات المسلحة قوتان يكون المصير النهائي بتاعها حرب أهلية بين أفراد القوات المسلحة .

المسألة الثانية : نفس الطلب بالنسبة لقوات الأمن .

ثالثا : حل الجهاز وتسليم جميع الأسلحة بتاعته لسبب .. ما هو السبب ؟ السبب هو إن السرية معناها أن هناك سياسة أخري غير العلانية تبطنها الجماعة ... فإذا كان عندكم سياسة ثانية غير العلنية قول لنا إيه هي لأنه ما فيش سرية في الدين ولا الدعوة

إبراهيم الطيب : لم أبلغ بهذا.

جمال سالم : أمال بلغت بإيه ؟

إبراهيم الطيب : يوسف طلعت قال إن الحكومة تشجع الفدائيين في القنال.

جمال سالم : ناقشته في كلامه ؟

إبراهيم الطيب: لا .

جمال سالم : لم لم تناقشه ؟

إبراهيم الطيب: قال لى معلومات أكيدة .

جمال سالم : إيه وجه التأكيد فيها ؟.... أقسم ؟

إبراهيم الطيب : ذكر لى وقائع متأكدا منها ..

جمال سالم : ما هي الوقائع دي ؟

إبراهيم الطيب: هو قال إن الحكومة الحاضرة يسرت للفدائيين الحصول على الأسلحة لمهاجمة الإنجليز,,, حتى يشعروا بحق أنهم في وطن لا يستطيع أهله أن يصبروا على وجود متطفلين فيه أو مستعمرين له .

جمال سالم : عظيم ..وإذا كانت الحكومة بتجيب متطوعين سرا وتعد لهم الخطط وتمدهم بالأسلحة ... فما هو الداعي لوجود الجهاز السري وماذا يعمل في القاهرة ؟

قال هذا جمال سالم وهو يكابر ويكذب على الناس !

والقاضي الكاذب أكثر شرا من القاضي الظالم , وكان الاثنين معا.

كان الحكومة تنسق مع الإخوان بعد الانقلاب مباشرة لإقلاق الإنجليزتمهيدا لمفاوضات الجلاء ... لم تكن توجد في مصر جهة شعبية يمكنها القيام بهذا الأمر غير الإخوان وضباط الحركة الذين كانوا أعضاء فيها يعلمون ذلك .

والجهاز السري كما سماه جمال سالم هو الذي حقق الحماية الداخلية لمصر أثناء عملية الانقلاب العسكري .

وتأخرت الثورة يوما حتى يوافق المرشد العام .

وسألت واحدا ممن كانت له صلة أيامها بالمرشد العام ومن الذين كانو يعرفون هذا السر عن سبب تأخر موافقة المرشد يوما فقال لى :

- كان يدرس الخطط ؟
- أية خطط ؟ هل هي خطط تحركات الجيش للتحكم في القاهرة ؟ الاستيلاء على مبني قيادة الجيش والإذاعة مثلا ؟

وقال لى محدثي :

- لا .. كان يدرس ما هو مطلوب من الإخوان لحماية المنشآت العامة والسفارات والوقوف في طريق السويس لعرقلة تقدم الإنجليزفي حالة حدوث ذلك .
- وكان يستفسر من الإخوان عن الإمكانات المتاحة ومدي احتمالات النجاح ولما تأكد من وجود كل هذا وافق.. وأيقن أن الجيش سوف يخرج لأهداف محددة وفق خطة هو يعرفها تاركا وراءه جبهة عارية من الدفاع وعلى الإخوان أن يقوموا بهذا الواجب .. ومن المناقشات والمعلومات التي قدمت عرف أن هذا في استطاعتهم .

فرئيس المحكمة الموقرة – محكمة الشعب – يتحدث عن أشياء يعلمها جيدا وقال إبراهيم الطيب ردا على كلام جمال سالم :

- علمت إن فيه اجتماع حضرة الصاغ كمال الدين حسين وآخرون من ضباط الجيش واجتمعوا والإخوان ..وأنهم تداولوا في كيفية الاستعداد لمقاومة الإنجليزوالتسليح والتدريب .
- وهذا الكلام صحيح , وقد حضر هذا الاجتماع عدد آخر ,وكانت هذه هي الخطة التي سوف يواجهون بها الإنجليز,وقد ذكر ذلك كمال الدين حسين وآخرون فيما بعد.

- ولم يكن أمام الضباط غير هذا

ورغم ذلك قال جمال سالم للشاهد الذي يناقش مناقشة المتهمين :

جمال سالم: يوسف طلعت ذكر لك الكلام ده ؟

إبراهيم الطيب: ايوه .

جمال سالم : ما هو الدليل على صحة كلامه ؟

وفي هدوء وسكينة بدأ إبراهيم الطيب يشرح :

إبراهيم الطيب: نفس كلامه والوقائع التي ذكرها ..

وقاطعه جمال سالم بسرعة :

جمال سالم : لماذا لم تعبئ العشر فصائل للكفاح ؟

إبراهيم الطيب : حصل .

جمال سالم : حصل إيه ؟

إبراهيم الطيب : الصاغ كمال الدين حسين على وجه الدقة قال ... انفجر جمال سالم مقاطعا :

جمال سالم : بعلمك أو بسمعك ؟ وإذا كان سمعت تقول مين اللي قال لك وفي هدوء لم يؤثر عليه هياج رئيس المحكمة قال إبراهيم الطيب .

- ذكر لى الدكتور حسين كمال الدينوكان رئيس مكتب إداري القاهرة أن بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة وبعض ضباط الجيش طلبوا من الإخوان أن يجهزوا بعض الإخوان لإقلاق راحة الإنجليزفي القنال .. وفعلا أعدت بعض هذه القوات وكانت على وشك الرحيل ومعرفش السر في عدم ذهابها .

وقبل أن يستمر في سرد ما دار نتذكر واقعة !

تلك التي قالت إن جمال عبد الناصر قد طلب أن يقدم له رجل جرئ من الإخوان ليذهب إلى القنال , ويلتحق بالجيش الإنجليزي بعد تيسير ذلك له , ويضع السم لكبار الضباط الإنجليزوكان ذلك الشخص محمود عبد اللطيف الذي اعتذر وقال إن القتل بهذه الطريقة لا يناسبه وأنه يفضل المواجهة .

وكانت القاعة في المناقشات الهامة التي تضيف معلومات جديدة تزداد انتباها وقال جمال سالم : جميل ... إذا كانت الحكومة بتجيب السلاح علشان تقلقوا الإنجليزفي القنال فما هو الداعي إلى أن تجندوا الإخوان وتسلحوهم في السر ؟

إبراهيم الطيب : ما كانش فيه سر احنا كنا بنعمل على المكشوف ..

جمال سالم : والسلاح ؟

إبراهيم الطيب : لا أعرف عنه شيئا .

والتفت جمال سالم ناحية الذي يكتب بالاختزال وقال له في صوت جهير :

- طيب السكرتير المختزل يبقي يقرأ له أقواله في الحتة دي الخاصة بالأسلحة , وأسرع السكرتير ينفذ ما طلبه منه جمال سالم , بينما وجه الأخير كلامه لإبراهيم الطيب , ربما حتى يأتي السكرتير بما طلب وسأل :

- من هم رؤساء الفصائل ؟

إبراهيم الطيب : الأستاذ عبد العزيز أحمد وكمال السنانيري والفيومي وهنداوي دوير ومحمد شديد ومحمد عبد اللطيف وسيد أبو سالم ..

وهنا طلب الأستاذ ممدوح توفيق مندوب مصلحة الاستعلامات والذي يقوم بالاختزال بمحكمة الشعب أن يتكلم رافعا يده فأذن له جمال سالم فقال :

- لقد قال ما يأتي عندما سئل عن الأسلحة وكونها مخالفة للقوانين :

" إن التشكيل كان علني ولكن الأسلحة سري ".

والتفت جمال سالم إلى إبراهيم الطيب :

- اتكلم
وكل هذا الجو الإرهابي المشحون لم يؤثر في نفسية إبراهيم الطيب الذي بدا هادئا مطمئنا يتكلم في ثقة , فقد ترك وراءه في السجن الحربي الفزع الأكبر والهول الأعظم , ورغم ذلك لم يؤثر فيه ذلك رغم إصاباته الشديدة .
ويقول من حضر المحكمة إن محمود عبد اللطيف المتهم بمحاولة اغتيال الزعيم كان ينصت وينظر بإعجاب لا يستطيع إخفاءه إلى رئيسه القديم وهو يتحدث .

وقال إبراهيم الطيب :

إبراهيم الطيب : ذكرت أنه فيما يتعلق بمسائل السلاح ذكر لى يوسف طلعت أن الحكومة كانت تشجعه .. ومشروعيه جمع السلاح أو عدم المشروعية أتت من الطريقة التي حددتها لحضراتكم .. من أن بعض حضرات أعضاء الحكومة ... واذكر منهم الصاغ كمال الدين حسين طلب تجهيز بعض الإخوان .. وأن الحكومة تشجع الفدائيين .. وطلبت تسليح بعضهم ..

وكان إبراهيم الطيب يتكلم بلهجة الواثق .

وكان حديثه شجاعا يبين لمن يسمع أن الأمور كانت بين الإخوان والحكومة إلى الحد الواضح الذي كان . يعرفون أن هناك أسلحة واشتركوا في إحضارها ..

ويطلبون تجهيز مجموعات للذهاب إلى القنال استمرارا لأعمال الفدائيين التي كانت عقب إلغاء معاهدة سنة 1936 ... وأن الإخوان هم الجهة الوحيدة المؤهلة لهذا الدور ..

وفكرة نزع سلاح الجيش نشأت بعد نجاح الانقلاب مباشرة ... فليس من المعقول أن يرسلوا كتائب من الجيش بأسلحتها لمقاومة الإنجليز,, وكان هذا ممكنا .. ولكن من يضمن لنا أن هذه الكتائب لا تعود وتستولي على الحكم وتقتل الضباط الأحرار ..

في وقت ندم فيه كل الضباط على عدم قيامهم بانقلاب بعد أن رأوا كم كان سهلا وبسيطا .. ولم يكونوا يعرفون أن هناك قوي شعبية قد اشتركت في الإعداد له وتنفيذه .. فتفاوض الحكومة مع الإخوان لإقلاق الإنجليزأمر وارد وقد حدث .. وقد توقف تنفيذ هذا – بعد عدة عمليات محدودة – عندما أكد لهم الأمريكان أنهم سوف يجلون عن مصر .

وفي بجاحة وكذب قال جمال سالم :

- أرجو من الشاهد إذا تكلم على لسان واحد يقول أنا سمعت وما يقررش الأمور بالشكل ده .. لأن كمال الدين حسين ما رحش وما قلش ..
- وقلب جمال سالم وجهه في الموجودين على جبنهم ونفاقهم فعرف في وجوههم نظرة التكذيب .. والتفت إلى إبراهيم الطيب فرأي السخرية والمرارة تكاد تخرج من عينيه .

لهذا أكمل كلامه :

- واللي حصل إن كمال الدين حسين جوله ( أى أتوا إليه ) الإخوان في أوائل سنة 1953 وطلبوا أن يعاونوا في العمل بأن ينضموا إلى المخابرات الحربية كقيادة منفصلة مش علشان السلاح ورفض طلبهم .
وبدأ على من في القاعة عدم التصديق , ولكن كل واحد حاول أن يخفي تكذيبه هذا .. وكيل النائب العام يقلب في الأوراق ... الصحفيون يكتبون .. المحامون يتشاغلون .. بينما كان ينظر محمود عبد اللطيف متعجبا من هذا الوضع الغريب معجبا برئيسه القديم الذي بدت السخرية واضحة على وجهه ... مخابرات حربية إيه ؟ كلام ناس ليسوا في وعيهم .

واستمر جمال سالم وارتفع صوته ليؤثر تأثيرا مضادا على أية نتيجة تكون قد حدثت بكلامه فوجه حديثه لإبراهيم الطيب :

- قاللي قال لك الكلام يوسف طلعت يبقي إيه ؟
ولم يرد عليه إبراهيم الطيب .

وأكمل جمال سالم : - يوسف طلعت غلط .. وأنت كنت مسحوب من دقنك .

إبراهيم الطيب : اللي قال الكلام ده يوسف طلعت وحسين كمال الدينرئيس مكتب إداري القاهرة .

جمال سالم : أيوه قول مين علشان نبقي نواجهك بيهم .. وبعدين ؟

إبراهيم الطيب : بناء على هذا أعيد هنا التنظيم السري .

وحدثت همهمة وغمغمة في القاعة للمرة الأولي ..

كانوا من قبل يضحكون منافقين جمال سالم على نكتة سخيفة .. كانوا يجيبون على سؤال جماعي يوجه لهم من المحكمة من باب التهريج .

أما الهمهمة والغمغمة فهي للمرة الأولي .

وبدا وكأن إبراهيم الطيب قد ألقم جمال سالم حجرا .. وهو سرعان ما يستعيد توازنه فهو الذي يمسك بالدفة وهو في مركز القوة ولكنه نظر يستغيث بوكيل النائب العام الذي تدخل مسرعا :

وكيل النائب العام : متي أعيد تنظيم الجهاز؟

إبراهيم الطيب : أعيد تنظيمه على أساس ..

وقاطعه وكيل النائب العام :

- أنا سألتك إمتى وعاوز الإجابة على سؤالي .

إبراهيم الطيب : في حوالي شهر فبراير

وكان جمال سالم قد استعاد توازنه فسأل :

- وقبل كده ؟

إبراهيم الطيب : كان منظم ولكن أعيد تنظيمه.

جمال سالم : مين كان رئيسه ؟

إبراهيم الطيب : عبد الرحمن السندي وبعدين 'يوسف طلعت'

جمال سالم : كيف أعيد تنظيمه في أواخر فبراير 1954 مع أنكم في المعتقلات ولم تخرجوا إلا في أواخر مارس ؟

وفكر إبراهيم الطيب قليلا وقال :

- أنا متأسف لأن ده غلط .. صحيح كنا وقتها في المعتقلات .. حصل إعادة تنظيم الجهاز على أساس قواد الفصائل .

جمال سالم : يبقي إمتي ؟

إبراهيم الطيب : بعد أواخر مارس .

جمال سالم : يطلع إيه يعني ؟

إبراهيم الطيب : أوائل أبريل .

جمال سالم : أيوه كده علشان يبقي الكلام متفق مع كلام الشهود وهكذا ضاعت معالم قصة الاتفاق على تجهيز بعض الإخوان لإرسالهم إلى القناة لمحاربة الإنجليز.

ولكن المدعي بعد أن قلب بعض الأوراق أمامه سأل :

- حسب أقوالك أمام المحكمة تقول إن صلتك بهذا الجهاز بعد آخر مارس .. في أبريل ... وأنت تتكلم أمام المحكمة عن حوادث حصلت في مايو سنة 1953 فمن أين علمت بها ؟

إبراهيم الطيب : قال لى يوسف طلعت عليها .

المدعي : بمناسبة إيه ؟

إبراهيم الطيب : بمناسبة التشكيل والتسليح .

المدعي : وأنت نقاشته فيها ؟

إبراهيم الطيب : أيوه .

وتدخل هنا جمال سالم فسأل إبراهيم الطيب :

جمال سالم : إمتى ؟

إبراهيم الطيب : [يناير]] سنة 1954 قبل الحل .

وبدأ الملل يتسرب لى نفوس جميع من بالقاعة .. المحكمة .. الادعاء ... الدفاع .. النظارة ... الشهود .. المتهم الوحيد ... الحرس .. الجميع ..

وأراد المدعي أن يخلق جوا من الإثارة لمتابعة التمثيلية في تشوق فقال :

المدعي : ظهر من التحقيقات أمامنا .. والتحقيقات الابتدائية .. أن هناك علاقة أو اتصالا بين اللواء محمد نجيب والإخوان فمتي بدأت هذه العلاقة ومع من ؟

وهكذا صور الوضع للجهلة والمنافقين !

محمد نجيب رئيس جمهوري مصر يجرم اتصاله بالإخوان

والإخوان لا ينبغي أن يتعاونوا أو يتصلوا برئيس الجمهورية محمد نجيب قائد الحركة فلولاه ما قامت .. كان أحد العوامل الرئيسية وأين الشرعية والدستور ؟

صحيح قد ظهر بعض الفلاسفة بعد ذلك يتحدثون عن الشرعية الثورية .. بمعني أن أى مغتصب يحقق نجاحا فقد اكتسب الشرعية .. وأطنب هؤلاء الفلاسفة وأفهمونا أن الشرعية هي الجلوس على الكرسي بأية طريقة وهذا فكر قديم لم يأتوا فيه بجديد وقال به بعض الفقهاء " وإن غلب عليها بالسيف " ولكن أن يصير التنسيق والتعاون مع رئيس الجمهورية الموجود جريمة فهذا هو حكم العصابات ومنطق القتلة واللصوص الذين ظهروا في العصر الحديث وحكموا بلدا مثل مصر .

وقد تكرر شئ شبيه بهذا في مايو سنة 1971 أثناء حكم السادات فعندما خرجت عليه الدولة كلها بجميع أجهزتها ... المخابرات ... المباحث .. الاتحاد الاشتراكي .. الإعلام .. الجيش .. الخ ... الخ تغلب عليهم ووضعهم في السجون . فلو حدث العكس وتغلبوا هم عليه وطردوه لحاكموا كل من كان يتعاون معه أو يتصل به .

فالشرعية هنا لا تستمد من دين أو شريعة أو انتخاب حر مباشر أو مؤسسات صحيحة أو دستور قويم أو أى شئ مما جرئ عليه العرف في العالم ولكن الشرعية في مصر تستمد من القوة والبطش .. وكلما كان البطش شديدا كانت الشرعية أكثر منطقا ورسوخا ويتقبلها الناس ويسرف الكتاب في تناولها كتابة وشرحا وتحليلا , وبغض النظر عن مجافاة هذا للواقع والمنطق وليس هناك من حرج أن يتصل محمد نجيب بالشعب كله لأنه رئيس جمهورية مصر ولا جريمة فيمن يتصل به , أو هكذا ينبغي أن يكون , ولكنها سياسة البطش , وقد بطشوا بالجميع ولم يبق غير الإخوان ومحمد نجيب .

أحمد أنور يضرب محمد نجيب

ويبدو أن محمد نجيب أول رئيس جمهورية قد ضرب كثيرا في مصر ! وهذا لعمري أمر عجيب .

فقد روي لى المهندس حلمي عبد المجيد :

- عندما تم اعتقالي في أوائل أبريل سنة 1954 وأودعت سجن الأجانب , ودخلت المعتقل ومعي حقيبتي ... حاولت أن أضفي جوا من المرح للتخفيف على من قابلني من المعتقلين فإذا بي أقابل بوجوم شديد .

- وقال لى واحد من المعتقلين ممن أعرفهم : لا داعي لهذا لمرح الزائد وسألته :

- لماذا ؟

- منذ قليل ضرب الأستاذ عبد القادر عودة والأستاذ أحمد حسين , وامتلأت عجبا – حلمي عبد المجيد

وسألته :

- من ضربهما ؟

- أحمد أنور قائد البوليس الحربي .
- كيف تم ذلك ؟
- أخرجهما من الصف واحدا بعد الآخر وصفعهما على وجهيهما وسبهما سبا قبيحا ..
- وماذا فعلا ؟
- رد أحمد حسين السباب بسباب أقذع منه ,... وسكت عبد القادر عودة ولم يرد .

ويقول حلمي عبد المجيد :

- وأدركت أن مصر قد دخلت عهدا جديدا سوف يستخدم فيه الضرب على أوسع نطاق .. وأن تاريخ مصر يتغير تغيرا كبيرا قد بدأت بوادره ..
وعلم المهندس حلمي عبد المجيد أن أحمد أنور سوف يجتمع بالمعتقلين في المساء .
وانتظروه ..وجاء على قدر .. وجلس وسطهم يتحدث من أنفه ..

وقال لهم أحمد أنور :

- المشكلة بيننا وبين حسن الهضيبي ..وده راجل مش كويس , وعاوز يبوظ الجماعة , ولازم تشيلوه علشان نسييكم .. فاهمين ..
وتبادل الجالسون النظرات وفي نفوسهم هاجس وخاطر أن يسحب واحدا منهم ويصفعه على وجهه وهم من كبار القوم ... وإن فعل بهم هذا .. فماذا ينبغي أن يكون ردهم عليه ..؟

ورد عليه الدكتور محمد فريد من الشرقية وعضو الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان :

- أنت تقول كلاما عن المرشد العام للإخوان .. وهو ليس بعيدا عنك .. فأرسل من يأتي به من السجن الحربي وقل أمامه هذا الكلام .. ودعنا نسمع رده عليه .. فإن لم يستطع الرد , فنحن معكم ولن تخالفكم في شئ .

- وأدرك أحمد أنور أن هذا الأسلوب لن يجدي فتكلم في موضوع آخر وقال :

- طيب محمد نجيب ... أنت مالكم كده متحمسين لمحمد نجيب ؟

- ومن بين دهشة القوم صار يقول :

- محمد نجيب أبن .. وابن .. وابن
- وصار يسبه سبا قبيحا.

وتشجع أحد الحاضرين وقال :

- على أى حال هو لا يزال رئيس جمهوري مصر .

- وقال أحمد أنور :

- أنتم عارفين رجع ازاي بعد ما استقال ؟

وقال واحد :

- قامت المظاهرات من أجل عودته .. وسلاح الفرسان .. وقصص كثيرة وابتسم أحمد أنور ابتسامة المجرمين القتلة القادرين وقال :

- رغم كل هذا كان يرفض العودة ... وأخذته إلى مكان مهجور وقدمت له ورقة يعلن فيها الموافقة على سحب استقالته والعودة إلى رئاسة الجمهورية .. ورفض ابن العاهرة – هكذا قال – وأنا أحايله علشان ما يحصلش حاجة ... ولكنه أصر على الرفض ... عندها قلت لنفسي - الكلام لأحمد أنور مبدهاش ..
- وانقطعت الأنفاس واشرأبت الوجوه فهم يشهدون ميلادا جديد لميثاق مستحدث لحقوق الإنسان في مصر .. والكل سواسية كأسنان المشط .. رئيس الجمهورية وأى موظف صغير .

( سأل سائل بعذاب واقع )

- وماذا فعلت ؟

وانطلقت ضحكة أحمد أنور مجلجلة في أنحاء سجن الأجانب ..
وسجن الأجانب هذا قد أزيل وقامت مكانه محطة البنزين الواقعة خلف عمارة رمسيس بالقرب من ميدان باب الحديد .

وانبري أحمد أنور يقول للمعتقلين :

- ماذا فعلت ؟. وضبته .. أعطيته علقة لم يأخذ مثلها من مثل .. كان يتوسل إلىّ ويبكي وأنا أضربه ويقول لى سأوقع على القرار .. وأنا كنت شحنت ولم أعد في وعيي .. وبعدين الضباط اللي معايا خافوا لأموته من الضرب فمنعوني حتى لا تحدث مشكلة ..
- وخيم الصمت على من يسمع !
واستمر أحمد أنور يحكي مزهوا بنفسه مالا يستطيع أحد أن يفعله في التاريخ القديم أو الحديث .. لقد ضرب رئيس الجمهورية ورمز مصر ..

وقال :

- لم أتركه حتى صف التراب من الأرض .. ورجعناه البيت علشان يغير البدلة بتاعته اللي اتوسخت ومزقت ... وكنت نزعت الرتب من فوق كتفيه وألقيت بها في الطريق والدنيا ظلام ولم نعثر عليها بعد ضربه ..
- ورجع رئيس جمهورية ...

والحاجة اللي تضحك – لا أدري تضحك من – إنه تاني يوم كان رايح مسافر السودان .. وكنا في وداعه ... وضرب سلام رئيس الجمهورية ورفع العلم .. والدنيا كلها هايصة .. واقترب مني ومد يده يسلم علىّ فنظرت في عينيه رافضا .. راجل وسخ ابن عاهرة وفاهم نفسه رئيس جمهورية صحيح .. وأرخي يده.. وحاول أن يصافح الضباط الآخرين الذين شهدوا " العلقة " فنظرت إليهم ونظرت إليه محذرا .. فانصرف دون سلام أو كلام .. على كل حال إحنا بنرتب لخلعه .. وسوف يكون .. وعاوزينكم معانا في المسألة دي ..

وعلم المعتقلون الذين سمعوا القصة أنها ( الواقعة ليس لوقعتها كاذبة )

عودة إلى شهادة إبراهيم الطيب

وقال إبراهيم الطيب مجيبا عن سؤال المدعي عن علاقة الإخوان بمحمد نجيب

- أما فيما يتعلق بتحديد موعد هذا التفاهم أو هذا الاتصال فلا أعلم على وجه الدقة ... وكل الذي أعلمه أن يوسف طلعت باعتباره الرجل المسئول قرّر لى أن هناك اتصالا قائما بين محمد نجيب والإخوان

- وانبري جمال سالم يسأل :

- من من الإخوان
إبراهيم الطيب : لم يحدد لى .

جمال سالم : وتعتقد مين ؟

إبراهيم الطيب : أعتقد اللجنة العليا للنظام .

جمال سالم : المكونة من مين ؟

إبراهيم الطيب : المرشد وفرغلي والأشخاص الآخرين اللي ذكرتهم .. وأعتقد أن الاتصال كان يتم مباشرة أو بطريق غير مباشر عن طريق أفراد يكلفوا بهذا.

جمال سالم : ز يمين ؟ يوسف طلعت مقالكش ؟

إبراهيم الطيب : لا ..

جمال سالم : يظهر أنه أمر سر .

ويبلغ العجب منتهاه !!

يأتي إبراهيم لسؤاله كشاهد إثبات ضد محمود عبد اللطيف وإذا به يستجوب كمتهم – وهو هنا شاهد ومتهم في موضع آخر – وليس كشاهد وتتحول الشهادة إلي محاكمة له ولرئيس الجمهورية الذي لا يزال رئيسا للجمهورية في مكتبه يمارس , وظيفته هذا الاستجواب العجيب الذي تنقله كل وسائل الإعلام في ذلك الحين .

وقال إبراهيم الطيب ردا على سؤال جمال سالم :

إبراهيم الطيب : هذا الرجل مؤتمن – يقصد يوسف طلعت – وأنا أسمع كلامه على هذا الأساس .

وبسخرية قال جمال سالم :

- هو اللي كان مؤتمنك ؟

إبراهيم الطيب : لم أناقشه في الموضوع الذي ذكره لي .

جمال سالم : وكان الاتصال على أساس إيه ؟

إبراهيم الطيب : على أساس العودة بالبلاد إلى الحياة الطبيعية .. وعلى أساس ضرورة إيجاد برلمان منتخب شعبيا وبعيد عن المؤثرات الحزبية والشوائب الحزبية التي كانت تتصل بالبرلمانات السابقة .. ومن ناحية أخري إطلاق الحريات بكافة أنواعها وخصوصا حرية الصحافة وإبداء الرأي , والناحية الثالثة كان الهدف الإفراج عن المعتقلين ,وأن البلاد يكون فيها حالة أو نوع من أنواع الهدوء والتفاهم بين الرؤساء

– هكذا قال – الموجودين والشعب الموجود .

ولا يزال هذا هو مطلب الشعب حتى عام 1989 !!

وسيظل مطلبا بعيد التحقيق حتى تنتهي آثار ثورة 23 يوليو تماما .

الإخوان يساندون الانقلاب

وتجاهل جمال سالم هذا الكلام وسأل إبراهيم الطيب متهكما .

جمال سالم : كيف كان اتصال الإخوان بقادة الثورة عند بدء الثورة باعتبارك شخصا مهما ؟

إبراهيم الطيب : لم تكن هذه المسألة من اختصاصي .. ولا أحب أن أسأل في مسائل تعتبر سياسة عليا بالنسبة لى .

جمال سالم : تعرف إن كان فيه اتصال ؟

إبراهيم الطيب : يوسف طلعت قال لى إن هناك اتصالا .

جمال سالم : مع من ؟

إبراهيم الطيب : مع محمد نجيب والإخوان .

وبيجامة فائقة قال جمال سالم يسأل إبراهيم الطيب :

مجلس قيادة الثورة في 23 يوليو سنة 1952 , وكان هناك اتصال بينه وبين الإخوان المسلمين أم لا ؟

إبراهيم الطيب : الذي علمته من يوسف طلعت والدكتور حسين كمال الدينأن هناك اتصالا وأداة الاتصال كان الدكتور حسين كمال الدينوصلاح شادي وآخرون لم يحددهم لى .

جمال سالم : جميل .. وكانوا يتصلوا بقيادة الثورة علشان إيه ؟

إبراهيم الطيب : للتعاون بين جماعة الإخوان وقواتها الشعبية وبين مجلس قيادة الثورة في ذلك الوقت باعتبار أن الإخوان منتشرون في كل جهة من هات القطر ..

وعلمت أنهم كانوا يحرسوا الكنائس ومنتشرين في الشوارع ويقدموا مساعداتهم لمجلس قيادة الثورة حتى يكون الشعب كله مؤيدا لمجلس القيادة ويكون المجلس صفا واحدا ضد مستعمر واحد .

الإخوان يطالبون بالحرية وحكم الإسلام

وتجاهل جمال سالم هذا الكلام على أهمية ذكره علانية أمام الرأي العام .

وعاد يسأل إبراهيم الطيب :

جمال سالم : باعتبارك في الصف الثاني من الإخوان المسلمين..

وقاطعه إبراهيم الطيب قائلا .

إبراهيم الطيب : الثالث .

جمال سالم : ألا تعلم السياسة العامة للجماعة بالنسبة للثورة؟

إبراهيم الطيب : اللي فهمته من الإخوان المسلمين أن هذه السياسة تتلخص في ضرورة التعاون التام والتآزر مع رجال الحكم.

جمال سالم : ده كلام عام .. قل لنا في أى اتجاه يكون التعاون ؟

إبراهيم الطيب : في كل شئ بدون أى تفصيل أو تقييد .

واستاء جمال سالم من إجابة إبراهيم الطيب وقال ليشكك الرأي العام :

- بدون أى طلبات؟

إبراهيم الطيب : أيوه.. وكل ما فهمته أن الطلب الوحيد الذي طلب من مجلس قيادة الثورة هو أن ينحو بقدر الإمكان النحو الإسلامي الذي يرضي عنه الشعب المسلم .

جمال سالم : مكانش برلمانات وحريات ؟

إبراهيم الطيب : المفهوم أن مجلس قيادة الثورة بدأ العهد بما أعلنه أن الجيش يحمي الدستور لذلك الجميع كان يترقب وجود حياة برلمانية يسندها الشعب ويشرف عليها مجلس قيادة الثورة .

الجيش يحمي الدستور

وتذكرت تلك الأيام السوداء البعيدة في مطلع الثورة !!

كانوا يملئون الشوارع بلوحات تمثل جنديا شاكي السلاح وخلفه كتاب مكتوب عليه " الدستور " وتحت هذه اللوحة كتبت عبارة " الجيش يحمي الدستور " وملئوا الشوارع والميادين بها في طول البلاد وعرضها .

ولما قرروا إعلان إلغاء الحرية والدستور والديمقراطية قاموا بنزع هذه اللافتات أو طمسها بمادة سوداء أو زرقاء .

ثم ألغوا الدستور والحرية وتتابع المسلسل ولم ينته بعد.

وقال جمال سالم وهو يتمطي سائلا الشاهد الذي وجد نفسه متهما , وكأنهم قد نسوا الهدف الأساسي من استدعائه :

جمال سالم : ألم يقل لك يوسف طلعت إن لجنة الاتصال بقيادة الثورة ذهبت بعد الثورة مباشرة وقعدت حوالي يوليو وما يقرب من أواخر أغسطس وهي تذهب يوميا إلى كوبري القبة في القيادة .

وتلح في طلب يتعلق بسياسة الإخوان ؟

إبراهيم الطيب : لا أعلم ..

واندفع جمال سالم مهاجمة بشراسة:

- كيف تكون في الصف الثالث ؟
- ثم استدرك وقال شيئا آخر في شكل تساؤل :
- يمكن سياسة الإخوان توجه في القيادة العليا بدون أخذ الرأي ؟

وقال إبراهيم الطيب في ثبات :

إبراهيم الطيب: مع الهيئة التأسيسية لأنها مكونة من مكتب إرشاد .

جمال سالم : تمثل إيه الهيئة التأسيسية ؟

إبراهيم الطيب : مجموع الإخوان .

وسأل جمال سالم ساخرا :

- وكل واحد غيرهم محظور عليه الكلام ؟

إبراهيم الطيب : لما يكون فيه كلام سري .

جمال سالم : هل تعتبر الكلام اللي قاله لك سري ؟

الانتخابات الحرة التي لم تحدث قط

وقبل أن يجيب إبراهيم الطيب توجه جمال سالم إلى جمهور الجالسين في القاعة ,وإلى كل الناس عبر وسائل الإعلام المتاحة آنذاك من صحافة ووكالات أنباء وإذاعة ومع الأسف لم يكن التليفزيون موجودا وقتها , وبلهجة سوقية نابية لا تليق بنائب لرئيس الوزراء رفع صوته عاليا:

جمال سالم : ما مواطنين .. لجنة الإخوان قعدت من 24 يوليو سنة 1952 إلى ما يقرب من أواخر أغسطس سنة 1952 تطالب بشئ واحد , هو أن يكون الحكم عسكريا مطلقا بدون دستور وبدون برلمان لمدة لا تقل عن عشر سنوات .

وكانت الحكاية إننا مختلفين معاهم لأننا معتقدين تمام الاعتقاد من يوم 24 يوليو إننا نسلم البلاد للبرلمان , وكنا نظن أن فيه بقية باقية من الوفد بعد أن يطهر نفسه ..

لذلك طلبنا من الأحزاب تطهير نفسها وطلبنا من على ماهر أن يصدر بيانا بهذا الشأن .. وأصدر بيانه في سبتمبر وكانت الأزمة الحادة اللي بيننا وبينه , واللي بناء عليه استقال في 7 سبتمبر .

هذه الأزمة حدثت لأننا اتفقنا معه أن يصدر بيانا بأن الانتخابات ستكون في أوائل سنة 1953 ,وطلع البيان يومها بالليل وأذيع الساعة 11 في الراديو , ولم يتعرض فيه للانتخابات التي ستتم في فبراير سنة 1953 وعليه اجتمع مجلس قيادة الثورة وأصدر بيانا الساعة 2 سباحا بضرورة إجراء الانتخابات في فبراير سنة 1953 .

وسكت جمال سالم وصار ينظر في وجوه الناس منتصرا ..

ولو قرأ الناس الغيب وعلموا أن هذه الانتخابات التي تحدثوا عنها لم تحدث بعد ذلك لا في فبراير ولا في ديسمبر , وأننا بعد كل هذه العقود ننتظرها لضحكوا !

كانوا أيامها يخافون من الشعب والناس ويريدون خداعهم حتى تاريخ قريب يحددونه وهو شهر فبراير سنة 1953 , ومن ثم تهدأ القوي السياسية ولا تتوثب واختلف الناس بشأن على ماهر فبعضهم يقول إنه كان يريد الانفراد بالحكم من خلال هؤلاء الضباط الصغار فهو لم يحدد أجل الانتخابات .

على ماهر كان يعلم أنها ديكتاتورية

والبعض الآخر يقول إنه كان بعيد النظر وكان يفهم إلى أين تسير السياسة بعد أن جلس مكان فاروق هؤلاء الطغمة من الأشرار وتذكر كلمة الملك له عندما قابله .

- لشد ما يحزنني أن تحكم مصر شرذمة من الضباط .

لهذا كان على ماهر حريصا على أن ينبه الشعب والأحزاب إلى ما ينتظرهم ولكن رسالته هذه لم تصل إلى أحد ..'ثم التفت جمال سالم إلى إبراهيم الطيب وقال له :'

- كنت فين سيادتك باعتبارك محاميا ومن الصف الثالث من الإخوان المسلمين حتى لا تعرف إطلاقا أى شئ من سياسة الإخوان العامة اللي قعدت تطلب وتلح حتى بعد إصدار قرار آخر على أن الحكم يكون عسكريا على الأقل عشر سنين ؟

إبراهيم الطيب : هذا لم يصل إلى علمي .

ولعل إبراهيم الطيب رحمه الله كان في هذه اللحظة التي مثل فيها أمام هذه المحكمة الغريبة حيث يجلس هذا الأراجوز الجاهل في مجلس القاضي ,وهو يقف أمامه متهما في موضع الشهادة ,وشاهدا أثناء الاتهام , ولا يوجد عرف يحكم اللعبة , وغاب القانون .. أى القانون ! ومجتمع قد استطاعوا أن يخيفوه وأن يحولوه إلى جمهور أبله يتسلي بالضحايا وهم يعذبون ويموتون , وضاعت النخوة والمروءة من بينهم فليس فيهم من يرفع صوته في شجاعة ويقول : كفوا عن هذا الهراء الذي لا معني له .. وكفاكم عبثا بمقدرات البلاد والعباد .

لعل إبراهيم الطيب تذكر في موقفه هذا الانقلاب العسكري وكيف قام ,وموقف الإخوان منه مساندة وتأسيسا وشرطا للنجاح وأنهم عندما كانوا يعرضون عليهم وجهة نظرهم , فهي وجهة نظر الشريط وطلبات الذي لولاه لما نجح الانقلاب , ولم تكن طلبات الإخوان بالنحو الكاذب الذي عرضه جمال سالم , بل كانت الطلبات التي أقسموا على تنفيذها قبل يوم 23 يوليو .

كان عقدوا اتفاقا نفذ فيه الإخوان الجانب الذي يخصهم وهم يطالبون بتنفيذ الجانب الذي عليهم ولكن لم يكن اتفاقا مكتوبا ! حتى لو كان كذلك فما هي أهميته عند أناس يضربون رئيس جمهوريتهم ويمرغونه ببذلته العسكرية في التراب.

وأدرك إبراهيم الطيب أن ليل الظلمة يغشي سماء مصر ولزمن لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالي .. والنواميس تعمل عملها والأفلاك تدور.

واستفاق على نباح جمال سالم يصرخ فيه :

- واحد في الصف الثالث .. هل هذا حكم برلماني سليم في جماعة الإخوان ؟

لما يكون واحد من الصف الثالث في جماعة تأسيسية تمثل البرلمان ترسم سياسة دون أن تأخذ رأيك ؟

إبراهيم الطيب : هذه المسائل تدار في الهيئة التأسيسية وأنا مش عضو فيها ..والتفت جمال سالم إلى من في القاعة وصرخ يقول :

جمال سالم : ده حكمه إيه ؟ جمعية الإخوان المسلمين في كل أعمالها سرية فيما عدا ما يتعلق بأمتها مع الدولة الأجنبية .

وفي شجاعة فائقة قال له إبراهيم الطيب وقد ارتفع صوته قليلا .

إبراهيم الطيب : جائز إن المسائل اللي فيها مسائل مجلس لا يصح أن تنشر وأنا أعرفها .

وهدأ جمال سالم قليلا وقال :

- كيف تعلل ذلك ؟

إبراهيم الطيب : باعتباري فردا في القاهرة .

وباستهانة وسخرية قال جمال سالم :

- أنت فرد في القاهرة ؟
- أيوه أمال

جمال سالم : أنت في الصف الثالث مسئول عن الجهاز السري وتنظيماته ؟

إبراهيم الطيب : المسائل دي كانت تسلمني العملية .

جمال سالم : ألم يحكها لك يوسف طلعت ؟

إبراهيم الطيب : في هذه الأثناء كنت مجرد عضو في القسم القانوني بالمركز العام للإخوان المسلمين .

ورفع صوته وسمعه من يقف خارج المحكمة :

جمال سالم : جمعية الإخوان المسلمين لا ترجع لمستشارها القانوني في هذه المسائل ؟

إبراهيم الطيب : لا شك .. الأستاذ عودة كان اختصاصا في المسائل القضائية واللوائح ولكن هذه مسائل عليا يختص بها غيري .

الإخوان المسلمون والوصاية على الثورة

واعتدل جمال سالم في جلسته وأخذ شكل الذئب وهو يجادل أعزل قد جرده من سلاحه وسامة الخسف والعذاب دون إحساس بالمروءة والشرف .

وقاعة محكمة الشعب قد ملئت بالصحفيين المرتزقة ورجال البوليس الحربي وبعض رجال المباحث العامة ورجال النيابة العسكرية والنيابة العامة ولا يوجد موطن واحد .

ويصول جمال سالم ويجول ولا منازل يقف أمامه فليست هناك من فرص قد تكون متكافئة لمثل هذا النزال .

ولا نزال نستمع إلى شهادة إبراهيم الطيب رحمه الله ضد محمود عبد اللطيف ونظر جمال سالم ثم عبس وبسر وقال لإبراهيم الطيب :

جمال سالم : لماذا لا تسمح لنفسك أن تعارض أو تناقش السياسة العليا للإخوان المسلمين , وتسمح أن تناقش سياسة الـ22 مليون ؟

إبراهيم الطيب : هذه المسائل لم تعرض عليّ

جمال سالم : كيف تسمح لنفسك ؟ هل الحكومة عرضت عليك ؟

إبراهيم الطيب : لا .

جمال سالم : إذن لماذا تساعد على حملة الدعاية التي قامت بها جمعية الإخوان ضد الاتفاقية , وهي سياسة عليا في الدولة ولم تعرض عليك ؟

إبراهيم الطيب : الذي أعلمه أن مكتب الإرشاد تقدم ببيان قانوني إلى الرئيس جمال عبد الناصر يذكر فيه انتقادات قانونية للاتفاقية .

جمال سالم : كيف تحل لجمعية الإخوان مالا تحله لنفسك ؟

إبراهيم الطيب : هذه المسألة تتصل فعلا ... وكل مواطن له حرية التعبير .

جمال سالم : هل عرضت الاتفاقية على الإخوان ؟

إبراهيم الطيب :عرضت على الشعب في الجرائد ؟

جمال سالم : هل عرضت على الجمعية كجمعية ؟

إبراهيم الطيب : لم أعلم أن هذا حصل.

جمال سالم : كم جمعية توجد في القطر المصري ؟

إبراهيم الطيب : مافيش ..

جمال سالم : والشبان المسلمين ؟

إبراهيم الطيب : غير سياسية .

جمال سالم : والإخوان ؟

إبراهيم الطيب : سياسة .

جمال سالم : مع أنها منحلة !! ليه الحكومة تحل الأحزاب وتبقي على جمعية الإخوان المسلمين مع أنها سياسية وحزبية ؟

إبراهيم الطيب : هذا سر لا أعلمه .

ولم يستطع إبراهيم الطيب أن يخفي بسمة ساخرة رآها من كان قريبا منه بينما حدجه جمال سالم بنظرة صارمة مليئة بالعدوان وأراد أن ينال منه وقال له ساخرا ..

جمال سالم : المسائل دي كلها أسرار على الصف الثالث فما بالك بالصف الرابع والخامس لغاية محمود عبد اللطيف !!

وأشار ناحية محمود عبد اللطيف في ازدراء واحتقار .

وفي جرأة وثبات قال إبراهيم الطيب :

- أنا أقرر ما أعلمه .

وانتبه إليه أعضاء النيابة وبدت على وجوههم أمارات الإعجاب وسرعان ما أخفوها تحت نظرة متجهمة صارمة , وراحوا يقلبون في الأوراق متشاغلين والله أعلم بما في قلوبهم .

وانقلب القاضي ينظر إلي المتهم الشاهد , أو الشاهد الذي جاء يشهد فصار متهما :

جمال سالم : الصف الثالث لماذا لا يعلم هذه المسائل ؟ إذن فهي محصورة على الصف الأول على الأقل أو الصف الأول والثاني على الأكثر.. يعني المسائل ماشية بطريق غير ..

وصار يهز جمال سالم يديه بحركات سوقية مبتذلة .

فقال إبراهيم الطيب :

- الذي نفهمه أن هذه مسائل دقيقة بعض الدقة ولا شك . يجب أن يهيأ لها الجو اللي يعتبر في أضيق نطاق لكي يمكن بحثها بحثا مستفيضا وليس بشكل جمهوري , جمال سالم : وليس هناك قطعا داع لتهيئة الجو للحكومة لبحث موضوع يخص 22 مليون بحثا هادئا .. الإخوان يمثلون البرلمان !!

إبراهيم الطيب : هم جزء من الشعب .

جمال سالم : يمثلوا قد إيه ؟

إبراهيم الطيب : بالتفصيل ما أعرفش .

جمال سالم : قولها بالتقريب

إبراهيم الطيب : لا أعرف .

جمال سالم : 15 مليون ؟

إبراهيم الطيب : ما تجيش ..

جمال سالم : 14,5 حوال كده ؟

ونظر إليه إبراهيم الطيب ثابتا ولم يرد عليه .. وصار كل من جمال سالم وإبراهيم الطيب يحدق في الآخر ولا يتكلمان ..

ويلف القاعة صمت ..

وقطع المدعي هذا الصمت موجها الحديث لإبراهيم الطيب .

المدعي : كنا وقفنا عند الاتصال .. قل لنا الخطة اللي كنتم عايزين تنفذوها:

إبراهيم الطيب : الخطة كانت على أساس أن النظام مقصود به .

وقاطعه المدعي بسرعة ...

المدعي : أنا أقول تنفيذ الخطة .. القصد اتكلمنا فيه كثير..

إبراهيم الطيب : فيما يتعلق بالتنفيذ لم نتعد مرحلة الإعداد .

وكان هنا يتكلم بلهجة المحامي ولغته على اعتبار أنها محكمة وأن الاعترافات الجبرية يمكن أن تؤدي في النهاية إلى أن هناك إعداد لشئ ما لم يتم تنفيذه واضعا في اعتباره أن حكاية محمود عبد اللطيف هذه مؤلفة من ألفها إلى يائها , فليكن الأمر كما تشاء المحكمة الظالمة , وليكن أننا أعددنا العدة لشئ ما , ولكننا لم نفعله , هذا بالتأكيد سوف يخفف من وقع العقوبة على المظلومين المعذبين في المعتقل , ولعله كان يفكر في هؤلاء الذين ساعدوهم ومكنوا لهم في الأرض ثم نكصوا وغيروا ثم بدلوا نعمة الله كفرا ,وها هم يتآمرون عليهم ليبيدوهم ويفنوهم عن آخرهم ولكنه كان على يقين من الله , وأن العاقبة للمتقين .

إبراهيم الطيب يعرف أنها الشهادة

كان إبراهيم الطيب في تلك الأثناء واثقا من الشهادة وأنها خاتمة المطاف وإن هي إلا أيام حتى يرد الحوض ويشرب من كأس يقدمها له رسول الله صلي الله عليه وسلم وكان يشعر بالعطش الشديد رغم برودة الجو , ولكنه لم يطلب من أحد أن يسقيه فقد وجد أن ألم العطش هو أقل ما يلقاه في هذه الأيام .

كان كل من حوله في القاعة وحوشا كاسرة تريد أن تلغ في دمه ولكنه لم يشعر نحوها بالبغض أو الحقد , فقد كانت نفسه هادئة رغم شعوره بحرارة عداوتهم الساخنة , وكان كل ما يوده ويطلبه أن تنتهي هذه الملهاة وبسرعة فمصيره يراه بوضوح في رؤى الليل , وأثناء تعذيب النهار الوحشي والشهداء الذين يتساقطون كل يوم ,ثم ذلك الذئب الأغبر الجالس في مقعد القاضي فياليته لم يكن قاضيا وياليتها كانت القاضية .

وأفاق إبراهيم الطيب من تأملاته على صوت المدعي كعواء ذئب ضال : - اشرح للمحكمة الخطوات .

وتذكر إبراهيم الطيب أنه كان يسأل عن الخطة فأجاب :

إبراهيم الطيب : الذي حدث أننا أخذنا في دور الإعداد والتكوين بعد مارس 1954 وظل هذا الإعداد من الناحية التنفيذية , ومن ناحية تجميع الأفراد وإعدادهم الإعداد الثقافي والروحي ومن ناحية أخري ..

وهنا قاطعه جمال سالم ككلب مسعور كاسر وارتفع عواؤه :

جمال سالم : الثقافي يدخل فيه المنشورات من الجهاز الإداري ؟

وفي هدوء شديد قال إبراهيم الطيب :

- دي مسائل دعاية .

وكما يتشاجر الباعة الجائلون في سوق الخميس عند المطرية قال رئيس المحكمة

- ثقافة .. وتعليم .. ووعي .. وإدراك .. وناحية إدارية تتبع الجهاز الإداري قل لنا إي المنشورات اللي كانت توزعها الأقسام .

إبراهيم الطيب : مخصص لها مركز دعاية في المركز العام .

جمال سالم : وتوزع عن طريق مين ؟

إبراهيم الطيب : وتوزع عن طريق رؤساء المناطق ..

وكان جمال سالم قد نطق السؤال بطريقة خاصة , وأجابه إبراهيم الطيب بنفس الطريقة مما أثار انتباه الجميع فقد شعروا أن الشاهد لا يعمل حسابا بالفعل لهذا القاضي المزيف .

جمال سالم : مين يوزعها للمناطق ؟

إبراهيم الطيب : توزع بواحد من أمرين ... إما عن طريق رئيس الجهاز الخاص أو رئيس مكتب إداري القاهرة .

جمال سالم : والضباط الإداريين كانوا علشان إيه ؟

إبراهيم الطيب : لتوصيل هذه المنشورات من رئيس مكتب إداري القاهرة لرؤساء المناطق مباشرة .

جمال سالم : يمين ؟

إبراهيم الطيب : محمد عبد المعز وحسين شعبان .

جمال سالم : ظاهر من أقوالك أن محمد عبد المعز وحسين شعبان ضباط اتصال إداريين يعملوا بينك وبين المناطق .

إبراهيم الطيب : وفي نفس الوقت كان يحدث أن رئيس إداري القاهرة إذا أراد الاتصال برؤساء المناطق له الحرية في ذلك .. فكان يعطي ما يريده إلى رؤساء المناطق مباشرة .

الإخوان وراء نجاح الانقلاب

وكان الكلام يدور في حلقة مفرغة ورغم هذا فلابد أن يستمر فهذه هي إرادة أصحاب الملابس الكاكية الجالسين في القاعة وفي أماكن أخري غير ظاهرة .

جمال سالم: ماذا تستنتج من عدم علنية سياسة الإخوان المسلمين في أوائل الثورة وتصميمها عليه وإخفائها وإنكارها حتى عن الصف الثالث والله أعلم يمكن الصف الثاني .. لسه مانعرفش ؟

ولعل إبراهيم الطيب عند ذلك السؤال قد عاد بالذاكرة إلى ذلك اليوم الأسود من شهر يوليو عندما حدث الانقلاب , وكيف كان الجميع حريصا على عدم إذاعة صلة الضباط بالإخوان خوفا من الأمريكان والغرب بصفة عامة .. صحيح أن مخابراتهم تعرف طبيعة هذه الصلة , ولكن الإعلان عنها قد يؤثر بالتأكيد تأثير ضارا على سير هذه الحركة .. اقتنع الإخوان بهذا فكانوا لا يشيرون إلى هذا الدور إلا في أضيق الحدود حرصا على سلامة الحكومة الجديدة ... أما عن عبد الناصر فكان يكرس عدم إظهار هذا الدور لذلك السبب الظاهر أما في الباطن فكان حريصا على موت هذه الصلة رويدا مع الأيام .

مثله في هذا مثل رجل عليه دين لآخر واتفقا على أن يظل هذا الدين سرا وشك البعض في الأمر وسأل الدائن , فأكد أن الرجل ليس مدينا له , وإن ظل الاثنان يؤكدان هذا في كل مناسبة , وجاء وقت وقال صاحب الدين إن لى دينا عند فلان , فبالتأكيد سوف يذكرون له أنه أنكر هذا يوما .. هكذا كانت اللعبة من ناحية عبد الناصر لتكريس الانفصال حتى لا يطالبه أحد بالدين في يوم من الأيام .

ومن ناحية الإخوان كانوا حريصين على هذه الحكومة فلا يضربها الغرب والأمريكان على وجه التخصيص .

ولم يعد هناك معني أمام إبراهيم الطيب أن يقول مثل هذا الكلام .

ولكنه قال :

إبراهيم الطيب : الذي أعلمه أن المرشد حسن الهضيبي كان قد تقدم ببيان إلى السيد الرئيس وإلى حضرات أعضاء مجلس القيادة وذكر فيما اعتقد مطالب أو مسائل للتناصح وذكر .

وقاطعه جمال سالم :

- فسر لنا يا ناصح تبقي إيه ؟

إبراهيم الطيب: باعتبار أن الإخوان لا يدخرون وسعا في أن يعاضدوا ويساندوا مجلس القيادة .

جمال سالم : أذكر بعض الاقتراحات .

إبراهيم الطيب : لا أذكرها بالتحديد .

جمال سالم : المعني العام .

إبراهيم الطيب : إنها تري أو تجمع على مصالح البلاد .

جمال سالم : والثورة مش عايزة مصالح البلاد ؟

وامتلأ إبراهيم الطيب ازدراء واستياء ولكنه تمالك نفسه ولم يكن أمامه غير هذا وكان يمكنه أن يقص عليه القصة كما يعرفها جمال سالم وكيف بدأت وها هم يشهدون نهايتها ويخبره بدور الإخوان في نجاح هذه الثورة , وهو أمر يعرفه جمال سالم والماثلان عن اليمين والشمال وكثير ممن حضروا المحاكمة الهزلية .

إبراهيم الطيب : لا .. علشان المجموعات الشعبية تؤازر تساند مجلس القيادة وعلى طريقة الباعة الجائلين قال جمال سالم :

- يعني أنتم موكلين عن الشعب ؟

إبراهيم الطيب : لا..

وقالها له باردة بينما صار جمال سالم يهز رأسه يمنة ويسرة كالأراجوز متحديا وساخرا :

- لهم قوة ؟
- المهم التنظيم لا أكثر .
- أحسن من القوات المسلحة ؟
- تنظيمات شعبية.
- وقال جمال سالم ساخرا :

والقوات المسلحة مستوردة من باريس ؟

ورغم سخافة النكتة فقد ضحك كل من بالقاعة بينما أحس جمال سالم بالرضا الكامل عن نفسه وازداد إعجابا بها , ونظر إلى الرجلين عن يمينه ويساره فوجدهما قد ازداد خوفا منه , ولكنهما شاركا من بالقاعة الضحك عندما نظر إليهما .

وعاد ينظر إلى إبراهيم الطيب الذي قال :

- لا.. هي من الشعب .ولكن التنظيم كان على أساس الإعداد ..وهذا يقتضي كثيرا من المسائل .
- وهنا بدا الإرهاق واضحا على وجه إبراهيم الذي يقف بينما هؤلاء الأوغاد ينعمون بالجلوس .
- وعاد الحوار سخيفا لا يفضي إلى شئ ولكنه الإحساس بالغلبة والقوة وليس في القاعة رجل واحد يرده .

جمال سالم: ما وجهه الخلاف لما تتقدموا بهذه النصيحة ؟ لماذا اختلفوا ؟

سؤال غامض من الصعب فهمه , ومن الأصعب الاستفسار عن معناه .

إبراهيم الطيب : أنا أتكلم عن المسائل اللي علمتها وهي تقديم هذا البيان .

ووضع جمال سالم كوعه على المنصة ومال بكل جسمه ناحية إبراهيم الطيب وقال :

جمال سالم : إنت قلت البيان عبارة عن تقديم إيه ؟

إبراهيم الطيب : بعض النصائح إلى مجلس القيادة .

جمال سالم : ليه ؟

إبراهيم الطيب : مسائل تتصل بمصلحة البلاد كمجموع .

جمال سالم : وكيفية ذلك؟

إبراهيم الطيب : الاتصال المستمر الدائم بين الإخوان وأعضاء مجلس القيادة لتنفيذ هذه الخطوات .

جمال سالم : ما هي الخطوات ؟

إبراهيم الطيب : دي مسائل كان يحددها أعضاء مجلس القيادة مع الإخوان .

وفرد جمال سالم جسمه كالديك وصار يصرخ بأعلى صوته في القاعة حتى أصاب الجميع بالذعر عدا إبراهيم الطيب .

جمال سالم: إشراك .. جماعة الإخوان تريد إشراك وفرض وصايتها !!..

علشان خاطر كده كانت تطلب في يوليو 52 وفي أغسطس 52 أن القيادة تفضل حاكمة البلد عشر سنين على الأقل وتطالب سرا في الوقت نفسه إن القيادة تكون تحت وصايتها لكي يبقي الحكم في إيدهم من تحت ستار , ولما القيادة عارضت ذلك حدث خلاف .

وعلشان يلفوا ( هذه كلمة شعبية ) من هذا ويأخذوا الجولة يطبع إبراهيم الطيب المنشورات ..وتحض علي إيه ؟ كما قرر إبراهيم الطيب أمام حضراتكم جميعا... دي محكمة الشعب .. أنتم الحكم في محكمة الشعب مش إحنا كما قررت هنا .. ينادي بإيه ؟ .... بالحريات .. بالانتخابات .. بانعقاد البرلمان .

ثم يلتفت ناحية إبراهيم الطيب بعد أن حمل الشعب المصري المسكين الذي لا ذنب له جريمة شنق الإخوان فقد قال لهم أنتم الحكام وأنت الذين تصدرون الحكم في هذه القضية وهكذا قرر كما قال , والتفت إلى إبراهيم الطيب وأكمل صراخه :

جمال سالم : في حين أن الثورة على عهدها اللي اختلفتم عليه إنها تحدد فترة انتقال علشان تعمل انتخابات وبرلمانات في [يناير]] ستة وخمسين لماذا لم تنتظر إلى [يناير]] سنة 1956 بدل ما تعمل جهاز سري ؟ ولماذا تقاوم اتفاقية ؟ .

وأنتم الهيئة الوحيدة التي قاومتها , وكل بقية الهيئات بتوع الـ 22 مليون متعلمين وغير متعلمين معرفوش يقروها ؟ مالهمش رأي ؟

إبراهيم الطيب : اللي أعرفه أن الإخوان قاموا بتقديم البيان الخاص بنقد الاتفاقية وكان موجها بالذات للرئيس جمال عبد الناصر بس .

الإخوان ومحمد نجيب

وانتقل جمال سالم إلى نقطة أخري كان يسعي إليها وهي محمد نجيب ناسيا أنه رئيس الجمهورية ولكنه يتكلم عنه كمتآمر أو مواطن عادي وليس مسئولا وناسيا أيضا مسألة محاول اغتيال عبد الناصر في المنشية موضوع المحاكمة , وقد جاء إبراهيم الطيب ليكون شاهد إثبات في القضية .

جمال سالم : متى كان الاتصال الذي وقع أو تم بين رجال جمعية الإخوان على المستوي العالي قوي والرئيس السابق محمد نجيب ؟

إبراهيم الطيب : تحديد الوقت لم أعلمه بالتقريب .

جمال سالم : زي فبراير بالضبط  !

قالها في سخرية واستهزاء من إبراهيم

ورد إبراهيم الطيب :

- ولكن يوسف طلعت قرر أن هناك اتصالا وتفاهما بين الإخوان ومحمد نجيب

جمال سالم : امتى ؟

إبراهيم الطيب : بعد مارس .

الإخوان المسلمون والمنشورات

لم يستطع جمال سالم للحظة واحدة طيلة أيام هذه المحكمة – التي ستظل وصمة عار في جبين مصر كلها – أن يتقمص شخصية القاضي أو يحاول ذلك.

بل كان طيلة الوقت سوقيا مبتذلا ينطق بأى لفظ يخطر بباله , يتصرف كالباعة الجائلين , ويتكلم كالبلطجية والخطافين مستهينا بمصر كلها ومن فيها , راضيا أن يجعل من شعبة محل هزء وسخرية العالم أجمع .

وفرش جمال سالم الملاية !!

جمال سالم : فرصة .. مكسب بسيط .. نضحك على عقل الناي زي ما ضحكنا على عقل الغلابة المساكين بالحريات .. الهط .. ماذا كان المأرب والغرض من هذه المنشورات ؟ وماذا تنتظر أن توجد بين صفوف الشعب ؟ كنت تنتظر إيه باعتبارك محامي وراجل من الصف الثالث ؟ كان فيه هتلر .. وهيس .. وجورنج ... اتكلم يا جورنج.

ويضحك كل الخنازير الموجودين بالقاعة .

وأجاب إبراهيم الطيب بعد أن انتهي الضحك , وبعد أن نظر جمال سالم يمينا ويسارا إلى زميليه ليرى وقع هذا عليهما ,,واربد وجهه عندما رآهما لا يضحكان لهذا سارعا بالضحك وأضمر في نفسه أن يعاقبهما في الوقت المناسب , والتفت إلى إبراهيم الطيب الذي قال :

- كنت مجرد فرد في الهيئة .
- جمال سالم : قل لنا ماذا كنت تتوقع أن يتم في هذه البلاد بمثل هذه الحملات اللي هي مخالفة للمطالبات السرية اللي كنتم بتطالبوا بيها ؟

ورغم الإرهاق الشديد والألم البالغ اللذين كان يعاني منهما إبراهيم الطيب فلقد مضي مع هذه المهاترات يجيب عنها محاولا التركيز .

إبراهيم الطيب : الذي أعلمه أن الإخوان لم يكونوا سريين في التعبير عن آرائهم ولكنهم تقدموا بمذكرة مسهبة إلى السيد الرئيس وذكروا اعتراضاتهم على الاتفاقية .

جمال سالم : ولما يكون فيه بينك وبين الرئيس موضوع تقوم تقدمه في منشورات ؟

إبراهيم الطيب : أنا أتكلم عن المسائل العلنية اللي حصلت .. مش المنشورات .

جمال سالم : أنا أتكلم عن الخطاب الذي أرسل إلى رئيس الحكومة .. وفي نفس الوقت أرسل منه منشورات ... وفي نفس الوقت وقبل أن يصل للرئيس وصل إلى السفارات الأجنبية ..وفي الوقت نفسه وصل إلى جميع الجرائد المحلية والأجنبية وجميع مراسلي الصحف , لما أريد أرسل لواحد تناصح واتكلم معاه في مسائل تخص مصالح البلاد العليا... حريات البلاد .. أقوم أبعث منها نسخ لكل الناس ..

يعني قصدي منها إيه ؟

القاضي يعصر الشاهد

وهنا برزت شخصية إبراهيم الطيب المحامي فقال :

إبراهيم الطيب : أنا قلت إن الدعاية كان مخصصا لها مكان في المركز العام .

جمال سالم : وباعتبارك إنك مسئول عن الإخوان المسلمين تعتبر نتيجتها إيه ؟

إبراهيم الطيب : المسائل دي مش من اختصاصي مش عايز أحكم عليها .

جمال سالم: كمواطن تعتقد تكون إيه ؟

إبراهيم الطيب : اعتقد إذا كان الكلام اللي فيها سليم ومطابق للواقع يبقي صح وإذا كان غلط لا شك غلط ..

ويستنطقه جمال سالم بسماجة وإلحاح :

- يوجد إيه ؟
- لخبطة
- واللخبطة تنتج إيه ؟
- لا شك غلط كبير
- إيه نتيجته ؟ لما البني آدمين مخهم يتلخبط .. يتحدوا ولاّ ينقسموا ؟
- ينقسموا .
- فإذا انقسموا إلى فريقين ماذا يتم ؟
- يصح إن ..
- يصح إيه ؟
- يقفوا أمام بعض .
- ولما يقفوا أمام بعض يعملوا إيه ؟ يسلموا على بعض ؟
- يحدث ارتطام .
- ارتطام إزاي ؟
إذا كان فيه قوات تقف ضد بعض حيكون حزازات .
- ونتيجة الحزازات التي يمكن تحصل ؟
- انقسامات وحزازات .
- ودي توجد إيه ؟
- ضغائن في النفوس .
- ودي توجد إيه ؟
- ....
- أنت راجل صاحب دعوة .. أنت بتعلم الناس الدعوة الإسلامية .. لازم تكون راجل فلسفي .. لابد تنزل لأعماق الإسلام ..
- ...
- توجد إيه دي ؟
- تعمل انقسامات في الأمة .
- ولما تتولد يجري إيه ؟
- يحدث ارتطام .. ترتطم أجزاء الأمة ببعضها ..
- ولما يحدث ارتطام ؟
- يحصل فرقة .
- والفرقة توجد إيه ؟
- ده كل اللي يحصل .
- فريق منهم مسلح يحصل إيه ؟
- يضربوا بعض .
- وما بالك إذا كان هناك أجنبي راسخ على قلب هذا البلد .. إيه اللي يحصل فيه ؟
- يتدخل الأجنبي .

هكذا جري الاستجواب بهذه السوقية والابتذال والبعد عن الأدب مع الاستخفاف بعقل كل من يسمع ويري , مع عدم الأخذ في الاعتبار أية نواح إنسانية تتعلق بهذا الشاهد الذي يضربونه بالسياط ليل نهار .. يجلدونه قبل أن يذهب إلى المحكمة ليكون مؤدبا أمام القاضي الزائف .. ويجلدونه عندما يعود جزاء لجرأته .

وكان يمكن أن يتم كل هذا بطريقة أقل وحشية , وفيها أيضا احترام لعقول أولئك الجبناء الذين يسمعون ويرون ويضحكون ولا يبكون وهم سامدون , وكان ما حدث في محكمة الشعب مقدمة طبيعية لما نعيشه الآن !

الإخوان والإنجليز

ويستمر جمال سالم في مناقشة شاهد الإثبات ضد محمود عبد اللطيف المرحوم الأستاذ إبراهيم الطيب , وحتى الآن لم يتكلم القاضي في الموضوع وهو إطلاق الرصاص على جمال عبد الناصر في المنشية فيما زعموا .

جمال سالم : كيف تسمح لنفسك أن تشترك في جماعة تكون هذه هي سياستها باعتبارك مواطنا درست في الحقوق والبلد صرفت عليك ؟

إبراهيم الطيب : الإخوان من أول لحظة كانوا يعدوننا لهذا الموقف .

جمال سالم : كيف يعدونكم لهذا الموقف؟

إبراهيم الطيب : كانوا يتوقعون أن القوات الإنجليزية تتدخل في أى وقت إذا لم يحصل اتفاق بينهم ... ولذلك كانوا من أول الأمر ..

وهنا دخل إبراهيم الطيب في منطقة لا يحب جمال سالم له أن يدخلها فربما يفشي بعض الأسرار وكيف أن الإخوان كانوا قد أخذوا على عاتقهم مسألة الإنجليزوتعهدوا بمقاومتهم وإجراء حرب العصابات معهم , وكانوا يرابضون على طريق القاهرة السويس فجر 23 يوليو سنة 1952 لعرقلة أى تقدم إلى القاهرة , وكانوا قد أعدوا بعض الفرق لتخوض حربا شعبية معهم وقد تم ذلك بالتفاهم والتنبيه مع حكومة الانقلاب بمعرفة جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين .

تم موضوع الحوار الذي دار مع ايفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية وأهميته في تقوية الجانب المصري في مفاوضات الجلاء وكيف تم هذا بمعرفة كل من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر , والذي كانت نتيجته مثل تلك الأسلحة التي كانت مخبأة في بيت عبد الناصر , ثم نقلها الإخوان في سياراتهم يوم 26 [يناير]] سنة 1952 خوفا من التفتيش بمعرفة منير دلة وحسن عشماوي إلى عزبة الأخير في الشرقية واشترك جمال عبد الناصر بنفسه في إعداد مخزن جيد لها لا يسمح بفسادها وعندما قامت الثورة وسألوه أخذ هذه الأسلحة قال لهم دعوها يمكن ينتفع بها يوما ما , وفهم يومها الإخوان أنه يقصدهم أما هو فقد كان يقصد نفسه , فبعد الحل الأول في يناير سنة 1954 نزلت الصحف تعلن عن ضبط أسلحة ضخمة للإخوان المسلمين , وهكذا انتفع بها .

ولما كان الجمهور ضعيفا ومستذلا ومطيعا قاطع جمال سالم الشاهد :

جمال سالم : ولذلك الهضيبي تقابل مع إيفانز .

إبراهيم الطيب : علمت أن هذه المقابلة ..

وقاطعه جمال سالم صارخا قبل أن يكمل كلامه .

جمال سالم : أنت لا تعلم شيئا إلا من يوسف طلعت .. فعلمت من مين ؟

وابتسم إبراهيم الطيب ساخرا بين نظرات الإعجاب التي لم تستطع الخنازير أن تخفيها وأجاب :

إبراهيم الطيب : من الدكتور حسين كمال الدين.

جمال سالم : أنا غلطان ..

إبراهيم الطيب : قال لي إن هذه المقابلة لم تكن بناء على طلب الإخوان بل بناء على طلب المستر ايفانز , وتفاصيلها تدور حول هل من الممكن الوصول إلى حل سليم يرضي البلد ويرضي الحكومة والأوضاع الشعبية أولا ؟

جمال سالم : واحنا تعلمنا وحضرتك متعلم حقوق ... ومعاك ليسانس حقوق .. وتعرف وتفهم قضايا .. وتمحصها وتحسن فيها ..

تعلمنا من وسائل الإنجليزالمستعمرين 72 سنة ... هذا غير الذي قرأناه عن الهند ... ما هي وسائل الإنجليز؟

ويبد أن إبراهيم الطيب قد شرد نتيجة الإرهاق وذلك الحديث الذي لا طائل من ورائه فانتبه إلى السؤال فجأة فقال :

إبراهيم الطيب : أيوه ..

جمال سالم : إيه هي ؟

إبراهيم الطيب : اللف والدوران .

جمال سالم : وإيجاد ..

وسكت جمال سالم كأنه يعلم طفلا فيتركه يكمل , استجاب له إبراهيم الطيب فلم يكن أمامه غير هذا فأكمل :

إبراهيم الطيب : الفرقة

وعاد جمال سالم إلى الطريقة المملة السمجة بغض النظر عن أى شئ

  • - يبقي لما طلبوا الهضيبي عشان يعملوا إيه ؟
- أيوه .
  • - بتعمل إيه ؟
- ما أعرفش ..
  • - علشان يصالحونا على بعض ؟
- لا.
  • - طالبونا علشان إيه وفيه وفد رسمي يتفاوض؟
- قال الدكتور حسين كمال الدينإن المرشد استأذن .

وتجاهل جمال سالم هذه العبارة وأكمل ...

- انقساما بلا شك .
- الذي علمته أنه أخبر ..
- علمت من مين ؟ من حسين كمال الدينأو يوسف طلعت ؟

- إبراهيم الطيب : من حسين كمال الدينومن المرشد نفسه .

وهنا هاج وماج القاضي قليل الحياء وصار كالمجنون وهو يردد كلاما غير مترابط:

جمال سالم : يكونش حسين كمال الدينربنا بتاعك وإلا تعتقد في المسيحية (...) يكونش الإله الرب هو الابن والرب هو الأب .. يكونش الإله الأكبر والإله الأصغر .. كلام يوسف طلعت وكلام المحترم الثاني حسين كمال الدينلا ينقضا إطلاقا ؟ ولا يناقشا عقلا ولا دينا أى شئ إطلاقا أمام كلام الحكومة ؟ ويقام سرا .. وعلى طول تعمل جهاز سري وأسلحة ونعمل منشورات وندس .. ليه ؟

إبراهيم الطيب :" وهو متماسك ولا يزال على هدوئه رغم كونه في مستشفي للمجانين وليس أمام محكمة أقل ما يجب أن تتصف به هو الوقار ":

- الذي ذكره لى المرشد نفسه في هذا الاجتماع أنه كان يعلم حقيقة نوايا الإنجليزولذلك كان الاستعداد قائما ..

وقاطعه جمال سالم صارخا :

- عاوز يحطهم تحت وصايته ؟

إبراهيم الطيب : كان مقتنعا كما فهمت بأن الإنجليزمراوغون ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن يؤمن جانبهم .

القاضي يكذب علانية

وهنا قال جمال سالم كلاما فارغا كاذبا غير صحيح وهو في غاية الهياج متجاهلا كل شئ , زاعما أن ما يقوله قد نشر في الجرائد الأمر الذي لم يحدث !1

جمال سالم: أعلن المرشد العام في تقرير منه وأعلن على صفحات الجرائد أنه قد تكلم مع الإنجليزواتفق معهم أو قبل أن يتفق معهم على أنهم يخرجون من القنال .. ويعقد اتفاق سري ما بينه وبين الإنجليزعلشان يعطي حق للإنجليز لاحتلال جميع هذا القطر في أى وقت ... مضللا بذلك الـ 22 مليون ويعمل في الخفاء كما يعمل الجهاز السري الذي يأتمر بأمره ورشده .. مش كده .. رد يا محامي .. رد يا قانوني ..

وكان الصمت والذهول يلفان القاعة وبدا على إبراهيم القلق .. لقد جن القاضي فماذا يفعل .. قد تطورت حالته.. وها هو ذا يهذي .. ماذا يقول له وكيف يرد عليه ؟ ..فلم يكن هناك شئ من هذا على الإطلاق .. لا نشر في جرائد ولا في كتب... وبأي صفة يعقد المرشد العام اتفاقية مع الإنجليزوهو ليس حاكما؟ وتمالك إبراهيم الطيب نفسه بصعوبة وقال :

- هذه مسائل .. لم أفهم هذا المعني .

واستمر جمال سالم في هياجه حتى خافه كل من في القاعة وكانت يدا رمسيس أفندي كاتب الاختزال ترتعدان من الذعر وهو يسجل وقائع هذه الجلسة الغريبة !!

القاضي يفرش الملاية

جمال سالم : رد ياللي بتشتغل في مكتب عوده .. رد ياللي بتترافع أمام المحاكم بالإسلام .. رد يا راجل ياللي قائم بدعوة الإسلام... رد ياللي بتعلم محمود عبد اللطيف الإسلام ..

ووقف إبراهيم الطيب صامتا لا يدري بماذا يرد على هذا المجنون . جمال سالم : اتكلم ..

إبراهيم الطيب: ده اللي فهمته يا سعادة الرئيس من الكلام الذي قيل لي .. سعادة الرئيس !!

وقعت الكلمة في سمع جمال سالم فكان لها جرس جميل وغريب ..

سعادة الرئيس !!

ما أحلاها من كلمة .. متى يتحقق هذا ؟ الصبر قليلا .. سوف أفرغ من الإخوان ثم أبحث كيف أنتهي من أولئك الأغبياء ... ولكن لابد أن أبدأ بصاحب هذا " المولد جمال عبد الناصر , الذي أقيم له في غفلة من الزمن .

وهدأ جمال سالم تماما عندما سمع هذه الكلمة وكان لها مفعول السحر .... سعادة الرئيس !!

الاقتراب قليلا من الحادثة

أدرك إبراهيم الطيب رحمه الله بذكائه تأثير كلمة الرئيس على جمال سالم ولهذا استخدمها كثيرا بقية الجلسة عساها تهدئ ذلك المجنون الذي يحلم بالرئاسة وهو لا يعرف أنه لن ينالها أبدا .

وغير جمال سالم الموضوع بعد أن هدأ تماما وسأل إبراهيم الطيب :

- لماذا اختبأت عندما ضرب بعد أن هدأ تماما وسأل إبراهيم الطيب :
- لماذا اختبأت عندما ضرب محمود عبد اللطيف جمال عبد الناصر وكل ما قبل على لسانك من كلام ؟
- وكالعادة لا يعطي فرصة للشاهد المتهم أن يقول كلاما مفيدا .. فقد بدأ إبراهيم الطيب الكلام فقال :
- أنا اختبأت يوم تحديد إقامة عبد القادر عودة ..

وسرعان ما قاطعه :

  • - ومالك وماله ؟
- زميلي في المكتب .
- يمكن موضوعه لا يخصك ..
- بحسب علمي ..
  • - مش جايز فيه حاجة مش بحسب علمك ؟
- يصح .. لكن مادام عبد القادر عودة محددة إقامته , ومهدد باعتقاله في أى وقت .. ما قدرتش انتظر ؟؟

- وانكمش جمال سالم إلى الوراء قليلا وهو يقلد الدلالات في الأحياء الشعبية :

  • - بتستخبي .. خايف من إيه ؟
- من الاعتقال .. مش عاوز أعتقل .
  • - وهل يعتقلوك إذا كنت ما عملتش حاجة ؟
- أنا اعتقلت كثيرا .. والإخوان بيختبئوا ..
  • - ولما يعتقلوا ... بيطلعوا تاني ؟
- وكانت طريقته في نطق الجملة الأخيرة مبتذلة لدرجة أن إبراهيم الطيب سكت تماما ووقف ينظر إليه .
- رد على الكلام المظبوط .. اتكلم .
- كنت خايف من الاعتقال .
  • - ليه تخاف .. اللي على رأسه بطحة يحس بيها .. وأنت إيه البطحة اللي على رأسك وخايف منها ؟
إبراهيم الطيب : علشان الأستاذ عبد القادر عودة حددت إقامته .
  • جمال سالم : ما هي الخطة أو التنظيمات التي وقعت في المكتب وأصدرت إلى الجهاز السري ؟

إبراهيم الطيب : الخطة أبلغها لى يوسف طلعت .

جمال سالم : اذكر الخطة بالتفصيل .

إبراهيم الطيب : كان على أساس الاتصال والتفاهم القائم بين الإخوان من ناحية وبين اللواء محمد نجيب من ناحية أخري .. واللواء محمد نجيب معه كثير من وحدات الجيش مؤيدة لرأيه .

جمال سالم : كيف علمت أن كثيرا من وحدات الجيش مؤيدة لرأيه ؟

إبراهيم الطيب : هذا الذي ذكره لى يوسف طلعت .

جمال سالم : هل لم تسأله عن توكيد هذه الواقعة ؟

إبراهيم الطيب : مفيش دليل مادي عليها ..

جمال سالم : انت مش عاوز تناقش يوسف طلعت ؟

إبراهيم الطيب : أنا ناقشته

جمال سالم : وبعدين ؟

إبراهيم الطيب : هو قال إن معاه قوات موالية كثيرة وله مطالب تقدم بها على أساس إطلاق الحريات وإيجاد برلمان منتخب .

ولو ظل إبراهيم الطيب رحمه الله حيا حتى اليوم لعلم أن نفس المطلب لا يزال قائما في نفوس الناس ووجدانهم .

إطلاق الحريات

إيجاد برلمان منتخب !

وإن عجز الناس عن الحصول على هذين المطلبين فسوف يأتي يومها من ينتزعهما انتزاعا ..

واغتاظ جمال سالم وقال :

- بالذمة والشرف .. محمد نجيب طالب بإطلاق الحريات ؟ والجمعية التأسيسية طالب بيها يوم إيه ؟ طالب بيها يوم 22 فبراير أو 23 فبراير سنة 1954 ؟ أو طالب بيها يوم أن وقف بميدان الجمهورية في الشرفة ... وكان بجانبه عبد القادر عودة .. وكان في صبيحة يوم 28 فبراير وقال للناس الواقفين دون الرجوع إلى مجلس قيادة الثورة : أنا أجيب لكم الجمعية التأسيسية .. هل ذكر هذا الكلام يوم 23 فبراير سنة 1954 أو قبل أن يذكرها بعد عودته في صبيحة 28 فبراير ؟

إبراهيم الطيب : لا.. من 28 فبراير سنة 1954

ووقف جمال سالم على المنصة كالمجنون وهو يصيح :

- انت قلت لا ؟

( ثم وجه سيادته الكلام إلى مندوبي مصلحة الاستعلامات المكلفين بتسجيل المحاكمات )

- اكتب لا بالحرف الكبير وحط تحتها خطين .

ثم عاد الوغد إلى المرحوم إبراهيم الطيب :

- أنا ممثل الشعب وأحس بالذي أحس به قبل 23 يوليو فما يهمنيش إن رقبتي تقطع ولا أخاف وأهرب وأخش جوه الجحر .. بماذا تعلل هذا ؟

إبراهيم الطيب : التعليل والأسباب التفصيلية لست على علم بها .

وانتابت جمال سالم حالة جديدة فقد أخذ سمت الفيلسوف , وربما أحس بهذا في أعماقه , وشرد بنظرته وأسند ذقنه إلى يده واتكأ على المنصة , وحاول أن يغير من صوته وأن يبدو حكيما في طريقة أدائه وقال سائلا إبراهيم :

- بماذا تعلل هذا باعتبارك محاميا تحلل الأشياء حسب منطوقها وتوجد المفارقات أو الاتفاقات أو الحلقات المتصلة أو المنفصلة بين منطق الحاجات التي وكلت فيها من أصحاب القضايا ؟

وتبادل من في القاعة النظرات !!

وصعب على أحد أن يفهم هذه العبارات !!

ويقيني أن المرحوم إبراهيم الطيب لم يفهمها هو الآخر لأنه قال :

- أنا كنت في هذه الأثناء معتقلا .

واعتبرها جمال سالم إجابة عن سؤاله الفلسفي , وأراد أن يري الناس شيئا من عبقريته وقوة ذاكرته فقال له :

- خرجت في فبراير وأنت ساكن في الجيزة في مصر .

وسكت في انتظار أن يكمل إبراهيم حديثه وكان ذكيا رحمه الله فقال :

- بعد خروجي علمت أن اللواء محمد نجيب طالب بهذه المطالب .. وأن هناك اتصالا وتفاهما بينه وبين الإخوان لإقرار هذه المطالب بس .

واختلط القاضي بالمهرج في نفس جمال سالم وقال بتؤدة وهو يشعر أنه أعظم من أجبته البشرية وأن هذا ليس مكانه , بل مكانه هناك بدل ذلك الزنيم " أبو منقار " الذي تأمر عليه في غفلة من الزمن :

- المنطلق بتاعك مبني على الآتي : تصدق محمد نجيب عشان قال الحريات .. وتصدق الإخوان عشان قالوا الحريات ... ولكن ما هو الشئ المادي أو المعنوي الموجود بينك وبين مجلس قيادة الثورة .. أو الدلائل التي تأخذهم عليهم حتى لا تصدقهم وتصدق محمد نجيب ورياسة الإخوان ؟ ليه تصدق دول .. وليه تكذب دول ؟ هل هو حسب الهوى ؟ أو حسب ما يقع في نفسك ؟ وإلا إيه الدليل ؟

سيادة رئيس المحكمة

وشعر بالغبطة والسرور بعد أن قال هذه العبارات وتأكد لديه أنه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ مصر والعرب .

ورجع بكرسيه إلى الوراء قليلا وهو يحلق فوق قصر عابدين والنيل والوجهين البحري والقبلي , وحانت منه التفاته إلى صاحبيه فشعر بقرف شديد , فصرف نظره إلى الضحية يستمع لما يمكن أن يقوله ..

وشعر إبراهيم أن صاحبنا يحلق فوق العالم فقال له :

- أنا قلت لسيادة الرئيس من قبل إن هذه المسألة كانت متروكة ليبحث فيها الإخوان اللي هم في المجلس الأعلى للإخوان واحنا كانت تجيلنا المسائل مدروسة ومنتهية .

- جمال سالم : أو تنفذوا المسائل التي انتهي فيها إلى قرار دون إعلامكم هذا القرار وإنما الخطة ساعة التنفيذ ..يعني ديكتاتورية .

- إبراهيم الطيب : كان يبحث معاها الهيئة التأسيسية ..

جمال سالم : يعني ديكتاتورية الهيئة التأسيسية كما كانت قبل 23 يوليو.. ديكتاتورية البرلمانات الوفدية والسعدية والدستورية ..وديكتاتورية برلمانات السراي .. مش كان فيه ديكتاتورية البرلمان

وتردد إبراهيم الطيب قليلا ولكنه قال :

- كان فيه ديكتاتورية مفيش شك .

- وهل تريد برلمان كبرلمانات قبل 23 يوليو ؟

- لا.

- ليه ؟

- لذلك الإخوان اشترطوا ألا تشوب الانتخابات الشوائب السابقة .

- من يضمن هذا ؟ وما هي طريقة التنفيذ ؟

- هذه مسائل يا سيدي الرئيس أنا لم أبحثها .

- عندما تطالب بأمور وتعلنها على الملأ لابد أن تعرف وتعلم كيفية تنفيذها إيه الخطوات التي حطيتها في دماغك لوجود برلمان ؟

- أنا فعلا لم أتناول هذه المسائل بالتفصيل.

- وليه تأخذها على عاتقك لتعلنها على الملأ لتشكيكها ؟

- تبحث في الجمعية التأسيسية .

- المجلس الأعلى ديكتاتوري ماشي على طريقة البرلمانات الأولي اللي مش راضي عنها ... ولا واضع خطة أمامك .. بيجي برلمان كويس إزاي ؟ ده أنت مش عارف تعدل نظامك .

- كنت سأعدل نظامي .

- إمتى ؟

- في الجمعية التأسيسية كانت تعدل علشان يكون لمجموعات الإخوان في المناطق الرقابة التامة والإشراف على الهيئة التأسيسية .

جمال سالم : وفي الوقت نفسه يكون هناك نظام سري ؟ هل تناول تعديل هذا القانون تعديل الهيئة العليا لإدارة النظام السري ؟

إبراهيم الطيب : نص فيه على كثير من الأقسام وأنا قلت على كل الأوضاع .

جمال سالم : وهل نصت هذه القوانين في تعديلاتها على الهيئة العليا للنظام السري المكونة من فرغلي وخميس وطلعت وشادي وعبد المنعم عبد الرؤوف برياسة الهضيبي .. هل نصت على ما هي سلطة تنظيم هذه الرياسة بالنسبة للجهاز السري هل مكتوبة في القانون ؟

إبراهيم الطيب : ذكرت مكتب الإرشاد .

جمال سالم : هل هناك مواد تنص على تنظيم رياسة الجهاز السري ؟

إبراهيم الطيب : مش موجودة .

جمال سالم : إذن لا زالت هذه السرية موجودة بعد تعديل القانون علشان تستعملوها للضحك على عقول الناس .

إبراهيم الطيب : الذي أذكره يا سيدي الرئيس .

جمال سالم : قل لى يا سيدي الفاضل هي دي هي الحريات ؟

وكان قد قال هذه العبارة كقطار مندفع قد مات سائقه .

إبراهيم الطيب : القانون ...

وقاطعه جمال سالم وهو يقول له متميزا من الغيظ .

كم كنت أتمني أن أقابلك وأنا في غير هذا المكان .. كم كنت أتمني أن ألقاك في غير هذا المكان حتى لا يؤخذ على بالشبهة أن أكون متحاملا عليك أو أستغل سلطتي .. وأقسم بربي أني برئ من هذا ..

هكذا كان يكلمه وهو شاهد !

فماذا سيفعل به عندما يمثل أمامه متهما في يوم قريب ؟

وكان كاذبا ومجرما فقد كان يذهب إليه ليجلده بنفسه في السجن الحربي أو كانوا يأتون به إليه في مجلس قيادة الثورة المباركة جدا ليجلده ويعذبه أمام بقية أعضاء المجلس الموقرين .. ثم يقسم كذبا وهو يعلم أن في القاعة عددا ليس بالقليل يعرف أنه كاذب .

وتجاهل إبراهيم كل هذا وقال :

- المفهوم أن مكتب الإرشاد له السلطة التامة والهيمنة التامة على كل شئون الدعوة .

- مين ؟

- مكتب الإرشاد الذي ينتخب من الهيئة التأسيسية حسب التعديل ..

- فيه اختصاصات لمكتب الإرشاد أو سلطات له تخول لبعض الناس إقامة أجهزة سرية مسلحة تتبع الجماعة ؟

- لأ ما فيش كلام ز يده .

- مسئولية مين إقامة هذا الجهاز السري ؟

- مكتب الإرشاد لأنه إذا لم يوافق على هذا فهو عالم بوجوده .

لماذا أخذ بعض المسئولين أمثال حسن الهضيبي ينشئ باسم الجماعة سرا جهازا سريا على النظام العسكري مسلحا بأسلحة طويلة المرمي , قتالة , فتاكة , أتوماتيكية , وكذا متفجرة سرا ؟

- على العموم ..

- تحت مسئولية مين ؟

- النظام كان قائما قبل وجود [الهضيبي .

- وهل الاستمرار في الخطأ يعفي المستمر في الخطأ ؟

- لأ .. ما يعفهوش

- وجلجل صوت جمال سالم يريد أن يسمع العالم :

- تحت مسئولية من أخذ الهضيبي أو قام بحمل مسئولية تنظيم الاستمرار في تنظيم وتسليح الجهاز السري باسم جماعة الإخوان المسلمين سرا ؟.. أمام من يسأل ؟ واستمد سلطته من مين ؟ نهش الحته دي منين ؟
- هو أدري مني بالرد على هذا .

- من تعتقد وأنت في الصف الثالث المسئول عن وجود دولة داخل الدولة ؟

- ما أعرفش .
- دول جماعة الإخوان المسلمين ولها برلمان ولك أن تدلي بصوتك .. قل لنا نظام البرلمان المطبق في الإخوان .
- هو أقدر مني على أن يرد على السؤال .

- ما تعرفش ؟

- ايوه

وعاد جمال سالم وارتدي ثوب باعة " الكرشة " عند مذبح زينهم ورفع صوته فقد جاءته الحالة :

- هل هذا هو مستوى الصف الثالث من جمعية الإخوان المسلمين التي تريد فرض الوصاية على الحكومة ؟ وفي الوقت الذي لم تقبل فيه الحكومة فرض هذه الوصاية عليها ولم تقبل التحكم بتاع إنه لازم يكون فيه حكم عسكري لمدة عشر سنوات تندار وتبين للناس لونا آخر .. هل تعرف إن صاحب الوجهين منافق .. وجمعية الإخوان منافقة ونفاقها في هذا هو أنها دارت وشها للشعب تطالب بالبرلمان والحريات .. تستنتج من كده إيه ؟

- وفي شجاعة وحزم رد عليه إبراهيم الطيب :

- أنا يا سيدي الرئيس ما أحبش أتكلم في كلام ز يده

- ووقف جمال سالم على المنصة " يردح " للمرحوم إبراهيم الطيب :

- عاوزك ترد على السؤال .. أنت مجبر بحكم القانون أن ترد على أى سؤال في أي ناحية من النواحي باعتبارك قانونيا وتعرف أمر تشكيل المحكمة . هذا الأمر يختلف عن أى أمر شكلت به أى محكمة .
- معلوماتي في هذا قاصرة .
- قل لى إيه في تفنينك.
- أعتقد ولا شك فيه كثير من الأعضاء يؤازرون الهضيبي في هذا الموضوع ومن المسئولين الذين يكتسبون ثقة الإخوان في الشعب والمناطق .

- ماذا كان موقفك ؟ وأنت لماذا لم تستقل من الإخوان وأنت تعمل شيئا ضد القانون وغير ما يبطن الهضيبي ؟ فمن يأخذ مسئولية أو يستمد هذه السلطة في أن يقيم نظام مسلح ؟ هل هذا هو نظام البرلمان بتاع الجماعة ؟

- أذكر لحضراتكم في هذا أني علمت من الإخوان المتصلين به أن هذا الوضع المقصود به مصلحة البلاد .

- انهي وضع؟

- هذا التنظيم .

جمال سالم : إزاي وكيف ؟

إبراهيم الطيب : كما ذكرت لسيادتكم أن حضرات أعضاء مجلس القيادة كانوا يشجعون تسيير الفدائيين في هذا الوضع لذلك .

وهم جمال سالم برأسه وبإشارة واضحة من يده لمن في القاعة أن يحدثوا ضجة, واستجابوا في سرعة البرق وصارت ضجة وهمهمات من كل ناحية وأصوات تقول : إيه الكلام ده ؟ لا.... لا مش معقول !!

ويعود إليه جمال سالم راضيا ...

- سمعت الناس اللي في الجلسة قالوا لك إيه ؟

- أيوه .

- سمعت الشعب قال لك إيه ؟ رأي من محكمة الشعب .

- وبدأ التأثير على وجه إبراهيم الطيب وظهرت المرارة في عينيه ولكنه لا يزال قويا متماسكا ... لابد أنهم يشعرون بالتعب بعد حين .

وقال له جمال سالم موبخا :

- التزم الحق .. وإذا كنت كذوبا فكن ذكورا.
- أنا أقرر اللي أعتقده

كان الحوار يدور بين جمال سالم وبين المرحوم الشهيد إبراهيم الطيب والكل صامت يضحك عندما يشير له المخرج , يحدث همهمة وضجة مثلما نفعل في تمثيليات الإذاعة فهناك ما يسمي بالمجاميع نأتي بهم لمثل هذه الأشياء , وليس للحوار معني .

والذي يقرؤه بإمعان يزداد يقينا أن حادث المنشية مدبر ومفتعل , فما نراه ليس بمحاكمة , ولا نعرف أين يقف إبراهيم الطيب ؟ هل يقف بين المتهمين أو في صفوف الشهود أو هو يعامل معاملة الصنفين في آن واحد , وذلك القاضي الذي ذهب عقله وهو يعبث بمصر وتاريخها من خلال هذه المأساة التي نراها ماثلة لا نعرف أين ينتهي حقها ليبدأ باطلها , أو متى يذهب الباطل ليظهر الحق ... وما المطلوب على وجه التحديد وإلى أية غاية تفضي هذه الأسئلة التي لا تمنح الفرصة لمن تلقي عليه ليستكمل إجابتها , رغم جهده وحرصه وشجاعته فهو يريد أن يرضيهم ويريحهم حتى ينتهوا وينتهي ولكن جهوده تذهب سدي , ولكنه يقف موقفا فريدا هو غاية الاستشهاد البليغ المؤثر أو الاستعداد له .

من الذي يحاكم في محكمة الشعب ؟

وجلسات محكمة الشعب طويلة ومملة وقد ملئت بالهراء الكثير , وقد حذف منها الكثير أيضا , وبعد طرحها في الأسواق علموا أنها تسئ إليهم إساءة بالغة فسحبوها وأخفوها , رغم ما حذف منها , وقد تعمدت نقل شهادة إبراهيم الطيب رحمه الله لأهمية شخصيته , وهم المتهم بالتحريض على اغتيال عبد الناصر .
ومن ثم كان نقل ما تبقي من شهادته ضد محمود عبد اللطيف نراه مهما ويستحق النظر فهو يساعدنا على تصور منهج أولئك الحاكمين الذين بادوا وصاروا أحاديث ولم يعودوا يخيفون أحدا .
ومن فهم المنهج نعرف أو يمكننا الحكم على ما يمكن أن يفعلوه وما لا يمكن .
والنظر والتأمل في هذا الحوار الطويل يفيد بالتأكيد فهو يقودنا إلى الجزم بعدم جدية الاتهام الذي اندثر عبر سنوات طويلة ..
ونحن لا نزال في نفس الجلسة ولم ترفع للاستراحة ,ولا يزال في القاعة الشهيد إبراهيم الطيب صاحب الذكري العطرة الطيبة يقف أمام جمال سالم الذي لا يذكره أحد الآن إلا ويضحك ملء شدقيه للموقف الكوميدي الذي وقفه قاضيا يوما , وصدّق نفسه بينما ضحك عليه الناس جميعا, حتى زملاؤه سمعن بعضهم يتندر عليه . ولكن حسب قانون مصر الخالد فموعد محاسبة المجرم بعد انتهاء عهده .
وهذه النهاية تعني الموت دائما وعندها تمنح للإنسان الفرصة كاملة للنظر والنقد التحليل وإعطاء الحكم .

وسارع جمال سالم سائلا :

- سؤال آخر .
قلت لك إن جمعية الإخوان نافقت لأنها في وجه منها ديكتاتورية .. وفي داخليتها لا تتبع نصوص القوانين الموجودة عندها , ولا تنص في هذه القوانين على ما هو موجود تحت يدها ... وبالوجه الآخر تلتفت إلى الشعب وتنادي بحريات وانتخابات حرة وبرلمانات في الوقت اللي هي مش واضعة أسس لهذه البرلمانات بل الأسس التي وضعتها ضد ما تنادي به ... ما هو المقصود من هذا وكيف تحلل هذا ؟

- إبراهيم الطيب : لا أحلل أي وضع يمتهن كرامة أو حرية الشعب بأي حال من الأحوال وإنما نحن باستمرار نجهز أنفسنا لأى وضع سليم ونظيف .. واحنا لا شك...

وقاطعه جمال سالم فقد كادت القاعة أن ترتفع منها صيحات الاستحسان لهذه الشجاعة المنقطعة النظير .

جمال سالم : نرجع تاني لقصة نظيف وإزاي البرلمان ييجي ؟

إبراهيم الطيب : ما أعرفش وأنا ما كنتش مسئول .

وأراد جمال سالم أن يذهب أثر إعجاب الناس بإبراهيم فأخذ مجلس الفيلسوف وقال له :

- تعرف أنا أحب أقول لك إيه ؟ الجماعة ما عرفتش تأخذ الثورة تحت وصايتها .. وتقوم تدهول الشعب بالحريات يمكن تفلس ... وتيجي وزارة برياسة محمد نجيب وتكون حكومة صورية وتبقي تحت جناحها .. وتشغلها عشر سنوات بأصابعها كما تطلب .. وزي ما قرر شاهد أننا مش عايزين الحكم الآن إنما قدام .. طمعانين في الحكم ليه ؟ عاوزين من الحكم إيه ؟
- زي ما كان فؤاد سراج الدين وزي الحكومات الأخرى ؟ اللي كانت تيجي وخلت الناس مليانين سل ومليانين فقر وعيا وهم ... ما فيش داعي للكلام .. قول يا سيدي .. كمل لنا لخطة .. وإذا ما كنتش تفتكر نقراها لك .
- وقال جمال سالم الجملة الأخيرة بلهجة فيها وعيد وتهديد , يعني لا تغير أقوالك .
- وأدرك إبراهيم الطيب – رحمه الله – أن عليه أن يلتزم بالنص المكتوب في محضر الأقوال الذي لا يدري إلا الله وحده كيف كتب وكيف وقع عليه ,وإن خرج عن النص فليس في غير المواقف النفسية وهي الشجاعة والثبات وعدم الخوف والاستعداد للشهادة .
- وهذه كانت حال المرحوم الشهيد إبراهيم الطيب عندما كان شاهدا ومتهما .

- وقال إبراهيم الطيب :

- كانت الخطة على أساس أن القوات الموالية للرئيس محمد نجيب مع القوات الشعبية , الاثنتان تقومان معا بعد المطالبة بهذه المطالب .. فإذا قامت هذه الحركة وحصلت اعتداءات عليها فإن هذه القوات ترد على هذا الاعتداء بشتي السبل .

- إزاي ؟

- كالاغتيالات.

- اغتيالات مين ؟

- المعارضين .

- مين ؟

- من أعضاء مجلس القيادة .
- اتكلم بالأسماء .
- ذكر منهم الرئيس جمال عبد الناصر وذكر منهم أسماء أخري واستثنوا من المجلس ..
- قول أسماء .. أنت ما تعرفش التانيين ... هم أحسن من جمال ؟

- وابتسم إبراهيم الطيب متحديا وقال :

اللي علمته اغتيال المجلس كله إذا حصل اعتداء أو ضرب .

- الكل ؟

- ما عدا أفرادا معينين للرد على الحركة

- حركة إيه ؟

- حركة نجيب بالاتفاق مع الإخوان أو بمؤازرتهم .

- يعني الإخوان عاوزين يعملوا حركة انقلاب مسلح ؟

- كان المقصود الحركة المسلحة تأتي من الجيش .

- يعني تقوم بانقلاب مسلح بما عندها من الأسلحة ؟

- بالاتفاق مع الجيش

- جمال سالم : يقوموا يعضدوا الجيش إذا اعتدي عليه حد .. وقبل ما يعضدوا الجيش بأفراد الجهاز السري يقوم الإخوان بتدبيح وتقتيل المعارضين وعلى رأس المعارضين جمال عبد الناصر ويليه أعضاء مجلس قيادة الثورة ويليهم ..

- وقاطعه إبراهيم الطيب في بساطة :

- بس .
- من باب العلم .
- بس كده ..
- خسارة والله .

وبسماحة توجه إلى النظارة والحاضرين وقال لهم :

تصوروا كلكم كنتم حتقعدوا محدش كان حيغتالكم.
وسكت جمال سالم منهكا بينما وقف أمامه إبراهيم الطيب يخفي تعبه تحت ستار التحمل والشجاعة الحقيقية .

الحزام الناسف

ثم أشار جمال سالم بيده إلى المدعي الذي لم يرع اعتبارا لوظيفته فقام عجل يسأل الشاهد أو المتهم , فقد صارت القاعة كمسرح بيكيت .

المدعي : أنت كنت مودي حزام الديناميت لهنداوي ؟

إبراهيم الطيب : كان المقصود بيه حصول مثل هذا الاعتداء وفيه ناس معارضين ومؤيدين , فإذا أمكن الحزام يستعمل ..

المدعي : ضد مين ؟

وشعر إبراهيم الطيب أنهم أسخف مما كان يقدر ولكنه مضطر للإجابة :

- ضد أعضاء مجلس القيادة .
- يعمل إيه ؟
- ده حزام متفجر

وقالها إبراهيم في سخرية واضحة .

وقال المدعي مستفسرا :

- يلبسه الشخص ؟

وأكمل له إبراهيم الطيب :

للتفجير ...

المدعي : أنت قلت إنكم .

كنتم محددين أشخاص معينين في وسط الهيصة يتقدم الشخص الذي يلبس هذا الحزام – كما قلت في أقوالك – إلى أحد هذين الشخصين من أعضاء مجلس قيادة الثورة فينفجروا هم الاثنين .

وكأنما قد ساء جمال سالم أن يدخل في الاستجواب شخص غيره في هذه النقاط الهامة التي كان ينبغي أن يبدءوا بها , ربما قد التقط أنفاسه أو استراح .

فتدخل سائلا إبراهيم الطيب :

- اديته لمين الحزام ؟

إبراهيم الطيب : لهنداوي .

جمال سالم : قائد الفصيلة بتاع إمبابة ؟

إبراهيم الطيب : أيوه .

جمال سالم : أنت ذكرت ما تعرفش قواد الفصائل

إبراهيم الطيب : هو كان ماسك الفصائل

جمال سالم : أنت قلت إن مالكش دعوة بالأسلحة .. وما شفتش الحزام أمال الحزام ده يطلع إيه ؟

إبراهيم الطيب : أيوه ... أعطاه لي يوسف طلعت ..

جمال سالم : أنت كذبت كلامك.. لأنك قلت إن مالكش دعوة بالأسلحة وفي هذه الخصوصية قلت إنك رحت لهنداوي دوير وطلبت منه إيه ؟

إبراهيم الطيب : ذكرت له أن هذا الحزام مقصود به استعماله أثناء حصول الاعتداء علي القوات أو الحركة بعد حدوثها .

جمال سالم : ماذا طلبت منه ؟

إبراهيم الطيب : يتصرف لأنه قائد الفصيلة .

جمال سالم : يتصرف في أنهي حدود ؟

إبراهيم الطيب: في حدود الخطة الموجودة .

جمال سالم : هل اديته الخطة ؟

إبراهيم الطيب : الخطة اللي قلتها بالتفصيل ..وهي إذا قامت القوات الموالية للرئيس نجيب مع قوات الإخوان .. وحصل اعتداء عليها فيرد على هذا الاعتداء .

جمال سالم : بالقوات التابعة لمحمد نجيب في هذه الحالة ,... وقلت لهنداوي يعمل إيه بالحزام ؟

إبراهيم الطيب : يدي الحزام للشخص الذي يثق فيه ليقوم بتفجير هذا الحزام .

جمال سالم : فين ؟

إبراهيم الطيب : ضد الأشخاص أو الشخص من أعضاء مجلس القيادة الذين كانوا يتعرضون لهذه الحركة .

ويتدخل المدعي فهو يلمح أمارات التعب على القاضي الفيلسوف .

المدعي : لقد حددت له الأشخاص .

إبراهيم الطيب : هو كان الكلام بصفة عامة .. إنما حصل تحديد على أساس إنه الرئيس جمال .

جمال سالم : امتى ؟

إبراهيم الطيب : نعم يافندم ...

جمال سالم : امتى حصل هذا التحديد .

إبراهيم الطيب : في أثناء شرح الخطة .

جمال سالم : في يوم إيه ؟

إبراهيم الطيب : مش متذكر بالضبط .

الشاهد هو المتهم

وكان جمال سالم قد استجم قليلا في الدقائق التي مضت , واستعاد نزعته العدوانية وانفجر كالعادة في إبراهيم الطيب :

جمال سالم : دي مسألة زي قزقزة اللب.. كل يوم بتاخد أحزمة وبتدي أوامر .. يعني المسألة زي قزقزة اللب .. لدرجة إنك أخذت الحزام وفيه متفجرات .. وقلت لواحد إنه يكلف واحد علشان يلبسه ويعبط الرئيس جمال عبد الناصر ويفجره ... الحاجات د ي متذكرش وقتها .. وتمام زي قزقزة اللب .. لأنك بتستعملها باستمرار .

وهكذا تحول الشاهد إلى متهم ..

وحكم عليه وأدين ..

ولم يعط أى فرصة للرد أو الشرح ..

وحاول أن يرد ولكنه شجب ..

إبراهيم الطيب : لأ .. أبدا دي أول مرة في الحقيقة! .

وأسرع جمال سالم يرد عليه ويصادر على إجابته وهو لم يزل شاهدا بعد!

جمال سالم : إذا كنت راجل زي ما بتقول في الصف الثالث , وتعرف الدعوة .. وبتدعو للدعوة الإسلامية وتعاليم الدعوة الإسلامية .. وتثق في الدعوة الإسلامية ,.. وفي تعمق مفهوم الدعوة الإسلامية كان ضميرك ساعة ما تيجي تنام يؤنبك ... وكانت دماغك تلف وتدور وتشوف هيصة وزمبليطة وتتجنن .. ده إذا كان عندك ضمير.

ونظر إليه إبراهيم راضيا مستسلما فلم يكن يملك من أمر نفسه شيئا ..وليس عندما ما يرد به على هذا المجنون الذي تحول صارخا إلى من في القاعة :

قولوا رأيكم بصراحة !

جمال سالم : إذا كان الكلام ده غلط يا إخواني والله أنا أحب أن محكمة الشعب تعرف رأيكم ... وتقولوا إن الكلام ده غلط .. بمنتهي الحرية والصراحة .

هكذا !!

وحدثت ضجة وهمهمات !

وأشار جمال سالم إلى أحد المخبرين الجالسين فوقف وقال :

المخبر : الشعب يطلب تفجير اللغم فيه .

وأراد وكيل النائب العام أن يعمل على الحفاظ ما أمكن على شكل الإجراءات ... فوجه كلامه لإبراهيم الطيب  :

وكيل النائب العام : إنت إديته الحزام وحددت له الشخص ؟

ونظر إليه إبراهيم الطيب قليلا وهم بالرد فلحقه سؤال جمال سالم موجها إلى وكيل النائب العام :

- في أثناء الكلام ده أنت حددت له الشخص إنه الرئيس جمال عبد الناصر ؟
- وكيل النائب العام : وآخر .
- جمال سالم : مين ؟

وكيل النائب العام : سيادة البكباشي زكريا محيي الدين .

وضحك كل المخبرين بالقاعة فقد كان زكريا محيي الدين هو وزير الداخلية .

وتدخل رئيس النيابة لينال حظا من الأضواء التي تومض مع عدسات المصورين :

- وقال في أقواله إذا فشل في الوصول إلى الرئيس جمال عبد الناصر فيعمل عمله برضه مع السيد وزير الداخلية ..

- جمال سالم : وبعدين ؟

- وانتبه إبراهيم الطيب إلى أن جمال سالم ينظر إليه .. ولكن ماذا يقول ؟ وأكمل جمال سالم كلامه :
- وبعدين قامت الإخوان بثورة شعبية وبمظاهرات إخوانية .. وبعدين الشعب عارضها أو قوات القيادة عارضتها .. راحت قايمة قوات محمد نجيب تضرب فيهم .. ده يغتال ده .. وده يغتال ده .. وانهزمت الحكومة وانتصر الإخوان .

ونظر إلى إبراهيم الطيب ينتظر إجابته عن هذا الهراء .

إبراهيم الطيب : يا أفندم ..

وسكت لأنه احتار ... ما الذي يمكن أن يقوله ..

وبإصرار وإلحاح قال جمال سالم له سائلا :

- ما هو الترتيب الذي سيعمل لإدارة دفة البلاد ؟
- ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه ) !!
- دي مسألة فعلا كانت من اختصاص المجلس العالي أو مكتب الإرشاد .
- ألا تهمك في شيء ؟ في كثير أو قليل مثل هذه المسألة ؟
- لا شك تهمني ولكن كل واحد بيلزم مكانه المخصص له .
- إلى أن تتم العملية ؟
- أيوه .
- وبعد أن تتم العملية ؟

ولا يستطيع إبراهيم الطيب أن يجاريه بالمنطق والحوار , فهو كالحاوي الذي يقف في سوق من أسواق الأرياف يسأل ويرد على نفسه , وهو سيد الموقف في السوق , جمال سالم : يخرج يوسف طلعت بالجهاز بتاعه ويعمل انقلاب ضد حسن الهضيبي ... ويقلب حسن الهضيبي .. وييحي يوسف طلعت .. يطلع إبراهيم الطيب ويعمل جهاز سري يقلب بيه يوسف طلعت ..وبعدين بيجي إبراهيم الطيب , ثم ركز جمال سالم نظره في وجه إبراهيم الطيب الذي صار ينظر إليه ثابتا ولكن لا يرد عليه , فليس هناك ما يمكن الرد به .

ويستمر جمال سالم في مونولوجه :

- يعني يبقي فيه جيشين في بلد واحد ... جيش أحرار وجيش إخوان .. ده الوضع اللي في دماغكم
- وقالها على شكل قرار وليس سؤالا.
- وإبراهيم الطيب مستمر في صمته الهادئ الرزين متأملا هذه الملهاة صابرا عليها وكيل

النائب العام : اشرح للمحكمة كيف طبع ووزع المنشور الذي صدر من الإخوان باسم...

- وقاطعه جمال سالم مغتاظا موجها لإبراهيم الطيب :
- يابختك بهدوئك وتقلك وبتتكلم على حزام متفجر .. رايح تلقي أوامر لواحد علشان يغتال جمال عبد الناصر أو زكريا محيي الدين .. ومظاهرات شعبية وانقلابات منتظرين فيها حرب أهلية وواقف هادي ..
- وكان إبراهيم الطيب رحمه الله يتمتم في نفسه ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)
- واستفاق على صوت الضحكات العالية في المحكمة وهو لا يعرف سببها ثم نظر فوجد جمال سالم ينظر إليه منتصرا متشفيا قادرا أو هكذا يظن .

- جمال سالم : قائد متين .

- إبراهيم الطيب : احتراما للمحكمة .

ولمح جمال سالم سخريته في عبارته ونظرته فقال :

- احتراما للمحكمة ؟
- أيوه .
- أهلا وسهلا .. يا سيدي تشكر .. على العين والرأس احترامك ده للمحكمة. وتتعالي الضحكات في الصالة وكان العرض رخيصا مبتذلا بكل المعايير ..

منشور محمد نجيب يوزعه الإخوان

- وبعد أن انتهت النكت والقفشات وهدأ القاضي واستراح قام وكيل النائب العام ليسأل :

- اشرح للمحكمة كيف طبع ووزع المنشور الذي صدر من الإخوان المسلمين باسم اللواء محمد نجيب ... اشرحها من الأول .. احكيها من الأول .. كل هذه الساعات وإبراهيم الطيب يقف ثابتا على قدميه رغم ما يعاني وهم يتناوبون عليه في الأسئلة والإرهاق .. هذا يسخر ما شاء الله له أن يسخر ثم يستريح ويقوم غيره ..
- على النحو الذي يحدث في السجن الحربي تماما .. ففرقة تقوم للضرب وعندما تتعب تسلم لآخري .. والضحية صامدة .. أو لا تتحمل وتموت

وقال إبراهيم الطيب ..

- في يوم من الأيام رأيت مع الأستاذ عبد القادر عودة ورقة مكتوبة بالرصاص مسودة وبدون توقيع وبخط يخالف خط الأستاذ عبد القادر .. وقد طلب مني الأستاذ عبد القادر إنه .. هل أعلم بوجود أحد يستطيع أن يطبع هذا الكلام وإلا ما فيش .. فأنا لاحظت أن هذا الكلام فيه نقد وارد باسم الرئيس محمد نجيب للاتفاقية التي عقدت .. وكان الأستاذ عبد القادر ... كان مشتركا في اللجنة القانونية التي كانت في المركز العام والتي على أثرها صدر بيان من الإخوان .. وسلم إلى الرئيس البكباشي جمال عبد الناصر .. فأنا ذكرت له إنه فيه بعض إخوان يستطيعوا أن يقوموا بطبع هذا الكلام .. وفعلا أخذنا هذه الورقة ,... وقمنا بطبعها .. ووزعت على رؤساء المناطق فقاموا بتوزيعها .

رئيس الجمهورية يطبع منشورا سريا !!

وقبل أن نمضي بعيدا في هذا الاستجواب نقف وقفة !

فهذا رئيس الجمهورية يريد أن يقول رأيه في أمر سياسي بالغ الخطورة , وهو اتفاق جلاء الإنجليزعن مصر فماذا يفعل ؟

لا يملك إلا أن يكتب منشورا ويبحث عمن يوزعه بعد أن يطبعه !

ولك أن تتخيل أيها القارئ العزيز كيف كانت تسير الأمور في مصر المحروسة ..

رئيس الجمهورية يعرف خطا الاتفاقية, ويعرف أن صدقي اخذ شروطا خيرا من هذه في تفاوضه مع الإنجليز.. ولكن الحرية أسقطته ..

لم يكن لرئيس الجمهورية حق النقد فما بالك ببقية المواطنين من الدهماء !

ألا تتخيل معي أيها القارئ العزيز أنه قد حاول أن يبين وجهة نظره للضباط الصغار الذين صارت بأيديهم مقاليد الأمور ؟ وأنهم رفضوا الاستماع إليه .. فهم يفكرون في نصر رخيص حتى يقال إنهم أخرجوا الإنجليزمن مصر .. وبغض النظر عن التفاصيل وعن الأرباح والخسائر والانتقاص من الاستقلال , فهم سوف يكممون الأفواه , ولن يفتح واحد فمه بكلمة..

عبد القادروالعبرة واضحة في رئيس الجمهورية الذي يوزع منشورات يقول فيها رأيه .. ويسأل وكيل النائب العام :عبد القادر

- كيف طبعت ؟

إبراهيم الطيب : طبعا في جهاز طباعة ..

وكيل النائب العام : جهاز الطباعة ده إيه ؟

إبراهيم الطيب  : ماكينة رونيو كانت موجودة في حوزة الأستاذ محمد عبد العزيز نصار .

وكيل النائب العام : كيف وزع المنشور ؟

إبراهيم الطيب : وزع عن طريق رؤساء المناطق على جميع الإخوان في الشعب ويعود الحوار في لكاعة وعدم تركيز بعد هذا الإجهاد الذي لحق بكل من في القاعة .

وكيل النائب العام : يعني انتم اللي طبعتوها ؟

إبراهيم الطيب : أيوه

وكيل النائب العام: طبعتوها فين ؟

إبراهيم الطيب : في ماكينة محمد عبد العزيز نصار .

وتدخل هنا البطل المغوار جمال محمد عبد العزيز نصار .

وتدخل هنا البطل المغوار جمال سالم وبصوت كعواء الذئب :

- فين ؟

إبراهيم الطيب : احنا حددنا المكان وأرشدنا عنه .

جمال سالم : في أى حته ؟

إبراهيم الطيب : حددناه في مكان في مصر الجديدة .

جمال سالم : شارع إيه ؟

إبراهيم الطيب : الشارع مش متذكر اسمه .

جمال سالم : تعرف اسم صاحب البيت ؟

إبراهيم الطيب : اسمه الأستاذ محمد أحمد عبد الرحمن .

جمال سالم : بيشتغل إيه ؟

إبراهيم الطيب : ده قومسيونجي .

جمال سالم : والآلة دي موجودة في بيته ؟

إبراهيم الطيب: ايوه .

جمال سالم : جنسها إيه ؟

إبراهيم الطيب : جستنر .

جمال سالم : وبعدين ؟

إبراهيم الطيب : وبعدين طبعوها ووزعوها على رؤساء المناطق بواسطة الإخوان .

حوار حول المنشورات

وكان الاستجواب يدور بطريقة ليس فيها تركيز .

فعندما يطرأ موضوع يناقشونه بطريقة سقيمة لا معني لها وهي جلسة مفتوحة ...

قد استوي فيها المتهمون والشهود ووقف الدفاع والادعاء على منصة واحدة .

كلامهما واحد بلهجات مختلفة .

موضوع محاولة محمود عبد اللطيف لاغتيال عبد الناصر المزعوم جانبي وغير أساسي وأخذ من الاستجواب الذي ملأ عدة آلاف من الصفحات القدر اليسير .

رغم أنه الموضوع الرئيسي !

ورغم أن المحكمة قد عقدت لمحاكمته !

وهو المتهم الأول !

وكل هذا المهرجان من أجل إقناع الرأي العام بأنه قد فعلها .

ولم يقتنع الرأي العام حتى الآن !

نص ردئ وممثلون هواة , ومخرج لم يتمكن من أدواته .

وكانت المحاكمة مهرجانا سخيفا ..

وانبري وكيل النائب العام :

- المنشورات كانت بتطلع من عندكم إزاي ؟

إبراهيم الطيب : فيه لجنة اسمها لجنة الدعاية في المركز العام كانت تؤلف المنشورات ثم تسلك أحد أمرين : إما أن تطبعها في جهاز الطباعة الخاص بالنظام الخاص .. أو يكلف بها أفراد آخرون لتطبع في مطابع عامة .

وكيل النائب العام : مين اللي كان بيفبركها ؟

كان فيه لجنة برئاسة السيد قطب .

وكيل النائب العام: وظيفته إيه ؟

إبراهيم الطيب : كان مدير تعليم .

ويحاول وكيل النائب العام أن يقلد جمال سالم في السخرية من الشاهد فجاء هذا التقليد سمجا ممجوجا لحظة كل من في القاعة .

فهناك فرق دائما بين الأصل وبين التقليد .. أنت تضحك عندما تري نجيب الريحاني يمثل وتراه في مواقف كوميدية ولكنك قد تصدم لو رأيت أحد يقلده , ولن يأتيك الإحساس نفسه أبدا ..

وقال وكيل النائب العام ساخرا :

- كان بيفبرك المنشورات دي ؟

إبراهيم الطيب : أيوه

عودة إلى منشور الرئيس نجيب

وكيل النائب العام : وصلت إزاي المسودة اللي انت قلت لنا عليها .. اللي هي أصل المنشور بتاع محمد نجيب .. وصلت إزاي لعبد القادر عودة :

إبراهيم الطيب  : ما قاليش بالضبط .. إنما علمت إنه كان عن طريق شخص مجهول بالنسبة لي .. لا أعرفه ..

وتدخل جمال سالم فقد أخذ راحته بعض الوقت :

- مجهول بالنسبة لك ؟

واستسخف إبراهيم الطيب السؤال .. ولكن كم من سؤال سخيف أجاب عنه !

إبراهيم الطيب : يعني لا أعرفه ... الورقة كانت مكتوبة على أساس أنها لمراسل من مراسلي الجرائد لما بيجي يسأل واحد .

وكيل النائب العام : وليه وصلت لعبد القادر عودة بالذات ؟

إبراهيم الطيب : ما أعرفش ..

جمال سالم : ما هي النقاط اللي في المنشور ده ؟

إبراهيم الطيب : نقد للاتفاقية

جمال سالم : ما هي هذه النقاط التي تنقد هذه الاتفاقية ؟

ولأول مرة ينظر إبراهيم الطيب ناحية جمال سالم باستياء وغضب وقرف ولم يرد عليه .

وتجاهل جمال سالم هذه النظرة وقال له :

- عددها واذكرها .. أنت موافق عليها لأنك بتعتقد أو بتقول على الأقل إنك تعتقد إنها سياسة صح ... وأن النقط التي أثيرت ضد الاتفاقية صح .. وفي الوقت نفسه أخذت المنشور اللي بخط الرئيس السابق للجمهورية محمد نجيب ... أخذت الكلام ده ورحت على مطبعة في مصر الجديدة وطبعته وفرقته على رؤساء المناطق ... والنقط اللي فيه .. أفتكر إنك ما تقدرش تواجه الناس وتقول أنا ما أعرفهاش ..

إبراهيم الطيب : مش متذكر بالضبط .

وهاج جمال سالم ووقف على المنصة كالإراجوز وبأعلى صوته :

ما باقولش صمها وحفظها لى زي القرآن ... قل فقط ما هي النقاط .النقطة الفلانية .. والنقطة الفلانية .. ياللا .

وأخذ إبراهيم الطيب نفسا عميقا .. وبدا مطمئنا رغم الإرهاب والإرهاق وقال : - كانت تنصب بالذات حول التحالف مع تركيا .. واعتبار الاعتداء على تركيا يبيح للقوات الإنجليزية إنها تدخل الأراضي المصرية وتستغل الموانئ والمطارات وما شاكل ذلك .. هذا من ناحية ومن ناحية أخري على ما أتذكر كان موضوع خطر الحرب .. كان أيضا مما أثارته هذه الورقة وتكلمت عنه بإسهاب .. وقالت إن خطر الحرب يعتبر موجودا من الآن وعلى هذا الأساس تبقي القوات الإنجليزية مش حتطلع من مصر خالص .... ولأن خطر الحرب موجود . ويبقي الإنجليزما يطلعوش .

جمال سالم : متى وصلت هذه الورقة ليدك لطبعها ؟

إبراهيم الطيب : بعد مارس سنة 1954 .

جمال سالم : امتى بالضبط ؟

إبراهيم الطيب : بعد توقيع الاتفاقية .

جمال سالم : النهائي أو بالأحرف الأولي ؟

إبراهيم الطيب : لا .. قبل توقيع الاتفاقية النهائي .

نقد اتفاقية الجلاء

جمال سالم : كيف تهاجم اتفاقية لم يتم التعاقد عليها ؟

إبراهيم الطيب : هي كان فيها نقد للاتفاقية ..

جمال سالم : بالنسبة للنقاط الأولي ؟

إبراهيم الطيب : أيوه

جمال سالم : دي ما فيهاش خطر الحرب .

إبراهيم الطيب : أيوه .

جمال سالم : إزاي تسمح لنفسك إنك تروح تطبع منشور , وتبعته للناس فيه كلام لم يأت ذكره بالنسبة للنقاط الأولي للاتفاقية ومضاه الطرفان بالأحرف الأولي ؟

إبراهيم الطيب : اللي أنا ..

وقبل أن يكمل قاطعه جمال سالم صارخا :

- أنت قررت الآن إن هذا المنشور فيه مهاجمة علشان خطر الحرب , وإن النقاط الأساسية في الاتفاقية الممضاة بالأحرف الأولي مكانش فيها خطر الحرب .

- إبراهيم الطيب : سبب هذا إن عبد القادر عودة باعتباره رجلا ثقة , وسبق أن اشترك في اللجنة القانونية الخاصة بنقد الاتفاقية .

- جمال سالم : نقد الاتفاقية ..

وقال إبراهيم الطيب مصححا لكلام سقيم لا يسمن ولا يغني من جوع

- مشروع الاتفاقية .

- مع مين ؟ مع الحكومة ؟

- لا.. ده كان نقد المشروع اللي نشر في الجرائد .

- كان فيه الجنة اتصال ؟

- كان فيه لجنة قانونية.

- والجنة دي كانت بتشتغل مع مين ؟

- اللجنة دي اجتمعت لبحث مشروع الاتفاقية .

- مع مين ؟

- بحثت النصوص .. قدمت الاعتراضات على الأسس الموجود في تفاصيلها بحادث المنشية . وقد ابتعدنا كثيرا عنه .

وقال جمال سالم :

الأسس اللي ما فيهاش خطر الحرب .. ده ماله باللجنة القانونية وماله بالكلام اللي احنا بنقوله .. وهو أن نقطة خطر الحرب كانت موجودة في هذا المنشور , في حين إن الاتفاقية وأسس الاتفاقية الممضاة بالحروف الأولي , وهي سابقة لهذا المنشور لم يأت فيها ذكر خطر الحرب .. قلت الأستاذ عودة .. ماله الأستاذة عودة ؟

إبراهيم الطيب : هو باعتباره رجل قانون قال لى كده .. فأنا أخذت بكلامه .. وهاج جمال سالم وقام يرقص على المنصة ويرتفع صراخه وهو يحدث المتفرجين:

- كلامه قضية مسلمة ! هذه هي الديكتاتورية يا حضرات المحترمين .. هذه هي الديكتاتورية أيها المواطنون .. محامي بيدافع عن قضاياكم أمام المحاكم .. وعودة يقول له حاجة غلط زي الشمس بتطلع من الغرب يقوم يصدقه .. لأن عودة من جمعيه الإخوان المسلمين .
- وضجت القاعة بالضحك لنكتة غير مفهومه من النص المكتوب ولكن بعض شهود العيان قال إن جمال سالم كان يأتي بحركات كوميدية تثير الضحك استمر جمال سالم :
- ماتقدرش ترفض له أمر .. عبد القادر عودة .. حتى ولا مرة ؟

وفي ثبات وشجاعة رد عليه إبراهيم الطيب :

- أعتقد أن رأيه كان سليما .
وكفت القاعة عن بقايا الضحك المتناثر هنا وهناك وساد الصمت احتراما لهذا الشاب الغريب الذي يقف بين فكي الأسد ولم يفقد هدوءه واتزانه ..

ودهش أيضا جمال سالم وشعر أنه لا يخيفه فسأله :

- حتى لو قال للناس الشمس بتطلع من الغرب .. تقول أيوه ؟
- ولم يفقد إبراهيم الطيب اتزانه وقال :
- اعتقد أن هذه النقطة موجودة .
- هل قرأتها ؟
- لا.. ما أقدرش أقول إني قرأتها .

وذهل جمال سالم من إجابة إبراهيم الطيب وقال :

سمعت كلام عودة ... حضرتك محامي ولم تقرأ الاتفاقية .. وتأخذ كلامه قضية مسلمة بدون الرجوع إلى الأصل .

وبدت الحيرة على وجه جمال سالم امتلأ بالغيظ , فهو يريد إذلال الشاهد ولكنه لا يستطيع , يريد أن ينال منه فلا يقدر .. يأتيه عن يمينه وعن شماله فلا ينفذ إليه وأبد وجهه وأكمل حديثه :

- والله أنا أعتقد .. أنا سأترك رأي المحاماه فيها لأهل المحاماه ... وسأترك رأي المواطنين فيك للمواطنين .. وسأترك رأي المسلمين فيك – كمسلك – للمسلمين , وقل لي بقية شهادتك من فضلك .
- وظل إبراهيم الطيب صامتا !

أى شهادة تلك التي يطلب منه أن يكملها ؟

لم يأتوا به للشهادة .. لقد جاءوا به للهزء والسخرية ..
وواضح أنه قد انتصر عليهم بثباته وشجاعته وعدم تخاذله .

عرف مكرهم وبطل فينفسه سحرهم وقدر عليهم ,واستقام الحق في وجدانه لم يكن عند إبراهيم الطيب ما يقوله في هذا المرجان غير الإجابة عن أسئلتهم ,مهما كانت مملة وممجوجة وسخيفة فهو بين أيدي الأبالسة يسلكون به في سراديب الشيطان , وعما قريب ينتهي كل شئ,

وأنقذ الموقف من هذا الصمت أن جمال سالم انتبه للمدعي وقال :

يتفضل السيد المدعي .

عبد المنعم عبد الرؤوف

رئيس النيابة : إنت تعرف عبد المنعم عبد الرؤوف؟

إبراهيم الطيب  : أيوه يا أفندم ..

رئيس النيابة : تعرفه من امتي ؟

إبراهيم الطيب  : قالبته في المركز العام .

رئيس النيابة : امتى

إبراهيم الطيب : في أثناء أيام حركة الجيش .. يعني في يوليو سنة 1952

رئيس النيابة : في مبدأ الثورة يعني ؟

وتأمل يا قارئي العزيز سخافة السؤال وسماجته !! لأ... في آخر الثورة !!

ونظرة إليه إبراهيم الطيب والمرارة تملأ حلقه ولكن ليس أمامه غير أن يجيب .

- أيوه .. وعلمت أنه قبض عليه .. وأنه كان معتقلا .. وبعد ما هرب من السجن قابلته في المركز العام

وأراد إبراهيم الطيب أن يوفر عليه الأسئلة ولكن لا فائدة ..

رئيس النيابة : إزاي ؟

إبراهيم الطيب : يختبئ فيه .. فأنا فعلا وديته لمكان في شبرا عند واحد اسمه أحمد عيد

رئيس النيابة : عارف الشارع كان شارع إيه ؟

إبراهيم الطيب: مش متذكر الشارع .. وإنما في شبرا بس . استقر عنده مسافة طويلة , وبعدين راح إمبابة عند هنداوي دوير .. وكان راح عند مصطفي الورداني في إمبابة أيضا .. وكان بيعيش معاهم ..

رئيس النيابة : مش أنت اللي نقلته ؟

إبراهيم الطيب : أيوه .. وبعدين كان موجود في معسكر كرداسة وهرب .

رئيس النيابة : بيعمل إيه ؟

إبراهيم الطيب : بيدرب الإخوان .

رئيس النيابة : بيدربهم على إيه ؟

إبراهيم الطيب : على التكتيك

رئيس النيابة : كل الإخوان ولا الجهاز الخاص ؟

إبراهيم الطيب : لا... رؤساء الفصائل

وكان قد بلغ التعب منتاه بالسادة الأماجد أعضاء النيابة والمحكمة وكانت الساعة قد بلغت الثالثة والنصف عصرا .. ولا شك أن الطباخين قد أعدوا لهم الطعام في بيوتهم العامرة ... ولابد لهم أن يصلوا قبل أن يبرد فهم يحبون الطعام الساخن .. والحساء في هذا اليوم الشديد البرد سوف يزيل هذا التوتر .. أما جمال سالم فقد جاء موعد احتسائه الخمر , فقد سمعنا أنه يتناوله بعد الظهر وفي الليل أفلا تعقلون ؟ ولابد من رفع الجلسة ليرتاح النبلاء ويذهب العبيد إلى السجن الحربي أو ينتظروا في زنزانة قريبة ملحقة بالمكان .. وفي العادة قد يطلب المدعي رفع الجلسة .. ولكن في المحاكم من هذا النوع فإن رئيسها هو الذي يرفع ويخفض , وليس لأحد أن يطلب شيئا في حضرته .

ولابد من نهاية درامية لهذه الجلسة .

والتفت جمال سالم ناحية المتهم محمود عبد اللطيف وقال له مشيرا إلي إبراهيم :

- أهو ده رئيس هنداوي اللي اداله الطبنجة علشان يضرب بيها جمال عبد الناصر ... أهو رئيس هنداوي .. بينكر إنه قال لهنداوي إنك تروح علشان تقتل جمال عبد الناصر .. سامع رئيسك ؟ .. سامع رئيس رئيسك ؟

- وحاول محمود عبد اللطيف أن يقول شيئا ووقف قائلا :

- محمود عبد اللطيف : أنا طبيعي ..

ولكن جمال سالم لم يمنحه الفرصة واستمر صارخا هادرا لينزل الستار على آخر جملة:

جمال سالم :سامع يا محمود يا عبد اللطيف .. لما تمشي وراء أهل السوء يحصل لك إيه .. واحد يقول لك أقتل واحد .. تقول إيه .. أقعد يا غلبان .

ويجلس المتهم محمود عبد اللطيف .

ويجول جمال سالم بنظره في الموجودين ثم يقول :

- ترفع الجلسة الآن على أن تعود إلى الانعقاد في الساعة السادسة من مساء اليوم 15 نوفمبر سنة 1954 ويستدعي هنداوي دوير لهذه الجلسة .

إبراهيم الطيب ينكر أنه أعطي هنداوي دوير طبنجة أو أمره بقتل الرئيس !! هذا ما قاله جمال سالم في آخر الجلسة وواضح أن هذا كان في التحقيقات لأنهم لم يتطرقوا إلى هذا الموضوع في هذه الجلسة التي انتهت .

إبراهيم الطيب لم يعط هنداوي دوير مسدسا , ولم يأمره بقتل أحد.. إبراهيم الطيب هو حلقة في السلسلة الذهبية .. سلسلة الأوامر من المرشد العام حتى تصل إلى محمود عبد اللطيف .. لم يأمر بشئ من هذا ..

وقيل إنه ظل يضرب ضربا شديدا قبل انعقاد الجلسة في المساء ... واشترك في ضربه جمال سالم والسيد حسين الشافعي الذي لا يزال حيا حتي كتابة هذه السطور ..

الفصل التاسع" فأي الفريقين أحق بالأمن .؟! الشهيد في مواجهة الجلاد

( ولو تري إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادي كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نري معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) الأنعام : 93 -94

هل حادث المنشية هي التي غيرت تاريخ الإخوان ؟ أوهي التي أحدثت فيه نتوءا ؟

أم أن الأمر كان أبعد عمقا من هذا ؟ وأن مطلع النصف الثاني من القرن العشرين كان علامة في تاريخ الإخوان ؟

علامة من علامات التغير والنضج وتصحيح المسار .

اقتناعي الشخصي أن الحادث مدبر ومفتعل , وهذا قد تأتي من القراءة حول الواقعة وسماع الشهود من كل الأطراف ,ومعايشة الظروف التي ظهرت فيها هذه الحادثة فجأة , وقراءة التاريخ بشكل عام , والإحاطة بالظروف والملابسات السياسية والمخابراتية العالمية التي واكبت العالم منذ مطلع القرن العشرين , واستوت عند منتصفه .

وتبرئه الإخوان من حادث الاعتداء على جمال عبد الناصر في المنشية لا تعني أكثر من فهم التاريخ والتدقيق فيه لنفهم الظواهر التي تحيط بنا .

فقد يأتي مؤرخ ويلوم الإخوان المسلمين لأنهم تقاعسوا في التخلص من جمال عبد الناصر, وقد يقول إنها نقطة سوداء في تاريخهم أنهم لم يقتلوه , بينما قتلوا من هو أقل منه شرا وأذى للمسلمين مثل النقراشي باشا .

وقد نتفق مع هذا المؤرخ وقد نختلف معه ولكننا بصدد تحقيق الواقعة وإلقاء مزيد من الضوء عليها لنفهم الماضي , ففهم الماضي عدة للمستقبل , وهو يعطينا القدرة على تصور الحاضر.

ونحن أمام جريمة من الجرائم التي لا يترك فيها الجاني خلفه دليلا عليها لأنها من جرائم ترتكبها الدول بكل ما عندما من إمكانيات أو يرتكبها رئيس الدولة نفسه أو كبير لجهاز عظيم , مثل هؤلاء المجرمين لا يتركون في العادة خلفهم بصمات تدل عليهم وهم أذكي وأقدر من هذا .

وعندما يتقدم الزمن نقترب أكثر من الدليل .

حتى يأتي اليوم الذي نجد فيه القضية وقد فتح ملفها وعرفت كل تفاصيلها وقائع , وليس استنتاجا وقرينة.

وأعظم المجرمين وأقوامهم وأقساهم هو الدولة .. أية دولة لأنها تضع في حساباتها عند ارتكاب الجريمة كل العوامل المحتملة إلا المحتملة إلا عاملا واحدا هو العامل الإلهي الذي لا يستطيع أحد أن يتحكم فيه .

وهل إعدام هنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف يخفي الأدلة ؟ لا أظن .

وشهادة المرحوم إبراهيم الطيب تلقي مزيدا من الضوء على هذا الحادث , ولأهميتها ولغرابتها فنحن نوردها هنا بالتفصيل , لما لها من دلالات تبين فلسفة النظام بشكل عام , وكيف انعدمت الحرية وفقدت مع قيام الثورة , وكيف ضاعت حقوق الإنسان في مصر بطريقة ربطت ذلك ربطا عضويا بنظام ثورة 23 يوليو مهما أدخل عليه من تعديلات.

فالأمور تسير بنفس الطريقة والمنهج والأسلوب , بتعديلات طفيفة لا تمنح حقا لأحد ولا تعطي أية فرصة لحرية الاختيار والتعبير ,مما يؤدي إلى كارثة على وشك الوقوع فقد تزايد الشعور الإسلامي والحاجة لتنمية الوعي الديني ويقابله من الجانب الآخر القمع الشرس , وعدم الفهم للمعادلات الصعبة التي تحكم الحياة .

ولا يريد أحد من الحكام أن يتجاوب مع ما حدث في مصر والعالم من متغيرات وسيظلون على هذا حتى تقرع القارعة أبوابهم .

وما أدراك ما القارعة !

إبراهيم الطيب ينفي أنه أمر بقتل الزعيم

أعيدت الجلسة في الساعة السابعة من مساء 15 نوفمبر سنة 1954 استجوب الشاهد في الجلسة الماضية في أشياء كثيرة وليس منها حادث المنشية الذي هو مربط الفرس كما يقولون .

بدأ وكيل النائب العام السؤال :

- انت ما اتصلتش بهنداوي قبل وقوع حادث الرئيس جمال عبد الناصر ؟

إبراهيم الطيب  : اتصلت به كما سبق أن اتصلت بجميع رؤساء المناطق .

وكان يبدو للنظارة أن المرحوم إبراهيم الطيب قد ضرب ضربا مبرحا قبل انعقاد الجلسة , وكان ظاهرا على وجهه وهيئته وقد سمعت ممن حضروا في هذا اليوم أن ذلك الضرب قد تم بمعرفة جمال سالم والحاج حسين الشافعي كما أسفلت .

وكيل النائب العام : وآخر مقابلة كانت معاك له ... كانت امتى قبل الحادث ؟.

إبراهيم الطيب : لعلها قبل الحادث بيومين .

وكيل النائب العام : إديته الحزام إمتى ؟

إبراهيم الطيب : قبل الحادث بيومين .

وكيل النائب العام : كنت معاه يوم الحادث .

إبراهيم الطيب : لا يا افندم .

وكيل النائب العام : متأكد إنك ما رحتش في إمبابة يوم الحادث ؟

إبراهيم الطيب : لا

وكيل النائب العام : ما حصلش بينك وبينه كلام بشأن خطة اغتيال الرئيس جمال ؟

إبراهيم الطيب : اللي حصل هو الكلام في الخطة التي عرضتها ..وتتلخص في أن الاغتيالات لا يمكن أن نبدأ فيها إلا إذا حصل اعتداء على الحركة الشعبية .

وكيل النائب العام : سؤال محدد .. هل تحدثت مع هنداوي بشأن الاعتداء على الرئيس جمال ؟

إبراهيم الطيب : لا .. لم أتحدث معه في هذه الجلسة .

وكيل النائب العام : في أى جلسة تحدثت معه ؟

إبراهيم الطيب : في أثناء عرض الخطة العامة.

وكيل النائب العام : قلت له إيه ؟

إبراهيم الطيب : أنا قلت إن هذا الاعتداء لا يجوز أن يتم إلا إذا حصل اعتداء على الحركة التي قد تقوم .

وكيل النائب العام : يعني تحدثت معه ؟

إبراهيم الطيب : أيوه يا أفندم .. في أثناء عرض الخطة .

وكيل النائب العام : يعني ألم تحدد وقتا أو أشخاصا أو ميعادا ؟

إبراهيم الطيب : لا .

وكيل النائب العام : هل أديت له سلاح أو مسدس على وجه التحديد ؟

إبراهيم الطيب: لا .

وكيل النائب العام : ما كلفتوش هو أو غيره بأنه يقوم بارتكاب هذا الحادث ؟

إبراهيم الطيب : لا يا أفندم.

وكيل النائب العام : إطلاقا .

إبراهيم الطيب " إطلاقا

وكيل النائب العام : ألتمس من عدالة المحكمة مناقشة الواقعة التي شرحها هنداوي دوير .. إذا تكرمت المحكمة تستدعي هنداوي دوير .

وبدا إبراهيم الطيب قويا رغم التعذيب البعيد والقريب فهو لا يزال متماسكا يثير الإعجاب والاحترام , وليس هناك ما يدعو إلى الكذب والاختلاق , فقد أنطق السوط الجميع , وإن كان لابد من أن يلفقوا فليفعوا ما يشاءون .

وتجاهل جمال سالم طلب وكيل النائب العام , وتوجه بالكلام إلى إبراهيم الطيب .

المظاهرة المسلمة

توجه جمال سالم بخطاب إبراهيم الطيب :

- قررت أن هناك فيه خطة .. والخطة دي حاتقوم بمظاهرات شعبية مسلحة .
- أيوه .
- والمظاهرات الشعبية المسلحة دي تبدأ باغتيالات .. بتاعت رئيس الحكومة ومجلس الثورة وبعض الناس من الضباط ... طبعا متصور إن مافيش ناس حتسكت .. يعني فيه ناس حاترفع صوتها ومعاها سلاحها .. ما هو الموقف عندما يقوم فريقان في بلد مسلحان يضربوا في بعض .. ويغتال رئيس الحكومة ويغتال عدد من الضباط ... ويجتاح القطر الرعب والفزع .. وليس هناك أى دفاع عن منطقة القاهرة ولا مداخلها .. وهناك قوات بريطانية مستعمرة في منطقة القتال .. ما هو الاستعداد الذي اتخذتموه لمجابهة الإنجليزإذا ما فكروا أن يدخلوا القاهرة ؟

هذا السؤال يجيب عليه الشاهد ربما للمرة الرابعة !!

كل هيئة المحكمة : القاضي والجلادون والشاويشية قد شعروا بالتعب والإرهاق .. وبدت عليهم المعاناة على العكس من إبراهيم الطيب .. فرغم كل شئ فلا يزال ناصر قويا رغم ما مر به طوال النهار .

- أولا فيما يتعلق ببدء الحركة فقد كان المفهوم أن القوات التي ستشترك فيها قوات ذات أغلبية عددية وقد سبق أن هناك سابقة في حوادث 25 مارس .. وما سبقها بأن سيادة الرئيس جمال لما وجد اتجاه معين كان بيسلم بيه .

( يقصد الشاهد أن الرئيس جمال بيخاف ما يختشيش شأنه شأن الآخرين يعني سرعان ما يتراجع أ لو خرجت له المظاهرات المليونية !)

فكان برضه مفهوم لدي الناس اللي بينفذوا أو الذين يعدوا هذا الإعداد .. جائز إننا نحصل على المطالب التي تقوم بها الحركة بدون أى إراقة دماء أو معارضة من المعارضات .

جمال سالم : إذا كان اغتيال جمال عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة .... مين اللي يسكت الناس بتوع جمال ورجال جمال عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة .

مين اللي يسكت الناس ؟

ويلاحظ هنا أن جمال سالم تجاهل ما قاله إبراهيم ما قاله إبراهيم الطيب وكأنه لم يسمعه .. كل واحد يتكلم في واد يختلف عن الآخر .
أما الإجابة التي لم يقلها إبراهيم الطيب رحمه الله فهي إذا اغتيل جمال عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة فجميع الشعب كان سيقول يومها في ستين داهية .
ولا يعرف أحد لهم رجالا في ذلك الوقت إلا قليلا من المرتزقة سوف يلزمون الصمت .

وهز إبراهيم الطيب رأسه وقال :

- ذكرت أن السيد جمال عبد الناصر كان علم أن له سابقة في هذا لو حصل شئ يكون طبيعي سيادة رئيس الجمهورية موجود وجايز جدا أن يحصل تفاهم بين الرئيس نجيب والرئيس جمال .

جمال سالم : إزاي الرئيس نجيب يتفاهم مع الرئيس جمال المغتال؟

إبراهيم الطيب  : أنا باتكلم قبل حصول أى اعتداء .. ومن المحتمل أن يتم تفاهم .

جمال سالم : وإذا لم يوافق ؟

إبراهيم الطيب : باعتبار أن هناك أغلبية عددية ومجموعات كبيرة مع الرئيس نجيب كان مفهوم أن المسألة لا شك فيها أن الحكم يكون فيها للأغلبية.

جمال سالم : واحنا قلنا إن الناس دول حايتحولوا على بعض ويتضاربوا .. الحرب الأهلية بتكون الغلبة فيها للفريق الأقوى والأكثر عددا .

إبراهيم الطيب : أيوه .

جمال سالم : في أثناء هذه المعركة .. ما هي الاستعدادات التي عملت لمجابهة تدخل قوات الإنجليزالمسلحة الموجودة في منطقة القنال ؟

وهكذا ينتقل جمال سالم من نقطة إلى نقطة دون تركيز ودون فهم ولا يوجد من يرده .. ويتكلم بغير منطق وكيفما يشاء .

الإخوان في مواجهة الإنجليز

ويرد عليه إبراهيم الطيب فيقول :

- أبلغني يوسف طلعت أن هناك قوات موجودة في إقليم الشرقية وشرق منطقة القنال , وهي مستعدة للقيام بحرب عصابات ضد المستعمر فيما لو فكر أن يحتل جهات أخري ..
- ما هي هذه القوات التي في القنال وفي الشرقية ؟
- قوات فصائل الإخوان .
- يعني فيه قوات فصائل للإخوان غير القاهرة في القنال والشرقية وعندهم من الأسلحة ما يكفي لمقاومة تدخل الجيش البريطاني
- لعرقلة ...

ويقاطعه جمال سالم كالعادة قبل أن يكمل :

- تدخل الجيش البريطاني ... لو عندكم القوة دي ما تستعملوهاش ليه في القنال ؟

- الإخوان اشتركوا في القنال قبل حرق القاهرة .

- اشتركوا بكام فصيلة ؟

- علمت .

وهب فيه جمال سالم غاضبا:

أنت كل حاجة علمتها .
ده اللي خاص بالموضوع ... علمت من الناس المسئولين .
ماذا قررت في أقوالك في التحقيق .. ما هي الخطة للدفاع لعرقلة الهجوم بتاع الإنجليز؟
القيام بحرب عصابات من شأنها أن تعرقل .
ويحاول جمال سالم أن يذكره بأقواله في التحقيق .
- أيضا ..
- بنسف طرق المواصلات والمنشآت التي يحتلونها

- وإيه كمان ؟

- وبتقطيع خطوط إمداداتهم وتموينهم .
- هذه هي خطة الإخوان منذ لحظة قيام ثورة يوليو ومن قبلها لعرقلة تقدم القوات الإنجليزية إلى القاهرة لأي سبب , وهي تعد من مفاخرهم ومن إحساسهم بالواجب طوال الوقت .
- ولكن لجمال سالم رأي آخر .

فقد تحول إلى جمهور الحاضرين وبلهجة الباعة الجائلين الذين ينادون على البطاطا أو الطماطم صار يقول :

- شايفين يا حضرات .بلدكم كانت حاتتنسف .. الطرق والكباري والمنشآت . هل يحلم المستعمر بأنه يوجد البلد في حالة وهن وحالة ضعف وهل يحلم رجال إسرائيل بإيجاد مصر في ضعف ووهن كالحالة التي كنتم ستوصلون إليها .. هل فكرتم في هذا ؟
ولعل جمال سالم يطلع هو وزعيمه من الجيم فيروا ماذا فعلوا بمصر والحالة التي أوصلوها إليها دون تدخل من الإخوان أو غيرهم !

وقال إبراهيم الطيب :

- لا شك إن الإنجليز..

وقاطعة جمال سالم كالعادة :

- اسمعني .. أنتم تكلمتم كثيرا في المؤتمرات بتاعتكم .. وهل علمت من التاريخ يا أستاذي الفاضل .. خريج كلية الحقوق أن الإنجليزأول ما دخلوا البلاد مستعمرين .. أول ما قضوا قضوا على رجال الجيش لتضعف البلاد .. وأنتم قايمين علشان خاطر تضربوا الجيش في بعض والأهالي في بعضها ... وهناك مستعمر في داخل البلاد وهناك من يتمني الاستعمار قاعد على حدود البلاد ... والخطة أنكم تنسفوا المنشآت والكباري والطرق ... والخطة أنكم تنسفوا مصر ... ما هو برنامجكم في الحكم هل هو الهدم أو البناء ؟ وإذا كان برنامجكم الحكم فهل هو ده الحكم الإسلامي ؟
- كلام غير مترابط لا يقوله تلميذ في الإعدادية !!
- هذا هو نموذج الحكام آنذاك!!
- رجال ثورة 23 يوليو العظام !!

وكان هذا هو نائب جمال عبد الناصر ..

وكان يحلم بأن يحكم مصر بعد التخلص من رئيسه وسائر الرفاق وماذا كان يمكن أن يحدث لنا لو حكمنا جمال سالم ؟

ظني أنه لم يكن ليحدث لنا أسوأ مما حدث .

وربما كان الأمر سيكون مثيرا رغم ضراوته كما يحدث في محكمة الشعب !

وقال إبراهيم الطيب مستنكرا :

- لأ , مش معقول ..
- طيب قل لنا دي .. فسرها ..قول لنا الدرس بتاع الإنجليز... وكيف تضمنوا عدم تحرك القوات الإنجليزية ...وأنتم نفسكم تخشوا تحركها ؟
- أيوه .

وتدخل في الحار السخيف الممجوج كالعادة ليوهم الغوغاء بكلام لا أصل له

جمال سالم : والا ماكنتوش فاهمين إن فيه تحركات يبقي استعدادكم كان إزاي ؟

هل كان بالجلجنايت والاستن والبرن .. وهل نضمن إن ده يوقف التحركات؟

- كان المقصود به عرقلة القوات .

- أى قوات ؟

- القوات الإنجليزية .. كان المقصود عرقلة القوات الإنجليزية بنسف المنشآت .

- لكن القوات الإنجليزية ما تتحركش في حالة نشوب معركة داخلية ؟

- يجوز أن تتقدم هذه القوات لأي أخطار , وبمجرد ما قامت الثورة كان فيه تقدم لقوات الإنجليز.. ولذلك تقدم الإخوان ليكونوا تحت تصرف الثورة.

- وتجاوز الشاهد الكريم الحوادث ليلة الثورة !

- وماذا يمكن أن يقوله أمام هذا الوحش المفترس ؟

وحقائق الثورة ودور الإخوان يعرفهما القاضي .

ولكن اختلاف الليل والنهار والعذاب البدني الهائل ..

كل هذا جعل الشهيد إبراهيم الطيب يتنازل عن حقه فيما فعله ليلة 23 يوليو !

وبدأ " الردح " " وفرش الملاية " وارتفع صوت المجنون يخاطب الدنيا :

- شايفين يا مواطنين .. القوات المسلحة بتاعتكم فين .... مش هي القوات المسلحة اللي القائد بتاعها عبد الحكيم عامر .. لا مدافعها ورق والبنادق فيها حلاوة ... تعرف أول حاجة عملتها الثورة إيه يوم 23 يوليو ؟
- وتعرف ليه طردت الملك فاروق يوم 26 يوليو وما طردتوش يوم 23 يوليو ... قول لى يا مدبر مافكرتش في السبب بعد الحوادث ما بقت تاريخ ؟

وقال إبراهيم الطيب في هدوء :

- لم يبلغ إلى علمي شئ عن هذا .
- ألم تفكر وقد أصبح هذا جزءا من تاريخ هذا البلد ؟

وبدا على إبراهيم الطيب أنه يجاريه في هذا " الاستهبال " وكنا كثيرا ما نفعل هذا في المعتقل لطبيعة من نتعامل معهم فقد كنا نري الحمار حمارا لا تخطئه العين ولكن قد نصفه بصفة أخري وهذه هي طبيعة تلك الأماكن ..

وأبدي إبراهيم الطيب الاهتمام الشديد وهو يقول مفكرا :

- من 23 يوليو إلى 26 يوليو فعلا دي مسألة بعيدة عن ذهني .
- ثم التفت إليه في حركة بارعة كأنه يستنجد به أن يخبره بالمعلومات الثمينة عما جري في تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر .
- وكان جمال سالم يهز رأسه يمنة ويسرة معجبا بنفسه أيما إعجاب,والكل قد حبس أنفاسه ينتظر الأسرار الخطيرة التي قد تنطق بها شفتا جمال سالم وهو يمعن في إذلالهم ويهز رأسه وابتسامته تملأ وجهه ولا يريد أن يتكلم .

عصر الدولة الحصاوية

وكانت مصر قد دخلت عصر الدولة ( الحصاوية )!

وقال جمال سالم مخاطبا إبراهيم الطيب للتشويق ..

- كانت الحكاية دي في القرن نهوه ؟

- القرن اللي نعيش فيه .

- العدد بتاع القرن ده إيه ؟

- العشرين ..

- الحمد لله .. ألا تذكر هذه الحادثة الكبيرة في تاريخ البلاد ؟

- ما أعرفش .

- طيب أنا أقولك لك ...

وسكت وحبس الناس أنفاسهم !

وقد قلد جمال سالم في هذا حماران آخران جاءا من بعده .

واحد في العراق اسمه المهداوي !

وآخر في مصر اسمه الدجوى !

وقد ظنا أن طريقة سلفهما – لجهلهما – هي غاية المرام في القضاء الحرام .

فكلا الحمارين استعمل هذه الطريقة في المحاكمات التي أجرياها بعد ... وانتظر الناس " النهيق " على أحر من الجمر وقال جمال سالم :

- السر في التأخير .. السر هو إن الثورة جعلت شغلها الشاغل وضع الاستحكامات وجميع الأسلحة وجميع قواها لتكون خطا للدفاع عن الوادي ضد القوات الإنجليزية إذا ما تداخلت ... جميع الأسلحة اللي كانت موجودة في القوات المسلحة .. حتى إن مدافع الآليات شغلناها مدافع ميدان .

- الكذاب !!

هذا ما يدعي أنهم قد فعلوه من 23 يوليو حتى 26 يوليو ..

حتى يضمنوا عدم تدخل الإنجليز!!

كان يكلم شعبا غافلا ساذجا من منطق القوة , فلا يمكن لأحد أن يرد عليه !! وكانت معلوماته عن تلك الفترة لا تزيد على معلومات إبراهيم الطيب ! ولكن كيف يرد عليه إبراهيم الطيب بعد العذاب الذي ذاقه في الاستراحة ! وما فائد الرد عليه ؟

ويستمر جمال سالم :

- كنت عايز أعرف حتوقفوها ازاي – يقصد القوات الإنجليزية – حتوقفوها بالحلجنايت والـ ت.ن.ت .. إزي أنتم عرضتم على الثورة أنكم توقفوا الجيوش الإنجليزية .. وقلتم للضباط اتفضلوا واستريحوا واقعدوا في بيوتكم انتم عملتم اللي عليكم يا بتوع الثورة .. سلمونا بقي .. سلمونا الغنيمة .. سلمونا بقي يا سيد علشان نشغل المصاصة ... سلمونا بقي يا سيدي ... وإسرائيل مش عاملين لها اعتبار ولا في الحسبان . .. والقوات الإنجليزية ما لهاش اعتبار؟ حرب أهلية تحرقوا البلد وتنسفوا المنشآت ..وتنسفوا الطرق , وتنسفوا الكباري , ومفكرتوش في الأموال وأصحاب رءوس الأموال حيعملوا إيه في رءوس أموالهم .. وحملة الأسهم والسندات وبورصة العقود وبورصة الأوراق المالية .. حيحصل فيها إيه .. والمواني والحركة التجارية .. يحصل فيها إيه .. ما فكرتوش في تموين القاهرة .. وما فكرتوش في البترول.. حاييجي منين علشان تصبحوا تلاقوا رغيف العيش .. ما هي الخطة التي وضعت أم لم يكن هذا في الحسبان ؟
- ولما رآه إبراهيم الطيب يكابر ويكذب قال له في جرأة .
- كانت في الحسبان

- ويعود بسماجة وسخافة ليسأل نفس السؤال الذي يعرف إجابته :

- ما هي الترتيبات التي اتخذت لمواجهة القوات الإنجليزية باعتبار أنها قوات موجودة ويجوز أن تدخل ...
- الفكرة تعجيز القوات بقدر إمكانياتنا

- وإذا لم تتمكنوا بالأسلحة الفاسدة العاجزة والبنادق والبرن ؟

صحيح أسلحة يمكن تقتل وتغتال ولكن ما تنفعش في الميدان .. وهو يعلم علم اليقين أن الثورة لم تقم إلا بضمان من أمريكا وبريطانيا ولهذا تفصيل .

إبراهيم الطيب : كنا فاهمين باستمرار إن القوة الشعبية:

ويقاطعه كالعادة .
- مين اللي كان مفهمكم ؟ اتدور .
ويستدير إبراهيم الطيب رحمه الله ليواجه الناس .
- لف كمان شوية ... الناس دول هم القوة الشعبية .. لو طلعت تعرف واحد أو اثنين يبقي كويس .. للأسف المكان ما يساعش أكثر من كده .
- احنا كنا حقنا عملناها في ميدان الجمهورية ..

هذا أمر صعب !

أن تتم المحاكمة في ميدان الجمهورية

فيحتاج الأمر ضرب المتهمين والشهود يوميا في الاستراحة !

وليس مناسبا ضربهم في ميدان عام .

النظام الخاص يقوم على تحرير البلاد الإسلامية

ويحاول إبراهيم الطيب أن يخاطب الرأي العام من هذا المكان الضيق على قدر ما يستطيع فيقول :

- الفكرة إن كل رجل يسلح علشان كل إنسان يستطيع أن يتقدم للمعركة في أى بلد من البلاد التي تريد التحرر من الاستعمار زي الجزائر وتونس .. ده بالضبط اللي كنا فاهمينه .

- وبأستاذية كاذبة يرد عليه جمال سالم :

- وهل درستم تاريخ أو استعداد تلك الشعوب ؟ الجزائر مثلا فيها حركة قومية فهل عندها مصانع بتطلع لهم أسلحة وذخائر .. ولا فيه إمدادات وتموينات بتيجي لهم من جهة أخري ؟
- طبعا تموينات بسيطة .

- والغالبية ؟

- من الأعداء .
- يعني ( كلفتي ) يسرق منه ويحاربه .
- أيوه ..
- زي ما سرقتم من الإنجليزالأسلحة وجايين تحاربوا الحكومة ..

أبدا ..

- إنت قررت في آخر كلامك إن الجهاز السري لجماعة الإخوان كان للدفاع عن الدعوة في الجزائر أو تونس أو مصر ... فقلت لك اضرب لنا مثل عن كيفية الدفاع عن الدعوة في مصر ... وتدرجنا إلى الكلام شوية .. واعترفت بأن الغرض هو القيام بحركة شعبية مسلحة ضد الحكومة تستهدف الاستيلاء على البلاد .. تقدر تقول لنا بقي ما هو التناقض بين الفكرتين بالنسبة للهدف الذي تكون منه هذا الجهاز المسلح .. هل الغرضين هما الهدف منه .. وإلا كان واحد يقال في العلن وواحد يقال في السر !
- الغرض كان مواجهة القوات الأجنبية التي تعتدي على أرض الوطن مفيش شك.
- وصلنا إلى أن فيه جيش في البلاد بقيادتين مختلفين .. جيش علني .. وجيش سري بقيادة المحامي إبراهيم الطيب ورئيسه يوسف طلعت ..
- ده كله مجرد إعداد بس لقوة شعبية .

عبد القادر عودة لا يعرف

- شئ جميل .. في منتهي الجمال .. ذكرت في أقوالك إن لما كان الأستاذ عودة ... الأستاذ اللي بتشتغل معاه .. الأستاذ عودة المحامي , لما كان بيكلمك كنت بتأخد كلامه ثقة فهل بادلته الثقة بالثقة ؟
- لا شك في أن الثقة متبادلة .
- هل أطلعت عودة على الخطة بتاعت الجهاز السري .. الخطة بتاعت الحركة الشعبية والاغتيالات لجمال وأعضاء قيادة الثورة وبعض الضباط وتعضيد محمد نجيب لهذه الحركة الشعبية المسلحة .. المكونة من شعبية الإخوان المسلمين .. هل أطلعته على ذلك ..
- طبعا باعتباره ليس عضوا في اللجنة العليا لم يكن يعرف بها وأنا لم أطلعه عليها ..
- إذن لراجل كان بيبادلك ويحكي لك الأسرار .. وبتشتغل معاه ولا تبدله الثقة وتخبي بعض الأسرار عنه في نفسك ولا تعطيها له .. مع العلم بأنه من أعضاء مكتب الإرشاد .. ومسئول عن الإخوان المسلمين جميعا والأجهزة التي بها .. كيف لا تطلعه عليها ؟

- وقال إبراهيم الطيب :

- لعل السبب في ذلك أنه لم يكن تم انتخاب المكتب الجديد .. وإن دي مسألة مقررة في اللجنة العليا .
- ولاّ علشان تستعمله شوية وتغتاله راخر .. هل كان عودة يعلم بأن فيه نظام مسلح ؟
- ما افتكرش .
- كيف تفسر إذن قوله بأنه مستعد أن يخش واسطة خير بين الحكومة والإخوان على شرط أن تسلم الأسلحة بتاعت الجهاز السري وأن يحل هذا الجهاز .. كيف يقرر هذا وأنت بتشتغل معاه وموضع الثقة والسر بتاعه وما قلتش له على الجهاز إزاي يعرف وعرف منين ؟
- لازم اتصل فعلا ببعض أعضاء اللجنة العليا وعرف منهم .

- وزاد غيظ جمال سالم وبلغ مداه وقال مخاطبا إبراهيم الطيب :

- وأنتم الاتنين المسلمين ... المؤمنين اللي بتعملوا لدعوة الإسلام .. هو ينكر عليك .. وأنت تنكر عليه .. في إيه .. في الحاجة اللي لا يقرها الدين .. انتم الاتنين تنافقوا بعض .
- دي مسألة اختصاص .

- وهل كان ده من اختصاص المحاماة إنك تنظيم جهاز سري في القاهرة ؟

- لم يكن لى الأمر ..

- أمال أمر مين ؟

- اللجنة العليا .

- واللجنة أمرها مطاع عن الحكومة ؟

- لا .

- والحكومة مش قالت مفيش تنظيم سري أو سلاح ؟

- أنا ذكرت التبرير .

وبلغ الغيظ بجمال سالم منتهاه :

- آه .. بس كفاية لحسن دي بقت حكاية قديمة ومملة قوى لحسن إذا طلبت منك تعيدها حد يدعي علينا .. مين اللي ابتدأ بالعدوان والضرب .. هل تعتقد بأن الحكومة ... حكومة الثورة .. وأعضاء مجلس قيادة الثورة بجهاز المخابرات كله اللي لديها يقعدوا سنتين ونصف مش عارفين امتى اتكون الجهاز , وامتي أعيد تنظيم الجهاز .

وامتي اتسلح ؟

- اعتقد إنهم يعرفوا

- طيب إيه اللي سكتها عليكم ؟

- ما علمتش السبب إيه .

وعاد جمال سالم إلى حواري " زينهم " ودرب شكمبة" وبيع الكرشة عند المذبح , وطريقة بعض الذين كانوا يعملون في شارع كلوت بك في ذلك الوقت .. بالأسلوب نفسه موجها حديثه إلى إبراهيم الطيب :

- اصلنا خايفين منكم .. يا أمي .. ومع هذا تروحوا وتضعوا خطة الانقلاب وقيام الشعب الإخواني المسلح بمظاهرة مسلحة وتتصل بأحد رؤساء الفصائل ..

- هنداوي دوير ... وتقول له كلف واحد علشان يبدأ تنفيذ خطة الاغتيال في الوقت الذي يراه .. ويعتمد على نفسه .. كلفت مين؟

- ما كلفتوش لأننا لم ندخل في أى دور تنفيذي .

- ويهز رأسه يمنة ويسرة كما قلنا من قبل ويقول :

- آه
- بلهجة ممطوطة .. ثم يلتفت ناحية الادعاء .
- طيب هات لنا بقي هنداوي دوير .

- ويسرعون في تنفيذ طلبات ذلك لمخلوق ..

- ويتحول جمال سالم إلى إبراهيم الطيب مبكتا:

- نسف منشآت ومباني وطرق وقتال داخلي كان ضد مين ..؟

- كان ضد القوات الأجنبية
- وخطة الاغتيالات لأعضاء مجلس قيادة الثورة .. مبتدئين بجمال عبد الناصر والضباط الأحرار .
- يقينا لأ ..

- أمال خطة الاغتيالات ليه والثورة المسلحة ليه ؟

ولو كان الإخوان قد قاموا باغتيال هؤلاء الناس في ذلك الوقت وكان هذا ميسورا لأنقذوا عشرات الألوف من الجند الذين ماتوا بسبب هؤلاء الذين لم يتقدم أحد لقتلهم لأن القتل حرام ولابد أن يكون عن طريق ولي الأمر ...

حضر الشاهد هنداوي دوير

ونظر إليه جمال سالم طويلا مهددا منذرا .. بينما كان هنداوي يتحاشي النظر إلى إبراهيم الطيب ... وكان يبدو عليه الخجل والاضطراب .

وقال جمال سالم :

- يا هنداوي .. قررت في أقوالك واعترافاتك بأن إبراهيم الطيب جالك وأدلك أمر بخطة .. هذه الخطة تبدأ باغتيالات .. وادالك مسدس وكلفك بأنك تكلف محمود عبد اللطيف عشان يقتل جمال عبد الناصر .. وادالك حزام .. وقال لك اديله الحزام علشان يبقي ينفسه ويتنسف معاه .. وجاب لك واحد تاني اسمه نصيري .. وقال لك كلفه بنفس المأمورية .. وقل لهم يعتمدوا على أنفسهم في تتبعه .. هذه الجزئية جت في أقوالك واعترفت بها ولاّ لأ ؟

وقال هنداوي وهو في خزي :

_ أيوه ..
- نجب نسمع منك تاني الحكاية دي بأقوالك وألفاظك .

- هنداوي : حاضر يا افندم ..

وسكت برهة وعلى وجهه أمارات أسيفة ’ بينما كان إبراهيم الطيب يقف شامخا هادئا .. وجلس محمود عبد اللطيف في القفص كأنه في غيبوبة ليست على وجهه أية انفعالات .

ونظر جمال سالم إلى هنداوي مستحثا ومحذرا .. فازدرد ريقه وقال :

هنداوي : السيد إبراهيم الطيب جالي قبل الحادث بعشرة خمس عشر يوم ... وكان وقتها بيتصل بي تقريبا كل يوم .. وقال لى الخطة التي يتبعها النظام السري تبدأ أولا بالاعتداء على الرئيس جمال عبد الناصر وبالاعتداء على بعض حضرات أعضاء مجلس قيادة الثورة ..

وبعض الضباط الأحرار بكشف عندهم .. ونظرا لأن منطقة إمبابة ما فيهاش حد قال لى ملكش دعوة بالحتة دي .. وبعد كده جه ينفذ العملية وجاب طبنجه واداها لمحمود عبد اللطيف على أساس أن محمود يقوم بواجبه ... بمجهوده الشخصي .. وإن الواحد اللي له عدو يتتبعه لحد ما ينتهي منه . وجاب المسدس فسلمته لمحمود .

ويوم الحادث بالذات كان عندي اتين ونصف واتغدي , وأنا كنت أتغديت في البيت , وهو كان جه من غير غدا فجبت له غدا في أودة المكتب .

وسلمني حزام فيه لغم , وشرح لى طريقة استعماله ,وقال لى لما يرجع يبقي برضه يستعمله , وجاني نصيري وجاب لى طبنجة وقال لى اديها لنصيري,واعرض عليه الحزام والطبنجة , وحتى أنا أبديت اعتراضات على الحزام فكان رده أنه قال أنا دلوقت عندي اجتماع . وبعدين حابقي آجي آخده .

ولما عرضت الحزام على نصيري رفض .

وفضل الحزام عندي .

جمال سالم : إيه رأيك يا إبراهيم ؟

إبراهيم الطيب  : الكلام لم يحدث على هذا الوجه ... أنا كلمته على أساس عرض خطة عامة وتفاصيل على ألا يبدأ بأى عمل من الأعمال قبل تحرك قوات الجيش ضد القوات الشعبية .

جمال سالم : حصل وإلا محصلش ؟

إبراهيم الطيب : ما حصلش وأنا لم أسلم إليه إلا الحزام .

جمال سالم : ما سلمتوش الطبنجة ؟

إبراهيم الطيب : لأ .

جمال سالم : ما سلمتوش نصيري ؟

إبراهيم الطيب : أيوه ..

جمال سالم : ماحددتلوش محمود عبد اللطيف ليقوم بالحادث ؟

إبراهيم الطيب :لأ .

وكان هنداوي دوي مطرقا برأسه إلى الأرض بينما يحاول إبراهيم الطيب النظر إليه ورؤية وجهه , وهي ملحوظة رآها من حضر هذه الجلسة .

جمال سالم : شايف يا هنداوي الرئيس بتاعك بيحاول نفي التهمة عنه ازاي .

ولم يرد عليه هنداوي دوير الذي كان لا يزال مطرقا .

وقال جمال سالم مخاطبا هنداوي :

جمال سالم : قل لنا لما جالك محمود الحواتكي , وكان معاه عبد الفتاح القرشي وقال لك إنه سمع إن هذه الخطة بتاعت الاغتيالات وقيام الجهاز السري بحركة مسلحة ثورية , وإحداث انقلاب في البلاد قال لك أنا سمعت إن المرشد موافق عليها.

وبعدين لما جالك إبراهيم الطيب وحبيت تستفسر منه عن هذا الكلام .

ورفع هنداوي رأسه وتكلم بصوت خفيض :

هنداوي : بعدما جاءتني التعليمات من إبراهيم الطيب .. وأخذت منه الطبنجة قعدت في إيدي ساعة والا ساعة وربع , وسلمتها لمحمود عبد اللطيف على طول وبعدين جاني الأستاذ الحواتكي في زيارة عارضة , وقعد ثلث أو ربع ساعة , وقال لي بلغني أن الأستاذ المرشد غير موافق على هذا الاتجاه .

وقال لى حتى عبارة لا زلت أذكرها .

قال لى : لابد أن هناك هوى مطاع وشح متبع يعني فيه ناس بيتمسكوا برأيهم وأنا حامر على رؤساء المناطق وأحاول وقف مثل هذه الإجراءات في هذه الحالة أنا تذكرت محمود عبد اللطيف فقلت له أوقف وبطل .

جمال سالم : لقد قرر محمود هذا .

هنداوي دوير : وجاني إبراهيم تاني يوم مباشرة أو بعدها بيوم , فقلت له يا فلان الحواتكي قال كذا وكذا فاحنا مش عاوزين ندخل في هذا التيار فقال لى دول متصلين بالأستاذ البهي الخولي والجماعة المفصولين وعايزين يعطلوا شغلنا والأوامر دي صادرة من المرشد .

جمال سالم : مين ؟

هنداوي  : حسن الهضيبي

جمال سالم : الرئيس الأعلى ..

هنداوي ( مكملا ) للإخوان المسلمين والنظام السري .

إبراهيم الطيب : حصل فعلا ..ولكن بعد الاعتراض على الخطة والاستعدادات لم تكن تمت , ولم نعط أى أمر بالتنفيذ باعتبارها لم تتم ,والأجهزة غير مستعدة ولم يحصل أى تنفيذ حتى يتم الاستعداد كما سبق أن ذكرت .

وهذا يتفق مع ما قاله الحواتكي الكلام الذي قيل عن الهضيبي والذي قاله يوسف طلعت .

يوسف قال إن المرشد قال إن الإخوان مش مستعدين وفيه تنظيمات يحسن إننا ما نبدأش إلا بعد الانتهاء من الإعداد والتجهيز .

جمال سالم : والله .

إبراهيم الطيب : أيوه

جمال سالم : لا يا شيخ

إبراهيم الطيب : أيوه.

جمال سالم : يعني كل الكلام اللي قلته من الصبح لغاية ثلاثة ونصف نعيده لك من تاني .

الكلام الذي قاله من الصبح حتى ثلاثة ونصف لا علاقة له بالموضوع !

هنداوي : يوم الثلاث كان عندي ولما قلت له إن محمود عبد اللطيف سافر إلى الإسكندرية قال لى ليه.

إبراهيم الطيب : احنا فوجئنا بهذا التكليف من الأستاذ هنداوي دوير ودهشنا له .

هنداوي : سبحان الله .

والتفت جمال سالم إلى إبراهيم الطيب :

لذلك رحت هربان .

إبراهيم الطيب : أنا ما هربتش إلا بعد اعتقال الأستاذ عبد القادر عودة .

جمال سالم : وهربت ليه ؟ الظاهر إن له دخل كبير قوي في الموضوع

اضطراب هنداوي أمام الطيب

تهديد ووعيد ظاهر للعيان !!

يتحدث حديث الجلاد ليست به لهجة القاضي .

يتوعده هو وعبد القادر عوده .

مهزلة صاخبة ضاعت فيها معالم الحق وبرز الباطل .

وعلى هذا الأساس كان يرد عليه إبراهيم الطيب .

إبراهيم الطيب : باعتبار إنه معايا في المكتب أنا خشيت أن أعتقل .

جمال سالم : إيه رأيك في الأقوال دي يا هنداوي ؟

وكان هنداوي دوير يبدو مضطربا لا يكاد ينظر ناحية إبراهيم الطيب ..

هل لأن إبراهيم الطيب أكثر ثباتا منه أمام الجلادين ؟

هل لأنه رآه وهو يضرب أثناء الاستراحة وهو رئيسه القديم ؟

هل لأنه عومل برفق ولم يفعلوا ذلك مع الطيب ؟

ورد هنداوي في شئ من الحرج .

هنداوي : أنا قلت الحق ويؤسفني أن ينكر جزءا من أقوالي.

جمال سالم : شفت الإسلام .

هنداوي : ( في صوت خفيض ) إن الإسلام لا يجيز الكذب على أى حال .

جمال سالم : شفت دعوة الإخوان المسلمين .

هنداوي : أنا أتقدم برجاء .

محمود عبد اللطيف يتكلم

ولم يهتم به جمال سالم وبرجائه , والتفت ناحية محمود عبد اللطيف , وقال :

جمال سالم : قل لنا يا محمود إيه اللي حصل .

واتجهت الأنظار ناحية محمود عبد اللطيف الصامت وقال :

محمود عبد اللطيف  : اللي حصل إن هنداوي دوير قبل الحادث بأربعة أيام أو خمسة كان لسة ما ادانيش الطبنجة قال لى أوقف يا محمود .. وأنا كنت باستطلع وقتها بس .. فوقفت وما طلعتش .. وبعدين بعدها قال لى امشي زي ما أنت في طريقك .

جمال سالم : طريقك اللي هو إيه ؟

محمود عبد اللطيف : دراسة طريقة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر .. وقبل الحادث يوم الاثنين بالليل الساعة الثانية عشر ونصف رحت له البيت ...وأخبرته بالحكاية بتاعت جريدة القاهرة.. ولما قلت له كده .. تردد برهة بسيطة وقال لى طيب سافر الصبح .. مش عايز فلوس .. فقلت له عايز فلوس طبعا ..

اديني خمسة جنيه .

جمال سالم : وأخذت الطبنجة من مين ؟

محمود عبد اللطيف : من هنداوي يا أفندم .

جمال سالم : والرياسات اللي فوق هنداوي ؟

محمود عبد اللطيف : أنا أعرف إبراهيم الطيب .. ما اعرفش غيره.

وكانت الطبنجة أمام جمال سالم على المنصة فأمسك بها .

جمال سالم : والطبنجة دي اللي أعطاها لك ؟

محمود عبد اللطيف : ( من على بعد دون أن يتأملها ) أيوه .

جمال سالم ( وهو يناولها لأحد الصولات ) شوفها كده .. والا استنى لتكون مليانة .

ويتأكد جمال سالم أنها فارغة , ويذهب الصول ناحية محمود عبد اللطيف وهي في يده ويهز محمود عبد اللطيف رأسه موافقا دون أن يفحصها أو حتى ينظر إليها بينما يداعب جمال سالم هنداوي دوير .

جمال سالم : تحب تلمسها تاني .

هنداوي: أرجو إن شاء الله متحصلش حاجة زي كده .

ويعود الصول بالطبنجة إلى جمال سالم الذي يوجه حديثه إلى إبراهيم الطيب وقد أمسك بالطبنجة كأنه يوشك أن يطلق منها الرصاص عليه .

جمال سالم : هي دي الطبنجة .

إبراهيم الطيب : أنا لم أسلمه هذه الطبنجة إطلاقا .

جمال سالم : ( ساخرا ) تشتريها بكام ؟

إبراهيم الطيب : أنا متأكد يا افندم من كلامي .

جمال سالم : إيه رأيك يا هنداوي

هنداوي : والله الإنكار دهم لهوش داعي لأن الأمور لا تؤخذ بهذه الصورة وإذا كان الإنسان أخطأ يجب يتحمل نتيجة خطئه .

ازدياد شعبية عبد الناصر بعد التمثيلية

ويبدو أن جمال سالم لم يستطع المضي قدما في الاستجواب عند هذه النقطة قبل أن يبدأ غيره بالتسخين فهو أحد الذين يعرفون سر هذا الحادث الذي وقع في المنشية , ويعرف تلفيقه وترتيبه وربما شعر بالندم لنتيجته على شعبية عبد الناصر التي جاوزت عنان السماء .

فقبل الحادث كان الناس لا يستلطفونه ,وإذا أراد الحديث إليهم صاحوا : نريد نجيب ... نريد نجيب .. وعندما كانوا يقاطعونه كان وجهه يزداد جهامة وقتامة فيباعد ما بينه وبين الناس ... ولم يكن يفهم هذه الأشياء حتى شرحها له الخبراء من الأمريكان .

وبعد الحادث شق طريقه بين الناس بصعوبة بالغة فقد تعاطف الجميع معه وهذه هي نفسية الجماهير وصار زعيما بحق , الكل يحاول أن يقبله ويحتضنه ويهتف باسمه .. ولمع بعد عودته من الإسكندرية .

ولعل جمال سالم كان يفكر في كل هذه الأمور وهو جالس على منصة القضاء الزائف في مبني مجلس قيادة الثورة , ولعله كان يري أن الطريق صار صعبا في القضاء على عبد الناصر وهو – جمال سالم – كان قاب قوسين أو أدني من زعامة المجلس , وأوشك أن يجري انتخابات للرئاسة يفوز فيها ويصبح زعيما لمصر ..

وكان يظن أن صلته الوطيدة بالأمريكان سوف تمكنه من ذلك .. ولم يكن يعرف أن لكل حجمه عندهم ,,, وأنهم ليسوا على استعداد لبدء القصة من أولها , ولعله لم يكن يعرف أن الأمريكان يرتبون لزعامة عبد الناصر المطلقة ويوحون إليه ويساعدونه في الخلص من كل زملائه تمهيدا لتغيرات كبري في المنطقة العربية.

ولكنه لم ييأس فهو يري نفسه أكبر وأعظم من عبد الناصر , وهو يستطيع أن يواجه الجماهير وهو شديد الجرأة عليها ويضرب العظماء بالشلوت فهو مؤهل للزعامة , أما عبد الناصر فقد كان يحمل بين جنبيه قلب فأر , والملتقى معه قريب ,ولكن نفرغ من الإخوان أولا ..

وصار جمال سالم يراقب الحوار حينا ويشرد بفكره حينا آخر ..

حوار مع محمود عبد اللطيف

ووجه وكيل النائب العام سؤالا لمحمود عبد اللطيف في حضور كل الأطراف ..

- أجاب محمود عبد اللطيف في صوت خفيض :
- أثناء الاتفاق مشفتهوش.
  • - وقبلها شفته؟
- أيوه يا أفندم .
  • - قبلها قد إيه ؟
- عشر خمس عشر يوما .
  • - حدث كلام بينك وبينه ولا هو اتكلم مع غيرك حديث وأنت سمعته ؟
- حصل بيني وبينه حديث في منزل هنداوي .. قعدنا شوية وبعدين هنداوي قال أخوك إبراهيم الطيب .. وعرفني بيه وقال حيفوت عليك في الدكان .
  • - وهل هو فات عليك ؟
- حاقول .. مع أني لم أذكر ده في التحقيق القديم لأني ما كنتش أردت .
  • - وهنا تحفز جمال سالم واعتدل في جلسته وألقي إليه نظرة صارمة انطلقت إليه عبر القاعة كأنها شهاب نار , التفت إليه كل من بالمكان وقال محمود عبد اللطيف :
- الحكاية إن علشان خاطر هنداوي يسلمني أنا وسعد حجاجلإبراهيم الطيب , وإبراهيم الطيب قعد معنا في بيت هنداوي .. وقعدنا نتكلم شوية في حكاية الجهاد وما شابه ذلك .. وبعد كده إبراهيم الطيب قال حافوت عليك في الدكان أنا عارفه .
- وهو سبق إني شفته جاني في الدكان مرة ... بعد كده اتصل بي بعد يومين إبراهيم الطيب في الدكان وقال حضّر سعد النهارده الساعة 6 .. هو كان اتصل بي قبل الظهر أو بعد صلاة الجمعة وقال لى عايزك أنت وسعد حجاجاليوم الساعة 6 .. بدءا من الساعة 6 ... قلت له طيب .

سعد حجاجفي بشتيل وأنا في إمبابة.

بعدما صليت الجمعة رحت لسعد حجاجالساعة اتنين في البيت وأخبرته بالاجتماع قال لى طيب .. وجاني حوالي الساعة ستة وقعد عندي من الساعة ستة وصلينا المغرب وقعدنا لغاية سبعة إلا عشرة .. وجاء إبراهيم الطيب وقال احنا عاوزين نقعد في حتة.

فيه مكان ؟ .. قلت له في البيت فيه مكان ... قال نروح البيت .

مشينا احنا الثلاثة .. أنا وسعد حجاجوإبراهيم الطيب .

وقلت لهم عن إذنكم لما أوسع لكم السكة لأني ما عنديش إلا أودة واحدة وقلت انحي الجماعة بتوعي عن الطريق .

طلعت فوق وفضيت السكة ونزلت لقيت الاتنين ثلاثة .

استعجبت ده جه منين ؟! الطيب قال لى ده معانا مفيش حاجة .

قلت مادام مفيش حاجة خلاص وطلعت وقعدنا احنا الأربعة وعملنا تعارف .

أنا قلت أنا اسمي محمود عبد اللطيف وسعد حجاجوإبراهيم الطيب ولغاية الرابع إبراهيم الطيب قال ده تعرفوه بتوفيق .

وقال ده حيكون مندوب القيادة لكم واللي يقول لكم عليه تنفذوه .

قلنا حاضر مع السمع والطاعة .

وكان أى أمر أو أى حاجة نسمعها من الإخوان المسلمين نسمعها على إنها حاجة خاصة وطاعة الإخوان من طاعة الله .

دي اللي كنا باعتقادنا لها كنا ماشيين وراها نسلم بكل شئ .

وانتهي كلام محمود عبد اللطيف .

ونظر وكيل النائب العام ناحية جمال سالم فوجده ليست لديه رغبة للتعليق فاستمر.

وكيل النائب العام : حصل بينك وبين إبراهيم الطيب أكثر من مقابلة وراح عندك البيت .

محمود عبد اللطيف : أيوه يا افندم

وكيل النائب العام : إبراهيم الطيب أنكر أنه راح عندك البيت .

واندفع إبراهيم الطيب مصححا :

أنا قلت : أنا كنت بازور الإخوان في بيتهم يا بيه

واستفاق جمال سالم ليقول عبارة صارخة :

- الثورة ألغت كلمة بيه من الأول خالص .

وسكتت القاعة قليلا في انتظار أن يستمر جمال سالم في الزعيق ولكنه اعتمد رأسه بين يديه يفكر في جمال عبد الناصر الذي يستمع الآن إلى ما يدور في هذه القاعة من غرفة بأعلى هو وبعض الأوغاد مثل ... وكانوا قد أعدوا دائرة لتوصل له كل ما يدور من مناقشات ومحاورات .

يبدو أن لا فائدة فكل الأمور تسير لصالحه .. حتى الصنمان اللذان يجلسان عن يمين وشمال صارا يعاملانه معاملة خاصة تتسم بالتوقير الشديد والمبالغة في الاحترام وهاجت الأفكار في رأسه ساعتها .

وانتفض واقفا ووقف كل من في القاعة وظنوا أنه يرفع الجلسة .

ولكن جمال سالم تذكر الموقف الذي هو فيه فجلس وجلسوا .

وظن بعض من حضروا هذه الجلسة أنه قد قام ليضرب إبراهيم الطيب فقد كان يضربه بنفسه منذ ساعتين .. وهكذا حكى بعضهم .

واستمرت إجراءات الاستجواب ..

بين هنداوي والطيب

وسأل وكيل النائب العام إبراهيم الطيب :

- مين قدم نصيري لهنداوي ؟

- رئيس المنطقة بتاعته .

والتفت وكيل النائب العام إلى هنداوي :

- يا هنداوي .. مين قدمه لك ؟

- هنداوي : إبراهيم الطيب هو اللي بعته .

وتدخل جمال سالم موجها حديثه لإبراهيم الطيب :

- انت اللي بعته ؟

إبراهيم الطيب : أنا لم أتصل به .. كنت عادة لا أتصل برؤساء المناطق

جمال سالم : أنت رحت لمحمود في البيت ؟

وتجاهل إبراهيم هذا السؤال أو لم ينتبه له وقال :

إبراهيم الطيب : التكليف يكون عن طريق رئيس المنطقة .

جمال سالم  : انت قلت لرئيس المنطقة يكلف ؟

إبراهيم الطيب : هو أتي يا افندم .. ونصيري طلب الانضمام .

وبسخرية وسوقية وابتذال قال جمال سالم:

- ليه ؟ بيحب هنداوي ؟

إبراهيم الطيب : كان مطلوب لاعتقاله في الجامعة .

وكيل النائب العام : وإيه دخل بين السرايات وامبابة .

وتدخل جمال سالم وقال بلهجة من يعلم وكيل النائب العام ويفهمه :

- علشان يكون العمل بعيد عن المنطقة .. أنت عايز الشاهد ؟

وكانت اللهجة جافة فارتبك وكيل النائب العام وسكت الكل وقطع الصمت صوت هنداوي الذي لم يدعه أحد إلى الكلام :

- هو جاب لى الطبنجة الثانية واللغم والمدفعين على أنهم يشتركوا هو ومحمود ,أنا أقول لله يا سيدي الرئيس إن سعد لم ينضم يقصد سعد حجاج.
وبدت الحكاية مملة , وبدا السأم على الجميع فالكل عليه أن يلف ويدور بعيدا عن واقعة الضرب نفسها فهم يقولون ما يشاءون ولكنه بعد فترة يصير كلاما مكررا ممجوجا .
وهناك هدف إعلامي ساذج من وراء هذه المحاكمة , قام برسمه خبراء عالميون وقام بتنفيذه هؤلاء الهواة فبدا العرض رديئا .
وقطع الصمت قول جمال سالم .

- إيه حكاية المدفعين .. جنسهم إيه ؟

- هنداوي : ما اعرفش والله ... إبراهيم سلمهم لى على أساس إن محمود عبد اللطيف ونصيري يعملوا كمين يراقبوا ركب الرئيس .

وكيل النائب العام : ينكر إبراهيم أنه كان أعطاك تعليمات ..

هنداوي : سبحان الله .

إبراهيم الطيب : أنا قلت تعليمات بس ( الحقيقة لم أفهم هذه العبارة ..)

جمال سالم : هو أعطاك تعليمات الخطة لاغتيال الرئيس جمال وأعضاء رجال الثورة والضباط وسألته عن اللي في منطقته .

وكان نصف الكلام موجها إلى هنداوي والنصف الثاني إلى إبراهيم الطيب .

وسارع هنداوي بالكلام :

- هو متأكد إن ما فيش في إمبابة يا أفندم .

مخابرات الإخوان

وتوجه جمال سالم إلى إبراهيم الطيب وسأله :

  • - تعرف يحيي سعيد ؟

إبراهيم الطيب : أيوه.

جمال سالم : بيشتغل إيه ؟

إبراهيم الطيب : أظن في مصلحة التنظيم

جمال سالم : الشغلة الأساسية .

إبراهيم الطيب : في مخابرات إمبابة.

جمال سالم : كان رئيس جماعة المخابرات ؟

إبراهيم الطيب : أيوه .. كان هنداوي مرشحه

جمال سالم : والتقيت به ؟

إبراهيم الطيب : أيوه....

جمال سالم : فين ؟

إبراهيم الطيب : شفته في شارع العباسية .

جمال سالم : في الشارع فقط ؟

إبراهيم الطيب : كان فيه لقاء .

جمال سالم : في الشارع على التلتوار ؟

إبراهيم الطيب :لا .. في مسجد .

جمال سالم : كان فيه اجتماع ؟

إبراهيم الطيب : أيوه .

جمال سالم : كان على أساس إيه ؟

إبراهيم الطيب : كان يتصل ببعض الإخوان اللي بيشتغلوا في قسم المخابرات .

جمال سالم : هو قال إنه قابلك في بيت كان فيه عبد المنعم عبد الرؤوف وكان بيشرح تكتيك بعيدان السجاير ( يقصد عيدان الكبريت ...)

إبراهيم الطيب : لا يا افندم أبدا ..

وحدجه جمال سالم بنظرة قاسية متوعدة والتفت ناحية( النياباتية ) وقال :

- الادعاء عايز هنداوي ؟

وكيل النائب العام : لا

والتفت جمال سالم : المرافعة عايزاه ؟

الدفاع : لأيا أفندم .

جمال سالم : متشكرين يا هنداوي اتفضل .

هنداوي : لى رجاء ألتمسه من المحكمة .

جمال سالم : مش وقت الالتماسات دلوقت .

وخرج هنداوي من القاعة فقد كان مطلوبا بحساب ويتكلم بحساب وتحت السيطرة الكاملة , وهذا ما لاحظه الذين حضروا المحاكمة , وهذا ما يتضح من مضبطة المحكمة التي بين أيدينا فكلامه في حدود لا ينبغي أن يتخطاها ولا أدري كيف استطاعوا رسم هذا بشكل دقيق على نحو ما .

الإخوان والحكومة الإسلامية

ويعود جمال سالم لتكراره الممجوج موجها حديثه لإبراهيم الطيب, ويبدو أن جمال سالم لم يع الدرس الإعلامي الذي لقنه واعتمد على كفاءته في ظنه فجاء أداؤه سخيفا يثير الضحك , ولكن كل يضحك في أعماقه أو عندما ينقلب إلى أهله ويحكي لهم وقائع ما جري في هذه الأيام العصيبة لغيرهم .

وكأبي قردان صار جمال سالم يهز رأسه وهو يخاطب الشهيد إبراهيم الطيب :

- لما كنت تغتال الحكومة الموجودة والإخوان المسلمين هم اللي يتغلبوا .. ما نوع الحكومة التي ستقام في البلد ؟.... وما هي الخطة ؟

إبراهيم الطيب يرد بهدوء :

- فهمت من الإخوان المسلمين .
- يقاطعه جمال سالم سريعا .

- من مين ؟

- فضيلة الشيخ فرغلي ويوسف طلعت .. إن الإخوان ليس من أغراضهم الحكم بأي حال .
وازداد هز جمال سالم لرأسه وهو يقول منغما كلامه غير آبه بالموجودين أو احترام المحكمة المفترض :

- وازاي الحكومة اللي كانت حتيجي ؟

- وبشجاعة ووضوح قال إبراهيم الطيب :

دي كان بيتولاها طبعا الرئيس محمد نجيب نفسه .

وكاد جمال سالم ينشق من الغيظ , ورغم كل ما فعله مع إبراهيم الطيب فلم ينفذ إلى روحه وكبريائه أبدا .. أهانه وضربه وعذبه فلا فائدة .

جمال سالم : وما هي الخطة اللي تمليها على هذه الحكومة للسير عليها ؟

إبراهيم الطيب : لا توجد خطة مطلقا ..

جمال سالم : ما الفرق بين الحكومة التي يتولاها محمد نجيب والحكومة الحاضرة ما دام ليس هناك خطة ؟

إبراهيم الطيب : اللي قيل إن اللواء محمد نجيب كان يريد أن يحقق المطالب اللي شرحتها من قبل .

جمال سالم : ديكتاتورية الإخوان المسلمين ؟

إبراهيم الطيب : الهدف اللي سيادتك أشرت إليه في الخطاب بتاعه .

جمال سالم : نفس الخطة موجودة في الديكتاتورية المستترة للإخوان المسلمين في الجهاز السري .

إبراهيم الطيب : لم أفهم إطلاقا أن من هدفهم الوصول إلى الحكم .

جمال سالم : أبدا ؟ وللا يجب وجود حكومة إسلامية ؟ وللا الحكم بالإسلام ؟

إبراهيم الطيب : لازم يكون فيه تفاهم بين الحكومة والإخوان لتحقيق حكومة إسلامية .

جمال سالم : ما هي الخطط والنقط التي تسير عليها الحكومة علشان تحقق حكم الإسلام ؟

إبراهيم الطيب : لم تكن محددة .

جمال سالم : ويحصل عليها الخلاف بعد قيام الحكومة ؟

جمال سالم : محمد نجيب يخضع لأى تصرف تقولوه له ؟

إبراهيم الطيب : لا أعلم ولا يصل إلى علمي أى شئ يتعلق بهذا الاحتمال .

جمال سالم : معناه أنكم واثقين إن محمد نجيب على رأس الحكومة سوف يطيع كل ما يطلب من الحكومة لتحقيق حكومة إسلامية ؟

إبراهيم الطيب : ما اقدرش أقطع بهذا .

وحبست القاعة أنفاسها إعجابا بإبراهيم الطيب بينما الغيظ قد بلغ مداه بجمال سالم , وقيل إن عبد الناصر الذي كان يستمع هو وزكريا محيي الدين في غرفة أخري لتفاصيل ما يدور عبر الميكروفونات قال :" الواد ده لازم يموت " وانفجر جمال سالم في إبراهيم الطيب .

- أمال تقدر تقطع بإيه ؟ تقدر تقطع بأنك تعرف هنداوي ؟

- ولم يرد عليه إبراهيم وصار جمال سالم يحدق فيه قليلا ثم التفت ناحية الدفاع :

- اتفضل يا سيدي الدفاع .

مكتب الإرشاد والنظام الخاص

قال الدفاع بتؤده موجها سؤاله لإبراهيم الطيب :

الدفاع : ذكرت بصدد تعرفك على محمود عبد اللطيف روايتين إحداهما صحيحة على لسانك والثانية على لسان محمود عبد اللطيف .. أيهما صحيحة ؟

إبراهيم الطيب : الروايتان صحيحتان وأنا مقرهاتين الروايتين .. وسبق أني زرت كثيرا من الإخوان في منازلهم وتحدثت معهم في شئون عامة كما ذكر محمود عبد اللطيف .

الدفاع : قلت إن الجهاز السري خاضع لمجلس أعلي سميت أعضاءه . هل هذا الجهاز الأعلى خاضع لتوجيه معين أم مستقبل في توجيهه ؟

إبراهيم الطيب : لا اعتقد أنه يخضع لأى توجيه آخر .

الدفاع : بعبارة أصرح ..

وهنا تدخل جمال سالم :

- وكيف كان ذلك ؟

- إبراهيم الطيب : باعتباره أنه المهيمن ليس هناك سلطة أخري .

- جمال سالم : ولا مكتب الإرشاد ؟

إبراهيم الطيب : مكتب الإرشاد لم يكن يتعرض لمثل هذه المسائل لأنها كانت تفهم على أساس المعمول به من أيام الشيخ حسن البنا فكان ليس له أن يتدخل في المسائل التي تعتبر مش من اختصاصه .

جمال سالم : ولو أن هذا الجهاز السري جزء من جماعة الإخوان ؟

إبراهيم الطيب : أيوه صح .

جمال سالم : وكان برياسة حسن البنا ؟

إبراهيم الطيب وظل برياسته وبعدين الأستاذ الهضيبي .

جمال سالم : أمره هو النافذ ؟

إبراهيم الطيب : مع أعضاء اللجنة .

جمال سالم : اللجنة الخماسية واللي يمكن تكون سداسية ؟

إبراهيم الطيب : جايز قوي .

جمال سالم : بانضمام عبد الرءوف تبقي سداسية ؟

إبراهيم الطيب : أيوه .

جمال سالم : دول مستقلين تمام الاستقلال عن مكتب الإرشاد ؟

إبراهيم الطيب : أيوه .

جمال سالم : كيف يكون ذلك مع أنه جزء من جماعة الإخوان ؟

إبراهيم الطيب : مكتب الإرشاد لم يكن يعلم تفاصيل هذا الجهاز من أيام حسن البنا .

جمال سالم: هل هذا هو النظام الإسلامي الذي تريد تنفيذه في البلاد ؟

إبراهيم الطيب : لذلك رئي أنه يجب أن يتم تعديل القانون لكي يكون مكتب الإرشاد هو المهيمن على كل شئ .

جمال سالم: وهل عدل هذا القانون ؟

إبراهيم الطيب : عدل ولكن لم ينفذ ..

جمال سالم : موقوف .. هل هذا التعديل فيه نص كما قلنا في الصباح .. ماذا تنص على أن مكتب الإرشاد له الإشراف على الجهاز السري .

إبراهيم الطيب : بهذه الألفاظ لا .

جمال سالم : أمال بأى ألفاظ ؟

إبراهيم الطيب : حسب الواقع مكتب الإرشاد لا..

جمال سالم : ( مقاطعا ) الواقع أن المرشد متصل بالجهاز السري 24 قيراط ... إزاي الحكم الواقع من غير النص ؟

إبراهيم الطيب : لو حصل تعديل القانون .

جمال سالم : ومكنتوش ناويين تعدلوا القانون ؟

إبراهيم الطيب : اتعدل ولكن لم ينفذ .

جمال سالم : هل نص في القانون بعد التعديل أن يكون لمكتب الإرشاد الإشراف على الجهاز السري ؟

إبراهيم الطيب : مذكور في القانون إن هناك قسم الرياضة والتدريب العسكري وده يطلق علي النظام فيما يتعلق بالتعبير عنه في الأوراق .

الحكومة هي التي قتلت السيد فايز!

جمال سالم : ( ساخرا ) لما تحب تشنكل واحد وتدخله الجنة تقوله له تعالي في التدريب العسكري والرياضة ؟ لغاية ما يدخل الشبكة وأن جه يطلع .. فايز ؟

إبراهيم الطيب : أنا أعتقد أنه اعتدي عليه من خارج جماعة الإخوان .

جمال سالم : ماتكونش الحكومة ؟

إبراهيم الطيب : ما اقدرش اتكلم عن الاحتمال ده .

جمال سالم : يعني بعيد عن مخك؟

إبراهيم الطيب : إن بعض الظن إثم .

ويهز جمال سالم رأسه وينظر إلى إبراهيم الطيب الذي يطيل النظر إليه هو الآخر فقد كان كل منهما يفهم الآخر وهما الاثنان يعرفان كيف تدور هذه اللعبة ويشير جمال سالم بيده للدفاع فيقوم ليتكلم :

الدفاع : هل تعتبر الجهاز السري جزءا مهما من الإخوان أم أنه نظام عارض ؟

إبراهيم الطيب : أحب أن أقرر أن الجهاز السري ليس سريا بالمعني الذي ذكرته حضرتك ولكنه موجود في جميع المناطق الخاصة بالإخوان .

وتبدو العصبية على المحامي وتظهر علامات الغضب على وجهه ويقول :

الدفاع : هل هذا الجهاز تعتبره – أيا كان – سريا أو غير سري .. الجهاز اللي كنت عارفه وأنا عارفه .. هل هذا الجهاز جزء مهم من رسالة الإخوان وألا عمل عارض ؟

إبراهيم الطيب : جزء من عمل الإخوان وأساس أن يقوم الإخوان بالإعداد والتجهيز والتنظيم والتدريب .

الإخوان يدافعون عن المغرب العربي

الدفاع : وأعلي هيئة تشرف على الإخوان هي إيه ؟

إبراهيم الطيب : (مستاء ) سبق أن ذكرت هذا ..

جمال سالم : ( غاضبا ) قوله تاني وثالث ورابع وخامس وسادس ..

إبراهيم الطيب : ( هادئا ) مكتب الإرشاد.

الدفاع : هل من المنطق ؟ - ومن حقي أنا أطالبك بالمنطق – أن يستبعد أضخم جهاز في الإخوان – كما قررت – عن رقابة أعلي هيئة في الإخوان .

إبراهيم الطيب : الواقع أن أعضاء اللجنة العليا ينتدبون من مكتب الإرشاد ولكن في نطاق ضيق .

جمال سالم ( متدخلا ) من ينتدبهم ؟

إبراهيم الطيب : المرشد .

الدفاع: بموافقة مكتب الإرشاد ؟

إبراهيم الطيب : لا . بموافقة الأعضاء المكتسبين ثقة إخوانهم .

الدفاع : هل أعضاء مجلس الإرشاد يعرفون نشاط أضخم وأكبر جهاز أم أنهم جهلة به ؟

جمال سالم : ( مستخفا دمه وساخرا ) هم عارفين إنه تدريب عسكري ورياضة ونط حبل

الدفاع : هل حدث أن اختلف أعضاء مجلس الإرشاد مرة حول ضرورة أو عدم ضرورة وجود هذا الجهاز ؟

إبراهيم الطيب : لم يبلغ إلي علمي شئ من هذا .

الدفاع : يعني تعرف أن أعضاء مجلس الإرشاد لم يختلفوا حول ضرورة أو عدم ضرورة الجهاز ؟ حقيقة متفق عليها ؟

إبراهيم الطيب : لا أعلم بهذا .

الدفاع: ( متوجها إلى جمال سالم ) من باب المعرفة لو سمح الرئيس ( يهز جمال سالم رأسه موافقا ) كيف يتأتي لهذا الجهاز أداء دوره في حماية الإسلام في مراكش وتونس والجزائر ؟ وما الطريقة العملية لذلك .

ويبدو أن أحد الجالسين الذين أصابهم الملل من المخبرين كان يريد أن يصرخ بأعلى صوته لهم : يا خلق يا هوه .. القضية هي محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في المنشية , ولكن خاف من جمال سالم فسكت وظل يستمع .

وقال إبراهيم الطيب الذي كان بطل هذا اليوم بحق :

إبراهيم الطيب : اللي حصل قبل هذا كان في حرب فلسطين .

تقدم كثير من المتطوعين من الإخوان ودخلوا البلاد بمساعدة الحكومة اللي كانت قائمة حينئذ .

جمال سالم : ( بسماجة ) أى بلاد ؟

إبراهيم الطيب : ( هادئا ) فلسطين .

الدفاع : أنا أقصد الجزائر وتونس لأن الحكومة نفسها حاربت في فلسطين .. إيه الوسائل العملية ؟

وهنا قاطعه جمال سالم وشخط فيه قائلا :

جمال سالم : إنت طول الوقت تتكلم عن الإخوان والحكومة .. ضرتين رأسهم برأس بعض .. قد بعض ... تتكلم عن إيه ؟ إنجلترا وأمريكا ؟

ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية ؟ إيه ؟ حكومة داخل حكومة ؟

وخيم الصمت قليلا حتى هدأ جمال سالم وهو يهدأ بسرعة شأنه شأن الحمقي والمغفلين فقد قرأت كتابا تحت هذا العنوان " أخبار الحمقي والمغفلين " ومعظم النماذج التي ساقها مؤلف الكتاب شديدة الشبه بصاحبنا " جمال سالم وولده رئيس وصاحب محكمة الشعب لتفصيل الأحكام للقضايا المفبركة "

وكان إبراهيم الطيب رحمة الله قد ازداد بهذا المخلوق خبرة وصار به عليما , لهذا استمر في الكلام بعد هذه السكتة :

إبراهيم الطيب : الحكومة اللي تتقدم لمساعدة الجزائر قد تحدث أزمات دبلوماسية مع بلاد آخري .

جمال سالم : ( شاخرا ) آه .. ده المكتب القانوني .

إبراهيم الطيب : دي مسائل مقررة ومفهومة .

جمال سالم : من قررها؟

إبراهيم الطيب : ( وهو يخفي سخريته ) أنا فهمت ذلك .

جمال سالم : من مين ؟

إبراهيم الطيب ( مبتسما لأول مرة ) من اللجنة العليا.

إبراهيم الطيب يغالب الضحك !

ولم يفهم النكتة جمال سالم وقال :

جمال سالم : الحكومة بتاعتك اللجنة العليا ؟ .. تأخذ منها قرارتك وتصرفاتك وتشريعاتك ؟ ما تترافعش في المحاكم مع موكليك بالقانون اللي واضعاه اللجنة العليا ؟

وأخبرني أحد الذين شهدوا هذا اليوم أن إبراهيم الطيب رغم ما كان فيه من إرهاق وألم من التعذيب كاد ينفجر ضاحكا من جهل القاضي , ورفع يده إلى فمه يتظاهر بأنه يحك ذقنه ليخفي ضحكات كادت تجلجل في القاعة ... ثم تظاهر بالجد مرة أخري وقال :

إبراهيم الطيب : اللي أعلمه أنه في كثير من الحالات يستحيل على الحكومة أن تقوم بعمل لمساعدة أى بلد من البلاد الإسلامية .

جمال سالم ( في حماقة ) من اللي يري ذلك ؟ الدولة اللي تري .. لما أنت تري لوحدك تنك ماشي تروح تتطوع .. تأخذ فيزا وباسبورت وتسافر .. صح ؟

إبراهيم الطيب : ( وهو يكتم الضحك) مضبوط... كلام سيادتك صح .

وقد لاحظ الدفاع حمق المحكمة وجهل القاضي وثقافة المتهم الشاهد , فحياة بإيماءة من عينيه معجبا به وهو يسأله :

الدفاع : الوسيلة العملية اللي يؤدي بها هذا الجهاز دوره لحماية مراكش والجزائر هي إيه ؟

إبراهيم الطيب : تروح الأفراد المستعدة لهذا .

وأشار إبراهيم الطيب للدفاع برأسه ناحية جمال سالم , يعني هذا هو رأي المحكمة كما رأيت بنفسك وسمعت وتجاهل الدفاع الإشارة خوفا من المحكمة .

الدفاع : هل يمكن ترحيلهم عن طريق غير الحكومة ؟

إبراهيم الطيب : لازم موافقتها .

الدفاع : إذا رأت الحكومة... هل هي أقدر أم الإخوان ؟

إبراهيم الطيب  : ذكرت أنها لا تستطيع لما قد يحدث من أزمات دبلوماسية .

جمال سالم  : وإذا منعت الحكومة من إرسالها جيش الإخوان يقوم ؟

إبراهيم الطيب ( وهو يغالب الضحك ) أبدا ..

وكان كحوار الطرشان .. جلسة للحوار يرأسها أحمق !

لولا الهلافيت لما نجح الانقلاب

وكان جمال سالم كالراديو الخربان الذي اختلطت موجاته فبينما تسمع لندن إذا بك تجد محطة مونت كارلو قد دخلت فالبرنامج الثاني .. هنا دمشق ... بغداد .. جميع المحطات تمر عليك دون أن تمسك بالمؤشر أو تقترب منه .

وكانت هذه المحاكمات تذاع في الراديو مساء كل يوم , وكنا أيامها في المدرسة الثانوية بشبين القناطر فعندما نلتقي في الصباح , نتذاكر وقائع جلسة الأمس ونضحك عليها رغم عظم المأساة التي كانت تدخل فيها مصر وقطار الثورة يمر عليها ويحولها إلى أشلاء وكان بعض المدرسين يستخدم ألفاظ جمال سالم من باب التفكه والتنكيت ويقول لنا : ما سمعتوش محكمة الشعب امبارح ؟

وكانت أنجح البرامج التي تقدم في الإذاعة المصرية في ذلك الوقت هي : ساعة لقلبك وبابا شارو وصورة حية من محكمة الشعب .

وكان الناس جميعا يستمعون إلى الراديو عندما يذيع تلك الصورة الحية من محكمة الشعب , فقد كان معظم المصريين في ذلك الوقت على صلة ما وثيقة بالإخوان .

ثم أخذ الناس الجانب الفكاهي للموضوع كعادة المصريين عندما يرتطمون بمأساة وفجأة اعتدل جمال سالم وألقي هذا المونولوج مخاطبا إبراهيم الطيب :

جمال سالم : فاكر الجيش بتاع زمان ... اللي كانوا يقولوا عليه عساكر وحرامية ؟

وينظر إليه إبراهيم الطيب صامتا لا يرد , وكذلك يفعل الدفاع و( النياباتيه) والمخبرون وسائر من في القاعة .

ويستمر جمال سالم سياسيا ضليعا فاهما حكيما كأحد فلاسفة اليونان :

- أحب للتاريخ أقول إذا كنتم فاكرين إن الجيش فيه ضباط أحرار 160 فقط تبقوا غلطانين كل ضابط يشتغل في الجيش سواء كان لواء أو ملازم أو صول أو عسكري كلهم أحرار .
- والضباط الأحرار والناس الأحرار لهم قيادة واحدة مش قيادتين .
- وقيادة زي ما واحد من المواطنين بيقول قيادة علنية وهي مجلس قيادة الثورة وميشتغلوش في الخفاء أبدا وميحلفوش يمين كذب .
وميختفوش تحت ستار أرقي رسالة هي الدين الإسلامي , يقوم يتستر من تحته ويعمل جهاز دهليزي مسلح , هو ده الفرق .. علشان محفظتوش الدين الإسلامي مظبوط ومعرفتوش تطبقوا الدين الإسلامي مظبوط ومعرفتوش تدخلوا فيه وتعرفوا الدرجات والخطوات اللي يجب أن تتبعوها مش في الشكل ولكن في الباطن والمعني ..
- والثورة لم تغش أحد زي محمود عبد اللطيف ..مغشتش واحد زي نصيري .
ماتخبيش على الناس وتقول لهم نوديكم قسم التدريب العسكري والألعاب وبعدين تدخلهم في الجهاز السري واللي يطلع منه ..زي فايز .
الثورة لما قامت عملت حساب العيش بتاع الناس وعملت حساب المواصلات بتاعتهم .. وعملت حساب أنها تحافظ على أموالهم ومنشآتهم وكباريهم مش تنسفها .
أحب أعرف إزاي .. ومش عايز أعرف منك .. ومش عايز اسمع منك حاجة .
كل واحد يحكم .. أيها منهم إسلامي أكثر .. مش عايز أعرف منك حاجة .. ده بس يمكن تفتح لك نقط .. يمكن تروح متعرفش تنام زيا حنا ما بنعرفش ننام علشان شوية هلافيت زيكم ..

وأحس بالغبطة والرضا عن نفسه بعد هذه الخطبة .

ونسي أن الثورة قامت بمعرفة الإخوان وبمساندتهم ونسي أن أن هؤلاء الهلافيت كانوا يحرسون المنشآت يوم الثورة

ووقف الهلافيت عن طريق السويس القاهرة لاحتمال تحرك الإنجليزباختصار نسي دور من وصفهم بالهلافيت في نجاح الانقلاب .

وهدأ كعادته وترك الدفاع يسأل :

- هل من مصلحة مصر – كمواطن – أن تحارب في كل ميادين الأرض .. في الجزائر وتونس ومراكش واندونيسيا ؟

- إبراهيم الطيب : لا شك أنه من واجبها .

- وهاج جمال سالم مرة ثانية .

جمال سالم : بس مش بفوضي زي اللي عايزين تعملوها مع الحكومة ..

( بسخرية ) يجب أولا أن يكون فيه فوضي طبعا .. يستعد هذا النظام .. ثم ثالثا تستعمله في الداخل .. المنطق بيقول كده معلمكش منطق ؟ ما امتحنوكش منطق !

أمال أخدت شهادتك على إيه ؟ أخذت ليسانس الحقوق على إيه ؟

ورغم الموقف وقسوته فقد كان إبراهيم الطيب رحمه الله يغالب الضحك !

تحرير العالم الإسلامي لا يتجزأ

وهدأ جمال سالم وبدا الدفاع مرة أخري :

الدفاع : وقت قيام الجهاز وهذه مهمته أنه يحارب في كل بقاع الأرض .. فهل كانت حررت أرض الوطن من المستعمر .

إبراهيم الطيب : الإخوان بذلوا كثيرا

الدفاع : أنا لا أسأل عن البذل .. وإنما هل الإنجليزخرجوا من مصر ؟

إبراهيم الطيب : لا .

الدفاع : هل تري من الممكن أو من ناحية المنطق أن تحرر مصر بقاع الأرض من مستعمريها قبل أن تحرر نفسها ؟

إبراهيم الطيب : لأ طبعا .

الدفاع : إذن فيم تكون قيمة الجهاز ؟

وتدخل جمال سالم وقد أعجبه السؤال السقيم الذي سأله الدفاع فقال ساخرا :

- يمكن ما سمعتش بيان المرشد ولا إبراهيم الطيب ولا حسين كمال الدين .

وقال إبراهيم الطيب :

- مع وجود القوات الإنجليزية اشترك الإخوان في فلسطين وهي غير مصرية .

الدفاع  : وعلى هذا النحو تحاربوا في تونس والجزائر وترجعوا بنفس النتيجة ؟

إبراهيم الطيب : ما هي نفس النتيجة ؟

الدفاع : أنا أسالك عنها ..

إبراهيم الطيب : الذي أعلمه أن الإخوان يجب أن يقوموا بالواجب الذي عليهم لا أكثر .

وعاود القاعة إعجابها بإبراهيم الطيب الذي لم يفارقها بين غيظ جمال سالم لسداد إبراهيم الطيب في إجاباته فانبري ساخرا مستهزئا :

جمال سالم : الواجب اللي عليهم إحداث ثورة شعبية إخوانية ضد الحكومة الموجودة واغتيال رئيس الحكومة واغتيال أعضاء مجلس قيادة الثورة واغتيال بعض الضباط وإيقاع حرب أهلية بين فريقين مسلحين .

ثم التفت ناحية إبراهيم الطيب وقال :

- شفت المنطق ماشي ازاي ... ماشي صح 100% عشرة على عشرة روح ناجح .
- والدفاع والنيابة والقاضي في مثل هذا النوع من المحاكم شئ واحد ..ويتكلمون بلغة واحدة تعرفهم بسيماهم وبلحن القول , ولا تميزهم إلا بأصواتهم إن كنت تعرفهم .

وقال الدفاع سائلا إبراهيم الطيب :

- هل من الدين أو من الوطنية أن يتطوع صاحب القوة للدفاع عن الغير بينما هو في حاجة إلى الدفاع عن نفسه .
وبالتأكيد فإن إبراهيم الطيب أكبر من كل من في القاعة فقال :
- يحدث هذا في كثير من الحالات .

ورغم أن الدفاع محام له سابقة في عالم المحاماة فإنه أخذ أسلوب جمال سالم وأراد أن يقلده فقال ساخرا :

يحدث هذا في كثير من الحالات ؟ أى أن يتقدم الفرد بطعامه للغير بينما هو جائع ؟ ألم تسمع الحديث الذي يقول ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ؟

إبراهيم الطيب  : الإخوان اشتركوا في حرب فلسطين .

الدفاع : كان هذا دفاعا عن مصر لأن إسرائيل تطمع فيها فيبقي هذا دفاع عن مصر .

نعم يا خويا !!

إبراهيم الطيب  : الدفاع عن أى بلد من البلاد الإسلامية .

جمال سالم ( مقاطعا ) بلاش فلسفة في المسائل العسكرية ..

إبراهيم الطيب  : أنا مستعد اسكت .

وفي لحظة كانت القاعة في درب " شكمبة " وتحت الربع والعطوف وانفجر القاضي :

جمال سالم  : نعم يا أخويا ؟ مستعد إيه !! انت بتتجنى عليّ .. احنا أولاد بلد يا روحي .. والمحكمة اسمها محكمة الشعب .. وأظن اسمها دلّ عليها ..وثبت للناس أنها شعبية .

إبراهيم الطيب  : هذا المعني لا يتطرق إلى ذهني

جمال سالم : كلنا متربيين في الحسينية وباب الشعرية ودرب الحجر .. والناس كلها عارفة كده .. واحنا لم نتربّ في قصر علشان مانفهمش الحركات .. رد على السؤال الذي يقوله لك الدفاع والتزم حدوده .

إبراهيم الطيب  : أيوه ...

جمال سالم  : أنت شاهد .. فاهم ولا لأ .. تؤدي شهادة وتقول الجواب على أد السؤال .. أنت هنا مش محامي .

إبراهيم الطيب  : صح ..

والتفت إبراهيم الطيب ناحية الدفاع وقال :

- اتفضل يا افندم

جمال سالم  : اقعد ساكت وأنا اللي أقول اتفضل ( متوجها للدفاع ) اتفضل .

الدفاع : هل سمعت ؟

جمال سالم : ( مقاطعا في ثورة ) ده النظام .

وسكتت القاعة للحظة وعندما بدا على القاضي الهدوء قال الدفاع :

- هل سمعت أن الأستاذ الهضيبي لما دعي للقتال قال إنه يبقي قوته لاستعمالها في الخارج .. هل سمعت أم لا ؟

إبراهيم الطيب : سمعت أنه قال إننا كما نحارب في القنال سنحارب في تونس والخارج .

الدفاع : هل تعتقد كمحام أن الهيئة التي تصل إلى الحكم عن طريق الإرهاب تتخلي عن الإرهاب بعد وصولها إلى الحكم ؟

إبراهيم الطيب : لا أعلم في أى مرحلة من المراحل إن الإخوان كان من أهدافهم الوصول إلى الحكم ..

جمال سالم  : ( وقد بدا عليه الكسل ) إنما تريدون وضع الحكومة تحت الوصاية .

الدفاع : أنا أسألك عن قاعدة منطقية .. رد عليها .. هل تعتقد أن الهيئة التي تصل إلى الحكم عن طريق الإرهاب .. هل تتخلي عن الإرهاب عندما تصل إلى الحكم ؟

إبراهيم الطيب  : ما اعتقدش .

الدفاع  : أى أن الهيئة التي شعارها الإرهاب يبقي شعارها الإرهاب , وفسر الماء بعد الجهد بالماء !

وقال إبراهيم الطيب وهو يخفى ابتسامته :

- لا شك في هذا ..

الدفاع : هل تحب لمصر أن تركع تحت أقدام الإرهاب أيا كان مصدره ؟

إبراهيم الطيب : لا شك ..لا ..

وتحول الدفاع إلى جمال سالم آخر مع ملاحظة أنه يناقش شاهدا , ولكن في هذه القاعة الغريبة قد اختلط الحق بالباطل والشهود بالمتهمين , وكل من يقف للمناقشة متهم , وكل من يسأل مدع أو جلاد ,ولا أحد يعرف موضوع المناقشة ,واختفت القضية الحقيقية تحت ركام التضليل والزيف والجنون .

وكأنهم جميعا كانوا يعرفون حكاية محمود عبد اللطيف وأنه لا علاقة له بحادث المنشية ,وأن مدبرها والجاني فيها هو ذلك الذي يجلس في غرفة أعلي ليستمع مع زكريا محيي الدين , وأنه لم يتخلص بها من الإخوان ومحمد نجيب فقط بل زاد عليهم ثالث كان يخشاه ولا يزال ولكن أمره سهل بعد أن ننتهي من هذا المهرجان ... ذلك الثالث هو جمال سالم الذي حرق على المستوى الشعبي بمحكمة الشعب .

إرهاب الحكومة يقتل العزة والكرامة

وقال الدفاع :

- هل تعتقد أن الإرهاب يفقد المواطنين شجاعتهم وعزيمتهم ؟

- إبراهيم الطيب : مستحيل .

- هل تعتقد أن الإرهاب من شأنه إذا دام أن يفقد المواطنين شجاعتهم وعزتهم ؟

إبراهيم الطيب  : مستحيل .

- هل تعرف أن الشجاعة ممارسة أو لا ؟

إبراهيم الطيب : لا شك أنها ممارسة .

- وهل تعرف أن مما يزيد في الإنسان الشجاعة أن يمارسها أو لا ؟

إبراهيم الطيب : لا شك أن الممارسة توجد هذه الصفة .

ويبدو أن الدفاع كان يريد أن يصل إلى نقطة ما في ذهنه بتوالي هذه الأسئلة نقطة لا دخل لها بالقضية المعروضة بالتأكيد .. ولكن كان هناك سياق تمضي فيه أسئلته وقد قطعها عليه جمال سالم حيث تدخل في الأسئلة في واد مختلف .

ولا شك أن أكثر الذين تكلموا في محكمة الشعب هو قاضيها جمال سالم .. فقد كان يستعمل النيابة والدفاع والشهود والمتهمين كمادة بها أو عليها .. والمفروض أنه يستمع فقط لما يدور ولا يتدخل إلا بحساب ليستوعب الموضوع .. ولكن في حالتنا هذه قد استوعب الموضوع من قبل إنشاء المحكمة فلا حاجة به إلي الإنصات ,

وقد جاء الكلام .. وكان شوقه إليه عارما بلا تبصر أو رؤية .

وسرعان ما وجه سؤالا للشاهد المتهم الشهيد إبراهيم الطيب :

جمال سالم : إذن لماذا تستعملون الإرهاب مع أعضاء الجهاز السري بعد دخولهم فيه في الإخوان المسلمين ؟

إبراهيم الطيب : ما اعرفش ؟

وكانت هذه هي أسهل إجابة عنده , ولا يوجد لها بديل لأسئلة القاضي .

مخابرات الإخوان

جمال سالم : أنت مسئول عن قسم القاهرة ؟

إبراهيم الطيب  : أيوه .

جمال سالم  : ومسئول عن الجهاز الإداري له ومخابراته ؟

إبراهيم الطيب : المخابرات قسم قائم بذاته .

جمال سالم  : تبع من ؟

إبراهيم الطيب : تبع الأستاذ صلاح عبد المعطي .. وهو كان ماسكها لآخر لحظة جمال سالم : ودي تبقي تبع أى قيادة ؟

إبراهيم الطيب : تبع الأستاذ يوسف طلعت .

وهاج جمال سالم لغير سبب واضح كعادته , فأفكاره هي التي تغضبه وقال ثائرا :

- تبع النظام الماشي في الجهاز السري مش غصب عنك.. وبقول لك سواء تعرفها أو لا تعرفها : إن فيه حاجة اسمها سياسة عليا .

هكذا قال جمال سالم ! والله وحده يعلم معني هذه العبارة ومدلوها .

ورد إبراهيم الطيب هادئا: يصح..

وفي عصبية أخرج جمال سالم من أمامه بعض الأوراق وصار يقرأ :

جمال سالم  : زار كل من ..

وسكت والتفت إلى من في القاعة كأنه عرض مسرحي وقال :

- اسمحوا لى ما أقراش الاسم لمصلحة التحقيق .

وسمحوا له واستمر في القراءة :

- فلان وفلان منزل فلان يوم كذا الموافق كذا الساعة كذا يوم كذا الموافق كذا... وشهد كل من فلان من المنطقة الفلانية وفلان من المنطقة الفلانية مجتمعين مع فلان في منزل فلان حتى الساعة كذا .
ثانيا – وبدأ النشاط يدب وتعقد عدة اجتماعات بين أعضاء النظام بالمنطقة كذا ولما علمنا ..

وتوقف عن القراءة وعاد إلى الجمهور وقال :

- ده اللي كاتبه جهاز المخابرات .
- ثم واصل القراءة.
- ولما علمنا أن هذا النشاط بعلم المسئولين في الإخوان قسم الجهاز السري رفعت الرقابة .
- هذا تقرير قدمه أحد أعضاء مخابرات الجهاز السري ومعناه أن هنا رقابة على الجهاز السري علشان خاطر الإرهاب فلما يجتمعوا أو يعملوا فتنة داخل هذا الجهاز المسلح ... فايز ..

والتفت القاضي ناحية الشاهد الذي أنهك تعبا..

- تحب أقرأ لك كمان حتى من تقرير الإرهاب ؟ وتحت يدي صورة زنكوغرافية له .. كانت التقرير يتكلم عن عضو ثاني في داخل الجهاز السري أى سري السري أى الرقابة في المخابرات التي تراقب الجهاز السري ... لأنه لوحظ على واحد حاجات .

- وعاد جمال سالم يقرأ :

- " إذا لزم الأمر فإنني على استعداد كامل لتقديم تقرير واف عن الأخ فلان لأن حالته النفسية غير عادية "
- يعني بيشوف حالته النفسية غير عادية فيكتب تقرير ويوريه للرئاسة فيه إرهاب أكثر من هذا عشان تذل أعناق الرجال ؟

- الدفاع : إذا كانت ممارسة الصفة سبيلا إلى إيجاد..

- وقاطعه جمال سالم محدثا إبراهيم الطيب الذي بلغ به التعب منتهاه فهو يجفف عرقه ..

- ما تمسحش عرقك ... لسة بدري أوي.

الدفاع : إذا كانت ممارسة الصفة سبيلا إلى إيجادها أو تقويتها ألا تعتبر ممارسة الإرهاب ضد المواطنين على هذا النحو خيانة ؟

إبراهيم الطيب  : ممارسة الإرهاب ضد المواطنين خيانة لا شك في هذا .

الدفاع : هل تعتقد أن مقتل الخازندار الشهيد بحق من شأنه أن يعرض – كمحام – رسالة القضاء وهي رسالة مقدسة للمؤثرات أم لا ؟

إبراهيم الطيب  : لا شك في هذا , وأنا مقتنع بهذا .

جمال سالم : ما هي طبيعة الأجهزة السرية المسلحة .. هل طبيعتها إرهابية أو تديلك هدوء وطمأنينة ؟

إبراهيم الطيب المفروض أن يكون فيه الهدوء والطمأنينة .

وضحكم الخنازير!

جمال سالم : سمعتم منطق الصف الثالث من جمعية الإخوان المسلمين الذين يدعون دعوة الدين ؟ وسمعتم المنطق الذي كانوا يحكمون به البلاد شفتن الديمقراطية البرلمانية والانتخابات والحرية .. شفتم الأسماء الرنانة اللي بيضحكوا بها على 19 مليون واحد ساكنين في الطوب الني ويشربوا مية عكرة .

الأجهزة السرية تدينا هدوء وطمأنينة إذن لماذا لم تتبع الدول تنظيم جيوشها وتسليحها في السر طالما أن السر يجيب طمأنينة أكثر ؟

ورد عليه إبراهيم الطيب :

لا أقصد أن السر يأتي بطمأنينة ... إنما أقصد أن الإخوان في تشكيلاتهم يقصدون إلى هذا المعني .

جمال سالم : ده شئ جميل ... حدوتة جديدة

إبراهيم الطيب : هذا الذي وقع في ذهني .

جمال سالم : شئ جميل جدا .. شئ في منتهي الجمال .

الدفاع : أنت قلت إن القتل من شأنه أن يؤثر على رسالة القضاء فما قيمة دولة يختل فيها ميزان القضاء وإذا فرض واختل

وقاطعه جمال سالم :

- لا داعي لهذا السؤال ..

لا أحد يعرف موضوع القضية المنظورة إلا إذا قرأ في الديباجة أنها قضية محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في المنشية والمتهم فيها محمود عبد اللطيف محمد .

الكل يتكلم ويسأل في أى شئ عدا النقطة موضوع القضية , فإن وقعت في يديك أيها القارئ العزيز هذه المضابط التي تم سحبها من السوق وإعدامها لأنها تشير بأصبع الاتهام إلى الضباط أنهم الذين دبروا كل شئ فإن قدر لك الاطلاع عليها فلن تستطيع أن تستنتج ما القصة على وجه التحديد ومن يحاكم وما هو الموضوع .

ها هو الدفاع يحاسب الشاهد على قتل الخازندار الذي صدر ضد قاتليه حكم من القضاء قبل الثورة , ثم أفرج عن المتهمين بعد قيام الانقلاب .

غضب البنا لقتل الخازندار بينما سعد عبد الناصر

وكان عبد الناصر قد قال لعبد الرحمن السندي بعد قتل الخازندار إنها ضربة معلم , وهنأه على ذلك وطلب منه أو رجاه مزيدا من مثل هذه الضربات الموجعة للخونة وعملاء الإنجليز.

في الوقت الذي غضب فيه حسن البنا وطلب من ثلاثة كبار الإخوان أن يحكموا بينه وبين عبد الرحمن في هذه الواقعة .

د. حسين كمال الدين.

د. عبد العزيز كامل .

م. حلمي عبد المجيد.

جمعهم حسن البنا وأحضر عبد الرحمن السندي وسأله أمامهم :

  • - لماذا قتلت الخازندار ؟
- وقال السندي :
- أنت الذي أمرت بهذا .

- أنا يا عبد الرحمن ؟

- نعم أنت .

- قلت لو كان ربنا يريحنا من العالم دي .

- وقال حسن البنا غاضبا :

- وهل تعني هذه الكلمة الأمر بقتله ؟

- هذا ما فهمت .

وقال حسن البنا :

- أنا برئ من قتل الخازندار .

كان الخازندار قاضيا يري شرعية الوجود الإنجليزي في مصر ويحكم بالعقوبات المغلظة على كل من يعرض عليه ممن يقاومون الاحتلال , بينما يحكم في قضايا وهتك العرض بأخف العقوبات .

واختلفت وجهات النظر في قتله .. البعض يري أنه خائن ويجب أن يطارد الخونة في كل موقع في القضاء وغيره ,وهو ما شجع جمال عبد الناصر وحسن التهامي على التربص بحسين سري عامر باشا وأطلقا الرصاص عليه ,نجا من القتل ,وبات جمال عبد الناصر ليلتها يرتعد من الخوف ويدخن السجائر ويقول : ليته لا يموت كما روي في كتاب فلسفة الثورة الذي ألفه له محمد حسنين هيكل كما سمعنا , وكان مقررا علينا في المدارس , وكانوا قد طبعوا منه عدة ملايين من النسخ ساهمت في تشكيل المبلغ الكلي لديون مصر .

ثم ألقي في الزبالة بعد ذلك , ولا توجد منه نسخة واحدة في غير المتاحف .

وكان البعض الآخر لا يري قتله , وأنه ليس هناك سند شرعي يبرر ذلك .

وحجة من قتلوه أقوي بغض النظر عن التفلت التنظيمي وأن هذا تم بطريقة فردية ولم يؤخذ رأي مرشد الإخوان في ذلك .

فإن كانت القوي الوطنية والإسلامية في مصر في ذلك الوقت قد اعتمدت فكرة تصفية الخونة وعملاء الإنجليزللضغط على من هم مثلهم في التخلي عن هذه العمالة , والضغط أيضا أى الإنجليزفي قبول الجلاء عن مصر , فمن هنا تقوي وجهة نظر من يرون مبدأ تصفية الخونة ... على أى حال ذلك تاريخ قد انقضي .

ونعود إلى " محكمة الشعب لصاحبها جمال سالم وولده "

فما إن سمع سؤال الدفاع حتى اعترض ..

ورد الدفاع قائلا :

- وأنا متنازل عنه وأنا كنت أناقشه كمحام ..وهل تعتبر أن.. وقاطعه جمال سالم ثانية :
- الفكرة أننا مش عاوزين نخش في قضايا قديمة واللي توفي الله يرحمه .وانكتم الدفاع وصار يسأل أسئلة هي إلى الجبر وحساب المثلثات أقرب وقال :
- - هل تعتبر تنظيم آلات الشر تساوي الشر ؟ دي عموميات .

- إبراهيم الطيب : لا شك .

الدفاع : هل كان دورك قائما على تنظيم وتشكيل الجهاز السري أو الخاص ؟

إبراهيم الطيب  : أيوه يا أفندم .

الدفاع : كيف كان يتأتي إيجاد حياة دستورية بعيدة عن المؤثرات الحزبية لأنك قلت إننا عاوزين حياة دستورية بعيدة عن المؤثرات الحزبية .. وما هي الطريقة لتكوين حياة دستورية بعيدة عن المؤثرات الحزبية ؟

إبراهيم الطيب : المسألة دي لم أدرسها وإنما تبحث عن طريق الحكومة التي تقوم بعد ذلك .

الدفاع : تعمل إيه ؟

إبراهيم الطيب : قلت إن هذه المسألة متروكة للحكومة .

ووقف جمال سالم على المنصة بين انبهار أنفاس من يشهدون حتى أن الدفاع قد ازداد ارتباكه ,وصار جمال سالم يمثل بيده أنه يرمز ويقول :

- توت حاوى .. تضرب زر .. يطلع برلمان حر .. مائة في المائة .. ما فيش حاجة أبدا .. يا عيني يا ولاه ( يقصد يا أولاد )
وتلفت ( النياباتية) خائفين وعكف ( الدفاعاتية ) واجمين على الأوراق .. وكان محمود عبد اللطيف ينظر مشدوها , وإبراهيم الطيب يغالب الضحك .

وقال الدفاع .

- ما هي الوسائل ؟

وسكت إبراهيم الطيب للحظة حتى يزدرد ضحكه ثم تصنع الجد وقال :

- لم نفكر في الوسيلة إطلاقا .

وقد أراد بهذا أن يقفل باب المناقشة في هذا الموضوع الذي لا يفيد , وهنا أشار جمال سالم بيده إلى الدفاع أن تقدم إلى ّ.

واقترب منه الدفاع خائفا وجلا لا يدري ماذا يريد منه أو ما يفعل به .

وعندما اقترب منه قال له بصوت سمعه الجميع بلهجة المعلم الذي يعطي درسا .

جمال سالم : لن يفكروا في الوسيلة لأنه لن يعلنها .. والحكومة اللي رايحة تيجي حتكون تحت الوصاية وهي التي تعلنها وهو يعمل في الخفاء.

ويبقي الجيش الأساسي جيش الجهاز السري .

وأراد الدفاع أن يبتعد عن مرمي يد جمال سالم أو فمه حتى لا يصفعه أو يبصق في وجه فهو لا يضمن ردود أفعاله , فقال وهو يبتعد :

الدفاع : أنا مكنتش فاهم المسألة على النحو ده ..

وأشار له جمال سالم ثانية فجاءة يرتعد , فقال له :

- أرجو أن تذكرنا بهذه المسألة مرة أخري بعد أن ننتهي .
- وهز الدفاع رأسه موافقا وابتعد عن مرمي الضرب والبصق .

الدفاع : هل كان في نية الإخوان أن يرشحوا رجالهم لهذه الانتخابات البعيدة عن المؤثرات الحزبية .

إبراهيم الطيب : المسألة أنا لم أعلم بها ولا يوجد قرار حاسم فيها أستطيع أن أقرره ..

الدفاع : تقديرك الشخصي إيه ؟

إبراهيم الطيب : رأيي أن الإخوان ينأون بأنفسهم عن كل مناصب الحكومة .

الدفاع : وهل العضوية في المجالس النيابية من المناصب الحكومية؟

إبراهيم الطيب : لا تعتبر من المناصب الحكومية وإنما هو اشتراك في الحكم عن طريق السلطة التشريعية .

الدفاع : ومين ينتخب أعضاء في المجلس وبذلك يكون بعيدا عن المؤثرات الحزبية الماضية ؟

إبراهيم الطيب : الشعب هو الذي ينتخب .

ونود أن نذكر هنا حتى لا ننسي أن إبراهيم الطيب قد جاء ليشهد أنه قد أمر هنداوي دوير بتكليف محمود عبد اللطيف بضرب جمال عبد الناصر بالرصاص وهذا موضوع وقوفه أمام المحكمة لهذه الشهادة .

ثم له موقف آخر يحاكم فيه على اعتبار أنه حرض على محاولة قتل لم تتم إن صحت التهمة , وليلاحظ القارئ العزيز أن الكلام يدور في ناحية بعيدة تماما عن موضوع شهادته ,وهي من الملاحظات الجديرة بالتأمل لما يكون خلفها من أبعاد كثيرة قد تؤدي إلى نتائج محددة عن طبيعة هذه المحكمة وأهدافها رغم جنون رئيسها ..

فالقضية الرئيسية التي ينبغي أن تدور حولها المناقشات لم يعد لها وجود غير سؤال أو سؤالين لا يتسمان بالجدية ,ومحام شجاع وقف موقف الشاهد والمتهم ولم يتردد في إنكار أنه قد أمر أو عرف شيئا عن محاولة الاغتيال المزعومة رغم التعذيب الشديد الذي تعرض له أثناء التحقيق وأثناء المحاكمة وبين الجلسات .

وشهود الإثبات أو النفي الحقيقيون لم يستدعوا ولم يمثلوا أمام المحكمة.

فقد قبض ليلة الحادث على محمود عبد اللطيف , وعلى آخرين كانوا بجواره وأسماؤهم : محمد عامر حماد رئيس قسم بإحدى شركات الغزل " الشركة المتحدة للغزل في الإسكندرية " محمد إبراهيم دردير ويعمل بالميناء عاملا ووجدت معه سبع طلقات .

الحسيني السيد عزام ويعمل في مخازن المنطقة التعليمية بدمنهور .

وهذا ما نشرته الأخبار في عددها الصادر صباح 27 أكتوبر سنة 1954 وقد اختفي هؤلاء جميعا ولم يظهر لهم أثر لا في التحقيقات ولا في المحكمة.

وأين شهادة الذين قبضوا على محمود عبد اللطيف ومحضر التحريات والضبط الذي من المفروض أن يكون البوليس قد قام به ؟

قد اختفي كل هؤلاء بعد الإعلان عنهم , واختفي المسدس الذي أعلن عنه , ثم ظهر بعد ذلك بأسبوع .

وها نحن وأمامنا الشهيد إبراهيم الطيب ليشهد بأنه لم يأمر أحدا بقتل الزعيم وليس من المهم أن يعترف بهذا , فنحن نحاكم الإخوان المسلمين بتهمة أنهم أقوي جبهة شعبية في مصر ولا نحاكمهم بمعني المحاكمة , ولكن هي الطقوس الأخيرة لإسدال الستار على كل القوى المناوئة لعبد الناصر .

القضية المعروضة هي القضاء على الإخوان

لا تزال الجلسة مستمرة !!

وقام جمال سالم يخطب في الموجودين ..

جمال سالم : زي ما الإخوان بينتخبوا الجمعية التأسيسية والجمعية التأسيسية تنتخب مكتب الإرشاد ومكتب الإرشاد وأخد الجهاز السري ..

والمرشد وأخد أقوي ناحية في الإخوان المسلمين ديكتاتورية تحت أمره .. هذه هي الديمقراطية في جمعية الإخوان ..وفي داخلية قوانينها ..و عشان كده عاوزة تعمل في البلد أحسن ديمقراطية .. ماخلصتوناش لهي من الغلب ده اللي احنا فيه ؟

ما سمعتوش كلام سيد الريس ليه علشان تخلصونا وكنا متنا واستريحنا ..

وكان اللي لهم عمر يشوفوا ويتفرجوا .. ليه ما سمعتوش كلام سيد الريس ؟ سيد الريس قال لك في جوابه مش وقته نخش معركة .

وبعت له مع حسين شعبان إنك موافق على الخطة . وهو قالك إنه مش موافق على الخطة الكبيرة لأن فيه شك إننا نخسر المعركة زي ما خسرتوها .. هذه هي الحقيقة الواقعة أنكم خسرتوها ..

وابتدأتم أول طلقة في المعركة وفشلت المعركة ونفذت الخطة وفشلت .. هو كان أحكم منكم .. شفت لوكنتم شطار كنتم عملتم سيد الريس قائد النظام السري .. كان باللعبكة والضحك على دقون 19 مليون مش عارفين رأسهم من رجليهم ..

( ولم يكمل فهذا هو رأي الضباط في الشعب المصري " مش عارفين رأسهم من رجليهم " ولذلك توقف عن إتمام هذه العبارة وأنا شخصيا أتفق معه ... وبعد أن صاروا خمسين مليونا ظنوا أن رءوسهم في أقدامهم والعكس ) والدعوة الإسلامية ما بتعلمش حد لأنكم أنتم لا تعرفونها .. وبالجهاز السري كنت تقدر تعمل انقلاب مفاجئ .. وإنما ربك بالمرصاد عشان أستغليتم الدين في أحقر الأغراض وبأحقر الوسائل واتجرتم فيه اتجارا رخيصا .. وربنا قال إن آياتي لا يتجر بها اتجار رخيص ..

ولا تستعملوا آية منفصلة عن هذا الكتاب .. وكل آية فيه ككل .. إنما أنتم علمتموهم الآيات الأولي من سورة آل عمران وهي آيات الجهاد وفهمتموهم إن الجهاد يكون بقتل جمال عبد الناصر .. وبقتل بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة .. ليه ؟

علشان أنتم لا تحكمون بالإسلام .. وعشان سايبين الخمارات ..واحنا مالنا مال الخمارات ؟

هل نحن جبناك يا إبراهيم وقلنا لك اشرب خمرة غصب عنك ؟

هل الإسلام يقول لك لما تلاقي واحد يشرب خمرة تقطع رقبته ؟

وإذا كان قال لك كده اقرأ لنا السورة اللي فيها كده ...

وفي هذه اللحظة كان جمال عبد الناصر يفرك يديه سرورا .

لقد تخلص بالفعل من جمال سالم ... لأن أثر هذا الكلام كان سلبيان جدا على الناس بالنسبة له وأظهر سطحيته وتفاهته وجنونه ... فهو لم يعد منافسا له بعد ...

وكان عبد الناصر يستمع عبر الدائرة الميكروفونية وحده فقد ذهب السيد زكريا محيي الدين في هذه اللحظة إلى دورة المياه في أول الخطبة .

وقال لعبد الناصر  : سوف يخطب نصف ساعة وسأعود بعد دقيقة.

وفي القاعة كان جمال سالم قد وصل إلى قمة الرضا عن نفسه ثم التفت إلى الدفاع وقال له :

- اتفضل .

عدد الإخوان نصف مليون على الأقل

وانبري الدفاع يسأل إبراهيم الطيب :

- هل الإخوان حزبا أم لا ؟

- ليسوا حزبا .

- أمال إيه ؟

- هيئة إسلامية عامة تعمل للإسلام عامة .

- لا صلة لها بالسياسة الوطنية ؟

- السياسة الإسلامية .

وتدخل " سبع البرمبة " وسأل :

جمال سالم  : ما هي السياسة الإسلامية ؟

إبراهيم الطيب : هي تحرير البلدان الإسلامية من المستعمر .

جمال سالم : وما هي السياسة الوطنية ؟

إبراهيم الطيب : نفس السياسة .

جمال سالم : إذن ليه بتنفي إن للإخوان صلة بالسياسة الوطنية ؟

إبراهيم الطيب  : السياسة الوطنية جزء من السياسة الإسلامية .

جمال سالم : إذن السياسة تختلف في كل دولة حسب طابعها الداخلي .

إبراهيم الطيب  : نعم.

جمال سالم : أيوه .... أيوه علمنا مبادئ جديدة ياسقراط! ياريته كان عايش علشان يطلم على المنطق الذي وصل إليه .

وابتسم " الدفاعاتية والنياباتية " يحيون رئيس المحكمة على دعاباته اللطيفة!

وانتظر الدفاع حتى ارتاحت نفسه إلى التحية , ثم واصل سؤال إبراهيم الطيب :

الدفاع : قلت إن سياسة الإخوان كان تستهدف التعاون المطلق مع حكومة الثورة ومن ضمن

الحاجات المتفق عليها عودة الحياة النيابية أولا .

إبراهيم الطيب : مش متأكد من ناحية التحديد .

ويقول جمال سالم للدفاع :

الحرية يعرفونها بالكلام والتشهير وبالزعم .. إنما بالعمل لأ.

ويبتسم له الدفاع , ثم يواصل سؤال إبراهيم الطيب :

الدفاع : هل الاتفاقية وثيقة سياسية أم قانونية ؟

إبراهيم الطيب : فيها الناحيتين .

ونهر جمال سالم الجميع :

- مش عاوزين نتعرض للسياسة بتاعت الدولة.

- الدفاع : ما هو المدى العددي الذي حددتموه للإعداد لكي يبدأ دور التنفيذ , لأنكم قلتم لازم لكي يبدأ في دور التنفيذ أن يكون العدد خالص .

- إبراهيم الطيب  : ثلاثة أرباع الإخوان منضمون في هذه التشكيلات وقائمون بتدريباتهم .

الدفاع : ما عدد الإخوان في تقديرك ؟

إبراهيم الطيب  : يصل إلى ..

جمال سالم : الصبح قال يصل إلى 14 و5 مليون تقريبا .

ولو رجعنا إلى جلسة الصباح من هذه المضبطة التي نشروها لا نجد فيها هذا !

الدفاع : هل أنت مؤمن على هذا الرأي ؟

إبراهيم الطيب : لأ يا افندم ما اقدرش أقول هذا .

جمال سالم : إذن قلت لى تقريبا ليه!

ولم يرد عليه إبراهيم الطيب !

الدفاع : على وجه التقريب .

إبراهيم الطيب  : نصف مليون أخ من القطر المصري على وجه التقريب على الأقل .

جمال سالم  : نصف مليون أمام 22,5 مليون دي نسبتها كام ؟

2% وشوية ... تفرض رأيها على الدولة بجهاز وإرهاب . 2% يفرضوا رأيهم بمساساتهم على 98% هل هذا مبدأ الديمقراطية والحرية ؟

إبراهيم الطيب : طبعا لأ .

جمال سالم : هل هذا هو مبدأ البرلمانية .. ده مبدأ الانتخابات ..؟ إنما لا عجب في ذلك إذا كان هذا المبدأ اللي ماشية عليه جمعية الإخوان المسلمين .

وهنا انتابت الشهيد إبراهيم الطيب نوبة سعال فقال له جمال سالم :

- لا بأس عليك ... عندك برد .. اقفل صدرك أحسن تأخد هوا في زورك ..
اقفل الياقة إذا حبيت .
ولم يفعل إبراهيم الطيب ولم يهتم به .

فقال جمال سالم :

- عاوز تسيبها مفتوحة ؟ وأنا مالي .. أنا بانصحك ..

الدفاع : يعني أنت عاوز ثلاثة أرباع النصف مليون يبقي كام ؟

إبراهيم الطيب : عدد لا يقل عن عشرة آلاف شخص .

الدفاع : أنت قلت ثلاثة أرباع النصف مليون .. وإنما تكتفي بعشرة آلاف واحد ؟

إبراهيم الطيب : نعم ..

الدفاع : كم منهم تم إعداده فعلا ؟

إبراهيم الطيب  : ما كانش وصل إلى العشرة آلاف واحد.

الدفاع : يعني ثلاثة آلاف إرهابي ؟

ولم يرد عليه إبراهيم الطيب !

واندفع قائد الجناح الأحمق يعيد كلاما قاله قبل ذلك أكثر من مرة :

- وعلشان كده سيد الرئيس قال لك لو دخلنا معركة يمكن نخسرها ؟ وبلغك عن طريق الأخ حسين شعبان هذا السؤال اللي بعته مع حسين شعبان لأنه ضابط اتصال .
والسؤال الذي بلغه إبراهيم الطيب وأرسل مع حسين شعبان يسأل فيه سيد الريس .. هل أنت مستعد لتنفيذ غير ما أرسل .

( وما أرسله كان من أجل تأجيل تنفيذ الخطة ) أى أن غير ما أرسله هو التنفيذ السريع ( ونعتذر للقارئ العزيز لركاكة الأسلوب فهذا ما وجدناه في المضبطة ) .. الطرق التحتانية .. الدهليزية ... اللف والدوران .. مش يقول له على التنفيذ إنما باعت له يقول له إنه موافق على غير ما أرسل ...ولما ترجع إلى ما أرسل تجده التأجيل فيكون عرضه التنفيذ ..

ورغم سقم الكلام وركاكته فقد ابتسموا له علي بلاغته تحية وإعجابا !

الدفاع : فهمنا الحاجة العادية .. وهي إعداد عشرة آلاف شخص .. فما هي الحالة العامة التي تقدم بها للخروج من دور الإعداد إلى دور التنفيذ ؟

إبراهيم الطيب : مش فاهم .. تسمح تحدد السؤال .

الدفاع : ما هو السبب لإعداد عشرة آلاف شخص .. السبب المباشر اللي تطلع بمناسبته إيه ؟

إبراهيم الطيب : هذه المسألة كان لسه لم يبت فيها .

الدفاع : كان لم يبت فيها .. يعني كان العدد عشرة آلاف ؟

إبراهيم الطيب : كان لم يبت فيها بعد .

الدفاع : وهو كذلك .

يتدخل جمال سالم لينهر الدفاع ويعلمه الكلام :

- والله يا سيدي الدفاع .. يصح نختصر في المسائل دي ..ونقتصر على الوقائع الخاصة بقضية محمود عبد اللطيف ..

- أخيرا انتبه جمال سالم إلى أن هناك ما يسمي قضية محمود عبد اللطيف !

الدفاع :وهو كذلك بس عاوز أعرف الهيئات اللي لها حق التناصح على الثورة إيه غير الإخوان ؟

واربد جمال سالم ووجه سؤالا في غضب إلى الدفاع :

- أنت من الإخوان ؟

- وأجفل الدفاع عندما رأي الشر في عيني جمال سالم وأسرع :

- لأ مش قصدي ..

وضجت القاعة بالضحك !!

وبدت أسارير جمال سالم تنفرج رويدا رويدا كأى أبله , ثم ضحك هو الآخر .. وشعر بالرضا التام عن نفسه فهو نجم الصالة لا منازع .. آسف نجم القاعة .

قاعة المحكمة .. التي لم تشهد محاكمة ولم تمر بها العدالة وخلت من كل المبادئ والقيم والأخلاق .. قد جلس على المنصة فيها سكير جاءوا به من بار لسوء خلقه وهو بطبعه يميل إلى العدوان وجعلوه من الضباط الأحرار .

على حد تعبير كمال الدين حسين .. ولله في خلقه شئون .

وبدأ جمال سالم يخطب :

- احنا كلنا إخوان .. وإذا ما كناش بنحس إننا إخوان مكانش الواحد يتضايق يا طيب ؟؟ إحنا جينا وأنت نايم في البيت ( الكذاب ) علشان نحررك من الظلم والفساد اللي كان متفشي في البلاد ( رحم الله أيام هذا الظلم وذلك الفساد فما وصلنا إليه أعظم من أن يوصف بهاتين الكلمتين ) .. من النهب اللي كانت بتتنهبه البلاد والاستبداد اللي كانوا بيستبدوه بالناس ( آه لو رأي الناس الغيب وما حدث من هؤلاء الأوغاد بعد ذلك ) طردنا لكم ملك.. كنتم مسميينه ملك كريم . ( عبد المنعم عبد الرؤوف هو الذي اقترح خلع الملك يوم الثورة بين ذهول عبد الناصر والضباط) أنتم والمرشد بتاعكم .. ملك كريم .. زيارة كريمة لملك كريم .. ملك كان بيقتلكم في ضوء النهار .. كان بيغتالكم في ضوء النهار ..وجينا أنقذناكم من حكومات كانت تتجر فيكم باسم الدستور والبرلمان والانتخابات والحريات ( الحمد لله لم يعد في مصر شئ من هذه الأسماء الأربعة والناس نسيت ) وباسم القنال ..

طبيعي خايفين ليطلعوا الإنجليزبسرعة ..وإذا طلعوا تبقي البلد حرة تقول لها حرية إيه .. ما تعرفش تضحك عليها .. الحق يا واد .. سارع ضد الزمن ... قبل الإنجليزما يطلعوا والبلد مستعمرة واضحك عليهم وقول لهم حريات .. شقتم المبادئ اللي بتغري ؟ حريات إيه يا شيخ !

ورفع يده جمال سالم يحيي الناس كأى مهرج يلعب في سيرك وقد أ أجاد فصفق له الناس .

الدفاع عن محمود عبد اللطيف

وبعد أن انتهت موجة الضحك وفرغ جمال سالم من تحية الموجودين أشار بيده بكبرياء إلى المحامي حمادة الناحل ليتكلم .

الدفاع : بمناسبة مناط الدفاع عن محمود عبد اللطيف أريد أن أقول كلمة لمحكمة الشعب .. إن حدود دفاعي .. بل دفاعي الوحيد هو أنه أداة صغيرة في جهاز بشع .. وكلما ازداد الجهاز بشاعة وكلما ازداد بيان المدى الذي يعمل فيه هذا الجهاز .. وكلما ازداد تضليله وبرزت أساليبه بدت هذه الأداة هيئنة ولا تستحق النظر إليها .. كما بدت هذه الأداة تافهة لا تستأهل الوقوف عندها .

لعلني سمعت هنا يا حضرات قضاة الشعب , لعلني سمعت هنا أن لدينا الكثيرين – مع الأسف الشديد الممرض – من أمثال محمود عبد اللطيف , الذين لم ينالوا قسطا من تعليم , والذين لم ينالوا قسطا من إرشاد , والذين لم ينالوا قسطا من سعادة استغل فيهم البؤس , استغل فيهم هذا الجهل , من الذي استغل هذا ؟ وما قدرته وما مداه ومؤهلاته ؟ هذا دفاعي إليكم...

إنني أعتبر أن كل تقصير في إبراز هذا إنما هو تقصير في الأمانة التي وكلتموها إلى وقبلت أداءها ..

محمود عبد اللطيف من هو في هذا الجهاز ؟ ومن هو محمود عبد اللطيف أمام حسن الهضيبي المستشار السابق ؟ ومن هو محمود عبد اللطيف بين يدي إبراهيم الطيب المحامي ؟ ومن هو محمود عبد اللطيف بين يدي هنداوي القادر الواسع الحيلة ؟ ومن هو محمود عبد اللطيف بين يدي هؤلاء الأبالسة , وبأي سلاح يغتالون محمود عبد اللطيف ؟

محمود عبد اللطيف ضحية هذا الجهاز شأن عشرات الألوف الذين كانوا على استعداد لو سلط عليهم هذا الجهاز أن يفقدوا دينهم ووطنيتهم طواعية لهذا الجهاز .

وإذا لم يجتث هذا الجهاز فسيبقي أمثال محمود عبد اللطيف مستعدين كل الاستعداد , فإنهم سيجدون كلمة القرآن .. كلمة القرآن تمسخ .. أقدس الكلمات التي عرفتها البشرية منذ آدم حتى اليوم .. هذه الكلمات المقدسة الكريمة تمسخ لكي تنطلق بها النار إلى صدور المحررين , لكي تركع مصر بعد ذلك ولا يدري إلى أى مدي ..

إلى قرن أم قرنين أم خمسة قرون أم دهر من زمان لكي تقوم من ركعتها .. إلا الله بعد أن تسلط عليها الفساد ..

أرجو أن يكون مفهوما هذا لأنه مناط دفاعي .. لا تندهشوا إذن يا حضرات القضاة .. إذا ما اضطررت أن أسأل حول مدي الجهاز .. مدي بشاعته وأساليبه في هذا التأثير لأن هذا هو دفاعي !!

لأن هذا هو دفاعي !!

وفهم جمال سالم أن الدفاع معاهم وفاهم اللعبة فانبسط وقال :

- ليس لدينا مانع من السؤال .

- وتحول الدفاع إلى إبراهيم الطيب يسأله بعد أن أعلن خطته في دفاعه عن محمود عبد اللطيف – قد سلم بالاتهام .. لم يسأل عن الإجراءات .. لم يطلب سماع الشهود من الشرطة ومن الذين كانوا في المنشية .. لم يناقش محضر الواقعة الذي حرر بعد الحادث .

أعلن للمحكمة أن دفاعه سيكون منصبا على شتم الإخوان المسلمين ولعنهم.. والجهاز السري , وأن محمود عبد اللطيف هو عبارة عن ترس صغير في آلة ضخمة وأنه يستحق الإعدام , وسوف يقول هذا كله ما عدا العبارة الأخيرة , وهو يعلم أنهم سوف يعدمونه وهو يعلم أن القضية كلها تلفيق في تلفيق .. وهو يعلم أن الذي يجلس لعى المنصة ليس بقاض ولن يكون . وهو يعلم أن هذه التهم لو صحت فلا ينبغي للخصم أن يكون قاضيا .. وهو يعلم ... وهو يعلم .ز ولكنه يعلم أنها فرصته للشهرة في عالم جديد قد تخللته سراديب الشيطان ,وهو يريد أن يجد لنفسه مكانا فيه .

الدفاع : هل سياسة الإخوان المسلمين إعداد أعضائهم إعدادا جهاديا ؟

إبراهيم الطيب : نعم .

الدفاع : أريد مثلا من التاريخ لرأي أعد عشرة آلاف من المسلمين بالديناميت والمسدسات للدفاع عن ذاته ضد رأي آخر لنفس المواطنين .. فهمت ؟

أريد مثلا من التاريخ لجماعة من أبناء البلد الواحد يستعينوا بعشرة آلاف واحد علشان يفرضوا أنفسهم على باقي الآراء الأخرى .

إبراهيم الطيب : لا أعلم شيئا عن هذا !

الدفاع : في أى بلد من بلاد العالم ؟

إبراهيم الطيب  : لم أسمع به .

الدفاع : بما فيه الدولة الإسلامية ؟

إبراهيم الطيب : أيوه ..

وقام الدفاع بتمثيلية رخيصة بأن تقدم من إبراهيم الطيب متوسلا :

الدفاع : ساعدني أعمل معروف .

ونظر إليه إبراهيم الطيب دهشا متسائلا .

الدفاع : ما هي جريمة محمود عبد اللطيف في نظرك كزميل لمحمود عبد اللطيف في الجهاز السري أو الجهاز الخاص... أنا أحب أجاملك في هذا الموقف .

وصار إبراهيم الطيب – رحمه الله – ينظر في دهشة إلى الدفاع بينما شحن الجو بالإثارة وانبسط جمال سالم وصار يهز رأسه ويلتفت إلى المخلوقين عن يمين وشمال من أعضاء المحكمة , مثله في ذلك مثل الذي ينظر إلى شئ يعرض فيلتفت إلى من معه استحسانا .

وتجلي الدفاع عندما رأي إعجاب جمال سالم به , واقترب أكثر من إبراهيم الطيب .

الدفاع : ما هي جريمة محمود عبد اللطيف في نظرك ؟

وامتلأ إبراهيم الطيب دهشة وقال :

- والله دي مسألة يعني ..

الدفاع : انت محامي .. ما تقدرش تقول إيه جريمته في نظرك ؟

إبراهيم الطيب : اعتقادي لا شك إن فيه تأثير عليه فقام بما قام !

والتفت ناحية محمود عبد اللطيف الذي لم يتحمل نظراته , فأطرق برأسه في القفص

الدفاع : فقام بما قام !

وأكمل إبراهيم الطيب وهو ينظر ناحية محمود عبد اللطيف :

كوكان التأثير بشكل قوي ..

- بشكل قوى ؟

- أيوه ..

- ما هو عقاب محمود عبد اللطيف بوصفك رجلا قانونيا ؟

- وتعجب إبراهيم من هذا الدفاع العجيب وقال :

- هو فاعل أصيل .

- ولكن تقديرك للظرف اللي جرفه .. هل تدخل هذا الظرف في حسابك ؟

- لا شك

- هل من شأن الأجهزة السرية أن يحتفظ صغارها بإرادته كما يحددته القانون ؟

- الذي أعلمه في هذا أن كل فرد لا يقوم بعمل إلا إذا كان طبعا متحمس له وعارف تفاصيله ومقدر نتائجه .

- هل استغل في ذلك جهله ؟

- لا يا أفندم .. استغل في ذلك تشبعه بالعمل الذي سيقوم به .

- هل كان محمود عبد اللطيف أكثر منك تشبعا بمبادئ الإخوان ؟

- أنا شخصيا لم أتبين إلا أنه شخص طبيعي .

هل كنت تقدم على ما أقدم عليه ؟

وبحسم وقطع وعيناه تلمعان قال إبراهيم الطيب والظن أنه كان يعرف سر هذه الحادثة المفتعلة :

- لا ..

- إذن استغل فيه ظرف خاص .

والتفت إبراهيم الطيب ناحية محمود عبد اللطيف وتأمله لبرهة ثم عاد للدفاع :

- أعتقد هذا .

- تعتقد ذلك ؟ هل استغلال البساطة والجهل صغار ممن يبذله ,لاّ لأ؟

- لا شك في هذا .

وممن ينتفع به ؟

- لا شك في هذا .

وأوجس جمال سالم في نفسه خيفة من طريقة استجواب الشاهد , وطريقة الشاهد في الإجابة وإمعان النظر إلى المتهم وطريقته فينطق الجمل والكلمات فتدخل بطريقته المعهودة .

جمال سالم  : طبيعي لما يكون متحمس للعمل المتحمس له يكون صادر بأوامر من رياسة عليا في الجهاز.

وفي رأيي أن هذه الجملة في حد ذاتها دليل من أدلة افتعال الحادث!!

وأجاب إبراهيم الطيب :

في بعض الأحيان قد يكون الشخص متحمسا من تلقاء نفسه من غير صدور .
أوامر له .. وفعلا كنا نلقي بعض الإخوان متحمسين ولا يرضون أن يتقبلوا أوضاع الجماعة .

جمال سالم ولذلك عملتم الجهاز الإرهابي على الجهاز السري علشان ما حدش يدخل فيه ويعرف يخرج منه .

وهكذا سار جمال سالم بالاستجواب سيرا آخر مختلف .

وأجابه إبراهيم الطيب :

طلعوا كثير ..

جمال سالم : طلعوا لما جيتم تطلعوا السندي ... وبذلك طرد السندي ..وبعدين راح جايب سياسة جديدة .. علشان كده المرشد قال ... لا سرية في الدين وغير الجهاز وجاب إبراهيم الطيب ويوسف طلعت ..

وخرج عبد الرحمن السندي بالجهاز بتاعه .. وجه إبراهيم الطيب ورئيسه يوسف طلعت بجهازه .

وتشاغل جمال سالم بملل , وترك الدفاع يواصل استجوابه .

الدفاع : ما هو تقديرك لخطر الجهاز السري بعد أن بان على النحو الذي لم تكن تعرفه قبل أن يبين ؟

ونظر إبراهيم الطيب ناحية الدفاع ساخرا من هذا الحديث الغريب فقد نسي الدفاع أنه يخاطب أحد قادة هذا الجهاز .

وقال إبراهيم الطيب :

- لا شك أن اندفاع الأفراد بدون ما يكونوا ملتزمين بالخطط الموجودة المتفق عليها من الرياسات.. دي مسائل خطيرة .. تحدث ولا شك بلبلة .. وتحدث اضطرابا .. وتحدث يعني مسائل لا مصلحة لأحد فيها ..

الدفاع : يعني لو نجح الحادث تحدث بلبلة ؟

إبراهيم الطيب : أنا أتكلم كلام عام ..

الدفاع : إزاي ؟

زلة لسان

وتدخل جمال سالم .

- أنت قررت خطة , ووصلت هذه الخطة لرؤساء المناطق .. ومن هؤلاء الرؤساء هنداوي دوير .. وصلت الخطة ..وضعت في المكتب الأعلى .. اللي هي اللجنة العليا بموافقة رئيسها حسن الهضيبي .. رحت بلغت هذه التعليمات .. ما ارتآه محمود عبد اللطيف هو الجزء الأول من هذه الخطة ..

ولنتأمل العبارة الأخيرة في كلام جمال سالم ولنضع تحتها خطا .

" ما ارتآه محمود عبد اللطيف هو الجزء الأول من هذه الخطة " وهذه هي زلة اللسان , وقد تكررت كثيرا في كلام جمال سالم ولكن هذه العبارة السابقة أكثر وضوحا ..

ليست هناك أوامر من قيادة الإخوان باغتيال جمال عبد الناصر

وأسرع الدفاع المتعاون مع المحكمة ليساعده .

الدفاع : ده تسمية بلبلة .

وأدرك جمال سالم الخطأ الذي وقع فيه فاندفع يتحدث بصوت عال :

- كيف تفسر أن توارد الخواطر بتاع محمود عبد اللطيف .. فكر في فكرة وطلع ينفذها تقوم تطلع مطابقة لتفكير المكتب الأعلى المكون من فرغلي .. خميس .. طلعت ... شادي برياسة حسن الهضيبي .. هذه الأمخاخ قعدت تمحص وتضع خطة .. الجزء الأول خطر مصادفة في نفس الوقت .. بنفس الطريقة .. وبنفس التفكير لمحمود عبد اللطيف .
- والذي ثبت مع التاريخ والتحقيقات وانقضاء الزمن أنه لم يكن هناك أية خطة غير المظاهرة المسلحة لتأييد محمد نجيب لو أعلن الحريات ورفض الديكتاتورية , ورفع شعار الديمقراطية ودعا إلى الانتخابات .. وغير هذا لم تكن هناك خطة .. وهذا كلام كل من وقف أمام محكمة الشعب بعد التعذيب البالغ الذي وقع عليه بمن فيهم المرشد العام .

- وقال إبراهيم الطيب :

- قلت في هذا إن الخطة..

وقاطعه جمال سالم :

- يبقي المعقول إن الخطة راحت الرياسة ورئيسها بلغها بتكليف .. ومحمود عبد اللطيف قام بتنفيذها... فشلت الأولانية .. كر الخيط زي البلوفر .

- لا فيه أولانية ولا تانية ! ويا قلبي لا تحزن .. على طريقة جمال سالم !!

وقال إبراهيم الطيب .

- ما كنش من مقتضي الخطة .

وقاطعه جمال سالم :

- دي كتبت أربع مرات والناس حايسمعوها ويقروها .. نقولها تاني ونكتبها لخامس مرة .. الناس يدعوا علينا بعدين ...

- وضحك الخنازير . وضجت القاعة بالضحك وهم لا يدرون الشر القادم بعد مهزلة جمال سالم هذه التي لم يسمح لغيره بالكلام فيها .

- وسكت إبراهيم الطيب رحمه الله , فقد كان يعرف آخرتها ..

- وسأله الدفاع :

الجهاز السري .. هل بان لك أنه يحمل خطرا على الوطن ؟


والتفت إبراهيم الطيب بطريقة غير شعورية ناحية محمود عبد اللطيف الذي أطرق برأسه إلى الأرض .. ثم ناحية جمال سالم الجالس على المنصة وقال :

إبراهيم الطيب : على هذا النحو يعتبر أنه فيه خطر على الجماعة وعلى الوطن : وقال هذه العبارة بلهجة ذات مغزى قد فهمها كل من يعرف بتلفيق الحادث .

الدفاع: هل كان يتأتي لحكومة دستورية تطبق القوانين العادية لا الاستثنائية أن تقمع هذا الشر وتحمي الوطن منه ؟

ولم يرد عليه إبراهيم الطيب فقد بدا عليه أن صبره يوشك أن ينفد , وأعاد الدفاع الكلام مرة أخري بطريقة مختلفة .

الدفاع : بأن لك خطره .. هل كان يتأتي لحكومة دستورية .. القوانين العادية تحكمها أن تقمع هذا الخطر بديناميته.. بحاله ؟

إبراهيم الطيب : لا أعتقد أن هناك مانعا.

الدفاع : هل من أجل تفادي هذه الحالة طالبتم بإعادة الحياة الدستورية لأن الانقلاب في ظل الدستور أسهل منه في الحالة التي لا يكون فيها دستور ؟

وأجاب إبراهيم الطيب ساخرا :

- أى .. حانقلوا سيحدث ؟

- ولم يفهم الدفاع فقال :

- هه ؟

وانتبه إبراهيم الطيب وتذكر أين هو فقال :

- أى حالة لو سمحت ؟

- هل من أجل هذا الانقلاب الذي بدأ .. كان في نيتكم أن تطالبوا بدستور ؟

- هل الانقلاب في حالة وجود دستور أهون وأسهل من الحالة التي لا يوجد فيها دستور ؟

ضباط الثورة عملا لأمريكا

ووقف جمال سالم " يردح " :

- ما كانش بيطالب بدستور كما قال وقرر إن الرئيس محمد نجيب عندما كان يعضد هذا الانقلاب الإخواني بجزء من القوات التي أفهمهم أنها تحت سيطرته وكان ذلك في أبريل أو آخر مارس .. وكان طبعا معروف لدي الجميع ما هي حوادث مصر وما هي الأدوار التي مرت بها البلاد من فبراير لمارس لأبريل ..

كان معروف ..

قال لك نجيب محمد نجيب .. ونقول للناس علشان يديهم حانجيب لكم حريات

حانجيب لكم برلمان وإنما ما قالش حنعمل .

خطوات التنفيذ لم توضع .. بل وضعت الإعلانات .

وضعت المانشيتات اللي حانتنشر في الجرائد ..

وضعت الألفاظ اللي حيحلي بيها الكلام كل ده على ورق إنما تنفيذ الخطة ..

بتعمل إيه في البلد ؟

تمشي إزاي ؟

تتحكم إزاي ؟

تأكل إزاي ؟

تشرب إزاي ؟

تدافع عن نفسها إزاي ؟

طبعا مش ضروري لأن الكلام ده تبلبعه تاني يوم .

والجهاز الإرهابي موجود .

جهاز إرهابي بعشرة آلاف والجيش يبقي مائة .

يبقي الجيش الحقيقي هو الجهاز الإرهابي ..

مين اللي يفتح بقه في البلد ؟

مين الست اللي كانت حتقدر تخرج في الشارع ..؟

ومين الست اللي كانت حتقدر تروح الجامعة وتتعلم علشان تطلع تشتغل وتساعد أهلها ..؟ ومش عيب إنها تساعد أهلها لأننا كلنا بنساعد أهالينا ..

وأشار إلى إبراهيم الطيب رحمه الله بحركة بذيئة بيده

وضحكت الخنازير!!

وقال الدفاع , ولو كان يحترم الثوب الذي يرتديه لانسحب من القاعة :

الدفاع : سؤال أخير .. هل كان من قبيل المصادفة وحدها أن تكشف وزارة الداخلية مؤامرة صهيونية هدفها الفوضى والحيلولة بين مصر وبين كمال الاتفاقية في نفس الوقت الذي يبين فيه أن هناك جهازا سريا للإخوان هدفه الانقلاب عن طريق الفوضى أو الفوضى عن طريق الانقلاب ؟

إبراهيم الطيب : أنا طبعا لم يصل إلى علمي شئ بالنسبة للمؤامرة الصهيونية .

الدفاع : ده نشرته الجرايد .

جمال سالم : باعتباره محامي في مكتب عبد القادر عوده ما يصحش أنه يقرأ حاجة عن الصهيونية .. لو قرأها في الجرنال يقول استغفر الله العظيم

وضجت القاعة بالضحك .. كأنك تجلس في " غرزة " وليس محكمة !

إبراهيم الطيب  : أنا مدي معلوماتي إن الإخوان كانوا بيقفوا مواقف باستمرار.

الدفاع : أنا لا أسألك عن الإخوان .. دي مصادفة ولا لها أصل ؟

ونظر إبراهيم الطيب ناحية حمادة الناحل وفي عينيه كل أنواع الازدراء الصامت ثم قال :

- لا أعتقد أن الإخوان أداة للصهيونية .

- لا تعتقد أن الإخوان أداة للصهيونية ؟

- لا .

- ولو من غير اتفاق ؟

- لا

- أنا لا أقول إن هناك اتفاقا ..

- والحكمة المشهورة تقول " من كثر كلامه كثر خطؤه " وهذه تنطبق بالضبط على جمال سالم فعلي حين أن المفروض قيه الصمت ووزن الكلام الذي يقال أمامه ما دام قد جلس على منصة القضاء ولو من باب التمثيل لإيهام الناس أنه قاضي حقيقي , إلا أنه لم يدع فرصة للكلام إلا وانتهزها وهو يسكت النائب العام والمحامي والمتهم والشاهد ليتكلم هو .

وهذه عجيبة من العجائب ...

فقد كانت زلاته كثيرة .. ومن خلالها يستبين أن الإخوان لا دخل لهم بحادث المنشية .ومن خلالها نفهم أنه زملاءه عملا للأمريكان .

ومن هذه المنصة التي جلس عليها قاضيا سقط إلى المجهول بعدها ,وهكذا رسم له جمال عبد الناصر .. فقد جعل الناس يمقتونه لموقفه في هذه المحاكمة الهزلية وكان من السهل خلعه بعد ذلك.. وكان هو الذي يمني نفسه بالجلوس مكان عبد الناصر .

وكان جمال سالم كما هو معروف من النوع العصابي المصاب بما يسمي بالأفكار التسلطية .

فهو يجلس مع الناس ويتحدث إليهم , ثم فجأة يتكلم في موضوع لا علاقة له بما يقولون.. ثم يستمر الحديث ويقطعه هو ثانية إلى نفس الموضوع ..

وينسي أنه قد تكلم فيه من قبل أكثر من عشر مرات .

هكذا كانت شخصية جمال سالم المريضة التي وضعت في تلك الحقبة من الزمن للتنكيل بالإخوان المسلمين .

واندفع جمال سالم :

ولما يبجوا الضباط ويوجدوا حرب أهلية ويخربوا الطرق والمواصلات ويخربوا المنشآت والناس متلاقيش تاكل ونعمل زي البلاد اللي حصل فيها كده .. اللي كانت تاخذ تموينها من روسيا أقدر أعرف أنك ما كنتش بتشتغل لحساب إسرائيل ؟... أقدر أفهم أنك كنت بتشتغل لحساب روسيا ؟

لأن كل البلاد اللي عملت كده كانت بتشتغل لحساب روسيا وكانت بتجيلها إمداداتها من روسيا .

كانت تجيلها الذخائر والعتاد والملابس من روسيا .. والأدوية والأكل وجميع المعدات الخاصة بطرق المواصلات والسكان .. يا كانت تجيلهم من أمريكا .. فأي الطريفين كنت تعمل له .. روسيا ولا أمريكا طالما استبعدنا إسرائيل .

إبراهيم الطيب  : ( بعد أن نظر إليه طويلا ) لا هذا ولا ذاك .

جمال سالم  : يبقي ماذا يكون حكمك على إنسان يفعل فعلة وهو لا يعلم مداها ؟

الدفاع : ( مكملا ) ونتائجها ...

إبراهيم الطيب : السؤال تاني لو سمحت سيادتك لأن مش سامع .

جمال سالم : من الساعة عشرة الصبح لغاية دلوقتي .. المرة الوحيد اللي ما سمعتنيش فيها ..

وأشار إبراهيم الطيب ناحية الدفاع وقال :

- الأستاذ أصله ..

جمال سالم : غلوش عليك يعني ؟

إبراهيم الطيب : أيوه

جمال سالم  : ( شاخطا في الدفاع ) من فضلك سيبه .

الدفاع : ( مستخذيا ) وهو كذلك ...

جمال سالم : ( مستأسدا ) أنا بقول لك .. ما حكمك على إنسان يأتي بمثل هذه الفعلة .. ولا يجعل في حسبانه ما سوف يتعرض له من نتائج ؟

إبراهيم الطيب : يبقي تفكيره ناقض .

جمال سالم  : تفكيره ناقص ؟ يعني تفكير القيادة اللي وضعت الخطة دي كان تفكيرها ناقص ؟

إبراهيم الطيب : لا شك إنه ناقص .

جمال سالم : لا شك أنه ناقص ؟

إبراهيم الطيب  : أيوه

جمال سالم : كفاية .

وجاء الدفاع يهز ذنبه وقال :

- بماذا تعلل استنكار العالم الإنساني كله لأعمال الإخوان فيما عدا راديو إسرائيل فقد أقرها ودافع عنها ؟ (شوف الكذب !)

أما جمال سالم فكان في أفكاره الخاصة والتفت ناحية كاتب الجلسة وقال :

حط خط تحت ناقص من فضلك .

إبراهيم الطيب  : ( يجيب على الدفاع ) ما سمعتوش وما سمعتش صدي الجرائد بره .

الدفاع : ما سمعتوش صدي الجرايد بره ؟

إبراهيم الطيب : أيوه .

جمال سالم : كوبري ؟

الدفاع : وإذا كنت أن بانقل لك هذا الخبر .. هلي تصدقني ؟

جمال سالم : ليه هو أنت من الإخوان ( ضحك ) هو لا يصدق إلا اثنين ..

يوسف طلعت وحسين كمال الدين.... أستغفر الله العظيم ... أنا قلت اثنين وهم ثلاثة .. هم ثلاثة .. وعودة .. والرد على ذلك أنه كان حيعمل لهم كوبري ينطوا عليه..

( وطريقة كلام جمال سالم نصفها غير مفهوم لأنه يعبر عن هواجس داخلية وخاصة جدا وتشغله وحده )

إبراهيم الطيب : لم يبلغني شئ .

الدفاع : أنا باديك هذا الخبر .. كل الجرايد استنكرت هذه الحوادث وقالت عنها إنها حوادث جهنمية .

إبراهيم الطيب : لا شك أننا نستنكر هذا الحادث .

الدفاع : باقول لك .. بماذا تعلل أن إسرائيل وحدها هي التي دافعت عن هذه الأعمال وأقرتها ؟

وهنا استفاق جمال سالم لجملة سابقة قالها إبراهيم الطيب .

جمال سالم : لو سمحت .. مين اللي يستنكر الحادث ؟ ... أنت تستنكره ؟

وفي شجاعة بالغة قال إبراهيم الطيب وعيناه في عيني جمال سالم :

- أيوه ... لا شك في ذلك .

ونسي جمال سالم نفسه كالعادة .

وقال ما يدين ويؤكد افتعال الحادث :

- في حين إنه موجود في الخطة بتاعتكم اغتيال جمال عبد الناصر .. وإن ما كانش جمال عبد الناصر يبقي زكريا محيي الدين .. وإحداث حرب أهلية .. الكلام ده أنت قلته وقررته هنا ... وبعدين تستنكر الخطة بتاعت القيادة بتاعتك ؟

- إبراهيم الطيب : أنا أستنكر الحادث كما وقع .

جمال سالم : آه صعب عليك جمال عبد الناصر .. ولا مكسوف من نفسك وأنت راجل من الصف الثالث لأن طلع تفكيركم باين بالشكل الوقح ده والانهيار الي انهارتوه يا مؤمنين ( من التعذيب يا جيمي ) ... يا أصحاب الدعوة يا أصحاب تقوية النفوس ..

يا أصحاب تقوية الأخلاق دعائم الآدمية.. مش انت اللي قلت على الخطة دي .. اغتيال جمال عبد الناصر ؟ .. قلتها وبلغتها بصفتك قائد منطقة القاهرة لهنداوي دوير ؟

إبراهيم الطيب : أيوه في حالة وجود اعتداءات.

جمال سالم : الادعاء ... فيه أسئلة ؟

وكيل النائب العام : كفاية .

جمال سالم : إكراما للتاريخ علشان خاطر اللي ما سمعش اسمك في الأول يسمعه في الآخر .. اسمك إيه ؟

إبراهيم الطيب : إبراهيم الطيب .

وكان طيبا طاهرا رحمه الله .

جمال سالم  : بتشتغل إيه ؟

إبراهيم الطيب  : محامي .

جمال سالم  : سنك كام سنة ؟ إبراهيم الطيب : 32 سنة

جمال سالم : طيب اتفضل ... مع السلامة ..

( وعلى أثر ذلك انتهت شهادة الشاهد )

اتفرجوا يا إخوان .. اتفرجوا يا مواطنين .. اتفرجوا عليه وهو خارج

وخرج الشهيد إبراهيم الطيب في خطوات واثقة ورأسه عالية والخنازير تبصبص له بعيونها ( عن اليمين وعن الشمال عزين )

وانتهت شهادته العجيبة في هذه القضية العجيبة

ورفعت الجلسة .

الفصل العاشر " لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " لم أحاول قتل الزعيم

وإن الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جدا

إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

ولا أحمل الحق الدفين عليهم

فليس كريم القوم من يحمل الحقدا
( شاعر جاهلي )

ليلة التنفيذ

عرف أن حكم الإعدام سوف ينفذ في صباح الغد .

وكانت ليلة شاتية شديدة البرودة من ليالي شهر ديسمبر 1954 , وعلى وجه التحديد يوم 15 منه , وكان أذان العشاء يأتي إليه من بعيد , فابتهجت نفسه وسر قلبه , وظن أنها الشهادة في سبيل الله تأتيه على قدر من الله , بغض النظر عن الظروف والمسببات التي أدت إلى ذلك .

  • وكانوا قبل ذلك بأسبوع وعلى وجه التحديد يوم 8 من الشهر نفسه قد علقوا على أعواد المشانق كلا من :
الأستاذ عبد القادر عودة .
الشيخ محمد فرغلي
الأخ يوسف طلعت
الأستاذ إبراهيم الطيب .
الأستاذ هنداوي دوير .
الأخ محمود عبد اللطيف .

فالموت حق لا ريب فيه , وهو آت لا محالة والاستعداد للقاء الله أولي , واستقر عزمه ألا ينام هذه الليلة , وهو يبدأ بالصلاة ثم يقضي وقته في الاستغفار والتسبيح حتى يأتي الموعد وهو في العادة بعد صلاة الفجر بقليل .

وصلي ليلتها العشاء وقرأ فيها سورة البقرة كاملة .

وأطل عليه ضابطان على صبري .. جمال سالم .. نظر إليه قليلا ثم انصرفا .

وعندما أتم صلاته وسلم منها فتح الباب ودخلا إليه مرة ثانية ووقف صاحبنا انتباها فهذه هي العادة في السجن الحربي عندما يدخل أى مخلوق يرتدي ملابس كاكية فعلي من بالزنزانة أن يقف انتباها وإن كان يصلي فعليه أن يخرج من الصلاة هكذا كانت التعليمات والتقاليد المتبعة والويل كل الويل لمن يخالفها أو يخرج عنها فجزاؤه الضرب بالسياط ضربا شديدا موجعا مبرحا .

وصاحبنا لم يخرج من صلاته فهو لا يخاف جلاديه لأنه ضرب ضربا يكفي لقتل عشرة وهو يقضي الوقت في " الشفخانة " ولا يقيم بها إلا المشرفون على الموت من شدة العذاب , وهو لا يخشاهم فقد حكوموا عليه بالإعدام وحددوا له موعدا هو الصبح القريب , ومن ثم فليست هناك ضرورة للخروج من الصلاة فقد ذهب الخوف وجاء الأمن مع تلك البشري التي وصلته بتنفيذ حكم الإعدام مع الصبح .

كان هذا الرجل هو سعد حجاجالمتهم الثالث بمحاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر .

أو هكذا زعموا ..

وقف جمال سالم وقفة مستهينة ساخرة بينما تحدث إليه على صبري :

- ماذا كنت تفعل ؟

- أصلي .

- لمن؟

- لله .

- أين هو؟

- لا يحده المكان ولا الزمان .

- لو كام موجودا لأنقذك من الإعدام

- أستغفر الله العظيم .

الرزق والأجل بيد الله

- هل تعرف أن الحكم سينفذ في الصباح ؟

- سمعت بهذا .

- وأربد وجه على صبري وهو يقول :

- كأنك لا تخشي الموت ؟

- ورد عليه سعد حجاجفي هدوء وطمأنينة :

- الموت حق ولكن من يدريك أنني أموت غدا كما تقول ؟

- الحكم الذي تم التصديق عليه .

- اسمع يا سيادة الضابط .. شيئان لا يملكهما احد إلا الله سبحانه وتعالي الأجل والرزق .. وأنتم تملكون كل ما عدا هذا : التعذيب ... الضرب .. الاعتقال وهذا أيضا يأتي بقدر الله .

وتبادل على صبري وجمال سالم النظرات , وأشار له الأخير بيده إشارة تفيد أنه مجنون مختل ولا داعي للإطالة معه .

ولم ينطق جمال سالم بكلمة واحدة فهذا المتهم كان من المفروض أن يمثل أمامه للمحاكمة , ولكن حدث تعديل وأجل النظر في قضيته إلى الدائرة الثانية حتى يشفي من جراحه البشعة , وكانت الصحافة تتابع محكمة جمال سالم , أما محكمة صلاح حتاتة فكانت مقامة في مسرح قديم مهجور أقامه الإنجليزلجنودهم عندما كانوا يحتلون مصر قبل ضباط الثورة , وكانت محكمة شبه سرية فلا تتباعها الصحافة وممنوع على مندوبي وكالات الأنباء الذهاب إليها , ويفعل فيها ما يفعل في السجن الحربي فيجوز ضرب المتهم أمام القاضي ,أو يأمر هو بضربه , بين ضحك السادة وكلاء النيابة والمحامين ومندوبي مصلحة الاستعلامات, وكان كل شئ جائزا أمام هذه المحكمة كل شئ على إطلاقه ودون تحديد أو موانع .

وعندما كثر العدد جعلوا الصولات ينظرون في القضايا ولم تعب الصولات صاروا يرصون المتهمين صفوفا ويقولون هذا الصف عشر سنوات , وذلك خمس عشرة سنة,والويل كل الويل لمن يحاول أن يقفز من فئة الخمس عشرة إلى فئة العشر سنوات .

واستفاق سعد حجاجعلى صوت على صبري :

- فيم تفكر ؟

- في لقاء الله .

تم تركاه وانصرفا ..

معسكر الإنجليزفي بشتيل

كان صبيا صغير السن يعيش في قرية بشتيل مركز إمبابة , لم يتجاوز عمره الأربعة عشر عاما .

وهي قرية من قري الريف المصري بخصائصه المعروفة , حيث تتميز العائلات ويعرف الناس بعضهم بعضا , وهم يعيشون على الفطرة , ويتمسكون بتقاليد الريف المعروفة من الشهامة والنخوة وحب الخير والميل إلى التعاون والمواساة في المصائب والأحزان .

وفي العادة يقل أهل الشر في قري الريف, وهم يعرفون بسيماهم , ويكثر أهل الخير بوجه عام , وهذه من خصائص الريف عادة في كل بلاد الدنيا .

وكانت القرية المصرية ولا تزال هي المكان الخصب الذي ينبت فيه الإسلام .

وكان على مقربة من قرية بشتيل – حيث كان يعيش صاحبنا سعد حجاج– معسكر للإنجليز وقد انتشرت معسكرات الإنجليزفي القطر المصري , حيث كانت الحرب العالمية على أشدها واشتد عداء الشعب المصري لهم , وكانوا ينظرون لروميل المنتصر المتقدم نحو الإسكندرية على أنه المخلص لهم مما هم فيه من عنت وذل .

وكان سعد حجاجكغيره مسلما متوثبا , يشعر بوطأة الاحتلال الإنجليزي ويتمني لو يفعل شيئا رغم سنه المبكرة وإمكاناته الضعيفة وشاب صغير في قرية متطرفة عن العمران ماذا يمكنه أن يفعل غير الحقد والغضب والترقب .

وكان كعادته يخرج من بيته لصلاة الفجر , ثم يأخذ طريقة عبر الدروب والسكك حتى يصل إلى مقربة من معسكر الإنجليزفيرقبهم عن بعد , وينتظر حتى نوبة الاستيقاظ فيغلي صدره كالمرجل وتمتلئ نفسه وروحه بمشاعر متباينة , ثم يعود حزينا إلى داره يفكر في كيفية الخلاص من هؤلاء الكفرة الملاعين .

وكان هذا الأمر يلح عليه في صحوه , ويؤرقه بالليل ويشغل باله في النهار وكان مرأى الإنجليزأمامه يؤكد له أنه مستذل ومستهان ومستضعف ويتجسد في خاطره هوان المسلمين علي العالم فهو يسمع أنهم يحتلون معظم بلاد المسلمين .

وأحس بوجدانه أن سبب هذا الذل والبلاء هو ضياع معني الدين من نفوس المسلمين لهذا فقد كان حريصا على الصلاة جماعة في المسجد , ويحضر درس الشيخ كل ليلة بين المغرب والعشاء وأدي كل هذا إلى تعميق الإحساس بالدين لدي صاحبنا الصغير .

الاعتداء على فتاة

وكان من عادة الإنجليزأن يخرجوا من معسكرهم القائم بين أشجار الليمون للسهر عند بعض من ييسرون لهم شرب الخمر من غير المسلمين , أو لتدخين الحشيش أو للعبث مع من يسمح لهم بذلك ثم تطاول مرة – وكانوا عائدين من إحدى هذه السهرات – جند من الإنجليزقد لعبت برءوسهم الخمر وأفسد تقديرهم الحشيش وأمسكوا بفتاة جميلة كانت على حمار ذاهبة إلى الحقل , وجورها إلى المعسكر واعتدوا عليها .

وهاج كبراء القرية وماجوا ,ولكنهم لم يستطيعوا شيئا وماذا يمكنهم أن يفعلوا تجاه المعسكر الإنجليزي ؟ لا شئ في قدرتهم وطاقتهم , فالأمر أكبر منهم .

ولكن سعدا جمع إليه مجموعة من الصبية الأشداء الأقوياء بلغ عددهم ثمانية واتفقوا على الانتقام .

الانتقام من الإنجليز

وكانت الضحية الأولي جنديا أمسكوا به فالعسكر الإنجليزلم يشعروا أنهم قد فعلوا شيئا منكرا يهز شيئا في تصور هؤلاء المساكين من أهل القرية فقد صاروا يروحون ويجيئون كيفما شاءوا والقرية تغلي من الحقد والغضب.

واختفي هذا الجندي !

لم يستخدموا غير أيديهم في قتله , فقد خنقوه وألقوا به في ساقية مهجورة ثم الثاني فالثالث فالرابع , وهؤلاء أغرقوهم في ترعة " الزمر " وقامت القيامة وجري البحث في كل مكان , وجاءت الشرطة والكلاب البوليسية ولا حس ولا خبر وأحس سعد بالراحة والهدوء إلى حد ما فقد انتقم لشرف قريته على نحو ما , وكان حريصا أن يكون الضحايا أولئك الجند الذين خطفوا الفتاة وأخذوها سرا إلى المعسكر .

وبعد أيام طفت الجثث في الساقية وفي الترعة واقتيد الناس من المشتبه فيهم إلى مركز إمبابة للتحقيق .

التحقيق على الطريقة الإنجليزية .. يعني بلا جلد ولا تعذيب.

وقبض على سعد وعلى أقرانه .

والكل أنكر التهمة , وعاد الجميع إلى منازلهم وحرمت قيادة المعسكر على الجنود النزول إلى القرية إلا جماعات وللضرورة القصوى .

ثم اضطروا أخيرا لتغيير مكانه والانتقال إلى مكان آخر بعيد عن العمران .

إنجليزي مسلم!

ومر سعد مرة فوجد جنديا يصلي تحت شجرة !

ووقف مشدوها حتى انتهي ذلك الجندي من صلاته وفوجئ به يخرج من جيبه مصحفا ويقرأ فيه واقترب منه على حذر وقال :

  • - السلام عليكم .

- ورد عليه الجندي الإنجليز:

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

- ووقف سعد محدقا لبرهة مشدوها وقال :

- إنجليزي ويقرأ القرآن ! إن هذا لشئ عجاب !
- بل هو عربي مسلم يقرأ القرآن .

- وكيف كان ذلك ؟

وقال له الجندي
- يا أخي .. أنا من سوريا وقد جندت قسرا في الجيش الإنجليزي
- لا حول ولا قوة إلا بالله !

- وصار الجندي يفتش في جيوبه ويخرج له بعض الأوراق والصور :

- اسمي محمد رشاد وهذه هي " الهوية" الخاصة بي , وهذه صور أولادي ودعاه سعد لتناول الطعام , وفي الطريق رآه زملاؤه الذين شاركوه في قتل من قتلوا من الإنجليز, فصاح بهم واحدا محذرا وقد ظن أن سعدا قد جاءهم بضحية جديدة:
- خلي ّ بالك يا سعد عايزين نقتله بعيد أحسن المرة دي حنتمسك .

- وذعر الجندي السورى قليلا ثم ابتسم :

- هوانتم اللي عملتوها .

وذعر رفاق سعد وهموا بالفرار فاستوقفهم سعد :

- هذا أخونا من سوريا .. مسلم مثلنا ولكنه جند رغم إرادته وساعدهم هذا الأخ السوري في سرقة أسلحة كثيرة من مخازن المعسكر , وذلك قبل أن ينقلوه إلى مكان آخر .

- ثم تعاونوا جميعا رغم سنهم الصغيرة في تهريب محمد رشاد إلى بلده .

الطريق إلى الإخوان

- وفي يوم من الأيام في عام 1948 نزل سعد ورفاقه للنزهة واللهو في القاهرة وألقي بهم الطريق إلى حق بولاق حيث كان حسن البنا يلقي خطابا بمناسبة الهجرة وصوب سعد ورفاقه إلى السرادق لأن صوت الخطيب قد جذبهم إليه بصوته الرخيم

المؤثر الذي يصل إلى القلب بسرعة , وسرعان ما أخذوا مكانا قريبا يستمعون إليه , وقد نسي سعد ما جاء من أجله من لهو ونزهة .

وقال سعد :

- كأن حسن البنا رضي الله عنه يحدثني أنا شخصيا عما في نفسي ,وكل كلمة قالها مست قلبي وفكري , كان يتكلم عن الجهاد في سبيل الله ودور الشباب في هذا , ويضرب الأمثلة بأسامة بن زيد وغيره من الشباب الذين أقاموا بناء الدين .
- وانتهي خطاب حسن البنا بعد أن غير نفس صاحبنا هذا , وجعله يسأله عن هذا الرجل وماذا يفعل ؟ وما هو الطريق إليه ؟

وذهب إلى المركز العام وجاء مكانه بجوار المرحوم المهندس حسنين الفيومي , واختصارا للقول فقد انضم لأسرة من أسر الإخوان وسلك طريقهم منذ ذلك الحين .

ومن الطبيعي لشاب مثله قد أحس وطأة العار من جند الاحتلال وهم كانوا بالأمس القريب يسيرون في طرقات قريته وفي أيديهم البنادق في آخرها الحراب تلمع في الشمس ثم انتقم منهم بعد أن لوثوا شرف قريته , أن يبادر بالانضمام إلى النظام الخاص للإخوان المسلمين فهو مؤهل تمام لهذا .

وقد دعاه إلى الانضمام بعد التجارب والاختبار المرحوم هنداوي دوير عام 1950 .

شعبة للإخوان في بشتيل

وكان سعد وآخرون قد أقاموا شعبة الإخوان بقرية بشتيل من قبل وصار له نشاط بارز فهو يقضي معظم وقته في خدمة الدعوة والجماعة على فقرة وقلة موارده, وربما ذهب على دراجة ليأتي بشاب صغير متحدث لبق اسمه صلاح أبو إسماعيل ليلقي كلمة في الشباب , وكان يقطع على هذه الدراجة ما يقرب من ثلاثين كيلو مترا ليأتي به ثم يعيده مرة أخري .

استطاع أن يصنع شعبة نشطة في القرية وامتد نشاطه إلى المركز , ثم إلى النظام الخاص كما ذكرنا .

وكان في أثناء هذا كله يقوم على افتتاح الشعب الإخوانية في القرى, المجاورة ويقوم على تنظيمها وبناء هيكلها الإداري , ويستجلب لها الزائرين من كل مكان يستطيعه ليتحدثوا ويتكلموا ويزيدوا من جذوة الإيمان في نفوس الشباب والشيوخ .

لم يشترك في الأعمال التي قام بها النظام قبل الثورة , فلم يطلب منه ذلك ولكنه درب تدريبا جيدا على الرماية وحرب العصابات .

وأسأله عن هنداوي دوير فيقول :

- كان شديد الحماسة للإسلام صاحب دين , اشترك في كثير من الأعمال الفدائية وله خبرة واسعة بالأعمال السرية وحرب العصابات , اشترك في عمليات كثيرة ضد الإنجليزفي القنال أثناء الحرب العالمية وبعد ذلك , وهو من العناصر المجاهدة التي لا أستطيع أن أقول ضده شيئا في دينه وخلقه وأمانته وحرصه .

القبض على سعد حجاج

أطلق الرصاص على عبد الناصر في المنشية مساء يوم 26 أكتوبر سنة 1954 , ثم القبض على سعد حجاجفي منتصف هذه الليلة .

طرق عنيف على الباب ثم اقتحامه قبل الفتح أو أثناءه , وانتشرت قوة كبيرة داخل الشقة , وكان قائد القوة حسن أبو باشا الذي صار رئيسا للمباحث ثم وزيرا للداخلية فيما بعد , وأطلق عليه الرصاص بسبب قيامه بتعذيب المعتقلين من الإخوان المسلمين وغيرهم خلال ثلاثة عقود من الزمن , ونجا من محاولة الاغتيال وكان معه ضابط صغير اسمه حسن طلعت قد له أن يكون رئيسا لمباحث أمن الدولة فيما بعد وله دور كبير في التعذيب والاعتقال والتشريد , ثم طرده السادات بعد أن سجنه بضعة شهور .

وسأل حسن أبو باشا :

- أنت سعد حجاج؟
- أيوه أنا ؟

- تعرف عبد العزيز شميس ؟

- أيوه .

- تعرف هنداوي دوير ؟

أيوه .

تعرف محمود عبد اللطيف ؟

- أيوه .

- تعرف عصفور البحيري ؟

- أيوه.

- تعرف ..

وقاطعه سعد حجاجقائلا :

- إن كنت تنوى أن تسألني عن الإخوان فأنا أعرف جميع الإخوان في المنطقة لأنني من جماعة الإخوان , أعرفهم واحدا واحدا .

- ونظر إليه حسن أبو باشا ساخرا وقال له :

- إذن مبروك عليك حبل المشنقة .

وكان هذا الحوار يدور في الصالة وزوجة سعد حجاج تستمع , وهنا صاحت في حسن أبو باشا :

- حبل مشنقة !! ربنا ينتقم منكم يا ظلمة يا فجرة ..
- وكان أولاد سعد الصغار يقفون لا يفهمون شيئا , محمد وعبد الفتاح وعزيزة ..
- ولكنهم يعرفون أن سحابة سوداء قد تخللت البيت كما يحدث في قصص الجن والعفاريت .
- ونظر حسن أبو باشا يمنة ويسرة فرأي أدوات " نقاشة " كانت لنقاش يعمل في البيت ,وتركها ليأتي إليها مع الصباح فيزاول ما بدأ فيه .

- وقال حسن أبو باشا :

- هل تزين البيت ابتهاجا باغتيال الرئيس ؟

- ورد عليه سعد ساخرا :

- إن كانت كل الأدلة علي هذا النحو فإن شاء الله براءة , أنا لا أعرف شيئا عن هذا الموضوع بالمرة .

- ورد عليه حسن أبو باشا في حزم :

- إن شاء الله إعدام.
- يفعل الله ما يشاء .

- أين كنت هذا النهار ؟ احكي لى من أول اليوم إلى آخره .

كان هذا يدور في الصالة أمام الأسرة والقوة الضاربة التي احتلت البيت وشيخ الخفر وشيخ البلد وبعض الخفراء وبعض الجيران وجمع من الناس .

أين كان سعد أثناء تمثيلية المنشية ؟

وقص عليه سعد حجاج:

- ذهبت إلى العمل في الصباح الباكر كالعادة في الترسانة البحرية , وأثناء العمل عرفت أن زميلا لنا في توفي , فاتفقنا أن نذهب إليه بعد الانتهاء من العمل وعدنا بعد صلاة المغرب , ومررت على محل عبد العزيز شميس وكان المغرب أوشك أن يفوتني فوقفت أصلي , وأثناء ذلك جاء هنداوي دوير وقال :

- لماذا لا تصلي في المسجد ؟

وقلت له :

- خشيت من ضياع الوقت .

ثم تكلمنا في بعض الأمور العامة وانصرفنا حتى شرفتم .

وقد تم هذا التحقيق أمام كل هؤلاء .

وقال حسن أبو باشا ساخرا :

- ومحمود عبد اللطيف ألم يكن معكم ؟

ورد عليه سعد حجاج:

- أنا قابلت محمود عبد اللطيف في الصباح المبكر .

- فين ؟

- أمام بيته .

- لماذا ؟

- كان قد طلب مني بعض الأشياء مما يوجد في الريف

- مثل ماذا ؟

- ذهبت إليه ببعض " الأذرة" الخضراء للشواء ولبن وقشطة وفقد كان ينوي الذهاب هذا النهار إلى طنطا ليعمل في مصنع صابون يملكه أولاد عمه .

- لماذا ؟

- المباحث تضيق عليه الخناق فهي تراقبه ليل نهار , وهناك من المخبرين من يقف أمام دكانه وبيته بطريقة جعلت زبائنه يخافون منه , وصاروا يتجنبونه , وهكذا وجد أن سبل المعيشة في مصر صارت ضيقة , وعندما عرض عليه أبناء عمه هذا العمل وافق , وأخبروني هذا الصباح أنه ينوي السفر في قطار الساعة الثامنة إلى طنطا فقلت له : ربنا يوفقك ويقدر لك الخير في أى مكان تعمل فيه .

امرأة تحاول خداعه

واقتادوا سعد حجاجإلى سجن مصر الذي رفض استقباله !

كان هناك نظام لا يزال على نحو ما , ولم يكن قد خلع خلعا وحلت مكانه الفوضى فذهبوا به إلى قسم الخليفة وهناك ألقوا به في غرفة مظلمة .

وفتحت هذه الغرفة بعد قليل, وألقوا فيها بامرأة لم يتبين وجهها , وقالت له :

- أنا امرأة محمود عبد اللطيف .

- وكان يعرف امرأة محمود , ويستطيع أن يميز صوتها , ولم تكن كذلك , وقال لها :

- وماذا تريدين ؟

وقالت المرأة في التياع :

-أخبرهم بكل شئ لأنهم سوف يقتلونني .

أخبرهم بماذا ؟

- إزاي كنتم ناويين تقتلوا عبد الناصر ... والاتفاق اللي بينكم وحياة أبوك أحسن دول ناويين يموتوني .

- وقام إليها سعد مخوفا لها بينما ارتفعت صرخات المرأة في الليل :

- أنا اللي ناوي اقتلك وأخلص عليكي .

- وأخرجها المخبرون الذين كانوا يقفون على باب الغرفة بسرعة وأغلقوا الباب وظل صاحبنا غارقا في أفكاره لا يفهم شيئا .

بداية العذاب

وفي الصباح أخذوه إلى نقطة من النقاط التابعة للبوليس ,ولم تكن كلمة الشرطة قد ظهرت بعد إلا في كتب اللغة العربية ووكلوه إلى عدد من الجند في أيديهم البنادق في آخرها الحراب وقالوا لهم :

يظل واقفا هكذا .. إن حاول النوم فانخزوه بحرابكم حتى الموت

وكان الجند والشاويشيه ينظرون إليه في إشفاق لأن أحد لا يفهم شيئا وبعد عدة ساعات أخذوه إلى وزارة الداخلية حيث وجد صلاح الدسوقي الششتاوي ونظر إليه ساخرا هو الآخر وألقي أمره بصوت كالرعد .

- اذهبوا إلى مبني البوليس الحربي وسوف ألحق بكم .

وأسرعوا به إلى هناك وصاحبنا لا يفهم شيئا , ولا يدري طبيعة المسألة , وكانت الأخبار تتردد هنا وهناك أن محمود عبد اللطيف حاول اغتيال عبد الناصر ولم يستطع , وسعد يحاول أن يجمع تفكيره فلا يستطيع , كيف يكون ذلك ؟ الله وحده أعلم لو كانت هناك فكرة ما لتنفيذ شئ من هذا لكان هو أول العارفين والمشاركين فكيف يتم هذا دون علمه ؟ وهل هو معقول ؟ ومن كان مع محمود مع المنشية ؟ وطرد كل هذه الأفكار , وعاد صامتا كما كان , وعقله لا يقبل شيئا مما يتردد أمامه من أقوال الجند والشاويشيه والمخبرين , وحتى يهدأ قال لنفسه لعله محمود عبد اللطيف آخر غير ذلك الذي أعرفه .

والمسألة مجرد تشابه أسماء ليس إلا , وسوف يأتون بمحمود عبد اللطيف من طنطا ويعرفون أنه برئ من هذه الحادثة وتنتهي القصة إن شاء الله على خير .

شاهد ملك

وفي مبني البوليس الحربي أدخلوه حجرة بها مكتب يتوسطه صلاح الدسوقي , وفي ناحية منه كان يجلس محمد عبد الرحمن نصير وكيل أحمد أنور قائد البوليس الحربي وحارس عبد الناصر وخادمه .

ودخل سعد وتلطف صلاح الدسوقي معه في الحديث :

- احنا عاوزين نعملك " شاهد ملك "

- إزاي ؟

- تخبرنا بكل التفاصيل فتحصل على البراءة وتنجو .

- وقبل أن يرد سعد عليه قال له صلاح الدسوقي وهو يعبث في بعض أوراق أمامه على المكتب :

- انت بتشتغل إيه ؟

- وقبل أن يرد سعد سارع صلاح الدسوقي :

- لا ... لا... هذه وظيفة لا تليق بك ... أنا عندي وظيفة أحسن كتير ..
- سيكون لك دور عظيم في بناء المجتمع الجديد .. نحن نصنع مجتمعا يكون مثلك فيه سيدا .. وسوف تأتيك الثروة .. ويسمع الناس لكلامك , ويصير نفوذك عظيما وكبيرا .. وسوف يتغير كل شئ .. المهم أن تكلمنا بالتفصيل عن الطريقة التي رتبتموها لاغتيال عبد الناصر .. وليكن في علمك أن عندي كل المعلومات .. ولكن أعجبت بك وأريد أن أخرجك من هذه القضية وأجعلك شاهد ملك.
- أبدأ بالحديث عن هنداوي , وعن محمود عبد اللطيف ثم ننتقل إلى المؤامرة

وتكلم سعد مخلصا :

- في الحقيقة لا يوجد مؤامرة على الإطلاق .
- دعنا لا نسبق الأحداث فلنتكلم أولا عن هنداوي وعن محمود عبد اللطيف .
- وتكلم صاحبنا ما شاء الله له أن يتكلم عن هنداوي وعن محمود عبد اللطيف .
- وكان صلاح الدسوقي ينظر إليه ساخرا وهو يتحدث ,وصاحبنا يتكلم على سجيته فلم تكن هناك ثمة مؤامرة لاغتيال الزعيم وهو يجيبه في حدود ما يعرفه ..

وقال صلاح الدسوقي والشيطان يطل من عينيه :

- هل هذا كل ما عندك؟

ويخبر سعد حجاج وكان على يقين من أن الأمور لن تسير على هذا النحو الهادئ فهناك ثمة برنامج سوف يكون , ولكنه قال .
- أنا على استعداد للإجابة عن كل الأسئلة .

مناورات الشيطان

وقال صلاح الدسوقي :

- قال هنداوي دوير في اعترافاته إنه قد كلفك أنت ومحمود عبد اللطيف باغتيال الرئيس جمال عبد الناصر وإنك كنت معه في الإسكندرية واشتركت في الضرب .

- ( وكان هذا التحقيق نهار 27 أكتوبر سنة 1954 , وقد تم الحادث في المساء السابق وسلم هنداوي دوير نفسه إلى البوليس في مركز إمبابة حتى الساعة الحادية عشرة صباحا , ومكث هناك مدة ثم أدخلوه سراديب الشيطان بمعني أن صلاح الدسوقي قد بدأ التحقيق مع سعد حجاجفي نفس الوقت الذي سلم فيه هنداوي نفسه وهو لم يلتق به بعد أو أحد من السادة المحققين حتى لحظات أو ساعات استجواب سعد)

- وبدا على سعد حجاجالذهول من هذا الكلام وقال :

غير صحيح , وقد شرحت لسيادتك تفاصيل ما مر بي منذ أن استيقظت من النوم لصلاة الفجر وكيف مررت على محمود عبد اللطيف لأعطيه الذرة والحليب كزيارة لأهله في طنطا , فقد كان ينوي العمل في مصنعهم كما أخبرنا ورويت لسيادتك كيف ذهبت إلى العمل ومكثت هناك حتى الساعة الثالثة عصرا ورآني عدد كبير ممن أعمل معهم , ثم ذهبنا إلى شبرا الخيمة لتقديم واجب العزاء في زميل لنا ,وعدت وجلست قليلا عند عبد العزيز شميس وجاء هنداوي كما ذكرت ولم يكن واحد فينا يعرف شيئا عن الحادث , وشرحت لسيادتك كيف ذهبت إلى البيت وكيف قبضوا علىّ وأرجوا أن تواجهوني بهنداوي .

وبنظرة ثعبانية حدجه بها صلاح الدسوقي قال :

- يعني إحنا بنكدب عليك يا سعد ؟

- يا أفندم واجهوني بمحمود عبد اللطيف و هنداوي .
- وهنا دخل ما يسمي بالسيد على صبري ولم يكن أيامها قد حمل اللقب بعد , وكانوا مستمرين في الحوار ولم يقيموا اعتبار لذلك الوافد الجديد الصامت الذي يرقب الموقف دون تدخل .

- وقال صلاح الدسوقي :

- بيقولوا عليك يا سعد إنك تعرف " مصارعة "
- هذا صحيح يا أفندم .
- طيب ياللا اخلع ملابسك

- وبدا سعد حجاجيتوتر , وقال لصلاح الدسوقي :

- ليه يا أفندم
- سوف نلعب سويا " مصارعة "

وبطبيعة الحال لم يكن أمام سعد اختيار

وخلع ملابسه ووقف أمامهم عاريا !!

العذاب الأكبر

وصاروا ينظرون إليه هادئين كحكماء الإغريق القدامي وليس على وجوههم أى تعبير وصاحبنا لا يعرف ماذا ينوون .

ثم مد صلاح الدسوقي يدع في ملل وضغط على زر الجرس وهو يقول :

- توكلنا على الله .

وفي لحظة أو أقل دخل ثمانية من رجال الجيش المصري الباسل في مواجهة المصريين وهم ممن يعملون في البوليس الحربي , وعلى وجوههم غبرة ترهقها قترة , وفي أيديهم سياط كأذناب البقر حسب الحديث الذي روي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم .

وصاروا يضربونه بالسياط على جسمه ومن كل ناحية بتشكيل أربعات يعني أربعة يضربون وفي تناسق وتناغم بحيث يتم وضع أربعة سياط على جسده في الثانية الواحدة , ثم يدخل الأربعة الآخرون عندما تتعب المجموعة الأولي وهكذا وتحول صاحبنا إلى كتلة من اللحم الأحمر الممتزج بالدماء التي تناثرت هنا وهناك وصار وهجا أحمر أليما لا يعرف أين هو ولا من هؤلاء والموضوع الذي يدور .

وألقوا به في غيابة إحدى الغرف , وقذفوا فوقه بملابسه

وساعده بعض الشياطين الطيبين في ارتدائها على دمائه وجرحه الكبير الذي شمل جسده كله , فقد مزقت السياط كل جلده .

وراح في غيبوبة النوم أو الإغماء ,اختلط الماضي والحاضر والمستقبل في إحساسه البالغ بالألم , وكأنه قد انفصل عن الزمن .

ثم عاودوا الأمر معه مرة ومرة , ولم يسعفه الموت ولم ينقذه مما هو فيه واشترك ما يسمي بالسيد على صبري في سؤاله وتعذيبه وهو لا يقول غير ما يعرف " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا "

التوقيع على اعترافات لم يقرأها

وعندما فقدوا الأمل فيه جاءوا به من الغرفة معصوب العينين وفي صالة واسعة من صالات قصر عابدين وقد عرف صاحبنا أنها واسعة من رجع صدي السوط والصوت فيها .

وقال له صلاح الدسوقي وهو يضع فوهة مسدس في أ علي صدغه :

- سوف نكشف العصابة عن عينيك, ولو نظرت يمنة أو يسرة قتلتك.

- وسوف تجد على المنضدة أوراقا , وقع في آخرها أن هذه هي أقوالك دون أن أقرأها ؟

- نعم دون أن تقرأها يا ابن الكلب .

- ولماذا لم نفعل هذا من أول جلسة ؟

- ونزل على جسده سوط جلجل في المكان كهزيج الرعد وأضاء عينيه رغم العصابة كشهاب الليل .

وجاء صوت صلاح الدسوقي

- نحن لا نسأل عمن نفعل يا ابن الكلب يا ... يا ... يا....
- خلاص يافندم سوف أوقع على تريدون .

ورفعوا العصابة للحظات ووقع بعد أن لمح شرفة فيها بعض الكبراء لم يتبين منهم غير ما يسمي بالسيد على صبري لصغر المساحة الزمنية .

لابد من عرضك على الطبيب الشرعي

وذهبوا به إلى النائب العام ليدلي بأقواله أمامه وكان حينذاك حافظ سابق وقد هال الرجل منظر سعد بدمائه وجروحه وسأله :

- من فعل بك هذا ؟

- وأجابه سعد حجاججادا :

- وقعت على السلم .

- وبدت الدهشة على وجه حافظ سابق وكأنه لا يصدق :

- إلى هذا الحد ؟!

- أنت تري بنفسك .

وأمسك النائب العام بمحاضر التحقيق بيده وقال :

- وهذه الأقوال التي وقعت عليها ؟

- لا أعرف عنها شيئا , وقد التوقيع والمسدس على رأسي .

- لم تقرأها ؟

- ماذا ستفعل ؟

- الطبيب الشرعي لإثبات الحالة .

- وبعد الطبيب الشرعي ؟

- لست أدري ..ولكني لا يمكنني أن أري متهما وقد فعلوا به هذا كله ولا أفعل شيئا .. لابد من عرضك على الطبيب الشرعي .

إلغاء القوانين والإجراءات وضياع حقوق المتهم

كان ذلك عام 1954 والمجتمع لا يزال على أخلاقه وقيمه القديمة لم يتلوث بعد. فهناك عرف عام يستنكر الجريمة وتعذيب المتهمين وهذه حالات يرونها للمرة الأولي في حياتهم , فقد كانت للمتهم حقوق كاملة أيام الملك , وعندما كانوا يريدون الانتقاص من هذه الحقوق كان ذلك يتم خفية ودون علم أحد ,وليس بهذا القدر البشع ولم يكن المجتمع والحكومة قد وصلا إلى ذلك الدرك البعيد من الإجرام الذي نراه اليوم .

صعق الطبيب الشرعي عندما رأى المتهم على هذه الحالة من التعذيب ! أرسل يأتيه بملابس من بيته هو أقصد بيت الطبيب .

استدعي فريقا من الممرضين وصاروا يعالجون رفع الملابس التي التصقت بالجلد في عناية فائقة ما أمكنهم رغم آلام صاحبنا الكبيرة .

التقط له صورة لا يدري أحد ما مصيرها .

فتح الباب ودخل صلاح الدسوقي ومعه مرافق .

وانتفض صاحبنا سعد فزعا هدأه الطبيب الذي يرقب مشهدا لم يره من قبل في حياته المهنية ...

وقال صلاح الدسوقي

- إيه ده ... إنتم بتعالجوه ... إحنا عاوزينكم تموتوه ...

وفي أدب شديد قال الطبيب

- لو سمحت تغادر الغرفة من أجل أن ننتهي من عملنا .
- وجز صلاح الدسوقي على أسنانه وغادر الغرفة .

- وأسرع الطبيب يعمل ما يمكن لسعد حجاجوقال له :

- سوف أكتب تقريرا بما رأيته متضمنا رأيي .

- يعني سوف تثبت التعذيب ؟

- أثبت التعذيب ؟

هكذا قال الطبيب ساخرا ثم أكمل :

- هذا ليس تعذيبا .. هذا شئ لم أر مثله في حياتي .. ولا أتصور حدوثه في التاريخ القديم أو الحديث .
- يعني فيه أمل ؟

وبدا على الطبيب عدم الفهم وقال :

- أمل في إيه ؟

- وقال سعد حجاج:

- الأمل في وجه الله إن شاء الله ... يعني الرئيس لو عرف بهذا التعذيب البشع ألا يأمر بوقفه .
ويبدو أن الطبيب قد بدأ يفهم جمال عبد الناصر فهز رأسه ولم يرد .

وفي الممر ساق الجند سعد حجاجفي طريقه , وتوقفوا عند باب غرفة كان يتكلم فيها صلاح الدسوقي بالتليفون وكان ذلك في مبني الطب الشرعي .

وسمع سعد الحوار التالي :

صلاح الدسوقي : يا سيادة الريس لن نصل إلى ما نريد بهذه الطريقة .. نائب عام ..

وطبيب شرعي .. لن نصل إلى الذي نريده .. لأ يا سيادة الرئيس .. أنا مش عاوز حاجة .. كل ما في الأمر نوقف الإجراءات العقيمة دي .

وسكت صلاح الدسوقي قليلا يستمع إلى محدثه في الطرف الآخر من التليفون وبدا عليه الاهتمام والانشراح ..

وأشرق وجهه وهو يقول :

- تمام يا فندم ... وهو ده الكلام ... مضبوط يا فندم .. في السجن الحربي نعمل اللي احنا عايزينه .. الناس لسة ما فهمتش الثورة .. لسه عايشين في أوهام العهد البائد ... على كل حال بكرة يفهموا كل حاجة .. ويبدو أن محدثه في الناحية الأخرى قد قال شيئا جعله يضحك بجنون ..

- ثم ختم المحادثة :

- ربنا يحرسك ويحميك يا افندم علشان خاطر مصر .

ووضع السماعة وقام إلى سعد حجاج.. وشمله بنظرة مرحة مليئة بالحقد والمرارة وقال للضابط الذي يرأس ثلة الجنود :

- على السجن الحربي

محمود عبد اللطيف لم يفعلها

وفي الطريق إلى السجن الحربي المأوي الجديد صار سعد يفكر فيما يمكن أن يكون , وكيف جرت كل تلك الأساطير والحوادث العجيبة ويجهد ذهنه في تفسير ما سمع بلا فائدة فكل ما سمعه غامض وغريب وهو أيضا يستعصي على الفهم , وما هي طبيعة قصة المنشية هذه ؟ وما الذي حدث على وجه اليقين ؟ لا يمكن أن يضرب محمود عبد اللطيف جمال عبد الناصر في المنشية طبقا للمعلومات المتوافرة لو كان محمود عبد اللطيف هو الذي ضرب جمال عبد الناصر لكان هو نفسه – سعد حجاج– قد ضرب معه لطبيعة التركيبة الإخوانية من حيث كونهم أعضاء في النظام .

البوابة السوداء

وعندما اجتاز بوابة السجن تلك البوابة السوداء وجد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر , حيث تسطع الشمس في جوف الليل , ويظلم النهار , ويمتلئ المكان بالقردة والخنازير والثعابين والكلاب تنبح والسياط تعوى والصراخ يملأ المكان , وكل قليل من الوقت شخص يموت , وكل قادة مصر وحكامها يمرون على المعذبين ويشتركون في التعذيب , وليس هناك قانون أو عرف أو بعض من أخلاق .

فقد كان الضباط كالكلاب المسعورة قد أمسكوا بعظمة هي حكم هذا البلد المسكين , وهم يقاتلون دون ذلك .

" وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا"

وبعد انقضاء خمسة وثلاثين عاما على هذه الأحداث جلسنا نشرب الشاي في ليلة شبيهة بتلك التي أخبروه فيها أن التنفيذ يكون مع الصبح ومرت تلك السنوات كلها وهو حي يرزق مد الله في عمره .

وكان الجو دافئا يختلف عن برودة الزنازين حيث لا دفء ولا غطاء .

وسألته :

- ما هي علاقتك بهنداوي دوير ؟

- وقال :

- كان صديقي وأخي في الله وهو رئيس المنطقة ورئيس المجموعة المكونة مني ومنه ومن محمود عبد اللطيف وكان ساخطا على رجال الثورة لأنه كان يري أن هؤلاء الناس قد بايعوا على السمع والطاعة وأقسموا على المصحف أن يقيموا شرع الله عندما يتمكنون من الحكم ولما نجحوا تخلوا وبدءوا في تصفية الإخوان .
وكان الزائر لنا هو المرحوم إبراهيم الطيب

- وما معني الزائر ؟

- هو المسئول عنا من النظام الخاص فيأتي إلينا كل أسبوع أو أسبوعين يبلغنا الأوامر والتعليمات والتوجيهات .

" كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة "

- وسألته :

وفكر الرجل قليلا وقال :

- كان هناك كثير من المناقشات حول دور الإخوان في الرد على الثورة عندما يحاول الضباط القضاء على الإخوان , وكانت هناك بعض الأفكار تدور في الأحاديث المختلفة بين الإخوان في ضرورة المقاومة وعدم التسليم ببساطة ,وتطورت هذه الأفكار إلى ضرورة التخلص من هؤلاء الضباط وقتل واغتيال بعض منهم كنوع من الحماية , ولكن هذه الأفكار وهذه الأحاديث لا تمثل نظر قيادة الإخوان في الأمر ووجه نظر قيادة الإخوان تمثل في مجموعها رأي الجماعة فإن أخذنا بهذا فلم يكن عند الإخوان أدني فكرة عن اغتيال عبد الناصر .

- وما قصة الحزام الناسف والمسدسات وسائر هذه الأشياء ؟

- الحزام الناسف كانت فكرة تستخدم عند الهجوم على الجماعة , فلابد من رد من جانبا , وكنت أنا المرشح لحمل هذا الحزام واحتضان عبد الناصر والموت معه , ولم يكن هذا كلاما رسميا بمعني أنه لم يأت من قيادة الإخوان للتنفيذ ولكنها أفكار نتبادل الحديث فيها وقد رفضت هذه الفكرة .

- لماذا ؟

- لأنني كمسلم أقاتل وأقتل , وموضوع الانتحار هذا لا أراه شرعيا .

- ماذا تعني بأنها أحاديث ليست رسمية ؟

- يعني أننا نتكلم فيها بين بعضنا وبعض كأفكار مطروحة للمناقشة .

- وما هي خطة الإخوان في مقاومة طغيان الحكومة ؟

- كانت الخطة أن تقوم بمظاهرة يحميها بعض المسلحين للتعبير عن وجهة نظر الإخوان في الحكم الاستبدادي الذي بدأ ثم يذهب كل واحد إلى بيته ونكون بهذا قد أعلنا وجهة نظرنا للعالم كله في الثورة .

- وهذا كل ما كان عندكم بالنسبة للصراع مع الثورة ؟

- وتكلم الرجل في حماسة :

- نعم .. كان هذا هو كل ما عندنا في الصراع مع الثورة , وهذه هي الأوامر التي جاءت إلينا من قيادتنا عبر المرحوم إبراهيم الطيب ونهي نهي قاطعا عن أفكار القتل والاغتيال وقال إن هذه هي تعليمات المرشد العام وتجب علينا طاعته .

التسلسل القيادي في النظام

وقلت له :

- أخبرني كيف يكون التسلسل القيادي ؟
- ماذا تعني ؟
- كيف تصلك الأوامر في النظام الخاص ؟
- أتسلم الأوامر من هنداوي دوير بصفته رئيس المجموعة .

- ومن أين تأتي الأوامر لهنداوي ؟

- من إبراهيم الطيب ... وإبراهيم الطيب يأخذها من يوسف طلعت الذي يتشاور بشأنها مع المرشد .. وأية عملية أو أى إجراء لا يتم إلا من خلال هذه السلسلة .

- تقصد أن اغتيال عبد الناصر لو تمت بشأنه تعليمات فلابد أن تكون صادرة من المرشد ؟

- بالضبط ... إن كانت هناك أوامر بهذا الخصوص فلابد أن تأتي من المرشد فهذا أمر لا جدال فيه ولا نقاش .

كان النظام حديدي التكوين

وأكملنا احتساء الشاي في تلك الليلة , وكان معنا في الجلسة الدكتور محمود الأنصاري الأمين العام المساعد لاتحاد البنوك الإسلامية وكذلك الحاج زكي النجار وكان من ضمن المسئولين عن جهاز الوحدات مع الأستاذ صلاح شادي .

وكنت تنظر إلى ألأخ سعد حجاجفيسرك منظره بقامته الفارعة , وأناقته في ملبسه وشعره الذي ملأه البياض مع قوة يديه حين تصافحه ,وابتسامة مشرقة مليئة بالتفاؤل , مع حضور البديهة والنكتة , وتشعر عند جلوسك مع هؤلاء الثلاثة وتتأملهم واحدا بعد الآخر فتتأكد أن النظام القديم الذي كان للإخوان – النظام الخاص – كان حديدي التكوين , فكل واحد من هؤلاء يتميز تميزا فريدا في ناحية واحدة على الأقل , وبشكل عام هم طراز فريد من الناس لديهم قدرات لم تتوافر لغيرهم .

وتجد الثلاثة قادرين على تحمل التبعات والنهوض بالواجبات

يستطيعون كتمان الأسرار وحفظها .

النزاهة والتجرد إلى حد كبير .

ثم تري ميزة أو تلمحها بعد لقاء واحد مع أى منهم ميزة تبرز وتفرض نفسها وتلح على من أمامها في تقبلها .

محمود الأنصاري الدهاء والقدرة على التنظيم
زكي النجار نكران الذات والقدرة على التحمل .
سعد حجاجالشجاعة الفائقة والفدائية البالغة

هؤلاء نموذج قد جمعنا بهم مجلس , ولا شك أن إخوانهم كانوا علي غرارهم .

لو أراد الهضيبي أن نقتل عبد الناصر لقتلناه

واستكملنا حديثنا ..

وسألت الخ سعد حجاج.

- هل جاءتكم أوامر حسب التسلسل القيادي الذي ذكرته باغتيال جمال عبد الناصر عن طريق هنداوي أو إبراهيم أو أى طريق ؟

وابتسم الرجل وسكت فترة ليست قصيرة ونحن ننتظر إجابته .

وعدت ألح عليه :

- لم تخبرني بالإجابة .

وقال سعد حجاج:

- لو جاءتنا أوامر بقتله لقتلناه وكنا نستطيع ذلك .

- كيف هذا ؟

وفي ابتسامة الواثق قال سعد :

كانت عند الإخوان القدرة على قتل عبد الناصر في أى وقت , كان لدينا التنظيم الدقيق المسلح الواعي القادر على تنفيذ هذا , واسأل التاريخ القريب يخبرك .

ليس هذا أسلوبنا على الإطلاق , أن يذهب شخص وفي يده مسدس مداه ثمانية أمتار دون حماية ودون كمائن ودون رسم للخطة .

وشخص غريب عن الإسكندرية لا يعرف شيئا فيها .

كان الأولي بأعضاء النظام في الإسكندرية أن يقوموا باغتيال عبد الناصر لو تقرر قتله هناك .

ومثل هذه العملية يشترك فيها مالا يقل عن عشرين شخصا لضمان نجاحها نظرا للحراسة المشددة وغير ذلك .

وتعجبت من كلام صاحبنا !!

وتذكرت التاريخ الذي سبق الثورة .

وحادث مقتل النقراشي باشا على وجه التحديد !

وكيف تم تدريب الأفراد عليها تدريجيا جيدا فائقا ؟

ثم كيف تم التنفيذ بنجاح شديد ؟

تقرر قتل النقراشي !

فرسمت الخطة بعناية ..

وأجريت عدة تجارب لكشف الثغرات ..

واختير الموعد المناسب جدا ..

وتم التنفيذ بكفاءة عالية ..

عمليات النظام على درجة عالية من الدقة والكفاءة

وليس من المعقول لهذا النظام الخاص بعد أن تطور أن يجري عملية القتل بهذا القدر من السذاجة والبلاهة !

فقد مر هذا النظام بحرب فلسطين وحرب القنال , واشترك في الانقلاب ضد الملك فاروق وتطورت أساليبه وانضم إليه أشخاص جدد وازداد خبرة ووعيا ودارية بمثل هذا النشاط .

فحادث المنشية حادث مفتعل بالتأكيد , وليس للإخوان صلة به على سبيل القطع تحت أية معاير للنقد والتحليل , ودراسة أسلوب الإخوان في مثل هذا النوع من الحوادث يؤكد افتعاله من جانب مختلف تماما عن الإخوان حيث اختلاف الأسلوب ,واللامبالاة في الشكل المعلن , مما يرسخ مفهوم أن من قاموا به على يقين من الوصول إلى النتيجة التي صارت .

- وما هي آخر الأوامر التي وصلتكم كنظام خاص بالنسبة للصراع مع الثورة ؟

- غلق الشعب ,وأن يلزم كل واحد داره استعدادا لمظاهرة تعلن رأي الإخوان ..

- ومسألة الاغتيالات ؟

- جاءت الأوامر من القيادة وأبلغها لنا المرحوم إبراهيم الطيب , وكنت حاضرا مع هنداوي ومحمود عبد اللطيف ... أن القيادة قد بلغها أن بعض الإخوان يفكرون في أعمال شغب واغتيالات , وهذا ليس من سياسة الجماعة إطلاقا , وعلى كل من يدين بالسمع والطاعة للمرشد أن يكف عن هذا الكلام , وأنه – المرشد – برئ من أى دم يراق ولا يرضي ولا يقبل ويري أن هذا غير جائز شرعا وجلسنا صامتين لفترة نتأمل الكلام ..

كل الخطة مظاهرة سلمية

وسألته :

- هكذا قال المرشد ؟

- هذا ما نقله إلينا إبراهيم الطيب وأكاد أحفظ نفس كلماته .

- ومتى كان هذا بالنسبة ليوم 26 أكتوبر سنة 1954 ؟

- وفكر سعد حجاجقليلا وقال :

- وكان هذا قبل حادث المنشية بحوالي يومين تقريبا , وكانوا قد جاءوا من قبل ذلك بالحزام الناسف للاستخدام عندما يتقرر ذلك ,ولما صدر لنا هذا التوجيه قمت بدفنه في الأرض هو وغيره من بعض الأسلحة

- واعترضت :

- ولكنكم كنتم تنوون القيام بمظاهرة مسلحة

وأصر سعد حجاجعلى أنها مظاهرة سلمية مخالفا بذلك بعض الشهود الذين قالوا إنها مسلحة , والبعض الآخر الذي قال إنها سلمية يقوم على حراستها بعض المسلحين .

المهم هذا ما قاله في هذه الجزئية .

وأضاف سعد :

فلو كانت هناك نية للشغب والاغتيالات ما قمت بإخفاء هذه الأسلحة وأنا أشهد بما رأيت وعلمت .

ويبدو أن هناك عناصر كانت تثير حماس الإخوان وتشحنهم ضد الثورة وتحرك مرارتهم وإحساسهم بالظلم وتعبئهم بعيدا عن وجهة نظر القيادة وسياستها التي تمثلت في توجيهات المرشد العام , وكان هذا يتم تمهيدا للبطش الشديد بهم , فهذا السخط والغضب يظهران للناس والشعب , وعندما تفتعل حادثة وتنسب إلى الإخوان فمن السهل أن يصدقها الناس .

والذي لا شك فيه أيضا أن الإخوان – البعض – كانوا يضغطون على القيادة الممثلة في المرشد العام في عمل شئ ما لتخليص البلاد من الحكم العسكري وعرضوا في سبيل ذلك بعض الخطط والتصورات في هذا الباب , ثم نوقشت وصرف النظر عنها تماما بأوامر صريحة من المرشد العام مثل فكرة اقتحام مجلس الوزراء أو مجلس قيادة الثورة بسرية من أعضاء النظام يرتدون ملابس البوليس الحربي ,ثم السماح لمحمد نجيب بممارسة عمله كرئيس حقيقي للجمهورية ولبعد نظر حسن الهضيبي لم يستسغ هذه الفكرة , فقد تم تكريس الحكم العسكري وأمريكا تقف خلفه من أجل المساندة والدعم , ولابد للجماعة أن تدخل في طور الكمون لفترة من الوقت لا يعلمها إلا الله .

هنداوي لم يسلم محمود عبد اللطيف أى مسدس !

كانت المجموعة التي اتهمت بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر يرأسها هنداوي دوير وتتكون من سعد حجاجومحمود عبد اللطيف .

وكانت العلاقة بين سعد حجاجومحمود عبد اللطيف أكثر من وثيقة فهما متقاربان في السن ويتزاوران ويعرف أحدهما الآخر معرفة جيدة ,ولم تكن علاقتهما على الدرجة نفسها مع هنداوي دوير المحامي رئيس المجموعة .

وقلت لسعد حجاج:

-قال هنداوي دوير أمام محكمة الشعب أنه قد سلم محمود عبد اللطيف مسدسا ليقتل به جمال عبد الناصر .
- غير صحيح على الإطلاق .

- لماذا ؟

لأني أشهد أنني قد اشتريت مسدسين من أحد الفلاحين وأعطيت واحدا لمحمود , واحتفظت بواحد لي , وهذا أمر يعرفه هنداوي دوير فهو يعرف أن محمودا لديه مسدس , فما الداعي أن يعطيه مسدسا آخر ؟

- ولماذا قال هنداوي دوير هذا ؟

- لست أدري .. ويسأل في هذا هنداوي دوير .

- هل عذبوه كما فعلوا معك ؟

- لست أدري فأنا لم أره بعد القبض علينا .

المدعي العام يكذب

- قال المدعي في القضية أنهم واجهوا المتهم محمود عبد اللطيف بك – سعد حجاج

- لم يحدث على الإطلاق .. لم أواجه بأحد في هذه القضية باستثناء الأخ محمد بسطويسي من إخوان المحلة الكبرى حيث أدعي أنني مكثت في بيته ثلاثة أيام وأنني قد ذهبت إليه ومعي كمية من السلاح لهم هناك , وكنت قد التقيت مصادفة أثناء التعذيب بهذا الأخ وأنا لا أعرفه في لحظة من لحظات الاستراحة حيث لا يوجد أحد من الجلادين , واقترب مني هذا الأخ وسألني : ما اسم الأخ ؟ وأجبته :

مخيمر على مخيمر .

وعادل يسأل : إنت من إخوان إيه ؟

وقلت له بزهق : أنا من المباحث .

ونظر إلى هيئتي والتعذيب الذي لحقني وتعجب وقال : ولماذا فعلوا بك هذا ؟

فقلت له : اسألهم كل هذا وأنا لا أعرف اسمه ولا أريد أن أعرفه , فمعرفة الأسماء في هذه الأماكن تضر ولا تنفع .

ثم استدعاني المحقق للعرض على محمد بسطويسي بناء على تعليمات زكريا محيي الدين كما علمت ,وأجلسني المحقق أمامه على الكرسي بجوار مكتب واستدعي الأخ محمد بسطويسي ,وأنا جالس وسأله : أنت قلت إن سعد حجاجمكث في بيتك ثلاثة أيام .

وأجاب نعم يا أفندم , واستمر المحقق يسأله .

وقلت إنه أحضر أسلحة قد أعطيت بيانا بها .

وقال محمد بسطويسي : هذا صحيح يا فندم

وسأله المحقق : يعني لو رأيت سعد حجاجتعرفه ؟

وأجاب : طبعا يا افندم أول ما تقبضوا عليه واجهوني بيه .

وأشار المحقق ناحيتي وقال : أليس هذا هو سعد حجاج؟

وقال الأخ محمد بسطويسي : لا ... ليس هو .. هذا مخيمر على

واعتذر إلىّ محمد بسطويسي على هذه الواقعة بعد ذلك , وكان مضطرا إليها من شدة التعذيب والمهم هذه هي المواجهة الوحيدة التي تمت بيني وبين أى مخلوق أثناء التحقيق ولو قال المدعي غير ذلك فهو كاذب .

محمود عبد اللطيف يشير لى بيده أنه لا يعرف شيئا

سألته :

- وهل قابلت أو رأيت محمود عبد اللطيف بعد القبض عليك "

وقال سعد حجاج:

- كنت في طريقي إلى " المكاتب " لتسلم طرد قد جاء باسمي من أبي .
وهناك وعند الفسقية إن كنت تعرفها وجدت محمود عبد اللطيف يرتدي " روبا " وجالسا على كرسي في الشمس , وقررت أن أكلمه لأعرف هذه الأسرار التي تلف هذا الحادث , ولكني لم أتمكن من الحديث معه , ولكنه رآني ورأيته وأشار إليّ بيده بما يفيد أنه لا يعرف شيئا عما يدور , وأنه ليس له أية علاقة بالحادث الذي جري , هذا ما فهمته من إشاراته , ثم فرق بيننا الحرس , وهذه هي المرة الوحيدة التي رأيته فيها وكان يبدو في صحة وعافية وليست عليه أية آثار للتعذيب.

آخر لقاء بين سعد ومحمود قبل الحادث

وسألته :

- هل تذكر آخر مرة رأيت فيها محمود عبد اللطيف ؟

- نعم .

- كيف كان ذلك ؟

- على باب بينه يوم الحادث في الصباح كما أخبرتك ,... فقد ذهبت إليه لأعطيه بعض الأشياء من " الفلاحين " ومن الطبيعي أنني أمر من الشارع الذي يسكن فيه .
وأخبرني أنه مسافر إلى طنطا هذا اليوم للعمل كما سبق أن أخبرنا , وكان معي خمسة جنيهات أعطيته نصفها وقلت له ربنا يوفقك يا محمود .

- وكيف كانت هيئته في هذا اليوم ؟

- كان طبيعيا جدا , ولا تبدو عليه أية علامات أو أمارات تنبئ عن خبره المشتهر في المساء فلم تكن هيئته هيئة من ينوي إطلاق الرصاص على عبد النار في الليل , وصدقني لو كان هناك شئ من هذا لأخبرني , فالصلة بيني بينه قوية وعميقة .
ثم انصرفت إلى عملي .

وسألته :

- وما هي آخر مرة قابلت فيها هنداوي قبل الحادث .

وقال سعد

- في اليوم نفسه في المساء , وكنت قد عرفت أن أحد الإخوان قد توفي من شبرا الخيمة واتفقنا أن نذهب إلى العزاء وبعد العمل ذهبنا إلى منزل أحد الإخوان وتناولنا طعام الغداء , ثم ذهبنا لقضاء واجب العزاء , ومررت على محل الأخ عبد العزيز شميس , رحمه الله وأثناء صلاة المغرب جاء هنداوي كما سبق أن قلت .

- وهل كانت هيئته طبيعية وعادية ؟

- تماما .. وأوصاني بتنفيذ ما سبق من تعليمات , وكانت هناك فئة تمر على الشعب تجمع توقيعات ضد المرشد وكانت التعليمات تقضي بأن يلزم كل واحد بيته وأنه لم تعد هناك شعبة ولا شي بعد ذلك والسكون حتى تنتهي هذه الفتن.

وسألته :

- ومتى علمت بحادث محاولة اغتيال جمال عبد الناصر ؟

- في المكان نفسه .. في محل عبد العزيز وبعد الحديث الذي دار بيني وبين هنداوي .. فوجئنا بأحد الأشخاص قادما ويقول إن جمال عبد الناصر قد ضرب بالرصاص .. وصرنا ننظر إلى بعضنا في دهشة ونحن لا نصدق , وكانت دهشة هنداوي مثل دهشتنا , وقلنا لعله كلام مختلق لا أصل له وانصرفنا وبعد ذلك سمعت أن الراديو أذاع هذا الخبر , وذهبت إلى البيت وأنا في دهشة من هذا وتخيلت أنه ربما هو خبر كاذب أو أنها تمثيلية الغرض منها ضرب الإخوان وإلصاق التهمة بهم .

ما هو دور محمود عبد اللطيف ؟

- ألم يخطر ببالك أن لمحمود عبد اللطيف صلة بهذا الحادث لحظتها ؟

- على الإطلاق .. لم يخطر لى هذا ببال أبدا .

- وما هو تصورك عن هذا الحادث ؟

- تصوري أن الحكومة هي التي صنعته واستغلوا محمود عبد اللطيف وأخذوه من محطة مصر إلى الإسكندرية وقام البعض بإطلاق الرصاص بطريقة خاصة ثم جاءوا بمحمود عبد اللطيف بعد إطلاق النار إلى ميدان المنشية و ثم ضربوه وألصقوا التهمة به .

ولماذا لم يقل هذا محمود عبد اللطيف في المحكمة ؟

- لست أدري ماذا فعلوا معه حتى يسكت أثناء المحكمة ولا أظن أنه قد قال هذا في المحاكمة , هو لم يتكلم حسبما سمعت , غير أنه قال عندما سأله جمال سالم : هل أنت مذنب أم غير مذنب , فقال : مذنب .

- وهل كان محمود عبد اللطيف بالشخص الجبان ؟

- لا أظن ... كان رحمه الله شجاعا جريئا , ولكنه لم يطلق النار على عبد الناصر .

- وهل سألت أحدا من الإخوان عن طبيعة هذا الحادث ؟

- أثناء وجودي بالسجن الحربي وكان هناك ضابط اسمه جمال القاضي يقوم على تعذيب الإخوان في ذلك اليوم , استطعت أن أسأل الحاج صالح أبو رقيق بصفته أحد كبار الإخوان ... وكان يومها صالح أبو رقيق حزينا وقال لى : والله يا أخ سعد أنا لا أعرف شيئا عن هذا الموضوع ولا أتصوره ,والموضوع عندكم يا إخوان إمبابة حسبما نسمع والله أعلم .

- وسألت أيضا الأخ عبد العزيز كامل الذي أخبرني أنه لا يعرف شيئا عن هذا الموضوع على الإطلاق ولا يتصوره أيضا وقال لى أيضا : هل جن هنداوي ومحمود ؟

الحكم بالإعدام

- قدم للمحاكمة أمام محكمة الشعب الدائرة الثانية برئاسة صلاح حتاتة , واستغرقت محاكمته أكثر من ساعة قليلا .. وعندما وقف المدعي يطالب برأسه احتج من داخل القفص :

- إيه يا أخينا .. هي راس " فجلة "؟
- وانتدبوا له محاميا لمزيد من إثبات التهمة ضده ,حكموا عليه بالإعدام هو وأربعة معه السيد الريس ومحمد مهدي عاكف وعلى نويتو وصلاح عبد المعطي .
- وتلقوا الحكم بهتاف الإخوان بعد سماعهم بالحكم .
الله أكبر ولله الحمد

لا إله إلا الله محمد رسول الله عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقي الله . الله غايتنا. والرسول زعيمنا . والقرآن دستورنا . والجهاد سبيلنا. والموت في سبيل الله أسمي أمانينا .

وظلوا يرددون الهتاف طول الطريق من المحكمة إلى السجن حيث أودع كل واحد منهم زنزانة انفرادية واتفقوا عندما يأتون للتنفيذ , أن يطرق أول واحد على الحائط ليشعر الآخرين فيستعدوا للقاء الله .

وكانوا قد جاءوا من المحكمة مع الآخرين الذين حكم عليهم بغير الإعدام .

وكانت أقل عقوبة في ذلك اليوم هي عشر سنوات .

وفي السجن الحربي كان الاستقبال .

وكان التأديب على الهتاف في قاعة المحكمة وأثناء الطريق.

ثم بدءوا يصنفون أصحاب الأحكام .

وكان هناك شاويش كريه اسمه ياسين وهو الذي يتولي هذا .

وبدأ بتحديد الذين حكم عليهم بالإعدام ونادي فيهم :

- اللي رقبة أمه حتطير بكره يجي الناحية دي .
- وخرج الخمسة من الطابور ووقفوا متجاورين قبل أن يوزعوهم على الزنازين .

وذهبوا بهم إلى سجن ثلاثة بالسجن الحربي ,وفي هذا المساء قدموا لهم عشاء فاخرا يتكون من مكرونة وكفتة وكباب , ومرّ عليهم ضابط وسألهم :

- هل لأحد منكم من طلبات في حدود المعقول ؟

- وقال له سعد :

- كان لى مصحف في السجن الكبير أريده لأكتب عليه إهداء لإبني فيتذكرني .
- ورفض هذا الطلب , ثم أخذوهم إلى الشفخانة وأخذوا ملابسهم كلها وسلموا لهم ملابس الإعدام , ثم أودعوهم منفردين .

الأشغال الشاقة المؤبدة

وفي تلك الليلة التي عرف فيها أن حكم الإعدام سينفذ في الصباح والتي زاره فيها علي صبري وجمال سالم حدث بعد أن انصرفا بمدة أن سمع جلبة في خارج الزنزانة وفتح الباب وظن أنه التنفيذ , فوجد أن الذي يقف أمام الزنزانة هو محمد مهدي عاكف وفي يده علبة شيكولاته , وقد له واحدة منها .

وقال له : لقد جئت من المكاتب , سمح لى أحمد أنور أن أتكلم مع والدتي , وأرسلت إلىّ علبة شيكولاته , وأخبرتني أنه قد تم تخفيف الحكم اللحظة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة لظروف لا يعلمها أحد .

وبعد ثلاثة أيام رحلوهم إلى سجن مصر وبعد ذلك إلى ليمان طرة .

وهناك بحث عنه حسن الهضيبي وسأله عن طبيعة هذا الحادث وما هي معلوماته عن ذلك , وقص عليه أنه لا يعلم شيئا .

وهو لا يتخيل حدوثه على الإطلاق , وأكد له حسن الهضيبي أنه لم يأمر بهذا ولا يرضي به وأنها حكاية غريبة وسرها سوف تكشف عنه الأيام .

وقال له حسن الهضيبي يومها إنه كان لابد أن تنتهي المسألة على هذا الشكل وقد قام عليها جهاز قوي قادر , ولكنه ليس أقوي ولا أقدر من الله .

الفصل الحادي عشر" فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى "حادث المنشية من صنع المخابرات

( وإذا قتلتم نفسها فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) ( البقرة :72 -73 )

حوار مع حسن التهامي

  • حادث المنشية ليس بالحادث العجيب أو الغريب ,وتلفيقه أمر يسير مع منطق الأحداث وسنن التاريخ , عندما يحكم جبار لا يريد معارضا أو مناوئا لحكمه .

وعندها يستعين بالفسقة والفجرة والمجرمين .

وحادث المنشية يستبين تلفيقه إذا علمنا أنها إرادة الغرب في القضاء على الإخوان المسلمين , فهي في نظرهم الثورة الإيرانية التي توقعوها رجما بالغيب في بلاد لا يحكمها التشيع بل هي سنية المنحي والتفكير والتقدير.

والذي له علم بالسياسة يعرف أن الأمريكان يخططون لمائة عام أو يزيد وهم يرسمون السياسة للمستضعفين ويرغمون " المدربين " على تنفيذها .

وكنت في الطبعة الأولي من " سراديب الشيطان " قد قامت ملاحظات حول حادث المنشية بعد استعراضه من كل جوانبه , ومن هذه الملاحظات تساءلت : ما هو رأي حسن التهامي حول الحادث ؟

ولم أجب عن هذا السؤال آنذاك , ولكني أردت بهذا التساؤل أن أعطي القارئ العزيز أن الإجابة عنه عند السيد حسن التهامي و وقد تكونت هذه القناع عندي من الكلام الكثير الذي جمعته عن التاريخ السري لثورة 23 يوليو وعلمي اليقيني بدوره الهام في الأحداث غير المعلنة من هذا التاريخ , وهو أمر تأكد لى من أحاديث مختلفة ومصادر متعددة .

ثم اطلعت على حديث أجري معه بمعرفة جريدة الأنباء الكويتية وقد مقلته جريدة الأحرار القاهرية عنها بعددها الصادر في 18 رمضان 1409 هـ - 24 أبريل سنة 1989 م ولعله يكون من المفيد أن ننقل منه بعض الأجزاء .

من هم الضباط الأحرار؟ هل تعرف أن أول من أطلق اسم الضباط الأحرار على الحركة هو مساعد " صول " بالقوات المسلحة .
ج: كان هناك ضابط اسمه محمود سيد الوكيل , وكان مطلعا على أسرار الحركة بالجيش لأنه هو الذي كان يقوم بطبع المنشورات الخاصة بالتنظيم وكان معه " صول " مساعد هو الذي يقوم بذلك .. وكان أول منشور صدر باسم الضباط الوطنيين ... وحينما انتهي المساعد من كتابة المنشور الثاني طلب منه الضابط محمود الوكيل أن يوقعه باسم الضباط الوطنيين , فامتنع المساعد عن الكتابة معترفا وقال :" كلنا وطنيون كل الجيش من الوطنيين حتى العاملون في البلاط مع الملك من الوطنيين "... لماذا لا يكون الاسم هو الضباط الأحرار بدلا من الضباط الوطنيين ؟" وقد اقتنع الضابط محمود الوكيل بكلام المساعد ووقع البيان الثاني باسم الضباط الأحرار وصدرت بقية المنشورات تحت هذا الاسم الجديد الذي لاقي موافقة جميع المشاركين في التنظيم .
  • س: وهل كنت من الضباط الوطنيين ؟
ج: كان 90% من ضباط الجيش المصري , بل والمصريون على وجه عام , ومن الوطنيين ولكني أستثني الشيوعيين من الوطنية إنهم ليسوا وطنيين مثلنا .. هل تعلم أن الشيوعيين كانوا يرفضون الحرب في فلسطين ويطالبون بإقامة دولة إسرائيل ووافقوا على قرار التقسيم .. وأن الحزب الشيوعي المصري " حدتو" قد أسسه إسرائيلي ( يهودي ) هو هنري كورييل وأنهم وقفوا ضد دعوة الجهاد لإنقاذ فلسطين .. ورفضوا محاربة اليهود بحجة أن الحرب سوف تقضي على الحركة العمالية في فلسطين.. وكذلك كان موقف الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي وافق على تقسيم فلسطين .. كيف أسمي هؤلاء وطنيين ؟ وهم الذين وقفوا مع اليهود ودولة إسرائيل منذ البداية.
  • س: ولكن الحزب الشيوعي المصري انقسم على نفسه في ذلك الوقت وخرج منه الوطنيون الذين رفضوا إقامة دولة إسرائيل ؟
ج: هذا صحيح ولكنه تم فيما بعد .. أنا أتكلم عن الفكر الأساسي للشيوعيين وليس على موقف معين , لقد أصدروا منشورات تطالب بوقف الحرب في فلسطين وبالسلام مع إسرائيل .

كمال رفعت شيوعي ولم يحارب في فلسطين !

  • س:ولكن كمال رفعت .. زميل دراستك وصديق عمرك.. وأنت تتهمه بالشيوعية قد شارك فى حرب فلسطين جنبا الى جنب مع كل الذين شاركوا من الإخوان المسلمين وغيرهم ؟
ج: كان كمال رفعت في كتيبة قوات الحرس الملكي التي شاركت خلف القوات المحاربة ... لأنها لم تشارك في القتال الحقيقي وبقيت خلف الصفوف لأن الملك فاروق كان يريد ضم النقب إلى سيناء ومصر ليصبح ملك مصر والنقب مثلما هو ملك مصر والسودان .. فكيف يضم النقب وليس له قوات تشارك في ضمها ؟ فشارك بقوات رمزية تبرر له ضم النقب فيما بعد إلى مملكته .. وكان كمال رفعت ضمن هذه القوات الرمزية التي شاركت خلف الخطوط .

لم يكن هناك تنظيم للضباط الأحرار !!

ج: لم يكن هناك ما يسمي بتنظيم الضباط الأحرار .. لأن التنظيم يعني أن هناك رئيسا , ولم يكن هناك رئيس للضباط الأحرار , كنا جميعا بنفس الدرجة وأنور السادات حين أراد أن يحاكم جماعة مراكز القوي في عام 1971 ماذا قال ؟ قال : إن حسن التهامي عضو خلية جمال عبد الناصر نفسه هو الذي سيحاكم هؤلاء المتآمرين .
  • س: كيف تكون عضوا في خلية ضمن تنظيم وتقول إنه لم يكن هناك تنظيم ؟
ج: هذا كلام سفسطة !! كلام على ورق فقط .... لم يكن هناك رئيس للتنظيم , لم يكن جمال عبد الناصر رئيسا في التنظيم , كان مجرد عضو في الخلية بدليل أنه قبل قيام الثورة بأيام جاءني هو وعبد الحكيم عامر وكمال رفعت ليستشيروني في مبادئ الثورة.. ولو كان رئيسا لما جاء ليستشيرني وحينما عرض على جمال عبد الناصر مبادئ الثورة قلت له : ما هذا الكلام الفارغ ؟ القضاء على الاستعمار .. وجيش وطني ؟ هذا كلام فارغ .. فنظر عبد الناصر إلى عبد الحكيم مندهشا .. ثم سألني : ماذا تريد إذن ؟ قلت له : أين استرجاع كرامة مصر ؟ ومجد مصر ؟ وقياد الشرق الأوسط والعالم ؟ أين العروبة ومجد الإسلام ؟
( وهنا لا أستطيع منع نفسي من التعليق .. لقد واريتم هذه الأحلام التراب يا حسن بك وكتبتم على شاهد قبرها انتقلت إلى جوار ربها المرحومة آمال الأمة العربية الإسلامية في فجر يوم 23 يوليو سنة 1952 إثر حادث أليم )
ونعود إلى نص التحقيق مع حسن التهاني , ونجد الحديث مستمرا دون تفسير ويبدو أنه حديث داخلي في نفسه .
ج: يا أخي دعهم يتكلمون .. هذه مرحلة وحينما تنجح الثورة لن ينفذوا حرفا من هذا الكلام الفارغ .. وساعتئذ سيكون لنا معهم موقف آخر .. وعدت إليهم لأقول بأنني لست موافقا على هذا الكلام الفارغ .. وأعلنت عدم مسئوليتي عنه , وحملتهم المسئولية وخرجوا ونحن مختلفون .

لم يكن عبد الناصر يصلح لرئاسة الحكومة !

  • س: وهل لهذا السبب حاولت القيام بحركة انقلابية على عبد الناصر أنت وكمال رفعت كما قلت عام 1953 ؟
ج: أنا وكمال رفعت لم نكن مقتنعين ليس بقيادة جمال عبد الناصر ولكن بمجرد رئاسته للحكومة المصرية .. وحينما بدأ جمال عبد الناصر يقفز درجات السلم وأصبح رئيسا للوزراء جاءني كمال رفعت غاضبا , وقال من هذا جمال عبد الناصر ليرأس الحكومة ؟.. أليس في البلد شخص غيره ؟ أنا وأنت أولي منه بهذا المنصب الهام ؟ ماذا فعل جمال عبد الناصر ليرأس الحكومة ؟ نحن الذين فعلنا كل شئ ونحن أولي منه بهذا . وحاولت تهدئة كمال رفعت إلى أن هدأ بعد أن ذكرته بالموقف الحرج الذي تمر به البلاد , وأن الانقسام سيخدم الأعداء وسيضر بالقضية الوطنية .
وهذا الكلام يدفعني إلى التساؤل والتفكير .
ما الذي فعله كمال رفعت حسن التهامي في أيام الثورة الأولي حتى يصفه الأول بقوله ( نحن الذين فعلنا كل شئ ) والمعروف أنه لم يكن لأحدهما دروا في قيام الانقلاب في ليلته المشئومة فقد كان ضابطين من الضباط ويبدو أن هناك أشياء كثيرة قاما بها مما يدخل في نطاق السرية الشديدة وكان كمال رفعت – كما علمنا – أحد المحققين والمعذبين للضباط والإخوان في السجن الحربي ومبني مجلس قيادة الثورة .
من الذي وضع القنابل التي انفجرت يوم 19 مارس سنة 1954 ؟ تلك القنابل التي اعترف بها عبد الناصر لزملائه ولم يخبرهم عن الذي وضعها وواضح أنهم قتلة محترفون ويجيدون هذه اللعبة ,أو ما الذي يعنيه كمال رفعت بهذه العبارة الغامضة .

هذا مجرد تساؤل ونعود إلى نصوص التحقيق مع حسن التهامي .

كان قتل عبد الناصر سهلا جدا حتى حادث المنشية !

  • س: هل لهذا السبب الذاتي ثار كمال رفعت وأنت معه أم أن هناك أسبابا موضوعية دعتكما للثورة على رئاسة عبد الناصر للحكومة ؟
ج : المسألة مسألة مبدأ .. هل هذا هو الذي سينطلق بالبلد .. بكلام وشعارات عن العزة والكرامة وغيرها ؟... نحن ثوريون حقيقيون ولسنا من تجار الشعارات والخطب ... لقد جاءني كمال رفعت ومعه مسدسه وقال لى : لقد جاء وقتها , ننحي كل هؤلاء ونمسك البلد .. وكان هذا سهلا في ذلك الوقت .. هل يستطيع أحد أن يقف في وجه الرصاص ؟.. قد يكون ذلك صعبا الآن .. ولكنه كان في ذلك الوقت في غاية السهولة واليسر !! كان بسيارة محملة بجنود الشرطة العسكرية ومسدس تستطيع أن تقبض على كل هؤلاء .. وتشكل حكومة جديدة في أربع وعشرين ساعة فقط , ونطلع على الناس ببيان نقول فيه : إن مسيرة الثورة مستمرة , وإن هذه مجرد حكومة جديد ... فهل كان هناك من يقول لك لا ؟
  • س: ولماذا لم توافق كما رفعت على الانقلاب رغم أنك كنت غير مؤمن بجمال عبد الناصر وغير راض عن زعامته وأفكاره ومواقفه ؟
ج: لأنني أعلم الانتماءات الحقيقية لكمال رفعت , فهو شيوعي وله علاقات قديمة بكل الشيوعيين في مصر – ولو كنت وافقته على الانقلاب – لكنا اختلفنا بعد ذلك لأنه كان سيستعين بالشيوعيين وسأستعين أنا بالوطنيين الأمر الذي كان سيستوجب الصدام بيننا وكان الوضع حتما سيصل إلى حد الكارثة ولهذا رفضت السير مع كمال رفعت حتى نهاية الطريقة .. وقلت له إذا فعلتها فسأكون أول من يقف ضدك , وقد خضع كمال رفعت أمام تهديداتي التي يعرف مدي جديتها وإلا لكان قد مسك البلد ثم سلمه إلى الشيوعيين .

كان عبد الناصر انتهازيا !!

ج: لا ... لم أقف مع الشيوعيين , ولكني وقفت مع محمد نجيب وقفت مع الديمقراطية ضد الديكتاتورية وقد رفضت أن يسلم جمال عبد الناصر البلد للشيوعيين حين قرر تعيين خالد محيي الدين لرئاسة الحكومة .
وقد " كتفت " عبد الناصر بالحبال حتى أحول بينه وبين تعيين خالد محيي الدين على رأس الحكومة .
  • س: ولكن عبد الناصر هو الذي أقال خالد محيي الدين وضرب الشيوعيين وأتهمهم بموالاة الصهيونية وحمل عليهم حملة شعواء ..
ج: لقد فعل عبد الناصر ذلك ذرا للرماد في العيون لأنه كان واحد منهم , عبد الناصر كان عضوا في الحزب الشيوعي " حدتو" ... ورغم ذلك لم يقفوا معه في أزمة مارس واختاروا الوقوف ضده مع محمد نجيب الذي وقف معه أيضا الإخوان المسلمون .. لقد وقفوا مع محمد نجيب كنوع من التكتيك .

حادث المنشية ملفق ومفتعل والإخوان أبرياء

*س: ولكنك قلت بأن أمريكا هي التي أوعزت عبد الناصر بالتخلص من الإخوان والشيوعيين للإنفراد بالسلطة في مصر فتخلص من الشيوعيين في أزمة مارس ثم تخلص من الإخوان المسلمين بحادث المنشية ؟

ج: لقد أوفدت أمريكا بول لينبارجر – مسئول الدعاية السوداء في أمريكا – عام 1954 ليقوم بالتخطيط الإعلامي لتصعيد نجومية عبد الناصر وقد اقترح لينبارجر افتعال محاولة للاعتداء على حياة عبد الناصر تكون سليمة التدبير تجذب مشاعر الشعب المصري نحوه لما يراه من مظاهر الشجاعة أثناء ثباته في هذا الموقف .
وكان أن وقع بعدها حادث المنشية الذي ادعي فيه عبد الناصر أن الإخوان قاموا بمحاولة اغتياله ليسهل عليه بعد ذلك تصفيتهم .

*س: ولكن الوثائق البريطانية والأمريكية التي نشرت مؤخرا تقول بأن حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين كان على اتصال بالسفارتين الإنجليزية والأمريكية وهو الذي كان يتعاون معهما ؟

ج: نعم لقد كان حسن البنا يقوم بالاتصال بالسفارتين الإنجليزية والأمريكية ولكن بالتنسيق مع جمال عبد الناصر وبأمر منه .
ج: إن الإخوان المسلمين كانوا خطرا حقيقيا على إسرائيل .. وأراد عبد الناصر التخلص منهم لينفرد بالسلطة في مصر .. وأرادت أمريكا أن تتخلص منهم لتوقف خطرهم على إسرائيل .
  • س: إذا كانت أمريكا تريد التخلص من الإخوان لأنهم خطر على إسرائيل – كما تقول – فلماذا أرادت التخلص من الشيوعيين أيضا وهم – كما قلت – كانوا في صف إسرائيل ؟
ج : لا شك أن بعض الشيوعيين كان يساريا وطنيا يري في الشيوعية نظرية تقود بلده إلى التقدم أو أن هذا هو منهج الإصلاح في مصر وسعيها نحو تحقيق أهدافها الوطنية , مع إيمانها بالله , وإن كانت تري أن هذا المنهج اقتصادي أو سياسي فقط , ولكل قوي وطنية منهاج ولكنها تتفق في بعض أو كل الأهداف الوطنية .

التخلص من الشيوعيين

  • س: أنت تقول إن عبد الناصر كان شيوعيا .. فكيف يستقيم ذلك مع محاولته التخلص منهم بعد أزمة مارس , ووقفهم ضده خلال تلك الأزمة مع أنه – كما تقول – كان واحدا منهم ؟
ج: لقد حاول عبد الناصر أن ينفي عنه شبهة التعامل معهم إبان أزمة مارس عندما دفع بخالد محيي الدين ليرأس الحكومة وبهذه المحاولة حاول عبد الناصر التلويح لأمريكا حتى تسارع بنجدته وتمده بالمساعدات .
  • س: كيف التلويح واللعب أمام أمريكا وهي التي أمرته – كما تقول – بالتخلص من الشيوعيين ؟
ج: ليس لهذا السبب فقط اقترب عبد الناصر من الشيوعيين وحاول تعيين خالد محيي الدين رئيسا للحكومة .. ولكن هناك سببا آخر وهو الضغط على القوي الوطنية لتسارع إلى مساعدته .

عبد الناصر كان يمد الإخوان بالسلاح!!

ج: نعم كانت هناك صلة قبل الثورة بين تنظيم الضباط الأحرار وبين تنظيم " حدتو" الشيوعي أو ما يطلق عليه اسم الحركة الديمقراطية للمجتمع الوطني وذلك عن طريق عبد الناصر وخالد محيي الدين وأحمد حمروش وليس من المستغرب أن عبد الناصر كان عضوا مهما بهذا التنظيم الشيوعي حيث كان لحركة الضباط الأحرار صلات وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين أيضا , وحيث أن حركة الإخوان كان لها تأثير سياسي كبير في ساحة العمل الوطني ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية وكذلك النمو المطرد للشيوعية في مصر أيضا بعد الحرب العالمية الثانية فكن يجب على المخطط للثورة أن يربط حركة الضباط بهذه القوي الوطنية المعارضة حتى يمكنها مساعدة الحركة في تفجير الثورة .

عبد الناصر عضو في مصر الفتاة والوفد !!

ج:لم ترتبط الثورة بحزب الوفد فليس من المقبول الارتباط بمثل هذا الحزب الذي كان مستهدفا من حركة الضباط الأحرار لأنه كان يمثل عصبا حيويا ومهما لاستمرار نظام الحكم السابق والذي كان يمكن أن ينهار لولا حكم حزب الوفد لفترات .

هل حسن التهامي هو صلة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية ؟

  • س: يقول عبد الفتاح أبو الفضل نائب رئيس المخابرات المصرية الأسبق إن عبد الناصر طردك من المخابرات بعد أن تأكد أنك تقوم بالتجسس عليه والتصنت على مكالماته التليفونية .. لحساب من كنت تقوم بهذا العمل؟
ج: كنت مكلفا من عبد الناصر بالتصنت على المكالمات التليفونية للوزراء وكبار المسئولين في مصر, ليعرف ماذا يجري من ورائه . ولكن اكتشفت رقما خاصا يستخدمه الشيوعيون في الاتصال بعبد الناصر فقمت بمراقبته لأعرف ماذا يجري بينهم .
وحينما عرف عبد الناصر ذلك سألني : الشيوعيون أولاد .. وأنا أريد معرفة ما يقولونه ويخططون له .
  • س: يقول عبد الفتاح أبو الفضل أيضا إنك قمت عن طريق أحد رجالك بالسفارة المصرية بموسكو بالتجسس على الضباط المصريين والبعثات المصرية في الاتحاد السوفيتي .. وإنك كنت ترسل بتلك المعلومات إلى أمريكا ؟
ج: لقد كنت أفعل ذلك بعلم عبد الناصر .
  • س: وهل أمرك عبد الناصر بإرسال معلومات خطيرة إلى أمريكا؟
ج: أنا أرفض الرد على عبد الفتاح أبو الفضل لذي كان مجرد موظف صغير بالمخابرات المصرية .. أنا الذي قمت بتأسيس المخابرات المصرية .. وأرفض أن أضع رأسي بموازاة رجل صغير مثل عبد الفتاح أبو الفضل وإذا أردت أن أكمل الحوار معك لا تلجأ لمثل هؤلاء الصغار أو تستند إلى شهاداتهم وأقوالهم ..

من هو هيكل هذا ؟ ومن هو عبد الفتاح أبو الفضل ؟

أنا حسن التهامي فمن هؤلاء إلى جانبي .

الوثائق المضبوطة بالسفارة الأمريكية في طهران !!

  • س: حين استولي الطلبة الإيرانيون على السفارة الأمريكية بطهران قاموا بالاستيلاء على الوثائق الموجودة بها وكشفوا عن وجود تعاون بين المخابرات المصرية بمشاركتك وبين المخابرات الأمريكية والإيرانية في عهد الشاه ... فما ردك على ذلك ؟
ج: الذين قالوا ذلك هم العملاء الحقيقيون للمخابرات الإسرائيلية والأمريكية ,لقد حاول " بيجن " أن يشوه صورتي ويقول بأنني أعمل ضد الإسلام والمسلمين .
  • س: ولماذا يقول عنك " بيجين " ذلك وأنت الذي لعبت الدور الأكبر والرئيسي في اتفاقيات كامب ديفيد وعقد الصلح مع إسرائيل ؟
ج: لأنني كنت ضد التنازلات التي قدمها السادات له في كامب ديفيد .. وقد حاولت أكثر من مرة أن أوقف السادات عند حده ... وحينما رأي " بيجين " موقفي المتشدد ورفضي للتنازلات حاول تشويه صورتي .
  • س: ليس " بيجن " وحده هو الذي قال ذلك ..ولكن هناك أكثر من مصدر ذكر أنك تعاونت " مع المخابرات الأمريكية .. خاصة في بداية الثورة .. وأنك كنت تقوم بدور الوسيط بين الثورة وبين أمريكا .. وقصة بناء برج القاهرة شاهدة على ذلك ؟
ج: قالوا بأنني توسطت في رشوة مقدارها ثلاثة ملايين دولار قدمتها المخابرات الأمريكية لعبد الناصر , وهذا غير صحيح " والصحيح أن المعونة الأمريكية وهي الثلاثة ملايين دولار والتي أشار إليها مايلز كوبلاند في كتابة الشهير " لعبة الأمم " لم تأت باسم عبد الناصر مباشرة وإنما جاءت إلى محمد نجيب على سبيل تعزيز وتدعيم النظام الجديد , ومع ذلك فإن عبد الناصر هو صاحب قرار الإنفاق منها ولا ينفق أى مبلغ إلا بأوامره .
  • س: ولكن هيكل شهد بأنك قمت بتسلم الملايين الأمريكية من مايلز كوبلاند لإعطائها لعبد الناصر على سبيل الرشوة , فأخذها عبد الناصر وبني بها برج القاهرة ليصبح نصبا تذكاريا شاهدا على وطنيته وغباء المخابرات الأمريكية ؟
ج: مرة أخري تقول لى هيكل .. إذا رددت أمامي كلام هيكل مرة أخري فسوف أقطع الحوار معك فورا .. من هو هيكل وماذا يعرف بالقياس لما أعرفه أنا عن أمريكا وعلاقتها بمصر وعبد الناصر ؟
ونكتفي بهذا القدر من ذلك الحوار العجيب الغريب والذي أجرته جريدة الأنباء الكويتية مع السيد حسن التهامي .

ومن هذا الحوار نسير في سراديب الشيطان حيث تنير الدنيا وتظلم في آن واحد ونخرج بكثير من الاستنتاجات والمعلومات أهمها علاقة عبد الناصر الوثيقة بالمخابرات الأمريكية وشهادة حسن التهامي بتلفيق حادث المنشية للقضاء على الإخوان المسلمين .

الذين اجتمعوا لرسم الخطوط للحادث .

" فعندما وقع الجانبان البريطاني والمصري على اتفاقية الجلاء في 27 يوليو عام 1954 كانا قد اتفقا أيضا على أن يكون التصديق في 19 أكتوبر عام 1954 من العام نفسه , والذي سيعقبه احتفال شعبي بهذه المناسبة .. وكان هذا الاحتفال هو مسرح حادث المنشية .

ولكن كما يقول مايلز كوبلاند في كتابه الشهير لعبة الأمم  : إن عبد الناصر نفسه لم يكن ذا ماض عسكري عريق حتى يشكل عنصر دعاية , ولم يكن حتى ليدرك العقبات التي تعترض اتصاله بالشعب مباشرة , فقد اعترف عبد الناصر يومها بأنه جاهل بأصول التقرب إلى الجماهير المصرية .

ومن هنا.... وعلى ضوء الطريق إلى حكم مصر ... كان لابد من نهر للدماء يعبر عليه عبد الناصر بشراعه الإعلامية المخططة ليتسلط على حكم مصر .

فقد تم اجتماع عقب توقيع الاتفاقية ضم بول لينبارجر مسئول الدعاية السوداء علما بنفسية الشعوب في الشرق .

فهذه الشعوب – عامة وعلى حد تعبيره – عاطفية من الدرجة الأولي تمجد وتحب من يقع تحت وطأة الظلم أو الغبن أو تظهر عليه علامات رضا الله عنه .

وكان بول لينبارجر من أصل صيني عاش بالصين حتى ثورة مايو ثم رحل إلى الولايات المتحدة للعمل بها .

وعندما حضر إلى القاهرة في مارس عام 1954 وعقب الأزمة الشهير كان ذلك بغرض الدراسة والتحليل و التحضير لعبد الناصر حتى يمكنه من السيطرة على مشاعر الشعب المصري وكسب عاطفته في أقصر وقت ممكن وإحاطته بما لم يحط به محمد نجيب .

وكان اقتراح بول لينبارجر في هذا الاجتماع افتعال محاول للاعتداء على حياة عبد الناصر تكون سليمة التدبير , وتكون بها عناصر مختارة في هذا الصدد , فتكون عملية إطلاق الرصاص على عبد الناصر عملية تمثيلية صورية محكمة وذات تأمين كاف لتنفيذها , وهذا الحادث في حد ذاته سيجذب مشاعر الشعب المصري نحوه لما يراه فيه من مظاهر الشجاعة أثناء ثباته في هذا الموقف , وعدم خوفه أو اهتزازه وأنه قد نجا منه بأعجوبة تثير المشاعر , كما ستقوم أجهزة الإعلان والرأي العام بصياغة الحدث بصورة مؤثرة في مشاعر الشعب لجذب عواطفه وتعاطفه نحو عبد الناصر .

وفي الوقت ذاته ينزاح محمد نجيب من مركز الصدارة حيث تتاح الفرصة المواتية لعبد الناصر أن يفعل ما يريد في أثناء هذه النشوة الشعبية التي تنجرف نحوه عقب هذا الحدث .

وقد استمع الجميع إلى هذا الحديث لبول لينبارجر , ولكن الذين كانوا يعطفون أو يحرصون على زعامة مصر وقيادتها المقبلة وقتئذ رأوا أن هذا الاقتراح قد يؤدي بحياة عبد الناصر نتيجة أى خطأ لا يمكن السيطرة عليه ولو كان خطا واحدا كما أنه في حالة إطلاق النار على عبد الناصر ونجاته من دقة وإحكام التصويت فربما يثير هذا رد فعل عند أعداء النظام وتكون النتيجة محاولات أخري لاغتياله وبالتالي فإن هذا الحدث يفتح الأذهان لهؤلاء الخصوم عن إمكانية ضرب الحكم الجديد في أى وقت .

وأضاف هؤلاء الوطنيون إن هذا العمل يعد مجازفة لا طاقة لهم بتحمله , ورغم بعض المبررات الأخرى لرفض هذا الاقتراح , فإن بول لينبارجر كان على يقين واقتناع تام به , وعلى ذلك لم يعقد اجتماع يضم ذات المجموعة مرة أخري وإنما انفرد به عبد الناصر شخصيا .

وبعد ثلاثة شهور من هذا اللقاء وذلك الحديث تمت عملية المنشية تماما كما وضع خطتها بول لينبارجر بإحكام " لا يزال من الأحياء الذين حضروا هذا اللقاء – كما أخبر بذلك حسن التهامي زكريا محيي الدين وعبد القادر حاتم والذي لا ريب فيه أنهم قد اطلعوا على هذا الكلام ولم نسمع أنهم قد قاموا بتكذيبه أو الرد عليه .

وإن كان عندهم ما يقولونه في هذا المجال فالناس جميعا في انتظاره والظن أنه ليس في وسعهم الكلام حول هذا الحادث لأنه قد يعرضهم ربما للمساءلة والحساب لو تغير النظام وهم مسئولون لا محالة إن ظلوا على قيد الحياة , وإن نجوا من العذاب الأدنى في الدنيا فماذا يفعلون حيال العذاب الأكبر يوم القيامة عندما يصعب الدفاع وتنقطع الحجة وتشهد أيديهم وأرجلهم وجلودهم , ثم حكم لا استئناف فيه ولا نقض , بل هو حكم نهائي غير قابل للإلغاء وعقاب عادل يقضي به الله سبحانه وتعالي الذي لا تخفي عليه خافية في السماء والأرض .. ولعل شهادة الرئيس محمد نجيب من أهم الشهادات في هذا المجال .

شهادة الرئيس محمد نجيب

كان محمد نجيب من أكثر الناس صلة بالضباط الأحرار ولا شك أنه لولاه لما نجح انقلاب 23 يوليو 1952 بكل المعايير .

وشهادته عظيمة القيمة متنوعة الدلالة وهي تساعدنا على تفهم تلك الفترة الحرجة المظلمة من تاريخ مصر وتبين زيف وتلفيق حادث المنشية .

عبد الناصر يحب الظهور

" وفي خلال شهور الحرب لم يلفت جمال عبد الناصر انتباهي . لكني أتذكر أنه كان يحب الظهور ويحب أن يضع نفسه في الصفوف الأولي والدليل على ذلك ما حدث في الفالوجا .. كنا نلتقط صورة تذكارية في الفالوجا , ففوجئت بضابط صغير يحاول أن يقف في الصفوف الأولي مع القواد , وكان هذا الضابط هو جمال عبد الناصر ولكني نهرته وطلبت منه أن يعود لمكانه الطبيعي في الخلف "

عبد الناصر لم يحارب في فلسطين

" وعرفت عنه بعد ذلك أنه لم يحارب في عراق المنشية كما أدعي ولكنه ظل طوال المعركة في خندقه لا يتحرك "

عبد الناصر على صلة باليهود أثناء الحرب

" وفي أثناء الهدنة مع اليهود جاء ضابط يهودي اسمه كوهين يسأل عنه – عن جمال عبد الناصر – ولم يكن موجودا فكتب له خطابا وتركه مع ضابط كان من الإخوان المسلمين اسمه معروف الحضري"

وقد قدر لى منذ سنين أن أطلع على رسالة بخط جمال عبد الناصر موجهة إلى المرحوم معروف الحضرييوصيه فيها بهذا الضابط كوهين أو ربما كوهين آخر .

ومع الأسف الشديد فقدت أثر هذه الرسالة وأحاول البحث عنها والوصول إليها مرة أخري فهي وثيقة هامة .

الضباط الأشرار !

" ولم يكن اسما على مسمي فهؤلاء لم يكونوا أحرارا – يقصد الضباط - وإنما كانوا أشرار .. وكان أغلبهم – كما اكتشفت فيما بعد – من المنحرفين أخلاقيا واجتماعيا .. ولأنهم كانوا في حاجة إلى قائد كبير ليس في الرتبة فقط وإنما في الأخلاق أيضا ليتواروا وراءه ويتحركوا من خلاله .وكنت أنا هذا الرجل مع الأسف الشديد .

لا أريد أن أبدو غاضبا أو ساخطا أو مفعلا , بسبب ما حدث لى على أيديهم بعد الثورة , فهذه انفعالات ذابت مع السنين , وتلاشت مع الشيخوخة التي تجعل الإنسان معلقا بين الموت والحياة .. بين السماء والأرض .. بين الوجود والعدم"

عبد الناصر يغير ملابسه في الشارع ليلة الانقلاب !

" وللتاريخ أيضا أذكر أن جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر لم يقتربا من القيادة إلا بعد الاستيلاء عليها .

كانا يقفان في مكان جانبي قريب أمام سيارة عبد الناصر الأوستن السوداء .. وقد ارتديا الملابس المدنية ووضعا ملابسهما العسكرية وطبنجتين داخل السيارة وبمجرد أن أحسا بنجاح الاقتحام ارتديا الملابس العسكرية ودخلا القيادة"

الوزراء مجرد سعاة أو طراطير !

لمعرفة أن عبد الناصر هو الذي لفق حادث المنشية ولتفهم ذلك فلابد من الإلمام بالمناخ العام الذي كان يسود والذي صنعته الثورة , محمد نجيب كان بحكم موقعه يعرف كيف تحول الضباط إلى شياطين وإلى وحوش مفترسة تخلت عن القيم والمبادئ والأخلاق , ونسيت الوطن والشرف ولم تعد تفكر إلا في نفسها وكيفية الحصول على المال الحرام .

وهو يقول :

" كان للثورة أعداء وكنا نحن أشدهم خطورة كان كل ضابط من ضباط الثورة يريد أن يملك .. يملك مثل الملك .. ويحكم مثل رئيس الحكومة .

لذلك فهم كانوا يسمون الوزراء بالسعاة .. أو بالطراطير .. أو بالمحضرين وكان زملاؤهم الضباط يقولون عنهم :

- طردنا ملكا وجئنا بثلاثة عشر ملكا آخر .

هذا حدث بعد أيام قليلة من الثورة .. هذا حدث منذ أكثر من 30 سنة . وأنا اليوم أشعر أن الثورة تحولت بتصرفاتهم إلى عورة .. وأشعر أن من كنت أنظر إليهم على أنهم أولادي أصبحوا بعد ذلك مثل زبانية جهنم , ومن كنت أتصورهم ثوارا أصبحوا أشرارا "

الجستابو والأمريكان يشرفون على المخابرات المصرية !

ومرة أثناء محاولة استرضاء لمحمد نجيب قام بها جمال سالم قال الأول للأخير :

- " أنا غاضب من الأموال السرية التي تنفقونها على أغراضكم الشخصية .. وأنا غاضب على دولة المخابرات التي تكونونها الآن بإشراف بعض ضباط المخابرات المركزية وبعض الضباط الألمان الذين كانوا في الجستابو"
- ولا شك أن الأمريكان كانوا على صلة وثيقة بالضباط يعرفها محمد نجيب ولكنه لا يعرف تفاصيلها وكيف تدور .. وكان محمد نجيب يظن خطأ أن قوة بريطانيا في المنطقة ونفوذها لا يزال على عهده القديم . ولم يكن دور الأمريكان واضحا تمام في مخيلته ولما تبينه كان الوقت قد فات .

لهذا تراه يقول في مذكراته :

" كان ما قاله دالاس عن سياسة الأحلاف كلاما ليس جديدا وسبق أن سمعته من جيفرسون كافري .. ونحن على مائدة العشاء في بيت عبد المنعم أمين قبل أن يخرج من مجلس القيادة ويعين سفيرا لمصر في هولندا .

وقد كان بيت عبد المنعم أمين الفخم هو مكان اللقاء المستمر بين رجال الثورة والأمريكان وأنا لم أحضر مثل هذه اللقاءات سوي مرتين فقط , لأنني كنت أخشي من أن تقع الثورة فريسة سهلة في يد الأمريكان , وحذرت عبد المنعم أمين منها .. لكنه لم يسمع كلامي وفضل أن يستجيب لكلام جمال عبد الناصر الذي كان على صلة وثيقة بالأمريكان منذ الساعات الأولي بعد نجاح الحركة وكنت قد قرأت الكثير عن علاقة المخابرات المركزية بعبد الناصر وتنظيم الضباط الأحرار قبل الثورة "

" كان إحساسي بخطر احتواء الأمريكان للثورة هو دافعي لقطع حبال الاجتماعات الخاصة مع رجالهم وتأكيدا لهذا الموقف أعلنت بصراحة لوكالة اليونيتدبرس ونحن على وشك المفاوضات مع الإنجليزبأنني :" أصر على أن يكون الجلاء غير مشروط بشرط ما فنحن غير مستعدين لمناقشة أية منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط سواء كانت حلفا أو ميثاقا أو تحت أى اسم يطلق عليها .

ولكن عرفت أن الاجتماعات الخاصة مع الأمريكان استمرت سرا مع جمال عبد الناصر وعدد من أعضاء مجلس القيادة وعندما عرفت ذلك عارضت هذا الاتجاه بشدة ونصحتهم بالابتعاد عن هذه الاتصالات ".

المخابرات الأمريكية تحمي عبد الناصر والثورة

قال محمد نجيب للمستر كافري في لقاء :

" نحن نرفض تعاون أجهزة الأمن مع المخابرات المركزية لأنني لا أريد تقييد حرية المواطنين وتقوية هذه الأجهزة يجعلها هي التي تحكم فعلا في آخر الأمر .
وكفي ما عانيناه وعاناه شعب مصر من القلم السياسي .. أما من حيث الأحلاف فلا حديث عنها قبل الجلاء الكامل غير المقيد بشرط.
لكن ما رفضته أنا بصراحة قبله جمال عبد الناصر بعد ذلك .
تدخلت المخابرات الأمريكية في رسم خطط حماية عبد الناصر الأمنية وجاءت له بسيارات وأسلحة خاصة لتنفيذ هذه الخطط كما أن أسس تكوين المخابرات المصرية التي أقامها زكريا محيي الدين كانت مستمدة من أفكار بعض الأمريكان وتحولت هذه المخابرات كما توقعت إلى جهاز لتعذيب الشعب المصري وفض كرامته "

رأي محمد نجيب في حادث المنشية

" وبينما يلقي جمال عبد الناصر خطابا في المنشية في 26 أكتوبر احتفالا بتوقيع الاتفاقية أطلقت عليه عدة رصاصات وسط 10 آلاف شخص في السرادق واتهم محمود عبد اللطيف .

كان محمود عبد اللطيف يجلس على بعد 15 مترا من المنصة والضيوف , وقيل إنه أطلق عليه 9 رصاصات ولكن عبد الناصر لم يصب , وأصيب ميرغني حمزة ( وزير سوداني ) وأحمد بدر المحامي .

وكانت هذه المسرحية المدبرة محاولة لتحويل عبد الناصر إلى بطل شعبي ومحاولة لينسي الناس عوار اتفاقية الجلاء , ثم هي فرصة ليتخلص عبد الناصر من القوة الوحيدة الباقية وهي الإخوان .

أقول مسرحية لأن محمود عبد اللطيف المتهم باغتيال عبد الناصر كان معروفا عنه مهارته في إصابة الهدف بالمسدس , كما أنه من الفدائيين المحترفين الذين أرقوا الإنجليزفي منطقة القناة عام 1951 , ثم إن المسافة كانت قريبة تسمح له بإصابة الهدف وهو جسد عبد الناصر العملاق , ثم إن الرصاصات كانت تسعا ,كان من الطبيعي أن يصاب بواحدة منها على الأقل ولو إصابة سطحية , أكثر من ذلك ذهب الاتهام إلى حد القول بشريك آخر يسنده بمسدس أو قنبلة , ولو أراد الإخوان أن يقتلوا عبد الناصر ويضمنوا نجاح العملية فلماذا لم يرسلوا خمسة أو عشرة لتنفيذها ؟

واتضح فيما بعد أن الحائط المواجه لإطلاق النار لم يكن به أى أثر للرصاص مما يثبت أن المسدس كان محشوا برصاص " فشنك"

المباحث العامة هي التي لفّقت الحادث

ويقول محمد نجيب أيضا في حديث له مع جريدة اقرأ السعودية وكان ذلك بعد موت جمال عبد الناصر , وهذا الحديث سابق للمذكرات التي كتبها ونقلنا عنها فقد كتبها رحمه الله في آخر حياته: " هنا أقطع سياق كلامي لأعلن لأول مرة في التاريخ سرا من أدق ما يمكن من أسرار ثورة يوليو , وهو أن مؤامرة إطلاق الرصاص على عبد الناصر في الإسكندرية كانت مؤامرة وهمية من أول حدوثها لآخرها , وكانت مرتبطة بواسطة رجل من أجهزة المباحث العامة في مصر كوفئ على ذلك فيما بعد بمنصب كبير .. واستؤجر في هذه المؤامرة شاب مصاب بجنون العظمة وأغري بأنه لو اعترف بأنه حاول قتل عبد الناصر فسينال مكافأة ضخمة ويسمح له بالهجرة إلى البرازيل , وقد كانت المكافأة الوحيد التي تلقاها هي إعدامه بدلا من تهريبه كما وعدوه حتى يموت ويموت معه السر "

وقد جاءت هذه الفقرة في كتاب المرحوم جابر رزق " المؤامرة على الإسلام مستمرة " س 140

والمؤكد أن محمد نجيب من موقعه كرئيس للجمهورية حتى ذلك اليوم الذي حدث فيه حادث المنشية كان على صلة وثيقة بالعاملين في جهاز الدولة المريب وبعضهم على ولاء له والبعض الآخر ليس كذلك وهناك ما يدور في الخلفية من أحاديث حول ما يجد من حوادث ولا نفترض أن مؤامرة مثل هذه تكون تفاصيلها مشاعا بين أعوان السلطان ولكن بعض الغمزات والإيماءات والتلميحات من هنا وهناك وطبيعة التحقيق وظروف الدولة في ذلك الوقت تجعل واحدا مثل محمد نجيب من السهل عليه أن تصل إلى مسامعه بعض التأكيدات عن زيف الحادث دون تفاصيل .

شهادة محمد رشاد مهنا عن المنشية

تم الحوار بيني وبين الفريق محمد رشاد مهنا حول حادث المنشية , وكانت أول مرة ألتقي به وهو شيخ تجاوز السبعين ولكنه يحمل قلب شاب في الثلاثين .

ومن بين علامات الزمن التي ملأت وجهه ونظرته الإيمانية التي تشملك والهدوء واليقين الذي يغزو نفسك بصوته الهادئ الواثق يقول :

- كان الإسلام هو المنطلق الذي أردنا به التغيير في هذه البلاد المنكودة . وكان حماسنا له عظيما فهو الحل وهو العقيدة التي يمكن لها إصلاح ما فسد من أمور الأمة والعباد .

ولكن ما كل ما يتمني المرء يدركه .

تحكم في البلاد شباب فاسد من الضباط لا عقيدة لهم ولا ثقافة ولا وجهة نظر فانتهينا إلى ما نحن فيه اليوم مما يصعب على العقل تصور حل له بعد الانهيار الأخلاقي والمادي الذي شمل كل شئ .

وتحدثنا طويلا ثم انتهينا إلى السؤال عن حادث المنشية .

وملأت وجهه ابتسامة ساخرة مريرة وهو يقول :

- كان الضباط " وعلى الأخص عبد الناصر – معجبين بالنمط النازي الذي تخللتنا دعايته ونحن شباب وكانت تستهوينا الأعمال الخارقة التي قامت بها فرق الجستابو. ولكن في حدود الإعجاب بالبطولات التي قام بها شباب مدربون والتي كانت تثير دهشة العالم مثل عملية اختطاف " موسوليني " من سجنه في أواخر أيام الحرب العالمية الثانية .

وعندما حكم الضباط صار لكل واحد منهم فرقته أو قتلته المحترفون الذين كانوا على استعداد لفعل أى شئ وتدخلت المخابرات الأمريكية وبعض ضباط الجستابو للتوجه ورسم الخطط بعد أن قاموا بدراسة مستفيضة لما في المجتمع المصري من قوي سياسية مختلفة .

ونجح الضباط في التخلص من هذه القوي واحدة بعد الأخرى وفجأة لم يعد أمامهم غير الإخوان المسلمين .

وكانت جماعة الإخوان جماعة محكمة التنظيم قوية الشكيمة يتبعها قطاع كبير من الشباب في مختلف البلاد وفي كل التخصصات .

وكان الإخوان ماردا يصعب القضاء عليه بسهولة .

ومن منتصف يونيو بدأت تتردد أحاديث عن حادث ضخم وعن بطش عظيم بالإخوان , وكان من له صلة بالقادة يعرف جيدا أن هناك أمرا بالغ الخطورة يدبر للإخوان المسلمين , وكان الظن أنه تنكيل وبطش أو اعتقال , ولكن البعض كان يوحي أن هناك حادثا ما سوف يقع يجعل الإخوان في مأزق ويفقدهم شعبيتهم ويبرر ضربهم ضربا شديدا مبرحا بحيث لا تقوم لهم قائمة .

وعندما وقعت اتفاقية الجلاء بالأحرف الأولي وبدأت منشورات جماعة الإخوان تهاجم الاتفاقية وتبين مدي ضررها على مصر والمصريين ظهرت نغمة البطش بهم وأن هناك ما يدبر وأنا شخصاي سمعت هذا الكلام كثيرا ولم تستبن ملامحه لى إلا عند حدوث محاولة اغتيال عبد الناصر المزعومة في المنشية , وقيل لى يومها ممن لا أذكره الآن إن هذا هو الحادث العظيم الذي سوف يغير الموازين .

ولم تكن من السهل الوصول لمعرفة مثل تفاصيل ما حدث فقد كانت ظروفي في ذلك الوقت بالغة السوء بالإضافة إلى أن الحكومة قد صارت من الفجرة والقتلة المحترفين والمتآمرين , وأن الحادث أدي إلى تنكيل لم يشهد التاريخ الحديث مثيلا له .

وسمعت أيامها أن ذلك تم تخطيطه بين عبد الناصر شخصيا وضابط ألماني وثلاثة من القتلة الضباط بناء على نصيحة أمريكية لا أتذكر الآن كيف قدموها إليه .

ومن الصعب عليك الوصول إلي الفاعل الحقيقي فلو وصلت إليه فسوف يقدم إلى المحاكمة تحت أى ظروف وسوف يتعرض للانتقام شاء أم أبي , فالذين فعلوها من مصلحتهم إخفاؤها إلى الأبد , ولكننا لا نعرف الغيب وما يمكن أن يكون في مستقبل الأيام .

ورغم هذا فقد كان الحديث عن أنها تمثيلية رديئة الصنع منذ اللحظة الأولي لإطلاق هذه الرصاصات وكان ذلك حديث الشعب المصري كله في ذلك الوقت .

ولكني أجزم لك أن العلاقة كانت حميمة بين عبد الناصر وبين المخابرات الأمريكية على الأقل في سني الثورة الأولي , وأن من المسئوليات التي أخذوها على عاتقهم هي صناعة عبد الناصر كزعيم وجاء إلى البلاد عديد من الخبراء والمستشارين لتحقيق هذه الغاية .

وقد عرفت أن الاتصالات معهم بدأت بشكل جدي ويقيني منذ شهر مارس عام 1952 قبل قيام الثورة بعدة أشهر , وربما قبل ذلك ,وعلمت أيضا أن هناك مفاضلات كانت تتم ومقارنات كانت تعقد بين عبد الناصر ومحمد نجيب , وانتهت القرارات في النهاية إلى اعتماد عبد الناصر كزعيم للمنطقة العربية وأؤكد لك أن أول من لقنه كلمة " العرب " و" العروبة " أو " القومية العربية " هم الأمريكان .

وكان الأمريكان يخشون الإخوان المسلمين وهذه حقيقة ويخشون من التغلغل الشيوعي في المنطقة وهذه حقيقة أخري , وكان أملهم في الملك عظيما أن يجري الإصلاحات التي تحول بين الخطرين فهو الذي قتل حسن البنا , فهو مؤهل لمزيد من ضرب الإخوان , وهو كملك ويملك آلاف الأفدنة الزراعية وكذلك أسرته يهمه في المقام الأول وقف التغلغل الشيوعي في مصر .

وجاء الخبراء قبل الثورة لدراسة إمكانية تحقيق هذه الأهداف عن طريق الملك ولما علموا أن لا فائدة منه فكروا في التعاون مع الضباط الذين كانوا يرصدون حركتهم من أيام حرب فلسطين . وهذا الكلام الذي قاله الفريق رشاد مهنتا يؤيده ما جاء في كتاب " لعبة الأمم" الشهير لمؤلفه مايلز كوبلاند مندوب المخابرات الأمريكية والذي قدم إلى القاهرة وكانت له علاقة حميمة بعبد الناصر وزكريا محيي الدين والذي فضح فيه تفصيلا قصة العلاقة بين الثورة والمخابرات وقد أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة عند صدوره في أواخر أيام عبد الناصر وترجم إلى العربية ومنع من التداول في مصر حتى الآن , ولم يستطع أحد أن يرد على ما جاء فيه وغاية ما قاله محمد حسنين هيكل عن المؤلف والكتاب أن صاحبه كان يريد تمويلا لمشروع بعد أن ترك المخابرات ورفضت الحكومة المصرية هذا فما كان منه إلا أن كتب هذا الكتاب ونشره نكاية في الثورة وتشويها لها ولم يرد على واقعة واحدة مما جاء فيه .

شهادة عبد المنعم عبد الرؤوف عن الحادث

نستطيع القول إن عبد المنعم عبد الرؤوف هو الأب الشرعي الحقيقي لتنظيم الضباط الأحرار بعد وفاة الصاغ محمود لبيب , وكان دوره أساسيا في نجاح الانقلاب وطرد الملك من مصر بعد أن حاصره في رأس التين وأجبره على التوقيع على وثيقة التنازل التي حملها إليه سليمان حافظ أول " ترزي" قوانين " تفصيل " في عهد الثورة المباركة .

وكان بينه وبين عبد الناصر ود مفقود أدي في النهاية إلى التناقض الظاهر معه والقبض عليه وتقديمه للمحاكمة العسكرية قبل حادث المنشية بشهور , وتم الحكم عليه بالإعدام وتمكن من الهرب وغادر مصر ولم يعد إليها إلا بعد وفاة عبد الناصر .

وكان عبد المنعم عبد الرؤوف أحد قادة الإخوان في الصراع الغامض المعالم الذي اشتد في الفترة ما بين أزمة مارس حتى حادث المنشية في 26 أكتوبر سنة 1954 .

وقد كتب مذكرات هامة تم نشرها بعد وفاته تحت عنوان " أرغمت فاروق على التنازل عن العرش " وقامت دار الزهراء للإعلام العربي على ذلك .

يقول :

" كنت قد ذكرت للإخوان عند هروبي من السجن والمحاكمة أن قادة الانقلاب لن يتركوا الإخوان ولابد سيعملون أى شئ للاحتكاك واعتقالهم وفي موضع آخر تحت عنوان :

حادث المنشية

" سمعت النبأ وكان مفاجأة غير متوقعة , في الصباح نشرت الصحف أنباء أدركت حين قرأتها أنني أمام أشياء لا يصدقها العقل , وتواردت في خواطري علامات استفهام كثيرة حول هذا الحادث .
ثم سلم الشهيد هنداوي دوير نفسه وأدلي بكثير من الاعترافات والخطط التي لم تكن في الحسبان , وتحيرت مع هذه الاعترافات والخطط أيضا , وأخذن أناقش تفاصيلها وأتعجب , ثم بدأت الاعتقالات الشاملة , وأخذت الصحف تنشر ذلك وتكتب عن ضبط أسلحة ومتفجرات وأجهزة اتصال لدي أفراد الجماعة وغير ذلك من الأفانين التي كانت تطالعنا بها كل يوم"

" وبدأت الصحف تذكر أقوالا وتفاصيل عن الخطة الدموية التي أحكمت الصحف نشر تفاصيلها بما لا يصدقه العقل .

كان ذلك كله يحدث فتدور بخواطري التساؤلات إلا أنني أفاجأ بما كنت أحذره وأخشاه وقد قامت الحكومة بتنفيذه بالفعل ونشطت المحاكمات للقضاء على الجماعة ,أفرادها كما سبق أن حذرت "

هذا كلام عبد المنعم عبد الرؤوف احد الذين كانوا مسئولين عن الأجهزة السرية – إن جاز التعبير – للإخوان المسلمين في الفترة ما بين مارس 1954 إلى 26 أكتوبر سنة 1954 ,وهي فترة الصراع الحرجة بين الإخوان وحكومة الضباط فالرجل قد أصيب بالدهشة عندما سمع بالحادث وصار يضرب أخماسا في أسداس لأنه لا علم له به من قريب أو بعيد .

وقد التقيت معه عليه رحمه الله في بيته بمدينة نصر قبل وفاته وسألته في أمور كثيرة كان منها حادث المنشية وعن رأيه فيه .

وقد قال رحمه الله إنه على وشك الوصول لمعرفة تفاصيل مؤامرة المنشية هذه وكيف رسمت وكيف تم تنفيذها .

وعندما طلبت منه أن يخبرني ببعض ما وصل إليه وعدني بذكر الحقيقة كاملة بعد أن تتضح له كل الخيوط ولكن المرض لم يمهله حتى جاءه اليقين بالموت غفر الله له ورحمه رحمة واسعة .

وكان يقول إنه خبير بعبد الناصر وبأساليبه وخططه وإن حادث المنشية مدير منه ليس استنتاجا ولكن نتيجة معلومات لم تكتمل بعد, وفي جنازة المرحوم عبد المنعم عبد الرؤوف – وهي ككل جنازات الزعماء من الإخوان المسلمين الذين يأتيهم اليقين واحدا بعد الآخر – تراها في شكل غريب عجيب فهي تغص بالمؤمنين وبرجال الأمن وربما تصل النسبة إلى النصف والنصف ذلك إذا استثنينا الجنازات الضخمة التي وصل العدد فيها إلى أكثر من مليونين وهي جنازة المرحوم عمر التلمساني المرشد العام للإخوان .

انتهينا من جنازة المرحوم عبد المنعم عبد الرؤوف وانتحينا جانبا وكنا أربعة اللواء جمال حماد المؤرخ المعروف واللواء أبو المكارم عبد الحي والأستاذ أحمد عادل كمل وكاتب السطور هذه .

وكان اللواء جمال حماد يجمع بعض المعلومات عن المرحوم عبد المنعم عبد الرؤوف لموضوع في الكتابة يشغله , فصار يسأل اللواء أبو المكارم عبد الحي على ناحية من الطريق ونحن نستمع إليه .

ومن طريف ما رواه أبو المكارم عبد الحي .

- كنا أنا والمرحوم هاربين من حكم الإعدام وجمعتنا المعيشة في بيروت وفوجئت به – عبد المنعم عبد الرؤوف – يزورني حيث أقيم وهو ثائر ثورة عارمة واستوضحت منه سبب ثورته فإذا به يفاجئني بالسخط الشديد على تصرفات عبد الناصر كيف يفعل هذا معهم وهو – عبد المنعم عبد الرؤوف – أقدم منه رتبة في الجيش وفي تنظيم الضباط الأحرار أيضا , وقال ساخطا إن هذا يتنافي مع قيم الإسلام وقواعد العسكرية ومبادئها وصرنا نستمع إلى أبي المكارم عبد الحي في اهتمام وهو يواصل :
- قلت له لا تنس يا عبد المنعم أن الزمن قد تغير والقانون المصري يطالب برأسينا وهدأ عليه رحمة الله عندما اصطدم بصخرة الواقع , فقد كان مثالي النزعة عميق العاطفة جياشها يستنكر المنكر من أصحابه ويدهش له ولا يقبله ولا يتصوره ولا ينساه مهما تطاولت السنون , وانتهزت فرصة وهمست في أذن أبو المكارم عبد الحي :

- ما رأيك في حادث المنشية ؟

وملأت وجهه ابتسامة ساخرة وقال :
- الكل يعرف أنها تمثيلية قد أحكمت للقضاء على الإخوان

- وأين الدليل ؟

- ورفع حاجبيه دهشة :

- الدليل !! هذه جريمة تم استشهاد بضع عشرات بسببها وفي يوم سوف تفتح الملفات ويعرف عنها كل شئ .
- وما الذي يجعلك تقول إنها ملفقة وليس عندك الدليل .

لأني كنت أعيش في بؤرة الأحداث وأعرف ما يمكن وما لا يمكن . منهج عبد الناصر أفهمه جيدا .. ونحت كإخوان لم نأمر بشئ من هذا , ومات السر مع هنداوي ومحمود عبد اللطيف .. ولكنه لم يمت إلى الأبد فغدا تظهر الأيام ما أخفاه المجرمون .

ثم فرقنا الطريق .

ذكريات وآراء عن الحادث وأذكر في سني الاعتقال حيث تقلبنا من معتقل إلى آخر كان من أهم ما نتكلم فيه ونسأل عنه هو حادث المنشية وأذكر أنني لم أدع صغيرا ولا كبيرا إلا وسألته عن تفاصيل هذا الموضوع , ولم أظفر من واحد بإجابة تفيد أو تشير أو تلقي الضوء على دور الإخوان وحول هذا الأمر الغريب .

وكان من الواثقين أن هذا الحادث مدبر وملفق الأستاذ محمود قطب وكنت أسأله :

- ومن أين يأتيك هذا اليقين ؟

ويبتسم ابتسامته المعهودة ويقول :
- هاهم الإخوان أمامك في المعتقل صغيرهم وكبيرهم واسألهم إن كان واحد فيهم يعرف شيئا فتكون الحجة لك .
- يا سيدي أنا طالب حقيقة وأريد أن أعرف
- الحادث ملفق لضرب الإخوان .

- وهل يستدعي ضرب الإخوان هذا التلفيق ؟

- وكيف يعلو هبل ؟ ليس ضرب الإخوان فقط هو المطلوب.

وكان الأستاذ محمد قطب يسمي عبد الناصر " هبل " ذلك الصنم الشهير وأقول له :

- هنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف ؟

- هؤلاء قد توفيا إلى رحمة الله – وهما ليس الإخوان – وسرهما معهما . وأنا شخصيا لا أتهمهما بشئ ولا أعرف شيئا عن ظروفهما , وقد دار معي التحقيق في أشياء حول هذا الموضوع أمسك عن ذكرها الآن .
شهادة محمد قطب عن الحادث

وتمضي السنون والأعوام ويقع في يدي كتاب الأستاذ محمد قطب " واقعنا المعاصر " فيقول فيه :

" وفي 26 أكتوبر 1954 افتعلت مسرحية الإسكندرية وتم على أثرها اعتقال أكثر من عشرين ألفا من شباب الإخوان المسلمين وشيوخهم في السجن الحربي وغيره من السجون , ووقع عليهم من ألوان التعذيب الوحشي ما تعجز الكلمات عن وصفه , مهما تكن دقة المتكلم في الوصف وبراعته في التعبير .

أذكر للقارئ نموذجا واحدا ربما يعينه – ولو من بعيد – على تصور شئ مما كان يجري في السجن الحربي من ألوان التعذيب "

استقبال الشهيد يوسف طلعت وتعذيبه

" كان اعتقالي في نوفمبر من عام 1954 , بعد الحادث بما يقرب من شهر وكان الشهيد يوسف طلعت قد اعتقل قبلي بثمان وأربعين ساعة , بعد أن ظلوا يبحثون عنه أكثر من ثلاثة أسابيع حتى تمكنوا من معرفة مكانه فاعتقلوه , وكان " العرف " قد جري في السجن الحربي على أن يستقبل كل فوج من المعتقلين بما أطلقنا عليه من باب السخرية " حفل الاستقبال "! فكان يتناثر فريق من زبانية المعتقل على الطريق من باب السجن إلى " المكاتب" حيث تسجل الأسماء في أوراق السجن , وكلما مرّ واحد من المعتقلين قام كل واحد من الزبانية بنصيبه في " استقباله " إما بضربه بسوط , أو ضربة عصا , أو صفعة قوية على وجهه , أو لكمة في صدره , أو ركلة بكعب الحذاء الحديدي في أى مكان من جسمه بلا تجرز وكان ذلك مقصودا لبث الرعب في قلب كل داخل أول لحظة , كجزء من خطة الإرهاب العامة التي تمارسها الدولة ضد المسلمين وكان نصيبي من حفل الاستقبال كنصيب كل واحد من الفريق الذي دخل معي السجن في اللحظة نفسها , ولكن ذهلت عن ذلك كله – حتى ذكرني الأخوة فيما بعد بما كان من أمر الزبانية معي – ذهلت عنه ذهولا كاملا حين رأيت الشهيد يوسف طلعت مأخوذا من باب السجن الداخلي إلى المكاتب للتحقيق "!

ماذا فعلوا بيوسف طلعت قبل الإعدام ؟

"كان يوسف طلعت قوي الجسم , شديد الأسر , قوي البناء ,وكان معروفا بقوته الجسدية إلى جانب رسوخ عقيدته وجرأته في الحق , ولم يكن قد مضي عليه في أيديهم إلا ثمان وأربعون ساعة كما أسلفت .. ولكن منظره هالني ! كانت الأربطة التي يرشح منها الدم و" المركروكروم" الأحمر تمتد من أعلي رجليه إلى أسفل قدميه , كما تغطي ذراعيه بطولهما .

وكان معه اثنان من الزبانية أحدهما يقوده من أمامه والآخر من خلفه , وفي كل خطوة كان يتلقي ضربتي سوط على ساقيه الداميتين إحداهما من الأمام والأخرى.

من الخلف ,ومع ذلك لا تزيد خطوته في كل مرة عن خمسة سنتيمترات ! ولو كان يملك أن يجعلها أوسع من ذلك بسنتيمتر واحد لوفر على نفسه مئات الأسواط في هذا المشوار الكئيب من باب السجن إلى المكاتب , حيث يعاد تعذيبه من جديد لذلك ذهلت عما أصابني شخصيا في " حفل الاستقبال " وقد كنت – قبل دخولي – قد سمعت كثير عما يجري هناك من ألوان التعذيب ..ولكن كل ما كنت سمعته لم ينشئ عندي صورة حقيقية عن التعذيب حتى رأيتها بعيني في ذلك المشهد الرهيب "

ويسألونك عن المنشية !

" قال لى المحقق أثناء التحقيق الذي أجري معي في السجن الحربي في الاعتقال الثاني عام 1965 ( وهو مثبت في ملفات التحقيق ) : لقد قلت أمام مجموعة من الناس إن حادث الإسكندرية كان مسرحية ! قلت : لم أقل ذلك .

قال : فماذا قلت إذن .

قالت : قلت لهم إنه سواء كان الحادث حقيقيا أم كان حادثا مفتعلا فقد كان معدا للإخوان كل ما حدث لهم بالفعل !

قال مستنكرا : وما دليلك على ذلك ؟

قلت : لقد كان لى صديق يدعي " حسن السيد" وهو عديل الضابط أحمد أنور مدير السجون الحربية وكان موضع ثقة كبيرة من جمال عبد الناصر وكانت قد قامت بيني وبينه صداقة وثيقة عام 1952 فزرته ذات مساء في أواخر يوليو 1954 في مكتبه ( وكان يعمل محاميا ) فوجدت عنده زبونين أنهي أمرهما بسرعة وقال : تعال ! إنما أريدك في أمر مهم .

وأغلق باب مكتبه بالمفتاح من الداخل مع أنه لا يمكن فتحه من الخارج !

وقال : أريدك في أمر على غاية من الأهمية .

نريد أن نوقف الصدام بين الإخوان والحكومة بأى شكل !

قلت : إن الصدام قد وقع بالفعل , فكيف يوقف ؟

قال : فليكفوا عن نقد المعاهدة( يقصد المعاهدة التي أجريت بين الحكومة وبين الإنجليزفي ذلك العام وكان للإخوان عليها جملة اعتراضات )

قلت: لقد أعلنوا رأيهم فيها بالفعل فما العمل ؟

قال : فلينسحبوا من السياسة ويعلنوا أنفسهم جماعة دينية !

قلت : الحماية أشخاصهم يفعلون ذلك , ويدمرون في الوقت ذاته الأساس الذي قاموا عليه ؟ لقد قاموا على أساس ممارسة الإسلام بمعناه الشامل والسياسة جزء منه فإذا انسحبوا اليوم من السياسة فماذا بقي لهم من مبادئهم يرتكزون عليه ؟

قال : مؤقتا حتى تنتهي الأزمة .. فإنك لا تدري ماذا سيحدث لهم !

قلت مستفسرا : ماذا سيحدث لهم ؟

فتردد في الإجابة .

فكررت عليه السؤال : ماذا سيحدث لهم ؟

فقال : أنا أعيش في وسطهم وأعلم ما سيحدث .. يعني .. حين يأخذون المرشد والأشخاص البارزين في الجماعة فيعدمونهم , ويأخذون كذا ألف شاب فيعذبونهم على طريقة إبراهيم عبد الهادي .. تكون الدعوة قد انتهت !!

قلت : لا تنتهي الدعوة بهذا !

قال محتدا : أظن ستقول لي إن الاضطهاد يذكي الدعوات أنا أحفظ هذا الكلام أكثر منك ! ولكن أمامك مائة سنة أخري حتى تعود الدعوة من جديد !

قلت : إن هذا عصر تتابع فيه الأحداث بسرعة ولا مجال فيه لشئ يأخذ مئات السنين ! ومع ذلك فماذا في وسعي أن أفعل ؟!

قال : تلتقي بأخيك سيد قطب وتطلب منه وقف الصدام مع الحكومة بأي شكل !

قلت له : نعم أفعل .

ولم ألتق بأخي حتى كانت الاعتقالات

قلت ذلك للمحقق فارتبك ارتباكا شديدا لم يستطع إخفاءه ! وظل ما يقرب من نصف دقيقة لا يجد ما يقول .

ثم قال متلعثما : في يوليو ألم يكن الحادث قد وقع ؟!

قلت : لا ! لقد وقع في 26 أكتوبر !

قال : نعم ! لقد كان الإخوان يومئذ قد بدأوا يشاغبون !

وبعد أسبوعين طلبني المحقق وقال : لقد استدعينا " حسن السيد "

وسألناه فأقر بما ذكرته في التحقيق "

تعليق يقطع السياق

كل هذه الشهادات والبيانات التي أوردها للتدليل على براءة الإخوان من حادث محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية الهدف منها هو تحقيق واقعة تاريخية لم تأخذ حظها من العناية وطمسوا عليها الركام والرغام ليضيع الحق فيها , وليس لأن قتله خطأ كان لا ينبغي للإخوان الوقوع فيه , بل في رأيي أن الخطأ الذي وقع فيه الإخوان هو استبعاد فكرة اغتياله ومن معه استبعادا استراتيجيا لفتنة كان يظن أن تكون فعندما يلغي الحاكم – أى حاكم – القانون والدستور والعرف ومن قبل ذلك الدين ويبيح لنفسه كل الجرائم فلابد من إيقافه عند حده وهو قد أعطي الناس المبرر اللازم للتصرف معه بنفس الأسلوب والسكوت عنه ضعف ووهن وضرب من الغفلة وعدم فهم للتاريخ وحقائق الدين .

شهادة المرحوم حسن العشماوي عن الحادث

كان المرحوم حسن العشماوي المستشار أحد العناصر التي كانت همزة الصلة بين الضباط وبين الإخوان وهو أحد الذين شاركوا في صنع انقلاب 23 يوليو سنة 1952 من المدنيين .

وقد اتهمه البعض بالسذاجة والغفلة هو ومن معه حيث استطاع عبد الناصر أن يخدعهم وأن ينكل بهم والأمر في نظري أن المرحوم حسن العشماوي كان شابا حسن الأخلاق متمسكا بقواعد الدين لا يغش ولا يخدع ولا يناور ,وهنا يكمن الفرق بينه وبين عبد الناصر الذي كان على النقيض ولم يكن يؤمن بشئ إلا كتاب الأمير لمكيافيللي وكان حسن العشماوي عليه رحمة الله يعيش في بؤرة الأحداث قبل الثورة وبعدها وأثناء الخلاف والصراع إلى أن تمكن من الهرب من مصر بعد البطش الشديد الذي حدث للإخوان .

وكان يعيش مع قمة القيادة حتى وقوع الحادث , وهو الذي كان يقوم على تدبير الأماكن الآمنة للمرشد العام المرحوم حسن الهضيبي سواء في القاهرة أو الإسكندرية إلى أن تم القبض عليه وحدوث النكبة.

وفي مذكراته يقول :

استقالة حسن الهضيبي !

" وفي يوم من الأيام الأولي من أكتوبر 1954 سلمنا المرشد – كالمعتاد – توجيهاته مكتوبة لتوصيلها إلى القاهرة , وكانت خطابا مغلقا طلب تسليمه للمرحوم عبد القادر عودة شخصيا وعلى انفراد وحين سلم إليه الخطاب وفتحه أمامنا تبين أنه يحوى استقالة الأستاذ الهضيبي من الإرشاد العام والاكتفاء ببقائه عضوا في الهيئة .

وكان مع الاستقالة إلى مكتب الإرشاد في الوقت الذي يراه مناسبا رغبة من المرشد في إفساح المجال أمام الهيئة لاختيار من هو أقدر منه على حمل تبعات القيادة وحتى تتجه الهيئة إلى الاتجاه الذي تراه دون أن يكون لوجوده على رأسها تأثير في ذلك فهو يعلم يقينا نظرة الحكومة وأنها مصرة على العسف والإبادة , ولست أدري إلى متى احتفظ المرحوم عبد القادر عودة بهذه الاستقالة , ولكني أعلم أنه لم يقدمها لأنه لم ير الوقت مناسبا بعد .

ومن ذلك التاريخ لاحظت أن الأستاذ الهضيبي اعتبر نفسه في حكم المستقبل من الرئاسة فعلا وترك الأمر نهائيا لمكتب الإرشاد برئاسة نائبه الأستاذ عودة , وقد أكد لى أنه على عزم أن يحضر اجتماع الهيئة التأسيسية الجديدة يوم 29 أكتوبر ليقدم إليها حسابا عما مضي وليعلن إليها استقالته مصرا عليها مهما كانت الظروف وأنا أعرفه صلبا عنيدا فيما يراه حقا ,ولذلك كنت واثقا أنه سيفعل ذلك ولكن كان المفهوم أنه سيسير في المظاهرة السلمية التي ستخرج عقب اجتماع الهيئة التأسيسية لتنادي بحقوق الشعب "

بدء التنكيل قبل الحادث"

" بدأت السح تتكاثف في سماء العلاقات بين الحكومة والقوى الشعبية المعارضة منذرة بأوخم العواقب , وبدأت الحكومة – جادة – تنفذ خطوات ذلك التقرير السري الذي سبق أن أشرت إليه فراحت تفصل الموظفين والطلبة من الإخوان بالجملة وتزج بهم في السجون تحت ستار الاعتقال وتفتيش البيوت – أى بيوت – بغير حساب , متبعة في تفتيش إجراءات إرهابية لم نشهد لها مثيلا من قبل , وبدأت تثير الحملات الصحفية على الإخوان كهيئة وكأفراد , ثم بدأ داخل السجن تعذيب المقبوض عليهم بغير مبرر وردت هذه الإجراءات التعسفية إلى الأذهان فكرة اختطاف بعض ضباط المخابرات العسكرية والبوليس على أن يخف الضغط بعض الشئ .. ولكن الفكرة طرحت جانبا كما طرحت أى فكرة محددة غير فكرة المظاهرة السلمية يوم 29 أكتوبر "

القبض على صلاح شادي وكمال عبد الرازق

كان يعيش مع المرشد العام بجانب المرحوم حسن العشماوي ثلاثة من الإخوان الأول هو المرحوم صلاح شادي والأستاذ كمال عبد الرازق والأستاذ عبد الفتاح المحروقي الذي كان يقوم بالمراقبة والحراسة وكان يمثل دور الخادم الأبله بإتقان شديد لأنه يتعامل مع البقال والجزار وغيرهما , ولم يكن أحد يعرف أنه ضابط برتبة رائد ومطلوب القبض عليه هو الآخر , وكانت هناك شقة قريبة من مقر إقامة المرشد العام .

وتم القبض على الأستاذ كمال عبد الرازق بطريقة لم تعرف بعد , هل هي المصادفة المحضة , أم تعرف عليه أحد في الطريق , أم دلّ عليه واحد كان يعرف أين يقيم , والأستاذ كمال عبد الرازق من ضباط الشرطة الأتقياء الأنقياء الصابرين وهناك في مبني البوليس الحربي بالإسكندرية عذب عذابا شديدا , ولكنه لم يعترف بشئ ثم فوجئ أن المرحوم صلاح شادي مقبوض عليه هو الآخر , وكان هذا القبض ليلة حادث المنشية الشهير .

ويقول المرحوم حسن العشماوي

" كنا نتأهب بعد أيام للسفر إلى القاهرة لحضور الجمعية التأسيسية وتنفيذ فكرة المظاهرة الشعبية وبعد ظهر يوم 25 أكتوبر اعتقل اثنان منا يقيمان قريبا وهما على اتصال بنا ويعلمان مقر المرشد ثم لنا وأصبح علينا أن نتحرك ثانية لنؤخر اعتقال المرشد حتى يوم اجتماع الهيئة التأسيسية وسير المظاهرة الشعبية , عرضت عليه إما أن يسافر فورا إلى القاهرة إذ لا يزال ذلك البيت الصغير المعتم الذي أقام فيه أياما قبل سفره إلى الإسكندرية لا يزال هذا البيت معنا مفتاحه ولم ينكشف أمره , وإما البقاء لحين التأكد من أوضاع القاهرة ومراجعة المرحوم عبد القادر عودة الذي أصبح يرأس مكتب الإرشاد نيابة عنه المرحوم يوسف طلعت رئيس الجهاز السري .. فأثر البقاء على أن أسافر وحدي لبحث الأمور أولا ثم أرجع إليه أنا أو غيري .

وواضح تماما أن المرشد العام للإخوان المسلمين لا يعلم أن غدا سوف يكون النبأ العظيم الذي أنتم فيه مختلفون ولو كان يعلم لآثر مغادرة مكان الحادث إلى أى مكان , وكان هذا سهلا فواضح أيضا أن قدرات الإخوان التنظيمية كانت فائقة جدا في ذلك الحين , وواضح أيضا شجاعة الرجل الفائقة فهو على يقين أن احتمال القبض عليه وارد فقد تم القبض على اثنين ممن يعرفون مكان إقامته , صحيح أنهما ممن يوثق بهما لإيمانهما وصبرهما وتحملهما , ولكن التعذيب الوحشي الرهيب الذي استحدثه عبد الناصر يجعل كل شئ جائزا . ويمضي المرحوم حسن العشماوي فيقول :

" وسافرت مساء ذات اليوم بالقطار إلى القاهرة وودعت أهلي وداع من لا يدري متى سيلتقي بهم ثانية لا لأني كنت أشك في أى شئ ولكن لأن يوم 29 أكتوبر كان قد قرب , وكان المفروض أن نشترك جميعا في أحداثه .

سافرت تاركا المرشد وأهله وأهلي في ذلك البيت الذي لا يصلح للهرب منه بحال إذا دوهم , كما حاولنا تغييره ولكن المرشد كان يرفض لأنه لا ينوى الهرب إذا هوجم البيت , كما كان يرفض فكرة الدفاع عنه بالقوة , وكان يرفض كل عنف مهما كانت صورته , لذلك لم يكن في البيت سلاح على الإطلاق إلا ذلك المسدس الذي كنت أحمله أنا دون علم أحد.. والذي أخذته معي حين سافرت .

وصلت القاهرة وكان المرحوم عبد القادر عودة قد حددت إقامته في منزله وأحاط به البوليس يمنع الاتصال به .. وكان الكثير ممن يمكنني الاتصال بهم قد اعتقل وكان المرحوم يوسف طلعت رئيس الجهاز السري في دوامة من مشاعره ومشاغله لا يعرف لها قرارا , وكان كل من لم يعتقل في هدوء تام ينتظر يوم 29 أكتوبر وما ينتظرهم فيه .. وكان المفروض أن القوة المسلحة التي ستحمي المظاهرة المحدد لها مساء اليوم – بعد أربعة أيام – على أتم استعداد ".

لقاء المرحومين يوسف طلعت وعبد القادر عودة

" قابلت المرحوم يوسف طلعت ثم ذهب لزيارة الأستاذ عبد القادر عودة في منزله تحت سمع البوليس ونظره فدخل إليه في صورة بائع لبن بجلبابه الأبيض يحمل بعض " سلاطين الزبادي " فما شك فيه أحد وما اعترضه رجال البوليس , وانتظرته بعيدا عن البيت حتى خرج وسرنا معا إلى بيت كنا نتخذه مقرا للقائنا , اتفقنا مبدئيا على كيف ينتقل المرشد من الإسكندرية , وعلى أن يحضره صديق لى بعد غد , وأين يقيم في القاهرة انتظارا لاجتماع الهيئة وسير المظاهرة ولا بأس إذا اعتقل على باب المركز العام وإن كنا نشك في إمكان ذلك ؟

حادث المنشية وتغير الموازين

" انقضي يوم الثلاثاء 26 أكتوبر بطيئا كما يمر غيره من الأيام .. قضيته في المنزل لم أخرج وكنت أجلس وحدي في المساء أقرأ كتابا وكان في المنزل جهاز راديو لم أفكر في إدارته حتى دخل أحد زملائنا وأدار مفتاح الراديو ليسمع خطاب عبد الناصر في الإسكندرية وإذا بالراديو ينقل إلينا نبأ تلك الرصاصات الثماني الطائشة التي قبل إنها أطلقت على عبد الناصر وهو يلقي خطابه في ميدان المنشية "

وجلس كل واحد منهما ينظر إلى الآخر وكلاهما لا يصدق من شدة الذهول فهذا آخر ما كانا يتوقعانه . "وكانت مفاجأة .. المرشد في الإسكندرية .. ولا أحد يعلم كيف حدث هذا ..ولا كيف ستسير الأمور بعده !!

وجاء الصديق الذي كان سيسافر غدا ليحضر المرشد من الإسكندرية .. فتح الباب بمفتاحه الذي يحمله وكان قد سمع في بيته ما سمعت أنا منذ قليل , فجلس صامتا في مواجهتي , وكانت جملة مشاعر قاسية تجتاح نفوسنا ومشاعر من المفاجأة والحيرة والآسي بين التصديق والتكذيب بل والاشمئزاز ... وأخيرا عبر عنها ذلك الصديق بقوله :

وجاء الصديق الذي كان سيسافر غدا ليحضر المرشد من الإسكندرية .. فتح الباب بمفتاحه الذي يحمله وكان قد سمع في بيته ما سمعت أنا منذ قليل , فجلس صامتا في مواجهتي , وكانت جملة مشاعر قاسية تجتاح نفوسنا ومشاعر من المفاجأة والحيرة والآسي بين التصديق والتكذيب بل والاشمئزاز ... وأخيرا عبر عنها ذلك الصديق بقوله :

- إن أمورا شاذة – لا أدري مصدرها – تجرب وراء ظهورنا في ظلام فتورطنا وتدفعنا إلى أسوأ مصير وتفسد علينا كل خطط المقاومة الصحيحة .

- لعل الحادث مفتعل للتنكيل بنا ؟

- لا أدري وإن كان كذلك فإنه لن يتكشف إلا مؤخرا .
- الكل يدرك أن هذا الأسلوب الساذج المجنون ليس أسلوبنا .. ثم إننا متفقون جميعا على ألا نفكر في هذا العمل .
- لست أدري قد يكون الحادث مفتعلا .. وقد يكون في المسرح مجنون أو أكثر يتصرفون حسب هواهم .. وعلى كل فالأمر قد حدث وسنتحمل جميعا تبعاته غير معذورين من أحد ".

" وسكتنا طويلا كان كل منا يفكر فيما صارت إليه الأمور وفيما سنواجه به الوضع الجديد, وفيما يمكن أن يتم بشأن المرشد المقيم حاليا بالإسكندرية في منزل يمكن أن يعرف مكانه في أى لحظة "

التفكير في ضوء حادث المنشية المفاجئ

" وعدنا إلى الحديث في أمورنا العاجلة فاتفقنا على أن نعدل عن إحضار المرشد غدا وعلى أن يقوم الصديق بتنظيم التجائه إلى إحدى السفارات بعد غد , وأوصاني أن أبقي في المنزل لا أغادره ليلا ولا نهارا حتى ننتهي من وضع المرشد أولا ثم ننصرف إلى تحديد أوضاعنا ".

رأي الشهيد يوسف طلعت في الحادث

"وعدنا إلى الصمت ثانية حتى قطعه علينا جرس الباب معلنا في أسلوب رنينه مجئ المرحوم يوسف طلعت الذي جاء يسألنا الأخبار فقد سمع هو الآخر ما أذاعه الراديو ففوجئ به , وجاء يطلب مزيدا من إيضاح , ولم يكن لدينا ما نقوله , وطلبنا منه هو البيان فهو رئيس الجهاز السري المسئول عنه , ولكنه أكد لنا أن لا علم له بشئ وأنه لم يصدر أمرا ولم يأذن بالقتل الفردي , وكيف يعقل أن يقدم على شئ من ذلك وهو يعلم أن المرشد بالإسكندرية وأن اجتماع الهيئة التأسيسية بعد غد , وأنه ستعقبها مظاهرة سيقوم الجهاز السري برئاسته بحمايتها أثناء سيرها ..

هذه هي الخطة الوحيدة الموضوعة موضع التنفيذ , أما محاولة الاغتيال الفردي فهو واثق أن لا صلة للإخوان بها .

وخرج على أن يعود ظهر الغد بما يجد لديه من أخبار ".

" وجاءنا المرحوم يوسف طلعت مع الظهر والنار تشتعل في قلب القاهرة بالمركز العام للإخوان المسلمين . أشعلتها مظاهرة يقودها ثلاثة ضباط ويحميها البوليس .

جاء يوسف طلعت ليؤكد أن الأستاذ إبراهيم الطيب المحامي والمسئول عن الجهاز السري في القاهرة كلها لم يكلف الأستاذ هنداوي بالإقدام على اغتيال جمال عبد الناصر أو غيره ... أنه لا يفهم كيف يمكن أن يكون الحادث قد وقع على هذه الصورة وكانت مفاجأة له حين علم باعتراف محمود عبد اللطيف على هنداوي دوير , واشتدت به المفاجأة له حين علم باعتراف محمود عبد اللطيف على هنداوي دوير واشتدت به المفاجأة حين علم أن المرحوم هنداوي بدأ يتكلم .

" كان يوسف طلعت – رحمه الله – يؤمن بأن حادث المنشية حادث مفتعل لم يحدث على هذا النحو وإن قام بجانب من أدواره أشخاص في الجهاز السري .

وكان يستمد إيمانه هذا كما تصورت من أنه لم يكلف أحدا بالإقدام عليه وأن المرحوم إبراهيم الطيب الذي يليه في الرئاسة لم يأمر به أيضا "

" إني واثق أن يوسف طلعت غير مسئول عن الحادث بل كان إيمانه يصل إلى أن الحادث ملفق ..

إن المسافة بين مطلق النار وموقف عبد الناصر والميل الشديد في الاتجاه ووقوف المجني عليه وراء حاجز وذهاب محاول القتل وحده دون شريك يسنده بمسدس أو قنبله ثم عدم إصابة الهدف من شخص نعرفه جميعا ونعرف مهارته الفائقة ونعرف عدم إقدامه على إطلاق النار بغير تأكد من الإصابة كل ذلك يوحي بأن الحادث غير معقول .

كان يوسف يتساءل دائما عن تفسير لأن يرسل هنداوي دوير شخصا واحدا وهو يستطيع أن يرسل من عنده عشرة أشخاص .

وأن يرسل مسدسا واحدا بدلا من عدة مسدسات وعدة قنابل .

لقد ظل إيمان يوسف طلعت بأن الحادث ملفق يشغل ذهني منذ ذلك الحين إلى اليوم .

وقد سمعت بعد ذلك من موظف عاين مكان الحادث رسميا أن الحائط المواجه لإطلاق النار ليس به أى أثر للرصاص , وأنه يعتقد أن المسدس الذي سمعت طلقاته كان محشوا بالبارود فقط دون الرصاص . وأن عبد الناصر كان يعلم سلفا لحظة الإطلاق وأن قصة الرجل الذي قيل إنه عثر على المسدس وذهب به سيرا على الأقدام من الإسكندرية إلى القاهرة هي قصة من تأليف البوليس ..

سمعت كل هذا .. وسمعت أكثر منه .. ومع ذلك ظل الحادث كله في ذهني غامضا أتمني أن يجلوه المستقبل يوما "

وإني أعتذر للقارئ العزيز في الاستطراد في ذلك الاقتباس مما كتبه المرحوم حسن العشماوي , فهو أحد الذين عايشوا تلك الفترة المضطربة وكان من صناع أحداثها ولا أملك سوي التأثر الشديد من أسلوبه الرائع الأخاذ في وصف ما مر به من أحداث . وكيف شعر هو وزملاؤه بتلك الصدمة المروعة عندما سمعوا بحادث المنشية للمرة الأولي , وكيف زادت دهشتهم عندما علموا بأسماء من نسبت إليهم تلك الواقعة .

المرحوم هنداوي دوير والمرحوم محمود عبد اللطيف .

ورأينا كيف ذهل المرحوم يوسف طلعت من إرسال شخص واحد بمسدس واحد , وكان يمكن إرسال عشرة بل عشرين وثلاثين وأربعين ليس بالمسدسات فقط ولكن بالقنابل أيضا إن كانوا يفكرون في قتل الزعيم .

ملاحظات حول حادث المنشية !

لا شك أنه قد كتب الكثير حول هذا الحادث المشئوم وكلها استنتاجات وآراء الذين يعرفون طبيعة النظام الذي تكون , ونفسية عبد الناصر التي كانت تميل إلى الظلم والعدوان والتجاوز , وعلم هؤلاء بالارتباط العضوي بين المخابرات الأمريكية وطرقها ونظمها وبين طغمة من الضباط الجهلة الأشرار الذين يريدون الحكم والغلبة والظلم والاستبداد والذين قد بلغ بهم الغرور والسفه والغفلة مبلغا لم يصل إليه أحد في حكم حتى " شاويشية " أفريقيا الذين أقاموا الانقلابات وارتدوا ملابس الماريشالات .

وكانوا كما تعلمون قد جاءوا إلى الحكم بلا وجهة نظر بلا وعي وبصلف لا حدود له حتى إن اجتماع مجلس قيادة ثورتهم لم يكن له جدول أعمال كما قلت في موضع آخر فهم يبحثون كل شئ ويناقشون أى موضوع صغر أم كبر ويصدرون فيه قرارا .

ووصل بهم الحال إلى أنهم يجتمعون اجتماعا وصف بأنه هام وخطير لتسعير الطماطم , ويخرج صلاح سالمعلى الصحفيين ويتكلم دون خجل عن الجهود الجبارة التي بذلت والمناقشات الموسعة حتى وصلوا بها إلى تحديد سعر كيلو الطماطم , وأنه على وزير التموين مراعاة ذلك وأن البوليس الحربي سوف ينتشر في الأسواق لمراقبة هذه التسعيرة .

ومثل هؤلاء الناس من السهل السيطرة عليهم وتوجيههم من جانب قوى فاهم كالأمريكان فهم يعرفونهم كما يعرفون أبناءهم .

ولم يبق في خدمة هؤلاء الضباط الأوغاد من الوزراء غير ضعيفي النفوس والذين يشبهون السعاة وكان الضباط يطلقون عليهم – على الوزراء - أو المحضرين أو السعاة أو أية صفة من باب السخرية والإهانة .

والذي تمسك بكرامته وشرفه غادرهم وتركهم ولم يستطع العيش في مثل هذا الجو الموبوء الذي ينذر بشر عظيم .

كانوا يسخرون من الوزراء ويقولون لهم إن تسعير الطماطم والكوسة هي الخطوة الأولي نحو تحرير مصر من الإنجليز.

وكان هناك وزراء يرفضون هذا الضرب من التدخل الأحمق .

فقد أراد جمال عبد الناصر أن يرفع الحد الأقصى لعمر تعيين السفراء من سبعين إلى خمسة وسبعين حتى يعين عزيز المصري سفيرا فقد كان يخشاه رغم تجاوزه السبعين , ويخشي تأثيره على الضباط لإعجابهم الشديد به وعرض الأمر على وزير الخارجية وكان فراج طايع إن لم تخني الذاكرة .

وقال له الوزير هذا أمر سهل وأخرج ورقة وكتب عليها كلاما وقدمه لجمال عبد الناصر فإذا بالورقة استقالته .

واعتذر له جمال عبد الناصر وقبل رأسه ولكن الرجل أصر على الاستقالة ويحكي محمد نجيب :

" كان الدكتور عبد الجليل العمري مريضا , وأراد جمال سالم أن يتدخل في شئون بورصة القطن بحجة غياب الوزير .. فرفضت .. لكنه أصر وتحت ضغط زملائه اتصلت بالدكتور العمري لإبلاغه الخبر في ثنايا مكالمة تليفونية كانت أصلا للاستفسار عن صحته .

سألته :

- ما رأيك في اتخاذ قرار بشأن أسعار البورصة ؟ .. وما رأيك في .. وقبل أن أكمل كلامي رد الرجل في حزم :
- إني أقدم استقالتي فورا .
- فوضعت السماعة على أذن جمال سالم ليسمع بنفسه .. وبعدها تقرر إرجاء الموضوع حتى يشفي الوزير من وعكته الصحية .

ولم يتوقف الانحراف عند ضباط القيادة . وإنما امتد لباقي الضباط من مساعديهم ..

ولم يتوقف تدخل الضباط في الحياة المدنية عند مستوي القمة وإنما امتد إلى المستويات الأخرى .

فقد سرق بعض الضباط معونة الشتاء .

وسرقوا هدايا وبضائع قطارات الرحمة وباعوها علنا .

وسرقوا فلوس التبرعات الخاصة بالشئون الاجتماعية وسرقوا تحفا ومجوهرات وبعض أثاث القصور الملكية .

عصابة من اللصوص لا شرف لها ولا ضمير فهي لا تتورع عن أى شئ من أجل السلطان والمال الحرام .

فهل هؤلاء يتورعون عن الاستجابة لمخطط أمريكي يؤدي إلى تأكيد سلطانهم والقضاء على حركة إسلامية ضخمة مثل الإخوان ؟ من يعرفونهم يقولون لا .. إنهم طغمة لا تتورع عن فعل شئ .

لا يوجد الدليل القاطع على أن الحادث قد دبره جمال عبد الناصر , ورغم كل القرائن والانطباعات التي تشير إلى هذا وتؤكده , وقد يظهر هذا الدليل في مستقبل الأيام وإنه من الصعب أن يأتي أحد الذين اشتركوا في تدبيره ويعترف بهذا , بل هو من المستحيل فهو يحمل نفسه جرم المئات الذين استشهدوا والآلاف الذين سجنوا وشردوا , وإن كانت الدولة هي التي تصنع الجريمة فهي لا تكتشف إلا بعد زوال عهدها ,وهو يوشك أن يكون , ومن ثم تفتح الملفات وتظهر الحقائق ناصعة ويحاكم من بقي من الظلمة على قيد الحياة ويحاسبون حساب الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأنكي .

فعندما قتلت الحكومة حسن البنا لم يستطع أحد أن يقيم الدليل وقيد الحادث ضد مجهول , فالدولة هي صانعة الجريمة وهي تستطيع أن تحمي نفسها , ومن ثم لم تكتشف تفاصيل الحادث إلا بعد زوال العهد وإعادة التحقيق في مقتل المرحوم حسن البنا واستطاع التحقيق أن يضع يده على الجناة والأداة وكل ما تم من تفاصيل حول هذه الجريمة النكراء .

وهذا هو نفس الحال في حادث محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية وحتى يأتي دليل ننتظره قطعي الدلالة على ارتكاب جمال عبد الناصر ومن معه لهذه الجريمة فهناك بعض القرائن والملاحظات على ضوء ما تقدم من محاكمات سبقتها تحقيقات وملابسات :

1- خلال شهر أكتوبر وقبل الحادث تم القبض على كثير من قادة الجهاز السري .
2- كانت سياسة استقطاب بعض عناصر الإخوان قبل الحادث أن شيئا عظيما يوشك الحدوث وأن عليهم إنقاذ أنفسهم مما هو قادم .
3- قبل الحادث بشهر تقريبا قدم صلاح الدسوقي جواز سفر عليه تأشيرة إلى الولايات المتحدة لأحد ضباط الشرطة من الإخوان وكانت تربطهما صداقة , وقال له عليك السفر في الغد , وبعد شهر على الأكثر سوف تدرك قيمة هذه الهدية العظيمة التي قدمتها لك .
4- بعد الحادث تم القبض على أربعة أشخاص وظهر هذا في صحف 27 أكتوبر .
5- في اليوم التالي اختفي الثلاثة الآخرون إلى الأبد , وكان قد قبض عليهم مع محمود عبد اللطيف ولم يظهروا في التحقيق إطلاقا .
6- أسر لى واحد ممن حضروا هذا الحادث وطلب عدم ذكر اسمه , وهو محام كبير الآن , أنه كان يجلس في الصف الثالث أمام محمود عبد اللطيف الذي كان يجلس خلفه مباشرة , وكان أيامها يعمل في مديرية التحرير , وأن الذين كانوا في هذا السرادق أغلبهم من العاملين في هذه المديرية , وأن الدخول إلى السرادق الذي بدأ دخوله من الساعة الخامسة كان يصعب على غير المعروفين الدخول إليه , يقول هذا المحامي إنه سمع صوت الطلقات غير معلومة المصدر .
وهو يجزم لى أن الذي أطلق الرصاص ليس محمود عبد اللطيف , لأنه كان يجلس خلفه مباشرة , ولو كان هو الذي أطلق الرصاص لسمع بالدوي في أذنه واضحا , ومع ملاحظة أن الجالسين لم يكونوا في صفوف منتظمة من الزحام بل كانوا في حالة تلاصق والصفوف لا تفصل فواصل بينها وبعد لحظة ذهول التفت خلفه – المحامي راوي القصة – فوجد مجموعة تضرب محمود عبد اللطيف ضربا مبرحا , واستفسر من جار له فأخبره أنهم يقولون هذا هو الضارب الذي أطلق الرصاص , فقال له المحامي : مش ممكن .. الصوت لم يأت من خلفي .
وفي اليوم التالي أخبر مجدي حسنين بهذه القصة فقال له : مالناش دعوة بالموضوع ده , والمخابرات أدري بما تفعل .
فأكد له أن محمود عبد اللطيف ليس الضارب , فزجره ونهاه وطلب منه عدم الكلام في هذه المعلومات مع مخلوق , وحرص هذا المحامي أن يحصل على تصريح لحضور المحاكمات ليشاهد محمود عبد اللطيف عن كثب .
وقال لى إنه كان في غاية العجب وهو يستمع إليه ويراه يعترف في هدوء أنه الذي أطلق الرصاص على عبد الناصر .
وعندما لاحظ عدم أخذ أى اعتبار للإجراءات وصحتها تأكد ليده أنه حادث مصنوع ملفق . ولم يستطع أن ينسي هذا الحادث أبدا.
وعندما سألته عن سبب خوفه من ذكر اسمه , قال لي إن الذين صنعوا هذا الحادث لا يزال معظمهم على قيد الحياة ويشغلون مناصب كبيرة وسألته هل يعرفهم , وبعد تردد طويل قال لى أعرف بعضهم ولكني لن أبوح لك باسم واحد منهم ولندع حسابهم على الله فهو لن ينساهم.
7- عومل هنداوي دوير معاملة خاصة جدا في السجن وأثناء المحاكمة , وسمح له أن يشرب عشرة أكواب من الماء أثناء تحقيق النيابة .
8- لم يثبت من التحقيق الذي جرى تحت التعذيب الشديد أن أحدا قد أمر هنداوي بتدبير الحادث .
9- اعترف إبراهيم الطيب بكل ما طلبوه منه إلا المسدس الذي ادعي هنداوي أنه قد تسلمه منه , وكان إبراهيم الطيب قد عذب عذابا شديدا لم يعذبه أحد من قبل حتى أنهم قالوا إنه حمل مقتولا إلى منصة الإعدام , ولكن الصورة التي التقطت له بين كيف واجه الموت في ثبات .
10- لم يتناول جمال سالم واقعة إطلاق الرصاص في التحقيق على الإطلاق بل كان يحاكم الإخوان ومبادئهم ويسب قادتهم ويندد بهم ويسخر منهم ولم يتصرف معهم ليس كقاض فحسب بل رجل تخلي عن كل قيم الشهامة والمروءة .
11- المسدس الفارغ الذي أعلن عنه يوم الحادث من نوع البرتابة مشط لا يسمح بتساقط الأعيرة الفارغة منه بعد إطلاق النار , وقيل إنه تم ضبطه مع المتهم , وأعلن أيضا أن هناك أعيرة نارية من عياء 6,35 قد وجدت فارغة مكان الحادث :
12- اختفى المسدس الذي ضبط مع محمود عبد اللطيف وظهر مسدس آخر يوم 2 نوفمبر بعد إعلان تشكيل المحكمة جاء به من يدعي خديو آدم وقال إنه قد جاء على قدميه سيرا إلى القاهرة بعد أن عثر على المسدس مكان الحادث والسبب كما قال أنه ليس معه أجرة القطار فسار على قدميه , وقدم له الزعيم مائتي جنيه هدية وجاء بالمصورين والمطبلين .
13- قال حسن التهامي إنهم قد جاءوا له بصديري واق من الرصاص وأسرعوا بإرساله إليه صبيحة الحادث وضحك الزعيم وقال ( ما خلاص الموضوع انتهي ) .
14- تم القبض على جميع من قدروا عليهم من الإخوان في مصر الساعة الثامنة والنصف مساء الحادث بعد الإعلان عنه بنصف ساعة .وواضح أنها خطة مسبقة ومحكمة ومرسومة في انتظار ساعة السفر .
15- سلم هنداوي دوير نفسه صبيحة الحادث والمفروض أنه أمر باغتيال الزعيم , ويصعب تفسير هذا إذا علمنا أنه شديد التحمس والاندفاع وكان يعلن في كل مكان أنه لابد من قتل عبد الناصر .
16- لماذا تم عزل هنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف تماما عن بقية المعتقلين في السجن الحربي بحيث لا يوجد شاهد واحد أدعي أنه قد رآهما أو تحدث إليهما أثناء التحقيق ونظر القضية ؟
هذه الملحوظة قد كتبتها من قبل , ولكن بعد صدور الطبعة الأولي زارني أخ كريم وكان متهما هو الآخر في القضية نفسها وأخبرني أن ملاحظتي في محلها إذا استثنينا بضع جمل في حديث ناقص مبتور قد دارت مع هنداوي , وأخبرني أنه قد تبادل مثلها معه والذي يعرف نظام السجن الحربي يفهم أن تبادل حديث بشكل كامل صعب جدا ,وقال هذا الأخ الكريم إن الجمل القليلة التي تبادلها مع هنداوي تفيد أنه ضحية وأنه برئ من كل ما قاله وما يقولونه ولكنه لا يستطيع شيئا فالأمر أكبر منهم جميعا ثم فرقت بينهم السياط .
وقد قال الأخ سعد حجاجإنه عندما سأل محمود عبد اللطيف في لمحة عابرة من لقاء أفاد هو الآخر بأنه ضحية ولا دخل له بكل ما يدور في هذه التحقيقات والمحاكمات .
17- غياب المعلومات عند الإخوان عن أعدائهم حكومة الثورة .
18- توافر معلومات كاملة عند حكومة الثورة عن الإخوان .
19- إشاعة أن المرشد معرض للاغتيال حتى يختفي فتزيد الفرقة بين فصائل الجماعة المختلفة أصلا .
20- كل الأحاديث عن الحزام الناسف والاغتيالات وغيرها ثبت أمام المحكمة – غير الطبيعية التي يقوم على رئاستها مجنون – أنها مجرد أحاديث وأفكار محل دردشة وليس لها صلة أو علاقة بصانعي القرار من قيادة الإخوان ولكنها ألبست ثوبا قانونيا وصارت تهما .
21- لم يعترف واحد فقط من قيادة الإخوان ولم يثبت أن له أية علاقة بالحادث رغم التعذيب الذي نعرفه .
22- انحصر الحادث في شخصين .. هنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف .
23- بذل المستحيل من أجل سحب يوسف طلعت ومحمد فرغلي وعبد القادر عودة وفضيلة المرشد إلى التلميح أو الإيماءة لإيجاد صلة لهم بالحادث ولكن هذا فشل فشلا ذريعا .
24- صعوبة وصول محمود عبد اللطيف إلى الصفوف الأولي في ميدان حيث تملتئ جميع الصفوف بالمرتزقة والأفاكين وهذا تقليد يسير حتى الآن .
25- لماذا لم يتقدم إلى الشهادة الذين قاموا بالقبض على محمود عبد اللطيف ليلة الحادث ؟
26- لماذا لم يتقدم إلى الشهادة أحد شهود الزور ويقول أنا رأيت المتهم وهو يطلق الرصاص على الزعيم ؟
27- لماذا لم يظهر ذلك الذي صرخ بأعلى صوته وظهر صوته في التسجيل " واحد تاني هو اللي ضرب "
28- لماذا ظهرت بقعة حمراء على صدر عبد الناصر الزعيم عقب الحادث وقيل إن سببها قلم حبر أحمر ؟
29- إن كانت المحاكمات بسبب محاولة اغتيال الزعيم فلماذا لم ينحصر الموضوع في هذه النقطة فقط ؟
30- أين شهود الإثبات في هذه القضية ؟
31- ما هي الصلة التي كانت بين محمود عبد اللطيف وهنداوي دوير من قبل قيام الثورة , وهل صحيح أن صلاح شادي قد قدم أحدهما أو كليهما للزعيم الخالد قبل الثورة لعمل بعض عمليات فدائية في القنال ؟ وقد ثبت أنه قد التقي – محمود عبد اللطيفبجمال عبد الناصر بعد الثورة لعمل عملية فدائية لا تتسم بالأخلاق ضد الإنجليزواعترضت على شكلها قيادة الإخوان .
32- لماذا لم يستخدم الإخوان أدواتهم المعروفة في الاغتيال , والتي أثبتت فاعليتها في حوادث سابقة مماثلة .
33- كان هنداوي من المعينين من قبل الإخوان لحراسة المرشد العام عند بيته في منيل الروضة قبل اختفائه فهل كان ذلك بعيدا عن أعين المباحث والمخابرات , وقد قيل إن الضابط محمد الجزار بالقلم المخصوص , البوليس السياسي كان يدور وراء هنداوي في كل مكان علما بأنه كان مسرحا من الخدمة ولكنه يريد أن يؤدي دورا لدي سادة المجتمع الجديد , وقد شهد شاهد أنه رآه – محمد الجزار – وهو يستمع إلى هنداوي يخطب معرضا بعبد الناصر والنظام وقد نبه هذا الشاهد الكبير على هذه الواقعة للمسئولين من الإخوان .
34- لماذا تم الإعدام في خلال أيام قليلة من انتهاء النظر في القضية ؟
35- ما هو دور المخابرات المصرية التي قام الأمريكان على تشكيلها في ذلك العهد وما هو تقريرها عن ذلك الحادث قبل اختفاء هذا التقرير ؟
36- لماذا تم سحب كتاب محاضر محكمة الشعب من الأسواق بعد توزيعه على نطاق كبير ؟
37- أين المحاضر الأصلية التي قامت بها جهات التحقيق هل هي موجودة ؟ أم اختفت كمحاضر محكمة الثورة التي حاكمت قضية انحراف المخابرات 1968 ؟
38- ما هي علاقة محمود عبد اللطيف بالنظام الخاص وبقسم الوحدات وإلى أين ينتمي ؟ أم تنقل بينهما ؟
39- هل كان حادث محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية فاصلا بين عهدين بمعني أنه قد دانت له مصر ولم تعد هناك أية قوة أمامه بعد التخلص من الإخوان المسلمين ومحمد نجيب في آن واحد ؟
40- ما هو رأي حسن التهامي وزكريا محيي الدين ومجدي حسنين وإبراهيم الطحاوي حول الحادث ؟
41- هل احتفظت الدولة بالأحراز الخاصة بالجريمة علما بأنها محاولة اغتيال أعظم زعيم ظهر في البلاد العربية ؟ أم اختفت هذه الأحرار مثل جواهر أسرة محمد علي؟
42- ما هي الأجزاء المطموسة في الوثائق الأمريكية في الجزء الخاص عن الحادث والتي ظهرت بعد ثلاثين عاما وقد حذفت منها صفحات كاملة بحجة حماية المعلومات والعملاء ؟
43- هل يعرف الحاج حسين الشافعي شيئا عن هذا الموضوع ؟ وما رأيه ؟
44- الأستاذ سامي شرف !! ما قوله في هذا الحادث ؟
45- أين كان حسن طلعت وحسن أبو باشا وأحمد صالح داود ومحمد الجزار ليلة الحادث وقبله بيوم ؟ وما هو رأيهم ؟
46- لماذا قام علوي حافظ بحرق المركز العام في الوقت نفسه الذي أطلق فيه الرصاص على الزعيم الخالد ؟ ومن أين جمع الغوغاء حيث أعلن عن الحادث في الثامنة مساء وبدأ الحريق في الثامنة والنصف واستمر طوال نهار اليوم التالي ؟
47- هل من المعقول أن تخلو التحقيقات التي تمت أمام المحكمة من أى أسئلة عن الحادث نفسه ؟
48- يقول صلاح الشاهد : إنه كان في القاهرة عندما سمع بالحادث وأسرع إلى بيت الزعيم الخالد فوجد الأسرة في حالة اطمئنان شديد كأنها على علم بما يدور .
49- هل يمكن للسيدة الجليلة حرم الزعيم أن تفضي بمعلومات عن هذا الموضع علما بأن الآخرة وشيكة والحساب قريب ؟
50- هل يضمن المجرمون الذين اشتغلوا في ترتيب هذا الحادث أنه لا يأتي اليوم الذي يحاسبون فيه قبل الآخرة؟

محاولة النظر إلى الحادث

هناك رأي يقول إن الحادث هناك رأي يقول إن الحادث هو تصرف فردي من هنداوي دوير وقام به وحده وتحمل مسئوليته دون الرجوع إلى أحد من المسئولين في جماعة الإخوان المسلمين .

واستبعد هذا الفرض لعدم معقوليته فلو كان الأمر كذلك لجري التحقيق على نحو يختلف ولكان للمحاكمات شكل آخر غير ذلك الذي كان .

ولعل هذه الواقعة تمت بالتنسيق بين هنداوي وأجهزة المخابرات المصرية في ذلك الوقت ربما بدافع حماية الإخوان وإنهاء هذه الفتنة .

وهناك اجتهاد أنه تواطؤ تم بضغط غير عادي لا نعرف أبعاده وظروفه مع وعد بالتخفيف والتمكين من الهرب حيث الأمان والأمن في البرازيل .

والذي يمكن أن نبرئه من هذا التواطؤ هو المرحوم محمود عبد اللطيف ,وهذه كلها مجرد استنتاجات وملاحظات وليس بين أيدينا ثبت لما دار بينهما من أحاديث أو اتفاق قبل الحادث .

ومن الصعب الجزم بطبيعة ما دار على وجه التحديد فلعل المقادير قد ألقت بهنداوي دوير في يد المخابرات ثم رسم السيناريو بعد ذلك في عناية وإحكام .

ومن المؤكد أنها حادثة ضخمة لم تأخذ أقل حظ من العناية في التحقيق واستكمال شكل المحاكمة مما يؤكد ويرجح تدبيرها وإعدادها .

والذي لا شك فيه أنه سوف يفتح باب التحقيق في هذا الحادث بعد زوال النظام وذلك وشيك بإذن الله فقد شاخ وأصابه العفن , وكل أهل العلم والرأي يقولون إن باب التحقيق حول هذا الموضوع سوف يفتح باستفاضة شأنه شأن أى جريمة ارتكبتها دولة ما ثم بادت ,وجاءت دولة من بعدها , وفتحت الملفات وأظهرت ما كان مخفيا ومحيرا .

وظني أن الذي سيقوم بهذا هو جهاز الأمن الموجود عند زوال هذا النظام ولا شك أن عنده من المعلومات ما يفيد وما يؤكد طبيعة ما حدث .

نعود فنذكر القارئ العزيز أن الشخص الوحيد الذي مثل أمام محكمة الشعب وعومل معاملة جيدة غريبة هو هنداوي دوير وتلاه في حسن المعاملة محمود عبد اللطيف بعد الاعتداء الوحشي عليه ليلة الحادث .. ولم ينج أحد من هزء جمال سالم وسخريته وإهانته حتى المرشد العام نفسه – على مكانته العظيمة في نفوس المسلمين – لم يسلم من ذلك , وسمعت أنه قد ذهب إليه وزاره في بيته حيث كانت إقامته محددة وطلب منه الصفح والمغفرة وبكي بين يديه وكان ذلك قبل أن يموت .

والآن يقف الظالم والمظلوم بين يدي العادل والمنتقم .

وانتهت الاهانات وذهب أثر التعذيب وانقضي كل شئ والزمن يسير يسرعته المنتظمة حيث تتلاشي الذكريات البغيضة ويبقي بعد ذهاب مرارتها حلاوة الإيمان والصبر , وتلوح بوارق الأمل في النصر والتمكن بعد المحن الشاقة الصعبة التي مر بها المؤمنون الصابرون (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفي بربك هاديا ونصيرا ) صدق الله العظيم . الفرقان : 31 .

الفصل الثاني عشروكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض يصلحون "( حول ثورة 23 يوليو )

كان عدد أعضاء مجلس قيادة الثورة تسعة ضباط في مبدأ الأمر

تمهيد

لا شك أن تطور الحكم من أيام محمد على حتى أيام ما قبل الثورة كان يغري الناس بالتغيير إلى الأحسن .

وقد فتح التطور شهية الجماهير إلى مزيد من الحرية ولم يكونوا يعلمون أنهم وصلوا لدرجة لن تسنح لهم بعد ذلك , قبل قرن من قيام الثورة .

فقد نقلت وأيقظت مدافع نابليون الشرق الإسلامي من غيبوبة النوم إلى شمس الواقع في زمن كانت فيه الخلافة العثمانية قد أخذت شمسها تنحدر إلى المغيب ..

وكان الغرب الذي يجهز على ما تبقي من روح الإسلام الخابية في الآستانة يغذي الروح القومية في العرب الجهلاء , الذين سرعان ما قاموا يقلدون الأوروبيين في نشاطهم القومي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأنشئوا الجمعيات السرية والغرض منها التخلص من الخلافة والقضاء عليها بأمل ظهور الدولة القومية المستقلة عن سيادة الإسلام .

وكان يمكن أن تتجه همتهم إلى إصلاح الخلافة والبقاء على الترابط الإسلامي مع روح جديدة ورأس جديد يحكم هذا العالم , وذلك ما كانت أوروبا تحول بين المسلمين وبين تحقيقه بإفساد عقولهم عبر التلاميذ والتقليد الأعمى والقفز مثل القردة فوق الأشجار ,والتلويح لهم بالإبهار المادي والتقدم المدني الذي يمكن أن يكونوا عليه لو تخلصوا من بقايا الإسلام .

وكانت الروح الإسلامية لم تمت في نفوس طلائع من المسلمين العرب , وكانت أشد ما تكون في مصر , رغم كثرة التلاميذ والمدربين الذين تعلموا في أوروبا وجاءوا يبشرون بدين جديد هو الديمقراطية .

ورغم اختلاف الديمقراطية عن منهج الإسلام فإنها كانت مركبا مناسبا يمكن أن يصل بالطلائع الإسلامية إلى تطبيق الإسلام , وتعويض الخسارة التي نجمت عن سقوط الخلافة العثمانية .

وزادت حدة الشعور الديني في مصر بعد سقوط الخلافة ووصلت أوجها في السنوات التي سبقت قيام ثورة 23 يوليو .

وصار تحقيق الحلم الإسلامي على مرمي قوس .

وكان هذا كله تحت عين وبصر الغرب الذي يرصد كل شئ ,

الصراع بين العلمانية والإسلام

كان الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882 نقطة انطلاق للعلمانية الحديث في مواجهة الإسلام الذي صار يفرض وجوده على المجتمع .

فقط استطاع الإنجليزأن يدعموا هذا الاتجاه دعما حقيقيا ,يتمثل في دفع أصحابه من الذين تعلموا في مدارسهم إلى الصدارة في المجتمع,ووضعهم في المناصب والوظائف العليا .

وصاروا يطوقون المشايخ والعلماء فيبعدونهم عن أماكن التأثير والتأثر ,ويضفون عليهم شكلا يعزلهم عن المجتمع فيصعب عليهم قيادة الناس , الأمر الذي يصعب وجود قيادة دينية تقود الجماهير إلى تحقيق غايات إسلامية لا تزال راسخة في الضمائر والنفوس .

وكان الاحتلال بقوته بمثابة تكريس للجهود التي بذلت من قبل .

جهود بذلها محمد على باشا عندما رأي أن لا أمل له في ارتقاء كرسي الخلافة فشجع على البعثات والتعلم في فرنسا وأوروبا ,موافقا على أقوال الخبراء الأجانب من ضرورة فصل الدين عن الدول , وبذا يتحقق الأمل أمام نظره في الاستقلال عن الدولة العلية , فالتراث الإسلامي الذي تكون منذ قرون لا يسمح له في الوقت بتحقيق استقلال يكون له الصبغة الدينية في عالم لا تزال الخلافة العثمانية تحكمه , برمزها الذي تمثله أما الاستقلال عن طريق فصل الدين عن الدولة فإمكانيته موجودة رغم صعوبته .

وسار محمد على شوطا طويلا في هذا الطريق .

وبعد فترة جاء إسماعيل .

وكان مشروع الاستقلال عن الدولة العلية قد أخذ شوطا طويلا وقد تكونت الكوادر العلمانية التي تدافع عنه من خلال وجهة نظرها التي تكونت عبر حملة " التغريب " التي أخذت سنين عديدة , وهي في الوقت نفسه تدافع عن مصالحها التي تكونت في هذه الحقبة من الزمن .

ثم جاء جمال الدين الأفغاني على قدر .

ونادي بفكرة الجامعة الإسلامية وألقي بشعاراته التي نسيها المسلمون وأكد أهمية الاحتفاظ بالهوية الإسلامية وعدم طمسها ودعا إلى عودة المسلمين إلى ذواتهم ولقيت دعوته نجاحا واسعا وتبعه تلاميذ كثيرون .

اليهود يقتلون جمال الدين الأفغاني

ثم جاء الاحتلال بعد أن تم طرد جمال الدين الأفغاني من مصر , وأخذت المقادير تلقي به من بلد إلى بلد مدافعا ومناديا بفكرة الجامعة الإسلامية حتى استقر به المقام في الآستانة , حيث استبقاه السلطان إلى أن مات في ظروف غامضة , ولا نبرئ اليهود من الجراحة التي أجريت في فكه واستؤصلت أثناءها قطعة من لسانه فهم يمهدون لوطن قومي في فلسطين ,وهو العقبة الكئود وهو الذي يشجع السلطان على عدم السماح بهذا .

وشجعت بريطانيا العظمي البعثات إلى انجلترا لخلق جيل جديد يتربي على الثقافة الإنجليزية لطمس معالم الثقافة الفرنسية التي أخذت وضعها ومكانها أيام الخديو إسماعيل .

ومع ذلك فقد تعاونت الثقافتان على خلق جيل جديد قد انقطعت جذوره عن الإسلام إلى حد بعد هذا إذا علمنا أن المسيطر في الجانبين هم اليهود ,وأن لديهم مخططا يستهدف طمس الهوية الإسلامية في منطقة قد استقر رأيهم على تكوين وطن قومي فيها .

تشويه الرموز الإسلامية

وكان لابد من تشويه الرموز الإسلامية والتشكيك في آفاقها وأهدافها , مثل اتهام جمال الدين الأفغاني بالماسونية وذلك لتفريغ كل ما يدعو إليه من محتواه وإشاعة أنه يتعاطي الخمر وله بعض الصلات النسائية المشبوهة على عكس ما شهد به كل من رافقه وزامله وعايشه وتتلمذ عليه وبغض النظر عن نشاطه العظيم الذي شمل أقطار العالم من أجل إيجاد موضع لقدم لدولة إسلامية جديدة تخلف الدولة العلية العثمانية التي آنت شمسها بالمغيب .

مصر هدف رئيسي

وكانت مصر هي الهدف الرئيسي في هذه المخططات العلمانية الصهيونية المتناقضة مع الإسلام وأهدافه , فمن خلالها تسهل السيطرة على عالم العرب والإسلام .

وكان الطرح العلماني فيها هو الوقاية من الإسلام , في الوقت الذي يمهدون فيه لجمعية الاتحاد والترقي لتأخذ مكانتها على منبر الإسلام في تركيا .

وقد واطب هذا سيل من المهاجرين الشوام من المسيحيين واليهود , ومعهم عادات وتقاليد جديدة ,وآفاق غربية يطرحونها على مجتمع الذوات الذي بدأ ظهوره في أواخر عهد إسماعيل وتكرس وصارت له بنية أساسية مع تأكد الاحتلال البريطاني .

سفور المرأة

وبدءوا يشجعون المرأة على الخروج من بيتها وظهرت مهنة " الحياكة" وتفصيل الملابس وكان القائمون عليها يعملون ضمن مخطط مرسوم

فعند " الخياطة" الشامية بدأت عملية إفساد المرأة المصرية التي ترتب على الإسلام وظهرت فكرة السفور وترك الحجاب .

ثم جاء قاسم أمين بكتابية تحرير المرأة , والمرأة الجديدة وطبلوا وزمروا له , وللإعلام وقع السحر في النفوس ,وصارت أفكار ه مثلا يحتذي , ومن خلال تعرية المرأة تحت شعار تحريرها يمكن فصل الدين عن الدولة في بلد كمصر إلى الأبد .

ومن ثم تنجو المصالح الغربية واليهودية وتتكرس تبعية الشرق للغرب إلى قرون لا يعلم مداها إلا الله . فقدان الهوية الإسلامية.

وتكون جيل من تلاميذ الغرب قد أخذوا – أو أعطوهم – مكان الصدارة في مجتمع قد فقد هويته وغرق في بحر الحيرة , وبخاصة عندما سقطت الخلافة العثمانية وقد فقد علماء الأزهر حظوتهم ومكانتهم في نفوس الجماهير وصار تبجيلهم أو إظهار احترامهم ما هو إلا كنوع من الاحتفاظ بتقليد قديم في سبيله إلى التبدد أو الانتهاء مع الزمن القريب .

واستطاعوا – الغرب يقوده اليهود – أن يخلقوا في مصر طبقة وضعوها في أعلي مكان قد شوهت تشويها بشعا , فهي لا تدين بالإسلام كنظام حياة , وتدعو إلى الإصلاح من خلال أفكار ومبادئ مناهضة تماما للدين بل وتعلن في بعض الأحيان أن الدين الإسلامي هو سبب تخلف هذه البلاد , وأن الطريقة الوحيدة للنهوض هي طرحه جانبا والسير في الطريق الذي سارت فيه أوروبا أيام عصر النهضة , عندما فصلت الكنيسة عن الدولة , وبغض النظر عن اختلاف طبيعة الكنيسة ومبادئ الدين الإسلامي .

الإسلام هو سبب تخلفكم !!

وكأنما أرادوا أن يقولوا للمصريين ومن خلفهم المسلمون إن تخلفكم يساوي أربعمائة عام حيث بدأ عصر النهضة في أوروبا وأرادوا أن يقولوا أيضا إن الخلافة العثمانية الإسلامية هي التي آلت بكم إلى الحال التي أنتم عليها الآن , ومن ثم فلابد من قطع الطريق من أوله وبيننا وبينكم أربعمائة عام من التقدم نكون نحن أوصياء عليكم فيها وحسب اجتهادكم معنا قد ننجح وقد لا ننجح والأمر يتوقف عليكم وعلى قدراتكم على التقاط التمرينات وسرعة التدرب على لفظ الدين من نفوسكم وحياتكم .

ولم يتمكن هذا المد العلماني الذي صنعه الغرب في العاصمة القاهرة أن يصل إلى الريف المصري, لحصانته الطبيعية ضد الكفر بصوره المختلفة وأسمائه المتعددة , وكان الريف المصري هو الحماية الحقيقية للمجتمع المصري من ضياع كل معالم الإسلام فيه , وظل يفرخ ويصدر رواد حركة التمسك بتعاليم الإسلام , ومع الأخذ بأسباب النهضة الحديثة من علوم وفنون أصلها إسلامي النشأة , وفي الربع الثاني من القرن العشرين اشتد الصراع بين المسلمين والعلمانيين وتطور هذا الصراع بظهور حركة الإخوان المسلمين فاستقطبت إليها كل العناصر الرافضة للكفر والعلمانية والتبعية للغرب واليهود.

التيار الديني يأخذ مكانه في مصر

وظهر نجاح التيار الديني عندما أجبر قادة الفكر في مصر – الذين تربوا على المدرسة الغربية صاحبة النزعة في تكوين جيل جديد يتهيأ لعالم مختلف يصنعونه في البلاد التي تهاوت مع سقوط الخلافة – على أن يتحولوا في كتاباتهم إلى الإسلام وكانت ظاهرة تستحق التأمل والنظر والتفكير .

فقد عزفت معزوفة جديد هي الإسلام .

واستمع الناس إليها في شغف شديد فهي تتناسب مع ما في وجدانهم من أصالة الدين وعمق التراث المتوارث عبر أجيال طويلة .

وكتب محمد حسين هيكل " حياة محمد " كصدي لاتجاه القراء .

واضطر كاتب كبير مثل عباس العقاد أن يكتب عبقرياته الإسلامية عندما وجد قراءة وجمهوره ينفضون عنه .

وكذلك فعل طه حسين وغيره حتى توفيق الحكيم استجاب لهذا المد الذي لا يمكنه تجاهله فكتب مسرحية محمد " صلي الله عليه وسلم".

الغرب وراء حركة التحرر الوطني

وبدأت حركة التحرر الوطني التي كان الإنجليز يشجعونها لتكريس انفصال أصحابها عن الإسلام مع غرس مفاهيم جديدة تحمل طابع الوطنية والقومية وكل الأفكار التي تركتها أوروبا منذ سنين , بدأت هذه الحركة تأخذ طابعا دينيا جهاديا يستمد غذاءه وعطاءه من الإسلام , وكانت المعركة على أشدها في نهاية الربع الثاني من القرن العشرين بين المسلمين وبين العلمانيين وسائر القوى المعادية للإسلام ,وكان لابد من حسم الموقف أو علاج الأمر على صورة تحقق ما هو مطلوب ومرغوب .

وجمع السكارى والمخمورون مع المؤمنين المسلمين في تنظيم تمت سرقته من جماعة الإخوان المسلمين هو تنظيم الضباط الأحرار .

وأحكمت الخطة لضرب الإسلام في مقتل .

مقدمة قبل النتيجة

قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952 بمجموعة من الضباط ذوي النزعات المختلفة تسيطر عليهم مجموعة إلى الإخوان المسلمين على رأسها جمال عبد الناصر, وكانت أحلام جمال عبد الناصر في الحكم غامضة ولا يعرف الطريق إليها ولم يكن في بال أحد منهم أن يمضوا طويلا في طريق السيطرة والتمكن من مصر .

كانت غاية أحلامهم أن يوضعوا في مصاف الأبطال الذين خلصوا البلاد من ملكية فاسدة وإقطاع كان قد بدأ طريقه إلى الظهور .

كان هذا غاية ما يحلمون به ويطمعون فيه !

ولم تكن لديهم خطة مدروسة أو وجهة نظر محددة أو غير محددة وكل ما كانوا يفكرون فيه هو الانقلاب خشية الاعتقال والمحاكمة بعد أن عرف سرهم .

حتى الملك لم يكونوا يفكرون بشأنه حتى أشار عليهم الإخوان بخلعه وطرده .

والذي يقرأ الخطاب الذي وجهه محمد نجيب للملك يجده خطابا يمكن أن يوجه للحاكم في أى وقت منذ قامت الثورة حتى الآن :

" من الفريق أركان حرب محمد نجيب باسم ضباط الجيش ورجاله إلى جلاله الملك فاروق الأول :

إنه نظرا لما لاقته البلاد في العهد الأخير من فوضي شاملة عمت جميع المرافق نتيجة سوء تصرفكم وعبثكم بالدستور وامتهانكم لإرادة الشعب , حتى أصبح كل فرد من أفراده لا يطمئن على حياته أو ماله أو كرامته , ولقد ساءت سمعة مصر بين شعوب العالم من تماديكم في هذا المسلك, حتى أصبح الخونة والمرتشون يجدون في ظلكم الحماية والأمن والثراء الفاحش والإسراف الماجن على حساب الشعب الجائع الفقير ,ولقد تجلت آية ذلك في حرب فلسطين وما تبعها من فضائح الأسلحة الفاسدة وما ترتب عليها من محاكمات لتدخلكم السافر , مما أفسد الحقائق وزعزع الثقة في العدالة ,وساعد الخونة على ترسم هذه الخطي فأثري من أثري وفجر من فجر , وكيف لا والناس على دين ملوكهم .

لذلك قد فوضني الجيش الممثل لقوة الشعب أن أطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولي عهدكم الأمير فؤاد على أن يتم ذلك في موعد غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم ( السبت الموافق 26 يوليو سنة 1952 م والرابع من ذي القعدة سنة 1371 هـ ) ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه والجيش يحمل جلالتكم كل ما يترتب علي عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج "

توقيع : فريق أركان حرب محمد نجيب

ونقلت هذا البيان لصلاحيته لكل زمان ومكان !!وفوجئ الضباط بأن كل شئ على ما يرام , والقوة الأمريكية تبارك خطواتهم وكان مهندس القوانين الذي دفع بهذا القطار الجامح إلى أعلي مكان في السلطة هو سليمان حافظ بقسم الرأي في مجلس الدولة وكان لهذا المجلس في ذلك الزمن شأن عظيم فهو قدس الأقداس في عالم القوانين والدستور ولا يجوز دخوله لغير كهنته وسدنته .

ومازال سليمان حافظ يفتل لهم بالذروة والغارب كما يقول العرب حتى أدخل العسكر إلى قدس الأقداس وضربوا رئيسه بالحذاء .

وقد يلحظ القارئ العزيز أنني استخدم كلمة " الحذاء " أكثر الأدوات استخدما في الإقناع وتمرير القوانين والقرارات .

وكان مفعوله سحريا عجيبا ويأتي دائما بنتيجة حاسمة !!

ولا يزال !

وتشكل نظام وصاية مؤقت من الأمير محمد عبد المنعم رئيسا وعضوية بهي الدين بركات باشا والقائمقام رشاد مهنا رشاد مهنا الذي عين وزيرا للمواصلات لمدة يوم واحد حتى يتلاءم هذا مع الدستور , الذي كان لا يزال محترما وله اعتباره.

المصريون وصناعة الفرعون

ويحكي لى القائمقام رشاد مهنا فيقول :

- الشعب المصري قد تعود عبادة الفرعون ,وإن لم يجده فإنه يخلقه , ولو حكمه قرد فهو مقدس وإله عندهم ولا أدري من أين جاءته هذه الصفة الخبيثة وكيف تسني لمجموعة من الضباط غير المتعلمين أن يتحكموا في كل شئ بمصر حتى كبار الساسة والمفكرين ؟ لقد كنا يوم قامت الثورة ضعافا نخاف من كل شئ ونعمل حسابا لكل مخلوق , ولكن .. أحكي لك قصة .
- عندما عينوني وزيرا للمواصلات حتى يمكن لى أن أكون عضوا في مجلس الوصاية المؤقت على الملك أحمد فؤاد الثاني حسب نص الدستور بأن يكون عضو المجلس وزيرا على الأقل وعينت وحضرت اجتماع مجلس الوزراء مرة واحدة ودخلت المجلس وأنا مضطرب وقلق , وسوف أجلس مع أساطين السياسة والحكم الذين لم أحلم يوما بأن التقي بهم فما بالك بأن أكون زميلا لهم ؟

وكنت العسكري الوحيد في هذا المجلس , وعينت للسبب الذي ذكرت ولم يكن كثير من الوزراء يعرف هذا ولكنهم تصوروا أن السيد الجديد يزحف إلى السلطة .

وفوجئت بالمجلس الذي كان قد أخذ مكانه على منضدة الاجتماع , وكنت قد تأخرت قليلا , فوجئت بأعضائه يقفون احتراما , ولم يجلس واحد منهم حتى جلست وأنا في حالة من الدهشة وعدم التصديق وتصورت أن شيئا قد حدث قبل أن آتي وجلست أتفرج على باشوات مصر وحكامها العظام , وأنقل عيني من هذا إلى ذاك , وكلها أسماء لمعت في سماء مصر , ووجدتهم هم أيضا يتفرجون على كأني مخلوق غريب قد جاء من كوكب آخر .

وبدأ الاجتماع ووجدت الوزراء يسألونني الرأي في مشاكل تتصل بوزارتهم .

في الزراعة والصناعة والاقتصاد وكل شئ وأنا أكاد لا أقول كلمة واحدة ولا أعرف ما أقول , فثقافتي بجانب هؤلاء بسيطة جدا جدا , أنا حاصل على الشهادة التوجيهية , ودراستي في الجيش شئ لا معني له وخصوصا إذا كان الأمر له صلة بالحكم والسياسة .

وانتهي الاجتماع وخرجت .

وفوجئت بالوزراء يتراجعون ويفسحون لى مكانا للخروج أولا .

وكان الصحفيون !

وكما قلت لك قد عينت وزيرا للمواصلات وكان هذا موضوع الأسئلة وليست الأسئلة بالصورة التقليدية ولكن فيها إقرار لا بأنني عبقري الزمان الذي جئت وفي رأسي فكرة لحل كل أزمات المواصلات وسوف يتم هذا قبل غروب شمس هذا اليوم .

وتعجبت وظننتهم أول الأمر يسخرون مني ولكني وجدتهم جادين .

فقلت لهم :

- يا جماعة أحب أن أخبركم بشئ وأرهفت الآذان وسنت الأقلام ومندوبو الإذاعة يزاحمون بما في أيديهم من ميكروفونات لتسجيل التصريح الخطير الذي سأنطق به , وساد الصمت وارتبكت وزاد من ارتباكي أنني وجدت الوزراء الذين لحقوا بي كانوا هم أيضا ينتظرون تصريحي الخطير وقلت :
- يا جماعة أنا كل علاقاتي بالمواصلات أنني أستعمل القطار عند ذهابي إلى الإسكندرية .
- وارتفعت صيحات الاستحسان بين دهشتي فقد تصوروا أن الكلام فيه نوع من الإلغاز والتورية وما قصدت شيئا من هذا قط .
- وفاجأني سؤال من صحفي كبير :-
- والتليفونات يا معالي الباشا ؟
- وقلت له
ماذا عنها ؟
فأشار بيده إشارة الفاهم الواثق العالم ببواطن الأمور : يعني إيه خطتك ؟

وقلت له :

- صلتي بالتليفون هي نفس صلتي بالقطار .
والكل يكتب بحماسة شديدة وعلامات الاهتمام بادية على وجوه الصحفيين والوزراء أيضا ولعلهم كانوا يبحثون خلف الكلمات وليس وراءها غير جهل حقيقي بموضوع المواصلات وكل ما يتعلق به وتشجع واحد وسأل :

- ماذا تعني يا معالي الباشا ؟

- أعني أنني أتحدث في التليفون كلما اقتضي الأمر ذلك .
وتعالي التهليل والاستحسان .

ألا يصلح أن يكون هذا مشهدا فكاهيا في مسلسل تليفزيوني ؟

وهذا التعليق من عندي .

أما رشاد مهنا فيكمل :

- وخرجت من مجلس الوزراء ولم أعد إليه بعد ذلك أبدا .
- وقد صدق رشاد مهنا : الشعب هو الذي يصنع الفرعون !
- والشعب أيضا هو الذي يقدر على إنزال الفرعون من فوق عرشه !

وهذا دور يشارك فيه الصغير والكبير على حد سواء في الأول أو الآخرة " والآخرة خير لك من الأولي "

الحركة الإسلامية لم تنضج بعد

كان اتفاق الإخوان مع جمال عبد الناصر هلاميا غير محدد بأشياء قاطعة مبينة اللهم إلا الأماني الشفوية والتعهدات بالحكم بما أنزل الله وقراءة الفاتحة .

وبعد نجاح الحركة وجد أن الأمر أكبر من أن ينساق فيه وراء الإخوان بشكل تام ولكن لا بأس من أن يجتاز بهم بعض الحواجز وقد فعل .

جاءوا بعلي ماهر رئيسا للوزراء , طردوا به الملك , تجاهلوه وأصدروا تصريحات تخالف رأي الحكومة مثل تحديد موعد انتخابات مجلس النواب في فبراير ثم اعتقال عدد من السياسيين دون الرجوع إليه وهكذا .

وكان مجلس قيادة الثورة يجتمع دون جدول أعمال !

فكل شئ في مصر ينظرون فيه ويصدرون قرارات دون دراسة أو تمحيص وكان أمامهم نظام حكم ديمقراطي متكامل ومقدس في نظر الجميع والدستور على ما فيه من عيوب وثغرات لا يمكن لأحد أن يمسه أو يقترب منه .

ولكن بدأت حبات العقد تنفرط واحدة بعد الأخرى .

وبدأ الجيش يتغلغل في كل الحياة المدنية في مصر , وظهر مندوب القيادة في ملابسه الكاكية في كل موقع من مواقع العمل .

واستقال على ماهر وشكلت وزارة برئاسة محمد نجيب أول عسكري جاء إلى هذا المنصب بعد محمود سامي البارودي في العصر الحديث . وخرج على ماهر آخر حاكم مدني في مصر في العصر الحديث .

وسكت الإخوان حتى تنتهي معركة الضباط مع الأحزاب التي انتهت بعد مناورات سريعة وأعلن حل الأحزاب .

وحاز محمد نجيب شعبية هائلة , فابتلع الناس كل ما يحدث من تجاوزات .

ولم يكن يوجد في مصر قوة مؤهلة للحكم باستثناء الإخوان المسلمين الذين قامت الثورة بهم ومن أهم أهدافها القضاء عليهم ولو لم يعلن ذلك صراحة :

وكان لابد لها من القضاء عليهم وأجلت ذلك إلى حين .

نتيجة بعد المقدمة

في الوقت الذي كان فيه المجاهدون من الإخوان في سجون مصر المختلفة يعذبون ويفتنون بعضهم يكسر الحجارة في محاجر " طرة " حتى يكاد يسقط موتا من الإرهاق والتعب والمرض وبعضهم ضرب ضربا جماعيا بالرصاص لمجرد المطالبة ببعض الحقوق المشروعة لأى سجين , ومن ترك وبه نفس من حياة أكمل الجند عليه بالهراوات حتى فاضت روحه , ودفن دون أن يشيع .

في الوقت نفسه كان اليهود يدرسون الخطط والمسالك , ويرسمون الخرائط ويجمعون كل ما يمكنهم من معلومات حتى يقدروا على المصريين في حرب قادمة سوف تهيئ لها قيادة فاسدة حمقاء شريرة وهم على يقين من أن هذا سوف يكون , مما يرونه من علامات .

كان جنرالات الثورة يتحكمون في البلاد , أولئك الذين ارتدوا أردية ليست لهم فما أسهل أن تطلب من حائك أن يصنع لك بدلة لواء أو مشير وإذا كنت تأمن الحساب فما من بأس عليك في ارتدائها وما عليك من بأس أيضا في أن تندمج في الدور وأن تكون قائد أعلى للقوات المسلحة في بلد كمصر , إن ساعدتك الظروف , فلا يحتاج المنصب إلى خبرة أو علم .

ومن يحاسبك لو جئت بمجموعة من الصولات والمهرجين وجعلتهم قادة ألوية في جيش أنت تعرف سلفا أنه لن يحارب أو أن هناك اتفاقا بأنه لن يحارب !

وكنت قد ذكرت في البوابة السوداء أنه قد استدعاني شمس بدران بليل , ثم سمعته يناقش واحدا اسمه عبد المنعم أبو زيد ويخبره أن هناك مجلسا عسكريا سيعقد له في الغد , وعليه ألا ينكر شيئا مما قاله في التحقيق ولم أكن أفهم يومها طبيعة القصة .

وكانت هذه القضية التي أتت إلى السجن الحربي بعد الانتهاء من التحقيق معنا هناك عام 1965 كانوا يسمونها قضية الفساد في مكتب سيادة المشير .

ودارت الأيام دورتها وعرفت أن الرائد عبد المنعم أبو زيد كان صولا ويعمل سائقا للمشير وإذا كان المشير كان رائدا , فما عيب " أبو زيد " أن يترك رتبته الصغيرة ويصير رائدا أو مقدما ؟

في مصر علق أى رتبة على كتفيك

وقد كنت أظن أن هذه الرتب التي تعلق على الأكتاف شئ يصنع في مكان خاص كدار " سك النقود " مثلا , وأنه ليس من السهل العثور عليها , ثم عرفت مصادفة أنها تباع في محل بالعباسية , وأن في مكنة أى مواطن أن يشتري ما يشاء منها ويمكن له أن يتمتع في ارتدائها – إن كانت هناك متعة – وهو يستطيع أن يعلق أية رتبة يشاء , ولكن لا يخرج بها إلى الشارع فالقانون يمنع ذلك .

أما هؤلاء فلأنهم كانوا يملكون البلد والقانون فهم يشترون هذه الرتب من ذلك المحل الصغير بالعباسية ويرتدون " البذلات " وعليها ما يشاءون من رتب صغرت أم كبرت , وكانوا في أغلب الأحيان لا يدفعون ثمنها لصاحب المحل .

ولكن لابد من استئذان سيادة المشير وهو لا يمانع .

ذلك المشير الذي ما دخل حربا وانتصر فيها قط , وكانت ثقافته السياسية من ممثلة ما ليست معها الشهادة الابتدائية وكان يبهره كلامها ويقول لمن حوله من الديكة والطواويس والقوادين :

- دي على درجة عالية من الثقافة !
- والمسكين لا يدري أنه هو شخصيا على درجة عالية من الجهل !

أمن الدولة هو أمن حريم السلطان !

عبد المنعم أبو زيد هذا الذي رأيته في ليلة باردة من ليالي شتاء سنة 1966 كانت تهمته حسبما فهمنا بعد ذلك بسنين طويلة أنه سرق صورة لبرلنتي عبد الحميد مع سيده المشير , وقد قامت بسرقة هذه الصورة السيدة الفاضلة زوجته الراقصة السابقة سهير فخري , وقيل إنهم سوف يبيعونها في إيطاليا بمليون دولار !

وصارت قضية صنعتها أوهام الحشيش وصورت فيها الأفلام الجنسية , وحشدت الأجهزة كل إمكاناتها للبحث عن ذلك الذي سرب خبر زواج سيادة المشير من السيدة الجليلة برلنتي , وأنها حامل في شهرها السادس ,ووصل الأمر إلى شعراوي جمعة الذي كلف حسن طلعت شخصيا بالتحري , والمباحث من جهة والمخابرات من جهة أخري .

ورفع الأمر إلى " الملهم " الذي حفظ التحقيق لا أدري لماذا ؟

والصورة لا تساوي مليون مليم !

فما وجه الأهمية فيها ؟

كل الدنيا في ذلك الوقت تعرف أن المشير عبد الحكيم عامر يشرب الحشيش ويأتي كل المنكرات ويفهم في كل شئ إلا الجيش والعسكرية !

وأن قيادة الجيش المصري قد وقفت عند رتبة " صاغ " وما ينبغي لأحد مهما علا أن يتجاوز هذه الرتبة علما أو فنا بل عليه أن ينحدر حتى لا يغضب سيد الجيش , وعليه أن يزداد بمحلات شارع الهرم وأن يكون على دراية بآخر " صنف " نزل إلى حي " الباطنية " وهذا هو سبيل الترقي الوحيد .

رهان على امرأة

كانت تلك الليلة من ليالي الشتاء شديدة البرد عظيمة الريح , والنداء فيها معناه الموت تحت عويل السياط ونباح الكلاب , فمعظم من دعي بليل في تلك الأيام لم يعد ثانية , وظلت رفاته حتى اليوم في تلك الأرض الممتدة بين السجن الحربي وبين " المنصة " وسمعت ذلك الحوار الذي دار بين شمس بدران وبين عبد المنعم أبو زيد , ولم يخطر ببالي السبب الحقيقي لمحاكمة هذا الضابط وإيداعه السجن وتمر السنون وأعرف أن السبب هو صورة سرقتها سيدة جليلة لسيدة جليلة أخري بعد قصة عجيبة مليئة بالمغامرات .

لم يكن عندهم وقت للكفاح!

كل رجال مصر يتنافسون في غرام الممثلات والراقصات ويتراهنون !!

رئيس المخابرات : هذه تذهب مع أى واحد لقاء مبلغ من المال .

قائد الجيش : لا تقل هذا الكلام دي أشرف واحدة في مصر كلها .

رئيس المخابرات : تراهني يا افندم ؟

قائد الجيش : موافق , حتعرف إزاي .

رئيس المخابرات : هذا عملي يا أفندم وأقتنه جيدا .

ويخشي قائد الجيش ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة أن ينجح صلاح نصر ويكسب الرهان فيستدعي زهرة أخت سيدة نساء العالمين ويحذرها أن أختها سوف تختبر اختبارا صعبا لا يجعلها في موضع أشرف واحدة في مصر .

ورغم التحذير فقدت صورت والضابط الهمام يفتح لها سوستة الفستان , ثم تذكرت فتمنعت , وسرقت أختها ثلاثمائة وستين جنيها مصريا , في وقت كان فيه الجنيه يساوي جنديا من الذين ماتوا علي رمال سيناء من الجوع والعطش وهم يفرون أمام اليهود من هول مالا قوه فرادي ليس لهم قائد أو نصير .

وتزوجت برلنتي عبد الحميد من المشير وكان هذا من الأسرار التي أثبتت التحقيقات أن لا أحدا لا يعرفها من رجال الدولة ولكننا كنا نعرف هيه القصة أثناء اعتقالنا في عام 1965 ونسمع المخبرين وهم يتندرون بها .

ولما انتشرت الإشاعة بين عدد محدود تمت عمليات القبض والإحضار وعمل الكمائن وإجراء عمليات " السيطرة" والضرب بالسياط لمعرفة من الذي سّرب خبر الزواج .

والذي سرب خبر زواج المشير من السيدة برلنتي عبد الحميد هي السيدة برلنتي نفسها , لأنها صاحبة المصلحة في إشاعة مثل هذا الخبر , فهي حريصة أن يهابها كل رجال مصر ونسائها , وكيف لا يهابونها بعد سماع مثل هذا الخبر في بلد قد سيطر عليه قانون الغابة .

وفي حفل عيد ميلاد بعش الزوجية السعيد على ترعة المريوطية حيث كانت نهاية المشير الدرامية , ولا أحد يعرف هل قتله " الملهم " أم قتله " شماشرجيته " ظنا منهم أن هذه النهاية تريح جميع الأطراف .

وقد حضر هذا الحفل البهيج وزراء وكبراء وقوادون وفنانون وفنانات وكان هناك السيد الوزير رئيس المخابرات الذي خسر الرهان .

وكان المصورون ,وعددهم معروف , وعدد الأفلام التي معهم عهدة وكل لقطة تسجل وتحصي في سجل ولا يجوز تسريب صورة واحدة لأهمية المجتمعين وأن حفلا مثل هذا يعتبر من أسرار الدولة العليا .

وكان زوج السيدة الجليلة الراقصة التي اتهمت بسرقة صورة المشير مع برلنتي في مهمة عشاء مع أحد عملاء المشير من العرب , فظنوا أو أشاعوا أنه قد اتفق معه على تهريب الصورة في الليلة نفسها .

وظهرت الصورة بعد ذلك في دولاب في بيت السيدة برلنتي عبد الحميد بعد القبض عليها فيما جري من أحداث بعد مقتل المشير أو انتحاره .

الديمقراطية بعد الهزيمة

هذا هو حال الدولة المصرية في عصر الظلام!

كل الأجهزة تسخر لمعرفة أبعاد العلاقات الآثمة وفي سبيل ذلك تصرف الأموال ويبذل الضباط جهدهم .

وهذا أمر طبيعي ونتيجة منطقية لدولة قد فقدت الهدف وليس أمام القائمين عليها غير حماية " الملهم " والمشير وهما في حماية الله , ولا أحد يمتد لهما بسوء فقد ضرب الشعب ضربا مبرحا , بحيث يستعصى على أحد أن يتآمر أو يفكر في الخلاص من هذا الكابوس , إلا قلة ممن عصم الله .

وكان من الطبيعي أن ينشغل الحكام بملذاتهم وشهواتهم وكيد بعضهم لبعض والرهان على النساء ثم التجاوز إلى الشذوذ فالجنون , والبحث عن شئ فاجر غامض يفعلونه ويسخرون كل ما لديهم من قدرة لهذا , وليس هذا تجنيا , ولكن هذا هو نشاط الإدارة المصرية في تلك الأونة .

اهتمام القادة والساسة

والأفلام الجنسية تصور خلسة للكبراء والعظماء والفنانين والفنانات ومن يقع في طريقهم , والأشد والأنكي عرضها في الأسواق العالمية للبيع , ولا أدري هل تم هذا أم لا ؟ فالظن أنها سوف تكون رديئة الصنع كسائر ما ينتجون ويصنعون وتعذيب المؤمنين الصابرين وإيداعهم بالسجون , والعمل على القضاء على الإسلام هو الفساد بكل ما في الكلمة من معان متدينة في درك بعيد القرار !

وعلى شفيق يدور على المواخير والبارات ليل نهار , بعد أن كلّ من تعذيب الإخوان وضربهم تم يشرح الله صدره ويتزوج من السيدة الجليلة مها صبري .

وصلاح نصر كان يمتلك نساء الأمة كلها ,وكل شئ ملك يمينه سداح مداح .

وهم ظلمة فجرة قادرون يعلمون ما يفعلون ويعرفون أن هذا كله على حساب الشعب المسكين , ولا يعنيهم مصيره في قليل أو كثير ويقولون في مجالسهم هو شعب لا يسير إلا بضرب الحذاء .

ويتمسحون به عندما تعوزهم الحاجة !

الفساد نتيجة طبيعية للضياع

فالمشير الأحمق نائب السلطنة في دمشق جاءته الأخبار أن انقلابا يدبر وأعطوه الأوراق بكل التفاصيل وكانت السحب الزرقاء تلف عقله ووجدانه وذهب منتشيا ضاحكا مسطولا لا يكاد يصدق أو يظن أن الصفيح الأصفر اللامع الذي يضعه على كتفيه سوف يفزع المتآمرين , وأعادوه على الطائرة بعد أن جردوه من ملابسه وحلقوا شاربه .

وهنا تذكر الشعب !

تذكره عندما وجدها " الملهم " فرصة للتخلص منه فكتب له خطابا يستقبل فيه من منصبه , وسبب الاستقالة بنزعة " الملهم " الديكتاتورية الاستبدادية وأنه بعد عشر سنوات من الثورة المباركة لابد أن يأخذ الشعب حريته التي سلبت , وكتب له النص أحد الذين ألبسهم أردية اللواءات والفرقاء وتسببوا بحماقتهم في قتل عشرات الألوف .. وعلم " الملهم " أنه يضيع لا محالة , فاسترضاه وقبل رأسه , وطلب منه مجرد الانتظار حتى ينبت شاربه ويعود كما كان .

وجاء كبير القوادين للصول المشير بامرأة ذكية ذات جمال , لأن حالته النفسية سيئة .

والإخوان المسلمون في سجن " جناح " بالواحات في جدل مقيم وهو عظيم .. هل نحن جماعة من المسلمين أم جماعة المسلمين ؟

وفريد شنيش يجلد ويضرب الصالحين الأتقياء في سجن قنا !

وبرلنتي عبد الحميد تخدع المشير الجاهل بكلمات غامضة تعلمتها من الشيوعيين .

رصيد أسرة محمد علي

بلد قد سلك به الشيطان كل سراديبه فهو ينزف دما وقيحا وليس هناك من أمل في إنقاذه حتى يأخذ الزمن دورته .

كانت سياسة الحكم تقوم على التمكين للملهم في الأرض , والبحث عمن يناوئه والقبض على من يشتم منهم رائحة التذمر أو العداء وسحقهم سحقا أدبيا وماديا فلا تقوم لهم قائمة ويصيرون عبرة لمن أراد الاعتبار !

عندما تكون هذه هي سياسة حكومة قد تمكنت وتربعت غير مهيأة لهذه المعاني وينتقل هذا التصور من أعلي إلى أسفل حتى يكون الأمر فلسفة ونظاما وتوجها وهذه الدولة التي نشأت بعد انقلاب سنة 1952 تعيش حتى الآن على الرصيد الذي تركته أسرة محمد علي وعلى كل ما في هذه الأسرة من عيوب ومثالب ما عليها من تحفظات وقد أوشك هذا الرصيد أن ينضب ومع نضوبه سوف ينهار كل شئ على رءوسنا .

الكل يخدع الكل

تقرر فجأة في أحد الأعوام أن يذهب السيد على صبري رئيس الوزراء آنذاك لزيارة مزارع للأرز في منطقة قريبة من كفر الشيخ ,ولم يكن الأرز قد زرع لسبب لا أعرفه الآن إما لأنه لم يكن من المقرر زراعة أرز , أو كان مقررا ولكن لسياسة التسيب والإهمال التي شملت كل مرافق الدولة لم يتم هذا !

واجتمع وزير الزراعة بكبار مساعديه ليس لبحث سبب عدم زراعة الأرز , ولكن ماذا سوف يري السيد على صبري عندما يذهب إلى هناك ويكتشف عدم وجود أرز ؟

وبعد عدة ساعات من اجتماع موسع اقترح أحد الخبراء زراعة نبات ضار اسمه " الدينيبة" وقال إنها " تحضر " ويظهر أثرها بعد عدة أيام , وهي شديدة الشبه بالأرز !

ولم يعلموا أنهم لو عرضوا على السيد على صبري شجر جوافة وقالوا له : أرز لما وجد غرابة في هذا , فذهنه مشغول في أمور أكثر خطرا من الزراعة والصناعة في مصر وقامت الدنيا وقعدت وزرعت عدم آلاف من الأفدنة ( دينيبة " وذهب السيد على صبري , وصار يستمع إلى شرح الخبراء وكيف أن هذا أرز نادر ويزرع لأول مرة في مصر , وهو نتيجة أبحاث قسم الإرشاد الزراعي في الوزارة وأنه سوف يحقق كذا , وفي عام .. سوف يكون المحصول .. وعندما يستخدم ... سوف يصير وهكذا في دوامة من الكلمات المتقاطعة غير المفهومة وسيادة رئيس الوزراء سعيد بالشرح , وأمر بصرف المكافآت!

أهل الثقة وأهل الخبرة

وكان قد جمعني لقاء في الستينيات مع الدكتور محمد عبد العزيز نصر وكان يرأس مجلس إدارة هيئة لا أذكر اسمها الآن وكانت بحي الدقي إن لم تخنيّ الذاكرة وسألني الرجل :

- لماذا لا تعجبكم الثورة ؟

وقلت له :

- هذا حديث طويل , يكفي أنها تسير بالبلاد إلى كارثة حقيقية نتيجة حكم الفرد وتسلطه , وشرحت له في استفاضة وجهة نظري ,حدثته عن أهل الثقة وأهل الخبرة وكانت تلك المقولة هي الشائعة في هذه الأيام وقلت له إن هذا الشعار لا يصلح في إدارة الدول وسياستها والثقة والخبرة لا دخل لهما عندما يحكم الشعب عن طريق ممثلين حقيقيين له .
- وشرد الرجل ببصره وكانت له لحية صغيرة عند دقنه وأمسك بها وقال :
- معك الحق كل الحق , هذا أسلوب ضار في حكم البلاد , فقد يكون من أهل الثقة عدد كبير من " الحمير"

يفسدون كل شئ وهذا ما يحدث في هذه الأيام !

وبدا عليه أنه يريد أن يحكي قصته ولكنه متردد:

وقلت له مشجعا :

- هناك ما تود قوله .

- واعتدل في جلسته وقال :

- هذا صحيح ... لقد مررت بهذه التجربة شخصيا

- كيف ؟

- عندما فكروا في عمل مصنع الحديد والصلب , ذلك القائم في حلوان طلبوا من كل من يعرف أن يقدم مشروعا , وتقدمت بمشروع ضمن من تقدموا وكان من الذين تقوموا شركات عالمية عريقة في صناعة الصلب في العالم , وعدد من أهل هذا العلم من المصريين ولا شك أن عددا من غير أهل الخبرة بهذا المجال قد تقدموا بمشاريعهم أيضا .
- ورفضت كل المشروعات التي قدمت وقبل مشروع قدمه الضابط المهندس محمود يونس وهو من غير أهل الخبرة بهذا المجال .

ونفذ مشروع الحديد والصلب الذي قدمه محمود يونس , ويبدو أنه لم يكلف خاطره بالاستعانة ببعض أهل الرأي والخبرة في هذا المجال وربما قال لنفسه هي نفقات لا ضرورة لها والحي أبقي بالجديد من الميت .

وأقيم المصنع , وبعد شهور حدث تصدع في " البواتق " الخاصة بالصهر . وأرسلوا رسلهم إلى كل مصانع الحديد والصلب في العالم يطلبون العون والخبرة وجاءهم رد من أهم هذه الشركات يقول :
إن الحالة التي وصفت في الأوراق والصور التي أرسلت لا يمكن أن تحدث بعد أن يعمل المصنع بعدة شهور !

وهذه الحالة على وجه التحديد - رغم تحفظنا على سرعة ظهورها – هناك أستاذ رسالته تدور حولها وكيفية تجنبها وعلاجها واسمه د. محمد عبد العزيز نصر أستاذ كرسي المعادن بجامعة الإسكندرية ونحن نستدعيه في هذه الحالات .. وامتلأت دهشة وأنا أقول له :

- سيادتك ؟

- نعم .

- وماذا فعلت ؟

- وابتسم الرجل ثم علت ضحكته ولم يرد :

- هذا المصنع الذي أقيم للحديد والصلب بحلوان بجوار القاهرة لم يكن هذا مكانه المناسب بل مكانه هو أسوان حيث يؤتي بالمادة الخام للصناعة وليس من المعقول أن تنقل جبلا عبر ألف كيلو متر , ولكن المعقول أن يقام المصنع حيث يوجد هذا الجبل .

إقامة المصانع لمنع المظاهرات !

وقالوا إنه بني في حلوان واختير المكان لسببين :

الأساسي منهما أن يكون قريبا من منازل الذين أقاموه في القاهرة وهم لا يستطيعون ترك العاصمة الإقامة في آخر بلد عند خط الحدود مع السودان حيث الحرارة الشديدة .

والسبب الثاني وهو ما أقنعوابه " الملهم " أنه ينبغي أن نحيط القاهرة بحزام من المصانع حيث التجمعات العمالية التي قد نحتاجها في المظاهرات إذا حدث انقلاب .

وكانت حجة بالغة تتفق مع ما ألهم به الزعيم الخالد !

واسألوا الآن عن مصير هذا المصنع الذي أقامه أهل الثقة وكيف موله الشعب المصري الذي كان يظن خيرا في ذلك الوقت بأصحاب البدلات الكاكية ويراهم مثله مطحونين يريدون الخبز.

السهم يربح في العام ثلاثة قروش أو أربعة أو شيئا من هذا لا أذكره بالضبط

وقف نمو الجيش

صار شعار الحكم في مصر هو الإرهاب وفهم هذا كل من يقوم بدور في الإدارة صغر أو كبر , على كل واحد أن يحفظ لسانه ويلزم بيته وإن سمع شيئا كتب عنه تقريرا وأرسله لمن فوقه , ونظير ذلك فله أن يسرق إن استطاع وأن يفعل ما يشاء ما دام بعيدا عن السياسة وما دام ليس له دور غير التصفيق والموافقة .

وكان هاذ مهما بالدرجة الأولي في الجيش .

فالجيش المصري بعد قيام الثورة توقفت قيادته عند رتبة " صاغ " وهي ما يقولون عنها " رائد " في هذه الأيام .

وأذكر أنه في الأيام الأولي للثورة منعوا كل من هو فوق رتبة بكباشي من الذهاب إلى الجيش وسرحوهم بعد أيام .

ولم يكن مع رجال الثورة فوق رتبة بكباشي غير أحمد شوقي القائمقام ومحمد رشاد مهنا وأنور السادات .

وهؤلاء تمت السيطرة عليهم بطريقة أو بأخرى !

أحمد شوقي حوكم وطرد .

ورشاد مهنا قتلته الوصاية على العرش .

وأنور السادات كان ثعلبا ففهم الموقف فكان عندما يلتقي بالملهم يبدؤه بالتحية العسكرية رغم أنه أعلي رتبة مخالفا بذلك كل الأعراف التي قامت عليها الجيوش في العالم كله .

ولذلك بقي حتى صار رئيسا للجمهورية ثم لعن " أبو الملهم " ألف مرة بعد ذلك , واتهمه بأنه الذي سرق الثورة منه .

فتوقف الجيش عند رتبة " الصاغ" من حيث المضمون والثقافة العسكرية والخبرة لأنها الرتبة التي ليس لأحد أن يجتازها .

وأذكر أيضا أنهم تركوا بعض الرتب الأكبر تعمل في الجيش مثل واحد اسمه محمد إبراهيم أخذ رتبة فريق وفريق أول بعد ذلك ولكنه سمح لعقله العسكري

أن يتدني إلى منزلة أقل من رتبة " الصاغ " وهي رتبة قائده الأعلى تغيرت أهداف الناس وتبدلت مفاهيمهم الأخلاقية , وربوا نشئا على الخوف والجبن والبعد عن الحياة العامة وعن الاهتمام بالقضايا الوطنية والقومية .

وتغيرت كل أهداف المجتمع وتبدلت كل أنماط السلوك .

الفصل الثالث عشر" وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم "!الحكومة تكره الشعب

( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال , فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام )إبراهيم : 46 -47

صارت الحكومة المصرية بعد هزيمتها في اليمن أضحوكة المثقفين وموضوعا لنكات أهل الشارع وسخريتهم وبدأت عوامل التذمر في كل مكان , لما كان من ارتفاع الأسعار نتيجة الإنفاق الأحمق على " التجربة " اليمنية التي أشارت كل التقارير إلى أنها قد منيت بفشل , ورغم ذلك ظلوا على إصرارهم في خداع الناس وقد كان من شأن الحكومة الرشيدة أن تلجأ إلى الشعب في كل مشكلة كبيرة تواجهها !

تلجأ إليه لتصب جام غضبها عليه , وتنتقم من كرامتها الجريحة !

وهي تخشي دائما من الجماهير فتعمل على شغلها دائما وتأديبها طوال الوقت , وقد بدأت سياسة القمع للناس من أيام الثورة الأولي , واستطاعت أن تقضي على كل القوي المناوئة , ومن ثم فلم يعد أمامها غير أفراد معدودين يجمعونهم بين الحين والآخر ويضعونهم في المعتقل , ويؤدبونهم ثم يطلقونهم , بعد أن يأخذوا رهائن غيرهم ليظل الناس على وعي دائما من خشية السلطان ونقمته .

وعندما يزيد التذمر بين الناس يصير هذا الضرب من القمع " الفرداني " لا يفيد ولابد من ضربات قوية للشعب الغافل , حتى يزداد حرصه على طاعة الحكومة وسماع كلامها والتسبيح بحمد الزعيم الملهم .

وأعظم إنجاز قام به الملهم في مصر بعد أن استقر به المقام وتخلص من جميع من ساعدوه واشتم منهم رائحة المنافسة والمقاومة هو أجهزة الأمن القادرة المتنوعة التي تحصي كل شئ فلا يتحرك ساكن دون أن يعلموا وبطبيعة الحال كانوا يقدمون الضحايا بين الحين والآخر ليثبتوا ولاءهم وأهميتهم .

فمن كل القطاعات كان هناك معذبون ومعتقلون ولكن بأعداد ليست بالتي تفي بالحاجة , الحاجة لتأكيد النفوذ والأهمية والسلطان وصرف الأموال بلا حساب لسادة أوغاد قد أمنوا العقاب .

وكانت هذه الأجهزة المتعددة منشغلة بهذا الأمر أكثر من انشغالها بأي أمر آخر .

وإن شيت فقل هو انشغالها الوحيد فهي لا تهتم بأى شئ مما تهتم به أجهزة الأمن كالعادة في سائر بلاد الدنيا من حفاظ على الدولة والنظام بشكل جدي يضمن الاستمرار في إطار من الشرعية وتحكم القانون .وكانت غاية اهتماماتها مأساوية من جانب وفكاهية من كل جانب .

فهذه الأجهزة يتجسس بعضها على بعض , ويحرص كل جهاز أن يثبت للملهم أن الجهاز الآخر خائب ولا يعمل , وأنهم هم حماة العرش ولولاهم لضاع كل شئ .

وكانوا يتفقون أحيانا فيما بينهم إذا كان الهدف واحدا والفريسة محددة وكان من المصلحة العامة – مصلحة الأجهزة – أن يتخلصوا منها عندها فقط يكون اتحادهم وتذهب التقارير إلى الملهم متفقة على الضحية فيبطش به .

وقد وجدوا جميعا أن من مصلحتهم ضرب الإخوان , واستجابوا للشرارة التي أطلقتها شمس بدران بجهاز المباحث الجنائية العسكرية ثم تكاتف الجميع في نكبهم .

مذكرة مرفوعة للسيد رئيس الجمهورية

لبرنامج القضاء على جماعة الإخوان المنحلة

بناء على الأمر الصادر من السيد رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة عليا لدراسة واستعراض الوسائل التي استعملت والنتائج التي تم الوصول إليها بخصوص مكافحة جماعة الإخوان المنحلة ( تم هذا بعد نكبة الإخوان في سنة 1965 ) ولوضع برنامج لأفضل الطرق التي يجب استخدامها في أقسام مكافحة الإخوان بالمخابرات العامة ومباحث أمن الدولة والمباحث الجنائية العسكرية وسائر الأجهزة المعنية لتحقيق هدفين أساسيين :

- إجراء غسيل مخ للإخوان .
- منع أفكارهم من الانتقال إلى غيرهم .

وقد اجتمعت اللجنة المشكلة من كل من السادة :

1- السيد على صبري سيادة رئيس مجلس الوزراء
2- السيد صلاح نصر رئيس المخابرات
3- السيد اللواء سعد زغلول عبد الكريم قائد المباحث الجنائية العسكرية
4- السيد اللواء حسن طلعت مدير مباحث أمن الدولة .
5- السيد العقيد شمس بدران مدير مكتب أمن الدولة

وذلك في مبني المخابرات العامة بكوبري القبة , وعقدت عشرة اجتماعات متتالية وبعد دراسة كل التقارير والبيانات والإحصاءات المقدمة أمكن تلخيص المعلومات التي توافرت لدي اللجنة على النحو الآتي :

1- تبين أن تدريس التاريخ الإسلامي في المدارس للنشء بحالته القديمة يربط الدين بالسياسة في عقول كثير من التلاميذ منذ الصغر الأمر الذي يساعد على ظهور معتنقي الأفكار الإخوانية.
2- صعوبة واستحالة التمييز بين أصحاب الميول والنزعات الدينية وبين معتنقي الأفكار الإخوانية , وسهولة تحول الفئة الأولي إلى الثانية وبتطرف أكبر , وبشكل مفاجئ ليس له مقدمات معروفة .
3- غالبية أفراد جماعة الإخوان المنحلة تربوا تربية خاصة وعاشوا على وهم الطهارة ,ولم يمارسوا الحياة الاجتماعية الحديثة, ويمكن اعتبارهم من هذه الناحية " أفراد خام "
4- أغلب أفراد جماعة الإخوان المنحلة أصحاب طاقات فكرية وقدرات تحمل ومثابرة كبيرة على العمل وبذل الطاقة , وقد أدي ذلك إلى تقدم دائم وملموس في تفوقهم في المجالات العلمية والعملية التي يعيشون فيها وفي مستواهم العلمي والفكري والاجتماعي بالنسبة لأندادهم رغم أن جزءا كبيرا من وقتهم قد خصصوه لنشاطهم الخاص ونشر دعوتهم المشئومة .
5- هناك انعكاسات إيجابية سريعة تظهر عند تحرك كل منهم للعمل في المحيط الذي يقتنع به ويتواءم معه .
6- تداخلهم بعضهم مع بعض ودوام اتصالهم الفردي وتزاورهم , وحرصهم على التعارف فيما بينهم مما يؤدي إلى ترابط وثقة كل منهم في الآخر ثقة كبيرة .
7- هناك توافق وتقارب فكري وسلوكي يجمع بينهم ولو لم تكن هناك صلة واضحة بينهم ويظهر هذا في أى مكان يلتقون فيه دون سابق معرفة .
8- رغم كل المحاولات التي بذلت منذ عام 1936 م لإفهام الجميع بأنهم يتسترون خلف الدين لتحقيق أهداف سياسية إلا أن احتكاكهم الفردي بالشعب يؤدي إلى زوال هذه الفكرة رغم بقائها بالنسبة لبعض زعمائهم .
9- تزعمهم لحرب العصابات في فلسطين سنة 1948 والقنال سنة 1951 رسب في أفكار الناس صورهم كأصحاب بطولات وطنية عملية وليست دعائية فقط , ومما يحسن صورتهم أمام المجتمع أن الأطماع الإسرائيلية والاستعمارية والشيوعية في المنطقة لا تخفي أهدافها في القضاء عليهم .
10- نفورهم من كل من يعادي فكرتهم جعلهم لا يرتبطون بأي سياسة خارجية سواء عربية أو شيوعية أو استعمارية وهذا يوحي لمن ينظر لماضيهم بأنهم ليسوا عملاء .

من كل ما تقدم تري اللجنة أن الأسلوب الأمثل في مكافحة الإخوان يجب أن يشمل بندين أساسيين متداخلين وهما :

1- العمل على محو فكرة ارتباط السياسة بالدين الإسلامي بشتي الوسائل .
2- إبادة تدريجية بطيئة مادية ومعنوية وفكرية للجيل القائم فعلا والموجود من معتنقي الفكرة ومن أعضاء هذه الجماعة

ويمكن تلخيص أسس الأسلوب الذي يجب استخدامه لبلوغ هذين الهدفين في الآتي :

أولا : سياسة وقائية عامة

1- تغيير مناهج تدريس التاريخ الإسلامي والدين في المدارس وربطها بالمعتقدات الإشتراكية كأوضاع اجتماعية واقتصادية وليست سياسية .
مع إبراز مفاسد الخلافة وبخاصة زمن العثمانين وتقدم الغرب السريع عقب هزيمة الكنيسة وإقصائها عن السياسة .
2- التحري الدقيق عن رسائل وكتب ونشرات ومقالات الإخوان في كل مكان ثم مصادرتها وإعدامها والعمل على تشجيع عدم نشر الكتب الإسلامية بوجه عام وبشكل تدريجي غير مفتعل .
3- يحرم بتاتا قبول ذوي الإخوان وأقربائهم حتى الدرجة الثالثة من القرابة في الانخراط في السلك العسكري أو البوليسي أو السياسي , مع سرعة عزل الموجودين من هؤلاء الأقرباء عن هذه الأماكن , أو نقلهم إلى أماكن أخري عند ثبوت ولائهم.
4- مضاعفة الجهود المبذولة في سياسة العمل الدائم على فقدان الثقة بينهم وتحطيم وحدتهم بشتى الوسائل ,وبخاصة عن طريق إكراه بعضهم على كتابة تقارير ضد زملائهم بخطهم ثم مواجهة الآخرين بها مع العمل على على منع كل من الطرفين من لقاء الآخر أطول فترة ممكنة لتزيد شقة انعدام الثقة بينهم .
5- وبعد دراسة عميقة متأنية لموضوع المتدينين من غير الإخوان وهم الذين يمثلون الاحتياطي لهم وجد أن هناك حتمية طبيعية عملية لالتقاء الصنفين في المدى الطويل .. ووجد أن الأفضل أن يبدأ بتوحيد معاملتهم معاملة الإخوان قبل أن يفاجئونا كما حدث باتحادهم معهم علينا .

ومع افتراض احتمال كبير لوجود أبرياء كثيرين منهم إلا أن التضحية بهم خير من التضحية بالثورة في يوم ما على أيديهم .

ولصعوبة واستحالة التمييز بين الإخوان والمتدينين بوجه عام فلابد من وضع الجميع ضمن فئة واحدة ومراعاة ما يلي معهم :

- تضييق فرص الظهور والعمل بشكل عام أمام المتدينين في المجالات المختلفة وعلى الأخص العلمية والعملية.
2- التضييق والمحاسبة بشدة وباستمرار على أى لقاء فردي أو زيارات أو اجتماعات من أى نوع تحدث بينهم , والنظر بعدم الرضا إلى مثل هذا .
3- عزل المتدينين عموما عن أى تنظيم أو اتحاد شعبي أو حكومي أو اجتماعي أو طلابي أو عمالي أو إعلامي .
4- التوقف عن السياسة السابقة في السماح لأي متدين بالسفر إلى الخارج للدراسة أو العمل , حيث فشلت هذه السياسة في تطوير معتقداتهم وسلوكهم وعدد بسيط منهم هو الذي تجاوب مع الحياة الأوروبية في البلاد التي سافروا إليها .
أما غالبيتهم فإن من هبط منهم في مكان بدأ ينظم فيه الاتصالات والصلوات الجماعية أو المحاضرات لنشر أفكارهم .
5- التوقف عن سياسة استعمال المتدينين في حرب الشيوعيين واستعمال الشيوعيين في حربهم بغرض القضاء على الفئتين , حيث ثبت تفوق المتدينين في هذا المجال ,ولذلك يجب أن تمنح الفرصة للشيوعيين لحربهم وحرب أفكارهم ومعتقداتهم مع منع المتدينين منعا باتا من التواجد في الأماكن الإعلامية .
6- تشويش الفكرة الموجودة عن الإخوان في حرب فلسطين والقنال ,وتكرار النشر بالتلميح والتصريح عن اتصال الإنجليزبالهضيبي وقيادة الإخوان حتى يمكن غرس فكرة أنهم عملاء للاستعمار في الأذهان .
7- الاستمرار في سياسة محاولة الإيقاع بين الإخوان المقيمين في الخارج وبين الحكومات العربية المختلفة ,وخاصة في الدول الرجعية الإسلامية المرتبطة بالغرب وذلك بأن يروج عنهم في تلك الدول أنهم عناصر مخربة ومعادية لهم وأنهم يضرون بمصالحها وبهذا يسهل محاصرتهم في الخارج أيضا .

ثانيا : سياسة استئصال الموجود منهم الآن

بالنسبة للإخوان الذين اعتقلوا أو سجنوا في أى عهد من العهود يعتبرون جميعا قد تمكنت منهم الفكرة كما يتمكن السرطان من الجسم ولا يرجي شفاؤه ولذا تجري عملية استثصالهم كالآتي :

المرحلة الأولي :

إدخالهم في سلسلة متصلة من المتاعب تبدأ بالاستيلاء أو وضع الحراسة على أموالهم وممتلكاتهم ويتبع ذلك اعتقالهم وأثناء الاعتقال يستعمل معهم أشد أنواع الإهانة والعنف والتعذيب على مستوى فردي ودوري حتى يصيب الدور الجميع ثم يعاد وهكذا وفي الوقت نفسه لا يتوقف التكدير على المستوي الجماعي بل يكون ملازما للتأديب الفردي .

وهذه المرحلة إذا ما نفذت بدقة ستؤدي إلى ما يأتي :

بالنسبة للمعتقلين  : اهتزاز المثل والأفكار في عقولهم وانتشار الاضطرابات العصبية والنفسية والأمراض والعاهات فيهم .

بالنسبة لنسائهم : سواء كن زوجات أو أخوات أو بنات فسوف يتحررن ويتمردن بغياب عائلهن , وحاجتهن المادية قد تؤدي إلى انزلاقهن ,ويجب تشجيعهن على ذلك بطريقة أو بأخرى.

بالنسبة للأولاد : سوف تضطر العائلات لغياب العائل وحاجتهم المادية إلى توقيف الأبناء عن الدراسة وتوجيههم للحرف والمهن ,وبذلك يخلو جيل الموجهين المتعلم القادم ممن في نفوسهم حقد أو ثأر أو آثار من أفكار آبائهم .

المرحلة الثانية

إعدام كل من ينظر إليه بينهم كداعية ومن تظهر عليه الصلابة , سواء داخل السجون أو المعتقلات أو بالمحاكمات , ثم الإفراج عن الباقي على دفعات , مع عمل الدعاية اللازمة لانتشار أنباء العفو عنهم حتى يكون ذلك سلاحا يمكن استعماله ضدهم من جديد في حالة الرغبة في اعتقالهم حيث يتهمون بأى تدبير ويوصفون حين ذلك بالجحود المتكرر لفضل العفو عنهم .

وهذه المرحلة إن أحسن تنفيذها باشتراكها مع المرحلة السابقة ستكون النتائج كما يلي :

1- يخرج المعفو عنه إلى الحياة فإن كان طالبا فقد تأخر عن أقرانه ويمكن أن يفصل من دراسته ويحرم من متابعة تعليمه .
2- إن كان موظفا أو عاملا فقد تقدم زملاؤه وترقوا وهو قابع مكانه , ويمكن أيضا أن يحرم من العودة إلى وظيفته أو عمله .
3- إن كان تاجرا فقد أفلست تجارته , ويمكن أن يحرم من مزاولة تجارته.
4- إن كان مزارعا فلن يجد أرضا يزرعها حيث وضعت تحت الحراسة أو صدر بها قرار استيلاء .

وسوف تشترك جميع الفئات المعفو عنها في الآتي :

1- الضعف الجسماني والصحي والسعي المستمر خلف العلاج والشعور المستمر بالضعف المانع من أية مقاومة .
2- الشعور العميق بالنكبات التي جرتها عليهم دعوة الإخوان وكراهية الفكرة والنقمة عليها .
3- عدم الثقة التي ستتولد في كل منهم عن الآخر , وهي نقطة هامة لها أهميتها في انعزالهم عن المجتمع وانطوائهم على أنفسهم .
4- خروجهم بعائلاتهم من مستوى اجتماعي إلى مستوى أقل نتيجة لعوامل الإفقار التي أحيطت بهم .
5- تمرد نسائهم وثورتهن على تقاليدهم وفي هذا تحقيق الإذلال الفكري والمعنوي للكل لاختلاف السلوك بين البيت والخارج .
6- كثرة الديون عليهم نتيجة لتوقف إيراداتهم واستمرار مصروفات عائلاتهم .

النتائج الإيجابية لهذه السياسة

1- الضباط والجنود الذين يقومون على تنفيذ هذه السياسة سواء من رجال الجيش أو البوليس سوف يعتبرون فئة جديدة قد ارتبط مصيرها بمصير هذا الحكم ليحميه من أى عمل انتقامي في المستقبل .
2- إثارة الرعب لكل من تسول له نفسه القيام بمعارضة فكرية للنظام
3- وجود الشعور الدائم بأن المخابرات تشعر بكل صغيرة وكبيرة وأن المعارضين لن يتستروا وسيكون مصيرهم أسوأ مصير .
4- تلاشي فكرة ارتباط الدين بالسياسة تدريجيا .

والأمر مفوض لسيادتكم

توقيعات
على صبري
صلاح نصر
لواء سعد زغلول عبد الكريم
لواء حسن طلعت
العقيد شمس بدران

حرب الإسلام مستمرة مع تغير الحكومات

نريد أن نذكر القارئ أن ثورة 23 يوليو قد قامت ولها هدفان : القضاء على الإخوان لمنع نهضة إسلامية في الشرق والعالم والثاني هو الصلح مع إسرائيل صاحبة الكيان العضوي المتصل بالولايات المتحدة الأمريكية .

وقد اشترك الغرب والحكومات العميلة في تحقيق هذين الهدفين .

وكما رأينا وعلمنا وشاهدنا فهم لم يحققوا نجاحا يذكر في هذا , اللهم إلا أمورا شكلية تتهاوي أمام النقد والتحليل وإن ضرب الإخوان في مصر وفي بعض البلاد على النحو الذي علمنا , فلا يفوتنا الانتشار الهائل الذي حققته تلك الجماعة في وجود مراكز قوية لها في العالم العربي وأوروبا وأمريكا ناهيك عن الثروة والقوة التي أفضت إليها الظروف بعد سنوات الاضطهاد الطويلة والسؤال هل يستطيع أعداء الإخوان المسلمين القضاء عليهم ؟

والإجابة : لا حسب ما نلاحظ ونشاهد من تطورات الوقائع وسير التاريخ وسؤال آخر يلح علينا , هل يمكن للحكومات العميلة أن تكف عن حرب الإخوان بشكل خاص والتجمعات الإسلامية بوجه عام ؟

والإجابة لا بالتأكيد .

لماذا ؟

لأن حرب الإخوان من جانب الحكومات العميلة أساسي وضروري في بقائها .

فهناك عقد غير مكتوب بينها وبين أصحاب السيادة الحقيقية في عالم الإسلام , وهي الولايات المتحدة الأمريكية .

ومضمون هذا العقد أو ما يظهر لنا منه كل حين أن تقوم الحكومات العميلة بتنفيذ طلبات وأوامر السادة أصحاب السيادة أو يفقدون مقاعدهم في حكم بلادهم المكنوبة بهم .

قد أثبتت الحوادث أن جميعهم ضعيف أمام سلطان الدنيا والجاه والمال الحرام , وكلهم على استعداد لأي شئ .

السادات يقوم بدوره

وعندما حكم السادات وكانت البلاد والعباد غارقة فيما يسمي اصطلاحا بالشيوعية الأمريكية .

وهو سيادة المفاهيم الإشتراكية مع الاحتفاظ بالسيادة الأمريكية , وكان لابد من تغيير المناخ تمهيدا لتوقيع الصلح مع إسرائيل , وكانت كل الدواعي والأمارات تؤكد أنه الذي سيقوم بهذا التوقيع , وفي سبيل ذلك كان هناك برنامج طويل محصن قام على تنفيذه قوم آخرون .

ولابد أن ينتهي هذا برنامج بضرب المسلمين !

وقد نقل إلينا الدكتور على جريشة بعض هذه الوثائق ننقل عنها بتصرف .

سري للغاية

من " ريتشارد . ب. ميتشل .

إلى : رئيس الخدمة السرية بالمخابرات المركزية الأمريكية .

بناء على ما أشرتم إليه من تجمع المعلومات لديكم من عملائنا ومن تقارير المخابرات الإسرائيلية والسرية والتي تفيد أن القوة الحقيقية التي يمكن أن تقف في وجه اتفاقية السلام المزمع عقدها بين مصر وإسرائيل هي التجمعات الإسلامية وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين بصورها المختلفة في الدول العربية وامتداداتها في أوروبا وفي أمريكا الشمالية.

وبناء على نصح مخابرات إسرائيل من ضرورة توجيه ضربة قوية لهذه الجماعة في مصر قبل توقيع الاتفاق ضمانا لتوقيعه ثم لاستمراره , وفي ضوء التنفيذ الجزئي لهذه النصيحة من قبل حكومة السيد / ممدوح سالم باكتفائها بضرب جماعة التكفير والهجرة .

ونظرا لما لمسناه من أن وسائل القمع والإرهاب التي اتبعت في عهد الرئيس ناصر قد أدت إلى تعاطف جماهير المسلمين وإقبال الشباب عليها مما أدي إلى نتائج عكسية .

فإننا نقترح الوسائل الآتية كحلول بديلة وهنا يتناول الخبير بعض المقترحات للقضاء على الحركة الإسلامية وهو يضع في حسابه التقرير الأول ويشير إليه وإلى أهميته ونظرا للتكرار فسوف نعرض للنقاط التي اقترحها باختصار على نحو ما .

أولا : الاكتفاء بالقمع الجزئي دون القمع الشامل والاقتصار فيه على الشخصيات القيادية التي لا تصلح معها الوسائل الأخرى المبينة فيما بعد .ونفضل التخلص من هذه الشخصيات بطرق أخري تبدو طبيعية .

ثانيا : بالنسبة للشخصيات القيادية التي لا يتقرر التخلص منها فننصح بإتباع ما يلي :

1- تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلامية الفارغة المضمون , وغيرها من الأفعال التي تستنفد جهدهم وذلك مع الإغداق عليهم أدبيا وماديا وتقديم تسهيلات كبيرة لذويهم , وبذلك يتم استهلاكهم محليا وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية .
2- العمل على جذب أصحاب الميول التجارية والاقتصادية إلى المساهمة في المشروعات المصرية الإسرائيلية المشتركة المزمع بمصر بعد الصلح ,
3- العمل على إيجاد فرص عمل بعقود مجزية في البلاد العربية البترولية الأمر الذي يؤدي إلى بعدهم عن النشاط الإسلامي .
4- بالنسبة للعناصر الفعالة في أوروبا وأمريكا نقترح ما يلي :
أ‌- تفريغ طاقاتهم في بذل الجهود مع غير المسلمين ثم إفسادها بواسطة مؤسساتنا .
ب‌- استنفاد جهودهم في طبع وإصدار الكتب الإسلامية مع إحباط نتائجها .
ت‌- بث بذور الشك والشقاق بين قياداتهم لينشغلوا بها عن النشاط المثمر .

ثالثا : بالنسبة للشباب نركز على ما يلي :

1- محاولة تفريغ طاقاتهم المتقدة في الطقوس التعبدية التي تقوم عليها قيادات كهنوتية متجاوبة مع السياسات المرسومة .
2- تعميق الخلافات المذهبية والفرعية وتضخيمها في أذهانهم .
3- تشجيع الهجوم على السنة المحمدية والتشكيك فيها وفي المصادر الإسلامية الأخرى .
4- تفتيت التجمعات والجماعات الإسلامية المختلفة وبث التنازع داخلها وفيما بينها .
5- مواجهة موجة إقبال الشباب من الجيش على الالتزام بالتعاليم الإسلامية خاصة التزام الفتيات بالزى الإسلامي عن طريق النشاط الإعلامي والثقافي المتجاوب .
6- استمرار المؤسسات التعليمية في مختلف مراحلها في حصار الجماعات الإسلامية والتضييق عليها والتقليل من نشاطها .

هذا ما نراه من مقترحات حلا لمشكلة التجمعات الإسلامية في هذه الفترة الدقيقة , وفي حالة اقتناعكم بها نرجو توجيه النصح للجهات المعنية للمبادرة بتنفيذها مع استعدادنا هنا للقيام بالدور اللازم في التنفيذ.

توقيع
ريتشارد . ب. ميتشل .

دراسات علمية للقضاء على ظاهرة الصحوة الإسلامية , وتفضي إلى توصيات محددة المعالم , ويقوم على تنفيذها بعض القردة والخنازير وليس في حسبانهم أو في حسبانهم أن نهضة هذه البلاد لن تقوم أبدا إلا على أساس قويم من الدين , وليس هناك من شك أنهم لا يريدون هذا وأنهم ليسوا في خدمة الشعب ولا يعنيهم مستقبلة في قليل أو كثير .

وثائق أيام السادات أيضا

السيد رئيس الجمهورية

بالإشارة إلى تعليمات سيادتكم بخصوص تكوين لجنة مكافحة التطرف الإسلامي لدراسة ومتابعة موضوع تحركات المنظمات والجمعيات والاتحادات الإسلامية وتقديم اقتراحات لمكافحة تسييس الدين أو تديين السياسة .

نرفع لسيادتكم التقرير النهائي المرفق ونرجو أن يحظي برضاء سيادتكم وموافقتكم على الإجراءات المقترحة حتى نبدأ في تنفيذها .

وقد عرض التقرير النهائي حسب تعليمات سيادتكم على مساعد الرئيس بيجن وعلى خبير الشئون الإسلامية بالسفارة الأمريكية , وقد اقترحا التعديلات المبينة بالتقرير .

وتجدوننا يا سيادة الرئيس رهن إشارتكم لحماية البلاد ومكاسب السلام الذي حققتموه لنا بعد طول انتظار .

وتفضلوا سيادتكم بقبول اسمي آيات الولاء والإخلاص

التوقيع
حسن التهامي

هكذا يعرضون تقريرا يتضمن خطة للقضاء على المسلمين على السيد مساعد الرئيس الإسرائيلي بيجين .

ويعرضونه كذلك على خبير الإسلاميات بالسفارة الأمريكية. يأخذون منهما مقترحاهما ويضعونها موضوع التنفيذ . هل هناك هوان أعظم من هذا ؟

هل هناك " خيبة " أعمق من هذه ؟

لا أظن !

( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ )

ثم يغضبون عندما يتهمهم الشباب بالكفر !

ولا ينبغي أن يفوتهم أمر , وهو أن الذين يسربون مثل هذه الوثائق المكتوب عليها " سري للغاية " يكرهونهم ويعملون على زوالهم ويرفضون أعمالهم المقيتة , ويحاولون إبطال مخططهم في حرب الإسلام والمسلمين .

ونعود إلى تقرير السيد حسن التهامي ذلك اللغز العجيب الذي لم تفك طلاسمه بعد:

موضوع التقرير :

مكافحة تسييس الدين أو تدين السياسة

مقدمة :

حسب تعليمات سيادتكم ضمت أقسام مكافحة جماعة الإخوان المسلمين المنحلة في مباحثات أمن الدولة والمخابرات الحربية والمخابرات العامة ( الأمن القومي ) وكونت لجنة واحد جديدة مختصة بهذا الموضوع مع توسع صلاحيتها ومسئوليتها , وسميت اللجنة على حسب التعليمات : ( لجنة مكافحة تسييس الدين أو تدين السياسة )

أعضاء اللجنة

- السيد حسن التهامي رئيسا للجنة .
- السيد فكري مكرم عبيد نائب للرئيس
- السيد وزير الداخلية
- السيد رئيس المخابرات العامة والأمن القومي
- السيد رئيس مباحث أمن الدولة.
- السيد رئيس المخابرات الحربية
- شخصيا استعانت اللجنة بآرائهم وخبراتهم :

1:- السيد خبير المتابعة بالمباحث ( وكانت مهمته في السابق تجميع وتحليل الأخبار والآراء في أوساط الإخوان المسلمين بالمدارس والجماعات والسجون والمعتقلات )

2- السيد نائب غبطة البابا المسئول عن التنسيق مع الجمعيات الإسلامية .
3- خبير الشئون الإسلامية بالسفارة الأمريكية وهو المندوب المقيم في مصر للهيئة المسماة ( لجنة مكافحة التطرف الإسلامي ) التابعة لوكالة الأمن القومي الأمريكي .
4- مساعد الرئيس بيجن للشئون الإسلامية .

( ملحوظة: ليت لرئيسنا مساعدا للشئون الإسلامية مثل الرئيس الإسرائيلي لرعاية الإسلام وليس للقضاء عليه. المؤلف )

حساسيات :

تسجيل اللجنة الصعوبات التي قابلتها من تحرج وحساسيات بعض الشخصيات التي طلبتم منا الاستعانة بها ومشاركتها , ومثل نائب غبطة البابا , والخبير الأمريكي ومساعد الرئيس بيجن , حيث أنه رغم توضيحاتنا لهم أن اللجنة هيئة علمية وموضوعية بحتة , تبحث الموضوع من الناحية العلمية ,ولا دخل لها بحساسيات دينية أو محلية , وأننا بحاجة إلى خبرتهم في هذا الموضوع للوصول إلى الهدف في أقصر مدة ممكنة , غلا أنهم أصروا على ألا تذكر أسماؤهم في التقارير لتأكدهم من انتشار المتعاطفين مع المتطرفين الدينيين في الإدارة الذين نقترح تصفيتهم لأنه عن طريقهم تتسرب المعلومات .

تعميق مراجع الموضوع تاريخيا

روعي حسب التعليمات الاستعانة بتقارير الإدارات السابقة في هذا الشأن :

1- تقرير الإدارة البريطانية السابقة في العهد الملكي البائد .
2- تقارير البوليس السياسي في عهد الرئيس النقراشي والرئيس عبد الهادي .
3- تقارير الحكومة الوفدية .
4- تقارير المباحث العامة حتى سنة 1957 .
5- تقارير السفارة الروسية من سنة 1957 إلى سنة 1970 .
6- تقرير اللجنة المؤلفة برئاسة رئيس الوزراء سنة 1965 .

حقيقة هامة :

التقرير الأخير رقم 66 وهو تقرير سنة 1965 بخصوص جماعة الإخوان المسلمين المنحلة اعتبر المحور الأصلي الذي دارت خلاله المقترحات حسب الظروف الحاضرة حيث وجد أن التوقف عن متابعة تنفيذ هذا التقرير هو الذي أدي إلى استفحال المشكلة التي نحن بصدد علاجها الآن .

التقرير

بعد دراسة واستعراض الوسائل التي استعملت والنتائج التي تم الوصول إليها بخصوص مكافحة الإخوان المسلمين في السابق ومتابعة الجمعيات الدينية مثل أنصار السنة المحمدية , عباد الرحمن , التبليغ , شباب محمد , الجمعية الشرعية , حزب التحرير , والجمعيات الإسلامية بالكليات والمعاهد والمدارس وأئمة المساجد المشهورين من ذوي الشعبية الملموسة وجد أن كل التركيز يجب أن يكون على مكافحة الإخوان المسلمين حيث أنهم تحولوا من جماعة دينية إلى مدرسة فكرية أممية تتحرك بلا مركزية , تضحي ببعض العناصر المكشوفة للظهور العلني وتترك باقي الأفراد ومهمتهم كلهم التحرك السري لنشر الأفكار وتوسعة رقعة الأتباع في المحيط المحلي الدولي ,وقد رأت اللجنة أنه ليس من المستبعد أن أفكارهم وخططهم هي التي طبقت في الثورة الدينية في إيران بواسطة الخوميني.

حيث أثبتت التحقيقات في خطة الهضيبي سنة 1954 في محاولة القيام بثورة دينية أجهضتها السلطات المصرية هي في غالبيتها الخطة نفسها التي طبقها أعوان الخوميني هي بث الفتنة والتحريض الشعبي على مظاهرات دائمة تغذيها أبواق من خطباء المساجد ورجال الدين وتحرسها فئات مسلحة ومدربة ,ولذلك سوف يثير البلبلة والتردد في صفوف رجال الشرطة والجيش والإعلام والسياسة الذين ستنتابهم حتمية إعادة النظر في المستقبل هل سيكون للحكومى التي سيطيعونها أم لمدبري الثورة التي ستحاكمهم وتنتقم منهم على مقاومتها إن نجحت ؟

بناء عليه تحددت أهداف العمل المقترح في الآتي

1- رصد أفراد جماعة الإخوان وأتباعهم .
2- غسل مخهم من أفكارهم .
3- منع عدوي أفكاري من الانتقال لغيرهم

ثم تركز القرارات حول ما سبق تقريره أيام الملهم الأول .

ويرسمون خطوات ويطلبون من الحكومة أن تقوم على تنفيذها ولعلهم لو عكفوا على تأليف كتاب يصلح لكل الحكومات للتصرف بموجبه وليكن اسمه مثلا" المعجم اللاتيني في مواجهة المد الديني " ويمتحن كل وزير أو مسئول في هذا الكتاب قبل تعيينه لكان خيرا لهم .

المهم مقرراتهم لا تتجاوز كثيرا مقررات أسلافهم وينتهي التقرير بتوقيعات من اشتركوا على صياغته

ويضيفون إليه بعض المقترحات .

أولا : مقترحات مساعد الرئيس بيجن

تركزت اقتراحاته على تجربة الشاه في استخدام البهائيين واليهود في المراكز الحساسة وهؤلاء حافظوا على أسراره وأسرار الدولة حتى لحظة خروجه , وأيضا شبهوه باستعمال الحلفاء لليهود الذين لم يمكن الشك مرة في تحالفهم مع هتلر وحافظوا على أسرار الحلفاء حتى النصر .

لذلك أقترح :

1- الاستعانة بالعناصر القبطية في الأماكن الحساسة التي يمكن تسرب المعلومات منها أو التعاطف الديني على ألا يكون العنصر القبطي هو الظاهر بل يكون له مساعد تنفيذي مسلم .
2- تدريب شباب الأقباط على مكافحة الشغب وتسليحهم لأنه في حالة أى انفجار غير متوقع من المتطرفين فإن ميليشيا قبطية شعبية يجب أن تساعد قوات الحكومة النظامية التي قد يصيبها أو يؤثر فيها دعاية المتطرفين على أنها تحارب أخواتها في العقيدة
3- إمداد جهاز غبطة البابا بمطبعة مناسبة وبوسائل اتصال حديثة توصله رأسا برئيس جهاز الأمن القومي ورئيس اللجنة كما فعل هذا من قبل مع رئاسة الجمهورية .
4- وضع طائرة هليوكوبتر تحت أمر غبطة البابا .
5- الاستعانة بأعضاء نوادي الروتاري واللاينز وإعطائهم مزيدا من التسهيلات والرعاية حيث أهم مبادئهم الدين لله والوطن للجميع .
6- لم يوافق بتاتا على الخطة الاحتياطية وقال : إنه يجب الاستمرار في سياسة إبطال مفعول الفتيل وتجنب المواجهة العنيفة بقدر الإمكان حتى لا يوصف العهد بأنه عهد ديكتاتورية .

ثانيا : اقتراحات خبير الشئون الإسلامية بالسفارة الأمريكية

1- وافق على مقترحات مساعد الرئيس بيجن فيما عدا البند الأخير حيث قال : إنه يفضل أن تسير الخطوط كلها متوازية ومتساوية وسياسة حكومته هي بتر التطرف من أوله بدلا من مواجهته عن استفحاله .

2- أضاف رأيه بعدم الاستهانة برئيس الإخوان لمجرد أنه تجاوز الـ 75 وذكرنا بأن الخميني أكبر منه سنا عمره 78 سنة .

هذا هو نشاط حكومتنا الرشيدة بأشكالها المتعددة وأسمائها المختلفة ورؤسائها الذين يجيئون واحدا بعد الآخر .

وهو نشاط ليس في خدمة الشعب بالتأكيد .

غاية همهم القضاء على الإسلام ويمكن من خلاله أن يكونوا أقوي الأمم .

"ولن ترضي عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم "

عندما قامت الدولة الجديد في مصر الحديث بعد انقلاب 23 يوليو سنة 1952 كانت هناك أهداف محددة يعلمها الذين قاموا بالانقلاب بمعني الذين عملوا على نجاحه وتمكينه , أما العناصر التي نفذته فمنها من يعرف هذه الأهداف ,ومنها من هو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير فهو لا يعرف ما يدور , كل ما يعيه بذلة كاكية غبراء على كتفيها علامة من صفيح لامع , فهو ينفذ أمر من هو أعلي منه دون وعي أو فهم أو علم , وهذا هو قانون العسكرية الخالد الذي قد يصلح في كسب المعارك الحربية ولكنه سيئ النتيجة بالتأكيد في إدارة الأمم والشعوب .

تنفيذ الأوامر في الحروب دو مناقشة من دواعي كسب المعارك , فهي أوامر تتم في خلال خطط تفصيلية أشرف على رسمها خبراء , ولا مجال للاجتهاد والتفكير إلا في حدود كيفية تنفيذها بدقة , ومن دواعي نجاح الخطط في الحروب الالتزام بها وهو لا يتم إلا بتنفيذ الأوامر .

وفي مجال التوسع المدني وصناعة الحضارة وإقامة المجتمع فإن الأمر يختلف والمنهج يتغير وليست هناك أوامر ينبغي تنفيذها دون مناقشة بل يجب مناقشة كل تفصيلة , والعدول عن الأمر إن كان تنفيذه يضر ولا يفيد .

وحكومتنا الرشيدة عكست هذا المنهج فهي تسمح بالاجتهاد وعدم تنفيذ الأوامر في المعارك الحاسمة الفاصلة , بل هي في الأصل لا تضع خططا محترمة ومعتمدة للدفاع أو الهجوم , وتترك لأى واحد صغر أو كبر أن ينفذ ما يشاء ويرفض ويعدل ما يريد .

ولله الحمد فقد خسرنا كل المعارك التي دخلناها لأننا خالفنا المناهج العلمية التي ينبغي في مثل هذا المجال فلم تكن ثمة خطط , وكانت أوامر مرتجلة تضر ولا تنفع .

وفي الحياة المدنية وتنمية المجتمع وبناء البنية الأساسية خالفنا أيضا القواعد العلمية لتحقيق هذه الغاية ,واعتمد المنهج على تنفيذ الأوامر بغض النظر عن صوابها أو خطئها ولا يملك مرءوس مناقشتها ولو كان هذا المرءوس وزيرا أو خبيرا أو عالما أو صاحب اختصاص نادر .

والرئيس ضابط أولا وأخيرا – الرئيس أى رئيس – وقد تعود على إلقاء الأوامر وتعود على عدم المناقشة بل من يسمعها عليه تنفيذها ولو كانت خطأ وتؤدي إلى الخراب ,وعليه أن يضيف أن هذه الأوامر كانت سببا في الصلاح والفلاح وعليه أن يزيد وأن يدلل على ذلك ويثبت هذا للناس .

- متى ينتهي العمل في هذا الكوبري :

- فيقولون له :

- ينتهي بعد عام يا افندم .

ويتجهم الرئيس ويلقي أوامره :

- عليكم الانتهاء منه خلال شهر .

ويرفع الجميع أيديهم بالتحية وفي صوت واحد :

- تمام يا افندم .

ولا يفكر واحد فيهم أن يخبر سيادة الرئيس أن الانتهاء من هذا الكوبري لا يمكن أن يتم في شهر , وأن هذا مخالف للنواميس العلمية .

وينفذون إرادة الرئيس .

وينتهون من العمل خلال شهر .

ويفتتحه الرئيس ويسير فوقه على قدميه .

وفي صبيحة الافتتاح تجد البراميل الحمراء وقد أغلفت مدخله ومنعت المرور لأنه لا يصلح للسير فوقه ويغلق هكذا سنين أو ما شاء الله له أن يغلق .

والسبب أنه لا يوجد مرءوس مهما علا عنده القدرة والشجاعة ليقول :

- يا سيادة الرئيس لا نستطيع أن ننفذ ما تقول لأنه ضد الطبيعة ويضر بالمال العام .. وأنت يا سيادة الرئيس ليست هذه هي المجالات التي تتحدث فيها أو ينبغي أن تكون أوامرك متسقة مع الصالح العام ومع منطق الأشياء .
- وإن أصر الرئيس فعلي المرءوس – إن كانت لديه الكرامة – أن يستقيل .
- والمثير للسخرية والضحك أنهم يفعلون كل شئ ويقولون حسب توجيهات السيد الرئيس فجعلوا منه خبيرا في كل شئ وهو ليس كذلك , وأرغموه على احتقارهم وازدرائهم فلم يعد يحسب لهم حسابا في شئ .

وبالله عليكم .. دلوني على رئيس في أى بلد من بلاد الدنيا يفهم كل شئ غير رئيسنا !

كل رؤساء الدنيا لديهم المستشارون والخبراء وينزلون على رأيهم وحكمهم أما رئيسنا – تحت أى اسم كان – فهو يخضع المستشارين والخبراء لحكمه ورأيه وهو غير خبير , ولا دارية له بما يأمر به .

وهذه خطة خبيثة تولي كبرها اليهود والنصارى والذين أشركوا

الرئيس يأمر والكل يشيد بعبقريته

حدثني رئيس مجلس إدارة لإحدى شركات المقاولات التابعة للقطاع العام الذي خسّر مصر " الجلد والسقط" كما يقولون أنه عند سير العمل في تعمير مدن القناة بعد انتهاء الحرب , وكانت هذه الشركات قد كلفت بهذا فقال .

- فوجئت بقرار أن تقام المباني بالحجر الجيري الضخم ,وأنه على الشركات العمل على تنفيذ هذا . وتعجبت فهذا قرار خاطئ وهو يكلف المشروعات كمية من الأسمنت تزيد عما هو مفروض بثلاثين في المائة بالإضافة إلى ندرة الأيدي العاملة في هذا المجال , وحاولت الاتصال بالمسئولين الكبار فأخبرني أحدهم وهو مهندس كبير هو الآخر أن هذا قرار سياسي .

وقلت له ما دخل السياسة بتعمير مدن القناة ؟ المسألة مسألة دراسة جدوى وتحقيق أحسن النتائج بأقل التكاليف .

يقول صديقنا المهندس :

- وما زلت أبحث وأتحرى لأعرف السبب الخفي وراء هذا القرار وجدواه فأنا أعمل في مجال الإسكان والبناء منذ أربعين عاما وأراه قرارا ضارا بكافة المعايير ثم عرفت السر .

وانتبهت إليه مهتما :

- وما السر ؟

- قال :

- بينما كان الرئيس السادات في جولة تفقدية ومعه من يعلم ومن لا يعلم في مجال الإسكان وفي غير مجال الإسكان , وصار ينظر إلى الخرائب التي خلفتها الحرب , وفجأة لمح استراحة لم تحطمها الطائرات , وكان هذا مصادفة وبناؤها من الحجر الجيري ووقف السادات وتوقف خلفه من معه وقال :
- أريد أن تبني كل مدن القناة بمثل هذا النوع من الحجر .
وتهللت الوجوه , وارتفعت صيحات الاستحسان لعبقرية الرئيس وبعد نظره .

وتقدم مشير تلك الأيام وقال :

وهذا يا افندم يفيد من الناحية العسكرية أيضا , وصدر القرار ببناء كل مدن القناة بالحجر الجيري وأحدث ذلك ارتباكا كبيرا وارتفاعا في أسعار الأسمنت والحديد والرمل والزلط دون فائدة .

ولم يجرؤ واحد قط أن يقول للرئيس أنت لست ملهما في موضوع الإسكان .

أصبح الرئيس هو الذي يعرف كل وغيره جهلة ينتظرون توجيهه فيدلهم على ما يفعلون في مجالاتهم التي عاشوا حياتهم فيها يدرسون ويتعلمون ويتدربون وأصبح الرئيس هو الأول والآخر وينبغي على الجميع خدمته وطاعته كسلاطين العصور الوسطي فهو واهب ومجري الأرزاق والباسط والمانع والقادر على ما يشاء والعياذ بالله , ومن ثم مجال للتفكير في غيره .

وخدمة الشعب والناس هي آخر شئ يفكر فيه خدم السلطان .

وتتطور الأمور بهم ومعهم فتتكون منهم عصابة لا تفترق في شئ عن عصابات اللصوص وقطاع الطرق وتجارة المخدرات وبيع الأعراض , ويكون هدفها السيطرة عليه وإرضاءه وخداعه وغشه على حساب كل قيمة عليا قد تكون لها بذرة بعيدة قديمة في نفس أحدهما .

وهم يعملون دائبين على قهر الشعب وسحقه فهو طريقهم الوحيد لإرضاء صاحب السلطان والعلوم والتمكن والثروة والجاه .

وببساطة وبالتطور الطبيعي للأشياء صارت الحكومة في مصر هي عدو الشعب الأكبر الذي لا يرحمه ولا يساعده أبدا بل يعمل دائما على القضاء عليه وإضعافه ,ويسهر السدنة والكهنة يفكرون ويدبرون لإصدار القوانين التي تضر بمصالح الناس وتحدث فيهم شللا لا يمنعهم من النشاط فحسب , بل يمنعهم من التفكير ويعيشون في متاهة يحاولون فيها الخلوص إلى تحقيق أهدافهم الحياتية اليومية فحسب , وليس أكثر من ذلك .

وقد وصل المجتمع إلى غاية الدرك من الفساد والإفساد في تلك الأيام التي نعيشها الآن في العصر الذي يحلو للبعض جهلا أو زورا أن يسميه عصر الطهارة والنقاء وحرية الكلمة , ففي هذه الأيام النكدة فقدت الكلمات مدلوها ولم تعد تعني ما تدل عليه في المعاجم وكتب اللغة , بل هي تعني عكس ما تعارف عليه الناس وفهموه .

واعتادت الحكمة ذلك واعتاد الناس أيضا ذلك !

فعندما يعلن وزير الصحة انه لا يوجد ما يسمي " بالحمى المخية الشوكية " فتأكد من وجودها , وتيقن أنها فتكت بالكثير من المواطنين المساكين , ويعرف ذلك أهل الموتى الذين أصيبوا بهذا المرض القاتل والذين قاموا بتشييع الجنازات والذين يبحثون عن العلاج في كل مكان فلا يجدون .

وعندما يقول وزير التموين إن السلع متوافرة , وإن رغيف العيش في كل مكان,وإنها أزمة مفتعلة وليست حقيقية فتأكد من كذبه وتضليله عندما تبصر الطوابير وهي تسد عين الشمس أمام المخابز وكل واحد في انتظار حصته الضئيلة من الخبز, وعندما تذهب إلى قرية من قري الريف المصري وتبصر بعينيك الناس يقفون أمام المخبز من قبل طلوع الشمس إلى أن تقرب من الغروب , وقد تحدث المشاجرات وقد يذهبون ببعض الضحايا إلى المستشفي وهناك من قتل في انتظار الخبز , فعندما تبصر هذا بعينيك وتسمعه بأذنيك, ثم تسمع وزير التموين يقول بدون خجل : ليست هناك أزمة خبز . فعندها تتيقن من أن الكلمات قد فقدت مدلوها , وعندما تعرف أن هؤلاء الحكام قد فقدوا الشرف والحياء , وعندها لا يأتيك الشك أن بطن الأرض خير من ظهرها لنا أو لهم وبأية طريقة !

ثم نأتي إلى عجيب العجائب وغريبة الغرائب , وزير الداخلية المصري – أى وزير داخلية وعلى الأخص الوزير الحالي – يقول كلاما يختلف عن واقع الأشياء كلية والناس يرون ويسمعون ويعرفون أن كلامه يدل على عكس مدلوله حتى صرنا أضحوكة بين الأمم .

يقومون على تزوير الانتخابات – أية انتخابات – والناس يرون هذا علانية في كل ناحية من نواحي البلاد , ويرون الشرطة وهي تزور , ويرون بعض رجال القضاء وهم يزورون , ويرون فتوات الحزب الوطني وهم يزورون بالشومة والسكاكين والسلاح , ويتم هذا كله تحت سمع الناس وبصرهم , ولن تعدم تسعين شاهدا من بين كل مائة مواطن ,وإن تعجب فعجب قولهم إن الناس قد أقبلت على صناديق الانتخابات بنسبة مائة في المائة , يعني خمسة عشر مليونا من الناخبين قد ذهبوا إلى الصناديق للإدلاء برأيهم ,وهذا من الهراء الذي لا يختلف فيه اثنان .

ولا تستطيع أن تفهم لماذا يصرون على هذه الصيغة العجيبة !

انتخابات ! ويقومون بتزويرها !

ويعرف هذا الناس في مصر وفي خارج مصر .

فما الفائدة التي تدور في رءوس هؤلاء الناس ؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين والتحديد, فهي أمور لا يدرك سرها غير الذين يقومون بها وهم أدري بمصلحتهم فيها , نحن بعقلنا المحدود لا نستطيع أن نصل إلى ما يفكرون فيه .

ولكننا بالتأكيد نفهم ما يعملون ونعرف ذلالته وإلى أين ينتهي بالبلاد والعباد ونحن نفهم أيضا أن الذين زرعوا هذا المنهج في رءوس " المدربين " من الوزراء والحكام هم اليهود والنصارى والذين أشركوا .

( ولن ترضي عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم )

وهؤلاء هدفهم واضح وبسيط ... أن يخفت صوت الأذان في كل مسجد وفي كل بقعن يتردد فيها .. يريدوننا عبيدا لهم وأتباعا ويظلون هم السادة والمتحكمين في أرزاقنا , يقدمون لنا بعض المنح ويأخذونها أضعافا مضاعفة من التجارة المقررة علينا , والبضائع المفروض شراءها ولا ينبغي لنا أن نمتنع ,ولنضرب مثلا بالأسلحة فكل منحة يقدمونها قد أخذوها سلفا من ثمن الدبابات والطائرات ولتدفع هذه الأموال التي قرروها ثمنا للأسلحة على عشرات السنين ... لا يهم .. المهم أن نبقي مربوطين من أعناقنا في حذاء الشيطان الأكبر .

الولايات المتحدة الأمريكية

ومن بعده شيطان أصغر منه حجما ,ولكنه يتبادل اللعب علينا وخداعنا معه .

الاتحاد السوفيتي

وهما توأم نزلا من بطن اليهودية العالمية حقنوهم بمصل خبيث لا شفاء منه جعلوا منهم آلهة كاذبة لا يرد لهم قول في زعمهم اختاروهم على علم من بين المعوقين والمجرمين ومن ليست لديهم قدرة على العطار توخوا نهمهم للأخذ والاستيلاء بغير حدود علموهم كيف يسرقون وينهبون وكيف يستحلون ما حرم الله وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا, نفخوا فيهم روحا خبيثة حولتهم من بشر يمشون على الأرض إلى طواغيت ذواتهم أكبر من أى شئ حولهم .

قالوا لهم أنتم الأعلون وكل من في بلادكم هم الأدنون , احكموهم بالحديد والنار والعسف والجبروت واقتلوا مواطنيكم حيث ثقفتموهم ,احذروا الدين ففيه هلاككم وضياع ملككم .

ولو تحكم الإسلام في بلاد فسوف يقضي على المفسدين وأنتم كما تعلمون كذلك فاحذروه وحاربوا كل من يدعو إليه ,أو هي المشانق في انتظاركم جزاء وفاقا للجرائم التي ارتكبتموها , وهي كما تعلمون كثيرة لا تحصي .

ماذا قال منير دلة قبل أن يموت ؟

كنا في تلك الأيام بمعتقل أبي زعبل السياسي وحشروني في عنبر الزعماء – خطأ وجهلا منهم – وكان بهذا العنبر الشهير مجموعة من كبار جماعة الإخوان المسلمين وكان به أيضا مجموعة من المريدين والدارسين في هذه المدرسة وكنت واحدا من هؤلاء .

وكان بهذا العنبر عدد من المفكرين والمنظرين وأصحاب المواقف الصلبة المتشددة والسياسيين المهرة الذين يعرفون ماذا يريد الأقوياء أن يفعلوه بالضعفاء .

وكنت أجلس إليهم لأسمع وأفهم وأتعلم وأعرف تاريخ هؤلاء المجاهدين وكان ممن كنت أجلس إليهم وأهتم بحديثهم المرحوم منير دلة عضو آخر مكتب إرشاد للإخوان قبل نكبة 1954 ,وكان له تاريخ في الجماعة وأحد قلة اشتركوا في صناعة تاريخ تلك الفترة , وكان يعرف بانقلاب يوليو قبل وقوعه .

وباختصار كان أحد الذين يعرفون حقائق الأمور وتفاصيل ما حدث مع الضباط الأوغاد وقيادة الإخوان حتى انتهت الحال إلى ما نعرف من النكبات التي توالت على هذه الجماعة .

وكان أول عهدي به حذرا يميل إلى الحديث في الأدب والموسيقي والتاريخ ولكن تغلبه نزعته ويطغي عليه تاريخه فتراه يتحدث في السياسة والدين ودور الإخوان المسلمين وأحيانا يفارقه حذره تماما ويحلق كأن أحدا لا يسمع , وكأن ليس أحد من الجواسيس الذين ينقلون الأحاديث يجلس هنا أو هناك .

وكان بعض الأغرار لا يفهمون هذه الشخصية العجيبة الصامدة فربما لم يره أحد والسياط تمزقه في مبني مجلس قيادة الثورة عام 1954 , وربما لم يره أحد كما رأيته وساقاه مسلوختان في نكبة عام 1965 .

وقد حدثني من لا أتهم أن جمال عبد الناصر كان يوصي بالمرحوم منير دلة شرا ويؤكد على الجلادين أن يسرفوا في عذابه وأن يبالغوا في عقابه لتهم لا يعرفها وجرائم لم يقترفها .

وكانت هذه هي طبيعة حال " الملهم " يبالغ في النكال بمن يعرف أكثر وأقسى ممن لا يعرف حتى جاء أمر الله فمات وهو كاره للموت .

خطأ لم يستطع الإخوان تجنبه !

كان منير دلة رحمه الله يقول :

- حاولت المخابرات الإنجليزية معرفة ماذا يدور خلف أبواب الإخوان المسلمين بلا فائدة ,وحاولت أن تقدم الدعم المالي للجماعة فيسهل عليهم قيادها بعد ذلك وكل هذا تكسر أمام فهم ووعي الإمام الشهيد حسن البنا .

جاءه مرة أحد رجال المخابرات الإنجليزية وكانوا يخفون هويتهم الحقيقية تحت أية وظيفة أو عنوان في السفارة وقال له :

نحن نحارب الشيوعية وانتم تحاربون الشيوعية ,وإمكاناتكم ضعيفة , أما نحن فلا حدود لما نستطيعه ويمكن لنا أن نمدكم بما تريدون من مال .

ورد عليه الإمام الشهيد بأن الإخوان يفضلون الوقوف أمام الشيوعية بطريقتهم ودون عون من أحد وتلطف إليه بحزم ليفهمه ذلك.

وعاد رجل المخابرات يقول له :

أنت في حاجة إلى سيارة وسائق ومبلغ مناسب من المال لتواجه به الأعباء التي أنت بصددها .

وشكره الإمام الشهيد ورفض هذا العرض وأنهي المقابلة وقبل أن ينصرف رجل المخابرات قال له :

ماذا يريد الإخوان على وجه التحديد ؟

وقال له الإمام الشهيد :

ما نريده نكتبه في نشراتنا وفي صحفنا وفي شعبنا وتستطيع أن تأتي إلي المركز العام يوم الثلاثاء فتسمع بنفسك إجابة عن سؤال .

وزاد رجل المخابرات في إلحاحه فقال :

أريد أن أعرف ماذا يفعل الإخوان وراء الستار؟

وابتسم الإمام الشهيد ونظر في ساعته :

ليس هناك ستار وعندي موعد قد حلّ وقته .

وانصرف الرجل حائرا ويشرد منير دلة ببصره كأنه يتذكر الماضي القريب - كانت جماعة الإخوان المسلمين – إن جاز التعبير- كتمثال خلف ستار , لا يراه أحد غير صاحبه الذي يقوم على صنعه كل يوم , فيزيد هنا وينقص من هناك ,والناس يمرون عليه ولا يعرفون ماذا يخفي هذا الستار خلفه , وكان صاحب التمثال ينوى ألا يرفع الستار قبل أن ينتهي من إعداده واستكماله .

ولكن الأحداث لم تمهله فوجد نفسه يوما وقد اضطر لرفع هذا الستار فرأي العالم كله ماذا يزمع أن يكون . جاءت حرب فلسطين فرفع الستار عن جماعة الإخوان فإذا بالنشاط الديني الذي كانت تمور به الشعب يخرج أفواجا من المجاهدين المسلحين المدربين الذين ذهبوا إلى فلسطين .

وهنا أدرك العالم والغرب على وجه الخصوص خطورة هذه الجماعة وأهمية القضاء عليها .

هل كان ذهاب الإخوان إلى فلسطين للقتال خطأ نبه الأعداء إليها ؟ وهل كان يمكن وهم يقولون :

الجهاد سبيلنا .. والموت في سبيل الله أسمي أمانينا , ثم تأتي هذه الفرصة وتمر دون أن يقوموا فيها بدورهم ؟ ثم يقول :

- الذي أفهمه أن يحارب الإخوان أعداءهم الغرب واليهود , ولكن الحكومات التي تحكما من أبنائها وأخواتنا ما بالهم يفعلون هذا .

- ثم يستدرك ويقول :

- ولكنها حكومات ليست في خدمة شعوبها بل هي في خدمة أسيادها ومن يضمنون لهم الحكم والسلطان .

الإخوان يريدون تحرير غرناطة

وتذكرت قصة رويت لي :

كان عبد الحكيم عابدين من أقطاب الإخوان صديقا لطه حسين عميد الأدب العربي , وكان يرافقه أحيانا عند خروجه من كلية الآداب إلى بيته ,والتقي بهما أحمد لطفي السيد ذلك الذي يقولون عليه أستاذ الجيل وتحدث قليلا إلى طه حسين الذي قدم إليه عبد الحكيم عابدين .
وهنا سأل أحمد لطفي السيد.

-ما الذي يريده الإخوان بالضبط ؟

وانبري عبد الحكيم عابدين يشرح أهداف الجماعة ومقاصدها حتى قاطعه طه حسين قائلا لأحمد لطفي السيد:

- سوف أخبرك بما يريده الإخوان المسلمون في عبارة واحدة هم يريدون تحرير عرناطة واسترداد الأندلس .

- ولعلي قد ذكرت هذه القصة في موضوع آخر لاستدلال آخر .

وما فهمه طه حسين هو نفس ما فهمه الغرب عن الإخوان .

وقد يأخذ طه حسين وأحمد لطفي السيد هذا الكلام مأخذ الهزل ..

ولكن الغرب يأخذ هذا الكلام مأخذ الجد .

واليهود يضعونه في حسبانهم كنتيجة حتمية إن سكنوا عنها ..

فهؤلاء قوم يصنعون خططهم لتأتي بنتيجتها عبر مئات السنين .

وهم يفهمون هذا المنهج جيدا وقد جربوه فأتي بأحسن النتائج لهم .. ومن ثم فهم لا ينتظرون حتى يأتي أكله ولو كان ذلك بعد قرون .

فقد أخذ الغرب درسا عظيما من معركة بلاط واليهود ولكن الحكومات التي تحكمنا من أبنائها وإخواتنا ما بالهم يفعلون هذا .

ثم يستدرك ويقول :

- ولكنها حكومات ليست في خدمة شعوبها بل هي في خدمة أسيادها ومن يضمنون لهم الحكم والسلطان .

الإخوان يريدون تحرير غرناطة

وتذكرت قصة رويت لى :

كان عبد الحكيم عابدين من أقطاب الإخوان صديقا لطه حسين عميد الأدب العربي ,وكان يرافقه أحيانا عند خروجه من كلية الآداب إلى بيته , والتقي بهما أحمد لطفي السيد ذلك الذي يقولون عليه أستاذ الجيل وتحدث قليلا إلى طه حسين الذي قدم إليه عبد الحكيم عابدين .

وهنا سأل أحمد لطفي السيد :

- ما الذي يريده الإخوان بالضبط ؟

وانبري عبد الحكيم عابدين يشرح أهداف الجماعة ومقاصدها حتى قاطعه طه حسين قائلا لأحمد لطفي السيد :
- سوف أخبرك بما يريده الإخوان المسلمون في عبارة واحدة...

هم يريدون تحرير غرناطة واسترداد الأندلس .

ولعلي قد ذكرت هذه القصة في موضع آخر لاستدلال آخر.

وما فهمه طه حسين هو نفس ما فهمه الغرب عن الإخوان وقد يأخذ طه حسين وأحمد لطفي السيد هذا الكلام مأخذ الهزل ولكن الغرب يأخذ هذا الكلام مأخذ الجد ..

واليهود يضعونه في حسبانهم كنتيجة حتمية إن سكتوا عنها ..

فهؤلاء قوم يصنعون خططهم لتأتي بنتيجتها عبر مئات السنين .

وهم يفهمون هذا المنهج جيدا , وقد جربوه فأتي بأحسن النتائج لهم .. ومن ثم فهم لا نتظرون حتى أكله ولو كان ذلك بعد قرون .

فقد أخذ الغرب درسا عظيما من معركة بلاط الشهداء .

ولن ينسي الغرب سقوط القسطنطينية تحت جحافل الأتراك المسلمين أبدا ,, وهو يذكر دائما البحارة المسلمين الذين احتلوا جنوب سويسرا ..

وأولئك الآخرون الذين نزلوا مقر البابا لأيام في قرون خلت وكاد يتغير التاريخ لولا السنة الغالبة والخطة الأبدية التي تنتظم من حولها الأحداث وتتسق معها ولا تناقضها أبدا , فهي نواميس الكون , وهي غربة كما قال الإمام الشهيد .

هم لن ينتظروا حتى يصل الإخوان المسلمون إلى تحقيق الهوية الإسلامية عبر مخطط يطول أو يقصر وقت تنفيذه

لن ينتظروا حتى يبرز المسلمون كقوة جديدة في عالم قد أنهكه الاستعمار ومزقته الحروب فهو يستشرف شيئا في الغيب لا يراه .

لهذا لابد من ضربهم ضربا مبرحا حتى لا يفيقوا !

والإجهاض لازم وضروري لكل من تحدثه نفسه " بحمل " جديد يتحدى به إرادة العالم القديم وعلى الأخص إن كان يحمل راية إسلامية تتموج وتخفق مع ترجيعات الأذان التي تملأ السهول والبقاع .

هي حرب قديمة التاريخ بين الكفر والإسلام .

كانت هذه الحرب سافرة يوما عندما كان الإسلام واضحا والكفر بينا ثم غطت وجهها مع اختلاف القيم والمفاهيم وتشابه الخلق على الناس . ثم صار لها نمط مختلف وشكل لا يكاد يبين إلا للعارفين .

استطاع الغرب بقواه المختلفة أن يقضي على الأمل الباقي الضعيف في استيقاظ المسلمين من خلال بعض رموز الإصلاح والنهضة الذين ظهروا مع أفول العثمانيين مثل مدحت باشا ومحمد على باشا على تحفظات منا عليهما وعلى غيرهما , ولكن حصافة الراصدين أدركوا أن هؤلاء وأمثالهم يستطيعون أن يضخوا دما جديدا في شرايين الخلافة العثمانية , ومن ثم يمكن أن ينهض عالم الإسلام من جديد فلم يدخروا وسعا في القضاء عليهم , ونجحوا في ذلك نجاحا باهرا في غفلة من المسلمين وترديهم في ظلمات الجهل والضلال والغفلة المستمرة , التي يسلمها جيل إلى جيل .

ولكن حدثت تطورات ,وأدي سقوط الخلافة إلى نمو الوعي الإسلامي وإدراك المسلمين لفداحة الخطب .

وتطورت الأمور وظهرت جماعة الإخوان المسلمين كتعبير عن الرغبة في إحداث تغيير كبير يعيد الأمور إلى نصابها من وجهة نظر إسلامية مع الأخذ في الاعتبار عوامل الابتداء حيث يعترها الكثير من ظواهر النوم الذي كان ولا يزال مسيطرا على آفاق كثير من المسلمين .

وفهم الغرب هدفهم وما يريدون ,واستطاعوا ترويض الحكومات على أن يعمل كل فرد فيها على تنمية مصالحهم الذاتية مضحين بكل مصلحة وطنية أو قومية أو دينية , ولا يزالون على هذه الحال حتى صار الحكم فسادا عظيما , نما وكبر حجمه في عصر الثورة , وبدت صورته الكالحة في أبشع ما فيها من صور في تلك الأيام غير المجيدة حيث نعيش آخر حكمهم إن شاء الله , ومن خلال هذا الفهم وذلك السلوك الذي درجت عليه الحكومات وبلغ أوجه مع حكومة الثورة علموهم ودربوهم على كراهية الشعب والناس .

وليست غفلة من الحكومة أن تستصدر قوانين تعمل على تفسيخ الأمة وزيادة النكد في حياة الناس ,وليس جهلا أن تمارس الحكومة كل ما تستطيع من ضغط وقهر وإرهاب .

هي حكومة لا تعمل في صالح الناس , وهي تعمل على القضاء عليهم بوعي منهم أو بغير وعي .. هذا لا يهم مادامت النتيجة واحدة .

وكانت خطة الغرب وممثلها الأعظم الولايات الأمريكية في ذلك النصف الأخير من القرن العشرين عندما تخلت بريطانيا العظمي عن هذا التمثيل أن تقضي على جماعة الإخوان المسلمين مهما ادعي أى مدع قصورا في حركتها وطرقها , فقد قامت الثورة في عام 1952 ومن أهم أهدافها غير المعلنة أمران رئيسان .

الأول : هو القضاء على جماعة الإخوان المسلمين

الثاني : هو الصلح مع إسرائيل .

( ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا )

فالشيطان يقدر ويدبر ويعدهم ويمنيهم والقرآن يقول : ( بل لله الأمر جميعا )

افتريت المفتريات ورأينا كيف سارت الأمور إلى التنكيل البشع بجماعة الإخوان المسلمين عام 1954 م.

وظنوا أنهم قد انتهوا منهم ونسوا أنهم يحاربون قطاعا كبيرا من المصريين لهم امتداد كبير إلى خارج البلاد وفي أقصي أركان المعمورة ثم فوجئوا بأنها توتي أكلها في عام 1965 مثل أية شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء .

ثم كان التنكيل المروع الذي حضرت فصوله وعشتها ولم يكن أحد من الإخوان في حسبانه أن يكون العذاب على هذه الدرجة التي أدت إلى إزهاق الأرواح من العذاب وتشويه الأجساد من الضرب .

ولم تأبه الحكومة التي ليست في خدمة الشعب أنها إنما تعادي المجتمع المصري كله عن بكرة أبيه ممثلا في هذه الجماعة التي امتدت عروقها وأوراقها إلى كل بقعة وبيت في تغلغل يصعب اقتلاعه من القلوب والبيوت والشوارع .

وعندما تم التنكيل وكان لهم ما أرادوا – ولو إلى حين - أمر الملهم بتشكيل اللجان لبحث ظاهرة التدين التي يسير من خلفها الإخوان ودرسوا الكتب ليروا كيفية القضاء عليها ( والله غالب علي أمره ) والحكومة كما قلت ليست في خدمة الشعب .

ماذا بقي منهم للتاريخ ؟

1- الذي رفعت إليه المذكرة الزعيم الملهم قد حدث له ما حدث ولم يترك الحياة حتى جعل إسرائيل أقوي دولة في المنطقة , وجعل مصر تقع في ذيل قائمة الدول العربية بعد جيبوتي .
ثم طردت من جامعة الدول العربية والحديث عنه يطول .
2- السيد على صبري بعد أن أوشك أن يكون رئيس للجمهورية بعد موت الزعيم الملهم وقع مع الثعبان الأرقم أنور السادات الذي لدغه حيث كنا نقيم عشر سنوات , وهو في بيته الآن يلعب الكوتشينه ويدخن السجائر وينظر من النافذة ويبصر موكب الرئيس حسني مبارك وأحشاؤه تغلي من الحقد والحسد وما زلنا ننتظر موته حتى كتابة هذه السطور .
3- صلاح نصر حوكم في محكمة الثورة التي شكلت برئاسة حسين الشافعي وظهر من المحاكمات أنه قد حول مصر إلى دار كبيرة للدعارة وأنه كان أكبر قواد على مستوى القمة ... كما ظهرت عمليات الكنترول التي كان يقوم بها السيد الوزير صفوت الشريف , وظهر للعالم أجمع أن ميزانية مصر كانت تصرف على تصوير الفنانات في أوضاع مخلة بالآداب وأنه فكر في التجارة بهذه الأفلام الجنسية فبدأ حياته ثائرا وانتهي فنانا ثم حوكم وسجن , ووقف مرة في شرفة مستشفي القوات الجوية يصرخ في الناس أنه صلاح نصر , وكان المارة ينظرون إليه بإشفاق وسخرية ثم ينصرفون , ثم دخل عليه حرسه وضربوه ضربا شديدا وأعيد إلى السجن , ثم مات ولم يشعر بموته أحد , وذاق من كأن المهانة والمرارة التي سقي منها الجميع , وقد ألفت الكتب عن فساده .
4- سعد زغلول عبد الكريم . أهين وزال الصولجان والهيلمان,وبعد أن كان يفعل ما يشاء باسم المباحث الجنائية العسكرية صدر أمر ولي النعم فعين في وظيفة دون مقامه رئيسا لسلاح الحدود , وفي اليوم الأول لاستلامه العمل دخل مكتب رئاسة السلاح بعد أن أذلوه وألبسوه بدلة اللواء التي لم يعد يرتديها بعد أن ارتفع مقامه ,ووقف في وسط الحجرة , وكانت مرآة أمامه فرأي الرتب على كتفيه فأدرك أى هوان صار إليه .. وخلع الكاب ووضعه على المكتب ثم سقط ميتا من هول ما حدث له !
5- اللواء حسن طلعت طرده السادات ووضعه في السجن قليلا ثم خرج منه وسمعنا أنه صار يرتدي الجلباب الأبيض ويذهب إلى المساجد وعلى الأخص مسجد السيدة نفيسة وصار يهرب من لقائه مرءسوه لكثرة طلباته بعد أن كانت نظرته أمرا , ورغبته شيئا واجب التحقيق , ومازلنا ننتظر موته حتى كتابة هذه السطور .
6- شمس بدران الذي كان يضع ساق فوق ساق , ويجعل الحذاء في وجه محدثه ولو كان برتبة لواء , وشمس كما تعلمون عقيد , رأيته في السجن يلبس الخيش ثم خرج وغادر البلاد ,وسمح له بذلك لأمور لا نعرفها , وقيل إن فيلما كان له قد قام بإخراجه السيد الوزير صفوت الشريف أيام كان يعمل بالإخراج إنه فوجئ وذهل عندما علم بقصة هذا الفيلم ,ثم سافر إلى لندن وقيل إنه صار مليونيرا , وعلمت بعد ذلك أنه يعيش على الإعانات في شقة بسيطة في لندن وما زلنا ننتظر موته حتى كتابة هذه السطور .

ملاحظات حول المذكرة التي رفعت يوما للزعيم الملهم للقضاء على الإخوان

واضح من صيغة المذكرة وأن من يجتمع لفحص حالة الإخوان ممن يتسنمون أعلي المناصب في البلاد , وأنهم يجتمعون لهذا الغرض عشرة اجتماعات , ويراجعون التقارير والإحصاءات ويدققون في البيانات أن آخر ما كان يفكر فيه هؤلاء الناس هو مصلحة مصر وحسن إدارتها.

فإن نظرت إلى المناصب العليا التي اجتمعت تجدهم كما هو مبين :

1- رئيس الوزراء
2- رئيس المخابرات
3- قائد المباحث العسكرية
4- رئيس مباحث أمن الدولة .
5- شمس بدران , " وهو اسم ومنصب في آن واحد "

كل قيادة مصر تقريبا !

والبلاد على شفا حرب مع إسرائيل كما يقولون !

والجيش المصري قد أذل اليمنيين واليمنيون قد ضربوه بالأحذية في تلك الجبال الجرداء الشاهقة التي لم يرها المصريون من قبل ولا في منامهم .

يجتمعون للقضاء على الإخوان وتشريد أسرهم وتجويع بناتهم وسلب الدين والكرامة من أبنائهم بينما هم لا يقدرون على انسحاب كريم أو غير كريم من جبال اليمن .

وهنا لا يملك الإنسان ألا يعقد مقارنة بين قوات الإنجليزالتي احتلت مصر أكثر من سبعين عاما فلم تفعل في تاريخها هذا كله ما فعلته القوات المصرية بشعبها المسكين وجيرانه العرب .

استطاعوا إرهاب مواطنيهم وتخاذلوا وفروا أمام أعدائهم وهم قليل بكل المعايير الخاضعة للعلم والإحصاء .

وليس لمتتبع التاريخ وقائه أن يجد هذا النمط العجيب من الكلام .

دولة تسخر كل قواها وطاقتها من أجل القضاء على جماعة من الجماعات يمثلون قطاعا كبيرا من الشعب , وكان الزعيم الملهم " قد استغل عضويته بهذه الجماعة مطية كي يصل من خلالها إلى الحكم قد فعل .

ولا أدري هل كان السيد على صبري رائد الإشتراكية التي توفيت في عز شبابها بمصر – إلا قليلا – يجد الوقت ليقضيه في اجتماعات ليبحث كيفية القضاء على أفراد جماعة ويفكر والعصابة التي جلس إليها في كيفية تزييف التاريخ وطمس معالم الدين وإعداد الخطط لفصل الدين عن السياسية وتغيير مناهج تدريس التاريخ الإسلامي .

تغيير مناهج الدين وتدريسه ومناهج التاريخ الإسلامي وتدريسه !

وهذا أمر لم يفعله " كرومر " المعتمد البريطاني وخبيره " دنلوب ".

والسبب في ذلك أن الأخيرين كانا أصحاب دين مهما ملأهم التعصب والرغبة في القضاء على الإسلام وتحويل كل المسلمين في مصر إلى المسيحية.

ولكنهم استخدموا عامل الترغيب , وتركوا الجماعات التبشيرية تعمل عملها وساعدوا ولم يمثلوا ضغطا على المصريين في ترك الإسلام

تماما مثلما فعل الفاتحون المسلمون عندما فتحوا مصر وطردوا منها من كان فيها من البيزنطيين تركوا الناس على دينهم ولم يرغموا واحدا على ترك دينه والدليل على هذا " نيافة الأنبا شنودة " الموجود الآن , الذي يفعل ما يشاء ويقول ما يريد , ويطلب ويطلب ولا يفتح مسئول واحد فمه بكلمة يرد فيها على طلباته والله أعلم بما يدور في الخفاء .

كان أولي برئيس الوزراء – إن كان حقا رئيسا للوزراء- أن يهتم بمشكلات جسيمة تمر بها مصر ,وأن يفكر مع : الملهم " في سحب القوات من اليمن , وأن يتركا الشعوب في حالها بدلا من انشغاله في كيفية تشريد مواطنيه وتجويعهم وهم عدد كبير غير قليل .

وتحضرني قصة حكاها أحد المطلعين على الأمور تقول إنه في أوائل أيام الثورة عندما كان السيد على صبري وزيرا لشئون رئاسة الجمهورية ... نشرت مجلة " النيوزويك" صورته على الغلاف وفي داخلها كتبت كلمة عنه , قالت فيها إنه الرجل القوي في مصر .

ورأي ذلك أحد " الخباصين " وذهب وأخبر " الملهم "

وفي الصباح التالي جاء ما يسمي بالسيد على صبري كعادته إلى مكتبه فوجد صولا من سلاح الطيران يقف أمام باب المكتب المقفول وقال :

- ما فيش شغل النهارده

ورد عليه السيد على صبري مدهوشا :

- لماذا ؟

وقال الصول :

- سيادتك في أجازة .

- وقال السيد علي صبري :

- إذن آخد بعض الأوراق الهامة التي ينبغي النظر فيها .

وهم بدخول المكتب فمنعه الصول :

- ممنوع يا افندم

وخرج السيد على صبري من مبني الرئاسة – قصر القبة مقر الملك فاروق – وصار يبحث عن سيارته فلم يجدها .

واقتربت منه سيارة فاخرة من سيارات الرئاسة ووقفت بجواره ونزل السائق وفتح له الباب بينما نزل

المرافق وتقدم منه بأدب :

- اتفضل يا افندم ... أجازة سعيدة إن شاء الله .
- وركب ما يسمي بالسيد على صبري صامتا .
غادرت السيارة قصر القبة .

وقال على صبري متوجسا :

- الأجازة فين ؟

- ورد على المرافق في تلطف وظرف :

- في بور سعيد يا افندم .

واسترخي ما يسمي بالسيد على صبري مضطربا في مقعده ولكنه اعتدل :

- طيب نمر على البيت احضر حقيبة .

- ورد المرافق المدرب على هذه الأشياء :

- قد عملنا ترتيب كل شئ يا افندم .

وفي دهشة قال على صبري :

- أحضرتم حقيبة ملابسي ؟

- بعد خروجك بدقيقة واحدة .

- وأخذت السيارة بور سعيد , وعلى صبري يسأل والمرافق المهذب لا يرد عليه بكلمة واحدة حتى يئس فآثر الصمت .
- وهناك أنزلوه في مكان من الأماكن التي كانت قصرا لباشا ثم سرقوه وأدخلوه غرفة بها تليفون لا يعمل , ونافذتها لا تطل على شئ ,وأعطوه الحقيبة , وواحد يقف على باب الغرفة يمنعه من الخروج فالطعام يدخل إليه في مواعيده , وملحق بالغرفة دورة مياه , فما ضرورة خروجه إذن ؟

والرجل يسأل عن سبب هذا فلا يسمع إجابة , يطلب الإذن في مقابلة " الملهم " فيقولون له إن شاء الله وعندما أوشك على الانهيار أخذوه إلى القاهرة " ليقابل "الملهم "

وجلس في الصالون ينتظر مقابلة " الملهم " لمدة أربع وعشرين ساعة ,ثم جاءه أحد العاملين بالرئاسة وقال له :

- " الملهم " يقول إن أعصابك تعبانة تحتاج إلى راحة أسبوعا آخر وخرجوا به , وسأل مرافقه ليخفي اضطرابه :

- إلى بور سعيد ؟

ورد عليه المرافق بأدب وبرود :

- سوف نعرف المكان عندما نذهب .
- وأخذوه إلى الإسكندرية !

وبعد أسبوع بدت عليه أمارات الانهيار مرة أخري , وعادوا به إلى رئاسة الجمهورية , فالصالون , فأربع وعشرين ساعة فظهر " الملهم " ومعه مجموعة من الصحفيين المصريين والأجانب ,ومنهم الذي كتب المقال في النيوزويك .

ورأي السيد على صبري " الملهم " فأسرع إليه وانحني على قدميه يقبل حذاءه وسخر منه " الملهم " قائلا :

- أمال بيقولوا عليك الرجل القوي .
- وهكذا يصنع رجال الرئيس .... كل رجال الرئيس ....
- بالطبع المقصود بالرئيس هنا هو الرئيس جمال عبد الناصر .
أما رجال الرئيس السادات فكانوا يصنعون بطريقة أخري ,
أما الرئيس حسني مبارك فلم يصنع أحدا , فقد التف حوله وسار في ركابه من تمت صناعته من قبل ,وهذا قد يفسر الكثير مما غمض على الناس.

على أى حال ليس موضوعنا هو عهد حسني مبارك آخر حكام ثورة 23 يوليو فهذا سيتم بالتفصيل في زمن لاحق قريب إن شاء الله .

فقاعدة التاريخ الذهبية في مصر الحديثة والقديمة هو التأريخ لمن ماتوا !

ولا يجوز الكلام عن ملك أو رئيس أو زعيم إلا إذا حمل لقب " الراحل " بجوار اسمه !! نعم " الراحل " وليس " السابق "!

ولا يوجد في تاريخنا الحديث رئيس حمل هذا اللقب " السابق "!

فمحمد نجيب – رغم أنه كان رئيس جمهورية لمصر الحديثة – قد تم سحب هذا اللقب منه تماما كأن لم يكن , ولم يذكر إلا يوم نعيه في الجريدة فهو لقب محرم على الأحياء , ولا يلحق بأي اسم , وظني أنه لن يلحق بأي

اسم حتى يقضي الله أمرا .

وهذا أمر لو تعلمون عظيم !

ونعود إلى ما كنا فيه من هم مقيم .

كل قادة مصر يجتموعون للقضاء على ظاهرة التدين في مصر , والتدين على الطريقة الإسلامية على وجه التحديد !

ماذا يمكن أن نقوله تعليقا على هذا ؟

ربما نحن عقلاء نستطيع أن نفلسف الأمور , ونفهم طبيعة المستبد .

ولكن .. لو جاء من وصفهم بالكفر وحرب الإسلام فهل نستطيع أن نرد عليه ؟

لو جاء من تمرد وأطلق الرصاص وفجر الديناميت ألم يقدم له هؤلاء الحكام المبرر لهذا أمام أنفسهم على الأقل ؟

ونعود إلى الدولة وانشغالها بما يفيد أو مالا يفيد :

ها نحن أمام لجنة قد شكلت بأمر عال صادر من " الملهم ".

رئيسها على صبري

وصعب على القلم أن يكتب عنه وصعب عليه أن يتركه أيضا .

فقد كان هو همزة الوصل بين الضباط والأمريكان , ليس كما قالوا للبلهاء إنه كان يعرف الملحق الجوي العسكري الأمريكي فذهب إليه صبيحة الثورة ليقول له :

- أنا السيد على صبري , ولا تخافوا من شئ سوف نحميكم هذا ما ردده بعض الكتاب الذين يفترضون فينا السذاجة وهم كذلك .

فالمسألة ابعد من هذا .. لقد كان هو المكلف بالتفاهم بين الضباط والأمريكان.

بمعني أنه لابد من شخص ما يقوم بهذا الدور , وهو دور شبيه بدور ساعي البريد إلى حد كبير فهو يذهب إلى الضباط ويقوم لهم الأمريكان يريدون كذا وكذا على وجه التحديد , ومن المؤكد أنه يتلقي هذا من موظف صغير وليس من الملحق الجوي أو السفير وقد يتطور دوره قليلا ويتطوع فيعلق على ما تم للأمريكان :

قد تم إنجاز هذا ولكن كانت هناك بعض الصعوبات , أو يقدم بعض الاقتراحات في حدود ما يعلم أنهم يرضون عنه ويسير مع سياستهم وما يريدون .

وقد نافسه في سني الثورة الأولي بعض ضباط الصف الأول أشهرهم عبد المنعم أمين الذي اجتهد فخرج عن النص فضاع في بخار التاريخ , ثم جمال سالم الذي اجتهد أن يأخذ مكان " الملهم " من الأمريكان , ولكنه لم ينجح في ذلك , لأن الأمريكان كانوا قد مضوا قدما في طريق صناعة الزعيم , وهو ما يستلزم وقتا وجهدا ومالا , وهم " براجماتيون " يفكرون في مصالحهم أولا وثانيا وثالثا ولا مكان للمجاملات عندهم .

وغاية ما يمكن أن يقدموه لجمال سالم هو كأس من " الويسكي " الذي يفضله ليحتسبه مع سعادة السفير كنخب القضاء على الإخوان المسلمين مثلا .

ولا يمضون معه في اللعبة أكثر من هذا فهناك زعيم قد بدءوا في صنعه بالفعل وصارت خطتهم وأفكارهم واقعا لا يجوز التراجع عنه مجاملة لمخلوق أيا كان .

ولهذا كنت تري السيد على صبري يعذب الناس بوحشية في السجن الحربي وفي مبني البوليس الحربي وفي كل مكان حدث فيه تحقيق مع الإخوان ومن أجل أن يكون تقريره أكثر حركة وحيوية فلا يقول فيه قالت التقارير كذا وكذا بل يضيف إليه : وكنت أنا في المكان أعذب وأقتل بيدي فاطمئنوا .

وكان جمال سالم يحكم بالإعدام , حكم على ستة بنفسه وأمر رؤساء الدوائر الأخرى بالحكم , فحكم بالإعدام على أكثر من أربعين شخصا !!

وقد خاف الضباط من غضبة الشعب , ومن أنهم لم يتمكنوا من القبض على جميع الإخوان في مصر , ولا يعرفون على وجه التحديد حجم الأسلحة المخبأة ومع من ؟ ومتى تستخدم ؟ حتى جمال عبد الناصر كان يقول بعصبية عندما علم أن رجال النظام الخاص قد تم القبض عليهم :

- وأين المليون شخص الذين كانوا يقولون الله أكبر ولله الحمد في ميدان عابدين ؟ لقد رأيتهم وسمعتهم بنفسي ..
- ولا يجيبه غير رجع الصدى , فقد فعلت أجهزة الأمن غاية جهدها وساعدهم في هذا خبراء من بريطانيا وأمريكا وألمانيا , وقد قيل إن صاحب حادثة المنشية أحد ضباط الجستابو الذين استعان بهم الضباط في مطلع الثورة لترتيب القمع وتنظيمه حاف الضباط من إعدام الإخوان ,واعترض معترض , وصارت همهمات مضمومنها أنه يكفي الحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة , ونعذبهم ما دمنا نحكم ونتمتع بملك مصر .
- وقام جمال سالم وقال لمجلس قيادة الثورة :
- أنا أحكم بالإعدام وأنتم تخففون الأحكام ؟

وأخرج مسدسه وتوجه إلى جمال عبد الناصر وهو يهزه في يده مجنونا :

- وقع بالتصديق يا ابن.... وإلا أطلقت عليك الرصاص.
وضحك جمال عبد الناصر , ووقع مصدقا على أحكام الإعدام الأولي , وهو يحاول التخفيف من غضبة جمال سالم .
وقام زملاؤه يأخذون منه المسدس في رفق وهو يستشيط غضبا , وبينما يجذبونه بعيدا عن " الملهم " – ولم يكن قد صار ملهما بعد – التقط دواة من الحبر وقذف بها في وجه عبد الناصر ,ووصف السيدة الجليلة والدته بألفاظ لم يغفرها له الزعيم بعدها أبدا .

أما السيد على صبري فقد تدرج في السلم حتى صار رئيسا للوزراء وها هو ذا يرأس لجنة مكافحة النشاط الديني في مصر .

ولننظر إلى النشاط الديني الإسلامي في مصر اليوم لنعرف نتائج أعمال لجنته !

إن الظاهرة التي تعيشها مصر اليوم من فوره إسلامية منها المعتدل والهائج والمتطرف والضار والمفيد والواعي وغير ذلك. هي احدي نتائج أعمال هذه اللجنة الموقرة

انتشار الإخوان في العالم الإسلامي والثراء المادي

والمفهوم أن رئيس الوزراء يرأس الوزراء ويدير البلاد وله سياسة يعلنها على الناس ويدافع عنها , ولو واجهته في سبيل ذلك عقبات فهو يستقيل إن لم يستطع أن يذلل هذه العقبات , أما أن يرضي بأن يكون رئيس السقاة أو الطباخين فهو ما لا ينسجم مع أصحاب الكرامة والمروءة والشرف .

صارت الإدارة الحكومية تدور بقوة الدفع الذي أسسها محمد على ومن بعده إسماعيل واهتم الحكام الجدد بالسلب والنهب والغنائم والتمكين للملهم في الأرض .

ومنذ أن قامت الثورة لم تعد مهمة رئيس الوزراء هي السياسة وتنفيذ خطط الإصلاح والتنمية بقدر ما هي أساسية في قهر الشعب والقضاء على رجولته والنظر يمينا ويسارا بحثا عمن يبيعون له العمالة دون أن يعرف الطرف الآخر , ويخطب على صبري في المعهد الاشتراكي لتخريج المخبرين وكتبه التقارير ليس إلى أجهزة الأمن ولكن له من خلال التنظيم الطليعي فيقول :

- لابد لنا من أن نغير نمط سلوكنا وأن تتسم أخلاقنا بالإشتراكية .
ثم يركب سيارته التي يعادل ثمنها ثمن جميع الكوادر المخابراتية التي جمعوها من كل أنحاء القطر مهندسين وأطباء ومحاسبين ومعلمين .
يعلمونهم التصفيق حسب إشارة الدليل الذي يستخدم النظارة ليعلمهم النغمة المطلوبة , ويحقق التناغم المطلوب بين القاعدة العريضة والقيادة الملهمة الرشيدة وسائر ما كانوا يقدمونه لنا من كلام .
ويضبط السيد على صبري وهو يهرب من الجمارك إحدى عشرة سيارة نقل بأشياء ومعدات جاءت معه من الخارج ويطرد من الحكم .
- وهو لم يضبط فهو يفعل هذا طول الوقت وكل من معه من الاشتراكيين الكبار يفعلون هذا ولكن شاءت إرادة الملهم بطرده وما أسهل السبب .
ويومها يقف كبير المطبلين والمزمرين ويقول في صدر صحيفة الأهرام إن أحد موظفي مكتب السيد على صبري هو الذي فعل هذا , ونظرا لدقة الموقف فقد وضع السيد على صبري استقالته بين يدي " الملهم " !

ولم يأت خبر بعد ذلك هل قبلها ؟ أم رفضها ؟

المهم أن من يسمي بالسيد على صبري اختفي حينا ليس قليلا من الوقت ,ثم عاد بعد ذلك .

وليس أمام " الملهم " خيار فهو يتعامل مع مجموعة لا تتغير ولا يعرف غيرها وطبيعة نظام تفرض عليه هذا فهو يبعد واحدا ويضع غيره ثم العكس ولا تخرج هذه الحركة عن هؤلاء الأربعين الذين يعرفون سر المغارة .

وجاء " الملهم الثاني " بثمانين , وكانت حركته أكثر حرية .

أما " الملهم الأخير " فلا يعرف غير أربعة ولا ينبغي الكلام عنهم قبل الأربعين !

والكلام عن الوزراء ورئيس الوزراء يطول , فهم فعلوا كل شئ غير ما هو منوط بهم وهو حكم البلاد وتعميرها .

وكانت مهمتهم باختصار السرقة والنهب والتمكين للملهم في الأرض . وأحاديثهم كثيرة ومشتهرة وتكتب فيها الكتب .

وكان " الملهم " يتعامل مع الوزراء مباشرة إذا أراد , متجاهلا رئيسهم , مرة قال له أحد الوزراء

ولعله لم يكن يعي اللعبة جيدا على أثر توجيه ما :

- ولكن السيد على صبري يقول ..

ولم يتركه " الملهم " يكمل عبارته بل قاطعه :

- إيه على صبري ده ؟ ده باشكاتب عندي .. ده مخزنجي .... ياللا امشي اعمل اللي قلتلك عليه .

وانصرف الوزير يهز ذنبه اضطرابا .

هذه هي لعبة السياسة والحكم في مصر الثورة .

ومن لا يصدق فلينظر إلى البلاد اليوم وما آل إليه أمرها .

ومن اللجنة كان رئيس المخابرات صلاح نصر ,وهذا له فصل خاص لأهميته وتفرده في بلاد العالم الثالث والرابع والخامس.

ومنها سعد زغلول عبد الكريم رئيس المباحث الجنائية العسكرية والمباحث الجنائية العسكرية جهاز عجيب غريب لا مثيل له في أى مكان من بلاد الدنيا لغرابته وصلاحياته التي لا حدود لها .

وهي فكرة نبتت في رأس شمس بدران أحد أعضاء اللجنة التي شكلت للقضاء على دين الإسلام في مصر وتشكلت في أول الستينات عندما همس بها في أذن المشير وهما يدخنان الحشيش كما قالوا والعهدة على الراوي .

ولقد وجد شمس بدران أن بالبلد المخابرات العامة والمخابرات الحربية ومخابرات رئاسة الجمهورية ومباحث أمن الدولة ووزعت الغنائم والسلطة على أجهزة كثيرة فلماذا لا يكون له هو الآخر جهاز مثل هؤلاء ؟

وقد كان .. أخذ الإذن من المشير وكان لا يرفض له طلبا ولا يدري ماذا يفعل على وجه التحديد , وكانت المباحث الجنائية العسكرية .

وكل الأجهزة التي ذكرت غيرها كانت لها مهام محددة , صحيح أنها كلها تصب في المحافظة على " الملهم " من المؤامرات الوهمية ولكن كان لكل منها عمل ما يعملونه أو يتظاهرون بعمله .

إلا المباحث الجنائية العسكرية وقد حكم شمس بدران مصر من خلال هذا الجهاز العجيب الذي لم يخلق ما تشاء ولا معقب لحكمها .

المخابرات العامة لها مقرها في كوبري القبة حيث يعذبون الناس .

مباحث أمن الدولة اتخذت لها مقرا مختارا هو سجن القلعة .

واختار شمس بدران السجن الحربي مقرا للمباحث الجنائية العسكرية حيث التعذيب بضراوة لمجرد شهوة التعذيب .

وتدخلوا في كل شئ وصارت صلاحياتهم لا يعرفها أحد لأنها غير مكتوبة

أو محددة بقرار , فيكفي أن يريد شمس أو سعد شيئا فيكون .

وكانت لهم في عهدهم الذهبي قضايا مشهورة فهم مثلا يقبضون على موظفي هيئة النقل العام ويعذبونهم بحجة عدم انتظام العمل .

ويقبضون على بعض التجار لأسباب تموينية .

وعلى بعض المديرين في المصالح الحكومية بحجة أن هناك مختلسا صغيرا سرق خمسين جنيها .

وأذكر واحدا اسمه " زكريا بهنس " وكان يعمل مديرا في الهيئة العامة لتنمية الصادرات, وكان لى بعض الأصدقاء هناك , وكنت أتردد عليهم بين الحين والآخر للزيارة ومرة أخبروني أن " زكريا بهنس " قد أطلق علي نفسه الرصاص .

- لماذا ؟

- أحد الموظفين تحت إدارته اختلس مبلغا فقبضوا عليه .

- من الذي قبض عليه ؟

- المباحث الجنائية العسكرية .

- وما المباحث الجنائية العسكرية

وكانت النظرات حائرة لا تجيب فقد كانت وليدا جديدا , ولكنه ولد عملاقا في تسلطه وتجبره , وقد رأيت ذلك بنفسي أثناء استضافتهم لى .

- وكيف أطلق النار على نفسه ؟

- أخذوه وعذبوه عذابا شديدا وهو مدير عام ولا يعرف تفصيل هذه الاختلاسات , ثم أطلقوا سراحه بعد أن وعد بإجراء تحقيق وضبط المختلس ورد الأموال .
- وجاء مضطربا بالأمس القريب وسلم الزميل رمزي محمود المبلغ الذي اختلس من شخص لم يعرف ثم دخل بيته وأطلق النار على نفسه .

- وما دام قد رد المبلغ فلماذا قتل نفسه ؟

وقال لى واحد من الجالسين :

- أنا آخر من رأيته قبل الحادث , أخبرني أنه أهين إهانة لم يتصور أنها تمر عليه في حياته كلها .

ويمضي هذا الصديق فيقول :

- وبعد الحادث وقبل أن ينقل جاء ضابط المباحث الجنائية العسكرية وسأل عنه وعرف ما حدث .

- وقلت له بلهفة :

- وماذا قال ؟

وأخبرني هذا الصديق قائلا :

- قلب الضابط وجهة احتقارا في الواقفين , وكانت جثة زكريا خارجة على نقال في هذه اللحظة بمعرفة رجال الإسعاف وقال .. حمار ... لقد جئت لأخبره أننا قد أغلقنا الملف وحفظنا التحقيق .
وتقدم رمزي محمود وسلمه النقود التي أعطاها له زكريا بهنس قبل أن يقتل نفسه , ووضعها الضابط في جيبه وانصرف .

وسألت :

- كم كان المبلغ ؟

- ألفين من الجنيهات .
- وهل كتب بها إيصالا أو دونها في ...
- وضحك الجالسون رغم حزنهم على صديقهم الذي انتحر .

كان شمس بدران يريد أن يصنع لنفسه جهازا قويا كبيرا يحكم به مصر وكان له ما أراد وكان يدربهم على العمليات الصغيرة في جميع أجهزة الدولة ابتداء من الجيش وانتهاء إلى وزارة التموين .

وكان صلاح نصر يكرهه كراهية عمياء فقد كان يتميز عنه بجهاز مخابراته كان الاثنان خادمين عند المشير , وها هو ذا شمس يصنع جهازا يفوق جهاز المخابرات ويتغلب عليه .

وكان شمس بدران يمهد لوضع هذا الجهاز الجديد في تجربة كبيرة يثبت بها وجوده ويبرز أهميته لدي " الملهم " والمشير ومن ثم فلا يتسني لأحد من بعد أن يدق له إسفينا .

وكانت التجربة الكبيرة المثيرة التي دفع بها شمس بدران جهاز المباحث الجنائية العسكرية للتفوق والامتياز هي تجربة الإخوان المسلمين ونكبتهم عام 1965 .

اشترك الجميع في وزرهم , ولكن الوزر الأكبر يقع على عاتق الجهاز الجديد الذي ولد عملاقا .

وتأكدت شرعية المباحث الجنائية العسكرية بعد تجربة الإخوان .

ثم أرسلوهم إلى حرب الإقطاع والإقطاعيين .

وكما يفعل أصحاب العصور الوسطي ذهبوا إلى قرية وألبسوا كبيرها ملابس النساء وزفوه في طرقاتها وأرغموا الناس على ضربه وإهانته وهذا الكبير يصيح كل خطوة بأعلى صوته .

- أنا مرة ... أنا ... أنا ...

والضباط العظام على الخيل يضحكون ويتغامزون

ورحم الله " كرومر " فلم يفعلها في دنشواي .

وكان في اللجنة حسن طلعت مدير مباحث أمن الدولة في ذلك الوقت وهو أقلهم شأنا وقيمة وربما كان يكتب محضر الاجتماع أو يأمر لهم بالشاي والقهوة فهو – بعيدا عن لاظوغلي وبين هؤلاء الجبارة الذئاب – ليس سوى فأر صغير .

والمواطن المصري المسكين موضوع الاجتماعات العشرة صار حاله أكثر بؤسا , فقديما كانت هناك جهة واحدة تقبض عليه إن خرج عن القانون أو اشتبه في ذلك وكان اسمها البوليس , أما اليوم فصارت الجهات التي لها حق القبض عليه دون سبب كثيرة ومتنوعة , ولم يكن المواطنون أيامها يعرفون أسماء كل هذه الجهات .

وكنت في تلك الأيام أعمل في وزارة الزراعة وجمعتني جلسة مع أحد العمد المساكين الجهلة وكان يتعامل معي في ارتياب وحيطة , ولما اطمأن إلى ّ سألته عن سبب هذا الخوف مني فقال هامسا رغم عدم وجود أحد :

- ظننتك من الذين يقبضون على الناس .
- أنت تعلم أنني أعمل في الوحدة الزراعية

وضحك العمدة ضحكة الواثق الخبير وقال

- لقد أعطت حكومة الثورة الحق لكل وزارة بالقبض على أى مواطن ألم تسمع عن مباحث التموين ؟
- بلي ولكن الأمر يختلف مع وزارة الزراعة .

- ونظر إلى ّ بإشفاق وقال :

- أنت غلبان .. في هذه الأيام خذ حذرك من أى إنسان .

وكان من الطبيعي أن يختفي أحد المواطنين فترة من الوقت ثم يعود ولا يتكلم عن طبيعة المكان الذي كان فيه . ولم يكن أحد يسأله عنه .

فكل المواطنين متهمون بتهم لا يعرفونها . وهم يخالفون قوانين لم يعلنوا بها وعليهم إثبات ولائهم كل لحظة , والدين أمر كريه لا تقبله أمريكا ولا ترضي عنه روسيا .

والناس في حيرة لا يعرفون ماذا يفعلون فهم يصفقون ويطبلون ويزمرون ورغم هذا يقبض عليهم ويضربون ويهانون .

وهم حتى اليوم يعملون هذا ولكن بصورة مختلفة رغم أنهم قد أباحوا حرية النباح وهو أمر خطير لا يفهم أحد مغبته , ولكن نبأه يأتي بعد حين , فعندما يتكلم الإنسان بما يشاء , ويحرم تماما مما يريد, يحدث هذا تراكما كثيفا ينذر بتغيير النظام ونزول الستار بنهاية مأساوية دموية مؤثرة وهو المتوقع في حين قريب ,والظن أنه ليس جهلا أو تخبطا من الذين يقومون على تنفيذ هذا بل هدف واضح المعالم لمن صنعه يصلون إليه في أجل هم بالغوه .

أما رئيس المخابرات صلاح نصر فحديثه يطول .

وقد تضافرت كل هذه الأجهزة عن عمد وسبق إصرار وترصد على تسليم مصر عارية مكشوفة قد نزعت عنها ملابسها الداخلية على رمال سيناء المحرقة في يونيو عام 1967 .

الفصل الرابع عشر" ما أغني عني ماليه... هلك عني سلطانيه "حكاية صلاح نصر

( وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية * ما أغني عني ماليه * هلك عني سلطانيه * خذوه فغلوه * ثم الجحيم صوله * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحضّ على طعام المسكين * فليس له اليوم ها هنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون)الحاقة : 25 – 37

من أقوال اعتماد خورشيد

كنا نسمع الكثير عما يفعله سادة البلد وكيف استباحوا كل شئ وملكوا كل شئ ولا معقب لحكمهم إذا حكموا , ولا يوجد من يحاسبهم إذا صرفوا .

كانت كل العمليات المتعلقة بالمخابرات سرية وحساباتها أيضا سرية وقد حكيت في " البوابة السوداء " ما قصه علينا محمود نصر شقيق صلاح نصر , وكيف كانوا يذهبون إلى أوروبا لصرف مئات الألوف من الدولارات لشراء ما يشاءون وهو قد قال مليون دولار في " السفرية "!

ويتم الصرف تحت حساب عملية لها اسم كودي لا يجوز أن يطلع أحد على حساباتها لأهميتها وخطورتها ولضمان السرية .

وسلام عليك أيها الجهاز المركزي للمحاسبات !

وأذكر أنني سمعت مرة سيادة العقيد شمس يتحدث مع شخص آخر لا أعرفه وكانا يتمشيان بجوار الفسقية الشهيرة في السجن الحربي ,وكان الوقت شتاء وعويل السياط والكلاب يأتيان من الخلفية فيضفيان جوا رومانسيا على الحديث .

ويبدو أنه – أى شمس بدران – كان يتحدث إلى أحد أصدقائه قد جاء إلى زيارته في عرينه , وكل ما أذكره أنه كان متأنقا يرتدي ملابس فاخرة ويبدو ودودا لطيفا رغم ما يري ويسمع .

وكان الوقت ظهرا والعقيد شمس يعرض عليه أن يصحبه الليلة للعشاء , وأين يكون هذا العشاء ؟

في مطعم مكسيم الشهير بباريس !

وقال له شمس :

- سوف نتعشي وأنا حجزت بعد العشاء في " المولان روج " ونسهر سهرة ظريفة وسنأتي غدا قبل الظهر علشان أولاد الكلب دول .
وأشار ناحيتنا !
وكان الحديث غريبا عجيبا لا يكاد يصدق
واعتذر ذلك الرجل فهو مرتبط هذه الليلة على العشاء ولعله كان عشاء في لندن أو روما أو أية عاصمة أوروبية أخري .

يخرجون بالطائرة من مطار ألماظة الحربي أو أى مطار يعجبهم فهم أصحاب البلد .

ومعهم قواد يحمل النقود ويشرف على أن تتم السهرة في جو بديع لطيف بعيدا عن التحقيق مع أولاد الكلاب – كما سمانا – وعن صراخهم وعن عويلهم والموتى الذين يتساقطون بين الحين والآخر.

وسيادة العقيد أعصابه متعبة ويريد أني يروح قليلا عن نفسه .

ولتحيا الإشتراكية ولتبق حقوق العمال والفلاحين مقدسة إلى الأبد .

وصار شمس بدران يلح على صديقنا هذا في الذهاب معه إلى باريس للعشاء وهو يعتذر ويقول :

- إنت عارف يا شمس أنا ما اتأخرش عنك , ولكن سامحني أنا مرتبط .
- وكنت أسمع الحديث وكأنه فصل من المسرح العبثي لبيكيت .

هل هذا معقول أو جائز ؟

لقد كانت سياسة الدولة هكذا !

هؤلاء هم حرس النظام ولا يسأل عنهم أحد , ولا يراقبهم مخلوق , وليس هناك من يناقشهم الحساب ,وهم فجرة فسقة لا دين لهم , ظلمة يأكلون المال الحرام من كد الفلاح المسكين ,, والمواطن الذي يقف ساعات طويلة في ذلك الوقت حتى يأخذ كيلو من الأرز .

ومرت الأيام وخرجت من المعتقل , وأنعم الله علي وذهبت إلى باريس لأول مرة في زيارة عمل ودعتني الشركة المضيفة إلى العشاء في مطعم " مكسيم " وتذكرت الآية الكريمة ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال )

واعتذرت عن الذهاب إلى هذا المطعم ورجوت أن يكون العشاء في مكان آخر وأجابوني إلى طلبي مشكورين .

وأثناء العشاء في أحد المطاعم الفاخرة في غابة بولونيا حيث يقوم على الخدمة جيش من البارونات وأصحاب الألقاب الرفيعة أو هكذا تظنهم من فرط أدبهم وأناقتهم وفخامة المكان وروعته وصرت أتحسس الكلام سائلا عن تكلفة الوجبة في مطعم مكسيم , وفهمت أنها تساوي عشرة أضعاف مثيلتها في هذا القصر الذي نتناول فيه عشاءنا !

وازداد يقيني وإيماني بالله سبحانه وتعالي وعدالته .

وفهمت لماذا مثل الله سبحانه وتعالي بهؤلاء هذا المثير البشع , وكيف جعلهم عبرة لمن شاء أن يعتبر .

وأعود إلى " الفسقية " في فناء السجن الحربي أمام المكاتب .

وشمس بدران يلح على زائره وهو يعتذر .

وجاء من يقول للعقيد :

- احنا جاهزين يا افندم .

وقال شمس :

- طيب .. الواد .. ( وذكر اسما لا أذكره الآن ) لسه ما اعترفش ؟
- لسه يا افندم .
- قول لحسن خليل إني عاوز آجي بكره ألاقيه ميت .
- وكأنما تذكر شيئا!
- آه .. دا حسن خليل جاي معانا .. طيب مش مشكلة بكره يعدلها ربنا .
- نعم .. هكذا ! بكره يعدلها ربنا !

هو مسرح اللا معقول لبيكيت , وكانت موضته في تلك الأيام .

كل حارس من حرس النظام يفعل ما يشاء في موقعه , ويسخر كل الإمكانات التي تركتها أسرة محمد على لتحقيق مآربه ولذاته وشهواته, وليذهب الشعب بعد ذلك إلى الجحيم .

ليس عندنا ما نفعله لهم أكثر من هذا !!

هذه الأشياء قد عاينتها بنفسي وسمعتها بأذني لهذا لا أتعجب من تلك الوقائع التي اقرأها في التحقيقات التي أجريت حول انحراف صلاح نصر ومن معه من الرجال العظام ومنهم من يجلس على كراسي الحكم الآن .

فهم ذرية بعضها من بعض وهذا ما أثبتته الشجرة الخبيثة ولم يبق لها غير أن تجتث من فوق الأرض فمالها من قرار.

وفي أقوال اعتماد خورشيد الكثير الذي حذفناه لأنه تجاوز حد البذاءة وما ينبغي أن يقرأه أحد ولهذا قد ح ذفت منه الكثير لبشاعته وأثره الضار على أخلاق الشباب والشيوخ أيضا .

وفي أقوالها تجد نفسك تنساب مبهورا مسحورا غير مصدق في سراديب الشيطان .

حكاية صلاح نصر والمخابرات

المخابرات في كل بلاد العالم لها عمل محدود معروف وتقوم بخدمة جليلة لبلدها وتظهر نتائج هذه الخدمات وقيمة هذه الجهود في الحروب فهي تجمع المعلومات عن العدو وتقديمها للدولة حتى يتم التصرف بمقتضاها وهي تعمل أيضا على مكافحة نشاط تجسسي الأعداء في أرض الوطن وفق نظم متقنة وأساليب علمية وإتقان في العمل وتفهم له أولا وأخيرا .

هذا ما هو قائم في كل بلاد الدنيا إلا مصر .

فقد كانت المخابرات مهمتها الرئيسية هي السلطة والهيمنة على رئيس الدولة وخداعه وإفهامه أنه بدونهم يموت ولا يستمر نظامه شهرا كاملا .

أما مسألة جمع المعلومات عن العدو وتقديم ما يفيد لمن يهمهم الأمر فيعد من الأمور الثانوية تماما قد يأتي وقد لا يأتي وإن أتي لا يمكن الاستفادة منه لأن الدولة ليست مهيأة للحكم وحماية المجتمع بقدر ما هي مهيأة لخداع الحاكم وسلب أكبر قدر من الغنائم وضرب المواطنين والقضاء على الحركات الإصلاحية وإعدام أصحابها , وتجريد الوطن من كل داعية أو صاحب رأي وهذا ليس كلاما إنشائيا يقال , ولكنه واقع عشناه تدعمه الحقائق والوقائع التي ظهرت أثناء محاكمة صلاح نصر في قضية ما يسمي بانحراف جهاز المخابرات .

وهذا الكلام مضحك لأن " الملهم" يعرف أن جهاز المخابرات منحرف فما معني محاكمة رئيسه وأعضائه فجأة ؟

السبب في هذا أن " الملهم " اكتشف أن ولاء رئيس المخابرات – صلاح نصر – ليس له ولكن للمشير الذي قضي عليه بالسم – كما قالوا – في صيف سنة 1967 بعد عار يونيو .

وأراد " الملهم " أن يؤدب أعداءه وأن يبدو طاهرا نقي الثوب , وأن يعطي الأمل للناس في أن الهزيمة لم تحدث بل هو النصر , بدليل وجوده وأنه يحاكم المنحرفين أمثال صلاح نصر وصفوت الشريف وغيرها من الذين أساءوا وأنه بعد التخلص من هؤلاء الأعداء سوف نصل إلى قلب إسرائيل ويعود الطبل والزمر من جديد .

ولم يفعل جهاز المخابرات شيئا في حربنا مع إسرائيل وهي القضية الرئيسية التي كان من المفروض أن ينشغل بها والدليل على ذلك أننا عندما ضربنا في يونيو سنة 1967 تبين لنا أنه ليست لدينا أدني فكرة عن إسرائيل ولا توجد أية معلومات عن العدو .

أو فليتفضل من يخبرني ماذا قدمت المخابرات العامة للدولة من معلومات مفيدة كانت لها قيمة في حرب يونيو أو في أى حرب أخري ؟

ولعل قائلا يقول لى حكاية رأفت الهجان !

فأقول له وماذا فعل رأفت الهجان ؟ إن هو إلا عميل زرعته المخابرات المصرية في إسرائيل , وكان ذلك سهلا في هذا الوقت , وكان يكتب لهم بعض تعليقات الصحف الإسرائيلية وأخبارها, وهو أمر يستطيعه أى إنسان من كشك صحف في ميدان الجمهورية بباريس أو عند ماريل آرش في لندن .
واستمر على هذا الحال أقل من عام , ثم صار مواطنا إسرائيليا عاديا , نسي كل شئ وعاد إلى مصر بعد الانفتاح وانتهاء حرب أكتوبر للتجارة والبترول , ومن عنده كلام مفيد غير هذا فليتفضل مشكورا لتنويرنا وتنوير الشعب .

أما الكلام المفيد عن مخابرات صلاح نصر فهو ضرب الحركات السياسية وعلى الأخص الإسلامية منها مثل الإخوان المسلمين وإنتاج الأفلام الجنسية للممثلات وكبار رجال الدولة وتعدي هذا إلى شخصيات عربية وغير عربية كبيرة جدا تصل إلى رءوس بعض الدول .

وهو أمر يحرمه الدين ويأباه الشرع ويؤذن بخراب العمران ..

وقد حدث مع الأسف فليس هناك خراب أكثر مما نعيش فيه الآن .

يقوم السيد الرئيس بافتتاح الكوبري ويصوره التليفزيون وبعد أيام نجد الكوبري كأنه قد صنع من " عجين " ويغلق المرور ويعاد إصلاحه من جديد ليفتتحه الرئيس مرة أخري في العام الذي يليه .

ومثل بسيط ...سور حديقة الحيوانات الذي أقامه الخديو إسماعيل منذ أكثر من مائة عام , هل تستطيع أية شركة أن تقوم على بنائه الآن بعد التقدم الهائل في العلوم والتكنولوجيا ؟ الإجابة لا .

لأن الظلم والفساد يؤذنان بخراب العمران كما قال العلامة ابن خلدون وهذا ما حدث .

والسبب في ذلك هو النظام الذي وضعته الثورة ولا زالت بقاياه حية وهو نظام لا يسمح بالتقدم والازدهار بل هو يؤدي بالمجتمع إلى الخراب والموت ,ونحن نسير في هذا الطريق ما لم تتداركنا رحمة الله .

لأننا كشعب لا يمكن لنا أن نصنع شيئا . لماذا ؟ هذا سؤال شرحه يطول .

والغريب أن الذين يحكموننا الآن هم الرجال أنفسهم الذين تتلمذوا على مدرسة " الملهم " سواء من المخابرات أو التنظيم الطليعي أو فلول الضباط الأحرار ,ولا تجد موقعا يخلو من واحد من هؤلاء .

ولن أتكلم كثيرا عن صلاح نصر وعهده وما فعل بمصر , ولكني أسوق نماذج من التحقيقات التي أجرتها محكمة الثورة التي شكلها " الملهم " في عام 1968 لمحاكمته ومن معه , وكان يقوم بالتحقيق وكلاء النيابة ورؤساؤها الذين حققوا معنا في قضية الإخوان المسلمين بالسجن الحربي وشتان ما بين القضيتين !

ونموذجا من التحقيق المرفق مع السيد صفوت الشريف وزير الإعلام الحالي , وكان الذي يحقق معه هو السيد عبد السلام حامد المدعي الاشتراكي الحالي .

ولم يكن يومها صفوف الشريف وزيرا بل كان عمله رئيس قسم المندوبين والتصوير الذي يحرمه الدين ويتنافي مع النظام العام والآداب , وما كان له أن يكون وزيرا للإعلام , ولكنه بلد قد ضاع فيه الأدب والاحتشام . وما كان أيضا لعبد السلام حامد أن يكون مدعيا اشتراكيا فقد كان يقوم بتعذيب الإخوان المسلمين في السجن الحربي .

وكنت من الشهود علي ذلك . ولكن هل نتوقع من النظام أن يفعل الصواب ؟

لا نتوقع هذا ..

فلو كانوا يسيرون على بصيرة ويتجنبون الخطأ لما كانت في مصر مشكلة ولقد كنا العرب والمسلمين ولكان رئيسنا هو رئيس العالم الإسلامي كله .

فهو نظام صنعته ظروف وعوامل صارت أكثر تركيبا وتعقيدا من أن يحلها الكلام ونحن نعيش سنوات التيه , ليس في صحراء سيناء ولكن في سراديب الشيطان .

الفصل الخامس عشر " أني يحيي هذه الله بعد موتها "؟

( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أني يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر )البقرة : 259

عصر الاضمحلال

كانت ثورة 23 يوليو حلم الجماهير قبل أن تقوم وقد أيدها الناس جميعا عندما قامت ,وكانوا يحلمون بمستقبل أفضل والنهوض بالبلاد إلى أعلي مقام , وكانت لدي مصري والمصريين – وما زالت – المقومات لتحقيق هذا الهدف العظيم .

ثم أجهض هذا الحلم الجميل الذي كان بمثابة نقلة أو طفرة في التطور .

وأجهض الصراع بين الثوار حول السلطة , بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر الذي لم يدع وسيلة غير شريفة إلا اتخذها واعتمدها في صراعه مع محمد نجيب .

وكذلك فعل مع الإخوان المسلمين !

وأدت هذه الممارسة إلى اعتماد الطرق غير الشريفة في التعامل مع الخصوم , كما كانت الخصومة هنا منشئوها خشية المناوءة والاستئثار بالسلطة .

فعندما ذاق عبد الناصر طعم السلطة وجلس على كرسي فاروق قد في نفسه أن يبقي عليه حتى يموت واستطاع ذلك .

وهذا هدف في حد ذاته نصب عينيه ولم يحد عنه مطلقا .

وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لابد من إتباع الوسائل التي تحققه وتحافظ عليه .

وكل ما عدا ذلك يصير شيئا ثانويا لا أهمية له .

وهناك فرق كبير بين أن يكون هدف الحاكم هو النهوض ببلده ,وحفظ حقوق المواطنين وكرامتهم وإعطائهم أكبر قدر ممكن من الحرية , وبين أن يكون هدفه هو البقاء على كرسي الحكم والقضاء على المعارضين فإن كان الأخير هو هدف الحاكم فسوف يكون ذلك بالتأكيد على حساب الأمة والشعب .

وبمقدار بقائه في الحكم يكون تأخر بلده وتخلفها وضياع المعالم الرئيسية لشخصية المواطن , ومن ثم لا يكون إلا أداة فاسدة متخلفة تضر ولا تنفع وهذا ما حدث لمصر ..

جاء عبد الناصر وكان هدفه هو البقاء في الحكم !

وورث من جاء بعده هذا الهدف !

وصار جهاز الدولة كله يدور حول هذه النقطة !

فأي قانون وأي تشريع لابد أن يكون له صلة ما بهذا الهدف ..

ويصير النشاط الإنساني كله داخل المجتمع والدولة مرتبطا بهذه الغاية ومع مرور السنين يفسد المجتمع فسادا يصعب معه الإصلاح وبل ويستحيل .

وليس من الأهداف المشروعة أو المعقولة إبقاء حاكم في الحكم بغض النظر عن أى شئ آخر ودون الأخذ في الاعتبار مصلحة البلاد والمواطنين .

فالحاكم يبقي ما دام صالحا وبإرادة الناس الحقيقية وليست المزيفة .

وإن كان يريد البقاء بإرادته هو فعلي الدنيا السلام وبالناس المسرة .

وقد ذهب هذا العصر ولم يبق منه إلا دول قليلة وبعض المجتمعات المتخلفة ومنها مصر , مصر التي أعاد تشكيلها عبد الناصر على نمط مزر مهين .

وهي مصر التي يعيد تشكيلها التاريخ والإرادة المختنقة عبر برنامج عظيم من القهر والقمع والاستبداد والفساد .

والمؤكد أن عصر الاستبداد قد ولّي بالتأكيد ولو إلى حين والمستقبل لحرية الشعوب وإرادتها وهي غالبة حسب القانون . قانون التاريخ والنواميس .

أول ما فعله عبد الناصر هو قتل إرادة الأمة فألغي رأيها وأخذ منها بالسوط توكيلا على بياض يفعل بها ما يشاء , وقد حدد هدفه كما قلنا .

وكان لابد أن يكون زعيما ... هكذا شاء ..وهكذا شاء من ساعدوه .

والزعيم يخاطب الغوغاء ويقتل العقلاء ويسجنهم وهو يلقي للناس بشعارات زائفة ويعتمد على القوة والبطش .. والإعلام في إقناع هذه الجماهير أن هذه الشعارات حقائق واقعية يعيشها الناس , وهي ضرب من خيال ليس لها من الواقع نصيب والأمثلة كثيرة .

فقد تم تأميم قناة السويس دون مبرر قومي أو مالي أو سياسي وتكبدت مصر في سبيل ذلك معظم الويلات التي جاءت بعده

ولكن هذا القرار مع التصفيق الطويل وردود الأفعال العالمية أكد دور عبد الناصر كزعيم يقف للاستعمار بالمرصاد , وقد ساعد في تأكيد هذا المعني عوامل غوغائية ليس للعلم فيها أدني نصيب .

لا تؤمم قناة السويس

وقيل إنه سأل الدكتور الحفناوي صاحب فكرة تأميم القناة قبل ذلك بعشرات السنين .

وقال له :

- أنا قررت تأميم قناة السويس .

ما هو رأيك ؟

- إن كنت قد قررت هذا فما أهمية رأيي ؟

وشرح الحفناوي ضرر هذا التأميم الآن – في ذلك الوقت – وشرح له أنه عندما قال بهذا التأميم كان ذلك في زمن مختلف , ولكن هناك متغيرات على الساحة الدولية والسياسية لابد من أخذها في الاعتبار , وكان يري أن هناك ضررا محققا من هذا التأميم وأن الفائدة منه منعدمة ولا وجود لها .

وصرفه عبد الناصر من حضرته متبرما ساخطا .

ولم يستشر شخصا واحدا .

وأخيرا المجموعة التي ستقوم بالاستيلاء على مبني الشركة صباح صدور هذا القرار !

وكان قد تم إعلانه في المساء يوم 26 يوليو !

وأخبر عبد الحكيم عامر بالقصة في القطار !

وقد أخبرني الأستاذ حسن عباس زكي وزير الاقتصاد في ذلك الوقت أن عبد الناصر قد جمع الوزارة بعد أن أعلن قرار التأميم على العالم كله ثم طلب من كل واحد أن يدلي برأيه في هذا الموضوع ..

وكان أولي بطبيعة الحال أن يتم هذا الاجتماع لمناقشة هذا الموضوع قبل إعلانه , ورآه عبد الناصر ساكتا لا يتكلم فقال له :

- ساكت ليه يا حسن ؟

- ليس هناك ما يقال يا سيادة الرئيس .

- إيه رأيك في قرار التأميم ؟

وكان حسن عباس زكي يريد أن يقول له : كنت أود أن أسمع هذا السؤال قبل ذلك ولكنه لم يستطع فقال :

- الرأي يا سيادة الرئيس أنك مرهق ,وأنصح بأخذ حبة منومة , وفي الغد نجلس ونناقش الآثار المترتبة على هذا القرار .

وقام عبد الناصر منهيا الاجتماع وهو يقول :

- هذا أحسن كلام سمعته بعد قرار التأميم

وذهب إلى النوم.

مجانية التعليم

وهي ضمن الخرافات التي لا يزال البعض يرددها حتى الآن .

فقد كان التعليم مجانيا قبل الثورة , ثم صارت مصر أغلي بلد في العالم من حيث الحصول على شهادة جامعية ..

أما التعليم فلا يوجد تعليم في مصر الآن . الموجود هو جمع من حملة الشهادات ولا يخفي على عاقل الفرق بين الحصول على الشهادة وبين التعليم والتربية بالمفهوم الصحيح .

وصار هدف المواطنين أن يحصل أبناءهم على شهادات جامعية .

وحالة المدارس والجامعات بلغت من السوء حدا لا درك بعده تنزل إليه فالأعداد الغفيرة لا تجد لها مكانا في المدرج وعلى الأخص في السنوات الأولي من الكليات , حيث تبلغ الأعداد عدة ألوف في أماكن لا تستوعب غير مئات ينبغي أن يقل عددها عن عدد أصابع اليد الواحدة , بالإضافة إلى الإمكانات العملية التي لا تكفي لغير بضع عشرات من الطلاب .

وهذا خلق ما يسمي بالدروس الخصوصية والدرس الخصوصي يصل ثمنه في المادة الواحدة إلى عدة ألوف وهو ليس بغرض التعليم بقدر ما هو بغرض النجاح , فقد بدأ تعليما, ثم انتهي رشوة لبعض الأساتذة والمدرسين والمعيدين , ومن يريد الشهادة عليه أن يدفع الرشوة , وهي تصل إلى عدة آلاف من الجنيهات في العام الواحد.. وهل يمكن لأستاذ يأخذ رشوة من طالب أن يقوم على تربيته وغرس قيم الأخلاق في نفسه ؟ لا أظن .. وهل يمكن أن يقوم على تعليمه ؟ لا أظن أيضا .

وقد أدري هذا إلى ضعف مستوى الأساتذة والمدرسين أنفسهم فهم في حاجة إلى التربية والتعليم من جديد في مكان غير مصر .

وتجارة الكتب الرخيصة الشكل والمضمون يدخل الأستاذ إلى سوقها , وينتهز الفرصة ليقدم كل عام كتابا جديدا على ورق رخيص بمادة قد تم ترجمتها عن الإنجليزية والفرنسية وربما يكون لهذه المادة صلة باللغة العربية والتاريخ الإسلامي فينقل الاسم العربي مترجما دون الاجتهاد في رده إلى أصله العربي وتحت يدي نماذج كثيرة لكتب من هذا النوع .

ثم يتكلمون عن الجامعات الأهلية فيرفض المنتفعون بحجة الحفاظ على مكاسب ثورة 23 يوليو , وهي في الحقيقة الحفاظ على ركائز حكم المنتفعين وسلطانهم فالشعب الجاهل أسلس قيادا من الشعب المتعلم كما قال عباس الأول .

أما المدارس الثانوية والإعدادية فحدث عنها ولا حرج حيث المدرس المنسحق المسكين الذي لا يكاد يجد قوت يومه , فهو يبحث عنه من خلال الدروس الخصوصية ولو أرسل ولي الأمر – ولي أمر التلميذ - أولاده أو بناته ليتعلموا في انجلترا لكان ذلك أوفر وأرخص له بكثير , وسوف يتعلم أولاده بالتأكيد .

ثم تذهب إلى المدرسة – ومنها ما يسمي بالنموذجية – فتجدها أشبه ما تكون بأتوبيس مزدحم قد اختنق في سوق ماشية بقرية من قري الريف المصري .

هذا هو التعليم ومجانيته وسيلة للسيطرة على الشعب عبر سرداب جهنمي لا يستطيع أحد الفكاك أو الخروج منه .

والكلام حول هذه النقطة يطول ويعرفه القاصي والداني ويفهمه الحاكم والمحكوم وعلاج ذلك يرتبط بعلاج مشكلة مصر ككل وهي تتمثل في إصرار الحاكم الذي تقع مصر المسكينة تحت قدميه على أن تظل تحت قدميه حتى يموت , وقد سبقه أساتذة ورسموا له الطريق , وعلموه كيف يحافظ على مكاسب الثورة , المكاسب له هو !

فإن جاء الحاكم البشر فهو قادر على حل المشكلات . أما الحاكم الإله فلا فائدة فليس عنده إلا مقولة فرعون " ما أريكم إلا ما أري ما أهديكم إلا سبيل الرشاد ,"

ولا يغيب عن بال أحد أن فساد التربية والتعليم هو فساد الأصل والجذور ومن ثم فلا أمل في إصلاح أو تغيير .

ورحم الله أياما كانت شهادات الجامعات المصرية فيها لها القيمة والاعتراف العالمي وأذكر أن أحد المستشرقين الإنجليزقد سألني مرة :

كم ثمن الليسانس والدكتوراه هذه الأيام في مصر ؟
ولم أستطع الرد عليه من الخجل الشديد .

وزارة لهدم السد العالي

بنينا السد العالي في دراما نعيش فيها الآن , وهو مشروع قد درسته الحكومات قبل الثورة وأفادت الدراسات أنه غير مفيد , وأن المفيد هو بناء سلسلة من القناطر والسدود على طول نهر النيل للآثار الجانبية التي يمكن أن تهدد البلاد على مدار السنين .

وقالوا أيام أقاموه إن كيلوا الكهرباء سيكون بمليم , وقد يوزعون الكهرباء مجانا على الناس .

ثم أخبرني واحد من أهل الخبرة ممن أثق بهم أنه سيأتي الوقت الذي تنشئ فيه الحكومة وزارة لهدم السد العالي كما سبق أن أنشأت وزارة لبنائه , ولا أدري هل هذه الوزارة وزارة السد العالي لا تزال قائمة أم لا .. ففي عهد الثورة العجيب كم من وزارات نشأت وبادت كالحضارات القديمة ..وكان بناء السد العالي يبشر بعصر جديد من الكهرباء والتكنولوجيا وسائر ما أذاعوا به من خزعبلات وخرافات على الشعب المسكين الطيب , لكننا اليوم نعيش ويلات مضحكة مبكية من همسات تدور في الكواليس عن خطورة السد العالي في تفاصيل طويلة ولكنهم يؤكدون أن السد العالي سوف يقضي على مصر المستقبل ,وأن خطر منه الآن على الأقل لمدة مائة سنة .

وكلمة سيقضي على مصر المستقبل ليست من باب المجاز ولكن أهل الخبرة والعلم يقولون إنها حقيقة في تفصيل طويل , ولا يوجد مجال لشرح وجهة نظرهم وعرضها للناس .

فالقائمون على الأمر يمسكون البلد بيد من حديد ولا يسمحون بغير وجهة نظرهم أن تأخذ سبيلها إلى الانتشار .

فنحن نعيش في بلد لا تعرف فيه الحقائق ولا ينتشر فيه غير الأوهام والأباطيل والأكاذيب , كالمريض الذي به داء عضال ويخدعه كل من حوله ولا يقدمون له العلاج ويقولون له طول الوقت أنت في صحة جدية ولا بأس عليك وإن قال لهم البعض يري أني عليل , يقولون له : هؤلاء هم الشامتون والحاقدون والمغرضون ,

وإن قال : وأنا نفسي أشعر أنني لست في حالة حسنة قالوا : أنت في حالة حسنة ونحن نعرف ما بك وأنت لست مهيأ حتى للشعور والإحساس , وضاعت أحلام التكنولوجيا والتقدم العلمي والنظر إلى آفاق المستقبل وتوحش السمك في بحيرة ناصر فصار كأفراس البحر , ولا يجد من ينقله إلى البلاد ونحن نعاني من نقص في كل شئ .

حتى هذه الفائدة البسيطة لا نستطيع أن نحصل عليها لفساد يصعب التخلص منه قبل قرن من الزمن .

والذي يفتح فمه نلقمه حجرا .

موارد مصر لا حصر لها ولكن كيف ؟!

وحدثني بعضهم عن شواطئ مصر وكيفية الحصول على كمية من السمك تكفي المصريين ويصدر ما يفيض عن الحاجة إلى بلاد كثيرة , ولكن الثورة صنعت شباكا من اللوائح والقوانين قد كبلت الشعب ومنعت النشاط وضمنت التخلف قرونا لو استمرت هذه الأحوال .

فقلت له : لماذا لا تقوم الدولة بعمل هذا وصيد السمك وبيعه وتصديره ؟

فقال لى : ليس في إمكاناتهم المادية عمل هذا .

- إذن سيسمحون للشركات العالمية بالاصطياد من شواطئنا عبر اتفاقات وشروط .

فقال لي :

هناك ما يسمي بمؤسسة الثروة المائية , ولا يسمح لواحد – شخص واحد – أن يضع " صنارة " في الماء دون إذن هذه المؤسسة وكل الأفراد الذين يصطادون للهواية يخالفون القانون , فإن جاءت شركة لتنفيذ هذا المشروع فعليها أن تدفع من الجزية والعمولات والرشاوى ما لا يجعل للمشروع جدوى ومن ثم ينفضون أو يقومون بالصيد خفية دون علم هذه المؤسسة البلهاء التي لا يدري أحد ما طبيعة عملها على وجه التحديد مثلها مثل غيرها من المؤسسات العديدة التي ازدحمت بها مصر .

فكل إذن أو نشاط بمائة إذن وألف تصريح وكل هذا يدار للقائمين على العمل ولحسابهم والمجتمع لا يستفيد شيئا ولا يزداد إلا تأخرا .

كان عبد الناصر حريصا على إفقار الجميع , وأن يعيش الناس من مرتباتهم وحرم عليهم أى نشاط والنشاط هو شرط التقدم ,وكان يري أن قوة المال تهدد سلطانه وتقوضه ,بغض النظر عن فائدة هذا للمجتمع وازدهاره ولم يكن أمام المسئول غير الفساد والسرقة والنهب لتحقيق مستوى من المعيشة يتناسب مع وظيفته ولا يحققه له مرتبه الصغير

الزراعة والاستصلاح مستحيل

أما الزراعة والاستصلاح فحدث ولا حرج.

كانت مصر مزروعة قمحا من غرب النيل حتى ليبيا في أرض لا تزال صالحة للزراعة وكانت تعتبر مخازن القمح الرئيسية للدولة الرومانية في العصر القديم .

ومع توالي القرون بورت هذه الأرض ولم تعد تزرع .

واليوم من الممكن زراعتها وهذا سهل وبسيط , ويمكن أن تقوم به الشركات العالمية بشروط يتفق عليها ولن تأخذ شركة أرض مصر معها أبدا . وزراعتها خير من تركها بورا في بلاد تشكو من قلة الطعام , وليس لديها الاكتفاء الذاتي منه , ولا أدري أية شروط يضعها أحمق أو حمقي أو خائن أو خونة لتملك أرض بور صحراء منذ مئات السنين , فليتملكها من يشاء , وليورثها لأبنائه , وليكن الشرط الوحيد لهذا هو الاستصلاح ولا شرط آخر .

واسألوا الذين جربوا الاستصلاح وكم دفعوا من الرشاوى ولأية جهات وفي النهاية لا يمتلك الأرض إلا بحكم من المحكمة إن استطاع أن يصل إلى هذه النقطة , وهذا في حدود عشرات الأفدنة , نحن نستطيع أن نستصلح ملايينها لو حسنت النية وحطمت قيود القوانين السفيهة المغرضة .

ويتردد في الكواليس أن هذا مخطط أمريكي إسرائيلي لتحجيم الرقعة المنزرعة قمحا حتى تضمن أمريكا السيطرة على مقدرات الشعب المصري , ونحن مضطرون لتصديق هذا الكلام , لأن هذه هي السياسة التي تجري وتدور ونشاهدها بأعيننا , إلا ما الذي يمنع الإدارة من إعطاء الشركات المحلية العالمية حق الاستزراع والتملك وفق شروط وأن تملك شركة أجنبية حق الامتياز لمدة 99 سنة وتزرع لنا قمحا نأكل منه ونصدره خير من أن تملكنا أمريكا وإسرائيل إلى الآبد وقد أظهرت التحقيقات الأخيرة مع شركات توظيف الأموال أن إحدى هذه الشركات , أو هذا ما نشرته الصحف – قد دفعت أكثر من مليون جنيه رشوة لصاحب وظيفة اسمها مستشار بوزارة الزراعة .. أو مستشار وزر الزراعة ..

ولا يفوتنا أن نذكر اسمه هنا للتاريخ وهو السيد يوسف والي .. وهو لا علاقة له حتى كتابة هذه السطور بالتحقيقات ولم يثبت حتى الآن أن له صلة بهذا الموضوع من قريب ولكن الرشوة – أو هكذا قالوا – مع مستشاره حتى تتملك الشركة بضعة آلاف من الأفدنة من صحراء مصر .. نعم من صحراء مصر للاستصلاح ثم حالت النكبة التي نزلت بهذه الشركات دون إتمام ذلك .

شركات توظيف الأموال

وهذا يقودنا إلى الحديث عن شركات توظيف الأموال , تلك الظاهرة الفريدة التي ظهرت في مصر خلال العقد الأخير .

فهذه الشركات استطاعت أن تجذب مدخرات المصريين – جزءا منها – العاملين في الخارج واستطاعت أن تستوعب ما بين عشرين وثلاثين مليارا من الدولارات الأمريكية للتوظيف والتشغيل في مصر وخارجها .

وقد استطاعت هذه الشركات أن تقفز إلى هذه الأرقام في سنوات قليلة أقل من أصابع اليد الواحدة .

وكانت معدلات جمع المدخرات في زيادة ,وكان من المتوقع أن تصل هذه الأرقام المجموعة للتوظيف إلى ثلاثمائة مليار من الدولارات مع مطلع القرن الواحد والعشرين .

وقيل الكثير عن دواعي نكبة هذه الشركات وأغلبه هراء وغير ثابت فلم تكن عند الحكومة ولا غيرها أية معلومات صحيحة أو يقينية عن حجم هذه الشركات أو المشروعات التي تعمل بها , ولكن المؤكد أنها قد بدأت تزحف إلى أموال العرب وكان يمكن جمع مئات المليارات من الأموال المصرية والعربية .

ومن خلال هذه المليارات كان يمكن شراء التكنولوجيا والتصنيع الحديث لكل شئ فبدلا من صناعة المراوح والغسالات كان يمكن صناعة السيارة والدبابة والصاروخ والمدفع وهذا ما لا تريده إسرائيل وأمريكا والغرب بصفة عامة ومن خلال هذه الصيغة العبقرية التي أوجدها المصريون باسم الإسلام كان يمكن تحقق انفصال الشرق عن الغرب انفصالا يجعل الأول في مقام الند مع الثاني ويتميز عنه بالإسلام .

وكان يمكن أيضا أن يتغير التاريخ من خلال هذه الصيغة السهلة البسيط التي ساعد على وجودها الشعور العام بالإسلام كدين له وجود حقيقي في نفوس الناس في بلاد الشرق .

ولك أن تطلق الخيال وتترك عنانه فتتخيل أننا قد تخلصنا من القروض ولو كنا في حاجة إليها فيمكن لهذه الشركات أن تدفعها ويمكن لها أن تشارك في كل خطط التنمية وبناء مصر الحديثة لو سمح لهم , بدلا من الاستنزاف الذي نعيشه كل يوم من خلال مشروعات فاشلة لا معني لها مثل نفق المترو الذي استمر العمل به أكثر من عشر سنوات وماذا كانت النتيجة ؟ أربعة كيلو مترات تحت الأرض لا تسمن ولا تغني من جوع , ومليارات من الدولارات صارت دينا علينا للفرنسيين وغيرهم بالإضافة إلى أن ثلاثة أرباع القرض قد أخذته هذه الشركات على هيئة خدمات ومرتبات وأجور , ولم يكن لنا رأي فيه فالله سبحانه يعلم – والشركات - ما هي العمولات التي دفعت ولمن .

ثم يزداد الدين على الشعب المصري المسكين .

كان الخديو إسماعيل يستدين ويدفع عمولات , ولكن لمشروعات هو يحددها ويجد أن بلاده في حاجة إليها أما اليوم فنحن نستدين وندفع عمولات ونأخذ عمولات لمشروعات تأتي لنا مدروسة مقترحة من الخارج , وليس لنا رأي في إتمامها أو التعديل فيها .. نحن مستنزفون مسروقون لأن القائمين على هذه الأشياء لا انتماء لهم ومصلحتهم الحقيقة في الأرصدة والمبالغ المحولة لهم إلى الخارج كثمن لخيانتهم لبلادهم وأهلهم.

نحن نحكم بنظام فريد

والسبب في هذا هو غياب الرقابة وفساد الشعب وتكون جيل من المسئولين ليس لهم انتماء وقد أكد عليهم عبر سنوات بعدم التدخل في السياسة وعدم التدخل في السياسة يعني التعرض لشخص الحاكم الذي يجلس على كرسي مصر مهما كانت صفته ومهما فعل .

ونحن نعيش نظاما عجيبا فريدا من نوعه فالأنظمة السياسية – حسب علمي – إما ملكية ملك يملك ولا يحكم , أو ملك يملك ويحكم ,وإما جمهورية : نظام جمهوري لرئيس جمهورية يمثل رمز البلاد ولا دخل له بالحكم وليس مسئولا ,وهناك رئيس للوزراء هو مسئول أمام البرلمان ويستطيع البرلمان أن يحجب الثقة عنه ويسقطه وليس لرئيس الجمهورية دخل في هذا , فهو يعين رئيسا آخر للوزراء بدلا منه , وهناك نظام يجعل رئيس الجمهورية هو المسئول أمام البرلمان ويمكن محاسبته وعزله مثل أمريكا .

أما في مصر فرئيس الجمهورية هو الذي يملك ويحكم , وهو ليس مسئولا أمام أحد أخطأ أم أصاب , ولا يستطيع أحد أن يحجب الثقة عنه ولا يجوز عزله عمليا أو نظريا .

وهذا هو المكمن الأساسي للفساد .

فرئيس الجمهورية هو شخصية مصونة لا تمس ,وتدور من حوله القوانين والدساتير والبيانات والقرارات والأخطاء والجرائم , وهو باق كالهرم الأكبر , لا يستطيع أحد أن يقترب من ذاته العلية .

وقد يأتي ويخطب في الجموع ويقول إن هذه السنة سوداء والتي بعدها أشد سوادا وقتامة ويمكن أن نقول له : يا سيدي كتر خيرك .. اتفضل سيادتك مشكورا وسوف نجعلها بيضاء ونجعل التي تأتي من بعدها أكثر بياضا .

ولكن من يستطيع أن يفعل هذا ؟

ومن يقدر ؟

من الذي يعلق الجرس في رقبة القط ؟

النظام يسمح بتأليه الحاكم , ولا يسمح بنقده بحال من الأحوال أخطأ أم أصاب هذه أمور ليست محل مناقشة , ولكنها من المسلمات المصرية التي يقبلها المواطن وله أن يسب ويلعن من يشاء وينقد كيفما يريد .

ولكن لو اقترب من ذات رئيس الجمهورية قطعت رقبته .

ويبدأ الحاكم في العادة بشرا سويا ثم يصنعون منه إلها هذه هي عادة المصريين من قديم الزمان , والأمل ضعيف في تغييرها .

التطرف الديني وعلاجه

ثم نأتي إلى ما يسمونه بالتطرف الديني .

وهي ظاهرة نشأت في معتقل طرة السياسي عام 1966 نتيجة اضطهاد عبد الناصر ثم نمت وترعرعت وزادت حتى أصبحت تمثل تيارا كبيرا خطيرا على الحاكمين أولا قبل غيرهم .

أعداد هائلة من الشباب وجدت أن لا وسيلة للعيش في هذه البلاد إلا من خلال احتياجات بسيطة يمكن توفيرها وقد أمر بها الدين ... تتمثل في جلباب واحد أبيض قصير وقطعة من القماش توضع فوق الرأس وتغني عن دفع مئات الجنيهات في الملابس الأفرنجية . وبحسها شعرت بطغيان القادة الكبراء وبعضها أخرجتهم عن الإسلام . وباستفزازهم حدثت المناوشات والمصادمات وانتقلت نقط التماس من صعيد مصر إلى الوجه البحري واستقرت في القاهرة في عدة نقاط ما الذي يضمن لنا ألا تزيد ؟

ومن الذي يمكن أن يتنبأ بنتائجها ؟

وهي ثورة سياسية واقتصادية أخذت ثوبا إسلاميا .

وهي ثورة بكل المعايير .. وقد تودي بالنظام في نهاية درامية لا نحبها ولا نريدها ولا نتمناها .

وعلاجها في بساطة ويسر – وهو غير متوافر وغير منتظر – أن يسارع النظام بقيادة هذه الثورة وتحقيقها بمعني أن يحدث النظام انقلابا على نفسه ويفرغ ظاهرة العنف هذه من محتواها .

وهناك الخوف من أمر يحول دون هذا لأنها تمسك برقابنا وتعطينا كل شئ من أول رغيف الخبز إلى الطائرة والمدفع .

وقد قلنا إن شركات التوظيف كان يمكن أن توفر لنا ذلك لو أحسن استغلال الظاهرة والسير بها قدما وتشجيعها .

وزراعة القمح أمر ميسور ويزرعه الفلاح المصري منذ آلاف السنين والمطلوب أن يسمح له بالزراعة دون تدخل من أحد والشئ العجيب أن ربطة العنق التي يرتديها المصريون وهي ليست من لباسهم ولكنها شئ ورثوه عن الغرب يمكن الاستغناء عنه أن يوفر على الدولة بضع مئات من ملايين الدولارات وقد جربت هذا إيران ونجحت فيه , فلا تجد أحدا يرتدي ربطة عنق وبخاصة إذا علمنا أن ثمن الواحدة يتراوح ما بين خمسة دولارات إلى مائة دولار , والله يضاعف لمن يشاء والاستغناء عنها وغيرها لا يأتي بقرار ولكن بالقدوة , والقدوة فقط , فعندما قامت الثورة خلع جمال عبد الناصر الطربوش ولم يستخدمه أحد بعده حتى الآن , وأقفلت مصانع الطرابيش .

فلو جاء من يمكن أن نأخذ القدوة منه وفعل شيئا فسوف يقلده الجميع وليس هناك من عجز في ميزان المدفوعات وهو ليس فقرا ولكنه قلة رأي كما يقول المثل المصري .

وأضيف وهو خيانة وعمالة وإيثار الدنيا على الآخرة وأنا وبعدي الطوفان , وهذا شعار جميع المسئولين الذين يحكمون منذ اليوم الأغبر الكئيب من صيف عام 1952 .

ويقف العلماء في صحن الأزهر ويطبلون ويزمرون ويهيصون ومنهم علماء أفاضل نبجلهم ونعترف بفضلهم وهم يصرخون أنهم ليسوا علماء سلطة ولكننا لا نصدقهم في هذه , وربما لا يوافقوننا ولكنهم مخطئون , وببساطة وسذاجة لا تتفق مع علمهم وفضلهم يطلبون من الشباب عدم التطرف , تلك الصفة التي لا نفهم مدلو لها على وجه التحقيق لأنها مطاطة تحمل معاني كثيرة .

ما هذا الهراء ؟

وما بال تلك العمائم الكبيرة تهتز وتطلب عدم التطرف ؟

مثلهم في هذا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع .

ومثلهم في هذا مثل الطبيب الذي يعود مريضا فيجد حرارته مرتفعة فيقف على ناحية من سريره ويصرخ فيه ويقول له أنا لست من أطباء السلطة وعليك أن تخفض حرارتك على الفور , ومثل هذا الطبيب تقول له أنت من أطباء السلطة ومجنون أيضا لأن تغير الحالة لا يتأتي بأمر , ولكنه يتأتي بزوال دواعيها , ويمكن لهذا الطبيب أن يعطي المريض عقارا يخفض حرارته ثم يبحث عن أسبابها ليقضي عليها بشكل نهائي ولكن هذا لا يتأتي لأطباء السلطة .

نحن حيال ظاهرة تحتاج إلى تأمل وعلاج .

أناس يسكنون القصور وآخرون لا يجدون مكانا للسكني في القبور .

وهذا ليس شعرا ولكنه واقع يعرفه كل أهل مصر .. والفتاة التي تذهب إلى الجامعة أمامها طريقان لا ثالث لهما حتى تظهر بالشكل اللائق أمام زملائها فهي في حاجة إلى عشر بلوزات وثمانية فساتين على الأقل , وهذه هي المتوسطات التي سمعنا عنها وفي العام الواحد .

ملابس يصل ثمنها إلى ألف جنيها مصري .

هذا الكلام عن الفتاة المصرية العادية رقيقة الحال من أوسط من يعيشون وهي في الوقت نفسه تري بعض زميلاتها يأتين إلى الكلية كل يوم بفستان يصل ثمنه إلى خمسمائة جنيه ويتجاوز الألف في أحوال كثيرة فماذا تفعل ؟

إما أن تصير مثلها وتتجه إلى الدعارة لتحقيق هذا المستوى , واسألوا بوليس الآداب فعنده الخبر باليقين .

وإما أن تصبر على ما يعتمل في نفسها من حقد وتمرد وتطلع.

أو أن تعثر على الحل العبقري " الإسلام هو الحل " وفي الجلباب والنقاب نجاة من الفساد وقربي إلى الله .

وهؤلاء يمثلون تيارا قويا له حجم كبير , وله مطالب ,وله وجهات نظر منها الصحيح ومنها الخاطئ والاقتراب منه والتفاهم معه أولي وأجدي من الصدام والصدام معهم ليس في صالح أعدائهم أو مناوئيهم لأنهم لا يتمسكون بالحياة تمسك غيرهم .

جب أن يقترب الحاكم من المحكوم ليعرف كيف يفكر ويفهم آلامه وأحزانه وشواغله ومتاعبه , ولكن أن يظل بعيدا عنه في سور عاجي مرتفع كبير حيث أعلاه برج يجلس فيه فلا يأمن أن يهدم هذا البرج ويقتحم هذا السور , ويفقد بعد ذلك كل شئ .

والاضطهاد والقمع لن يفيدا , والعظة والعبرة في التاريخ البعيد والقريب ولكن تفهم المشكلات بأبعادها الدينية والاقتصادية والسياسية هو الذي يصنع مجتمعا جديدا ليست فيه أحقاد أو إحن ..

وصدقوني لا مناص لكم إلا بالتنازل عن بعض امتيازاتكم وهي ليست حقا لكم فقد اغتصبتموها وهي حرام ووبال عليكم وسوف يأتيكم نبؤه بعد حين .

اعتياد الناس على الفساد والمنكر

نحن نعيش في هذه الأيام " عصر الاضمحلال " وهو العصر الذي يأكل الأخضر واليابس ويقضي على مظاهر الحياة في هذه البلاد .

صار الفساد هو الغالب .

وتربي جيل يحرق البخور للحكام , ويمجدهم ويسبح بحمدهم .

وهناك جيل آخر قد تربي ونشأ , ويريد أن ينتقم وأن يدمر وأن يقتلع جذور الظالمين وهم من يسمونهم بالمتطرفين .

وهذه قضية لم تأخذ حقها من العناية والبحث وغاية ما تفعلونه هو أنكم تأمرونهم بعدم التطرف من خلال علماء لا يثقون بهم ومن خلال العصي الغليظة في أيدي رجال الأمن المركزي .

وهذا ليس العلاج .

وقد اعتاد الناس أخبار السوء والفساد فبعد أن كان خبر اغتصاب فتاة ينشر لأول مرة يثير الناس جميعا ويجلس له علماء الاجتماع والنفس وغيرهم يناقشون الظاهرة صار الخبر في الصفحة الأولي بشكل يومي تقريبا واعتاده الناس ولم يعودوا يعلقون عليه .

كان تعذيب المعتقلين أيام عبد الناصر يتم في خفية بعيدا عن أعين الرقباء , واليوم صارت أخباره تطالعنا في الصحف بشكل يومي .

كل هذا ينبئ بشر عظيم قادم , ويجب على العقلاء رده ومنعه وذلك بإزالة دواعيه وليس بالصراخ والاجتماعات والبيانات التي لا تؤدي إلى شئ غير مزيد من تعميق الهوة بين فرقاء الأمة المختلفين .

لو سمحتم لصاحب رأي أن يقوله في العلن دون تعذيب أو اعتقال فسوف يجد من يناقشه ويرد عليه .

الشرطة هي الحل !

قالوا الإسلام هو الحل

وقال وزير الداخلية الشرطة هي الحل

وأنا أصدق المقولتين وأومن بهما ولكن بطريقتي فالأولي مفهومة وواضحة .

والثانية بعدم التجاوز وأن يعرف رجل الشرطة أنه مواطن فلا يعذ ولا يضرب ولا يقتل مهما كانت الدواعي لذلك وليساعد على إزالة الفجوة التي نشأت بالفعل بين المواطن ورجل الشرطة.

وهناك عملية تستهدف أن يتم الفصل بين الشرطة وبقية المواطنين والرأي في هذا أنه خطر عظيم يقوض المجتمع ولا نحب أن يأتي اليوم الذي نجد فيه الشرطة في مواجهة الشعب فلو حدث هذا وتكرس الانفصال فالنتائج وخيمة ولا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالي .

أحد الحلول الجذرية لمعالجة الفصام والنكد بين قوي المجتمع عدم تجاوز رجل الشرطة وأن يعلم أنه يتعامل مع مواطن مثله وليعالج في داخله فكرة الانفصال والتفوق وأنه من طائفة مخصوصة لها امتيازات تجعلها فوق مصاف الناس .

قتل ضابط شرطة في حادث مؤسف أليم يحزن كل من سمع به , فلا ينبغي أن يأخذ الحادث حجما أكبر مما هو عليه وليبحث عن الجاني وليعاقب ويجب ألا يعتقد رجال الشرطة أن زميلا لهم قد قتل وينبغي الثأر بأية طريقة ولا ينبغي أن ينسوا أنه مواطن قد جني عليه وقتل وتسير القضية في هذا الخط المنطقي فإن قتل مهندس أو طبيب أو مدرس –وهذا يحدث كل يوم فالجريمة قائمة ما دام هناك بشر – فهل هذا يستدعي أن يستنفر الأطباء للانتقام لزميلهم الذي قتل أو المهندسون أو المدرسون؟

هي يتحول الشعب إلى طوائف كل طائفة تدافع عن نفسها بالطريقة التي تقدر عليها ؟

لعمري إن هذا هو الفساد العظيم .

ويقولون إن الأمر يختلف , فمقتل ضابط الشرطة يعرض بهيبة الحكومة وهذا غير صحيح بالمرة فكم من رجال شرطة قد قتلوا في بلاد مختلفة , ولم يكن لهذا دخل بهيبة الحكومة ,

هيبة الحكومة بالعدل والإحسان.

هيبة الحكومة تكون باحترام القانون أى قانون.

هيبة الحكومة تصير واضحة في نفس كل إنسان بتقديرها للحرية والديمقراطية واحترام آراء الآخرين وإعطائهم الفرصة لإبداء رأيهم بالطريقة التي يريدونها .

هيبة الحكومة تزداد عندما يزهد المسئولون في الحكم والمناصب ويعملون جاهدين في الخلاص من عصر الاضمحلال الذي نعيشه .

هيبة الحكومة في ميثاق دستور يوضع ويحترم ويلزم به الجميع الحاكم قبل المحكوم وتنحية العصاب الغليظة وإرسال رجال الأمن المركزي ليزرعوا الصحراء .

حب الوطن من الإيمان

كان لى صديق قد توطدت العلاقة بيني وبينه أثناء وجودنا بالمعتقل عام 1965 وكان من أكثر الناس تحمسا للهجرة من مصر عندما يأذن الله بالفرج والخروج من ذلك المعتقل البغيض .

وكنت من أشد الناس تحمسا للبقاء في مصر رغم ما فيها وما لقيته وغيري على يد المستعمرين الضباط .

ثم شاء الله وخرجنا من المعتقل على قدر من الله .

وبقيت رغم ما في البقاء من عناء .

ورغم طريقة الحياة المضحكة التي عشتها شهورا تحت رقابة مباحث أمن الدولة الهزلية فقد كنت أسكن في شبين القناطر , وهي على بعد ثلاثين كيلوا مترا من القاهرة وحكمها حكم حلوان فهناك قطار كل ساعة يروح ويجئ من القاهرة وإليها .

ولما كنت أتبع محافظة أخري غير القاهرة فقد كانت تعليمات فؤاد علام تقضي أن أذهب لأخبر مكتب المباحث التابع له , وكان يقع في مدينة أبي زعبل , على بعد عشرة كيلو مترات تقريبا , ثم اذهب إلى لاظوغلي لأخبر الباشا أنني جئت إلى القاهرة وكان هذا يتم كل يوم , وهو يأخذ عدة ساعات أقضيها في إثبات حالات الذهاب والمجئ وبطبيعة الحال كنت في كثير من الأحيان لا أجد الضابط في أبي زعبل فأجلس في انتظار حضوره وقد لا يجئ فألغي الرحلة أو أذهب إلى لاظوغلي فلا أجد الباشا فأجلس في انتظاره حتى ينقضي الوقت المناسب لقضاء المصالح , فأعود إلى شبين القناطر .

وكنت أجد أنها إجراءات لا جدوى منها والغرض منها الإذلال والتحكم ولما أرهقت من هذه الأشياء تشجعت مرة , وذهبت إلى القاهرة وعدت ولم أستأذن وتكرر ذلك ولم أعد أهتم .

وفي مرة قال لى الباشا – فؤاد علام :-

مش كفاية إننا سايبينك رايح جاي على كيفك من غير إذن ؟

وقلت له متمتما ساخرا :

- الله يعمر بيتك يا معالي الباشا .

- وأنا أقول في أعماقي :

- الله يخرب بيتك وبيت اللي عينك وبيت وزيرك يا جهلة يا مجرمين .
وكنت أزمع البقاء في مصر وأنا أعرف أنها تحت حكم التتار .

وأرجو من الله أن يزول هذا الحكم يوما أو تخف قبضته على الشعب .

أما صاحبنا فقد غادر مصر , وسافر في البلاد , وحصل على درجات علمية رفيعة , وحظي بثقة كثير من الهيئات العلمية والجامعات في العالم , وصار خبيرا في فرع تخصصه , وهو يقوم بتدريس مادة نادرة في إحدى كليات الهندسة ببلد عربي و وكان من رأيه أن العسكر ماداموا يحكمون فلا خير يمكن أن يرجي ولا صلاح ولا فلاح .

وكان من رأيي أنه بعد موت عبد الناصر سوف تنصلح الأمور وتهدأ ثم تأخذ البلاد شكلها الطبيعي يوما بعد آخر , حتى نصير مثل بلاد الدنيا وأن دوام الحال من المحال ..

أما هو فكان متشبثا برأيه وعنده عقيدة هي إلى اليقين أقرب ... لا أمل في مصر على الإطلاق ما دام العسكر فيها , وأقوياء كانوا أم ضعفاء ولا فرق بين عبد الناصر أو أنور السادات أو ثالث يمكن أن يأتي بعد الآخر .

وكان يري أن حكم العسكر لا يتفق مع طبيعة الأشياء وهو ضد التربية والحضارة والأخلاق وتحصيل العلوم .

ولم تطأ قدماه أرض مصر بعد أن غادرها في أول حكم السادات بعد أن خرجنا من المعتقل .

وعندما كان يشتاق إلى أمه وإخوته فهو يلقاهم في ذلك البلد اختاره محلا لإقامته , حيث يحظي بالتكريم والتبجيل والأستاذية في الجامعة .

وكنت ألقاه في خارج مصر وأقول له :

- الأمور تسير بالبلاد سيرا حسنا , ويمكنك الحضور والأحوال هادئة .
والحكومة في شغل شاغل بالنبت الجديد الذي يمسك بالخنجر والرشاش .

فيقول لي :

أبدا . هذه الظواهر لا ينبغي أن تخدع مثلك .
" مخطئ من ظن يوما ... أن للظالم ديناه
ثم تدور الأيام دورة العكس كما يقول جمال الدين الأفغاني .

وأجد أن كل ما كان يقوله صديقي العلامة ح . ص. هو صحيح مائة في المائة ,وأننا نعيش في هذه البلاد بلا حقوق .

ونعتمد في الحصول على حريتنا على مزاح الحاكم وضعفه أو قوته , وهو ينكل بنا إن أراد ويمنعنا من السفر إذا شاء ويعتقل من لا يعجبه في الوقت الذي يراه وليست هناك حقوق حقيقية لمواطن يعيش في هذه البلاد.

وأتذكر مقولته الحكيمة : أن لا أمان لمن يعيش في مصر في ظل حكومة العسكر وإن غيروا ملابسهم الكاكية .

ثم أري الأمور تسير بنا وبهم إلى مستقبل مجهول غامض .

وأري أننا نسير معهم وهم يقودوننا في سرداب آخره شلال من دم متدفق يصنعه قوم لا نعرفهم وشباب لا نراهم حيث الضحايا هم ونحن والجميع وماذا يجدي معنا غير الصبر في عالم القردة والخنازير والذين لا يفهمون تغير العالم وهم لم يدركوا هذا بعد .

زاد عدد السكان وغاية ما يفكرون فيه من قضايا هو تحديد النسل .

العنف يأخذ موقعه في طول البلاد وعرضها , وهم لا يزالون على أوهامهم ... الأمن المركزي والشوم وقنابل الدخان .

وإن شمل العنف كل المواطنين فماذا ستفعلون ؟

ستعلقون على الأعواد ويطلق عليكم الرصاص دون تمييز . وعندها فقط سوف تندمون .

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ..

امنحوا هذا الشعب حقه من الحرية والعدل قبل فوات الفرصة .

أو هو الطوفان الذي يقتلعكم من جذوركم , وينكل بكم وبنا ,

والوطن هو المكان الآمن الذي يحصل الإنسان فيه على حقه الكامل في الحياة الكريمة وهو المكان الذي يرتبط به ويعمل على النهوض به وتقديم حياته فداء له وهو بالتأكيد ليس حظيرة يعيش فيها يقدم له فيها العلف ويضرب بالشوم بين الحين والآخر حسب إرادة آمر الحظيرة

الحرية والقانون واحترام المواطن .
أو هو شلال الدم والعنف والدمار وعليكم أن تختاروا
وأنا أعرف كيف تفكرون وأدرك ما الذي اخترتم
وما كلامي هذا غير صرخة في واد ونفحة في رماد