ثورة 23 يوليو
بقلم/ عبد الرحمن الرافعي
مقدمة
إن دراسة كل ثورة تقتضي البحث عن أسبابها ومقدماتها، وما سبقها ومهد لها، فإن هذا البحث يساعد ولا ريب على فهم الثورة وتكييفها، وهذا البحث كان منهجي حين أرخت الثورات التي تعاقبت على مصر في تاريخها الحديث منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وهذا هو نفس المنهج الذي اتبعه في تاريخ ثورة 23 يوليو سنة 1952.
ولقد رأيت أن أجعل لمقدمات الثورة وأسبابها كتابًا مستقلاً، وهو هذا الكتاب (مقدمات ثورة 23 يوليو سنة 1952)، وسأخصص بمشيئة الله لوقائع الثورة ومراحلها وتطورها وأعمالها ونتائجها كتابًا مستقلاً آخر، مازلت في صدد تأليفه وجمع مواده، وهو يحتاج مني إلى دراسات لم أستكملها بعد.
والرأي عندي أن مقدمات ثورة 23 يوليو سنة 1922 ترجع إلى سيرة الملك السابق فاروق في الحكم، فإن حكمه كان هو التمهيد للثورة، أما أسباب الثورة وبواعثها فترجع إلى أبعد من ذلك وأعمق، إذ هي تمتد إلى بدء الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882، لأن ثورة 23 يوليو هي قبل كل شيء ثورة على الاحتلال والاستعمار.
ومن ناحية أخرى فإن ترادف الحوادث منذ إلغاء معاهدة 1936 في 8 أكتوبر سنة 1951 كان يتطور نحو الثورة، فإن إلغاء هذه المعاهدة كان بداية مرحلة جديدة من كفاح الشعب ضد الاحتلال البريطاني، وكانت الحوادث تتدرج وتتدافع يومًا بعد يوم نحو الثورة، لذلك كانت دراسة هذه الفترة هي موضوع الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب.
ويطيب لي أن أنوه بأن هذا الكتاب هو في سلسلة التاريخ القومي حلقة جديدة تبدأ حيث انتهى الجزء الثالث من كتابي (في أعقاب الثورة) ثورة سنة 1919.
ففي ختام هذا الجزء ألمعت إلى إلغاء معاهدة سنة 1936.
وفي الكتاب الحالي تفصيل لهذا الإلغاء، وتأريخ للحوادث التي ترتبت عليه، وللكفاح الشعبي الذي شبًّ على ضفاف القناة في أكتوبر سنة 1951 إلى أواخر يناير سنة 1952، ثم النكسة التي أصابت هذا الكفاح في يناير سنة 1952 حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952.
وبهذا الكتاب أكون قد أتممت خمسة عشر مجلدًا في تاريخ مصر القومي الحديث، وأود أن أشير إليها في هذه المقدمة، لكي تتبين الصورة الكاملة التطور كفاح الشعب في سبيل تحقيق أهدافه طوال قرن ونصف قرن من الزمان.
فالجزء الأول من "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" يتضمن ظهور الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث في أواخر القرن الثامن عشر، وبيان الدور الأول من أدوارها وهو عصر المقاومة الشعبية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر، وتاريخ مصر القومي في هذا العهد.
يليه الجزء الثاني ويشتمل على تاريخ مصر القومي من إعادة الديوان في عهد نابليون إلى جلاء الفرنسيين عن البلاد سنة 1801، ومن جلاء الفرنسيين إلى ولاية محمد علي سنة 1805.
ثم كتاب (عصر محمد علي) ويشتمل على تاريخ مصر القومي في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
يتبعه كتاب (عصر إسماعيل) وهو في جزءين، يحتوي الأول على عهد عباس وسعيد وأوائل عهد إسماعيل، ويتضمن الثاني ختام الكلام عن عهد إسماعيل والكوارث المالية التي أصابت البلاد في ذلك العهد وزلزلت استقلالها المالي ثم السياسي.
ويطيب لي أن أنوه بأن هذا الكتاب هو في سلسلة التاريخ القومي حلقة جديدة تبدأ حيث انتهى الجزء الثالث من كتابي (في أعقاب الثورة) ثورة سنة 1919.
ففي ختام هذا الجزء ألمعت إلى إلغاء معاهدة سنة 1936
وفي الكتاب الحالي تفصيل لهذا الإلغاء، وتأريخ للحوادث التي ترتبت عليه، وللكفاح الشعبي الذي شبًّ على ضفاف القناة في أكتوبر سنة 1951 إلى أواخر يناير سنة 1952، ثم النكسة التي أصابت هذا الكفاح في حريق القاهرة يوم 26 يناير سنة 1952 حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952.
وبهذا الكتاب أكون قد أتممت خمسة عشر مجلدًا في تاريخ مصر القومي الحديث، وأود أن أشير إليها في هذه المقدمة، لكي تتبين الصورة الكاملة لتطور كفاح الشعب في سبيل تحقيق أهدافه طوال قرن ونصف قرن من الزمان.
فالجزء الأول من "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" يتضمن ظهور الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث في أواخر القرن الثامن عشر، وبيان الدور الأول من أدوارها وهو عصر المقاومة الشعبية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر، وتاريخ مصر القومي في هذا العهد.
يليه الجزء الثاني ويشتمل على تاريخ مصر القومي من إعادة الديوان في عهد نابليون إلى جلاء الفرنسيين عن البلاد سنة 1801، ومن جلاء الفرنسيين إلى ولاية محمد علي سنة 1805.
ثم كتاب (عصر محمد علي) ويشتمل على تاريخ مصر القومي في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
يتبعه كتاب (عصر إسماعيل) وهو في جزءين، يحتوي الأول على عهد عباس وسعيد وأوائل عهد إسماعيل، ويتضمن الثاني ختام الكلام عن عهد إسماعيل والكوارث المالية التي أصابت البلاد في ذلك العهد وزلزلت استقلالها المالي ثم السياسي.
يتلوه كتاب (الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي) وفيه مقدمات هذه الثورة وأسبابها ووقائعها ومراحلها، وعدوان بريطانيا على استقلال البلاد ثم كتاب (مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال) وقد أرَّخت فيه العشر السنوات الأولى من الاحتلال البريطاني، من سنة 1882 إلى سنة 1892، يليه كتاب (مصطفى كامل) وقد أرَّخت فيه البعث الوطني من سنة 1892 إلى سنة 1908، ثم كتاب (محمد فريد) ويشتمل على تاريخ مصر القومي من سنة 1908 إلى سنة 1919.
يليه كتاب (صورة سنة 1919) في جزئين، يحتوي الأول على شرح حالة مصر وحوادثها السياسية أثناء الحرب العالمية الأولى، وبيان الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للثورة، وتطور الحوادث من بعد انتهاء الحرب إلى شبوب الثورة في مارس سنة 1919، ثم وقائع الثورة في القاهرة والأقاليم.
ويشتمل الجزء الثاني على مهادنة الثورة واستمرارها ومحاكاتها، ومتابعة وقائعها حتى نهايتها في إبريل سنة 1921، ونتائج الثورة في حياة مصر القومية.
ثم كتاب (في أعقاب الثورة) ويشتمل الجزء الأول منه على تاريخ مصر القومي من إبريل سنة 1921 إلى وفاة زعيم تلك الثورة سعد زغلول في 23 أغسطس سنة 1927.
والجزء الثاني وفيه تاريخ مصر القومي من سنة 1927 إلى سنة 1936، والجزء الثالث من سنة 1936 إلى 8 أكتوبر سنة 1951، تاريخ إلغاء معاهدة سنة 1936.
والكتاب الحالي عن مقدمات ثورة 23 يوليو سنة 1952 وأسبابها.
ولم يبق إلا كتاب (ثورة 23 يوليو سنة 1952) الذي أرجو أن ييسر الله لي إتمامه بعد استكمال ما يقتضيه من دراسات وبحوث، فأكمل به هذه المجموعة وأحقق بإخراجه أمنية كانت تجول في نفسي منذ سنة 1926، إذ كنت أرجو أن أؤرخ الحركة القومية بأدوارها المتعاقبة في تاريخ مصر الحديث أسأل الله الهداية والسداد، ومنه سبحانه أستمد العون والتوفيق، إنه سميع مجيب؛
الفصل الأول: إلغاء معاهد سنة 1936 والكفاح في القنال
في يوم الاثنين 8 أكتوبر سنة 1951 وقع حادث هام في تاريخ مصر القومي، كان بداية مرحلة جديدة من مراحل جديدة من مراحل كفاح الشعب في سبيل تحقيق أهدافه، ذلك هو إعلان إلغاء معاهدة 26 أغسطس سنة 1963.
اجتمع البرلمان بمجلسيه (النواب والشيوخ) مساء ذلك اليوم، وألقى مصطفى النحاس رئيس الوزارة وقتئذ بيان مستفيضا عن سياسة الحكومة نحو معاهدة سنة 1936، أعلن فيه قطع المفاوضات السياسية التي كانت قائمة في عهد وزارة الوفد بين الحكومتين المصرية والبريطانية "بعد أن تبين بجلاء عدم جدواها " كما أعلن إلغاء معاهدة 26 أغسطس سنة 1936( ) واتفاقيتي 19 يناير و10 يوليه سنة 1889 بشأن إدارة السودان، وقدم إلى البرلمان المراسيم بمشروعات القوانين المتضمنة هذا الإلغاء.
وأولها مرسوم بمشروع قانون يقضي بإلغاء القانون رقم 80 لسنة 1936 الذي سبق صدوره بالموافقة على تلك المعاهدة، وانتهاء العمل بأحكامها، وإلغاء القانونين الخاصين بالإعفاءات والميزات التي كانت تتمتع بها القوات البريطانية في مصر تنفيذاً لهذه المعاهدة،انتهاء العمل بأحكام اتفاقتي 19 يوليه سنة 1899 بشأن إدارة السودان.
والثاني مرسوم بدعوة البرلمان لتعديل الدستور لتقرير الوضع الدستوري تعيين لقب الملك والثالث مرسوم بمشروع قانون بتعديل الدستور وجعل لقب الملك "ملك مصر والسودان " بعد أن كان " ملك مصر ".
والرابع مرسوم بمشروع قانون يقضي بأن يكون للسودان دستور تضعه جمعية تأسيسية تمثل أهالي السودان.
وقد قابل البرلمان بمجلسيه هذه المرسوم بالتأييد والموافقة والحماسة البالغة، وقف ممثلو المعارضة في كلا المجلسين، وأعلنوا تأييدهم للحكومة في موقفها، وأقر البرلمان هذه المراسيم بالإجماع، وصدرت بها القوانين رقم 175 و 176 و 177 لسنة 1951 , ونشرت بالجريدة الرسمية عدد 16 و 17 أكتوبر سنة 1951.
استقلت البلاد إلغاء معاهدة سنة 1936 بالغبطة والحماسة، وأبدت استعدادها للبذل والتضحية، شأنها في الأوقات العصيبة، واستعدت الأمة بمختلف هيئاتها وطوائفها للكفاح، وتجاوبت مع الحكومة في مجاهدة الإنجليز في القنال، وتجلت في الشعب الروح الوطنية الثائرة التي ظهرت في ثورة سنة 1919.
كانت الفرصة سانحة لتوحيد الصفوف
كان إلغاء معاهدة سنة 1936 كما أسلفنا بداية مرحلة جديدة من مراحل الكفاح الوطني، وكانت أيضاً الفرصة سانحة لتوحيد الصفوف وجمع وإزالة أسباب الفرقة والانقسام.
وكان واجباً على الوفد أن يكون هو الداعي إلى توحيد الكلمة والعامل على تحقيق هذه الغاية، لأنه كان يتولى الحكم وقتئذ،ووزارته هي التي أعلنت إلغاء المعاهدة، واتخذ هذا الإلغاء شكل إعلان الحرب على الاحتلال.
والأمم عندما تعلن الحرب وتنفخ في النفير العام وتقرر التعبئة العامة لخوض غمار القتال، تزيل أسباب الخلاف بين هيئاتها وجماعاتها وأحزابها وأفرادها، وتكون الحكومة أول الداعين إلى الوحدة. ولكن النحاس لم يفعل شيئاً من ذلك، فلا هو دعا معارضيه الذين أيدوه في إلغاء المعاهدة إلى التعاون معه بشكل جدي، ولا هو صبغ وزارته بالصبغة القومية، ولا عدل عن سياسته الحزبية في شئون الحكم.
بل لم يفكر حتى في تأليف لجنة قومية ترجع إليها وزارته ولو من باب المشاورة في تنظيم الكفاح في القنال ومواجهة الإنجليز في الدور الجديد الذي أعقب إلغاء المعاهدة، ولم يمد يده إلى أي من المعرضين ليتعاونوا معه، بل اعتبر تأييده في كل ما يقول ويقرر هو كل ما هو مطلوب منهم، وانتظر المعارضون أن تتصل بهم الوزارة للتشاور في الخطط العلمية لتنظيم الكفاح، فذهب انتظارهم سدى. وفي الحق أن المعارضين للوفد على الرغم من أنه لم يستشرهم لا في إعلان إلغاء المعاهدة ولا في أي خطوة تلت هذا الإلغاء، قد أظهروا جميعا منتهى التأييد للوزارة في هذه المرحلة الهامة. ولكن هذا التأييد قوبل من النحاس ووزارته بالجمود وعدم الاكتراث. وتجاهل وجودهم.
وكان هذا الموقف مظهرا من المظاهر التي دلت على أن الوفد لم يرد أن يبذل أي جهد في سبيل توحيد كلمة الأمة، بل لم يفكر إطلاقا في هذه الناحية.
أعددنا لكل شيء عدته
كانت وزارة الوفد بعد إلغاء المعاهدة تعلن على لسان النحاس وغيره من الوزراء أنها أعدت لكل شيء عدته فيما ستواجهه مصر من مشاق الجهاد، وأنها أمضت الشهور في الاستعداد للكفاح، وأن المصلحة العامة تقضي بأن تظل الخطوات المقبلة في طي الكتمان إلى أن تعلن في الوقت المناسب.
وكانت كلمات النحاس، سواء في بيانه بالبرلمان، أو في غدواته وروحاته بين القاهرة والإسكندرية –حيثكانت الوزارة لا تزال تصطاف- بمثابة إعلان الجهاد من جديد على الاحتلال واعتبار وجود قواته في القنال اغتصابًا يجب رده بالقوة.
وعندما سافر النحاس من القاهرة إلى الإسكندرية يوم 20 أكتوبر سنة 1951 تعالت هتافات جموع الشعب بمحطة العاصمة منادية "نريد السلاح للكفاح".
فرد عليهم النحاس قائلاً : "تريثوا إن كل شيء سيتم في أوانه بإذن الله، والله مع الصابرين".
وكان الجميع يعتقدون بعد هذه التصريحات المتكررة أنا لوزارة قد قدرت جميع الاحتمالات التي ستعقب الإلغاء، واتخذت لكل احتمال عدته، والخطوات العملية التي سنواجهها بها، ولكن تبين مع الزمن أنها لم تتخذ أية عدة لمواجهة الموقف، فلا هي نظمت المقاومة، سلبية، أو إيجابية، ولا هي دربت المتطوعين على حرب العصابات، ولا سلحتهم أو أعدت تنظيمات الكفاح، ولا زودت رجال البوليس في مدن القنال بالسلاح والذخيرة الكافيين لمواجهة الموقف، بل لم تزود هذه المدن بالتموين الكافي قبل الكفاح أو في خلاله، وخاصة بعد أن تعطلت المواصلات إليها.
وكل ما عنيت به إعداد خطبة مستفيضة ألقاها النحاس في البرلمان وعرض فيها مراسيم إلغاء المعاهدة عرضًا حماسيًا أخاذًا، فقابلها النواب والشيوخ بالهتاف والتصفيق والشعور الفياض، وأذيعت في الراديو غير مرة.
وسرت الحماسة إلى نفوس المواطنين، وأخذوا يستعدون للكفاح ضد الإنجليز في القنال ويعدون له عدته من تلقاء أنفسهم، وكان في الحق كفاحًا مجيدًا، كفاح شعب أعزل من السلاح أمام قوات غاصبة مسلحة بأحدث معدات الفتك والقتال.
وتجلت بطولة الفدائيين في مهاجمة المعسكرات والمخافر والمنشآت البريطانية في منطقة القنال، مما تردد صداه في صحف العالم، وكان من أقوى الدعايات لمصر ضد الاحتلال البريطاني.
بواعث الإلغاء
إن إعلان وزارة الوفد إلغاء معاهدة سنة 1936 له أسباب عدة، اجتمعت فدفعت الوفد إلى هذه الخطوة الجريئة الموفقة، ويلزمنا أن نستعرض هذه الأسباب، ونربط بين المقدمات والنتائج، دون أن يغض هذا البيان من قيمة الإلغاء في ذاته، ولكن من الحق أن نفهم الحوادث على حقيقتها، ونحيط بظروفها وعللها وملابساتها، لكي تخلص لنا صورة واضحة جلية عنها.
فأول هذه الأسباب وأهمها، أن القضية المصرية قد انتكست في عهد وزارة الوفد الأخيرة، وتراجعت عما كانت عليه في العهود السابقة عليها، وخاصة في مفاوضات صدقي – بيفن سنة 1946.
ومع أن وزارة الوفد هي التي طلبت في شهر مارس سنة 1950 الدخول في مفاوضات مع الحكومة البريطانية، واستطالت هذه المفاوضات قرابة تسعة عشر شهرًا (من مارس سنة 1950 إلى سبتمبر سنة 1951)، فقد تبين فيها أن الجانب البريطاني بدأ أكثر تشددًا مما كان في مفاوضات صدقي – بيفن، وأنه تراجع عما كان قد قبله في تلك المفاوضات.
هذا إلى أن مفاوضي الوفد قد انزلقوا في مجال اللهفة والحرص على نجاح المفاوضات إلى التساهل في مسائل جوهرية هامة ما كان يجوز لهم أن يسلموا فيها، كقبول التحالف العسكري بين مصر وبريطانيا، وقبول الدفاع المشترك في وقت الحرب، وعودة القوات البريطانية في وقت الحرب إلى منطقة القتال، وإلى أي جهة من أرض مصر حيث يقتضي الدفاع، ومع ذلك لم يفد هذا التساهل شيئًا، وأصر الجانب البريطاني على استبقاء الاحتلال في وقت السلم.
وقد اضطر مصطفى النحاس ومحمد صلاح الدين (وزير الخارجية) غير مرة في هذه المفاوضات إلى أن يستندا إلى بعض نصوص مشروع صدقي – بيفن، وتساءلا في مرارة : كيف يرفض الإنجليز ما سبق أن قبلوه في مفاوضاتهم مع إسماعيل صدقي؟
قال النحاس في هذا الصدد مخاطبًا الفيلد مارشال سليم : " يجب أن تعلم أن الجلاء مهم جدًا وجوهري، وإذا تم فإننا سنضع أيدينا في أيديكم ونعمل معكم بقلوبنا وأرواحنا".
فأجابه سليم : "سيكون من العسير جدًا أن أوصي حكومتي بقبول الجلاء التام، ولا أعتقد أنكم تستطيعون الدفاع عن أنفسكم، ولست أرى كيف يستطاع الدفاع عن مصر بغير وجود بعض القوات البريطانية، كما أن حلفاءنا لا يمكن أن يروا كيف يستطاع بدونها الدفاع عن مصر".
فقال النحال : "لقد اتفقتم مع صدقي باشا على أن يتم الجلاء التام في سبتمبر سنة 1949، فكيف يمكن أن أقول للشعب غير ذلك؟ وقد كنا ضد صدقي باشا في أرجاء الجلاء إلى ذلك التاريخ وطلبنا الجلاء الناجز".
وقال في موضع آخر : "ولو أن هذا الاتفاق – اتفاق صدقي – بيفن – قد أبرم في ذلك الحين لما بقيت الآن – سنة 1950 – في مصر قوات بريطانية".
وأصر المارشال سليم على وجهة نظره، قال في هذا الصدد : "إن هناك سببًا آخر لإصراري على بقاء القوات البريطانية في وقت السلم، وهو أنه إذا هوجمت مصر نأمل أن تصلنا قوات من بلاد الدومنيون ومن دول أخرى لإمداد قواتنا، واستراليا ونيوزيلانده وجنوب أفريقية لا تقبل إرسال قوات إلى مصر إذا لم نكن فيها".
وقال النحاس في موضع آخر : "إن مصر مصممة على أن تتولى الدفاع عن نفسها، وهي توافق على عقد محالفة دفاعية مع بريطانيا العظمى بشرط الجلاء الناجز الكامل وأن تكون هذه المعاهدة معاهدة الند للند على قدم المساواة".
وقال أيضًا : "لماذا تبقون قواتكم على القناة وليس في فلسطين أو غزة؟ مع أن هذه القوات نفسها الثقيلة منها والخفيفة يمكن أن تصل إلينا في مدى أسبوع وتكون عندنا وقت الحرب، إني لا أستطيع إقناع الشعب إلا بهذه الطريقة".
وقال في هذا المعنى : "ضعوا ما شئتم من الجيوش خارج حدود بلادنا، وإني أؤكد لك أنك ستجد التعاون المادي التام متوافرًا بإخلاص وقت وقوع الخطر".
وقال محمد صلاح الدين وزير الخارجية : "إننا راغبون في الدفاع عن بلادنا وأننا نقبل أن نكون حلفاء على أن يسبق ذلك الجلاء".
وقال في موضع آخر مشيرًا إلى مشروع صدقي – بيفن : إن جلاء سلاح الطيران والدفاع الجوي البريطاني كان متفقًا عليه في مشروع صدقي – بيفن، فلابد أنه روعي في ذلك إمكان عودة الطائرات البريطانية وما يتبعها إلى مصر في ساعات قليلة عند نشوب الحرب".
وقال صلاح الدين أيضًا : "سبق للوفد المصري عندما كان في المعارضة أن رفض فكرة الدفاع المشترك، وأجمع الرأي العام المصري على تأييده في هذا الرفض، وانتهى الأمر بأن رفض أغلبة المفاوضين مشروع صدقي – بيفن، من أجل الدفاع المشترك، وذلك بالرغم مما تضمنه هذا المشروع من تقرير الجلاء الكامل بحرًا وبرًا وجوًا، وأريد هنا أن أفرق بين الدفاع المشترك في وقت السلم، والدفاع المشترك وقت الحرب، فالدفاع المشترك في وقت الحرب أمر مقبول ومفروغ منه بمقتضى المحالفة، أما الدفاع المشترك في وقت السلم فهو الذي سبق لمصر أن رفضته ويصعب أن نقبله في أية صورة من الصور".
وقال أيضًا : "سبق أن قلت وكررت أن إدارة القاعدة (قاعدة قناة السويس) وقت السلم تكون في يد المصريين، أما في وقت الحرب فتكون في يد المصريين والبريطانيين.
وقال أيضًا : "لقد بذلنا غاية ما في وسعنا لتقريب وجهتي النظر، فقبلنا عقد محالفة وحضور القوات البريطانية في وقت الحرب لا إلى منطقة القنال وحدها بل حيث يقتضي الدفاع".
وعندما قال السفير البريطاني (رالف ستيفنسون) في إحدى جلسات المفاوضة : "إن توحيد القوتين واندماجهما ضروري ليس فقط فيما يتعلق بالمنشآت الأرضية بل بأسراب الطائرات أيضًا، ويترك تقدير عدد الفنيين اللازمين إلى لجنة مشتركة من الجانبين"، قال فؤاد سراج الدين وزير الداخلية تعقيبًا على هذا الكلام : "إن هذا أساس معقول".
وسأل المستر بيفن الدكتور صلاح الدين عما يراه في مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط، وقال عن هذه المسألة إنها المسألة الأهم، وأنه يشعر بأنها تكون مسئولية بالغة الخطر (كذا) إذا تركت معاهدة سنة 1936 دون إعداد تدبير فعال ليحل محلها، وأنه يسأل وزير الخارجية المصرية بصفة غير رسمية ما إذا كانت مصر مستعدة أن تنظر في اتفاق مصري بريطاني يمكن أن يشمل أيضًا بعض دول أخرى من دول الشرق الأوسط كإسرائيل والعراق.
فأجاب صلاح الدين جوابًا ينم عن قبوله مبدأ الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط إذ قال : "أوافقكم على أن نبذل جهدنا لتصل مصر وبريطانيا إلى اتفاق يرضاه الطرفان، وأعتقد أن مثل هذا الاتفاق يسهل توسيع نطاقه في الشرق الأوسط، وقد اشتركت الدول العربية فعلاً في إعداد نظام جماعي للدفاع، ولكني بينت لسعادة السفير البريطاني أنه لا توجد دولة عربية تستطيع أن تشترك مع إسرائيل في مثل هذا النظام، وليس الرأي العام في البلاد العربية مستعدًا للدخول في أية علاقة مع إسرائيل، ولكنكم تستطيعون أن تتفقوا مع إسرائيل على ما ترونه دون أن يكون لنا به أية علاقة فيسد اتفاقكم معها أي نقص تجودنه فيما قد يعقد من اتفاق بيننا وبينكم".
وقال السفير البريطاني في تسويغ تراجع الإنجليز عما قبلوه في مفاوضاتهم مع إسماعيل صدقي : "يمكنني أن أقول لكم أنه كان مزمعًا نقل القاعدة كلها، ولكن الموقف في ذلك الوقت كان يختلف عن الموقف الآن سنة 1950".
وقال في هذا الصدد أيضًا : "ولو أنه صحيح كل الصحة أن جلاء جميع القوات بل كل شيء كان متفقًا عليه، فأرى لزامًا عليّ أن أكرر مرة أخرى أن الموقف الدولي قد تغير منذ سنة 1946".
وقال بيفن وزير الخارجية البريطانية، وقد كان مفاوضًا سنة 1946 وسنة 1950 : "إنه لا يظن من المفيد العودة إلى محادثات سنة 1946، وهو يفهم الآن أن الحكومة المصرية لا تعارض في وجود قوات بريطانية في مصر وقت الحرب وأن الصعوبة هي كيف تتقرر عودة القوات البريطانية".
وقال أيضًا في موضع آخر : "إن العبارة المصرية المعادة عن الجلاء ووحدة مصر والسودان لا تنهض أساسًا عمليًا يمكن البناء عليه".
وقال في موضع آخر : " أنه يكره ترديد عبارة الجلاء، ويود أن يرى هذه العبارة غير الموفقة... تستبدل بشيء مثل عبارة (نقل السلطة) ".
واستبان من خطاب هربرت موريسون وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم في 1951 مبلغ إصرار الحكومة البريطانية على استمرار احتلال القوات الإنجليزية لمصر، والدفاع المشترك في وقت السلم، نتسويغ هذا وذاك بادعاء بريطاني جديد وهو أن بريطانيا تحمل مسئوليات في الشرق الأوسط بالنيابة عن باقي دول الكومنولث وعن حلفاء الغرب أجمعين !
فكانت النتيجة التي انتهت إليها مفاوضات سنة 1950 – 1951 صدمة لوزارة الوفد، إذ تبين منها أن القضية المصرية قد تراجعت في عهدها عما كانت عليه في عهد الوزارة " البغيضة "، وزارة إسماعيل صدقي.
وقد انتظرت وزارة الوفد زهاء شهرين بعد خطاب موريسون لعل الجو يأتي بجديد ينقذها من هذا الفشل، فتبين أن لا جديد فيه، وتولاها الخجل من أن تزداد القضية الوطنية انحدارا في عهدها، ففكرت ثم فكرت، وانتهى تفكيرها إلى أن المخرج الوحيد من هذا المأزق هو إلغاء معاهدة سنة 1936.
وبعبارة أخرى أراد الوفد أن يواري سوأة إخفاقه في المفاوضات وتساهله فيها بعمل يكون له دوي وفرقعة ينال في ذاته تأييد المواطنين ويصرف أنظارهم عن محاسبة الوفد ومساءلته عن تساهله في المفاوضات وإخفاقه فيها، ذلك بإلغاء المعاهدة
ومن ناحية أخرى، أرادت الوزارة أن تستر سياستها الحزبية الجامحة في الحكم بعمل يتسم بطابع الجرأة والإقدام، ويحول الرأي العام من نقد لتصرفاتها الداخلية، إلى قضية وطنية خارجية، وتسكت ألسنة المعارضين حينا عن هذه التصرفات.
وليت وزارة الوفد قد سلكت بعد إلغاء المعاهدة سبيل العدل والاستقامة في حكمها، بل تبين مع الزمن أن تيار الفساد والطغيان الحزبي قد استمر كما كان قبل إلغاء المعاهدة.
وقصدت الوزارة أيضاً تقوية مركزها أمام السراي، ومنع الملك السابق فاروق من إقالتها، فقد ترامى إليها أنه يفكر في هذه الإقالة، ويعد العدة لذلك، فأرادت بإلغاء المعاهدة أن تحول دون إنفاذ تدبيره، باكتساب تأييد جديد للشعب في كفاحها ضد الاحتلال، فيضطر الملك إلي العدول عن فكرة الإقالة، وقد انكمشت السراي فعلا ومؤقتا بعد إلغاء المعاهدة، وتركت الوزارة تمضي في الحكم.
تقدير الإلغاء
ومهما يكن من هذا الاعتبارات والملابسات، فإن إلغاء معاهدة سنة 1936 هو في ذاته عمل جليل جدير بالتنويه والتقدير، ويشرف الحكومة التي أقدمت عليها، ولقد كانت له نتائجه الهامة في بعث الكفاح الوطني وتقوية الروح المعنوية، وتردد صداه في مصر والشرق وفي أنحاء العالم كافة.وهو أهم وأعظم عمل قامت به وزارة الوفد.
موقف بريطانيا حيال إلغاء المعاهدة
كانت وزارة العمال تتولى الحكم في بريطانيا، وكانت الانتخابات العامة على الأبواب، إذ جرت في 26 أكتوبر سنة 1951 ، فأراد حزب العمال أن يبدو مستمسكا بسياسة بريطانيا الاستعمارية التي لا يختلف عليها المحافظون والعمال، وأعلنت الوزارة الإنجليزية تمسكها بالمعاهدة، وصرح هربرت موريسون وزير خارجيتها بأن بريطانيا ستقابل القوة بالقوة إذا اقتضى الأمر لبقاء قواتها في منطقة قناة السويس، وأن الحكومة البريطانية لن تذعن لمحاولة مصر تمزيق المعاهدة
وأصدرت السفارة البريطانية في القاهرة مساء 8 أكتوبر سنة 1951 بيانا أعلنت فيه أن إلغاء الحكومة المصرية للمعاهدة من جانبها وحدها عمل غير قانوني ويخالف أحكام المعاهدة، وأن الحكومة البريطانية تعتبرها سارية المفعول، وتعتزم التمسك بحقوقها بمقتضى هذه المعاهدة.
وألقى ونستون تشرشل زعيم المحافظين وزعيم المعارضين وقتئذ خطابا في مجلس العموم أيد فيه موقف حكومة العمال، وقال أن إقدام حكومة مصر على إجلاء الإنجليز عن منطقة قناة السويس والسودان ضربة أخطر وأكثر مهانة للكرامة من اضطرارها إلى الجلاء عن عبدان بإيران.
ومن عجب أن يحتج الإنجليز بأن مصر لا يجوز لها أن تنقض معاهدة سنة 1936 من جانبها وحدها، في حين أن بريطانيا كانت أول من نقضها، فإن هذه المعاهدة لم تكن لتخولها أن تزيد عدد جنودها في منطقة القنال على عشرة آلاف من القوات البرية، وأربعمائة من الطيارين، مع الموظفين اللازمين لأعمالهم الفنية والإدارية. ولكن بريطانيا تجاوزت هذا العدد إلى أضعافه المضاعفة، فزادت قواتها إلى ثممانين ألف مقاتل، وبذلك أهدرت روح المعاهدة ونصوصها قبل أن تلغيها مصر، فتمسك الحكومة البريطانية بالمعاهدة بعد إلغائها من جانب مصر هو تجاهل للحقائق ومجافاة للمنطق السليم.
مقترحات الدول الأربع ورفضها (أكتوبر سنة 1951)
هي مقترحات اتفقت حكومات الدول الأربع بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا علي أثر إلغاء معاهدة سنة 1936على التقدم بها مجتمعة إلى الحكومة المصرية لتكون بديلا من هذه المعاهدة.
وأساس هذه المقترحات أن تقبل مصر الدفاع المشترك مع هذه الدول الأربع، وأن تكون حماية قناة السويس منوطة بقوات دولية تشترك فيها مصر وبريطانيا وأمريكا وفرنسا وتركيا واستراليا ونيوزيلاندا وجنوب أفريقية. ويكون لجزء من هذه القوات حق البقاء في مصر حتى في حالة السلم، ثم استمرار الحكم البريطاني في السودان مع إنشاء رقابة دولية صورية لا تحد من سيطرة الإنجليز فيه، وجعل علاقة مصر بالسودان علاقة مياه فحسب.
فالغرض من هذه المقترحات هو إبدال معاهدة سنة 1926 بمعاهدة لا تختلف عنها في الجوهر، وإبدال الاحتلال البريطاني باحتلال دولي، تشترك فيه بريطانيا وحلفاؤها وتقبله مصر وترتضيه.
وقد ظنت بريطانيا أنها حين تتقدم بهذه المقترحات باشتراك الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا، فإن هذه الوسيلة يكون فيها من الضغط "الدولي" على مصر ما يجعلها تجنح إلى قبولها، ولكن هذا الظن قد باء لحسن حظ مصر بالإخفاق والخيبة.
قدمت هذه المقترحات إلى الحكومة المصرية يوم السبت 13 أكتوبر سنة 1951.
ففي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم استقبل الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية بدار الوزارة ببولكلي حيث كانت الوزارة لا تزال تصطاف، السير رالف ستيفنسن سفير بريطانيا، ثم المستر جفرسن كافري سفير الولايات المتحدة، ثم المسيو كوف دي مورفيل سفير فرنسا، ثم فؤاد خلوصي طوغاي سفير تركيا، استقبلهم على التعاقب، وأفضى كل منهم إليه بفحوى هذه المقترحات، وكان السفراء الأربعة قد طلبوا مقابلة صلاح الدين مجتمعين، ولكن الوزير المصري أصر على أن يقابلهم منفردين، حتى لا يكون اجتماعهم في المقابلة شبه مظاهرة، فنزل السفراء على إرادة الوزير، وقابلوه منفردين على التعاقب في الموعد المذكور.
وانفرد السير رالف ستيفنسن سفير بريطانيا بتقديم نصوص المقترحات مكتوبة، واكتفى سفراء الدول الأخرى الثلاثة بالتصريح بأنهم مؤيدون لمضمونها.
تضمنت المقترحات نصوصًا تتعلق بقناة السويس، ونصوصًا أخرى عن السودان وإدارته، وكلتاهما تهدر الجلاء وتقضي على وحدة وادي النيل، وتثبت سيطرة بريطانيا في السودان.
وكان السفير البريطاني قد أبلغ وزير الخارجية شفويًا فحوى هذه المقترحات قبل تقديمها إليه رسميًا بنحو أسبوعين، أي قبل إلغاء معاهدة سنة 1936، وقد أشار السفير إلى هذه الواقعة في ديباجة المذكرة التي قدمها يوم 13 أكتوبر بنصوص هذه المقترحات، ولعل إبلاغ فحواها قد عجل بإعلان الحكومة المصرية إلغاء المعاهدة في 8 أكتوبر، إذ تحققت بذلك أن لا جدوى من استمرار المباحثات بينها وبين بريطانيا.
نصوص المقترحات الرباعية
ننشر فيما يلي المذكرة التي تضمنت نصوص المقترحات الرباعية، وهي من الوثائق الاستعمارية التي يحسن بنا أن نتعرفها وأن نضعها إلى جانب مشروع صدقي بيفن (في أعقاب الثورة ج3 ص195)، لكي نتبين من مجرد المقارنة أن بريطانيا قد تراجعت عن بعض ما قبلته في مشروع صدقي – بيفن، وأنها على الأخص عدلت عن الجلاء الذي وعدت به في هذا المشروع.
وهذا تعريب المذكرة :
"يتشرف السفير البريطاني بناء على تعليمات حكومة جلالة الملك في الملكة المتحدة بأن يقدم إلى الحكومة المصرية المقترحات الآتية لتسوية الخلافات القائمة بين مصر والمملكة المتحدة في مسألة وجود قوات بريطانية في منطقة قناة السويس وفي مسألة الدفاع بوجه عام، وبمقتضى هذه المقترحات التي توافق عليها حكومات تركيا وفرنسا والولايات المتحدة موافقة تامة وتؤيدها. ستقام هذه المسائل على أساس هيئة الدفاع عن الشرق الأوسط تساهم فيها مصر كشريك مع الدول الأخرى التي يهمها الأمر.
وكانت الحكومة المصرية قد أُبلغت بجلاء أن مقترحات بعيدة المدى لتسوية هذه المسائل كانت على وشك أن تقدم إليها عندما عمدت من جانبها في 8 أكتوبر إلى تقديم تشريع بإلغاء معاهدة سنة 1936 الإنجليزية المصرية واتفاقيتي سنة 1899 بشأن الحكم الثنائي في السودان.
وعلى الرغم من حيرة حكومة جلالة الملك في إدراك أسباب العمل الذي قامت به الحكومة المصرية ولا يمكنها الاعتراف بشرعيته، إلا أنها قررت بالاتفاق مع حكومات فرنسا وتركيا والولايات المتحدة أن تقدم هذه المقترحات إلى الحكومة المصرية بأمل أن تعيرها أكبر قسط من العناية الجدية، لإظهار مبلغ ما أوليت هذه المسائل من دراسة دقيقة، ومدى استعداد حكومة جلالة الملك متحدة مع الحكومات الأخرى التي يهمها الأمر للسير في سبيل رغبتها لملاقاة أماني مصر الوطنية من جهة، واحتياجات الدفاع عن هذه المنطقة الهامة من جهة أخرى.
الدفاع عن مصر والشرق الأوسط
1- تنتمي مصر إلى العالم الحر، وتبعًا لذلك فالدفاع عنها وعن الشرق الأوسط عمومًا أمر حيوي لها وللدول الديمقراطية الأخرى على السواء.
2- لا يمكن تأمين الدفاع عن مصر وعن الدول الأخرى في الشرق الأوسط ضد العدوان من الخارج إلا بالتعاون بين جميع الدول التي يهمها الأمر.
3- ولا يمكن ضمان الدفاع عن مصر إلا عن طريق الدفاع الفعال عن منطقة الشرق الأوسط وتنسيقه مع الدفاع عن المناطق المتاخمة.
قيادة متحالفة للشرق الأوسط
4 – وعلى ذلك يبدو من المرغوب فيه إنشاء قيادة متحالفة للشرق الأوسط تشترك فيها الدول القادرة على الدفاع عن المنطقة الراغبة في المساهمة فيه، وأن المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا مستعدة لأن تشترك مع الدول الأخرى التي يهمها الأمر في إنشاء مثل هذه القياده.فضلا عن أن استراليا ونيوزيلندا واتحاد جنوب أفريقيه قد أعربت عن اهتمامها بالدفاع عن هذه المنطقة ووافقت من حيث المبدأ على الاشتراك في القيادة.
5 – مصر مدعوة إلى الاشتراك كعضو مؤسس في القيادة المتحلفة للشرق الأوسط على أساس المساواة والمشاركة مع الأعضاء الؤسسين الآخرين.
سحب القوات البريطانية الزائدة
6 – إذا كانت مصر مستعده للتعاون الكامل في هيئة القيادة المتحالفة وفقاً لأحكام الملحق المرافق. فإن حكومة جلالة الملك تكون من جانبها راغبة في الموافقة على أن تسحب من مصر تلك القواة البريطانية التي لا تخصص للقيادة المتحالفة للشرق الأوسط بأتفاق بين الحكومة المصرية وحكومات الدول الأخرى المشتركة كذلك كأعضاء مؤسسين في هيئة القيادة المتحالفة للشرق الأوسط.
تسهيلات للقيادة المتحالفة
7 – وفيما يختص بالفوات المسلحة التي توضح تحت تصرف القيادة المتحالفة للشرق الأوسط وتقدم التسهيلات الضرورية للدفاع الاستراتيجي إلى هذه القيادة كالقوات العسكرية والجوية والمواصلات والمواني ألخ، فأنه ينتظر من مصر أن تبذل مساهمتها على قدم المساواة مع الدول الأخرى المشتركة.
تدريب الجيش المصري وإعداده
9 – ستقدم إلى مصر التسهيلات لتدريب وإعداد قواتها من قبل الأعضاء المشتركين في القيادة المتحالفة للشرق الأوسط الذين هم في مركز يسمح لهم بتقديمها.
صلة القيادة بحلف الأطلنطي
10 – ستضع الدول التي يهمها الأمر فيما بعد بالتشاور فيما بينهما النظام التفصيلي للهيئة المتحالفة للدفاع عن الشرق الأوسط، وتحدد علاقتها بهيئة معاهدة شمال الأطلنطي، ولهذا الغرض يقترح أن يرسل جمع الأعضاء لمؤسسين للقيادة المتحالفة للشرق الأوسط ممثلين عسكريين إلى اجتماع يعقد في المستقبل القريب لغرض أعداد مقترحات تفصيلية لعرضها على الحكومات صاحبة الشأن.
ملحق (1)
1 – بالمساهمة مع الدول الأخرى المشتركة التي تساهم بقسط مماثل في الدفاع عن المنطقة :
(أ) توافق مصر على أن تتقدم على أرضها إلى القيادة المتحالفة المقترحة تسهيلات الدفاع الاستراتيجي وجميع التسهيلات الأخرى لتي لا غنى عنها لتنظيم الدفاع عن الشرق الأوسط في وقت السلم. امتيازات للحلفاء في مصر.
(ب) تتعهد مصر بأن تمنح قوات القيادة المتحالفة للشرق الأوسط جمع التسهيلات والمساعدات الضرورية في حالة الحرب أو التهديد بحرب وشيكة أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها بما في ذلك استعمال المواني المصرية والمطارات ووسائل المواصلات .
2 – مؤمل كذلك أن توافق مصر على أن تكون قيادة القائد الأعلى للحلفاء في أرضها.
منطقة القناة قاعدة للحلفاء
3 – وتماشيا مع روح هذه الترتيبات يكون مفهوما :
(أ) أن تسلم إلى مصر رسميا القاعدة البريطانية الحالية فيها، على أن يكون مفهوما أنها تصبح في نفس الوقت قاعدة للحلفاء تتبع القيادة المتحالفة للشرق الأوسط مع اشتراك مصر اشتراكا تاما في إدارتها في وقت السلم وفي وقت الحرب.
عدد القوات المتحالفة في مصر
(ب) يحدد من وقت لآخر بمعرفة الأمم المشتركة بما فيها مصر عدد القوات المتحالفة للأمم المشتركة التي ترابط في مصر في وقت السلم، وذلك تبعاً لا ضطراد نمو القوات التابعة للقيادة المتحالفة للشرق الأوسط.
إنشاء هيئة للدفاع الجوي
4 – ويكون مفهوما كذلك ما كذلك أن تنشئا هيئة للدفاع الجوي تضم قوات مصرية ومتحالفة تحت قيادة ضابط ذي مسئوليات مشتركة نحو الحكومة المصرية والقيادة المتحالفة للشرق الأوسط، وذلك لحماية مصر وقاعدة الحلفاء.
مقترحات خاصة بالسودان
1 – لا توافق حكومة جلالة الملك على أن مسألتي الدفاع عن الشرق الأوسط والسودان، متصلتان بأية حال، ومع ذلك فقد أعارت أكبر اهتمامها لإمكان التقائها مع الحكومة المصرية في آرائها عن السودان، وهي مستعدة الآن لتقديم الاقتراحات الآتية :
2 – يسر حكومة جلالة الملك أن تولى الحكومة المصرية هذه الاقتراحات أعظم عناية بقصد مناقشتها مع الحكومة البريطانية مناقشة كاملة حتى يتيسر للحكومتين أن تبحثا معا تفصيلات تطبيقها.
المصالح المصرية في السودان..!
3 – ويلاحظ أن هذه المقترحات لا تدل فقط على اهتمام الحكومة البريطانية البالغ بتفهم وجهة النظر المصرية والالتقاء بها، بل يبدو كذلك أنها السبيل الوحيد لتهيئة الضمانات الكافية للمصالح المصرية في السودان .
4 – وهذه هي المقترحات :
لجنة تراقب تطور السودان
(أ) إنشاء لجنة تقيم في السودان لمراقبة التطور الدستوري للبلاد وتقديم النصيحة إلى الإدارة الثنائية.
(ب) إصدار بيان مصري إنجليزي بالمبادئ المشتركة بشأن السودان.
سلطة خاصة لمشروعات النيل
(ج) ضمان دولي لاتفاقات مياه النيل .
(د) إنشاء سلطة خاصة بمشروعات مياه النيل لزيادة الاستفادة منها ويمكن أن يكون هذا بمساعدة البنك الدولي .
(ه) الاتفاق على تاريخ بلوغ السودان الحكم الذاتي كخطوة أولى في سبيل اختيارهم لوضعهم النهائي.
ملحق (2) خاص بالسودان
بيان بالمبادئ
1 – نظراً لاعتماد كل من مصر والسودان على مياه النيل، ولضمان أكمل تعاون في زيادة مقادير المياه الممكن الحصول عليها وفي توزيعها، فمن الضروري أن تربط الشعبين أقوى أواصر الصداقة.
الوصول بالسودان إلى الحكم الذاتي
2 – إن الغرض المشترك لمصر وبريطانيا العظمى هو تمكين شعب السودان من الوصول إلى الحكم الذاتي الكامل بأسرع ما يمكن وبالتالي من أن يختار لنفسه في حرية شكل حكومة وعلاقته بمصر التي تتمشى مع حاجاته حسبما تكون حينئذ.
3 – بالنظر إلى التباين الشاسع في الثقافة والجنس والدين والتطور السياسي بين السودانيين فإن التدرج نحو الوصول إلى الحكم الذاتي الكامل يتطلب تعاون مصر والمملكة المتحدة مع السودانيين.
لجنة دولية تقيم في السودان
4 – لذلك تعتزم الحكومتان إنشاء لجنة دولية تقيم في السودان لمراقبة التطور الدستوري في البلاد ولبذل النصيحة للإدارة الثنائية.
ملحق (3)
1 – ليس للجنة الدولية الحق في أن تتدخل في أعمال الإدارة اليومية للسودان أما تكوين اللجنة فسيكون محلا لمفاوضة، ولكن يمكن تكوينها من دولتي الحكم الثنائي ومن حكومة الولايات المتحدة إذا اتفقت هاتان الدولتان على ذلك، ويتعين الحصول في الوقت المناسب على موافقة السودانيين على إنشاء مثل هذه اللجنة، كما لا يستبعد اشتراكهم فيها .
تقرير اللجنة الدستورية في السودان
2 – وفيما يختص بتحديد موعد الحكم الذاتي فمن المقترح أن يتفق على موعد على أساس تقرير اللجنة الدستورية (1) التي تعمل الآن في السودان.
3 – صحيح إن حزب الأشقاء (2) قد رفض أن يشترك في عمل اللجنة الدستورية غير أنه علي الرغم من عدم اشتراكه فإن تقرير اللجنة الدستورية يمكن أن يعتبر ممثلا للفكر السياسي في السودان على مدى واسع، ومع ذلك فستكون هناك في أثناء التطور في مجراه العادي فترة من الوقت بين بلوغ الحكم الذاتي وبين تقرير الوضع النهائي للسودان وعلاقته بمصر تتاح فيها الفرصة لجميع الأحزاب السياسية للتأثير في مستقبل السودان بالوسائل الديمقراطية العادية.
رفض هذه المقترحات
وقد أجتمع مجلس الوزراء ببولكلي يوم الأحد 14 أكتوبر سنة 1951، أي في اليوم التالي لتقديم هذه المقترحات، ونظر فيها وفي دعوة مصر للاشتراك في منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط التي كان يراد إنشاؤها،ة وقرر رفض هذه الدعوة ورفض المقترحات من أساسها وأنها غير صالحة لأن تكونه تمهيد الإجراء مباحثات جديدة للوصول إلى اتفاق جديد، وقرر الاستمرار على الخطة التي أعلنها رئيس الوزراء وهي إلغاء معاهدة سنة 1936، وقد أعلن فؤاد سراج الدين وزير الداخلية والمالية وقتئذ هذا القرار في مجلس النواب بجلسة 15 أكتوبر سنة 1951.
ولقد أحسنت الحكومة صنعا برفض هذه المقترحات، لأن بدعة الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط هي فكرة استعمارية اتفقت عليها الدول الغربية لتربط الشعوب العربية بعجلة الاستعمار وتعصف بسيادتها الداخلية والخارجية، وقد اتفقت عليها تلك الدول في الوقت الذي قويت فيه الحركة الوطنية المنادية بإلغاء معاهدة سنة 1936، فأرادت أن تجعل من نظام الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط بديلا من تلك المعاهدة يقرر أسسها مع تغيير في الأشكال والصيغ، وإبدال الاحتلال البريطاني باحتلال دولي تشترك فيه قوات عسكرية من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا واستراليا ونيوزيلندا واتحاد جنوب أفريقيا وأن يكون هذا النظام تابعا لحلف الاطلنطي، ويرمي إلى تدويل للدفاع عن قناة السويس وعن مصر ذاتها، وفي هذا ما فيه من إهدار سيادة مصر واستقلالها وجعلها في شبه حماية دولية.
فغرض الدول الثلاث الواضعة لهذا المشروع – بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة – هو السيطرة على دول الشرق الأوسط والتمكين للاستعمار الغربي من استعادة هيبته بعد الصدع الذي أصابه سنة 1951 في إيران بتأميم البترول وجلاء الإنجليز عن عبدان.
وكانت هذه الدول تهدف أيضا إلى معارضة مبدأ الحياد الذي أخذ يتمشى في الشعوب العربية والشرقية ويتسع نطاقه في محيطها السياسي، فإن هذه الشعوب رأت في تقرير الحياد الإيجابي صونا لسيادتها ودعما لاستقلالها الحقيقي، على عكس التحالف العسكري مع الدول الاستعمارية عامة، فإنه ولا ريب يجعل السيادة والاستقلال رهنا بسياسة تلك الدول، ويضطر الدول العربية والشرقية إلى أن تسير في ركاب الدول الاستعمارية واتباع ما توعز به تحقيقا لأغراضها السياسية والاقتصادية.
فالمقترحات المعروضة تقضي على الحياد وتحول دون تقريره، وتجر الدول العربية والشرقية إلى الدخول في كل حرب تريده الدول الثلاث ويريده حلف الاطلنطي، وهذه الدول – وخاصة بريطانيا وفرنسا – لا تفتأ تتسبب في إشتعال نار الحروب سعيا وراء أطماع لا حد لها ولا نهاية.
هذا إلى المقترحات تجعل الجيش وقيادته وتسليحه كما تجعل السياسة الخارجية في مصر والدول العربية خاضعة للقيادة العامة لمنظمة الدفاع عن الشرق الأوسط وهي بداهة قيادة أجنبية كما يبدو من روح المقترحات، ويتأكد هذا المعنى من المذكرة التفسيرية التي وضعها الدول لمقترحاتها، فإن البند السابع منها ينص على أن هذه الدول تنوي أن تجعل القيادة في الشرق الأوسط قيادة متحالفة وليست قيادة أهلية، وستلقى على القائد الأعلى في الشرق الأوسط مسئولية تطبيق مشروع الدفاع المشترك الذي تقدمة القيادة.
وهذا معناه أن القائد الأعلى للجيش المصري يصبح بموجب هذه المقترحات أجنبيا لا مصريا، ويزيد في وضوح هذا المعنى ما جاء في البند التاسع من المذكرة التفسيرية، وهو أن قيادة الشرق الأوسط لن تخدم بطبيعة الحال (كذا) المصالح القومية لأية دولة تابعة لها.
فالدفاع عن مصر طبقا لهذه المقترحات يكون دفاعا يصدر عن دول أجنبية وقيادة أجنبية، ولا يكون دفاعا أهليا أو قوميا، وفي هذه معنى الحماية البغيضة التي تشتركا دول أجنبية استعمارية.
وليس لهذه الحماية أو التبعية مقابل، فإن الجلاء نفسه قد استبعد في المقترحات، والقاعدة البريطانية في قناة السويس تبقى قاعدة دولية تشترك القيادة المتحالفة مع مصر في إدارتها في حالتي السلم والحرب معا، وتبقى الجنود المتحالفة في مصر وقت السلم إذ نصت المقترحات على أن للدول المتحالفة تحديد عدد القوات الحربية التي ترابط في مصر وقت السلم.
ويجعل المشروع للدول الاستعمارية امتيازات في أرضي مصر وموانيها ومرافقها، مما يعيد إلى الأذهان ذكرى الامتيازات الأجنبية البغيضة، بل إنها شر من الامتيازات الأجنبية، لأنها امتيازات عسكرية وسياسية تجعل من منطقة قناة السويس ومن أراضي مصر قاعدة حربية لها.
فالمقترحات تقوم على أوضاع وقيود تدعم الاستعمار وتهدر الاستقلال والجلاء وقد تجلت فيها نية السيطرة على مصر وعلى دول الشرق الأوسط وإخضاعها لأطماع الاستعمار، وزاد في وضوح هذه النية ما أعلنه الناطقون بلسان الدول الثلاث وقتئذ من عزمها على تنفيذ هذه المقترحات حتى ولو لم تقبلها مصر، ومعنى ذلك أن هذه أول انتحلت لدى نفسها دعوى الحماية على مصر تحت ستار الدفاع عنها،رغم أنفها، وليس الدفاع هو الغرض المنشود، لأننا إذا تساءلنا ضد من يكون هذا الدفاع؟ في حين أن الاحتلال البريطاني هو الذي كان جائمًا على مصر، كان الجواب أن الغرض هو أن تظل مصر في ركاب بريطانيا وحلفائها في حالتي السلم والحرب وأنه ما دامت قناة السويس في نظرهم طريقًا هامًا لدول حلف الأطلنطي فهم يريدون السيطرة عليه وعلى مصر بالقوة.
وبلغ بهم الإسراف في الاستخفاف بالدول العربية والشرقية وتجاهل حقوقها في السيادة الكاملة أن قال أحد ساستهم أن القوات التي ترابط في منطقة قناة السويس ليست مهمتها الدفاع عن القناة وحدها بل تدافع أيضًا عن آبار البترول وفي المملكة العربية السعودية وفي الشرق الأوسط.
فالمقترحات الرباعية تنطوي على أوضاع استعمارية لا تقبلها مصر بحال، ولا تقبلها الدول العربية والشرقية التي تحرص على سيادتها واستقلالها.
الكفاح في القنال
بعد أن أقر البرلمان تشريعات إلغاء المعاهدة حددت الحكومة الموقف بين بريطانيا ومصر والسودان في رسالة بعث بها محمد صلاح الدين وزير الخارجية إلى السفير البريطاني في القاهرة بتاريخ 27 أكتوبر سنة 1951، قال فيها :
أتشرف بأن أبعث إلى سعادتكم نسخًا باللغة الفرنسية من التشريعات التي وافق عليها البرلمان ونشرت بالجريدة الرسمية، ومن النص التفصيلي لبيان رئيس مجلس الوزراء الذي أعلنه في مجلسي البرلمان في هذه المناسبة، والذي كان بمثابة مذكرة تفسيرية لهذه التشريعات السابقة الذكر.
ويترتب على هذه الإجراءات ألا تسري من الآن معاهدة الصداقة والتحالف بين المملكة المصرية وبريطانيا العظمى التي وقعت في لندن يوم 26 أغسطس سنة 1936،وكذلك الاتفاق الذي وقع في نفس اليوم بشأن ما تتمتع به القوات البريطانية حتى الآن من حصانات وامتيازات، فضلاً عن اتفاقيتي 19 يناير و 10 يوليه سنة 1899 بشأن إدارة السودان.
وأن إلغاء معاهدة 26 أغسطس سنة 1936، ليستتبع بالضرورة، أن تكون له نتائج من بينها انتهاء التحالف بين مصر وبريطانيا العظمى وانتهاء تخويل الأخيرة وضع قوات أيًّا كانت في منطقة السويس، ولن يكون وجود هذه القوات في مصر من الآن فصاعدًا إلا ضد إرادة الشعب والبرلمان والحكومة المصرية، وبالتالي فلا شك في أن هذا احتلال بالإكراه وغير مشروع لهذه البلاد، كما أن إلغاء اتفاقيتي 19 يناير و10 يوليه سنة 1899 ينهي النظام الإداري المؤقت الذي أقيم في السودان بمقتضى هاتين الاتفاقيتين.
وهذا الإلغاء المزدوج لمعاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899 يعيد للسودان من جديد حالته التي كان عليها قبل الاحتلال البريطاني، والتي أبطلها مجرد الاحتلال نفسه، ويترتب على ذلك أن كل تدخل من جانب الإنجليز في شئون السودان يجب أن يقف فورًا، ولن يبقى سوى الوحدة الطبيعية التي ربطت مصر والسودان من أقدم العهود.
هذا؛ وقد ترتب على إلغاء المعاهدة من ناحية الحكومة إلغاء جميع الإعفاءات المالية التي كانت ممنوحة للسلطات العسكرية البريطانية بمقتضى تلك المعاهدة، وهي تشمل الرسول الجمركية على المهمات والأسلحة والعتاد ومواد التموين وما إلى ذلك والرسوم المستحقة على مرور السفن التي كانت تعمل في خدمة القوات البريطانية، وأجور النقل والاتصالات البرقية والتليفونية الخاصة بهذه القوات.
وامتنعت الجمارك عن بذل التسهيلات الجمركية الأخرى الخاصة بأولوية المرورو التفريغ والشحن إلا بعد استيفاء جميع الإجراءات القانونية المفروضة على جميع السفن الأجنبية، وامتنعت السكك الحديدية عن أداء أي خدمة للقوات البريطانية أو نقل أي مهمات أو عتاد لها، وامتنعت الحكومة عامة عن أداء التسهيلات والخدمات التي كانت تؤيد السلطات العسكرية البريطانية، ومنها مواد التموين ومنعت وصول ضباط وأفراد القوات البريطانية إلى داخل البلاد، وحرمت دخول البلاد على الرعايا البريطانيين المدنيين الذين كانوا يعملون في خدمة القوات البريطانية القادمين من الخارج ما لم يكونوا حاملين لجوازات سفر معتمدة من السلطات القنصلية المصرية في البلاد القادمين منها، وأنهت تصاريح الإقامة للبريطانيين الذين كانت إقامتهم في البلاد لسبب الخدمة في القوات العسكرية البريطانية أو لصالحها، وألغت العمل بالتصاريح التي كانت ممنوحة من قبل بموجب المعاهدة للسلطات البريطانية ولأفرادها، ومنعت هبوط الطائرات العسكرية البريطانية بالمطارات المصرية أو تزوديها بالبيانات الجوية الفنية أو بأي نوع من التسهيلات.
هذا من ناحية الحكومة أما من ناحية الشعب، فقد اعتبر مركز الجنود البريطانيين بعد إلغاء المعاهدة مركز غاصبين محتلين لمنطقة القنال تجب محاربتهم حتى يجلوا عن البلاد، ومن هنا بدأ الكفاح في القنال بعد إلغاء المعاهدة يتخذ طورًا جديدًا إيجابيًا.
روح الشعب
ظهر الشعب بروح عالية، وتقبل كل بذل وتضحية في سبيل الكفاح الوطني، ولبى أول ما لبى دعوة عدم التعاون مع الاحتلال ومقاومته سلبيًا وإيجابيًا، وظهر العمال الذين كانوا يشتغلون في السكك الحديدية وفي الموانئ وفي المعسكرات البريطانية بمظهر وطني رائع.
فامتنع عمال ومستخدمو السكك الحديدية عن نقل الجنود البريطانيين ومهماتهم وأخذت بريطانيا من ناحيتها تستعد لمواجهة هذا الكفاح، فبادرت بإرسال قوات حربية جديدة إلى منطقة القنال، ووصلت إلى ميناء بورسعيد يوم 13 أكتوبر بثلاث ناقلات جنود تقل قوات إنجليزية جديدة لتعزيز الحاميات البريطانية المرابطة في القنال، ونزل من الناقلات نحو ثلاث آلاف منالجنود والضباط البريطانيين. وما أن علم عمال السكة الحديدية بوصول هؤلاء الجنود وشروعهم في ركوب القطارات التي تنقلهم إلى معسكرات القنال حتى امتنعوا عن معاونتهم، ورفضوا تزويد القطار الذي أعد لهم بالماء والوقود، كما امتنعوا عن إعداده للسير، ورفض سائق القاطرة ومساعده في القطار.
ورفض سائقو وعمال القطارات الأخرى التي كانت مخصصة لنقل القوات البريطانية العمل في تلك القطارات، وترتب على ذلك وقف تسييرها، فاضطرت السلطات البريطانية إلى نقل الجنود والضباط وعائلاتهم إلى المعسكرات في سيارات ولوريات الجيش البريطاني.
ورفض عمال القطارات أيضًا نقل مهمات الجيش البريطاني، واستخدم البريطانيون سياراتهم ولورياتهم لنقلها، ولما لم تستطع السلطات البريطانية توفير السيارات واللوريات الخاصة لنقل الجنود والمهمات، اتجهت بعض ناقلات الجنود والمهمات إلى الموانئ التي كان يحتلها الإنجليز على ضفاف القنال.
وامتنع عمال الشحن والتفريغ في ثغور القنال عن تفريغ حمولة البواخر البريطانية، وفي الأيام القليلة التي أعقبت إلغاء المعاهدة ظل أكثر من سبع عشرة باخرة تهيم في القناة دون أن تستطيع الاستقرار وإنزال ما عليها من جنود وعتاد، بد أن تخلى عمال الشحن المصريون عن هذه المهمة.
وخسر البريطانيون في أسبوع واحد أكثر من مليوني جنيه نتيجة للمقاطعة التي واجههم بها عمال القنال.
انسحاب العمال المصريين من المعسكرات البريطانية
وأضرب العمال المصريون في المعسكرات البريطانية عن العمل فيها، وانسحبوا جميعاً منها، وضحوا بمرتباتهم وأجورهم التي هي مورد أرزاقهم وأرزاق عائلاتهم استجابة لنداء عدم التعاون مع المحتلين بعد إلغاء المعاهدة.
وبلغ عدد العمال المنسحبين نيفا وستين ألف عامل، كانوا يشتغلون في المسعكرات البريطانية وورشها ومصانعها وإداراتها المختلفة.
وقد لقي هؤلاء العمال البواسل متاعب بالغة في انسحابهم وانقطاع أجورهم إذ هاجر معظمهم من معسكرات القنال إلى القاهرة والأقاليم، ورحل معهم أسرهم وذووهم، ونقل الكثيرون منهم ما استطاعوا نقله من أمتعتهم وأثاث مساكنهم فكانت هجرة شاقة، زادتها التضحيات روعة وبطولة، وصادفتهم متاعب أخرى في السكنى هم وعائلاتهم بالقاهرة والأقاليم، إذ لم يكن من السهل إيجاد مساكن صالحة تكفي هذا العدد الضخم من العمال، وخاصة مع عدم الاستعداد من جانب الحكومة لهذه الناحية من التنظيم.
وقد أسكنت الحكومة الكثير منهم في المباني الحكومية، وأنزلت أفواجًا أخرى منهم في خيام نصبتها لهم في الساحات الشعبية، واحتمل العمال وعائلاتهم هذه المتاعب بالصبر والرضا.
وقابلت الحكومة هذه الحركة الرائعة المنبعثة من قلوب العمال بالتأييد والتشجيع، فألحقت العمال المنسحبين جميعًا بمصالحها المختلفة، وصرفت لهم الأجور منذ انقطاعهم عن العمل، وأعلنت أنه لا يبقى عامل منهم بغير عمل، ومن لم يتيسر للحكومة إيجاد عمل له كانت تصرف له أجره، وقد ارتضى العمال أن تصرف لهم الحكومة أجورًا أقل قيمة مما كانوا ينالونه في عملهم بالمعسكرات البريطانية، مساهمة منهم في الكفاح والتضحية.
وفي الحق أن هذا الإضراب الإجماعي من العمال المصريين وانسحابهم من المعسكرات البريطانية، كان له صدى بعيد الأثر في الداخل والخارج، فقد جاء دليلاً ساطعًا على استعداد الشعب للكفاح وعدم التعاون مع المستعمرين، وكان في الخارج برهانًا عمليًا على أن قاعدة القنال لم تعد بالمنعة التي كان يظنها الإنجليز، واستبان أن مركزهم فيها سيصبح محفوفًا بالمخاطر وعديم الجدوى بين شعب معاد لهم مستعد للتضحية السلبية والإيجابية في سبيل محاربتهم.
وزاد عدد العمال الذين ألحقتهم الحكومة بمصالحها على عدد عمال معسكرات القنال، فقد ألحقت بمصالحها نحو ثمانين ألف عامل؛ لأن من العمال من لم يكونوا يشتغلون في هذه المسعكرات، ولكنهم كانوا يشتغلون مع مقاولين أو متعهدين لحساب القوات البريطانية، فصاروا في حالة تعطل، وعاملتهم الحكومة كمعاملاتها لعمال المعسكرات، وحسنًا فعلت.
هذا إلى أن كثيرين من المنتمين إلى الوفد وخاصة من النواب والشيوخ قد انتهزوا هذه الفرصة فحشروا أشياعهم في الانتخابات ومحاسيبهم وأتباعهم ضمن عمال القنال المنسحبين، دون أن يكونوا منهم، وانهالت بطاقات التوصية بتشغيلهم، وكانت هذه البطاقات بمثابة أوامر التعيين في الوزارات والمصالح والدواوين، وعين باسم عمال القنال من لا يمتون إليهم بأية صلة، وبذلك ازداد عددهم تضخمًا.
وتحملت خزانة الحكومة في عام واحد ستة ملايين جنيه لأداء أجور العمال المنسحبين من المعسكرات البريطانية.
ولو أن الحكومة أعدت للأمر عدته قبل إعلان إلغاء معاهدة 1936، لدبرت على الأقل الأعمال الإنتاجية ومشروعات العمران التي كان يمكن أن تستخدم فيها هذه الأيدي العاملة النشيطة القوية، فتزيد من ثروة البلاد في النواحي الاقتصادية، لأن كثيرين من هؤلاء العمال كانوا متمرنين على الأعمال الفنية والإنتاجية، وكان ممكنًا أن يجدوا عقب إنسحابهم من القنال المشروعات المعدة لاستخدامهم فيها، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث، فلا أعمال إنتاجية هيئت لهم، ولا مشروعات عمرانية أعدت لتشغيلهم، بل حُشروا في المصالح والدواوين حشرًا، دون أن يؤدوا عملاً مفيدًا، وكان هذا من الأدلة التي قامت على أن الحكومة لم تكن جادة في قولها عند إلغاء المعاهدة (أعددنا لكل شيء عدته).
إضراب المتعهدين والموردين
وأخذ المتعهدون والموردون الذين كانوا يمدون القوات البريطانية بموارد التموين يمتنعون عن توريد ما تعاقدوا عليه من قبل، وينقضون عقودهم مع هذه القوات، ويلغونها رغم ما في ذلك من خسائر مادية احتملوها من جراء هذا الإلغاء، واضطر الإنجليز إلى جلب ما يحتاجون إليه من الخارج، مما كبدهم خسائر فادحة.
وكفَّ المصريون عامة من التجار والزراع وأصحاب الحرف وأرباب المهن عن التعامل مع القوات البريطانية والرعايا البريطانيين في منطقة القنال أو في القاهرة وغيرها من المدن، وكفوا عن الاتصال بهم أو القيام بأي خدمة، أو تيسير أي حاجة لهم.
معركة الإسماعيلية الأولى 16 أكتوبر سنة 1951
كان يوم 16 أكتوبر سنة 1951 يومًا عصيبًا في تاريخ الإسماعيلية
ففيه قامت مظاهرات شعبية ابتهاجًا بإلغاء المعاهدة، وهي مظاهرات سلمية كان يمكن أن تنتهي بسلام لولا تحرش الإنجليز بالمتظاهرين.
قابلت القوات البريطانية هذه المظاهرات بالتحرش والاستفزاز، إذ سيرت في شوارع المدينة سيارات مصفحة نقل جنودًا بريطانيين مسلحين بالبنادق والمدافع الرشاشة، وأطلقوا النار على المتظاهرين، ورفع تصادم بين الجانبين أدى إلى قتل سبعة من المواطنين وإصابة آخرين بلغ عددهم الأربعين، ومن بينهم بعض رجال البوليس الذين كانوا يؤدون واجبهم محاولين السيطرة على الموقف ودفع عدوان المعتدين.
واحتلت القوات البريطانية المدينة بدعوى المحافظة على الأمن وحماية أرواح الرعايا البريطانيين، في حين لو ترك الأمر لقوات البوليس لأمكنها المحافظة على الأمن والنظام، وقد درجت القيادة البريطانية في مثل هذه الظروف على ترك المظاهرات وعدم التحرش بها، ولكنها في 16 أكتوبر والأيام التالية دفعت سياراتها المصفحة إلى مهاجمة الأهلين في الشوارع وإطلاق النار عليهم جزافًا، واستباحت لنفسها اقتحام مساكنهم بدعوى تفتيشها، كما أخذت في تفتيش القطارات والسيارات الآتية إلى المدينة أو الخارجية منها.
معركة بورسعيد الأولى 16 أكتوبر سنة 1951
وفي هذا اليوم تكررت المأساة في مدينة بورسعيد، فإن مظاهرات المواطنين قوبلت في نحو الساعة الخامسة مساء بهجوم من السيارات المصفحة البريطانية، وقابل الجمهور هذا العدوان بمهاجمة مخازن البحرية البريطانية المعروفة بالنيفي وأضرموا فيها النار، فازداد الإنجليز إمعانًا في عدوانهم، وبلغ عدد من قتلوا من المواطنين في هذا اليوم خمسة وأصيب كثيرون.
وقد عرفنا من أسماء الشهداء في هذه الواقعة : محمد مصطفى الحداد، وإبراهيم عبده خميس، وشهيد مجهول، والطالب نبيل منصور، والطالب عبد الحميد أحمد سليمان.
وازدادت الحالة تفاقمًا في المدينتين في اليوم التالي (17 أكتوبر).
واحتل الإنجليز مكاتب الجمارك والجوازات والحجر الصحي والحجر الزراعي بالإسماعيلية وبورسعيد، بعد أن اقتحموا أبوابها بالقوة، واعتقلوا بعض الموظفين وجردوا الحرس من أسلحتهم، ثم استولوا على مرافق مدينة الإسماعيلية كوابور المياه والكباري، واستولوا على خط السكك الحديدية وأكشاكها من نفيشة إلى الإسماعيلية، وعطلوا المواصلات بوقف القطارات وتفتيشها، ووضعوا أيديهم عنوة على جميع وسائل العبور إلى البر الشرقي للقنال، وأوقفوا سيارة مدنية كانت في طريقها إلى مدينة الإسماعيلية وسرقوا بالإكراه من أحد ركابها مبلغ مائتي جنيه بعد أن هددوه بإطلاق النار عليه.
وفي 23 أكتوبر بينما كان الشهيد عبد الفتاح محمد المطري يقود سيارة النقل التي كان يملكها في طريقه من بورسعيد إلى القاهرة انطلقت خلفه قافلة من السيارات البريطانية في طريقها إلى الإسماعيلية، وأراد من فيها من الإنجليز أن يتخطوا سيارته بطريقة همجية، إذ لم يستعملوا آلة التنبيه لكي يفسح لهم الطريق، بل أطلقوا عليه الرصاص تباعًا فأصابت منه مقتلاً وخرّ صريعًا شهيدًا.
احتلال كوبري الفردان
وفي 17 أكتوبر سنة 1951 شلت قوة بريطانية هجومًا مفاجئًا على كوبري الفردان الذي كان في حوزة الجيش المصري، وكان يحرسه عدد ضئيل من الجنود المصريين، فاستولى الإنجليز على الكوبري عنوة بعد أن قتلوا جنديين مصريين من الذين كانوا يتولون حراسته، وجرحوا خمسة آخرين وأسروا ضابطًا مصريًا وأربعة وعشرين جنديًا.
وقد بادر الإنجليز إلى احتلال هذا الكوبري لما له من الأهمية الاستراتيجية، فهو الوسيلة البرية الموصلة بطريق السكة الحديدية بين مصر وسيناء عبر قناة السويس، وعن طريقه تمر القطارات الذاهبة إلى مواقع القوات المصرية في سيناء والعريش وغزة، وقد أرادت القيادة البريطانية باحتلاله أن تسيطر على نقطة الاتصال بين داخل مصر وهذه المواقع، وتعزل القوات المصرية بها، ولم تستعد الحكومة وقتئذ للاحتفاظ بهذا الكوبري الهام، فلم تزد القوة الضئيلة التي كانت تحرسه، فسهل ذلك على الإنجليز احتلاله.
واحتلوا منطقة (المعدية) التي تقع على بعد ميل شمال الإسماعيلية، واحتلوا (القنطرة) ووضعوا أيديهم عنوة على وسائل التعدية إلى البر الشرقي للقنال.
احتلال جمرك السويس
واستولى الإنجليز في السويس على المعدية الكائنة على ضفة القنال المقابلة لصحراء سيناء، واحتلوا جمرك السويس يوم 20 أكتوبر سنة 1951، ونصبوا المدافع الرشاشة على سطوحه تهديدًا للمدينة.
عزل منطقة القنال وإقامة حكم عسكري بريطاني فيها
كانت خطة الإنجليز التي رسموها لمواجهة الكفاح الشعبي في منطقة القنال أن يستولوا على جميع الأماكن الهامة في المدن والنقط الواقعة فيها، وعزل هذه المنطقة عن القطر المصري، وإقامة حكم عسكري بريطاني غشوم في أنحائها، ومقاومة كل حركة فيها بالعسف والتنكيل.
وقد تدفقت الإمدادات على القوات البريطانية في منطقة القنال، وأخذت ناقلات الجنود تفد قادمة من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر حاملة الجند والعتاد.
ونفذ الإنجليز خطتهم، فاعتبروا منقطة القنال منطقة بريطانية تحكم عسكريًا، وتجاهلوا السلطات المصرية.
وبلغ بهم الاستخفاف بالسلطات المصرية أنهم أخذوا يقبضون على بعض الموظفين وبعض ضباط البوليس ويبعدونهم عن المنطقة بدعوى أنهم "غير مرغوب في بقائهم"، وأنهم لا يطمئنون إليهم، واعتقلوا كذلك بعض ضباط الجيش المصري.
واغتصبوا بعض المساكن والأماكن التي اختاروها لإسكان جنودهم وقواتهم المسلحة، واستولوا على منطقة الحجر الصحي بالقرب من الإسماعيلية على طريق مصر – فلسطين، وأقاموا هناك نقطة أخرى للتفتيش في نفس المكان الذي تتخذ فيه الإجراءات الصحية للمسافرين.
وأخذت الدوريات الإنجليزية المسلحة، بالمدافع الرشاشة تجوب شوارع بورسعيد والإسماعيلية والسويس مستفزة شعور المواطنين.
وسيطرت القوات الإنجليزية على المدن والقرى القائمة بمنطقة القنال، واحتلت مداخل الطرق المؤدية إليها، وعمدت إلى اضطهاد سكانها والعدوان عليهم من قتل وسلب ونهب وخطف للأرزاق والمواد الغذائية بالقوة من المحال العامة ومن مخازن الجمارك ومن السيارات والمركبات التي تحمل مواد التموين إلى سكان هذه المنطقة، وأخذت تهدد كثيرين من العمال الذين أزمعوا الانسحاب من المعسكرات البريطانية وغيرهم وتكرههم على البقاء بقوة السلاح إلى أن يجدوا بديلاً عنهم.
وأوقفت تقريبًا كل المواصلات بين منطقة القناة وبقية القطر، وفرضت تفتيشًا على جميع المصريين الراغبين في الدخول إليها أو الخروج منها، مهما كانت مكانتهم ووظائفهم، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، وكان هذا التفتيش ينطوي على الإذلال والتحقير، ولم تستثن منه إلا أفرادًا قلائل مزودين بتراخيص من القيادة البريطانية أو من القناصل الإنجليز في مدن هذه المنطقة، وكان التفتيش يحدث ابتداء من محطة نفيشة، فكانت القطارات تؤمر بالوقوف، ويتولى تفتيش جميع المسافرين ضباط وجنود إنجليز ذوو غلظة وشراسة، فلم يوقروا كبيرًا، ولم يرعوا صغيرًا، ولم يستثنوا النساء والأطفال، وكان التفتيش يجري وفي أيدي من يتولونه المسدسات والبنادق يهددون بها من يمتنع من فتح حقائبه أو تفتيش جيوبه.
ولما اشتد الكفاح ونشطت كتائب الفدائيين، كانت القطارات والسيارات تفتش في أبي حماد والتل الكبير حيث كانت أولى نقط الاحتلال، وتفتيش السيارات المسافرة في طريق القاهرة – السويس عند الكيلو 99 وهو المدخل إلى السويس .
واستباحوا تفتيش القرى والعزب والمساكن الواقعة في المنطقة بطريقة استفزازية مهدرة للكرامة الإنسانية.
وشملت إجراءات التفتيش رجال القضاء والنيابة، والعبث بأوراقهم وبملفات القضايا، مما اضطر كثيرًا منهم إلى العدول عن الذهاب إلى مراكزهم توفيرًا لكرامتهم.
ثم منع الإنجليز تسيير القطارات في منطقة القنال، فشلت حركة النقل والانتقال إليها وتعطلت الإجراءات الصحية بسبب العقبات التي لقيها الموظفون الصحيون في أداء واجباتهم، مما عرض صحة المواطنين للخطر.
هذا إلى أن الإنجليز قد استقدموا عمالاً من مناطق موبوءة ليحلوا في معسكراتهم محل العمال المصريين الذين انسحبوا منها، وبعض هؤلاء العمال الأغراب وفدوا من بلاد مصابة بالحمى الصفراء دون إخطار السلطات الصحية المصرية بقدومهم لفحصهم واتخاذ الإجراءات الوقائية بالنسبة لهم، مما ترتب عليه تعريض البلاد لأشد الأمراض الوبائية فتكًا وهو مرضى الحمى الصفراء.
وقد احتجت وزارة الصحة على هذه التصرفات لدى الهيئة الصحية العالمية ومنع الإنجليز جنود خفر السواحل وسلاح الحدود من أداء مهمتهم في ارتياد الشواطئ والطرق في منطقة القنال، مما أدى إلى ازدياد نشاط المهربين وتسرب المواد المخدرة من ثغور ومدن القنال إلى جميع أنحاء البلاد.
ولم يتورع الإنجليز عن ارتكاب أقسى الأساليب العدوانية في مقاومة حركة الكفاح.
فلم تكن معاهدة سنة 1936 تخولهم حق احتلال المدن الكبرى في منطقة القنال، وكانت أماكن الاحتلال محددة في مواقع معينة، ولم يكن في نصوص المعاهدة ما يجيز لهم مشاركة حكومة مصر في حفظ الأمن في المدن.
ولكنهم بعد إلغاء المعاهدة استباحوا احتلال المدن الهامة وهي بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وأخذوا يطلقون النار جزافًا على المصريين في شوارعها.
وهاجموا أكشاك السكك الحديدية، واستولوا على ما فيها من آلات ومهمات وكانوا يهاجمون المسافرين بحجة التفتيش عما لديهم من سلاح.
واستولوا على كل ما أمكنهم الاستيلاء عليه من القطارات والعربات والمهمات المملوكة لمصلحة السكك الحديدية وأرهبوا بعض موظفيها بالسلاح لإجبارهم على العمل في خدمة أغراضهم العسكرية.
وعزلوا الجيش المصري في غزة وسيناء، ومنعوا اتصاله بالجيش غربي القنال، وكانوا يتربصون ببعض فصائل الجيش المصري المنعزلة ولأفراده فيطلقون عليهم النار.
ونهبوا ما استطاعوا نهبه من مواد التموين التي كانت ترد لسكان مدن القنال واستهانوا بالإجراءات الجمركية فأدخلوا ثغور القنال بضائع ومهمات عسكرية ومدنية عنوة من الجمارك دن دفع الرسوم المستحقة ودون أن يتبعوا الاشتراطات الجمركية المقررة عليها، وقد بلغت الرسوم المستحقة لجمرك بور سعيد وحده في الفترة من 16 أكتوبر سنة 1951 إلى 30 نوفمبر سنة 1951 – 1.424.105 جنيه لم يدفعوا شيئًا منها.
وبلغ عدد الاحتجاجات الرسمية التي قدمتها السلطات الجمركية المصرية على ما ارتكبه الإنجليز من مخالفات جمركية من شحن وتفريغ وعدم سداد الرسوم المستحقة نيفًا وألف احتجاج.
وأخذوا يتسللون إلى داخل مديرية الشرقية، فقد كان لهم معسكر من قبل في (التل الكبير) طبقًا لأحكام معاهدة سنة 1936، فأنشأوا نقطًا حربية أخرى بجانب أبي حماد، وأحاطوا ببلدتي القرين والعباسية وغيرها، وبات كثير من قرى مديرية الشرقية عرضة لحملاتهم التفتيشية والانتقامية.
التهديد بقطع البترول
وتمادى الإنجليز في العسف والتنكيل فهددوا بمنع وصول مواد البترول والمازوت والبنزين الواردة من السويس إلى بقية المدن والأقاليم، وما يستتبع ذلك من حرمان المدن والقرى أسباب القوة المحركة في الزراعة والصناعة وأعمال الصحة والصيانة، وتعريض البلاد للكوارث، وكادت السلطات البريطانية تنفذ وعيدها لولا تدخل السفير الأمريكي – المستر جيفرسن كافري – لدى هذه السلطات حتى حملها على العدول على هذه الوسيلة الوحشية.
كتائب الفدائيين
تطوع كثير من الشباب في كفاح الإنجليز في القنال وألفوا من بينهم كتائب سميت كتائب الفدائيين أو كتائب التحرير، تكونت في القهارة وفي المدن والقرى الواقعة في منطقة القنال أو القريبة منها.
كان لهذه الكتائب عمل إيجابي جليل في تنظيم حركة الكفاح وبث روح المقاومة في نفوس المواطنين.
وذعر الإنجليز من جهاد هذه الكتائب وأخذوا يبحثون عن أماكن تدريبها وتسليحها ومواضع الأسلحة، وقاموا بحملات تفتيشية في منازل المدن والقرى الواقعة في منطقة القنال للبحث عن هذه الأسلحة.
كانت هذه الكتائب تدرب في القاهرة على حرب العصابات.
وأنشئت أيضًا مراكز أخرى للتدريب في بعض عواصم المديريات كالزقازيق ودمنهور، وفي بعض القرى الواقعة على مقربة من منطقة القنال.
ومن خير الكتائب التي كان لها قسط موفور في الكفاح كتيبة البطل الشهيد (أحمد عبد العزيز) وكتيبة (خالد بن الوليد) وكتيبة (محمد فريد).
وتطوع بعض القواد والضباط القدماء وبعض الضباط العاملين لتدريب هذه الكتائب، وفي مقدمتهم الفريق عزيز المصري، واللواء صالح حرب.
وتولى الفريق عزيز المصري تدريب هذه الكتائب في القاهرة تدريبًا عسكريًا قبل سفرها إلى القنال، وتمرين أفرادها على حرب العصابات وعلى مهاجمة الإنجليز في مخافرهم ومعسكراتهم.
وأخذ المواطنون في القاهرة والأقاليم يتبرعون للكتائب بالأموال لتزويدها بالأسلحة وإمدادها بنفقات مهمتها.
على أن الحكومة قد أنكرت على عزيز المصري وعلى القواد والضباط عامة الحق في تدريب الكتائب، وقالت أن هذا من اختصاصها وحدها، وأصدرت في أواخر نوفمبر سنة 1951 بيانًا من رياسة مجلس الوزراء قالت فيه أن مجلس الوزراء قرر بجلسة 25 نوفمبر أن تتولى الحكومة تدريب الكتائب وفقًا للنظام الذي تضعه هي، مع عدم السماح لأية هيئة أو فرد يجمع التبرعات لهذا الغرض، ومن شاء أن يتبرع لهذا المشروع فعليه أن يبعث بتبرعه إلى رياسة مجلس الوزراء.
واستندت الحكومة في قرارها إلى أن بعض الخطرين على الأمن العام وذوي السوابق والهاربين من المراقبة قد انتهزوا فرصة إقدام الشباب على تأليف كتائب الفدائيين، فاندسوا في صفوفهم، وارتكبوا كثيرًا من حوادث الاعتداء على النفس والمال ضد المواطنين، مستغلين اسم الكتائب، ومعللين حملهم للأسلحة النارية بدون ترخيص بأنهم من أفراد الكتائب، فرأت الحكومة حرصًا على سمعة البلاد ومنعًا لروح الفوضى من الانتشار باسم الكتائب أن تضع حدًا لهذا الاستغلال وتتولى الإشراف على تنظيم الكتائب وتدريبها.
وفي الحق أن هذا الاستغلال الذي أشارت إليه الحكومة في بيانها قد أيدته حوادث وقعت فعلاً وترامت إلينا أنباؤها في حينها، وتحققنا منها مع بالغ الأسف.
وهكذا يبدو أن روح الشر والإجرام كثيرًا ما تختلط في أخطر الظروف بالروح الوطنية الصادقة فتعطلها وتَصِمُها بما هي منه براء.
كما ترامى إلينا أن أموالاً كثيرة جمعت بطريق التبرع للكتائب ولكن جانبًا كبيرًا منها لم يصل إلى الفدائيين! وكانت فرصة لبعض المستغلين.
وقد اشترك شباب الجامعات في تأليف الكتائب ونظموا صفوفهم فيها بإشراف بعض الضباط وبعض الأساتذة، وأقبلوا على تنظيم كتائبهم بحماسة وتضحية تدعوا إلى الإعجاب، وأخذوا ينشئون الخيام والمعسكرات في حرم الجامعات للتدريبات العسكرية، وكل ما يتصل بحرب العصابات، وكانوا إذا أتموا التدريب يسافرون جماعات أو فرادى إلى منطقة القنال ليساهموا في الجهاد.
واعتمدت الحكومة مبلغ مائة ألف جنيه لتدريب الفدائيين تدريبًا عسكريًا، على أنها لم تكن جادة في قولها أنها ستتولى هذا التدريب، فإنها لم تعمل عملاً جديًا في هذا السبيل، واكتفت بتأليف لجنة لتنظيم هذه الكتائب،وكل ما عملته هذه اللجنة أن أخذت تطوف بعدة أماكن لتختار منها ما يصلح للتدريب.
ولم تقدم الحكومة للفدائيين معاونة جدية، فلا هي زودتهم بالأسلحة والذخائر، إلا النزر اليسير منها، ولا هي نظمت قيادتهم، ولا رسمت لهم خططًا منسقة، بل تركتهم وشأنهم، وترتب على ذلك تسرب الارتجال إلى حركاتهم.
ورغم هذه الملابسات فقد كان للفدائيين عمل إيجابي واسع المدى بعيد الأثر في قتال الإنجليز، فعلى أيديهم تم الاستيلاء على كثير من أسلحة الجنود البريطانيين، وقتل عدد كبير منهم، ونسف بعض المنشآت في المعسكرات البريطانية ومستودعات البنزين والخطوط الحديدية فيها، ونسف بعض القاطرات والسيارات، وقطع المواصلات التلغرافية والتليفونية، ومهاجمة قوافل البريطانيين وإطلاق النار عليهم في طريقهم إلى معسكراتهم، وفي تحركاتهم الحربية.
معركة الإسماعيلية الثانية 17 و 18 نوفمبر 1951
وقعت حوادث دموية في مدينة الإسماعيلية يومي السبت 17 نوفمبر والأحد 18 نوفمبر سنة 1951، كان الجانب البريطاني هو البادئ فيها بالعدوان.
بدأت هذه الحوادث بإطلاق الجنود البريطانيين النار يوم 17 نوفمبر على رجال البوليس من (بلوكات النظام وهم في ثكنتهم، فأصيب اثنان منهم بادئ ذي بدء بجروح بالغة، فاضطر زملاؤها إلى رد العدوان بإطلاق النار مما لديهم من الأسلحة، دفاعًا عن أنفسهم، ولما رأى الجنود البريطانيون ثبات رجال البوليس، وصمودهم للعدوان، استدعوا نجدات كبيرة وأحاطوا بالثكنة التي كان يرابط بها رجال البوليس، وأمطروا من بداخلها وابلاً من الرصاص، وفي الوقت نفسه أخذت القوات البريطانية تطلق النيران في مختلف أنحاء المدينة دون تمييز بين رجال البوليس والمدنيين.
واشترك في العدوان بعض الدبابات والمصفحات البريطانية، وحلقت بعض الطائرات الإنجليزية على ارتفاع قليل من فوق ميدان المعركة لتلقي الرعب في النفوس، واشترك في المعركة بعض المدنيين البريطانيين، فكانوا يطلقون النار من نوافذ مساكنهم.
وسقط من الجانبين قتلى وجرحى وفي اليوم التالي (الأحد 18 نوفمبر) أراد البريطانيون أن ينتقموا من رجال البوليس والمدنيين بصمودهم في رد العدوان السابق، فخرجوا إلى الشوارع يستفزون المدنيين ورجال البوليس، فأخذ هؤلاء يستعدون لملاقاتهم، وحضوا ثكنتم بأكياس الرمل والأسلاك الشائكة، وحوالي الظهر أخذت قوة بريطانية تطلق الرصاص على الثكنة وتحاول اقتحامها، فقاومهم رجال البوليس بإطلاق النار عليهم.
وسقط من الجانبين في هذا اليوم أيضاً قتلى وجرحى أسفرت هذه الحوادث الدامية عن عدد كبير من القتلى والجرحى من الجانبين فبلغ عدد القتلى من المصريين ثلاثة عشر، منهم ثمانية من رجال البوليس وخمسة من المدنيين و18 جريحا من رجال البوليس و15 جريحا من المدنيين.
وبلغ عدد قتلى البريطانيين ثمانية، منهم خمسة من الضباط وجاويش وجنديان، ولم يعرف عدد الجرحى منهم على وجه التحقيق.
واحتل البريطانيون مبنى الإسعاف القريب من ثكنة بلوكات النظام ليسيطروا عليها، مما أفضى إلى طرد رجال الإسعاف ومنعهم من القيام بواجبهم نحو الجرحى، وبذلك ظل كثير من الجرحى في الشوارع دون إسعاف، وهذا من أبلغ ما وصل إليها العسف والتنكيل.
وقد أظهر سكان مدينة الإسماعيلية بسالة في رد العدوان، كما استبسل جنود البوليس في صده، وأسهم هؤلاء وأولئك في التضحية والفداء.
وشيعت جنازة القتل من المصريين في احتفال مهيب سار فيه سكان المدينة جميعاً.
وقرر مجلس الوزراء بجلسة 25 نوفمبر سنة 1951 اعتماد مبلغ ثمانية آلاف جنية لتوزيعها على ورثة شهداء رجال البوليس الذين قتلوا في معارك 17 و18 نوفمبر بالإسماعيلية. وعلى الجرحى منهم، وتعليم أبناء هؤلاء وأولئك بالمجان في جميع مراحل التعليم بما فيها التعليم الجامعي.
وصرفت مبالغ أخرى للشهداء والجرحى من المدنيين على أثر معركة الإسماعيلية الثانية استبانت فظاعة العدوان من الجانب البريطاني فطلب الجنرال أرسكين القائد العام للقوات البريطانية في منطقة القنال من محافظ القنال (عبد الهادي غزالي) أن يقابله في الفردان للتحدث إليه في وضع حد لهذه الحوادث، فقابله المحافظ في الموعد المحدد، وطلب إلية أرسكين عدة مطالب كشرط لتهدئة الحالة وهى :
(1) سحب قوات البوليس المصري من الحي الإفرنجي بمدينة الاسماعيلة إلى أن يتم نقل العائلات الإنجليزية من المنطقة.
(2) سحب جنود بلوكات النظام من حراسة المرافق العامة وإناطة هذه المهمة بجنود الصف الأول من البوليس.
(3) عدم ظهور الضباط والجنود المصريين بأسلحتهم في حي الإفرنج إلى أن يتم ترحيل العائلات الإنجليزية، على أن تجلو القوات البريطانية عن المدينة بعد ترحيل هذه العائلات.
وهدد أرسكين المحافظ بأنه في حالة عدم قبول هذه المطالب وتنفيذها فإن الإنجليز سيأخذون على عاتقهم مسئولية الأمن وسيعمدون إلى إجلاء البوليس المصري من المنطقة كلها.
وقبل الجانب المصري هذه الطالب. وتم في 19 نوفمبر سنة 1951 اتفاق بهذا المعنى عرف باتفاق أرسكين – غزالي
وقبل الموعد الذي حدده الجانب البريطاني تم نقل قوات بلوكات النظام من حي الإفرنج حيث توجد ثكنتهم إلى مدرسة البنات الابتدائية في حي العرب.
وفي أثناء مقابلة محافظ القنال للجنرال أرسكين أبلغه احتجاج الحكومة المصرية على اعتداء الإنجليز على الأهلين والبوليس، ووصف هذا العدوان بأنه إرهاب مدبر وأنه وصمة في جبين العسكرية والإنسانية.
وكان معنى اتفاق أرسكين – غزالي أن يوكل إلى البوليس المصري المحافظة على الأمن في الإسماعيلية بعد رحيل العائلات الإنجليزية، وتحريم المدينة على الجنود البريطانيين، أو بعبارة أخرى هو رجوع إلى أحكام معاهدة سنة 1936 التي لم تكن تخول للبريطانيين احتلال مدن الإسماعيلية وبور سعيد والسويس، على أن الإنجليز فد نقضوا هذا العهد كما سيجيء بيانه.
جلاء العائلات البريطانية
أخذت أفواج البريطانية تجلو عن الإسماعيلية وعن مدن القنال عائدة إلى بريطانيا، وكان هذا لجلاء نذيرا بعدم اطمئنان الإنجليز على حياة عائلاتهم في هذه المنطقة بعد ما رأوه من استبسال المصريين في معركة الإسماعيلية الثانية.
وقد بلغ عدد العائلات التي جلت عن الإسماعيلية وغيرها في أعقاب معركة 17 و18 نوفمبر زهاء ألف أسرة.
معركة السويس الأولى 3 ديسمبر سنة 1951
وقعت في السويس يوم الاثنين 3 ديسمبر سنة 1951 معركة دامية كان الإنجليز هم الباغين فيها، وذلك أنه قبيل ظهر هذا اليوم كانت إحدى سيارات النقل التابعة للبوليس تقل قوة من جنود بلوكات النظام وتسير عند مدخل المدينة آتية من الطريق الصحراوي فتعطلت السيارة بالقرب من ورشة السكك الحديدية في منطقة الأربعين،فترجلت القوة وأخذت في إصلاح عطب سيارة النقل (اللوري).
وفي هذه اللحظة أخذ الجنود الإنجليز الموجودون بالمعسكر لبريطاني في إطلاق النار على أفراد هذه القوة، دون تحذير أو إنذار، وقد انهال الرصاص سراعًا وتباعًا على رجال البوليس، فقابلوا العدوان بإطلاق النار على المعتدين.
في الوقت نفسه خرجت قافلة من السيارات الإنجليزية المسلحة بلغت عدتها سبعين سيارة نقل جنودًا مسلحين بالبنادق والمدافع الرشاشة، واتجهت إلى المدينة، وأخذت تطلق النار على الأهلين جزافًا، وقد صدتها سيارات البوليس المصري قدر ما استطاعت، وأجاب رجال البوليس والأهلون على الضرب بضرب مثله، واستمرت المعركة عدة ساعات.
وفي المساء هدأت الحالة نوعًا، وانسحبت السيارات البريطانية المسلحة إلى جوار معسكرها، وبقيت قوات بريطانية تحاصر ورشة السكك الحديدية القريبة من المعسكر، وحوصر فيها الموظفون والعمال. وقد أبدى رجال البوليس والمدنيون في هذه المعركة من البطولة والشجاعة في الكفاح ما يعد مفخرة للروح المصرية العالية، فقد كانوا يحاربون قوات تفوقهم عددًا وعُددًا.
وكان للفدائيين عمل يذكر بالثناء في هذه المعركة، فقد ألفوا من بينهم فرقة مجهزة بالبنادق والمدافع السريعة الطلقات، وتحصن أفراد هذه الفرقة في مواقع خفية مواجهة للمعسكرات البريطانية التي كانت تأتي منها النجدات إلى الجنود البريطانيين أثناء شبوب المعركة، وأصلوا هذه النجدات نارًا حامية من الأماكن التي كانوا ممتنعين فيها.
واستشهد في هذه المعركة 28 (ثمانية وعشرون) من المصريين، منهم 7 من رجال البوليس، وبلغ عدد الجرحى سبعين جريحًا، منهم 12 من رجال البوليس، وكان من بين القتلى والجرحى المدنيين طفل، وأربع من النساء.
وبلغ عدد قتلى البريطانيين 22 (اثنين وعشرين) وأصيب منهم أربعون بجراح مختلفة.
وقد عرفنا من أسماء الشهداء في هذه المعركة : محمود عبد اللطيف عامل بتليفونات السويس، فريد يسري كونستابل المرور بالسويس، فتحي بدوي أحمد من جنود بلوكات النظام، سعد خليل أبو النجا جندي من قوة بوليس قسم الأربعين، إمام السيد الوكيل أو نباشي بقوة القسم المخصوص بالسويس وقد سقط شهيدًا وهو يتحدث بالتليفون إلى المحافظة عن سير المعركة، لطفي عبد الرحمن، عبد المجيد حسين محمد، علي أبو العينين، محمد محمد البحيري، إبراهيم عبد العاطي، محمد عباس عبد الله عباس، محمد إبراهيم بهاء الدين علي، العربي محمد سيد، نظير نجيب خير، محمد طه، محمد أحمد حسن، حلمي درويش الدكروري، إبراهيم محمد عبد الله، عبده عبد الحميد البحيري، محمد متولي من جنود بلوكات النظام، مدين الطوخي من جنود حراسة السكك الحديدية، حنفي زهران ملاحظ ورشة السكك الحديدية، السيدة شمعة عبد الله حسين، السيدة خديجة زكي أحمد، سعد عثمان، السيد محمد سليمان، إبراهيم عبد الرحيم السيد، عبد الفتاح البلادي، السيد بكري الجلف، ومن هؤلاء من توفوا متأثرين بجراحهم في الأيام التالية للمعركة.
تجدد القتال في السويس 4 ديسمبر سنة 1951
ففيما كانت المدينة تخيم عليها السكون الرهيب حدادًا على شهداء اليوم السابق 3 ديسمبر وقع عدوان جديد يوم 4 ديسمبر من القوات البريطانية، وفي الوقت الذي كان أهل المدينة يستعدون لتشييع جنازات الشهداء، وبدأ العدوان حين كان الأهلون يشيعون جثمان الشهيد حنفي زهران ملاحظ ورشة السكة الحديدية إلى الإسماعيلية تمهيدًا لنقله إلى مسقط رأسه في الزقايق، ولما بلغت الجنازة (كوبري الهويس) تصدت لها قوة بريطانية مؤلفة من ثلاث دبابات وأربع مصفحات وبضع سيارات مسلحة، وأخذت هذه القوة تطلق النار جزافًا على المشيعين والأهلين ورجال البوليس، وعلى المنازل القريبة من ذلك المكان.
وأمام هذا العدوان الأثيم عمد الأهلون ورجال البوليس إلى الدفاع عن أنفسهم، فنشب قتال بين الفريقين استمر نحو ساعة، وكان الموقف غير متكافئ، إذ بينما كان الإنجليز يستخدمون نوعًا من الرصاص كبير الحجم ويرمون الأهلين بنابل المدافع التي كان دويها يتجاوب في أنحاء المدينة، ويهزها هزًا عنيفًا، كان الأهلون لا يستخدمون سوى البنادق العادية التي وصلت إليها أيديهم.
أسفرت هذه المعركة عن عدد كبير من القتلى والجرحى من الجانبين، فقد قتل من المصريين 51 شهيدًا منهم سيدة، واثنان من رجال البوليس، وبلغ عدد الجرحى 29، منهم 6 من رجال البوليس وطفل.
وبلغ عدد القتلى من الإنجليز 24 قتيلاً بين ضباط وجنود و67 جريحًا.
وقد عرفنا من أسماء الشهداء في هذه الواقعة : أحمد السيد محمد وهبي جندي من قوة السواحل، عبد الله عبد المنعم جندي من بلوكات النظام، عبد الحميد عبد الرازق، عبد الله صالح بيومي جندي من قوة الحدود، محمد إبراهيم المنشاوي، يوسف حسن أحمد الشربيني تاجر، أحمد عطيفي تاجر، حسين عزازي تاجر، أحمد حسن يونس، إبراهيم شمس الدين، الحاج أحمد أبو ستين، أحمد جاد الحق، منقرموس حنا،محمد محمد حسين، حسن عبد الله علي، عبده جميعي، السيدة فريدة وهبة.
وبالرغم من مجزرة هذا اليوم شيعت المدينة جنازة شهداء معركة 3 ديسمبر في احتفال مهيب، خيم عليه الحزن العميق.
تشييع جنازة الشهداء 5 ديسمبر
وفي 5 ديسمبر شيعت مدينة السويس جنازة الشهداء الذين سقطوا في معركة اليوم السابق 4 ديسمبر وكانت نعوش ضحايا خمسة عشر شهيدًا تخرج من المستشفى واحدًا في أثر الأخر، وهي مغطاة بالعلم المصري، وفي طليعة هذه النعوش نعش صغير يضم جثمان حسن عبد الله علي الطالب بمدرسة النهضة الابتدائية، وهو شاب لم يتجاوز العاشرة من عمرهن وقد سقط شهيدًا وهو في طريقه إلى مدرسته واشتركت جميع طبقات الشعب في تشييع أولئك الشهداء، فكان مشهدًا رهيبًا أعاد إلى الأذهان تشييع جنازات الشهداء في ثورة سنة 1919.
ضرب محافظة الإسماعيلية بالمدافع 17 ديسمبر سنة 1951
في 17 ديسمبر سنة 1951 هاجمت سيارة بريطانية مصفحة دار محافظة الإسماعيلية، وأطلقت عليها نيران البنادق ومدافع الهاون، فتهدم جزء من سور الدار، وأصيب حائط مكتب مأمور القسم.
وقد ردّ جنود البوليس على هذا الضرب مثله من البنادق، وأسفر هذا الاشتباك عن قتل جنديين من الجانب المصري وأربعة من الجانب البريطاني.
وكان لهذا الهجوم الغادر نقضًا للعهد الذي أخذه الإنجليز على أنفسهم في اتفاق أرسكين – غزالي بتحريم مدن الإسماعيلية وبورسعيد والسويس على الجنود البريطانيين.
منع المظاهرات وإغلاق المدارس
هاجت الخواطر بسبب استمرار عدوان الإنجليز على المواطنين في منطقة قناة السويس وازدياد عدد الضحايا، فقد بلغ عدد الشهداء منهم منذ معركة الإسماعيلية الأولى في 16 أكتوبر إلى معركة السويس الأخيرة في 4 ديسمبر سنة 1951 – 117 (مائة وسبعة عشر) قتيلاً، وعدد الجرحى 438 (أربعمائة وثمانية وثلاثين) جريحًا.
فأخذت المظاهرات تطوف في شوارع القاهرة والإسكندرية وبعض المدن الكبرى منذ 5 ديسمبر، وتجددت في اليوم التالي، منادية بسقوط الاستعمار الغاشم، وتخللها نداءات عدائية لوزارة الوفد، ناسبة إليها التهاون في حماية الأهلين من عدوان الإنجليز، وحطم المتظاهرون كعادتهم مصابيح النور في بعض الشوارع، كما اقتلعوا بعض الأشجار فيها، وكان معظم المتظاهرين من الطلبة والعمال.
وقد أثارت هذه النداءات أعصاب الوزارة، فقررت منع المظاهرات في أرجاء البلاد كافية، ابتداء من 6 ديسمبر، وتعطيل الدراسة في جميع معاهد التعليم في القاهرة والإسكندرية والجيزة.
وقد أحسنت الوزارة صنعًا في منع المظاهرات،وإغلاق المدارس مؤقتًا، لأن هذه المظاهرات ما كانت تؤدي إلى تعزيز موقف مصر في نضالها، بل كانت ستؤدي حتمًا إلى تصدّع الجهة الداخلية وإضعافها في تلك الساعات العصبية، وإشاعة المصادمات بين طلبة المدارس ورجال البوليس، ووقوف كل فريق الآخر بالمرصاد، في الوقت الذي يجب على الجميع مواجهة الاستعمار صفًا واحدًا.
وليت حكومة الوفد قد استمرت في منع المظاهرات حتى يناير سنة 1952، ولو أنها فعلت ذلك لما قامت يوم 26 يناير سنة 1952 المظاهرات الصاخبة التي كانت قيامها نذيرًا بذلك الحادث المشئوم –حادث حريق القاهرة - الذي سنتكلم عنه في الفصل الثاني من الكتاب.
موقعة كفر أحمد عبده 8 ديسمبر سنة 1951
لم تكن موقعة، بل كانت جريمة وحشية وقعت من الإنجليز على حي بمدينة السويس يسمى كفر أحمد عبده، وانتهت بتدميره من الوجود.
يقع هذا الكفر بين وابور تكرير المياه الذي كان خاصًا بالقوات البريطانية، وبين معسكرات القوات الواقعة شمالي المدينة.
وقد أرادت القيادة البريطانية أن تشق طريقًا يصل هذه المعسكرات مباشرة بوابور المياه دون أن تتوسطه مساكن الأهلين، فاعتزمت هدم هذا الكفر. لأنه يقع في الطريق الذي أرادت شقه، وهذا الكفر يتألف من 156 منزلاً يسكنها نحو ألفي نسمة.
ففي 5 ديسمبر سنة 1951 طلب الجنرال أرسكين القائد العام للقوات البريطانية في القنال من محافظ السويس (إبراهيم زكي الخولي) إخلاء منازل هذا الكفر.
لاعتزام القيادة البريطانية هدمها في صباح يوم 7 ديسمبر، بدعوى أن الكفر يقع بجوار وابور المياه الذي يزود المعسكرات البريطانية بالماء، ولأنها تنوي أن تمد طريقًا وتقيم جسرًا يصلان بين المعسكرات البريطانية وهذا الوابور.
اتصل المحافظ بوزارة الداخلية، فرفضت طلب القيادة، وأمرت قوات البوليس بالسويس بحماية مساكن الكفر، والحيلولة دون هدمها، ودفع كل اعتداء يقع على ساكنيها من القوات البريطانية.
وأبلغ محافظ السويس هذا القرار إلى ممثل القيادة البريطانية بعد ظهر يوم 6 ديسمبر، وقررت القيادة إرجاء الهدم 24 ساعة حتى تتاح الفرصة لاجتماع يعقده الجانبان.
عُقد هذا الاجتماع بالسويس ظهر يوم الجمعة 7 ديسمبر، وأصر الجانب المصري على الرفض، وأعلنت القيادة البريطانية تصميمها على تنفيذ ما اعتزمت، وأعلنت وأنذرت أنها ستبدأ أعمال الهدم باحتلال الحي في الساعة السادسة من صباح يوم السبت 8 ديسمبر بقوات كبيرة من المشاة تؤيدها المدفعية والدبابات، وأنها ستباشر الهدم في هذا اليوم، وطلبت إخلاء منازل الكفر من سكانها تمهيدًا لهدمها في اليوم التالي (8 ديسمبر).
ونظرًا لخطورة هذا الإنذار أبلغه المحافظ إلى وزارة الداخلية ليتلقى تعليماتها فاجتمع مجلس الوزراء خصيصًا على عجل بدار مصطفى النحاس بعد ظهر يوم الجمعة، وقرر رفض طلب القيادة البريطانية، وعهد إلى المحافظ باتخاذ الإجراءات اللازمة لمقاومة كل اعتداء يقع على الأهلين، ومقاومة تنفيذ الإنذار بالقوة إذا لزم الأمر.
وكان الظن أن تعدل القيادة البريطانية عن تنفيذ إنذارها، تفاديًا من ملحمة بشرية قد تقع إذا أصرت على موقفها، وتدخل السفير البريطاني السير رالف ستيفنسن في الأمر. واتصل تليفونيًا يوم 7 ديسمبر بالجنرال أرسكين في (فايد) وطلب إليه إرجاء تنفيذ الإنذار ريثما يمكن الوصول إلى حل أقل خطورة مما طلب، ولكن أرسكين أصر على إنذاره، متعللاً بأن الضرورات العسكرية تقضي بتنفيذه في الموعد الذي حدده.
وأسرعت السلطات البريطانية فحشدت قوات ضخمة من ستة آلاف مقاتل. تعززهم نحو 250 دبابة و 500 مصفحة من مختلف الأنواع والأحجام، وحوالي 50 سيارة من سيارات الإشارة، وعدد من الطائرات الحربية، كل ذلك لاكتساح حي كفر أحمد عبده في الموعد المحدد، وهو صبيحة يوم السبت 8 ديسمبر سنة 1951. وحاصرت القوات البريطانية مدينة السويس ليلاً، ووقفت بعض البوارج الإنجليزية في الميناء مصوبة مدافعها نحو المدينة، مستعدة لضربها بالقنابل عند أول إشارة تصدر إليها.
وقد أدرك محافظ المدينة وذوو الرأي فيها ما يجر تنفيذ أوامر وزارة الداخلية بالمقاومة من الخراب وسفك الدماء دون جدوى، فاجتمعوا مساء 7 ديسمبر غير مرة، ورأوا اجتناب مقاومة الإنجليز في عدوانهم الغاشم ليتفادوا تدمير مدينة السويس تدميرًا كاملاً إذا اشتبك رجال البوليس بالقوات البريطانية.
وتحدث نائب المدينة الوفدي إلى فؤاد سراج الدين وزيرالداخلية تلفونيًا في مساء 7 ديسمبر، وأطلعه على أنباء الموقف، وأوضح له خطورة الحال، ولكن وزير الداخلية أصر على قرار الوزارة، وأمرا لمحافظ بالهجوم والضرب من علمه أن القوات البريطانية مهدت للهجوم باحتلال سطوح بعض المنازل والعمارات في المدينة لتقضي على كل حركة مقاومة.
وانتهى أعيان المدينة وذوو الرأي فيها إلى عدم تنفيذ أوامر وزير الداخلية وقرروا عدم التعرض للقوات البريطانية فيما اعتزمت من عدوان أثيم.
واضطر سكان الحي وهم يؤلفون نحو ثلثمائة أسرى إلى إخلاء منازلهم ليلاً والهجرة منها حتى لا تبيدهم نيران المدافع والدبابات في اليوم التالي، وأخذوا يرحلون عن ديارهم ومساكنهم حاملين ما استطاعوا حمله من متاعهم وأثاثهم، وتركوا معظمه بعد أن أعجلهم عنه ما كانوا فيه من فزع واضطراب، فكان هذا المنظر يثير الحزن والأسى.
وقد آوتهم المحافظة قدر ما استطاعت، وأخلت لهم دار إحدى المدارس (مدرسة البنات)، ولما لم تف بإيوائهم أسكنتهم بعض أكشاك الاستحمام القائمة بشواطئ السويس.
وفي الساعة العاشرة مساء تقدمت القوات الإنجليزية بداباباتها وسياراتها المصفحة ومدافعها الثقيلة، وحاصرت الكفر تمهيدًا لنسفه.
وقبيل فجر يوم السبت 8 ديسمبرسنة 1951 قطعت السلطات البريطانية المواصلات التليفونية والتلغرافية بين السويس وما عداها من المدن والجهات، كما قطعت كل طرق للمواصلات الأخرى، وعزلت المدينة عزلاً تامًا.
وصار الاتصال بين مصر والسويس عن طريق اللاسلكي.
وفي الصباح الباكر من هذا اليوم المشئوم زحف ستة آلاف جندي بريطاني على الهدف الذي حددوه، وقاموا بحصار منطقة واسعة حول كفر أحمد عبده، وأطبقوا عليها بدباباتهم ومدافعهم، واحتلت قوة منهم سطوح جميع المنازل المحيطة بالمنطقة المذكورة، ونصبوا مدافع الميدان البعيدة المدى بأول شارع فاروق، وصوبوها نحو المدينة، وعززت هذه القوات بأربعة آلاف جندي آخرين، كما عسكر جنود المظلات فوق سطوح العمارات، وأخذت طائراتهم الحربية تحلق فوق المنطقة المحاصرة على ارتفاع قليل.
أرسل محافظة المدينة نبأ هذا الزحف بطريق اللاسلكي إلى وزارة الداخلية، وأشار إلى خطورة تقدم رجال البوليس من مواقعهم لصد الإنجليز، لبعد مرمى قنابل المدافع البريطانية وعدم إمكان وصول نيران بنادق البوليس إلى مكان الحشود البريطانية.
فأجاب وزير الداخلية على هذه البرقية بأن على رجال البوليس أن ينفذوا قرار مجلس الوزراء بمقابلة القوة بالقوة.
فرد المحافظ على هذه البرقية ببرقية لاسلكية أخرى بأنه يتعذر على قوات رجال البوليس (وعددهم لا يزيد على أربعمائة جندي) الوصول إلى المكانا لذي تهدم من المنازل، لاحتشاد قوات بريطانية مسلحة تربو على عشرة آلاف جندي، وعدد كبير من الدبابات ومدافع الميدان تسد الطريق إلى هذا المكان، وأن نائب المدينة وأعضاء البلدية وأعضاء اللجنة القومية بها قابلوه وطلبوا منه بإلحاح منع التصادم بين رجال البوليس والجيش البريطاني، حقنًا للدماء، وحفظًا للأرواح الأهلين.
فرد وزير الداخلية على هذه البرقية ببرقية إلى المحافظ بتنفيذ التعليمات السابق صدورها إليه بالمقاومة إلى النهاية، مع أخذ الاحتياط اللازم لعدم إصابة الأهالي بأي أضرار..
واتصل رئيس قوات البوليس بالمدينة (اللواء مصطفى المتولي) ونائبها بالوزير، وأفهماه أن وضع قوات الطرفين بالنسبة لبعضهما لا يسمح بأي اشتباك بينهما دون تعريض الأهالي للخطر المحقق، فأمر الوزير قائد البوليس باتخاذ كل الإجراءات اللازمة التي تكفل الجميع بين تنفيذ أوامر الحكومة بالمقاومة وبين صيانة أرواح الأهلين!!
ولقد لجأ المحافظ وقائد البوليس وأعيان المدينة إلى سلوك الخطة التي لا معدى عن اتباعها، وهي الحيلولة دون اشتباك رجال البوليس والأهلين بالقوة الزاحفة وعدم التعرض لها.
وزحفت قوات الهدم والتدمير على الحي الحزين، وهاجمت منازلهم البالغ عددها 156 منزلاً، ونسفتها بالقنابل تحت حماية دباباتها ومدافعها وطائراتها ودكتها دكًا، ونسفتها بالألغام، والمباني التي استعصت على الهدم كان جنود المظلات يشغلون النار فيها ليسهلوا مهمة هدمها وتدميرها.
وزال حي كفر أحمد عبده من الوجود بهذه الوسيلة الهمجية، وصار بعد نسفه أطلالاً من الخرائب تشبه أطلال بعض مدن ألمانيا التي دمرها الحلفاء في أعظم حرب عرفها التاريخ!
ولا ريب أن هذه الموقعة، هي وصمة في جبين الاستعمار البريطاني، وصفحة سوداء في تاريخ إنجلترا. وما أن طيرت أسلاك البرق نبأها حتى قوبلت بالاشمئزاز والاستنكار في أرجاء العالم، واستنكر الناس على الأخص تجريد جيش جرار لهدم منازل قرية لا حول لها ولا طول، ولا ذنب ولا جريرة، واعتبرت هذه الجريمة من الفظائع التي تأباها الإنسانية وتقشعر منها الأبدان.
نتائج موقعة كفر عبده
كان للمأساة المروعة التي وقعت في كفر عبده للوحشية التي ظهر بها الإنجليز في إبادة هذا الحي أثر عميق في النفوس، واستبان منها تمادي الإنجليز في العدوان على مصر، والاستهانة بكرامتها وحكومتها.
وقد أبلغت وزارة الخارجية المصرية ممثلي دول العالم المجتمعين في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة التي كانت منعقدة وقتئذ بباريس مذكرة أوضحت فيها فظاعة العدوان البريطاني المسلح على القرية الآمنة، وتولى محمد صلاح الدين وزير الخارجية التي كان يرأس وفد مصر لدى هيئة الأمم المتحدة تقديم هذه المذكرة إلى السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة وإلى جميع رؤساء بعثات الدول المشتركة فيها، وفي الوقت نفسه قدمت الحكومة احتجاجًا شديدًا إلى وزير الخارجية البريطانية عن طريق سفير مصر بلندن.
واجتمع مجلس الوزراء في يوم 11 ديسمبر سنة 1951، وتباحث طويلاً في الموقف، وأصدر قرارات تدل على اشتداد الأزمة بين مصر وبريطانيا.
سحب سفير مصر في لندن
وأهمها استدعاء سفير مصر في بريطانيا –عبد الفتاح عمرو- احتجاجًا على تصرفات السلطات البريطانية في منطقة القنال واعتداءاتها المتكررة، وآخرها جريمة كفر عبده، وقد وصل السفير إلى القاهرة صبيحة يوم 20 ديسمبر، وهذا الإجراء كان بمثابة تمهيد لقطع العلاقات السياسية بين البلدين.
وقد أبلغت وزارة الخارجية السفير البريطاني في القاهرة هذا القرار في كتاب أوضحت فيه الأسباب التي بني عليها وسجلت فيه فظاعة العدوان البريطاني قالت فيه : "منذ 16 أكتوبر الماضي، وفي مذكرات دبلوماسية متتالية، لم تتوان الحكومة المصرية عن الاحتجاج لدى حكومة لندن وسفارة المملكة المتحدة بالقاهرة على الفظائع وأعمال العدوان الكثيرة التي دأبت القوات البريطانية على ارتكابها في منطقة قناة السويس ضد الأهالي وممثلي السلطة العامة ورجالها وعلى أملاك الدولة العامة والخاصة وممتلكات الأفراد، وكان آخر مظهر لهذه الاعتداءات البشعة ما وقع في يومي 8، 9 ديسمبر الجاري من هدم قرية كفر عبده بالسويس هدمًا تامًا في ظل الدبابات والمصفحات والمدافع وفي حمى القوات البريطانية المسلحة وكان من جراء هذا العمل المستند إلى القوة الغاشمة تشريد ثلاثمائة أسرة من الطبقات العامة أخرجوا من ديارهم وألقى بهم إلى عرض الطريق.
وسيظل مثل هذه القرية كمثل دنشواي منقوشًا على صفحات قلوب المصريين، أثراً باقيا للفظائع وأعمال الظلم والجبروت التي ارتكبها الاحتلال البريطاني في أرض الوطن.
" ولطالما طلب الحكومة الملكية المصرية في مذكراتها سالفة الذكر – ابتغاء تجنب أسباب الاحتكاك وإراقة الدماء – سحب القوات البريطانية فوراً من الأماكن التي احتلتها منذ 16 أكتوبر الماضي، واعتبار مدن بورسعيد والإسماعيلية والسويس مناطق محرمة على القوات البريطانية، فلم تقر الحكومة البريطانية في المملكة المتحدة هذا الطلب إلا في يوم 11 ديسمبر سنة 1951 ولكنها قيدته بتحفظات بالغة الخطر حتى أصبح إقرارهما عديم الأثر ".
" لذلك وإعلانا للسخط والاحتجاج الصارخ إزاء هذه الحال التي كلفت مصر كثيراً من أرواح أبنائها عدا المئات من الجرحي من المدنيين ورجال السلطة العامة وعدا الأضرار التي لا حصر لها في المرافق والممتلكات – قررت الحكومة الملكية المصرية استدعاء سفيرها بلندن وقد صدر إليه الأمر بالعودة إلي القاهرة فوراً ".
" ومن المقرر أن الحكومة الملكية المصرية تحتفظ بحقوقها كافة في التعويضات عن الخسائر والأضرار التي وقعت بمنطقة القنال نتيجة للعدوان البريطاني، كما أنها تحتفظ باتخاذ ما تراه ملائما من الإجراءات وفق ما تقتضيه تطورات الأحوال مستقبلا ".
وقررت الوزارة أيضاً أن تمنح الحكومة أهل كفر أحمد عبده الذين هدمت منازلهم قطعة أخرى من أملاك الدولة في مدينة السويس، وأن تبني لهم على نفقتها منازل بدلا من منازلهم التي هدمت، وتدفع لهم إعانات كتعويض لهم عن الخسائر التي لحقتهم، وفتحت اعتماداً لهذا الغرض مقداره مائة وخمسون ألف جنيه لبناء هذه المنازل وتعويض أصحابها.
وقررت كذلك الاستغناء عن خدمات الموظفين الإنجليز في المصالح الحكومية والاستيلاء على الأرض المقام عليها نادي الجزيرة للمنفعة العامة، وكان يرأسه السفير البريطاني.
وقررت نقل المكتب الهندسي المصري من لندن إلي سويسرا، وهو مكتب أسس في عهد الاحتلال، وكان من مخلفات الاستعمار، ومهمته استيراد ما يلزم الحكومة من الصفقات من المصانع الإنجليزية، كالقطارات والسيارات الحكومية والآلات الحربية وجميع الأدوات الحكومية، وقد عمل هذا المكتب كثيرا على جعل مصر عالة على المصنع الإنجليزية دون سواها.
وقررت الوزارة أيضا استصدار تشريع بمعاقبة كل مصري يتعاون مع السلطات العسكرية الأجنبية، وتشريع آخر بتعديل قانون حمل السلاح بحيث تكون الإباحة هي الأصل تمكينا للمواطنين من الدفاع عن أنفسهم وبلادهم.
اجتماع صلاح الدين – إيدن 18 ديسمبر سنة 1951
في خلال الكفاح في القنال، اجتمع محمد صلاح الدين وزير الخارجية بأنطوني إيدن وزير خارجية بريطانيا بباريس، حيث كانت هيئة الأمم المتحدة مجتمعة، وكان الاجتماع بدار السفارة البريطانية في العاصمة الفرنسية.
وقد تم يوم 18 ديسمبر سنة 1951 بناء على طلب أنطوني إيدن وعملاً بنصيحة تلقاها من رالف ستيفنسون سفير بريطانيا في مصر، واستمر الاجتماع ساعة من الزمن، دون أن يتفق الوزيران على شيء في شأن القضية المصرية ذاتها، ولا في شأن حوادث القنال.
وقد طلب إيدن في الاجتماع إنهاء السياسة المصرية التي لا تنطوي على التساهل والتفاهم مع بريطانيا، والوصول إلى تسوية سليمة للنزاع القائم بين البلدين، وإن الخطوة الأولى نحو تحسين جو العلاقات بينهما، وأن تبذل الحكومة المصرية كل جهدها حتى لا يسوء المواقف في قناة السويس أكثر مما هو الآن (1951)ت وذلك قبل الدخول في أية مفاوضات كاملة.
وطلب صلاحالدين من جانبه أن يكف البريطانيون عما يقومون به في منطقة القنال، وطلب أن تكون المفاوضات على أساس الجلاء ووحدة مصر والسودان.
وبدا من حديث إيدن أن بريطانيا لا تميل إلى التساهل في موقفها، وسوغ هذا الموقف بأنها لا تحتمل ضربتين في الشرق الأوسط في آن واحد، ويكفيها الضربة التي تلقتها في إيران بتأميم البترول وخروجها من عبدان.
واقترح إيدن عقد اجتماع آخر يدعو إليه قريبًا، فأجاب صلاح الدين بأنه مستعد لقبول هذه الدعوة إذا قرنت بإعلان استعداد بريطانيا للجلاء الناجز عن منطقة قناة السويس.
وقال إيدن أن بريطانيا لا يمكنها مفاوضة مصر في الوقت الذي تتوالى فيه الهجمات على القوات البريطانية.
وانتهى الاجتماع على غير جدوى، واتضح من الحديث الذي دار فيه أن لا أمل وقتئذ في تسليم بريطانيا بمطالب مصر في الجلاء ووحدة مصر والسودان، ولا في وقف العدوان في القنال.
واتخذت الصحف البريطانية من هذا الاجتماع دعاية لسياستها ووسيلة لتخدير أعصاب المصريين وصرفهم عن الاستمرار في الكفاح، ذلك الكفاح الذي أقض مضاجع الاستعمار، فأخذت هذه الصحف تعيد وتكرر أن بريطانيا معنية بالتفاهم مع مصر والموافقة على إلغاء سنة 1936، إذا ما تحقق الهدوء والاستقرار في منطقة القنال، وهذا معناه الكف عن الكفاح والجنوح إلى الهدنة والمساومة.
على أن السفارة البريطانية بالقاهرة أذاعت بيانًا دلَّ على أن لا جدوى وقتئذ من انتظار تغيير في سياسة بريطانيا حيال مصر قالت فيه :
"ظهرت في الصحف المصرية إيحاءات تدل على أن المغزى من مقابلة صلاح الدين باشا لمستر إيدن هو أن مستر إيدن سيعرض مقترحات جديدة لتسوية المشاكل الرئيسية للعلاقات المصرية البريطانية. ولكن ينبغي ألا يغيب عن البال أن الشرط لتحقيق أي تقدم في هذه المباحثات هو أن توقف الحكومة المصرية اتخاذ التدابير ضد المصالح البريطانية في مصر وأن تتوقف عن أعمال الإرهاب والتهديد في منطقة القنال.
ومعنى هذا البيان أن الحكومة البريطانية كانت ماضية في سياسة القوة الغشوم وتطلب من مصر الكف عن المقاومة.
ومع ذلك فعندما اطلع مجلس الوزراء على تقرير صلاح الدين يمضون اجتماعه بإيدن صرح النحاس لمندوبي الصحف قائلاً : إن كل شيء على ما يرام!
تعيين حافظ عفيفي رئيسًا للديوان الملكي – 24 ديسمبر سنة 1951
من المسائل التي أثرت وقتئذ في مجرى الحوادث تعيين الدكتور حافظ عفيفي رئيسًا للديوان الملكي، وكان من قبل رئيسًا لمجلس إدارة بنك مصر، وقد أصدر فاروق أمرًا ملكيًا بهذا التعيين يوم 24 ديسمبر سنة 1951، وكان هذا المنصب شاغرًا أكثر من عام ونصف عام منذ استقالة حسين سري منه في إبريل سنة 1951، فلم يكن ثمَّ أسباب واضحة تدعو إلى شغل هذا المنصب في الظروف العصيبة التي كانت تكتنف البلاد، ودلت الملابسات على أن سببه الجوهري هو رغبة فاروق في إخلاء مركز حافظ عفيفي في بنك مصر ليشغله (إلياس أندراوس) أحد رجال حاشيته المقربين إليه وأداته في اختلاساته وسرقاته، وقد شغل أندراوس فعلاً مركز العضو المنتدب لمجلس إدارة البنك بعد تعيين حافظ عفيفي رئيسًا للديوان وتعيين عبد المقصود أحمد رئيسًا لمجلس إدارة البنك.
فوجي الرأي العام بهذا التعيين، كما فوجئت به وزارة الوفد، أما الرأي العام فقد استنكره وأخذ يتأهب للإعلان عن شعوره حيال هذا الحادث المفاجئ، وأما وزارة الوفد لزمت الصمت.
وأعقب هذا الحادث تعيين (عبد الفتاح عمرو) سفير مصر في لندن وقتئذ – والمعروف بميوله الإنجليزية – مستشاراً للديوان الملكي في الشئون الخارجية. مع استمرار شغله لمنصبه الأصلي. وأصدر فاروق أمره بهذا الندب يوم 25 ديسمبر أي في اليوم التالي لتعيين حافظ عفيفي رئيساً للديوان.
وقد فوجئت الوزارة أيضاً بهذا الندب. ولزمت الصمت. على الرغم مما فيه. من افتئات على حقوقها الدستورية.
أثارت هذه التعيينات خواطر المواطنين وعدوها تحديا من السراى لحركة الكفاح في القنال. وتعبيراً عن رغبة الملك في التفاهم مع المستعمرين. والتنكر له في كفاحه. كما فعل الخديو توفيق في إبان الثورة العربية سنة 1882.
المظاهرات الصاخبة ضد فاروق
على الرغم من قرار الوزارة بمنع المظاهرات منذ يوم 6ديسمبر سنة 1951 بدأت المظاهرات العدائية ضد فاروق تتجمع وتسير في الشوارع منذ 25 ديسمبر، وأخذت الهتافات العدائية تسمع لأول مرة مدوية في فناء الجامعات، وفي الشوارع والميادين.
كانت هذه المظاهرات ظاهرة جديدة لم يسبق لها مثيل في الحياة السياسية وجاءت نذيراً بما سيؤول إليه مصير الملك والملكية، ومثل هذه الظواهر كانت في كثير من البلدان مقدمات لزوال هيبة الملكية وسقوطها.
ولقد بدا الفرق جلياً بين عطف الشعب على فاروق حين حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين يوم 4 فبراير سنة 1942 وسخطه الذي عبر عنه في ديسمبر سنة 1951.
ولا غرابة في هذا التحول، فان الشعب قد عرف تدريجيا في خلال هذه السنين مساويء فاروق ومفاسده، عرف عنه مغامراته النسائية وسلوكه الشائن في هذا الصدد، وغشيانه مجالس الميسر ولعبه القمار علنا أمام الناس، وسرقاته في القمار وغير القمار، وقضاءه السهرات الماجنة في الأندية الليلية، ثم عرف عنه اشتراك حاشيته والمقربين إليه واشتراكه هو أيضاً في الاتجار بالأسلحة والذخائر الفاسدة التي عقدت صفقاتها أثناء حرب فلسطين سنة 1948، وتبين للشعب مما ترامى إليه سنة و 1950 و 51 عن تحقيقات النيابة في قضية الأسلحة الفاسدة أن الملك كان يتاجر فيها، غير مكترث لتعريض الجيش والبلاد للكوارث والويلات، وأنه فتح لأرباحه من هذه التجارة الفاسدة حسابا في أحد البنوك الأجنبية (البنك البلجيكي والدولي) باسم أدمون جهلان أحد شركائه في الإجرام.
وقد اجتمعت هذه المساويء والمفاسد، فأثارت في نفوس الموطنين سخطاً وغضبا على فاروق، وكانت حوادث ديسمبر سنة 1951 وسيلة للتعبير عن هذه المشاعر التي كانت مكبوتة في النفوس حتى انفجرت أخيراً، وكسرت السدود والحوائل التي وضعتها التشريعات والنظم السائدة وقتئذ لحماية " الذات الملكية ".
قلنا إن هذه المظاهرات كانت ظاهرة جديدة لم يسبق لها مثيل، حقاً قد حدث في 12 فبراير سنة 1946 لمناسبة الاحتفال بوضع حجر الأساس للمدينة الجامعية بالجيزة أن ظهرت في محيط الجامعة حركة عدائية ضده، إذ هتف بسقوطه فريق محدود من طلبة الجامعة وهدموا جزءاً من السرادق الذي أقيم لهذه المناسبة، ومزقوا صورته، ولكن هذه الحركة كانت محدودة النطاق، ولم يتسع مداها أما في هذه المرة، فقد عمت الحركة العدائية الجامعات والشوارع والميادين، وزخرت بالمظاهرات الصاخبة المفاجئة تهتف بسقوط فاروق وأسرته، وسمعت فيها هتافات عدائية ضده لم تكن تسمع عالية من قبل في محيط الطلبة والعمال وطوائف المواطنين. وتعددت هذه المظاهرات في الإسكندرية، ثم امتدت إلى عواصم المديريات وعلى أثر التجمعات والمظاهرات والهتافات التي حدثت في الجامعات الثلاث قررت مجالس إدارتها وقف الدراسة فيها مؤقتاً، ابتداء من يوم الخميس 27 ديسمبر " إلي حين صدور أوامر أخرى " أي إلي أجل غير مسمى.
وقررت الوزارة أيضاً تعطيل الدراسة في الأزهر وكلياته ومعاهده وفي المدارس الثانوية في القاهرة والإسكندرية والجيزة ابتداء من يوم السبت 29 ديسمبر.
وبرغم إقفال الجامعات والمدارس، استمرت المظاهرات العدائية ضد فاروق تسير في الشوارع وتهتف الهتافات العدائية ضد الملك والملكية.
تصريح الجنرال روبرتسن 31 ديسمبر سنة 1951
وزاد في ثورة الخواطر وفي سخط الشعب على الاستعمار وعلى فاروق معا تصريح خطير أدلى به الجنرال بريان روبرتسن القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط، حين وصل الي مقر قيادته في " فايد " يوم 31 ديسمبر سنة 1951 عائدا من لندن، قال فيه :
" لقد عدت تواً من زيارة قمت بها للندن، حيث اقتضي الأمر أن أقدم تقريراً عن الموقف في قناة السويس إلي رؤسائي العسكريين، وإلى رئيس الوزراء، ووزير الخارجية (3)، وما أقوله الآن هو بيان كلفني به رئيس الوزراء (ونستون تشرشر) عند انتهاء مناقشاتنا.
" إن وزير الخارجية (أنطوني إيدن) قد أوضح في مناسبات عدة، أن حكومة جلالة الملك عاقدة العزم على السير قدما فيما بتعلق بمقترحات الدول الرباعية التي من المرجو بإخلاص أن تشترك مصر فيها اشتراكا كاملا وعلى قدم المساواة ".
"وإلى أن يتم مثل ذلك الاتفاق، ستحافظ حكومة جلالة الملك على مركزنا، في منطقة القناة، وستصون حرية الملاحة الدولية في القناة. لا لمصلحة ذاتية قائمة على الأنانية، ولكن مساهمة من جانبنا في الدفاع عن العالم الحر ".
"وإنه اخطأ كبير أن يتخيل أي إنسان أن أعمال الضغط والإرهاب وما يتلوها من نتائج لا مفر منها، تؤثر بأي شكل من الأشكال في عزمنا ذاك، وإذا اقتضت الضرورة ذلك، فإننا سنستمر في أعمال المقاومة شهر في أثر شهر، بل ولشهور عديدة إذا احتاج الأمر، وسنقابل القوة بالقوة، مستخدمين من جانبنا ما لا يزيد عن الحاجة، ولدينا القوة الكافية تحت تصرفنا كما لدينا التأييد من عدة بلاد أخرى فلا يخدعن امرؤ نفسه بالتفكير في أننا سنغير سياستنا على مر الوقت أو نتيجة للإرهاب ".
كان هذا التصريح ذا صبغة رسمية، وقد أبلغته القيادة البريطانية والقيادة العسكرية لقواتها على موقف العدوان والتحدي لمصر، وإيذانا باستخدام القواة لبقاء الاحتلال.
استمرار الكفاح في القنال
لم تتراجع مصر أمام تهديدات البريطانيين، وخاصة تصريح الجنرال بريان روبرتسن، واستمر الكفاح في القنال مضياً في سبيله.
محاولة اغتيال الجنرال اكسهام 31 ديسمبر سنة 1951
ألقى بعض الفدائيين ثلاث قنابل يدوية على سيارة البريجادير جنرال اكسهان قائد القوات البريطانية في منطقة الإسماعيلية يوم 31 ديسمبر سنة 1951 بالقرب من كوبري نفيشة، أثناء ذهابه إلى منطقة القصاصين، وقد أصابت سائق السيارة كما أصابت مقدمتها، ولكنها لم تصب البريجادير اكسهام، وعقب وقوع هذا الحادث انتشرت قوات بريطانية تؤيدها الدبابات والمصفحات على طول الطريق أبي صوير وأخذت تفتش المارة في تعسف واستفزاز. ثم حاصرت بعض القرى وفتشت منازل الأهلين فيها بحجة اعتصام الفدائيين بها.
معركة أخرى في السويس 3 – 4 يناير سنة 1952
وقعت في يومي الخميس والجمعة 3 و 4 يناير سنة 1952 معركة أخرى دامية في السويس بين البريطانيين والمصريين من رجال البوليس والمدنيين.
بدأت المعركة عصر يوم الخميس، واستمرت إلى اليوم التالي، كانت بدايتها عدوان من الإنجليز، إذ خرجت سيارة جيب من معسكرهم الرئيسي بالسويس تقل ضابط وبعض الجنود. واتجهت إلى مدخل المدينة في الطريق المعروف بطريق المعاهدة.
ولما وصلت إلى ورش القاطرات التابعة لمصلحة السكك الحديدية أرادت اقتحام هذه الورش. فحذر الحرس راكبيها. فأجابوا على هذا التحذير بإطلاق الرصاص عليهم. فرد الحراس على هذا العدوان يضرب مثله.
ولم يمض دقائق حتى خرجت من المعسكر البريطاني دبابتان وعشرون سيارة مصفحة وثلاثون سيارة نقل (لوري) تعج بالجنود الإنجليز. واتجهوا إلى وابور تكرير المياه للمعسكرات البريطانية المجاور لكفر أحمد عبده، وخرجت قوة أخرى صغيرة، واتجهت إلى ورش القاطرات.
ووصلت أنباء هذه التحركات إلى رجال البوليس، فأيقنوا أن الإنجليز يريدون الاعتداء على المدينة كلها، فتحصنوا في منازل كفر محمد سلامه وكفر البراجيل المجاورة لكفر أحمد عبده. وكذلك تحصن الفدائيون في بعض المنازل.
وتبادل الفريقان إطلاق الرصاص، وكان الأهالي ينقلون الزخيرة إلى رجال البوليس والفدائيين المحصنين في المنازل تحت وابل من رصاص الإنجليز، فلم يرهبوا الرصاص. وساهموا بشجاعة في رد العدون. ولما جن الليل هدأت المعركة قليلا.
قضت القوات البريطانية ليلة 4 يناير في تعزيز مواقعها في منطقة وابور المياه. وكان ذلك نزيراً بهجوم جديد لها على المدينة. وقد اتخذت هذه القوات مواقعها بين المساكن المتهدمة في كفر أحمد عبده وفي ورشة الوابورات موجهة كفر سلامة وطريق المعاهدة.
وفي نحو الساعة الرابعة من صبيحة يوم 4 يناير استأنف الإنجليز عدوانهم المسلح على أهل المدينة. وكان الفوج الأول منهم يتألف من خمسمائة جندي تعززهم عشرون دبابة.
فاحتلوا كشكي المثلث رقم 1 ورقم 2 ثم أخذوا يطلقون النار على الأهلين.
فلم يكن من الأهلين إلا أن قابلوا العدوان بالدفاع المسلح عن أنفسهم، وأجابوا على الضرب بضرب مثله، وأنضم إليهم الفدائيون من كتيبة الشهيد أحمد عبد العزيز، كما لحقت بهم قوة من رجال البوليس ليساهموا في رد العدوان.
ونشبت بين الفريقين معركة دامية انسحب على أثرها الإنجليز عائدين إلى قاعدتهم.
وانتهز المجاهدون هذه الفرصة فبثوا أربعة ألغام في جنوب وابور المياه، فأخذت تنفجر على التعاقب ونسفت بعض مباني الوابور.
وفي منتصف الساعة السابعة صباحاً عاود البريطانيون هجومهم وأخذوا يضربون مواجع المجاهدين بالمدافع، وكانوا يركزون إطلاق قنابلهم على كل بيت أو موقع اعتقدوا أن البوليس والمجاهدين يمتنعون فيه، وتبادل الفريقان إطلاق النار.
وبلغ في إسراف الإنجليز في العدوان أنهم أطلقوا ما لا يقل عن ألف رصاصة على مبنى المستشفى الأميري وحديقته، ومنزل مديره، على الرغم من ارتفاع العلم الأبيض على سارية المستشفى، وأطلقوا الرصاص أيضاً على سيارات الإسعاف وناقلات المرضى.
ولم يهرب الأهلون عدوان البريطانيين، بل تجلت روحهم المعنوية عالية، فأخذوا يتوافدون طيلة المعركة على المنطقة التي اتخذها الإنجليز ميدانا لعدوانهم، غير مبالين بالقذائف التي كانت تنطلق من مدافع البريطانيين وبنادقهم، وكان النساء والأطفال من وراء الصفوف يزودون المجاهدين بحاجتهم من الذخيرة.
وفي الساعة السادسة مساء اتصل القنصل البريطاني بالمحافظة وأبلغها أنه إذا لم يتوقف إطلاق النار من الجانب المصري فإن القوات البريطانية ستضرب إلى اتخاذ إجراءات تأديبية شديدة في الغد، وإلى ضرب المدينة بالمدافع، وأجيب القنصل على هذا التهديد بأنه يجب أن يكون مفهوما أن الجانب المصري لن يقف مكتوف الأيدي أمام أية بادرة لعدوان بريطاني، وأنه سيبادر بالرد على كل اعتداء بمثله. وأخذ الهدوء يسود المدينة ليلا، بعد أن انقطع عنها نحو ثلاثين ساعة وعند منتصف الليل أتم الإنجليز حصار المدينة وسدوا معظم المنافذ إليها.
وأسفرت هذه المعركة عن خمسة من الشهداء و44 جريحا من المصريين وعرفنا من أسماء الشهداء : صابر حسين حسن (وهو طفل صغير)، نور الدين حسن يوسف، فؤاد محمد إسماعيل علوان.
واستشهد في اليوم التالي علي شعراوي من عمال وابور المياه التابع لبلدية السويس.
وبلغ عدد قتلي الإنجليز في هذه المعركة 25 وعدد الجرحى منهم 55.
الدكتور عزيز فهمي:
وقد هزت الأريحية الوطنية المرحوم الدكتور عزيز فهمي فسارع إلى الحضور إلى السويس قادما من القاهرة صبيحة يوم المعركة، وقصد إلى ميدان القتال، وزار المستشفى حيث واسى الجرحى والمصابين، وأخذ يشدد عزائم المجاهدين
فكان حضوره والقتال مستمر مثلا يضرب في الشجاعة والمساهمة الفعلية في رد عدوان البريطانيين.
وكان الأجدر بوزراء الحكومة أن يبادروا بأداء هذا الواجب، ولكنهم لم يفعلوا.
معركة أبي صوير 4 يناير سنة 1952
وقعت معركة في أبي صوير يوم 4 يناير سنة 1952 بين الإنجليز والفدائيين تبادلت فيها طلقات النار بين الفريقين.
واستشهد فيها ثلاثة من المجاهدين هم : محمد عبد الله على، شعيب مصطفى على، عبده محمد.
وبلغ ضحايا الإنجليز فيها خمسة.
معركة المحسمة 9 يناير سنة 1952
وبعد ذلك جرى اشتباك آخر يوم 9 يناير بين المجاهدين المصريين وبين الإنجليز في الطريق بين المحسمة و أبي صوير قتل فيه ضابط إنجليزي.
وتبادل الفدائيون الإنجليز إطلاق النيران، وهذه المعركة هي التي استشهد فيها عباس سليمان الأعسر الطالب بجامعة فاروق (الإسكندرية).
حملات تفتيشية علي القرى
ومضت القوات البريطانية في حصار القرى الواقعة على طريق المعاهدة بين الإسماعيلية والتل الكبير، بدعوى التفتيش على الأسلحة التي خبأها الفدائيون فيها، وكان هذا التفتيش يأخذ شكل حملات عسكرية إرهابية واسعة النطاق.
ففي 11 يناير سنة 1952 عبرت قوة بريطانية كبيرة مؤلفة من أربعمائة جندي من لواء المظلات ترعة الإسماعيلية في قوارب من المطاط ونزلت على الضفة اليمنى (القبلية)للترعة على بعد بضعة كيلو مترات من أبي صوير، فشنت حملة تفتيشية كبيرة على عزبتي السبع آبار وأبي سلطان.
وأكره الإنجليز أصحاب منازل عزبة أبي سلطان على إخلائها، وجمعوا رجال القرية في مكان واحد وأحاطوهم بسياج من الأسلاك الشائكة، ووضعوا النساء والأطفال داخل سياج آخر، وفتشوا المنازل واحداً واحداً، واعتقلوا عدة مواطنين نقلوهم إلى أحد المعسكرات.
معركة التل الكبير 12 – 13 يناير سنة 1952
في يوم السبت 12 يناير سنة 1952 هاجم الإنجليز بلدة التل الكبير بدعوى أنها تؤوى بعض الفدائيين الذين كانوا يهاجمون معسكراتهم في هذه الناحية.
قاوم رجال البوليس والفدائيون هذا الهجوم مقاومة جمعت بين البطولة والمهارة في القتال، فقد علموا باستعداد الإنجليز لمهاجمة بلدتهم، وأنهم ملأو اقطاراً بالذخيرة والسلاح والجند، وأن هذا القطار في طريقه إلى التل الكبير قادما من الإسماعيلية، فما أن علموا بهذا النبأ حتى ترقبوا القطار قبل وصوله، ووضع الفدائيون ألغاما تحت القضبان على مقربة من مدخل معسكر التل الكبير، فلما وصل القطار إلى هذه النقطة انفجرت الألغام ونسفت بعض القضبان، فتوقف القطار، وكان ذلك في صبيحة السبت 12 يناير.
فلما وصل دوي الانفجار إلى آذان الإنجليز في المعسكر خرجت منه قوة ضخمة تعززها الدبابات والمصفحات والطائرات وحاصرت منطقة الانفجار، وأخذت تطلق النار على من فيها.
ولما أرادت القوة البريطانية عبور الكوبري القائم على ترعة الإسماعيلية لتصل إلى موقع الفدائيين تصدى لها الفدائيون ورجال البوليس، ونزل أحدهم إلى قاع الترعة وفتح الكوبري لمنع الإنجليز من العبور فوقه، وظل المصريون والإنجليز يتبادلون إطلاق الرصاص علي ضفتي الترعة، فكان المصريون بالضفة اليمنى والإنجليز بالضفة اليسرى (شمالي الترعة).
ولما وصل نبأ هذا الالتحام إلى مديرية الشرقية بادرت بإرسال قوة من بلوكات النظام للدفاع عن الأهلين.
واستطاع البريطانيون أن يعتبروا الترعة على قوارب من المطاط، واشتبكوا مع جنود البوليس والفدائيين، واستمرت المعركة حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان البريطانيون في خلالها يطلقون نيران مدافعهم وقنابلهم الحارقة على التل الكبير والقرى المجاورة لها،فاشتعلت الحرائق في عدد من منازلها.
وحدثت اتصالات عدة بين مدير الشرقية (محمد صادق الملا) والقيادة البريطانية في القنال، أصدر الجنرال أرسكين على أثرها أمراً بوقف إطلاق النار في الساعة الخامسة مساء.
وأسفرت هذه الموقعة عن قتل عدد من الإنجليز واستشهاد سبعة من الفدائيين منهم الشهداء أحمد فهمي المنسي،وعمر شاهين، وعبد الحميد عبد الله حسن من عزبة أبى سلطان، وإصابة 14 بجراح مختلفة.
وقد أطلق البريطانيون في هذه المعركة النار جزافًا على أهالي التل الكبير، وكان من قتلاهم سيدة تدعى سيدة البنداري حسن.
وعاود الإنجليز في اليوم التالي (الأحد 13 يناير) العدوان على التل الكبير فصمد لهم المجاهدون مرة أخرى، ولكن الإنجليز تكاثروا حتى صاروا ألفي جندي، ومدوا الكباري المتحركة على ترعة الإسماعيلية، وحاصروا التل الكبير وحمادة وأبو حماد وغيرها من القرى، وقتلوا من وجدوهم من الرجال والنساء والأطفال.
وهاجرت عائلات كثيرة من هذه البلاد تفاديًا من اضطهاد الإنجليز.
وفي اليوم التالي ضرب الإنجليز التل الكبير بالمدافع، فتهدمت منازل كثيرة فيها، كما ضربوا القرين وحمادة وأبو حماد.
كانت هذه المعركة أعنف معركة مكشوفة بين المجاهدين والإنجليز، ومما يذكر عنها أن الإنجليز أسروا سبعة من المجاهدين ولم يعاملوهم معاملة الأسرى، بل صلبوهم على الأشجاء وأطلقوا عليهم الكلاب المفترسة تنهش أجسامهم لحملهم على الاعتراف على زملائهم، فلما أبوا أعدموهم رميًا بالرصاص في أحد معسكراتهم، وهو عمل همجي يدل على منتهى الفظاعة والوحشية.
ما كتبته الصحف البريطانية عن معركة التل الكبير
كان استبسال الفدائيين وجنود البوليس في معركة التل الكبير عملاً جليلاً استرعى الأنظار، وقد اعترفت صحف لندن في تعليقاتها على هذه المعركة بأن حركة المقاومة الشعبية أخطر مما كان الإنجليز يتصورون.
فذكرت كبريات الصحف الإنجليزية غداة المعركة أن الفدائيين المصريين خاضوا غمار معركة استمرت خمس ساعات، ولم ينسحبوا إلا خشية تطويقهم، وأنهم استخدموا المدافع الأتوماتيكية.
وكتبت صحيفة (الديلي ميرور) تقول : "لا نستطيع بعد اليوم أن نقول عن قوات التحرير المصرية المؤلفة من شباب متحمس أنها إحدى الدعايات المضحكة، لقد دخلت المعركة بين مصر وبريطانيا في دور جديد، واستمر القتال يوم السبت الماضي يومًا بأكمله، وظل الطلبة المتحمسون يحاربون فرق "الكاميرون والهايلاندرز" باستماتة عجيبة.
وقالت جريدة (نيوز كرونيكل) في كلامها عن معركة التل الكبير : "إنها أول المعارك المنظمة تنظيمًا جيدًا، فقد تثبت المصريون في القتال ولم يركنوا إلى الفرار، حتى لقد علق أحد الضباط الإنجليز على هذه المعركة بأنها أعنف من أي معركة خاضوها أيام الانتداب البريطاني في فلسطين".
وقال (التيمس) : "إن معظم الضباط الإنجليز الذين اشتركوا في القتال متفقون على أن المجاهدين المصريين حاربوا ببسالة فائقة على وجه العموم، وأن كثيرًا منهم كانوا يصيبون الأهداف إصابة محكمة".
وقالت أيضًا : "كان من الشجاعة النادرة أن يتصدى هؤلاء المصريون لثلاث مجموعات من قوات المشاة الإنجليزية التي تعتبر من خيرة القوات والتي كانت تؤيدها الدبابات".
في القرين
وحدث في نفس الوقت – 13 يناير – اشتباك آخر بين الفدائيين والبريطانيين في القرين.
استشهد فيه من الفدائيين مصطفى المردنلي وقتل فيه ثلاثة من البريطانيين.
احتلال التل الكبير
وفي 16 يناير احتل الإنجليز بلدة التل الكبير بعد أن هجرها معظم سكانها، واحتلوا كذلك (حمادة) و(أبو حماد) بدعوى التفتيش على الأسلحة وتعقب الفدائيين، وأسروا في قسم البوليس بالتل الكبير ثلة من جنود البوليس يبلغون نحو 300 جندي مع ضباطهم وعلى رأسهم ضابط برتبة لواء (محمد عبد الرءوف)، وقد أخذ هذا اللواء أنه سلم نفسه وسلاحه وسلم معه جنوده دون أية مقاومة، مما لا يجدر برجال الجيش والبوليس أن يفعلوه.
واحتل الإنجليز القرى المجاورة للتل الكبير، وفرضوا رقابة مشددة على طرق المواصلات إليها، وأنشأوا نقط تفاتيش جديدة مسلحة بمدافع الميدان والدبابات بحيث صارت بلدة التل الكبير هي الحلقة الفاصلة بين منطقة القنال وبقية القطر.
اقتراب الإنجليز من القاهرة
كان احتلال الإنجليز للتل الكبير ثم أبي حماد نذيرًا باستمرار زحفهم حتى يبلغوا القاهرة. وزاد هذا النذير وضوحًا إقامتهم الكباري على ترعة الإسماعيلية، على أنهم توقفوا عن الزحف، وأخذوا في دعم مواقعهم في منطقة القنال وفي البلاد التي احتلوها.
تجدد المظاهرات والاضطرابات في القاهرة
على أثر مولد الأمير أحمد فؤاد بن فاروق يوم 16 يناير سنة 1952 وإعلان ولايته العهد، تجددت في أنحاء العاصمة المظاهرات العدائية ضد فاروق.
وفي الحق أن مولد ولي العهد قد حدث في جو مليء بالاضطرابات والثورة، ولم يكن قدومه فألاً حسنًا لفاروق، بل كان شؤمًا عليه وعلى الأسرة المالكة برمتها.
وعاود بعض طلبة المدارس الثانوية الإضراب منذ يوم الأحد 20 يناير، واصطحب إضرابهم بمظاهرات صاخبة هتفوا فيها هتافات عدائية ضد فاروق، واتخذت هذه المظاهرات طابع العنف باصطدامها برجال البوليس وتحدى أوامرهم، فلما أراد هؤلاء منع المظاهرات قاومهم الطلبة واعتدوا عليهم وعلى المارة بالطوب والحجارة، وقلبوا إحدى قاطرات الترام، وأشعلوا فيها النار، ولما حاول رجال البوليس إطفاء النار قذف المتظاهرون رجاله بالحجارة، مما اضطر رجال البوليس إلى إطلاق النار في الهواء إرهابًا، وقد اعتصم طلبة مدرسة عمرو بن العاص الثانوية بمصر القديمة بمدرستهم، وصعد فريق منهم إلى سطح المدرسة، وعاودوا قذف رجال البوليس بالحجارة وبكل ما وقع تحت أيديهم من أثاث المدرسة، حتى امتلأ الشارع بحطامه، وأخذوا يلقون إلى الطريق بخرق مشتعلة، وأصيب عدد من رجال البوليس، وتوفي أحد الطلبة.
وحدث مثل هذا الاضطراب في مدرستي فؤاد الأول والحسينية الثانويين، وخرج طلبتهما في مظاهرة بشارع العباسية، وحدث اصطدام بينهم وبين رجال البوليس. وكان بعض الطلبة مسلحًا بأسلحة نارية يحملونها، وأطلقوا منها النار على رجال البوليس، وعبثًا حاول هؤلاء تهديد الطلبة بإطلاق أعيرة في الهواء، فأجاب عليها الطلبة بالاستمرار في إطلاق النار، وأصيب عدد من رجال البوليس، وأصيب طالبة اسمه سمير أبو النجا بمقذوف ناري من أحد الطلبة توفي على أثرة.
ولم يكن معروفًا على وجه التحقيق ما إذا كان يقصد هؤلاء الطلبة من مظاهراتهم الصاخبة وما تخللها من التخريب والتدمير والحريق، وإطلاق الأعيرة من بعضهم، ولم يكن مفهومًا على الأخص معنى اشتباكهم مع رجال البوليس، ولم تكن المناسبة مواتية للاصطدام وإياهم، بعد أن أدى رجال البوليس عامة واجبهم في الكفاح في القنال, وهذا يدل على أن الروح الوطنية لم تكن مصدر هذه المظاهرات. بل كانت تتسلط عليها روح الشغب والفوضى والإخلال بالأمن والنظام، والاستجابة إلى نداء المضللين والهدامين الذين أرادوا إذاعة الفوضى والاضطراب في الوقت الذي كان مصر تواجه معركة من أهم معارك الكفاح الوطني.
ثم إن الجهاد لا يكون بمثل هذه المظاهرات الصاخبة التي ليست لها غاية مشروعة، والتي تقع في الوقت الذي يحتل فيه المستعمرون كل يوم جزءًا من أرض الوطن، فوق ما كانوا يحتلونه من قبل، وإنما يكون الجهاد يبذل النفس والتضحية في معارك القنال ذاتها، لا بالشغب والمسرحيات في شوارع العاصمة ومدارسها.
وما كان هذا النوع من التظاهر والتخريب إلا تحويلاً للكفاح الوطني ضد المستعمرين إلى صراع داخلي يوهن جبهة الجهاد الحق، الجهاد ضد الاستعمار.
وترتب على هذه الاضطرابات أن قررت وزارة المعارف تعطيل الدراسة من جديد في مدارس القاهرة والجيزة على اختلاف أنواعها، على أن تستأنف يوم السبت 26 يناير، وكذلك قررت جامعة فؤاد الأول وجامعة إبراهيم وقف الدراسة إلى هذا الموعد.
تفاقم الحالة في الإسماعيلية
في يوم 19 يناير سنة 1952 أعلن الجنرال أرسكين إلغاء جميع الإجراءات والتعهدات التي سبق إعلانها من جانب البريطانيين بشأن اعتبار مدن القنال مناطق محرمة على الجنود الإنجليز، وذكر أن القوات البريطانية ستشرع في هذا اليوم في احتلال جزء من مدينة الإسماعيلية وستجوب الدبابات والسيارات المصفحة شوارع (حي العرب) لتفتيش منازلها بدعوى البحث عن الأسلحة والفدائيين فيها.
وقد نفذ أرسكين هذا الإنذار، فاحتلت قواته المنازل الواقعة في الشوارع الرئيسية بالمدينة الممتدة على طول الطريق المحاذي لشارع محمد علي، وطردت منها سكانها حتى الشيوخ والنساء والأطفال، وقد أخرجتهم من بيوتهم بطريقة همجية واعتقلت نحو 60 شابا.
واحتلت قوة بريطانية أخرى مخفر بوليس محمد علي، وحاصر الجنود الإنجليز دار المحكمة والنيابة، واحتلوا المباني الواقعة في تلك المنطقة، ورابطت قوات بريطانية كبيرة في الطرق المؤدية إلى المدينة، ومنعت وصول السيارات إليها، وعزلتها عزلاً تامًا عن بقية المدن.
وفي يوم 21 و22 يناير زاد عسف الإنجليز فاعتقلوا مئات من الأهلين وساموهم سوء العذاب.
وحاصروا منطقة المقابر وبشوا القبول بحجة التفتيش على أسلحة مخبأة فيها، وقد أرشدهم إليها بعض جواسيسهم، وقتلوا في هذه المنطقة خمسة من المصريين، وبلغ عدد الجرحى أضعاف هذا العدد، واستعملوا القسوة والوحشية في تعذيب من اتهموهم بإخفاء الأسلحة وصلبوا بعضهم على الأشجار وسلطوا عليها الكلاب المفترسة تنهش أجسامهم.
واستولى الإنجليز على أسلحة كانت مخبأة في المقابر.
قال جريدة (التيسم) في وصف هذا الكشف ما يلي : "اكتشف الجزء الأكبر من مخزن الأسلحة السرية الذي وجد أنه يضم خمسة آلاف طلقة من عيار 40 ملليمترًا إلى جانب ذخيرة بوفرز التي تستخدم في المدافع الخفيفة المضادة للطائرات مكدسة في صناديق موضوعة إلى جانب جدار المقبرة، وقد استخدم الفدائيون هذه الذخيرة لصنع القنابل، ووجد إلى جانبها الآلات التي تستعمل في تحويل هذه الذخيرة إلى قنابل، ووجد في مقبرة أخرى ألف طلقة من نفس الذخيرة وعدد من مدافع ستين وأصناف مختلفة من القنابل، ويبدو أن هذا المخزن كان إحدى الترسانات الرئيسية لجماعة الفدائيين الذين يعملون في الإسماعيلية، ولو أن هناك دلائل تدل على وجود مخزن كبير آخر لم يكتشف بعد.
مقتل راهبة أمريكية برصاص الإنجليز
بلغ إسراف الإنجليز في إطلاق الرصاص وإراقة الدماء أن رصاصة أطلقها أحد جنودهم أصابت الراهبة الأمريكية أنتوني، بدير سان فانسان دي يول بالإسماعيلية يوم 19 يناير سنة 1952، فأودت بحياتها، وكان لمقتلها ضجة ترددت في الصحف الأمريكية والعالمية، وتنصل الإنجليز من تبعة قتلها، وأرادوا أن يلصقوها بالوطنيين، على أنه قد ثبت من التحقيق في مقتل هذه الراهبة استحالة أن يكون مصدر الإصابات مصريًا، وقيام الأدلة القاطعة على أنها من مصدر بريطاني، وأنها قتلت بنفس الرصاص الذي أصيب به المصريون.
مجزرة الإسماعيلية 25 يناير سنة 1952
وقعت في مدينة الإسماعيلية يوم الجمعة 25 يناير سنة 1952 مجزرة بشرية دمغت الإنجليز بالوحشية وسجلها التاريخ في الصحائف السود من جرائم الاستعمار. ففي ليلة الجمعة، وفي جنح الظلام، احتشدت قوات ضخمة من الجيش البريطاني تشد أزرها قوات كبيرة من الدبابات والمصفحات ومدافع الميدان، وحاصرت مبنى محافظة الإسماعيلية وثكنات بلوكات النظام، فكان هذا الحصار إيذانًا بأن حادثًا رهيبًا على وشك الوقوع.
وفي الصباح الباكر من هذا اليوم، في منتصف الساعة السادسة صباحًا، قصد ضابطان بريطانيان إلى منزل ضابط الاتصال المصري البكباشي شريف العبد، وطلبا منه مقابلة البريجادير اكسهام قائد القوات البريطانية بمنطقة الإسماعيلية، فلما قابله سلمه أكسهام إنذارًا طلب فيه تسليم أسلحة جميع قوات رجال البوليس من بلوكات النظام وغيرهم الموجودين بالإسماعيلية، وجلاء تلك القوات عن دار المحافظة وعن الثكنات مجردة من أسلحتها في الساعة السادسة والربع من صباح ذلك اليوم، ورحيلها عن منطقة القنال جميعها.
فأبلغ ضابط الاتصال هذا الإنذار إلى قائد بلوكات النظام (اللواء أحمد رائف) وإلى وكيل المحافظة (علي حلمي) فرفضاه، ثم اتصلا على الفور بوزير الداخلية (فؤاد سراج الدين) حوالي الساعة السادسة والربع صباحًا وأبلغاه الأمر، فأقرهما على موقفهما، وطلب إليهما عدم التسليم، ومقاومة أي اعتداء يقع على دار المحافظة أو على ثكنات بلوكات النظام أو على رجال البوليس أو الأهلين، ودفع القوة بالقوة، والصمود في الدفاع حتى آخر طلقة مع القوات، كما طلب إليهما تبليغ ذلك إلى القيادة البريطانية.
وبعد دقائق عاد القائد البريطاني وأبلغ قائد البوليس المصري بأنه إذا لم تسلم القوات المصرية أسلحتها فورًا فستهدم دار المحافظة والثكنات على من فيها.
فأصر القائد المصري على رفض التسليم، وأصدر أمره إلى القوات التي تحت إمرته بالمقاومة إلى النهاية إذا بدأ العدوان الإنجليزي.
وبعد دقائق نفذ البريطانيون إنذارهم، وأخذوا يضربون دار المحافظة والثكنات بالمدافع، ويطلقون عليها القنابل، وانهال الرصاص من الدبابات والسيارات المصفحة على جنود البوليس.
فردّ جنود البوليس البواسل على هذا العدوان بالدفاع المشرف، وقابلوا الضرب بضرب مثله، مع هذا الفارق بين القوتين في العدد والمعدات الحربية والأسلحة، فإن قوة البوليس لم تكن تزيد على ثمانمائة جندي بثكنات بلوكات النظام، وثمانين بالمحافظة، وليس لديهم من السلاح سوى البنادق، أما قوات الإنجليز فكانت تبلغ سبعة آلاف جندي مسلحين بالدبابات الثقيلة والمصفحات والسيارات والمدافع.
ونشبت بين الطرفين معركة دموية رهيبة، أبدى فيها جنود البوليس الذين كانوا مرابطين في الثكنات وضباطهم شجاعة جعلتهم مضرب الأمثال في البطولة والتضحية، ولم يتوقفوا عن إطلاق النار حتى نفذت آخر طلقة لديهم، بعد أن استمرت المعركة ساعتين، وعندئذ اقتحمت الدبابات البريطانية الثكنات وأسرت من بقي حيًّا من رجال البوليس.
أما القوة المصرية الأخرى التي حوصرت في دار المحافظة فقد تحصنت بها وأبلت أيضًا بلاء عظيمًا، وقاومت العدوان البريطاني بروح عالية وشجاعة نادرة.
وإذا رأى الإنجليز شدة مقاومتهم أنذرتهم بأنهم سينسفون مبنى المحافظة على رؤوس من فيها إذا لم تسلم القوة سلاحها، ولكن رجال القوة وقائدهم رفضوا الإنذار، وقال الضابط اليوزباشي مصطفى رفعت عندما طلب منهم التسليم : "لن يستلم البريطانيون منا إلا جثثًا هامدة"، وظلوا يقاومون ببسالة إلى النهاية، ولم يتراجعوا أمام العدوان المسلح، ولم يضعف من استبسالهم تهدم الدار من ضرب المدافع واشتعال النيران فيها، واستمروا في مقاومتهم حتى نفدت ذخيرتهم، ومن ثم استسلموا للأمر الواقع.
وأحنى قائد القوة البريطانية رأسه احترامًا لهم، وقال لضابط الاتصال بأن رجال القوات المصرية جميعًا قد دافعوا بشرف واستسلموا بشرف، فحق عليه احترامهم جميعًا ضباطًا وجنودًا.
وقد سقط في ميدان الشرف في هذه المعركة من جنود البوليس خمسون شهيدًا وأصيب منهم نحو ثمانين جريحًا.
وأسر الإنجليز من بقي على قيد الحياة من رجال البوليس وضباطهم وعلى رأسهم اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام واليوزباشسي مصطفى رفعت ولم يفرج عنهم إلا في شهر فبراير سنة 1952.
ودمرت دار المحافظة وثكنات البوليس، وقدرت البريطانية خسائر الإنجليز بثلاثة عشر من القتلى و12 جريحًا، والراجح أنهم حوالي العشرين قتيلاً وثلاثين جريحًا.
وقد كان قائد قوات البوليس ووكيل المحافظة وسائر رجال القوة على حق في رفض الإنذار البريطاني، لأن تسليم الجندي سلاحه هو عمل ينطوي على المذلة والهوان، كما كان وزير الداخلية على حق أيضًا في إقرارهم على الرفض، لأن استبسال هذه القوة المجيدة في الدفاع حتى آخر طلقة في أيديهم، هو عمل مشرف لمصر مهما كانت التضحيات فيه أليمة، والأمم تستفيد من صفحات التضحية أكثر مما تظن أنها تفيد من إيثار السلامة والتسليم.
شهداء البوليس في معركة الإسماعيلية – 25 يناير 1952
نورد فيما يلي أسماء شهداء رجال البوليس في هذه المعركة، وكلهم من جنود البوليس :
تكريم الثورة لشهداء الإسماعيلية
أقامت الثورة نصبًا تذكاريًا بمبنى بلوكات النظام بالعباسية تكريمًا لشهداء جنود البوليس أبطال معركة الإسماعيلية، وهو تمثال رمزي لأحد الجنود البواسل الذين استشهدوا في هذه المعركة، وتوجه اللواء محمد نجيب يصحبه البكباشي جمال عبد الناصر في صبيحة يوم الأحد 25 يناير سنة 1953 إلى مبنى البلوكات وأزاح الستار عن هذا التمثال في احتفال مهيب.
وفي الحفلة التي أقامها ضباط البوليس في يولية سنة 1954 ابتهاجًا باتفاقية الجلاء أشاد الرئيس جمال عبد الناصر ببطولة شهداء معركة الإسماعيلية قائلاً : "إننا كنا نراقب دائمًا أيام القنال كيف كان يكافح رجال البوليس العزل من السلاح رجال الإمبراطورية البريطانية المسلحين بأقوى الأسلحة وكيف صمدوا ودافعوا عن شرفهم وشرف الوطن، كنا نرقب كل هذا وكنا نحس في نفس الوقت أن الوطن الذي يوجد فيه هذا الفداء وتوجد فيه هذه التضحية، لابد أن يمضي قدمًا إلى الأمام، ولابد أن ينتصر، لقد راقبنا معركة الإسماعيلية، وكنا نتلظى في الجيش، كنا نريد أن نفعل شيئًا، ولكننا في تلك الأيام لم يكن لنا حيلة، ولكن كان هذا يدفعنا إلى الأمام، وذلك بدفاعكم واستشهادكم في الإسماعيلية.
الشهداء والضحايا
ذكرنا أسماء بعض شهداء معارك الكفاح في القنال في مواضعها.
ونود في هذه النبذة أن نلقي نظرة عامة على عددهم، ونتحدث عن شخصية بعض هؤلاء الشهداء.
والإحصاء الذي نورده هنا هو بداهة إحصاء تقريبي، لأن كثيرًا من الشهداء كانوا شهداء مجهولين لم يتناولهم الحصر والإحصاء، ولم يبلغ عنهم.
ففي بيان لوزير الداخلية بمجلس النواب بجلسة 24 ديسمبر سنة 1951 أن عدد ضحايا العدوان البريطاني في القنال في الفترة من 16 أكتوبر إلى 22 ديسمبر سنة 1951 بلغ 93 شهيدًا و328 جريحًا و349 مخطوفًا.
فمن الشهداء :
- 10 من رجال البوليس و27 من المدنيين بمحافظة القنال منهم 3 أطفال
- 12 من رجال البوليس و29 من المدنيين بمحافظة السويس منهم 3 نساء
- 4 من المدنيين بمديرية الشرقية منهم سيدة.
وأصيب في هذه الحوادث برصاص الإنجليز 28 شخصًا منهم :
- 35 من العسكريين و161 من المدنيين بمحافظة القنال، منهم سيدة وطفلان، و18 من العسكريين منهم 6 نساء وطفلان، و14 من المدنيين بمديرية الشرقية.
وهذا بخلاف من أطلق عليهم الرصاص ولم يصابوا وهم أكثر من مائتي شخص.
واستبان من التبليغات التي تلقتها الجهات الرسمية أن القوات البريطانية ارتكبت 488 حادث سرقة بالإكراه، سلبت فيها أموال ومتاع 547 شخصًا من المصريين عند قيام هذه القوات بتفتيشهم أو تفتيش منازلهم.
وأنها خطفت 349 شخصًا من المصريين أعيدوا جميعًا ما عدا 55 شخصًا يضاف إلى هذا الإحصاء شهداء معركة الإسماعيلية والمعارك التي دارت في يناير سنة 1952 وتقدم الكلام عنها، ويبلغون نحو مائتي شهيد.
وكان أول الضحايا في مدينة الإسماعيلية كامل عبد الحليم الجندي من قوة بلوكات النظام إذ سقط شهيدًا يوم 16 أكتوبر سنة 1951 وهو يؤدي واجبه.
وأول جندي شهيد ببورسعيد علي محمد الطحان من قوة البطارية الأولى الخفيفة بالجيش المصري، وقد قتل يوم 20 أكتوبر سنة 1951 برصاصة أصابته من سيارة بريطانية أطلقت النار على معسكر الجيش المصري على الشاطئ وفرت هاربة.
ومن شهداء الإسماعيلية عدا من سبق ذكرهم :
- السيد رزق بركات
- يوسف إسماعيل يوسف
- ملاك حنا غبريال
قد استشهدوا في أكتوبر سنة 1951.
ومحمد الهادي الشامي سائق ببلوكات النظام وكان يقود سيارته في إحدى المصادمات مع الإنجليز فأصيب برصاصة توفي شهيدًا على أثرها، ومحمد أحمد اللبان، وخليل إبراهيم خليل، ومجاور عبده مجاور، ومحمود عبد الله عبد ربه]] (طالب) وأحمد إبراهيم بخيت، وعلي منصور الطبال جندي بوليس، وعلي السيد علي جندي بوليس، وعبد الحليم جاد الله جندي بوليس، والسيد محمد محمد الفحل جندي بوليس، وأنور أحمد صالح جندي بوليس، ومحمد بركات عمر]] وقد قتل في أبي صوير المحطة، وعبد الهادي محمد علي حسن من أبي صوير، وجودة حسن علي]] من أبي صوير، وهؤلاء قد استشهدوا في نوفمبر سنة 1951.
ومحمد عبد الله علي، وشعيب مصطفى علي، ومحمد السنوسي علي، وعبد العال أحمد، وشحاتة حسين، وأحمد أمين عبده، ومحمد إسماعيل عبد الوهاب، وقد استشهدوا في يناير سنة 1952.
نبيل منصور:
وأصغر الشهداء سنًّا الشهيد نبيل منصور، من شباب بورسعيد، وكان طالبًا بالسنة الثالثة الابتدائية، وحين رأى الإنجليز يقتلون الأهلين في بورسعيد أراد على صغر سنه أن يثأر لمواطنيه، فتسلل في جنح الظلام بين الأسلاك الشائكة إلى خيام أحد المعسكرات البريطانية، وأشعل النار في الخيام بإلقاء خرق مشتعلة مبللة بالبترول، واشتعلت النيران في عشرين منها، وتعالى منها اللهب، حتى لمحه الإنجليز فأطلقوا عليه الرصاص ومات شهيدًا يوم 16 أكتوبر سنة 1951، وله من العمر إحدى عشرة سنة. وقد أعادت قصة استشهاده إلى الأذهان ذكرى شهداء الشباب في ثورة سنة 1919.
وعبد الحميد أحمد سليمان وهو طالب وله من العمر 12 سنة وقد استشهد في واقعة 6 أكتوبر سنة 1951 كما أسلفنا (ص 47).
ومنير عبد الله ميخائيل من شباب بورسعيد وقد استشهد في نوفمبر وهو يهاجم مع فريق من زملائه أحد المعسكرات البريطانية، وعبد الله علي محمد عبد الله من شباب بورسعيد وقد استشهد في نوفمبر.
و[[محمد أحمد اللبان من شباب الإسماعيلية وكان طالبًا في الخامسة عشرة من عمره.
شهيدات الكفاح:
وكانت الشهيدة الأولى من نساء مصر في القنال (أم صابر) زوجة محمد خليل دسوقي المزارع بأبي حماد، كانت ذاهبة إلى التل الكبير مستقلة إحدى السيارات العامة (أوتوبيس)، فلما وصلت إلى نقطة التفتيش بالمحجر على بعد قليل من التل الكبير، ورأت غلظة الإنجليز في التفتيش، رفضت في شمم وإباء أن تمتد إليها يد الإنجليز في تفتيشهم للرائحين والغادين، فرماها الإنجليز برصاصة أردتها قتيلة، وذهبت في الخالدين.
وقد كرمت الثورة ذكراها بأن أطلقت اسمها على أول قرية أنشأتها بمديرية التحرير، فعرفت بقرية (أم صابر)، وأقامت لها مسجدًا عرف بمسجد أم صابر، وقد افتتح في أواخر ديسمبر سنة 1954. ومن الشهيدات في كفاح القنال سيدة بنداري حسن، وقد قتلت برصاص الإنجليز في هجومهم على التل الكبير.
شهداء الجامعة والشباب:
ساهم طلبة الجامعة والشباب عامة بقسط موفور في الكفاح في القنال، واستشهد منهم صفوة من خيارهم، وإنا ذاكرون فيما يلي بعض هؤلاء الشهداء.
أول شهداء الجامعة في معارك القنال سنة 1951، وهو نجل الأستاذ محمد غانم مفتش المنطقة الشمالية التعليمية وقتئذ، كان طالبًا بكلية الطب بجامعة إبراهيم (عين شمس)، وغادر القاهرة في شهر ديسمبر ضمن اثنى عشر فدائيًا قاصدين منطقة القنال للمساهمة في الجهاد، فاتجهوا إلى تفتيش العباسة وهي بالنسبة إلى الإنجليز نقطة الدفاع الأولى عن معسكرهم في التل الكبير.
وفي إحدى الليالي ذهب الفدائيون في جنح الظلام يحملون الألغام والقنابل اليدوية، ووضعوا لغمًا في المكان المقصود، وأشعلوا فيه النار، فانفجر لوقته، فتنبه الإنجليز، وأخذوا في إطلاق الرصاص على موقع الفدائيين، وتطوع عادل محمد غانم لحماية ظهور زملائه في ارتدادهم عن الموقع، فأصيب رحمه الله برصاصة أودت بحياته.
ودفن جثمانه في احتفال كبير بالقاهرة في أواخر ديسمبر سنة 1951.
الشهيد الثاني من شهداء الجامعة سنة 1952، وهو من منية سنتا مركز بلبيس، ومن طلبة كلية التجارة بجامعة فاروق (الإسكندرية).
وكان من الفدائيين في كتيبة (خالد بن الوليد)، وقد سافر مع بعض زملائه من طلبة جامعة فاروق إلى منطقة التل الكبير.
واستشهد في ساحة الشرف يوم 9 يناير سنة 1952 في ملحمة بين الفدائيين والإنجليز في الطريق بين المحسمة وأبو صوير.
وحمله إخوانه في الجهاد إلى الزقازيق، حيث شيعت جنازته في احتفال شعبي مهيب، ونقل جثمانه إلى بلدته سنتا حيث احتفل أهلها بتشييعه مرة ثانية إلى مقره الأخير.
طالب بكلية الطب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) وهو من فاقوس، نجل الشيخ حسن منيسي ناظر مدرسة ابتدائية.
استشهد في معركة التل الكبير يوم 12 يناير سنة 1952، وشيعت جنازته بفاقوس مسقط رأسه في مشهد شعبي كبير يوم 14 يناير سنة 1952.
نجل الدكتور محمد زكي شاهين، كان طالبًا بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) وانتظم في سلك كتائب الفدائيين، وبعد أن تم تدريبه في المعسكر الجامعي سافر مع الكتيبة الأولى، واشترك في عدة هجمات على معسكرات الإنجليز، وشارك إخوانه في نسف الخط الحديدي الموصل إلى التل الكبير، واستشهد في معركة التل الكبير يوم 12 يناير سنة 1952.
وشيعت جنازته بالقاهرة يوم 14 يناير سنة 1952 في احتفال مهيب، بدأ من ساحة جامعة فؤاد، وسار فيه نحو مائة ألف من المواطنين ومنهم طلبة الجامعات ومعاهد العلم وأساتذتها وعمداء الكليات، وفي مقدمتهم مدير جامعة فؤاد (الدكتور عبد الوهاب مورو) الذي اشترك في حمل النعش، والجماهير الحاشدة من الشعب.
وكرمت الثورة ذكراه بأن أطلقت اسمه على إحدى قرى مديرية التحرير.
هو الشهيد الطيار أحمد عصمت، خريج مدرسة الطيران، نجل المهندس أحمد عصمت، وحفيد عبدالقادر حلمي باشا القائد المصري الباسل.
ثارت نفسه لما طالع في الصحف أنباء المعارك الدامية التي كانت تجري في منطقة القنال.
فترك منزله في صبيحة يوم 14 يناير سنة 1952، وسافر بسيارته الخاصة إلى التل الكبير، متحديًا القوة الغشوم، فلما وصل إلى نقطة التفتيش البريطاني في أبي حماد أوقفته القوة البريطانية إلى جانب رتل من السيارات المصرية في انتظار دوره في التفتيش.
وكان تأثر الشهيد مما شاهده من اضطهاد مواطنيه وإذلالهم قد بلغ أشده، فرفض تفتيش سيارته، وقدم بطاقته الشخصية إلى رئيس القوة، فأصر هذا على تفتيش سيارته، فثار شعوره وأخرج مسدسه في سرعة وأطلق منه النار على قائد القوة فأرداه قتيلاً، وصرع حارسه الخاص، ثم جنديًا آخر، وأراد أن يوالي إطلاق النار، لولا أن عاجله الإنجليز بضربة مدفع، فخر صريعًا شهيدًا.
وقد شيعت جنازته في القاهرة يوم 15 يناير سنة 1952 في احتفال كبير مهيب.
ومن شهداء الشباب في معارك القنال مصطفى المردنلي شهيد معركة القرين، وقد شيعت جنازته بالزقازيق.
ومحمد رشاد جريش شهيد معركة التل الكبير، والملازم حسين السيد ، وبدير عبد اللطيف علي من أهالي المنصورة شهيد، معركة التل الكبير، وقد شيعت جنازته بالمنصورة.
التجارب بين الشعب والجيش
على الرغم من أن الجيش لم يشترك في معارك القنال سنة 1951-1952، فإنه كان متجاوبًا مع الشعب في أهدافه وفي كفاحه.
الضباط الأحرار
بدأ هذا التجاوب منذ الحرب العالمية الثانية، فإن صفوة ضباط الجيش كانوا يشعرون في خاصة نفوسهم بما كان يشعر به المواطنون جميعًا، وكانوا يألمون لما كانت تعانيه البلاد من عدوان الاستعمار وفساد نظام الحكم.
ولما انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1954 وهبَّ الشعب يكافح من جديد في سبيل حريته واستقلاله، وسُفكت دماء الشهداء في ميادين الجهاد، ازداد الجيش تجاوبًا مع الشعب، وكان من نتائج هذا التجاوب أن امتنع ضباطه وجنود عن الاشتراك في قمع المظاهرات والحركات الوطنية.
ولما دخل الجيش حرب فلسطين في مايو 1948، كشفت المعارك عما كان يجري من خيانة ورشوة وفساد في إدارة الجيش وتسليحه وتموينه، وتبين أن الجيش لم يزود بالسلاح الكافي بادئ الأمر، ثم زود بأسلحة وذخائر فاسدة عرضت الجنود والضباط للموت والهلاك، واستفزت هذه المآسي في نفوس الضباط روح النقمة على ذلك النظام الذي يعرض الجيش والوطن للويلات والكوارث، فكانت حرب فلسطين هي الشرارة التي ألهبت فيهم جذوة التحرير والثورة.
تعهدت هذه الجذوة فئة من خيرة الضباط، على رأسهم جمال عبد الناصر، فألفوا من بينهم جماعة باسم "الضباط الأحرار" جعلوا هدفهم إنقاذ البلاد بواسطة الجيش والشعب من الانهيار الذي أوصلها إليه الملك السابق والاستعمار.
كانت فكرة هذه الجماعة موجودة خلال الحرب العالمية الثانية على أنها لم تدخل في دور التكوين إلا في حرب فلسطين، وبدأت في التنظيم سنة 1949.
اجتمعت الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار أواخر سنة 1949، وكانت تضم في البداية : البكباشي جمال عبد الناصر، والصاغ عبد الحكيم عامر، والصاغ كمال الدين حسين، والصاغ صلاح سالم، وقائد الجناح جمال سالم، وقائد الأسراب حسن إبراهيم، وقائد الجناح عبد اللطيف البغدادي، والصاغ خالد محي الدين، والبكباشي أنور السادات]].
وفي يناير سنة 1950 أجريت الانتخابات لرياسة هذه الهيئة، فانتخب جمال عبد الناصر رئيسًا لها بالإجماع.
وهذه الهيئة هي قوام ثورة 23 يوليو سنة 1952، وصارت فيما بعد مجلس قيادة الثورة.
أخذ الضباط الأحرار يبثون في نفوس إخوانهم عامة روح الثورة، ويضمون إليهم الأنصار تدريجًا، ويطبعون المنشورات السرية بتوقيع (الضباط الأحرار) ويوزعونها على الضباط وعلى المدنيين.
وفي يناير سنة 1951 أجريت انتخابات جديدة لهيئتهم التأسيسية، وأعيد انتخابات جمال عبد الناصر رئيسًا لها وأعيد انتخابه أيضًا للرئاسة في يناير سنة 1952، وفي هذا الاجتماع الأخير اتفقوا على اختيار اللواء محمد نجيب لكي يكون قائدًا للحركة في يوم تنفيذها، وبقي هذا الاختيار سرًا مكتومًا بينهم ولم يفضوا به إلى اللواء محمد نجيب إلا قبيل معركة انتخابات نادي ضباط الجيش التي سيرد الكلام عنها.
ولما قام الكفاح في القنال في أكتوبر سنة 1951 بعد إلغاء المعاهدة، لم يشترك الجيش في المعركة، لأن الظروف لم تكن مواتية لاشتراكه فيها، ولكن بعض ضباط الجيش ساهموا فيها سرًا بتدريب الفدائيين على حرب العصابات وإمدادهم بالسلاح والذخيرة والمفرقعات وبالمساهمة الشخصية فيها.
وأخذت الروح العدائية للملك السابق تنتشر في صفوف الضباط باعتباره المسئول الأول عن فساد إدارة الجيش وتزويده في حرب فلسطين بالأسلحة والذخائر الفاسدة. وظهرت هذه الروح سافرة في ديسمبر سنة 1951 المناسبة انتخابات نادي الضباط.
فقد كان محددًا لاجتماع الجمعية العمومية للنادي يوم الخميس 27 ديسمبر سنة 1951 لانتخاب رئيس النادي وأعضاء مجلس إداراته، وعلمت إدارة الجيش وعلم فاروق بأن الضباط متجهون إلى إبعاد العناصر الموالية له من رياسة النادي وعضوية مجلس الإدارة، وكان فاروق يريد إسناد رياسة النادي إلى صنيعته اللواء حسين سري عامر.
وفي الوقت الذي أخذ فيه الضباط الأعضاء يفدون على دار النادي تلقت إدارته أمرًا من إدارة الجيش بإلغاء الاجتماع وتأجيل الانتخابات لأجل غير مسمى.
على أن الأعضاء كانوا قد توافدوا دون أن يعلموا بهذا الأمر، وبلغ عددهم نحو 350 ضابطًا يمثلون جميع أسلحة الجيش.
وبالرغم من صدور الأمر بإلغاء الاجتماع فإن الضباط قد اجتمعوا وأخذوا مشاورون في الموقف، وخطب بعضهم خطبًا حماسية، وانتهى الرأي بينهم إلى عقد اجتماع آخر للجمعية العمومية حددوا موعده، وتحدوا بذلك أوامر السراي.
وفي أثناء الاجتماع أذيعت أسماء من اتفق الضباط على ترشيحهم لمجلس إدارة النادي، وجميعهم من الضباط الأحرار، فتبين من هذا الترشيح أن الضباط الأحرار يؤيدون من زملائهم جميعًا.
وقد اجتمعت الجمعية العمومية للنادي في الموعد المحدد وحضرها نحو خمسمائة ضابط من مختلف الأسلحة.
وكان اجتماعًا هامًا، تجاوب فيه الجيش مع الشعب، إذ أصدرت الجمعية العمومية قرارًا إجماعيًا بأن الجيش المصري جزء من مصر يشعر بشعور مصر وإحساسها نحو المحتل وأنه دائمًا في خدمة قضية البلاد.
وأسفرت الانتخابات عن نجاح مرشحي الضباط الأحرار، فانتخب اللواء محمد نجيب مدير سلاح المشاة رئيسًا للنادي، وانتخب مجلس إدارته من الضباط الأحرار، وهم : البكباشي زكريا محي الدين، البكباشي محمد رشاد مهنا، البكباشي أحمد حمدي عبيد، البكباشي عبد العزيز الجمل، البكباشي إبراهيم فهمي دعبس، البكباشي أنور عبداللطيف، الأميرالاي عياد إبراهيم الصاغ جمال حماد، البكباشي عبدالرحمن أمين، البكباشي حافظ عاطف، قائد الأسراب حسن إبراهيم، قائد الجناح بهجت مصطفى، الأميرالاي حسن حشمت، اليوزباشي أحمد عبدالغني مرسي، البكباشي جلال ندا.
وسقط في الانتخابات الضباط المعروفون بأنهم صنائع الملك والسراي.
وأخذ الملك وصنائعه يتربصون للضباط الأحرار، ويعملون على الكيد لهم، ويتحدون إدارة النادي، وظهر هذا التحدي سافرًا في شهر يوليه سنة 1952، في عهد وزارة حسين سري القصية المدى، كما سيجيء بيانه، ونشأت لذلك أزمة كانت من العوامل التي عجلت بشبوب ثورة 23 يوليو سنة 1952.
تجنيب الجيش الاحتكاك بالإنجليز
على أن الحكومة والضباط الأحرار قد أحسنوا صنعًا بتجنيب الجيش المصري الاشتباك مع الإنجليز في معركة سافرة أثناء الكفاح في القنال سنة 1951 - 1952، وقد كان الإنجليز يودون هذا الاشتباك، ليستدرجوا الجيش إلى منازلتهم في معركة لم يكن مستعدًا لها، وفي هذه الحالة كانت تستطيع بريطانيا أن تقضي على القوة الناشئة في الجيش المصري، وأن تكسب مركزًا تناله في ميدان القتال، فتزداد تماديًا في اغتصابها، وتزداد مصر ضعفًا أمامها، ولم يكن غائبًا عن الأذهان ما كسبه الإنجليز من انتصارهم على الجيش المصري في معارك الحرب العرابية سنة 1882، ولقد فطنت الحكومة كما فطن الضباط الأحرار إلى هذه الحيلة، فاجتنبوا وقوع اشتباك مسلح بين الجيش والبريطانيين، ووكلوا إلى قوات البوليس مهمة حفظ النظام وحماية أرواح المواطنين في منطقة القنال، ولقد أدى رجال البوليس هذه المهمة على أكمل وجه كما بينا من قبل.
وحاول الإنجليز أن يتخذوا من هذا الموقف وسيلة للوقيعة بين الشعب والجيش، فصرح أنطوني إيدن وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم في شهر ديسمبر سنة 1951 "بأن الجيش المصري هو أشد المصريين حبًا في السلام وأن علاقته بنا هي علاقة الأصدقاء".
ولكن هذه الحيلة لم تخف على فطنة الشعب، فإنه كان يعلم علم اليقين أن الجيش لم يكن صديقًا للاستعمار ولا لأعوان الاستعمار، ولم يكن موقفه في اجتناب الدخول وقتئذ في معارك ضد الجيش البريطاني إلا تلبية لإرادة الشعب في أن لا يدخل حربًا لم يكن مستعدًا لها، ولم يكن من الحكمة أن تتكرر مأساة فلسطين مرة أخرى، تلك المأساة التي نشأت عن دخول مصر الحرب على غير استعداد للقتال، وإذا كانت مأساة فلسطين سنة 1948 محدودة الدائرة لأنها وقعت خارج حدود مصر، فإن المأساة تنقلب إلى كارثة إذا دخل الجيش المصري سنة 1951-1952 في حرب مع الجيش البريطاني في منطقة القنال قبل أن يكتمل استعداده.
سياسة حكومة الوفد أثناء الكفاح في القنال
لم تستجب حكومة الوفد إلى دعوة الوحدة التي تقدم بها المعارضون، وصمت آذانها عن الاستماع إليها، واستمرت تتجاهل كل قوة وكل هيئة وكل فرد في البلاد سواها، وتبين أنها تقصد من توحيد الصفوف أن يخضع الجميع لأمرها، ويكفوا عن توجيه أي انتقاد إلى تصرفاتها.
ولم تكتف بذلك، بل انتهزت فرصة انشغال الأمة بالكفاح في القنال، ومساهمة الكثيرين في هذا الكفاح، ومضت في سياستها القائمة على الفساد والحزبية الجامحة.
فاستمرت تفصل العمد والمشايخ الذين كانت ترى فيهم عدم الولاء للوفد، ومضت في سياسة المحسوبية في الوظائف وما إليها، فكانت مرتعًا للأقرباء والأصهار والأنصار، واستمرت الصفقات المريبة في بيع أملاك الحكومة أو تأجيرها، وإغداق أموال الدولة على الأشياع والمحاسيب.
وفي الوقت الذي كان المجاهدون الفدائييون يسقطون شهداء في ميدان الجهاد والتضحية، كان الكثيرون من نواب الوفد وشيوخه يتغلغلون في المصالح والدواوين، في القاهرة والأقاليم، عاملين على تحقيق مطالبهم ومطالب أشياعهم وأنصارهم على حساب مصالح المواطنين، ولم يسهموا بأي مجهود أو أية تضحية في معارك القنال، وكان جُل همهم أن يتحسسوا مدى تأثير هذه المعركة في مركز وزارتهم، كأنما بقاء وزارة الوفد في الحكم هو الهدف الأكبر للقضية الوطنية!
وكان من نتائج اختلال التوازن في أواخر عهد حكومة الوفد أن ظهر عجز في الميزانية بلغ خمسة وعشرين مليون جنيه.
ومن تصرفات حكومة الوفد الدالة على الإهمال أنها تعاقدت على شاء 12512 صندوق ذخيرة من سويسرا تحتوي على 150 ألف طلقة للبنادق، وشحنتها الحكومة من مرسيليا بفرنسا على ظهر الباخرة شامبليون، إحدى بواخر شركة المساجري ماريتيم الفرنسية.
وقد تبين أن هذه الشركة المعروفة بنفوذ الصهيونيين فيها قد أوصلت هذه الذخيرة إلى ميناء (حيفا) قبل أن تبحر إلى ميناء الإسكندرية، وهناك (في حيفا) مكنت السلطات الإسرائيلية من الاستيلاء عليها، ثم واصلت الباخرة سيرها إلى الإسكندرية خالية منها.
وكان الأحكم أن تشحن الحكومة هذه الذخيرة على باخرة مصرية، لكي تضمن أن لا تسلمها الباخرة الأجنبية غدرًا وبطريق التواطؤ إلى إسرائيل.
ولكن إهمال حكومة الوفد جعلها تترك الاحتياط والحذر جانبًا، وتضيع على البلاد هذه الذخيرة القيمة.
نتائج الكفاح في القنال
كان لكفاح الشعب في القنال صدى بعيد في الخارج، وكان دليلاً مشرفًا على حيوية الشعب، وتعلقه بالجلاء والحرية، وكان خير دعاية للقضية المصرية.
ومع أن معارك القنال كانت صغيرة المدى، فإن نتائجها كانت بعيدة الأثر في تاريخ مصر.
فلم تكد حوادث الكفاح في القنال تتوالى، حتى كانت الصحف العالمية ومحطات الإذاعة في الشرق والغرب تتحدث عن هذا الكفاح وتطوراته، وكانت هذه الأنباء أكبر دعاية لجهاد مصر في سبيل تحررها من الاستعمار، وصارت القضية المصرية موضع حديث العالم وموضع تقدير أنصارها وخصومها على السواء.
وعلى الرغم من أن مصر لم تكن مستعدة الاستعداد الكافي للقتال سنة 1951، وعلى الرغم من أن الحكومة لم تعد العدة لتنظيم المقاومة، فإن هذا الكفاح، وما تخلله من بطولة وفداء، وجهاد وتضحية، ومقاطعة تامة، وعدم تعاون مع الاحتلال ومنع التموين عن قواته، قد أنتج ثمرات طيبة كان لها أثرها في تغيير وجهة النظر البريطانية في فائدة القاعدة الحربية في قناة السويس، فإن هذه القاعدة لا تكون صالحة للقتال أو إيواء جيش كبير إلا إذا كانت مسنودة من شعب صديق، وحكومة صديقة، وأن تكون مواصلاتها ووسائل تموينها سهلة ميسرة، مكفولة في وقت السلم، وخاصة في وقت الحرب.
ولقد تبين من كفاح المصريين سنة 1951 – 1952 أن هذه القاعدة مهددة بالخطر، وعديمة الجدوى للإنجليز في حالتي السلم والحرب جميعًا.
فالتضحيات التي بُذلت، إيجابية أو سلبية، والدماء التي سُفكت في معارك القنال، لم تذهب عبثًا، بل إن لها فضلاً كبيرًا في جنوح الإنجليز إلى قبول الجلاء، بعد أن كانوا مصرين على رفضه.
لقد اعترف الإنجليز في غمرة الكفاح بهذه الحقائق.
قال اللورد ستانسجيت في هذا الصدد في مجلس اللوردات : "إن القاعدة البريطانية في منطقة القنال أصبحت لا تصلح عسكريًا، وإن الكره الذي يحف بها يجعلها مهددة، فلا معنى لبقائها".
ونشر مراسل صحيفة التيمس في منطقة القنال مقالاً في عدد 37 ديسمبر سنة 1951 وصف فيه حالة المعسكرات البريطانية، واعترف بفداحة الضربة التي أصابت القاعدة الإنجليزية في القنال حين أجمع العمال المصريون على الانسحاب منها، وما أعقب هذا الانسحاب من إشاعة الفوضى والارتباك فيها، واعترف بفشل المحاولات التي اتخذت لجلب العمال من الخارج، وقال إن الأعمال الحيوية في المعسكرات أصيبت بارتباك خطير، وأصبح من المتعذر صيانة المقادير الهائلة من المعدات العسكرية، وأنه ليس من ينكر أن جو الاضطراب قد شاع في جوانب كثيرة من المعسكرات البريطانية، وأشار إلى أن أعمال الفدائيين المصريين قد أقضَّت مضاجع الجنود البريطانيين، وأن الحياة العادية قد اختفت في المعسكرات على طول القنال، كما أن كثيرًا من المؤسسات التي قامت لضمان صلاحية القاعدة العسكرية والسهر على صحة الجنود ورفاهيتهم قد عطلت، وانقلبت الأمور في منطقة القنال بالنسبة للجيش البريطاني رأسًا على عقب، فبدلاً من أن يركز قواته في الاحتفاظ بالقاعدة والنهوض بها من كافة الوجوه، أصبح يركز جهوده في حماية نفسه من هجمات الفدائيين والاحتفاظ بمواقعه، وبلغ من شدة توتر أعصاب الجنود البريطانيين أنهم "باتوا يتساءلون عن جدوى الاحتفاظ بقاعدة عسكرية فقدت قيمتها نتيجة الشعور الوطني المعادي، وعما إذا كان من الأوفق تجنب احتكاكات سياسية جديدة بالبدء في إنشاء قاعدة أخرى في جهة تعرب حكومتها عن رغبتها في الانضمام إلى قيادة الشرق الأوسط، أو على الأقل في منطقة لا يكون وجود القوات الإنجليزية فيها مدعاة للسخط والاستنكار.
وقالت مجلة "نيو ستيتمسان" في مقال لها عن مصر :
"إن من أهم الأخبار التي وردت إلينا من مصر نبأ إباحة حمل السلاح للمواطنين هناك، فمن هذا النبأ، ومن الطريقة التي يسلكها الجنرال أرسكين في مصر، يبدو واضحًا أن خطر قيام حرب العصابات في مصر بات على الأبواب، ويتبين من سياسة الحكومة البريطانية أنها تود إنقاذ موقف بريطانيا بطريق القوة المسلحة، وكثيرًا ما حذرنا من مغبة هذه السياسة، وهاهي ذي الأنباء الأخيرة تؤكد أننا على حق في ذلك التحذير، فالشعور الوطني في مصر متأجج، ولا سبيل إلى التفاهم مع مصر إلا بالطريق الودي، كما كانت سياسة وزارة العمال من قبل بالنسبة للهند، وإن كانت قد تناست تلك السياسة في المدة الأخيرة بالنسبة لإيران، وإن مستقبل المصالح البريطانية قد أصبح الآن هزيلاً، فإما جلاء، مخجل عن مصر، وإما اشتباك عسكري وفترة طويلة من الكفاح في ظل الأحكام العسكرية.
ومن الحق أن نقول إن الكفاح في منطقة القنال سنة 1951 – 1952 كان ولا ريب من العوامل الفعالة فيما انتهى إليه الإنجليز من إيثار الجلاء عن هذه المنطقة، لأنه إذا كانت مصر من غير استعداد قد زعزعت مركز الإنجليز في قاعدة القنال وجعلتهم يتشككون في إمكان الاعتماد عليها إذا شبت الحرب، فكم يكون مركزهم فيها واهنًا ويزداد ضعفًا إذا أكملت مصر استعدادها الحربي والاقتصادي والمعنوي لتحرير القاعدة من كل ميزة حربية للعدو.
لا شك أن الإنجليز قد بدأوا بعد كفاح سنة 1951 – 1952 يغيرون رأيهم في مبلغ الاعتماد على هذه القاعدة، وخاصة بعد أن بعثت الثورة في جيش مصر روحًا جديدة، وزودته بالقوة المادية والمعنوية، كل هذا ولا ريب كان له أثره فيما انتهوا إليه من إيثار الجلاء عن هذه القاعدة في اتفاقية سنة 1954.
الفصل الثاني: حريق القاهرة (26 يناير سنة 1952)
في يوم السبت 26 يناير سنة 1952، وقع حادث مشؤوم في تاريخ مصر، لم يسبق له مثيل في نوعه، وهو حريق القاهرة ، كانت هذه أول مرة أضرم فيها النار فريق من أبنائها، تحت سمع الحكومة وبصرها، وبإهمالها وتهاونها، وكان هذا الحريق المدمر ختام الكفاح المجيد في القنال سنة 1952، لأنه جاء نذيرًا بالانتكاس وخيبة الأمل، بحيث قضى على صفحة هذا الكفاح حتى حين.
مقدمات الحريق
في مساء يوم الجمعة 25 يناير سنة 1952 نشرت وزارة الداخلية عن طريق دار الإذاعة أنباء مجزرة الإسماعيلية التي حدثت في ذلك اليوم، وسبق الكلام عنها، وما وقع فيها من عدوان الإنجليز ووحشيتهم، وما أسفرت عنه من قتل خمسين من رجال البوليس، وإصابة نحو ثمانين منهم، وهدم دار المحافظة ومبنى هؤلاء الجنود البواسل.
قرعت هذه الأنباء أسماع أهل العاصمة والأقاليم، فوجموا لها، وازداد سخط المواطنين على فظائع السياسة البريطانية، وباتوا يتوقعون ردّ الحكومة على هذا العدوان الأثيم.
على أن أحدًا لم يكن يتوقع أن يكون رد الفعل لهذه الفظائع أن يتحول السخط إلى حرائق تشتعل في شتى نواحي العاصمة، وتكاد تقضي على عمرانها وعظمتها وجمالها.
توالت النذر منذ استفاضة أنباء مجزرة الإسماعيلية بأن يوم السبت سيكون يومًا عبوسًا قمطريرًا، ومع ذلك لم تتخذ الحكومة، وعلى الأخص وزارة الداخلية، أي احتياط للمحافظة على الأمن والنظام، بل بدا منها الإهمال والتراخي في القيام بواجبها، مما كان السبب الجوهري لشبوب الحرائق.
ففي الساعة الثانية بعد منتصف الليل (صبيحة يوم السبت 26 يناير سنة 1952) تجمع في مطار القاهرة الدولي عمال المطار وجنوده وموظفوه المدنيون، وكلهم مصريون، حول أربع طائرات كبيرة لشركة الخطوط الجوية البريطانية، تتملكهم روح السخط والاحتجاج على ما وقع في مجزرة الإسماعيلية، ومنعوا نزول الركاب من الطائرات، وكان عددهم يزيد على المائة، كلهم من الأجانب من مختلف الأقطار، كما امتنعوا عن تزويد الطائرات بالوقود، وحالوا دون استئنافها السفر، وحاول بعضهم إضرام النار فيها، وقد أبلغ هذا الحادث في حينه إلى المسئولين بوزارة الداخلية، فأوفدوا إلى المطار ضابطًا كبيرًا، فأقنع المتجمهرين في المطار بالإقلاع عن موقفهم، لما يترتب عليه من عواقب دولية وخيمة، فاقتنعوا وعادوا إلى عملهم، وأمكن قيام الطائرات من المطار مستأنفة رحلتها، ومع ذلك لم تتعظ الوزارة بهذا الحادث، ولم تأخذ للأمر عُدته.
وفي الساعة السادسة من صبح ذلك اليوم تمر جنود بلوكات نظام الأقاليم في ثكنتهم بالعباسية، وامتنعوا عن القيام بما كلفوا به من الذهاب إلى الجهات المخصصة لهم لحفظ الأمن بالعاصمة، وخرجوا يحملون أسلحتهم، في مظاهرة شبه عسكرية.
وكانت حجتهم التي تذرعوا بها للقيام بهذه المظاهرة سخطهم على ما أصاب زملاءهم بالإسماعيلية.
وثم سبب آخر لم يعلنوه دعاهم إلى هذا التمرد، وهو أنه كانت لهم شكوى سابقة من وقف صرف بدل الطوارئ إليهم، وقد أبلغت هذه الشكوى من رؤسائهم إلى وزير الداخلية (فؤاد سراج الدين) فأشار بحفظها، وظل هذا البدل محبوسًا عنهم زهاء ثلاثة أشهر، ولم يصرف إليهم إلا بعد حريق العاصمة.
وكان الأحكم أن لا تهمل شكوى هؤلاء الجنود الذين وقعت عليهم أعباء حفظ لأمن في ظروف عصيبة، ولقد أثار إهمال شكواهم حفيظة في نفوسهم، كتموها إلى أن حانت الفرصة، فأعلنوها يوم 26 يناير سنة 1952.
خرج إذن جنود بلوكات النظام من ثكناتهم حاملين أسلحتهم في مظاهرة صاخبة، يتصايحون بالسخط على ما أصاب زملاءهم في الإسماعيلية، طالبين السلاح للقتال، وساروا بجموعهم من العباسية إلى الأزهر، ثم إلى ميدان العتبة الخضراء ومنه إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير)، فالجيزة، واتجهوا إلى جامعة فؤاد (جامعة القاهرة)، وكانت الساعة قد بلغت التاسعة صباحًا، وهناك اختلطوا بالطلبة، وتبادلوا وإياهم شعور السخط والهياج، وسار الجميع في موكب المظاهرة متجهين إلى العاصمة، يطوفون الشوارع، صائحين صاخبين.
ومنذ الساعة التاسعة صباحًا أخذت مظاهرات عدة تتدفق على ميدان عابدين (الجمهورية الآن)، ومنه إلى رياسة مجلس الوزراء، وقد التقت هذه المظاهرات بمظاهرة جنود بلوكات النظام وطلبة جامعة فؤاد، ووصل الجميع تباعًا إلى دار رياسة مجلس الوزراء، وكان ذلك حوالي الساعة الحادية عشر والنصف.
وفي فناء هذه الدار أطل على المتظاهرين وزير الشؤون الاجتماعية (عبد الفتاح حسن)، وألقى فيهم خطبة حماسية، جارى فيها شعورهم.
ثم تركت هذه الجموع دار الرياسة، وانسابت في قلب العاصمة، صائحة منادية بحمل السلاح والسفر إلى القنال لمحاربة الإنجليز.
وكانت أنباء هذه المظاهرات وتحركاتها تبلغ في حينها إلى وزارة الداخلية، ولكنها لم تحرك ساكنًا، وتركت الفوضى تنطلق من عقالها، وترمي الوطن بشرورها.
ولم تصغ حتى إلى ما نبهها إليه رجال الأمن من خطورة الموقف، وبدا منها الجمود في هذا اليوم العصيب.
ففي مساء اليوم السابق (25 يناير) عقب استفاضة أنباء مجزرة الإسماعيلية توجه مدير الأمن العام وقتئذ (حسين صبحي) إلى وزير الداخلية (فؤاد سراج الدين) حيث كان في اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء، وقد إليه مذكرة مكتوبة اقترح فيها منذ فترة تعطيل الدراسة التي كان مقررًا استئنافها صباح يوم السبت 26 يناير، تجنبًا لحصول المظاهرات من الطلبة في ذلك اليوم، ولكن وزير الداخلية أجابه بأنه لم يؤخذ باقتراحه استنادًا إلى ما أفضى به وزير المعارف (طه حسين) من اطمئنانه إلى الحالة بعد النصح الذي أبداه عن طريق الإذاعة (الراديو) إلى الطلبة وإلى أولياء أمورهم وإلى نظار المدارس بالإخلاد إلى الهدوء والسكينة.
وكان الأحكم لو قررت الوزارة منذ فترة تعطيل الدراسة وعدم استئنافها يوم 26 يناير، لأن مظاهرة جنود بلوكات النظام قد لقيت في هذا اليوم تشجيعًا وتعضيدًا من طلبة جامعة فؤاد الأول، وازدادت تفاقمًا بانضمامهم إليها.
ويدخل في هذا السياق أنه حين احتشد جنود بلوكات النظام في فناء جامعة فؤاد والتفوا بطلبتها، اقترح أحد رجال الأمن المسئولين فتح الكباري بين الجيزة والقاهرة، لمنع المتظاهرين من الذهاب إلى العاصمة، وحصرهم في بر الجيزة، فلم يؤخذ بهذا الاقتراح، واقترح أيضًا الاستعانة بفرقة من جنود الجيش للمحافظة على النظام والأمن في هذا اليوم، فلم يؤبه لهذا الرأي، ولم يطلب وزير الداخلية نزول الجيش إلا بعد أن اشتعلت الحرائق في المدينة.
ومع أن الوزارة في مساء اليوم السابق (25 يناير) منعت وصول مظاهرة إلى دار الرياسة حيث كان مجلس الوزراء مجتمعًا عقب ورود أنباء مجزرة الإسماعيلية، فإنها تركت المظاهرات في يوم 26 يناير تجوب أنحاء العاصمة، وتقتحم دار الرياسة كما تقدم بيانه، دون أن تحرك ساكنًا، وقد كان يوم 26 يناير أولى بالاحتياط والتشدد في منع المظاهرات من يوم 25.
حوادث الحريق
بدأت حوادث الحريق في ميدان الأوبرا، حوالي الظهر، إذ هاجم فريق من المتظاهرين كازينو أوبرا، وانهالوا عليه بالإتلاف، وأشعلوا فيه النار، ولما جاء رجال المطافئ لإخماد الحريق منعهم المتظاهرون من أداء واجبهم، وأتلفوا خراطيم المياه.
وكان إضرام النار في هذا الكازينو نذيرًا بمحاكاته في جوانب أخرى من المدينة، ذلك أن روح الجماعة، وخاصة في أوقات الفتن، تتأثر من أية بادرة تبدو من الرهط البارز من المتجمهرين. فلم تكد النار تشتعل في كازينو أوبرا، حتى سرت عدوى الحريق بين المتظاهرين، فراحوا يشعلون النيران في الأماكن والأحياء المجاورة، ثم امتدت إلى الأماكن الأخرى، وكان المتظاهرون يستعملون في إضرام النار البترول والبنزين والكحول وما إلى ذلك من مواد الحريق، وتخلل الحرائق نهب وسلب لمعظم المحلات المحترقة.
وتوالت حوادث إشعال النار والإتلاف والنهب فيما بين الظهر والغروب، فاجتاحت شوارع وميادين بأكملها، وهي :
ميدان إبراهيم باشا (الأوبرا)، شارع فؤاد (26 يوليه)، شارع إبراهيم باشا (الجمهورية) شارع عدلي باشا، شارع قصر النيل، شارع سليمان باشا، شارع عبدالخالق ثروت، ميدان مصطفى كامل، شارع شريف، شارع رشدي باشا، شارع جامع شركس، شارع البستان، شارع محمد فريد، شارع عماد الدين، شارع نجيب الريحاني، شارع محمود بسيوني، شارع البورصة الجديدة، شارع توفيق (أحمد عرابي)، ميدان التوفيقية (أحمد عرابي)، شارع جلال، شارع الملكة (رمسيس)، ميدان الإسماعيلية (التحرير)، شارع الخديو إسماعيل (التحرير)، شارع الشواربي، شارع الفلكي، شارع محمد صدقي، سكة المغربي، شارع الأنتكخانة، شارع شامبليون، شارع الألفي، ميدان حليم باشا، شارع حليم باشا، شارع قنطرة الدكة، ميدان قنطرة الدكة، شارع كلوت بك، شارع دوبريه، شارع كامل صدقي (الفجالة)، شارع الظاهر، شارع محمود فهمي المعماري، ميدان باب الحديد، شارع المهراني، شارع المهدي، شارع خليج الحور، شارع محمد علي (القلعة) شارع الأهرام، (حيث أحرق أوبرج الأهرام، وكازينو صوفر، وكازينو كوفن جاردن).
وبلغ عدد المحلات والمنشآت التي أصابها الحريق والدمار نيفًا وسبعمائة، معظمها مملوك للأجانب، وبعضها مملوك لمصريين، وكلها تقع في أجمل وأكبر أحياء العاصمة، واستمرت النيران مشتعلة فيها بقية النار، وهزيعًا من الليل، وظلت تتقد في بعض الأماكن إلى اليوم التالي.
وفيما يلي إحصاء للمحال التي احترقت في هذا اليوم المشؤوم :
- 300 (ثلثمائة) من المتاجر، ومنها كبرى المحلات التجارية بالعاصمة.
- 30 إدارة ومكاتب لشركات كبرى.
- 117 مكاتب أعمال وشقق للسكن.
- 13 فندقًا من الفنادق الكبرى، منها فندق شبرد ذو الشهرة العالمية، وفندق متروبوليتان، وفندق فيكتوريا إلخ...
- 40 دار للسينما أي معظم دور السينما في القاهرة، منها سينما ريفولي وأصحابها مصريون، وسينما راديو، وسينما مترو، وسينما ديانا، وسينما متروبول، وسينما ميامي، وسينما هونولولو بحدائق القبة إلخ.
- 8 محلات ومعارض كبرى للسيارات.
- 10 متاجر للسلاح.
- 73 مقهى ومطعم وصالة، منها محلات جروبي، ومحل على الدلة، والأمريكين، وجميع المطاعم الممتازة في القاهرة.
- 16 ناديًا، منها نادي التورف كلوب بشارع عدلي باشا، وقد قتل فيه تسعة من رواده البريطانيين، ماتوا من الحريق، ونادي رمسيس، ونادي دار العلوم، والنادي اليوناني، ونادي محمد علي إلخ.
- 1 بنك واحد وهو بنك باركليز، وقد احترق فيه ثلاثة عشر شخصًا من موظفيه وعماله منهم بريطانيون ومنهم مصريون.
- وهذه المحلات تقع في أهم شوارع العاصمة وميادينها، بحيث غدت هذه الشوارع والميادين بعد الحريق أطلالاً وخرائب يبعث منظرها الحزن والأسى في النفوس.
- وبلغ عدد القتلى في هذا اليوم 26 شخصًا، منهم 13 في بنك باركليز، وتسعة في التورف كلوب، وواحد أمام بنك باركليز، واثنان أمام محل عمر أفندي، وواحد توفي أثناء حريق أجد المتاجر بشارع شريف، وبلغ عدد من أصيبوا بحروق أو كسور أو جروح 552 شخصًا.
- وترتب على حوادث الحريق أن شرد الموظفون والعمال المصريون في المحلات والمتاجر والمنشآت التي نكبت بالحريق ويبلغ عددهم بضعة آلاف، يعولون نحو عشرين ألف نسمة.
- وبالجملة فإن القاهرة نكبت هذا اليوم في عمرانها، بما لم تنكب بمثله في تاريخها الزاهر.
من المسئول عن طريق العاصمة
من الواجب أن نتقصى المسئولة في حريق العاصمة، وأن نتحرى الحقائق ولو كانت لا ترضينا، لأننا نستفيد من حقائق التاريخ أكثر مما يفيدنا تجاهلها أو الانسياق في تفسير الحوادث وراء الميول والأهواء والعواطف النفسية.
لا شك أن أول مسئول عن طريق القاهرة هو الاحتلال البريطاني، إذ أن مجرد وجوده يدعو إلى إثارة السخط في النفوس، هذا إلى أن فظائع الإنجليز في القنال، وخاصة مجزرة الإسماعيلية التي وقعت يوم 25 يناير، قد هاجت الشعور العدائي ضد البريطانيين، وأوصله إلى درجة الغليان، وفقدان الوعي والاتزان، فانصرف إلى الحريق كمظهر للحنق والغضب واللاشعوري، وتفاقم الشعور العدائي فشمل الأجانب عامة، فاستهدفت محالهم للحرق والنهب والتدمير.
وإلى هنا تقف مسئولية الاحتلال
والمسئول الثاني هو الحكومة بإهمالها القيام بأول واجباتها، وهو المحافظة على الأمن والنظام.
فحكومة الوفد قد قصرت في أداء واجبها، لأنها كانت مشغولة بالبقاء في مناصبها فحسب، وقد ظنت أن تراخيها أمام المظاهرات الشعبية وإطلاق العنان لها مما يوطد مركزها في الحكم،وفي الانتخابات، إذ يكسبها عطف العناصر الشعبية حتى الرديئة منها، فلم تشأ أن تبادر بأخذ االفوضى بالحزم والشدة، ورغم أن كل الدلائل كانت مجمعة على أن يوم 26 يناير سيكون يوما عصيبا، فإنها لم تأخذ للأمر أهبته، ووقفت جامدة أمام تسلسل حوادث الشغب والتمرد، فكان ما كان من اشتعال الحرائق وامتدادها.
فمن الساعة الثانية من صبيحة ذلك اليوم علمت وزارة الداخلية كما تقدم بيانه بنبأ التمرد الذي حدث في مطار القاهرة،فلم تعتبر ولم تحرك ساكنا استعدادا للطوارئ، ولم تعمل لتدارك الخطر قبل وقوعه.
ومن قبل ذلك أسدى لها مدير الأمن العام النصح بعد استئناف الدراسة في المدارس والكليات في صبيحة هذا اليوم، فلم تكترث لهذه النصيحة كما أسلفنا.
وحوالي الساعة السادسة صباحا علمت بتمرد جنود بلوكات النظام (وهم من رجال البوليس) وخروجهم من ثكناتهم متظاهرين متصايحين، يجوبون الشوارع في مظاهرة صاخبة، ويدعون طبقات المواطنين إلى الانضمام إليهم، فوقفت الوزارة أيضا جامدة أمام هذا التمرد، بل باركته بلسان وزير الشؤون الاجتماعية في خطبته في المتظاهرين بفناء رياسة مجلس الوزراء،كما سلف القول.
ولم تعمل الوزارة أي عمل لوقف الفوضى في بدايتها، وقصرت تقصيرًا فاحشًا في منع العابثين من إضرام النار، وتراخت في تعقبهم والقبض عليهم.
ولم ينزل أحد من رجال الوزارة سواء الوزير أو وكيل الوزارة أو كبار المسئولين إلى الشوارع ليرقب الحالة بنفسه ويستحث رجال البوليس على أداء واجبهم، ويمنع الحريق والتدمير، وبدا للعيان كأن عاصمة البلاد قد خلت من حكومة تعني بحفظ الأمن وتحمي أموال الناس وأرواحهم، ومع توالي النذر من اللحظة الأولى باشتراك بعض رجال البوليس من بلوكات النظام في المظاهرات (مع أن مهمتهم هي منع المظاهرات) فإنها لم تفكر في الاستعانة بالجيش لحفظ الأمن والنظام، وتبلبلت في هذا الصدد، فطلبت أورطة من الجيش في نحو الساعة الثانية عشرة، ثم عادت وطلبت عدم نزول الجيش بحجة أنها قابضة على زمام الأمن والنظام، ثم عادت بعد ذلك وطلبت نزوله، أي أنها لم تستعن بالجيش إلا بعد أن تفاقم الأمر وسيطر الغوغاء على الشوارع، وانتشرت الحرائق، وقد نزل الجيش بالمدينة قبيل الغروب، وأدى واجبه، وبفضل نزوله عاد الأمن والنظام، وتوقفت حوادث الحريق، واختفى المجرمون والعابثون والمحرضون.
فإهمال الوزارة في حفظ الأمن والنظام قد توافرت عليه الأدلة والبينات، ويدخل في هذا السياق أن وزير الداخلية، بالرغم من تتابع الحوادث والنذر من مساء يناير وصبيحة يناير، لم يغادر منزله إلا في الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم، وذهب إلى وزارة الداخلية، ولم ينتقل إلى الأماكن التي وقع بها الحريق، ولا بذل أي جهد في منع الأيدي العابثة من إشعال الحرائق.
وكان مشغولاً بعض الوقت وهو بالوزارة بتوقيع عقد مشتراه لعمارة ضخمة رقم 23 بشارع عبدالخالق ثروت من بائعها جورج عريضة بثمن قدره ثمانون ألف جنيه، وتم توثيق العقد في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، بحضور مدير الشهر العقاري الذي انتقل خصيصًا إلى الوزارة، وأجرى التوثيق في هذا الوقت العصيب!!
وثمة مسئولية أخرى تقع على رجال البوليس أنفسهم، وذلك أنهم (في الجملة أبدوا تهاونًا جسيمًا في أداء واجبهم، بل رأينا بعضهم يقف جامدًا وهو يشاهد حوادث الحريق، بل حوادث السلب والنهب.
قد يكون مبعث ذلك أنهم أحسوا بالسخط والمرارة من تعريض زملائهم في الإسماعيلية للذبح والتقتيل، ولكن هذا الإحساس ما كان يجوز أن يطفئ الشعور بالواجب، وهو أن مميزات رجل الأمن والنظام.
ومسئولية أخرى تقع على عاتق فريق من المثقفين، أو أشباه المثقفين، الذين كانوا يحرضون الغوغاء على الحريق في ذلك اليوم المشؤوم، ولست أدري على وجه التحقيق ماذا كان الباعث لهم على هذا التحريض، وربما كان ميلهم إلى المبادئ الهدامة قد بعث فيهم هذه الروح الخبيثة، فإن دعاة هذه المبادئ لا يتورعون عن التخريب والتدمير في سبيل تحقيق مآربهم كلما سنحت لهم الفرصة.
وقد يكون سخطهم على حكومة الوفد سببًا آخر لهذا التحريض.
وسواء كان هذا أو ذاك، أو كلاهما معًا هو الباعث لهم على ما فعلوه، فإن هذه النزعة تدل على أن مستوى الوطنية والأخلاق قد هبط في نفوس هذه الفئة هبوطًا جسيمًا، وهو أمر يؤسف له أسفًا عظيمًا.
هل للإنجليز أو القصر يد في حريق القاهرة ؟
قرأت في بعض الصحف والمجلات تلميحات تشير إلى أن الإنجليز هم الذين دبروا حريق القاهرة ، مثلما دبروا مذبحة الإسكندرية التي وقعت يوم 11 يونيه سنة 1882.
وزعم آخرون أن لفاروق يدًا في هذا التدبير.
وكنت أود أن يسفر البحث والاستقراء عن تدبير الإنجليز أو فاروق حريق القاهرة ، ولقد مضت عدة سنين وأنا أعاود البحث لعلي أصل إلى بينات أو مجرد قرائن تثبت هذا التدبير، مثلما انتهى بي البحث والتحقيق إلى ثبوت تدبير الإنجليز لمذبحة الإسكندرية سنة 1882.
ولكن الأمر في حريق القاهرة جاء على خلاف مذبحة الإسكندرية، وتبين لي مع شديد الأسف أن حريق القاهرة كان عملاً محليًا قامت به العناصر الرديئة من الشعب.
ومن حق التاريخ علينا أن لا نحرَّف وقائعه، بل علينا أن نتحرى الحق والصدق في تدوينها وتفسيرها، ولا نشوه أسبابها ومسبباتها، فإن هذا واجبنا في تحقيق الحوادث.
إن للتاريخ حرمته ومكانته، ومن واجبنا أن ندونه على الوجه الصحيح.
هذا إلى أن تشويه الوقائع ولو بدا لنا في بعض المواطن من صالح الشعب ودفاعًا عنه، فإنه على العكس قد يضره أكثر مما يبدو أنه ينفعه، لأن حجب الحقائق عن الشعب في تاريخه يفوّت عليه الاستفادة من عبر الحوادث، وهذا ليس من صالح الشعب، ومن الحق أن يعرف الشعب ما يقع منه في بعض المواطن من أخطاء، حتى يتلافاها ويتجنبها.
ولقد مرت أعوام على حريق القاهرة ، ولو كان لمزاعم التدبير سند من الواقع لظهرت أسرار هذا التدبير، وخاصة بعد شبوب ثورة 23 يوليو سنة 1952 التي أطاحت بالعرش وبأعوان الاستعمار، وأتاحت الفرصة للكشف عن بعض الحقائق التي كانت محجوبة عن الأنظار، ولكن لم يتبين قط من أية وثيقة أو رواية أو شهادة عيان أن في الأمر تدبيرًا من الإنجليز أو القصر، وهذا يقطع بأن هذه المزاعم إنما هي من نسج الخيال، ولم يقصد منها إلا ستر إهمال حكومة الوفد في منع الحريق، وإخلاء مسئولية العناصر الرديئة من الشعب، وليس هذا وذاك من صالح الشعب في شيء.
فالحقيقة المؤلمة أن هذا الحريق هو عمل محلي محض، وأهل صرف، ولقد عشنا في هذه الحقبة من الزمن، وشهدنا الحريق بأعيننا. وأمكننا أن نتبين صورة صحيحة من حقائقه وملابساته. لقد رأينا الغوغاء يشعلون النار جزافا في المحال التجارية، دون مبالاة أو اكتراث، رأينا اللهب يتصاعد إلى عنان السماء دون أن نلاحظ أي مجهود ولو يسير من رجال البوليس وضباطه في منع الحرائق، ورأينا بأعيننا الجماهير المحتشدة على الأرصفة وقت اشتعال النيران مبتهجة مغتبطة رأيناها تنظر بعين الحقد والغضب إلى رجال المطافي. وهم ذاهبون بسياراتهم لإطفاء الحرائق ولم ينجم من الغضب الشعبي إلا إيماءات منهم بأنهم لن يعملوا على إخمادها. ولاحظنا أن هذه الإيماءات كانت تقابل من الجمهور بالهتاف والتصفيق ! وتحققنا أن بعض المتظاهرين كانوا يقطعون خراطيم المياه ليمنعوا رجال المطافئ من أداء واجبهم. وهذه المشاهدات دلتنا مع الأسف على أن الحريق انبعث من النفوس المريضة من بين المواطنين.
وقد عثر على كثير من المنهوبات في منازل العناصر الرديئة من الشعب. وهذا ينفي أن الحريق أو النهب كان بتدبير من الإنجليز أو من القصر.
وصفوة القول أن حريق العاصمة يوم 26 يناير سنة 1952 كان مأساة ينفطر لها القلب حزنا وأسفا.
مسئولية فاروق
لا نعتقد أن لفاروق يداً في تدبيره هذا الحريق كما أسلفنا. إلا في مساعدته على وقوعه بطريقة غير مباشرة. فهو شريك في المسئولية بسبب مأدبة الغداء التي دعا إليها معظم ضابط الجيش والبوليس. وأقيمت لهم بقصر عابدين يوم 26 يناير سنة 1952 – يوم الحريق ابتهاجا بميلاد "ولي العهد " – لأن احتجاز ضباط البوليس الممتازين في المأدبة لحضورها من أولها إلى آخرها، والاستعداد لها من قبل بارتداء الملابس " التشريفية " المطلوبة في مثل هذه المآدب، كل هذا قد أضعف قوة الضبط والنظام في العاصمة. وأغرى العناصر الرديئة بانتهاز هذه الفرصة لإضرام النار في معظم المتاجر الكبرى وللسلب والنهب.
لقد كان واجباً على الملك السابق أن يلغي هذه المأدبة عندما بدت نذر الشر تبدو في الأفق منذ الصباح الباكر من هذا اليوم المشئووم. بل كان واجبا عليه أن يلغيها قبل ذلك عندما بلغته أنباء مجزرة الإسماعيلية. ليبادل الشعب شعوره بالحداد على الشهداء الذين سفكت دماؤهم في هذه المجزرة وما كان ليليق أن تقام مأدبة ملكية ودماء هؤلاء الشهداء لم تجف بعد، حقاً إن هذه المأدبة قد أعدت من قبل، لأن المآدب وخاصة " الملكية " تعدلها العدة وترسل فيها الدعوة قبل موعدها بأيام، ولكن كل هذا لا يمنع القيام بالواجب، وهو مشاركة الشعب في حداده على ضحايا الكفاح في القنال، وإلغاء هذه المأدبة ولو في اللحظة الأخيرة فالملك فاروق يشترك من هذه الناحية مع الوزارة في المسئولية عن حريق القاهرة .
عود إلى التجاوب بين الشعب والجيش
نعود إلى الحديث عن التجاوب بين الشعب والجيش، فقد تحدثنا عن هذه التجارب في الكفاح في القنال، وظهر هذا التجاوب أيضا في محنة القاهرة يوم 26 يناير سنة 1952.
لقد أعاد الجيش الأمن والنظام إلى القاهرة، وضرب الفوضى بيد من حديد، وأوقف الحريق والنهب، وشاهد الضباط الأحرار مبلغ ما جره انحدار الحكم وفساده على البلاد من كوارث وويلات، وأي كارثة أكبر من شبوب الحرائق التي كادت تدمر عاصمة البلاد ورمز حضارتها وعظمتها.
ومن هنا سارعوا الخطى في إعلان الثورة، وقدموا موعدها عما كانوا يعتزمون من قبل.
وفي ذلك يقول جمال عبد الناصر : "حرقت القاهرة وحرق معها كفاحنا في القنال، ومن ذلك اليوم 26 يناير سنة 1952 بدأنا نفقد الصبر، وبدأنا نفكر في العمل الإيجابي، وآثرنا أن نصرع الفساد قبل أن يصرعنا، وأن نحطَّم الطغيان قبل أن يحطمنا".
وقد كان ما رتبه جمال عبد الناصر وزملاؤه، فشبت الثورة على أيديهم في 23 يوليه سنة 1952، قبل أن تمضي ستة أشهر على حريق القاهرة .
إعلان الأحكام العرفية وتعيين مصطفى النحاس حاكمًا عسكريًا
اجتمع مجلس الوزراء برياسة مصطفى النحاس اجتماعًا استثنائيًا عاجلاً في الساعة السابعة من مساء يوم 26 يناير سنة 1952 (يوم الحريق)، وانعقد الاجتماع بدار مصطفى النحاس، وانتهى في الساعة العاشرة مساء، وفيه تقرر إعلان الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد، ووقف الدراسة في الجامعات وجميع المعاهد والمدارس إلى أجل غير مسمى.
وفي الساعة العاشرة والنصف مساء أذاعت الوزارة المرسوم الذي استصدرته ووقعه فاروق وهو يقضي بإعلان الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد ابتداء من مساء هذا اليوم، وتعيين مصطفى النحاس حاكمًا عسكريًا عامًا.
ووضعت الوزارة مذكرة تفسيرية لهذا المرسوم تضمنت مسوغات إعلان الأحكام العرفية، قالت فيها :
"منذ أعلنت الحكومة أعلنت الحكومة إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899 وما تلاها وأقر البرلمان ما قدمت إليه بشأن هذا من تشريعات دأبت القوات البريطانية في منطقة القنال على العدوان الصارخ على أنفس المصريين وأموالهم والافتئات على سيادة الدولة في أرضها مخالفة في ذلك كله القوانين الدولية ومواثيق هيئة الأمم المتحدة، وعلى رغم الاحتجاجات المتوالية التي قدمتها الحكومة المصرية مضت في عدوانها وأسرفت فيه حتى حدث بالإسماعيلية في يوم 25 من يناير الحالي اعتداؤها الغاشم على قوات البوليس المكلفة بحفظ الأمن وصيانة النظام.
وقد كان لهذا صدى في الشعور الوطني ضبطه الشعب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولكن دعاة الفتنة في البلاد وفريقًا من الذين فسدت ضمائرهم لم يتورعوا عن استغلال هذا الظرف فأثاروا الفتنة وأشاعوا وعرضوا مدينة القاهرة للفوضى والدمار والحريق والنهب والسلب، محاولين بذلك قلب نظام الحكم في البلاد وفقًا لخطة مدبرة ومطمعين للعدو في أن يتخذ من ذلك ذريعة إلى التدخل في شئون الوطن.
ولما كان واجب الحكومة إقرار الأمن وحماية النظام وصيانة سلامة الوطن من كل سوء، قررت الحكومة استصدار مرسوم بإعلان الأحكام العرفية في البلاد مؤقتًا لقمع الفتنة وإقرار النظام.
والمذكرة كما ترى تنسب حريق القاهرة إلى دعاة الفتنة والذين فسدت ضمائرهم وأنهم دبروا الحريق بقصد قلب نظام الحكم.
وقد أعاد النحاس هذا المعنى في نداء وجهه عن طريق الإذاعة مساء يوم 26 يناير بعد إعلان الأحكام العرفية، قال فيه عن دعاة الفتنة أنهم عناصر من الخونة المارقين انتهزوا فرصة غضب الشعب من عدوان الإنجليز الوحشي في القنال فاندسوا في صفوف المواطنين وارتكبوا جرائم الاعتداء على المتاجر والمنشآت والمنازل وإشعال النيران والتخريب والتدمير والنهب والسلب، وقال إن علاج تلك الحالة الشاذة الخطيرة قد اقتضى إعلان الأحكام العرفية مؤقتًا في أنحاء البلاد حتى تتمكن الحكومة من القضاء على تلك الفتن المدبرة والمؤامرات المبيتة وتبادر إلى إقرار الأمن وإشاعة الهدوء والطمأنينة في البلاد، ودعا المواطنين في ندائه إلى الإخلاد إلى الهدوء والسكينة وانصراف كل إلى عمله.
منع التجول في القاهرة
وكان أو قرار أصدره الحاكم العسكري (مصطفى النحاس) تعيين عبد الفتاح حسن وزير الشئون الاجتماعية رقيبًا عامًا، وتعيين المحافظين والمديرين ومن يقوم بأعمالهم حكامًا عسكريين في مناطقهم، ومنع التجول في القاهرة وضواحيها وبندر الجيزة منعًا باتًا فيما بين الساعة السادسة مساء والساعة السادسة من صباح اليوم التالي، ابتداء من مساء الغد (الأحد 27 يناير سنة 1952).
وأصدر أمرًا عسكريًا آخر يمنع التجمهر، واعتبار كل تجمهر مؤلف من خمسة أشخاص على الأقل مهددًا للسلم والنظام العام، ومعاقبة كل من يشترك فيه بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين، وإذا كان حاملاً سلاحًا يعاقب بالسجن خمس سنوات.
وأمرًا آخر بغلق المحال العامة والتجارية في القاهرة والإسكندرية ابتداء من الساعة السادسة مساء إلى الساعة السادسة صباحًا.
وهكذا كان آخر عمل لوزارة الوفد إعلان الأحكام العرفية في البلاد، ذلك لأنها أقيلت في اليوم التالي كما يبين ذلك فيما يلي :
إقالة وزارة النحاس (27 يناير سنة 1952)
في نحو الساعة الحادية عشرة من مساء يوم الأحد 27 يناير سنة 1952 (غداة إعلان الأحكام العرفية) تسلم مصطفى النحاس في منزله كتاب إقالة وزارته موقعًا عليه من الملك السابق فاروق، ومؤرخًا في نفس هذا اليوم، وقد عبر فاروق فيه هذه المرة عن الإقالة بكلمة أخرى أخف منها لهجة وهي "الإعفاء"، وأعرب في كتاب "الإعفاء" عن أسفه "لما أصيبت به العاصمة أمس من اضطرابات نتجت عنها خسائر في الأرواح والأموال وسارت الأمور سيرًا يدل على أن جهد الوزارة التي ترأسونها قد قصر عن حفظ الأمن والنظام، لذلك رأينا إعفاءكم من منصبكم".
وهكذا أعفيت وزارة الوفد بعد أن سلخت في الحكم عامين وبضعة أيام.
الفصل الثالث: وزارات الموظفين (علي ماهر – الهلالي – حسين سري – الهلالي)
من 27 يناير سنة 1952 إلى 22 يوليه سنة 1952 تعاقبت على البلاد وزارات من المستقلين يصح أن تسمى "وزارات الموظفين"، فرؤساؤها لا علاقة لهم بالأحزاب، وكانوا أصلاً من كبار الموظفين، وأعضاؤها (في الجملة) من الموظفين لا من رجال السياسة.
هذه الوزارات قد فُرضت على البلاد فرضًا، لأن البلاد كانت تريد وزراء لهم برامج سياسية معروفة، أو ماض في الجهاد تعرف منه صلة صاحبة بميول الشعب وما ينشده من أهداف سياسية واقتصاديه واجتماعية. كان الشعب يريد وزراء تتجاوب آراؤهم ومناهجهم مع حاجات الشعب ومطالبه، لا موظفين كل ماضيهم أنهم كانوا ينفذون أوامر رؤسائهم، على اختلاف اتجاهاتهم، وعلى تناقضها في أغلب الشؤون.
إن قيام وزارات من الموظفين معناه عودة الحكم المطلق في نوع من أنواعه، لأن هؤلاء الموظفين إذا تولوا الوزارة لا يجدون من أنفسهم الحرية في أن يناقشوا رئيس الوزارة الذي اختارهم، فهم مع كونهم قد صاروا وزراء، لا يزال طابعهم أنهم موظفون لدى رئيس الوزارة، يأتمرون بأوامره، ويتحسسون اتجاهاته، فيسايرونها وينفذونها، وهذا النظام ينطوي على عودة الحكم المطلق كما أسلفنا، وفيه تحطيم للحياة السياسية في البلاد، لأن الحياة السياسية لا تنهض بوزارات من الموظفين، بل تنهض بوزارات تنبعث من الشعب ومن اتجاهاته العامة، ويساهم فيها الموظفون مشكورين، أما أن يكون الموظفون هم الذين تكون بأيديهم مصاير القضية الوطنية ومصاير البلاد، وخاصة في الظروف العصيبة التي كانت تمر بها، فهذا رجوع إلى الوراء، ونكسة في الحياة القومية، ودفع بالمواطنين عامة إلى الابتعاد عن الحياة السياسية لكي يصلوا إلى الوزارة، وبالتالي دعم للحكم المطلق في شكل من أشكاله.
حقًا إن الحياة السياسية تحتاج إلى إصلاح وتقويم، ولكنها لا تصلح ولا تقوم بإعدامها وتحطيمها.
ولو سارت الحياة السياسية على أساس قويم، لكان واجبًا بعد حريق القاهرة في 26 يناير سنة 1952 أن تتنحى وزارة الوفد وأن تتولى الوزارة جبهة المعارضة، لأن وزارة الوفد مسئولة بتقصيرها عن طريق القاهرة وقد ثبت على الأقل إخفاقها وعجزها عن الاضطلاع بأعباء الحكم، وتسبب عن ذلك حريق القاهرة ، فوجب أن تتنحى هي عن الحكم، ولكن فاروق كان حاقدًا على المعارضة، ناقمًا منها أنها جابهته في أكتوبر سنة 1950 بكتابها التاريخي الذي هاجمت فيه سياسته وطالبته فيه بتطهير أداة الحكم، فهذا الحقد الدفين جعل فاروق يركب رأسه ويتخطى المعارضة وبذلك أوقع البلاد في فوضى وزارية، مما كان له أثره في تفاقم الحالة سواء.
إن "وزارات الموظفين" لا يمكن أن ينتظر منها إصلاح هذه الفوضى وقد أبديت هذا الرأي تمامًا في الجزء الثالث من كتاب (في أعقاب الثورة)، وأوضحت كيف تداعى النظام الدستوري إذ تولى رياسة الوزارة على التعاقب من سنة 1939 ثلاثة رؤساء من الأحزاب البرلمانية.
وقلت إن الوزارة المحايدة أو الإدارية هي في ذاتها وزارة ضعيفة في تكوينها وفي أشخاص وزرائها، لأنهم (في الجملة) من كبار الموظفين السابقين الذين يشعرون بأن مهمتهم وقتية، وأنهم في الغالب، قنطرة لكل غالب(3)، والوزارة قبل كل شيء مهمة سياسية، وليست مهمة وظيفية تحمل في طبيعتها الأوضاع الوظائفية من حيث تبعية الموظف لرئيسه المباشر في عمله واتجاهه وتفكيره.
ولكن الملك السابق لم يكن يريد استقرارًا للحياة السياسية ولا للأوضاع الدستورية السليمة، بل كان يريد وزارات يعبث بها ويقيمها ويسقطها كيفما يشاء ويهوى.
ولقد كانت هذه السياسة من البواعث على انحدار نظام الحكم في البلاد، ومن الأسباب التي أدت آخر الأمر إلى سقوط فاروق وسقوط عرشه وأسرته جميعًا.
وزارة علي ماهر (27 يناير – أول مارس سنة 1952)
عهد فاروق إلى علي ماهر تأليف الوزارة الجديدة، فألفها في ساعة متأخرة من مساء يوم الأحد 27 يناير سنة 1952 على النحول الآتي :
علي ماهر للرئاسة والخارجية والحربية والبحرية، صليب سامي للزارعة، عبدالخالق حسونة للمعارف، إبراهيم شوقي للصحة والشئون البلدية والقروية، محمد علي نمازي للعدل، محمد زكي عبد المتعال للمالية والاقتصاد، سعد اللبان للأوقاف، أحمد مرتضى المراغي للداخلية، إبراهيم عبد الوهاب للتجارة والصناعة والتموين،محمود حسن للشئون الاجتماعية، حامد سليمان للأشغال.
وكل هؤلاء الوزراء من الموظفين السابقين وممن لا علاقة لهم بالسياسة أو بالأحزاب السياسية، وليس لأحد منهم برنامج سياسي ما، وإنما روعي في اختيارهم صلاتهم الشخصية برئيس الوزارة، فجميعهم من ذوي الصلة به أو من أصدقائه المقربين، فيما عدا اثنين منهم (المراغي وزكي عبدالمتعال) فقد فرضا عليه فرضًا من السراي.
ولقد تظاهر علي ماهر أثناء تأليف الوزارة برغبته في أن يشرك فيها الأحزاب المعارضة للوفد، ولكنه لم يكن جادًا في إبداء هذه الرغبة، بل كانت صورة من تظاهرة سنة 1939 برغبته في إشراك الأحرار الدستوريين في وزارته التي ألفها في تلك السنة، مع وضع العقبات في سبيل استجابتهم إلى هذه الرغبة، مما أدى إلى عدم اشتراكهم في الوزارة.
وكذلك فعل في يناير سنة 1952، فقد عرض على الأحزاب المعارضة للوفد أن يكون اشتراكها في وزارته على أساس أن يجعل من رؤساء هذه الأحزاب وزراء دولة، ومعنى ذلك أن يكونوا أقل شأنًا وعملاً من الموظفين الذين استوزرهم، وقد رأوا أن قبول هذا الوضع فيه غض من كرامتهم وكرامة أحزابهم، فاعتذروا، وحسنًا فعلوا.
تعديلات في الوزارة
بالرغم من قصر المدة التي قضتها هذه الوزارة في الحكم (أربعة وثلاثين يومًا) فقد أجرى فيها علي ماهر تعديلاً على النحو الآتي :
عبدالجليل العمري للتجارة والصناعة والتموين، محمد علي رشدي للشؤون البلدية، محمد زهير جرانة للشؤون القروية، ألفونس جريس للزراعة، ونقل صليب سامي إلى المواصلات، وجعل إبراهيم عبد الوهاب وزير دولة منتدبًا برياسة مجلس الوزراء.
وزارة تهدئة
كانت هذه الوزارة في الجملة وزارة تهدئة، ففي عهدها توقف الكفاح في القنال، وانسحب الفدائيون، واعتقلت الحكومة مع كثيرين منهم في الإسماعيلية وبورسعيد والسويس والتل الكبير.
وعاد كثير من العمال المنسحبين إلى المعسكرات البريطانية، وسكتت الوزارة على هذه العودة.
واستؤنفت أعمال الشحن والتفريغ للقوات البريطانية في موانئ القنال، وعاد تموين معسكرات الإنجليز من مختلف أنحاء البلاد.
ولم يصدر تشريع عدم التعاون مع السلطات العسكرية البريطانية الذي وضعته وزارة الوفد، مع أنه كان في مرحلته الأخيرة، وتشريع إباحة حمل السلاح لجميع المواطنين.
سلفي العظيم
إن في دعوة علي ماهر لجبهة الأحزاب المعارضة للوفد إلى الاشتراك في وزارته دليلاً ناهضًا على أنه هو نفسه كان معارضًا لسياسة الوفد، ولقد كانت هذه المعارضة تبدو منه في مجالسه وأحاديثه في عهد الوزارة الوفدية.
ومع ذلك فإنه بعد أن تولى الحكم بادر إلى التحالف مع الوفد، وذهب في هذا التحالف إلى حد الإشادة بسياسة الوفد في الحكم، وقال في ذلك كلمته المشهورة التي فاه بها في البرلمان : "إن سياستي ستكون استمرارًا لسياسة سلفي العظيم" يريد مصطفى النحاس.
فإذا كانت سياسته هي سياسة سلفه العظيم – كما يقول – ففيم إذن كانت إقالة وزارة الوفد وقبوله الحكم بعد إقالتها؟
فهو إذن يتحالف مع من كان يندد بسياستهم في الحكم.
ومن ناحية أخرى، فبالرغم من أن سياسته كانت سياسة تهدئة وعدول عن الكفاح في القنال، فإن الوفديين في البرلمان وكانوا الأغلبية قد أعطوه ثقتهم، وهذا يدل على أنهم ما كانوا مؤمنين بسياسة الكفاح، وإنما كانوا متورطين فيها دفاعًا عن مركزهم تجاه الشعب، لأن الشعب كان يريد الكفاح، ثم هاهم أولاء يعطون ثقتهم لوزارة جاءت لتهدئة الكفاح!
ولقد كانت هذه أول مرة يؤيد فيها البرلمان الوفدي وزارة جديدة جاءت في أعقاب إقالة الوزارة الوفدية.كان هذا يدل على أن علي ماهر كان يريد أن يبقى رئيساً للوزارة فحسب،وأن النواب والشيوخ والوفديين كانوا يريدون أن يبقوا نوابا أو شيوخا فحسب دون نظر إلى ماعدا ذلك، وليس هذا وذاك من الاستقامة السياسية في شيء.
استمرار الوفد في التقريب إلى السراى
واستمر الوفد بعد إقالة وزارته يسير على مصانعة السراى والتملق لفاروق، فخالف تقاليده الماضية التي كانت يتبعها عندما تقال وزارته أو تجبر على الاستقالة، فإنه كان يحتفظ بكرامته بإزاء السراى، وكان يذهب أحيانا إلى حد مقاطعتها ومقاطعة الوزارة التي تخلفه في الحكم، أما في هذه المرة فإنه اتبع سياسة جديدة، وهي استمرار التقرب إلى السراى وكانت هذه السياسة متفرعة عن سياسة وزارته الأخيرة (1950 – 1952) وهي التقرب إلى السراى، بمختلف الوسائل، كما أوضحنا ذلك في الجزء الثالث من كتاب (في أعقاب الثورة).
ويدخل في هذا السياق أن مجلس النواب (وكانت أغلبيته وفدية) قرر بعد إقالة وزارة الوفد أن يرفع إلى فاروق محضر الجلسة التي عقدها مساء السبت 19 يناير سنة 1952 والتي أبلغ فيها مولد الأمير أحمد فؤاد نجل فاروق، فكتب محضر الجلسة على صفحتين من رق الغزال، بخط جميل، وغلف بغلاف فاخر من الجلد، كتب علية عنوان الجلسة بماء الذهب، وعليه غلاف آخر من الفضة مزين بتاج من الذهب، وقدم هذا المحضر إلى كبير الأمناء.
قارن بين هذا التملق وبين الكتاب الذي قدمه المعارضون للوفد إلى الملك السابق في أكتوبر سنة 1950، ونددوا فيه بسياسته، فقد كتبوه على ورق معتاد، وأرسلوه بطريق البريد.
ويدخل في السياق أيضاً أن وزير الأوقاف في عهد وزارة الوفد (حسين الجندي) رفع إلى الملك فاروق يوم 5 مايو سنة 1952 , أي بعد إقالة الوزارة الوفدية بأكثر من ثلاثة أشهر، تقريراً اشترك في وضعه مع نقيب الأشراف وقتئذ (محمد الببلاوي) أثبتا فيه كذبا نسب فاروق إلى السلالة النبوية، وزعما أن نسبه من جهة أمه ينتهي إلى الإمام الحسين رضي الله عنه أبن السيدة فاطمة الزهراء، بنت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " بالشهرة والتوتر ".
كان هذا التقرير مبنيا على الإفك والبهتان، ولم يقصد منه إلا التملق لفاروق، ولا يتصور أن يصل التملق إلى هذا الحد من الاختلاف والتزوير.
زمن عجب أن يختلق نسب الملك فاروق إلى السلالة النبوية عن طريق والدته، في الوقت الذي استفاضت فيه أنباء فساده ومغامراته النسائية وانغماسه في الشهوات ولعبه الميسر علنا في الأندية الليلية، ثم ما استفاض من مفاسد والدته نازلي في مصر والخارج، ومع ذلك ينسبونه وينسبونها إلى السلالة النبوية، وأعجب من ذلك أن يعلن هذا النسب المختلق بعد أن أصدر فاروق ذاته أمراً فاروق ذاته من اللقب الملكي، فهل من كانت غير جديرة باللقب الملكي، تصبح زوراً جديرة بالنسب النبوي ؟ أفلا يستحون ؟.
قضية الجلاء
إن كل الظروف لم تكن مواتية بعد حريق العاصمة لنزول بريطانيا عن موقفها وقتئذ من الجلاء لأن هذا الحريق قد أضعف مؤقتا مركز مصر في كفاحها، واتخذته بريطانيا ذريعة جديدة لمطلها وتسويفها في الاستجابة إلى مطالب مصر، على أن علي ماهر سعى مع ذلك في استئناف المفاوضات لتحقيق أهداف البلاد، وفي مقدمتها الجلاء ووحدة الوادي، وقد حدد لبدء المباحثات التمهيدية مع السفير البريطاني (رالف ستيفنسون) يوم أول مارس سنة 1952، وقد استقالت الوزارة في نفس هذا اليوم،دون أن تحدث مباحثة أو مقابلة.
خفض الأسعار ومحاربة الغلاء
إن أهم عمل لوزارة علي ماهر هو محاربتها للغلاء، فقد بذلت جهوداً موفقة في خفض أسعار الحاجات الأساسية، وتوفير المواد التموينية، فقرت :
(1) خفض سعر السكر قرشين للأقة، وهما القرشان اللذان زادتهما حكومة الوفد إلى سعره، بحيث أصبح سعره كما كان قبل هذه الزيادة.
(2) إلغاء رسم الدمغة وقدره ثمانية قروش على الطلب الخاص بسكر الطواريء، بحيث يعود إلى سعره الأصلي.
(3) زيادة مقررات السكر في البطاقات التي تقل عن خمس أقات بمقدار عشرين في المائة من قيمتها.
(4) تعميم البطاقات للأسر والأفراد، بحيث تعطى لمن لم يكن لديهم بطاقات.
(5) تيسير استيراد السكر من الخارج بدون وسطاء.
(6) مضاعفة الإنتاج المحلي من المسلى الصناعي.
(7) زيادة مقررات الزيت في البطاقات بمقدار عشرين في المائة.
(8) منع تصدير الأرز خلال موسم ذلك العام ومنع تصدير الزيت والبذرة والكسب.
(9) تخفيض سعر الحلاوة الطحينية إلى 16 قرش في الجملة و 17 قرشا في القطاعي بدلاً من 17 قرشاً و 18 قرشاً، وذلك تبعاً لخفض السكر.
(10) تخفيض سعر صفيحة الكيروسين (الغاز) 45 مليماً وهي الزيادة التي أضيفت في عهد وزارة الوفد.
(11) تخفيض أسعار الأقمشة الشعبية.
وقد حمد الموطنون لهذا الوزارة جهودها في محاربة الغلاء.
عودة الأمن والنظام
وبذلت الوزارة جهداً مشكوراً في إعادة الأمن العام وتثبيته، وأعادت إلى البوليس نظامه بعد أن تفككت قوته في أواخر عهد وزارة الوفد.
وعملت على إصلاح ما دمره حريق القاهرة من مبان ومؤسسات ومنشئات ليعود إلى العاصمة عمرانها وتقدمها، ففتحت اعتماداً أول بمبلغ خمسة ملايين جنيه لأصحاب المحلات والمنشئات التي دمرها الحريق لإعادة تعميرها.
وقد بلغت هذه التعويضات حتى مايو سنة 1952 خمسة ملايين ونصف مليون جنيه. وخففت قيود منح التجوال تدريجياً. وأعادت النظام إلى الجامعات ومعاهد العالم، وأعادا فتحها واستئناف الدراسة فيها.
استقالة علي ماهر (أول مارس سنة 1952)
ولم يكن مقدراً لهذه الوزارة أن تدوم طويلا، فإن سياستها العامة لم تكن واضحة ولا مفهومة، فقد تولى علي ماهر الحكم على أثر إقالة وزارة الوفد، وكان مفهوماً أنه جاء ليعالج الأخطاء التي اتسمت بها هذه الوزارة، ويعمل على تطهير أداة الحكم من الفساد والمحسوبية والحزبية الجامحة التي أطاحت بنزاهة الحكم واستقامته.
ومع ذلك فقد بدا منه كأنه متحالف مع الوفديين، ظنا منه أنه يستطيع الاستمرار في الحكم إذا نال هو ثقتهم في البرلمان. بوصفهم أصحاب الأغلبية فيه، ولم تكن مهمته هي الاستمرار في الحكم، بل تقويم المعوج من شؤونه، ومن ثم بدا على سياسته الاضطراب والتناقض.
واستفحل هذا التناقض حتى أدى إلى تصدع الوزارة فاستقالتها.
ذلك أن مجلس الوزراء قرر في فبراير سنة 1952 استصدار مرسوم بتأجيل انعقاد البرلمان شهراً، ووقعه الملك السابق فعلا وأعيد إلى رئيس الوزارة لتنفيذه، ولكنه بدلا من إعلانه وضعه في درج مكتبه، ولم يوجه به البرلمان بالرغم من نشره في الصحف، فلما اجتمع مجلس الوزراء يوم السبت أول مارس سنة 1952 أثيرت هذه المسألة، فصرح علي ماهر أنه لم يعد مقتض لتنفيذ مرسوم التأجيل، لأنه إنما استصدره لمناسبة معرضة بعض النواب الوفديين في اعتماد الخمسة المليين جنية التي قررتها لوزارة لمساعدة المحلات التي نكبت في حريق القاهرة ، فلما انتهت المعارضة بإقرار الاعتماد رأى العدول عن تنفيذ مرسوم التأجيل، ووضع علي ماهر بيانا بهذا المعنى لنشره في الصحف
فاعترض زكي عبد المتعال وزير المالية وأحمد مرتضى المراغي وزير الداخلية على هذا العدول، ووصفاه بأنه لا يتفق مع كرامة المجلس، وقدما استقالتهما من الوزارة.
وإزاء هذا الصدع أعرب الملك السابق عن رغبته في استقالة الوزارة، فقدم علي ماهر استقالته ظهر ذلك اليوم، وقبلت على الفور،وكلف أحمد نجيب الهلالي في اليوم نفسه تأليف الوزارة الجديدة.
وزارة الهلالي (أول مارس – 28 يونيه سنة 1952)
عهد الملك السابق إلى أحمد نجيب الهلالي في أول مارس سنة 1952 تأليف الوزارة، فألفها على النحو التالي :
أحمد نجيب الهلالي للرآسة. صليب سامي للتجارة والصناعة والتموين. طه السباعي للشئون البلدية والقروية. محمد كامل مرسي العدل. محمد المفتي الجزائرلي للأوقاف. عبد الخالق حسونه للخارجية. محمد زكي عبد المتعال للمالية. أحمد مرتضى المراغي للداخلية والحربية والبحرية. محمد رفعت للمعارف. محمد فريد زعلوك وزير دولة للدعاية. طراف علي للمواصلات. نجيب إبراهيم للأشغال. محمود غزالي للزراعة. راضي أبو سيف راضي للشئون الاجتماعية والصحة.
وأربعة من أعضاء هذه الوزارة كانوا وزراء في وزارة علي ماهر وهم :
صليب سامي. عبد الخالق حسونه. زكي عبد المتعال. أحمد مرتضى المراغي وجميع أعضائها ليسوا من رجال السياسة، وليس لهم طابع سياسي، ومعظمهم من الموظفين العاملين أو السابقين.
وكان الهلالي هو المرشح لرآسة الوزارة بعد حريق القاهرة ، وقد عرضت عليه فعلا قبل أن تعرض على علي ماهر، فاعتذر وأشار باختيار علي ماهر، فوقع عليه الاختيار وألف الوزارة السابقة التي تقدم الكلام عنها.
وبدا من برنامج الهلالي أنه سيسعى إلى تحقيق أهداف البلاد في الجلاء ووحدة الوادي، وأنه إلى جانب ذلك سيعمل على إزالة العوائق والحوائل بإقرار الأمن وحسم الفساد وإقامة الحساب عليه وتطهير أداة الحكم وتقديم اعوجاجه.
قضية الجلاء
لم يوفق الهلالي في مسعاه في قضية الجلاء ولا في وحدة الوادي، وعند ما بدأ مباحثاته مع السفير البريطاني (رالف ستيفنسون) لوضع أساس للمفاوضات، طلب تصريحا من الحكومة البريطانية بأن يكون الجلاء ووحدة الوادي أساساً للمفاوضات، فلم يظفر بأي وعد منها بذلك. وبدا على الحكومة البريطانية إصرارها السابق على موقفها قبل إلغاء المعاهدة وبعده.
تطهير أداة الحكم
ألفت هذه الوزارة عدة لجان قضائية تتولى التحقيق في الجرائم والمخالفات الإدارية التي وقعت أو تقع في الوزارات والمصالح العامة والهيئات التي للحكومة شراف أو رقابة عليها، وشكلت كل لجنة من مستشار من مجلس الدولة أو محام عام رئيساً، ومستشار مساعد من مجلس الدولة أو رئيس نيابة أو نائب من الدرجة الأولي أو نائب أول من مجلس الدولة، وموظف لا تقل درجته عن الدرجة الأولى عضوين، وجعلت مهمة هذه اللجان التحقيق في الوقائع التي تبلغ عنها وتنطوي على تصرفات تمس نزاهة الحكم وقد باشرت هذه اللجان تحقيقاتها، وكانت هذه التحقيقات أساسا لبعض حالات التطهير التي تمت في عهد الثورة.
إلغاء الاستثناءات
أسرفت وزارات الوفد المتعاقبة في الاستثناءات في ترقيات الموظفين وعلاواتهم ومعاشاتهم. فلما وليت وزارة أحمد ماهر الحكم في أكتوبر سنة 1944 إبان الحرب العالمية الثانية، أصدرت مرسوما بقانون رقم 148 لسنة 1944 بإلغاء الإستثناءات في ترقيات الموظفين وعلاواتهم ومعاشاتهم التي حدثت في الوزارة الوفدية السابقة (1942 – 1943).
وقد أخذنا على هذا المرسوم أنه لم يلغ الاستثناءات التي حدثت في عهد الوزارات السابقة على هذه الوزارة.
فلما عادت وزارة الوفد إلى الحكم سنة 1950، عادت إلى سياستها التقليدية في الاستثناءات الجديدة، بل أمعنت في المحاسيب والأنصار، والأقارب والأصهار، ولم تكتف بالاستثناءات الجديدة، بل أمعنت في المحسوبية، فأعادت الاستثناءات القديمة التي ألغتها وزارة أحمد ماهر، وكان هذا ولا ريب من أسباب اضطراب دولاب العمل في دواوين الحكومة، وسريان روح الياس والسخط والتراخي في نفوس الموظفين عامة، إذ يرون أن لا عدل ولا مساواة في معاملتهم، فيضعف شعورهم بالواجب، ويقل إنتاجهم في العمل.
ولم تقنع وزارة الوفد سنة 1950 بإعادة الاستثناءات القديمة والإيغال في الاستثناءات الجديدة، بل زادت الطين بلة بأن منحت الموظفين الذين أعادت إليهم الاستثناءات فروق المرتبات عن المدة التي انقضت من يوم إلغائها سنة 1945 حتى إعادتها في سنة 1950، وقد بلغت هذه الفروق نيفًا ومائة ألف جنيه.
فلما وليت وزارة الهلالي الحكم، قررت إلغاء الاستثناءات، وعممت حكم الإلغاء على ما وقع في عهد الوزارات الوفدية وغير الوفدية على السواء منذ أكتوبر سنة 1944.
واستصدرت لذلك مرسومًا بقانون في أول إبريل سنة 1952 يقضي بإلغاء الترقيات والعلاوات والأقدميات الاستثنائية التي منحت للموظفين والمستخدمين منذ 8 أكتوبر سنة 1944، وإلغاء كل زيادة تجاوز خمسة عشر جنيهًا في الشهر في المعاشات الاستثنائية التي ربطت على أساس مرتب زيد بسبب ترقيات أو علاوات استثنائية أبطلت أو عدلت بالتطبيق لأحكام هذا المرسوم.
ويقضي المرسوم بالنسبة للموظفين الذين ردت إليهم فروق المرتبات وأعادت إليهم وزارة الوفد استثناءاتهم عن المدة التي انقضت من يوم إلغائها بإلزامهم برد هذه الفروق، وأن يكون تحصيلها باستقطاع 25% من المرتب أو المعاش أو المكافأة.
استثناء من الإلغاء
واستثنى المرسوم من حكم الإلغاء المعاشات الاستثنائية التي منحت للضباط في جميع الوزارات والمصالح وكذلك لورثتهم إذا كان الضابط قد أصيب أو استشهد في الحرب وأثناء الخدمة، واستثنى أيضًا المعاشات الاستثنائية التي تقررت لاعتبارات قومية، فقرر أن لا تسري عليها أحكام هذا المرسوم، أي بقاء هذه المعاشات الاستثنائية كما قررت.
وهو استثناء جدير بالتنويه، لأن فيه تكريمًا للضحايا والشهداء والمصابين في ميدان الجهاد القومي.
تأجيل البرلمان
كان أول عمل لهذه الوزارة استصدار مرسوم بتأجيل البرلمان لمدة شهر تنتهي في 2 إبريل سنة 1952، وهذا المرسوم هو تجديد للمرسوم الذي صدر في عهد وزارة علي ماهر ولم ينفذه.
وقد بادرها الوفد بإصدار قرار بعدم تأييدها وعدم الثقة بها داخل البرلمان وخارجه، وطالبها بإلغاء الأحكام العرفية.
ومما تجدر ملاحظته أن وزارة الوفد هي التي أعلنت الأحكام العرفية في 26 يناير سنة 1952 كما تقدم بيانه، فالأحكام العرفية تكون مقبولة إذا كانت وزارة الوفد في الحكم، ولا تكون مقبولة إذا تولت الحكم وزارة أخرى! وليس هذا من المنطق السديد في شيء.
حل مجلس النواب
واستصدرت الوزارة يوم 24 مارس سنة 1952 مرسومًا بحل مجلس النواب، وتحديد يوم 18 مايو لإجراء الانتخابات للمجلس الجديد، وأن يجتمع هذا المجلس يوم 31 مايو سنة 1952.
وبما أن قانون الانتخابات كان يقضي بتقديم طلبات الترشيح في مدى عشرة أيام من تاريخ نشر المرسوم بحل مجلس النواب في الجريدة الرسمية، فقد فتح باب الترشيح ابتداءًا من يوم 25 مارس.
وتبين من موقف الوزارة من حل مجلس النواب، سواء قبل صدور مرسوم الحل أو بعده، أنه لم يكن له سياسة مرسومة في معالجة الموقف السياسي عامة، ولا في مواجهة أحداث هذا الموقف، ولا غرابة في ذلك، فإن هذا هو طابع "وزارات الموظفين"، فقد كان الموقف السياسي وأحداثه ومفاجآته مما لا يمكن للموظفين تقديره وعلاجه، ومن ثم ظهر الارتجال والتناقض في مسلك الوزارة بإزائه.
فتارة كانت تصريح بأن الانتخابات لا تجري إلا بعد إلغاء الأحكام العرفية، ثم تعود وتصرح بأنها ستجري في ظلها.
وطورًا تقرر تحديد مدة الترشيح لمجلس النواب بعشرة أيام، ثم تعود وتمدها عشرة أيام أخرى.
وآونة تحدد للانتخابات يوم 18 مايو سنة 1952، ثم تعود وتقرر مد هذا الموعد لمدة غير معلومة.
ومرة يلمح أنصارها إلى أنها ستؤلف حزبًا جديدًا يجمع "الأخيار" من الأحزاب كافة وأن أولئك "الأخيار" سيدخلون الانتخابات الجديدة، تحت لواء الحزب الجديد، ثم لا تلبث هذه الإشاعة أن تتلاشى فتكذب الوزارة هذا النبأ مبالغة منها في عدم التأثير في حرية الانتخابات! بل زادت وأعلنت أن رئيس الوزارة نفسه لن يرشح نفسه للانتخابات!
وصرح بعض الوزراء أن النية متجهة إلى تعديل قانون الانتخاب، ثم عدلت الوزارة وقتًا ما عن هذا الاتجاه.
كل هذه البلبلة قد أضعفت الجبهة الداخلية، وزلزلت مركز الوزارة، وصار شأنها شأن الوزارات الإدارية التي كانت في الغالب، قنطرة لكل غالب.
وبدأ الفرق جليًّا بين قوة وزارة أحمد ماهر سنة 1944، وضعف وزارة الهلالي سنة 1952، ففي عهد وزارة أحمد ماهر انكمش الوفديون أمام حزمه وعزمه حتى أنهم أحجموا عن دخول الانتخابات التي جرت في عهده سنة 1945.
أما في عهد وزارة الهلالي، فبمجرد أن تقرر حل مجلس النواب وفتح باب الترشيح، بادر الوفد إلى إعلان قوائم مرشحيه في الدوائر كافة، في حين انكمش خصومه كما انكمش أنصار الوزارة عن إعلان أسماء مرشحيهم، ولم يكن هذا وذاك عن ضعف من خصوم الوفد، إلا إن تخاذل الوزارة قد أضعف جبهتهم، بمقدار ما أدى إلى تقوية مركز الوفد.
تأجيل الانتخابات
وانتهى الأمر بعد لاي وتشاور، وأخذ وردّ، وشد وجذب، إلى تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى! وصدر مرسوم التأجيل في 12 إبريل سنة 1952، ونص على وقف إجراءات الترشيح وسائر عمليات الانتخاب.
وكانت حجة الوزارة في هذا التأجيل أنها تلقت كثيرًا من الشكاوى الخاصة بجداول القيد، وعدم ورود أسماء كثيرين من الناخبين فيها، ومن هذه الشكاوى ما يرمي إلى فتح باب القيد في دفاتر الانتخابات، بحجة أن هذه الدفاتر قد وضعت في عهد وزارة الوفد الأخيرة، وأن النواب والشيوخ الوفديين كانوا يتدخلون في تحريرها، فيقيدون أسماء أنصارهم ويستبعدون أسماء خصومهم، وارتكنت الوزارة أيضًا على ما وردها من الشكاوى عن توزيع الدوائر الانتخابية، وارتكنت الوزارة أيضًا على ما وردها من الشكاوى عن توزيع الدوائر الانتخابية، والمطالبة بتعديلها، لما كان في الوضع القائم وقتئذ من تيسير سبيل النجاح لفريق دون فريق، وما اعتزمته أيضًا من تعديل قانون الانتخاب، فاجتمعت هذه الأسباب كلها، وجعلت الوزارة تؤجل الانتخابات لأجل غير مسمى، فازداد مركزها ضعفًا على ضعف.
وزاد في ضعفها أن الهلالي في مختلف المناسبات كان يضفي على فاروق من عبارات التقديس والتأليه ما زاده تعاليًا وطغيانًا.
ولا يصلح عذرًا للهلالي ما اعتاده في كتاباته من تنميق الكلمات، وتسجيع العبارات، فإن هذا الأسلوب لا يصح أن يكون منزلقًا إلى تأليه الملك وإغرائه بالاستبداد والتمادي في غيه وطغيانه.
استقالة الهلالي (28 يونيه سنة 1952)
قدم الهلالي استقالته إلى الملك السابق يوم 28 يونيه سنة 1952
ولم يبد في كتاب استقالته سبب ظاهري لهذه الاستقالة، غير أن ملابساتها دلت على أنه شعر بأن الملك يريد تغيير الوزارة فحسب، وأخذ يكثر من طلباته وتدخلاته في شؤون الحكم، ويضع العقبات أمام الوزارة، وكان لحاشية الملك دخل في خلق هذه العقبات، إذ كان فريق منهم يخشى أن تمسهم حركة التطهير إذا اتسعت دائرته، فأدخلوا في روع الملك أن هذه الحركة قد تمتد إلى ذاته، فتغير الملك علي الهلالي، وشرع في تنحيته، وقد كان فاروق لا يطيق أن يرى وزارة تبقى مدة طويلة في الحكم، بل كان يميل إلى التغيير والتبديل دون مقتض، بل لمجرد استمتاعه بالعبث بالوزراء والوزارات.
وإذ أدرك الهلالي أن الملك راغب في إبداله، فقد قدم استقالته وأخذ الملك يلهو ويعبث بتأليف الوزارة الجديدة.
ومن مظاهر لهوه وعبثه، أنه كلف في وقت واحد اثنين لتأليف الوزارة الجديدة، وهما بهي الدين بركات، وحسين سري، وأخذ كل منهما يجري مشاوراته في تأليف الوزارة، دون أن يعلم أحدهما أو كلاهما أن الآخر مكلف أيضًا بتأليف الوزارة، وهذه أول مرة في تاريخ مصر، بل في تاريخ العالم، يكلف فيها اثنان معًا بأن يؤلف كل منهما الوزارة، وهو مظهر سافر لعدم الاستقرار، بل لانهيار نظام الحكم وانحلاله، ومن دلائل استهتار رئيس الدولة بكرامة البلاد وكرامة الحكم وكرامة الحكام.
وأخيرًا وقع اختيار الملك علي حسين سري، وكان للسراي وحاشية الملك دخل في تغليبه علي بهي الدين بركات، فإنا إلياس إندراوس المستشار الاقتصادي لفاروق ومن خاصة رجاله المقربين، وكريم ثابت مستشاره الصحفي وصاحب الحظوة لديه، كانا من الساعين إلى ترجيح كفة حسين سري، وقد كوفئ كريم ثابت على نجاح مسعاه بتقليده منصبًا وزاريًا في الوزارة الجديدة!
وزارة حسين سري (2 يوليه – 20 يوليه سنة 1952)
تألفت وزارة حسين سري يوم 2 يوليه سنة 1952 على النحو الآتي :
حسين سري للرآسة والخارجية والحربية والبحرية،[[محمد هاشم للداخلية،محمد علي راتب للشؤون البلدية والقروية، نجيب إبراهيم للأشغال والمالية، محمد سامي مازن للمعارف، كريم ثابت وزير دولة، الدكتور سيد عبدالواحد للمواصلات، الدكتور أحمد زكي للشئون الاجتماعية، الدكتور محمد علي الكيلاني للزراعة، حسين كامل الغمراوي للتموين، الدكتور عبد المعطي خيال للتجارة والصناعة، الدكتور محمود صلاح الدين للصحة، علي بدوي للعدل، الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري للأوقاف.
وكان من علامات انحدار المنصب الوزاري دخول كريم ثابت في هذه الوزارة فقد كان تعيينه وزيرًا إرضاء لرغبة الملك في أن يكون صفيته وخدينه، وملازمه في لهوه ومجونه، وزيرًا من وزراء الدولة، وقد طلب غير مرة من غير واحد من رؤساء الوزارات إدخاله في وزارتهم فرفضوا، فكيف قبل حسين سري ما رفضه سواه.
ولم يتسع الوقت لهذه الوزارة لتكتوين رأيها واتجاهاتها في المسائل العامة التي كانت تشغل الرأي العام، لأنها لم تبق في الحكم سوى تسعة عشر يومًا.
ولقد ظهر الخلاف بينها وبين الملك حين تحرجت أزمة نادى ضباط الجيش، إذ أصدرت إدارة القوات المسلحة أمرًا بحل مجلس إدارته وغلق النادي، بعد أن أخفقت في تنحية أعضاء هذا المجلس وحملهم على الاستقالة، وأراد حسين سري تهدئة الموقف، فعرض على الملك إسناد وزارة الحربية إلى اللواء محمد نجيب، رئيس النادي، ليكون ذلك إرضاء لضباط الجيش وتهدئة لثائرتهم، وكان حسين سري قد رشحه لهذا المنصب عند تأليف وزارته، ولكن الملك رفض هذا الترشيح، فتولى هو وزارة الحربية، ولما اشتدت أزمة نادي الضباط عاد يرشحه لهذه الوزارة فرفض الملك طلبه.
وإزاء اشتداد الخلاف بين الوزارة والسراي في شأن أزمة الجيش قدم حسين سري استقالته يوم 20 يوليه سنة 1952، وهي استقالة مشرفة لحسين سري ووزارته، إذ لم يقبل الخضوع لرغبات الملك في إذلال الجيش وضباطه الأحرار، وقد قبل الملك استقالته في 22 يوليه 1952.
وزارة الهلالي الثانية (22 يوليه – 23 يوليه سنة 1952)
عاد فاروق وعهد إلى أحمد نجيب الهلالي في 22 يوليه سنة 1952 تأليف الوزارة من جديد، فقبل الهلالي هذه المهمة في نفس اليوم، وألف وزارته الثانية (التي لم تدم إلا بضع ساعات) على النحو الآتي :
أحمد نجيب الهلالي للرآسة، طه السباعي للتموين، محمد كامل مرسي للعدل، محمد المفتي الجزائرلي للأوقاف، عبدالخالق حسونة للخارجية، محمد زكي عبدالمتعال للمالية، أحمد مرتضى المراغي للداخلية، محمد رفعت للمعارف، محمد فريد زغلوك للتجارة والصناعة، طراف علي للمواصلات، راضي أبو سيف راضي للشؤون الاجتماعية، إسماعيل شيرين للحربية والبحرية، حسن كامل الشيشيني للزراعة، يوسف سعد للأشغال، مرييت غالي للشؤون البلدية والقروية، الدكتور سيد شكري للصحة.
وهي نفس وزارته الأولى مع تعديل يسير، إذا استبعد بعض أعضائها، وأضاف وزارء جدداً هم : إسماعيل شيرين زوج الأميرة فوزية، حسن كامل الشيشيني، يوسف سعد، مرييت غالي، الدكتور سيد شكري.
وهذه هي الوزارة الرابعة التي تألفت بعد حريق القاهرة ، أي أنه قد تعاقبت على البلاد أربع وزارات في ستة أشهر، وهذا يدلك على مبلغ الفوضى وعدم الاستقرار في الحكم في هذه الفترة العصيبة من تاريخ مصر.
وقد كان تأليف الهلالي وزارته الثانية مثار دهشة الرأي العام، وعلى الأخص دهشة أصدقائه وعارفيه، فإذا كان قد استقر رأيه على الاستقالة من وزارته الأولى، ففيم يقبل العودة إلى الوزارة؟ وإذا كانت عيوب الملك فاروق وطريقة معاملته لرؤساء الوزارات والوزراء هي التي حملته على استقالته الأولى، فهل تغيرت هذه العيوب وتبدلت هذه المعاملة؟ الواقع أن الأوضاع هي هي، ونزوات الملك هي هي، وهيوبه ومساوئه هي هي، وإن تدخل فاروق في شؤون الحكم قد بدا جليًّا في تأليف هذه الوزارة بالذات، فإنه هو الذي فرض صهره إسماعيل شيرين وزير للحربية، ليكون أداته في السيطرة على الجيش، في الوقت الذي قويت فيه حركة الضباط الأحرار واشتدت أزمة الجيش وكانت تنذر بأن تتحول إلى ثورة، وقد تحولت فعلاً إلى الثورة التي شبت غداة تأليف هذه الوزارة.
وفي الحق أن في تعيين إسماعيل شيرين وزيرًا للحربية امتهانًا لكرامة ضباط الجيش، وعلى أنه حميد الأخلاق، فهو شاب لم يدخل الكلية الحربية، ولم يتخرج منها، بل جعله الملك ضابطًا لمجرد مصاهرته له، ورقاه إلى رتبة قائمقام، فكان تعيينه وزيرًا للحربية مظهرًا لتمادي الملك في امتهان كرامة الجيش.
وقد كان عجيبًا حقًّا أن يقبل الهلالي هذا الوضع، على حين أنه يعلم بأن حسين سري قد استقال لأنه لم يشأ أن يساير الملك في إغضاب الجيش، فكيف رضي الهلالي أن يعود إلى الوزارة ويساهم في امتهان كرامة الجيش وضباطه إلى هذا الحد، ويقبل ما رفضه حسين سري وأدى إلى استقالته؟
لا مراء في أن الهلالي قد أخطأ خطأ كبيرًا جسيمًا في قبوله الوزارة في هذه الظروف والملابسات.
وقد عالجتها ثورة الجيش في 23 يوليه سنة 1952، فأطاحت بها قبل مضي ثماني عشرة ساعة على تشكيلها.
وبشبوب ثورة 23 يوليو سنة 1952 طُويت صفحة الماضي، وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ كفاح الشعب ونضاله في سبيل تحقيق أهدافه.
الفصل الرابع: أسباب ثورة 23 يوليو سنة 1952
جاء البيان الأول لثورة 23 يوليو سنة 1952 محدود الأهداف، موجزًا في عبارته، ومن ثم فهو لا يلقي الضوء على الأسباب الرئيسية للثورة، وقد يكون الغرض من صدوره بهذا الإيجاز وضع خطة تشبه الخطط الحربية في كتمان خطواتها وأهدافها، وهذا الكتمان من أخص ما تمتاز به المعارك الحربية الناجحة.
استيقظ المواطنون في صبيحة يوم الأربعاء 23 يوليه سنة 1952، فوجدوا أن الثورة قد قامت، وأن قوات الجيش تحتل بعض مرافق القاهرة وشوارعها، واستمعوا في الساعة السابعة والنصف إلى محطة الإذاعة تذيع البيان الأول للثورة بلسان اللواء (محمد نجيب) إلى الشعب المصري، يقول فيه عن أسباب الثورة :
"اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد، وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إما جاهل أو فاسد، حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم، ولابد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب، أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين فهؤلاء لن ينالهم ضرر، وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور، مجردًا من أي غاية، وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ إلى أعمال التخريب أو العنف، لأن هذا ليس من صالح مصر، وإن أي عمل من هذا القبيل سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل، وسيلقى فاعله جزاء الخائن في الحال، وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاونًا مع البوليس، وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسئولاً عنهم، والله ولي التوفيق".
وفي اليوم التالي (24 يوليه سنة 1952) أذاع اللواء محمد نجيب البيان التالي عن أسباب الثورة وأغراضها، قال فيه :
"إخواني أبناء وادي النيل – لشدّ ما يسرني أن أتحدث إليكم مع ما أحتمله في هذه اللحظات من مسئوليات جسام لا تخفى عليكم، فقد حرصت على أن أحدثكم بنفسي لأقضي على ما ينشره خصومكم وخصوم الوطن من شائعات مغرضة حقيرة، لقد أعلنا من البداية أغراض حركتنا التي باركتموها من أول لحظة، ذلك لأنكم لم تجدوا فيها ظلمًا لشخص، ولا كسبًا لفرد، بل إننا ننشد الإصلاح والتطهير في الجيش وفي جميع مرافق البلاد، ورفع لواء الدستور، إن حركتنا قد نجحت لأنها باسمكم ومن أجلكم وبهديكم، وما يملأ قلوبنا من إيمان إنما هو مستمد من قلوبكم، بني وطني – إن كل شيء يسير على ما يرام، وقد أعددنا لكل شيء عدته، فاطمئنوا إلى نجاح حركتنا المباركة، واتجهوا بقلوبكم إلى الله العلي القدير، وسيرو خلفنا إلى الأمام، والله نسأل أن يسدد خطانا وأن يطهر نفوسنا وأن يعيننا على أن نسموا بوطننا إلى المكانة التي ننشدونها له، وأنتهز هذه الفرصة لأؤكد لكم أنكل شيء يسير على ما يرام، والسلام عليكم ورحمة الله".
وفي الإنذار الذي وجهه اللواء محمد نجيب إلى فاروق يوم 26 يوليه بالتنازل عن العرش موجز لأسباب ثورة الجيش، قال :
"إنه نظر لما لاقته البلاد في العهد الأخير من فوضى شاملة عمت جميع المرافق نتيجة سوء تصرفكم وعبثكم بالدستور وامتهانكم لإرادة الشعب، حتى أصبح كل فرد من أفراده لا يطمئن على حياته أو ماله أو كرامته، ولقد ساءت سمعة مصر بين شعوب العالم من تماديكم في هذا المسلك حتى أصبح الخونة والمرتشون يجدون في ظلكم الحماية والأمن والثراء الفاحش والإسراف الماجن على حساب الشعب الجائع الفقير، ولقد تجلت آية ذلك في حرب فلسطين وما تبعها من فضائح الأسلحة الفاسدة، وما ترتب عليها من محاكمات تعرضت لتدخلكم السافر، مما أفسد الحقائق وزعزع الثقة في العدالة، وساعد الخونة على ترسم هذه الخطى، فأثرى من أثرى، وفجر من فجر، وكيف لا والناس على دين ملوكهم، لذلك فوضني الجيش الممثل لقوة الشعب أن أطلب إلى جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولي عهدكم الأمير أحمد فؤاد، على أن يتم ذلك في موعد غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم (السبت الموافق 26 يوليه سنة 1952 والرابع من ذي القعدة سنة 1371) ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه، والجيش يحمل جلالتكم كل ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج ".
فهذه البيانات لا تطالعنا إلا بالأسباب الظاهرية أو الجزئية للثورة، وخلاصتها أن قادة الثورة، وكلهم من ضباط الجيش الأحرار، قد ثاروا على فساد نظام الجيش ذلك الفساد الذي كان من أسباب الهزيمة في حرب فلسطين، وأنهم اعتزموا تطهير الجيش من عوامل الفساد والرشوة والخيانة، ثم متابعة التطهير في جميع مرافق البلاد، ورفع لواء الدستور من أسباب الفساد الذي سيطر على أداة الحكم وأدى إلى الفوضى الشاملة التي عمت جميع المرافق وأساءت إلى سمعة مصر، فاعتزموا خلعه وخلعوه.
فالثورة بحبس ما يبدو من هذه البيانات كانت ثورة على الفساد، وثورة على فاروق الذي أشاع هذا الفساد في محيط الجيش وفي أداة الحكم عامة.
ويقيننا أن هذه العوامل هي بعض أسباب الثورة لا كلها، وأن أسباب الثورة أعم وأعمق من هذه العوامل، ويمكننا وقد انقضى نحو خمسة أعوام على قيام الثورة، أن نتبين حقيقة الأسباب التي دعت إليها، فهي ثورة عامة، وأسبابها أيضاً عامة، ولئن كان القائمون بها من ضباط الجيش. فإنهم في أسباب الثورة كانوا يعتبرون عن أحاسيس الشعب واتجاهاته. ويترسمون خطواته في تحديد أهدافه. ولا تختلف هذه الثورة عن الحركات الشعبية التي سبقتها، إلا في أنهم جعلوا قوة الجيش أداة العمل والتنفيذ. وقد كانت هذه القوة فعلا هي السبيل لنجاح الثورة. ولولاها لانتهت بالنكسة والإخفاق.
فلنتحدث إذن عن الأسباب العامة لثورة 23 يوليو سنة 1952. وهي أسباب عدة. منها أسباب سياسية، وأخرى اقتصادية، وثالثة اجتماعية، سنتكلم عنها بهذا الترتيب الذي اتبعناه في أسباب الثورة العرابية، وثورة سنة 1919.
الأسباب السياسية
فأول هذه الأسباب هو السخط والمرارة من رؤية الاحتلال البريطاني جاثما على أرض الوطن.
شهد الضباط الأحرار الذين على أيديهم قامت الثورة مظاهر الاحتلال البغيض وآثاره في حالة البلاد.
كان تاريخ الاحتلال منذ وقوعه يتمثل أمام أنظارهم. ويدفعهم إلى الثورة دفعا، إذ رأوا مما شاهدوه، أو طالعوه ووعوه، كيف وقع هذا الاحتلال غدراً سنة 1882. وكيف نقض الإنجليز على تعاقب السنين وعودهم في الجلاء، نيفا وستين مرة وكيف تغلغلوا في شؤون البلاد، وعصفوا باستقلالها وسيادتها، وكيف سعوا إلى تفكيك عرى وحدة وادي النيل بوضع أيديهم على السودان، والفصل بين القطرين الشقيقين، وكيف قضوا على الدستور الذي نالته البلاد قبل الاحتلال وأبدلوا به نظاماً صوريا من الشورى لا حول له ولا قوة. وكيف أعلنوا حمايتهم الباطلة على مصر في ديسمبر سنة 1914. وكيف استغلوا البلاد سياسيا واقتصاديا طيلة عهد الاحتلال والحماية.
ورأوا أن البلاد قد ضاقت بهذا الاحتلال وجاهدته منذ وقوعه وثارت عليه، فقاوم الإنجليز الحركات التحريرية والثورية بمختلف وسائل التنكيل والتقتيل.
ورأوا أيضاً كيف اضطرت بريطانيا تحت ضغط الكفاح الشعبي إلى إلغاء الحماية الباطلة التي أعلنوها، والاعتراف بصر دولة مستقلة ذات سيادة، وذلك في تصريح 28 فبراير سنة 1922، وكيف أن هذا التصريح لم يتضمن جلاء الاحتلال، فاستمر عدوانه على استقلال البلاد وحريتها، واستمر كفاح الشعب في سبيل الجلاء، وكيف نجح الاحتلال والسراى في تعويق الجلاء بمفاوضات متكررة كانت تصطدم بإصرار الإنجليز على استبقاء احتلالهم تحت أوضاع مختلفة.
وشهدوا توقيع المعاهدة التي سميت معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا في 26 أغسطس سنة 1936، وكيف أنها لم تحقق الجلاء الذي تنشده مصر المكافحة، بل تضت بانتقال الاحتلال إلى منطقة قناة السويس، واستمر الإنجليز يتدخلون في سياسة البلاد بعد توقيع هذه المعاهدة، ويدبرون المؤامرات والمكايد بين حيز وآخر، ويسقطون الوزارات ويقيمونها، ويستحدثون الأزمات لتحقيق أغراضهم الاستعمارية.
وشهدوا كفاح الشعب منذ توقيع معاهدة سنة 1936 في سبيل الجلاء، واشتداد هذا الكفاح في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إذ استؤ نفت المظاهرات الشعبية الضخمة سنة 1945 وسنة 1946، منادية بالجلاء، وسفكت فيها الدماء من جديد، وأعادت إلى الأذهان مظاهرات وتضحيات سنة 1919، وتحت ضغط هذا الكفاح جلا الإنجليز عن قاعة القاهرة في يوليه سنة 1946، وجلوا في سنة 1947 عن المواقع التي كانوا يحتلوها في القاهرة والإسكندرية، وانتقلوا إلى منطقة قناة السويس واستمر كفاح الشعب لإجلائهم عن هذه المنطقة الحساسة من أرض الوطن، العزيزة في نفوس المواطنين، وكيف استؤنفت المفاوضات بين مصر وبريطانيا لتحقيق الجلاء عن هذه المنطقة، وأصر الاستعمار البريطاني على بقاء قواته العسكرية بها لتكون سبيله إلى العبث باستقلال البلاد وسيادتها، مما اضطر الحكومة المصرية في أكتوبر سنة 1951 إلى إلغاء معاهدة سنة 1936،وكان هذا الإلغاء إيذانا باستئناف الكفاح الشعبي المسلح في القناة، وكان كفاحا رهيبا مريرا، بذل فيه الفدائيون وجموع المواطنين ما بذلوا من أرواح وتضحيات.
شهد الضباط الأحرار هذا الكفاح، ثم شهدوا انتكاسه بعد حريق القاهرة في 26 يناير سنة 1952، ورأوا كيف تعاقبت الوزارات على البلاد، وكيف كان فاروق يعبث بإقامتها وإسقاطها كما تقدم بيانه في الفصل الثالث، وازدادت الحالة سواء، وتمادى الملك السابق وبطانته في إفساد أداة الحكم والانحدار به إلى الحضيض، والإساءة إلى سمعة مصر الداخل والخارج.
شهد الضباط الأحرار هذه الأحداث، واستشعروا الواجب في أن يعملوا على إنقاذ البلاد من الاحتلال ومن الاستعمار الأجنبي الذي هو العامل الأكبر فيما وصلت إليه منم ضعف وانحلال.
وإذ رأوا أن الاحتلال وحده ليس هو السبب فيما أصاب البلاد من الكوارث بل إن فاروق يشاركه في هذه التبعة، فقد تعاهدوا على تحرير البلاد من الاحتلال ومن فاروق معاً.
فثورة 23 يوليو سنة 1952 هي ثورة على الأوضاع الاستعمارية وفساد الحكم، هي ثورة تحريرية قامت لتحقيق الجلاء وتحرير البلاد من ربقة الاستعمار، ولتطهير أداة الحكم فيها من الفساد.
وكان أول هدف لها منذ قيامها بل قبل قيامها هو خلع فاروق عن العرش، إذ كان أكبر معقل للفساد، كما كان في الوقت نفسه متعاونا مع الاحتلال، ولئن بدا في بعض المواقف على خلاف وإياه – كما حدث في 4 فبراير سنة 1942 – فقد كان هذا الخلاف وقتيا، وكان هو لا يفتأ يسعى لإعادة التفاهم والتعاون مع المحتلين على حساب الشعب.
فالاحتلال والاستعمار، ومساوئ حكم فاروق، كانت البواعث السياسية على ثورة 23 يوليو سنة 1952، وأهدافها السياسية منذ الساعة الأولى هي التحرر من الاحتلال والاستعمار، وإسقاط فاروق معًا. وإذا كانت الأسرة المالكة السابقة قد تعاونت مع الاستعمار وساهمت في إفساده أداة الحكم، فإن أهداف الثورة قد شملت التخلص من فاروق ومن أسرة محمد علي كلها.
وفي الحق أن خلفاء محمد علي وإبراهيم في الحكم قد مهدوا بتصرفاتهم للتدخل الأجنبي في شئون مصر، ثم إنهم منذ وقع الاحتلال البريطاني سايروا الاستعمار في سياساته وأهدافه، سواء في عهد الاحتلال، أو في عهد الحماية، أو في عهد الاستقلال المقيد، ولم يبد منهم أي معاونة للشعب في نضاله ضد الاستعمار، فيما عدا فترة وجيزة من عهد الخديو عباس حلمي الثاني، ومع أنه قد تنكر للحركة الوطنية أحيانًا، فهو الحاكم الوحيد الذي خلع بأمر الحكومة البريطانية نتيجة لسياسته العدائية حيالها، وفيما عدا هذه الفترة الوجيزة، فإن حكام هذه الأسرة كانوا يتعاونون مع الاستعمار على إذلال الشعب، فلا غرو أن كان من أهداف الثورة إسقاط أسرة محمد علي كلها.
فالعوامل التاريخية والسياسية قد تضافرت على انقراض حكم هذه الأسرة، وإن سيرة فاروق في ذاتها كانت إيذانًا بانتهاء عهدها، فقد جمع في شخصه كل العيوب التي كانت موزعة بين الولاة السابقين من أسلافه، وزاد عليها عيوبه الخاصة، مما أدى إلى تغلغل الفساد في أداة الحكم وفي الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، فلم يكن بُد من خلع فاروق ثم انقراض النظام الملكي.
وقد تجلت أهداف الثورة في هذه الناحية تدريجًا مع الوقت، وكان لكل هدف مرحلته في التنفيذ.
ومن الأسباب السياسية لقيام الثورة ما رآه الضباط الأحرار أو طالعوه من ماضي في الجهاد، والتوارث الشعبية التي قامت من قبل ضد الاحتلال الأجنبي والاستبداد الداخلي، فإن صفحات هذا الماضي قد غرست في نفوسهم روح الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، وانطبعت في أذهانهم ثورات الشعب على الفرنسيين منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، ثم ثوراته على المماليك والترك، ثم الثورة العرابية، فالثورة الوطنية على الاحتلال، فثورة 1919، واستمرار روح الثورة، إلى الكفاح في القنال سنة 1951.
كل هذه الثورات والحركات الوطنية المتلاحقة، البعيدة والقريبة، كانت مثلاً يُحتذى في الثورة على الاستعمار والفساد، ولقد اعتزم ضباط الجيش أن يقوموا بدورهم في حركة التحرير، إذ لم يكونوا قد ساهموا في الكفاح من قبل، إلا في نطاق ضيق محدود، وتأخروا عن طبقات الشعب في جهاد السنين الماضية، فاستشعروا الواجب في أن يكون لهم الدور المرتقب في الجهاد، لأنهم يمثلون القوة المسلحة التي يستطيع الشعب أن يستند إليها في التخلص من فساد الحكم ومن ربقة الاحتلال.
حقًّا إنهم قد ساهموا في الجهاد بوجه عام في حرب فلسطين سنة 1948، ولكن هذه الحرب لم تكن تستهدف حرية مصر واستقلالها، بل كانت غايتها تحرير فلسطين من عدوان إسرائيل، وكان الضباط أنفسهم يرون دخول مصر في هذه الحرب على غير استعداد لها خطأ من الحكومة القائمة وقتئذ (سنة 1948).
على أنهم في ميدان هذه الحرب، قد أدوا واجبهم على أكمل وجه، ومرنوا على الكفاح والقتال ضد أعداء العروبة والإنسانية، وأصابهم في ميدان القتال ما أصابهم من أذى وتضحيات، وكانت هذه التضحيات حافزة لهم على أن يبذلوا مثلها بل أضعافها في غاية أعظم وأنبل، وهي تحرير الوطن المصري.
فحرب فلسطين بالرغم من أن الكثيرين يرونها خطأ وضررًا، كانت من البواعث على الثورة، ومن مقدماتها الواقعية، أضف إلى ذلك أن ما شاهده الضباط فيها من جنايات وخيانات في تسليح الجيش وتزويده بالأسلحة والذخائر الفاسدة وما تحققوه من أن بطانة فاروق وفاروق ذاته قد اتجروا في هذه الصفقات الحرام، كل أولئك قد ملأ قلوبهم سخطًا على هذا الفساد الذي يعرض الجيش والوطن للكوارث والويلات، فكانت هذه المآسي من الأسباب التي دفعتهم إلى الثورة.
ومما ساعد على سريان روح الثورة في نفوس الضباط ارتقاء الوعي الوطني والثقافة الوطنية، بين طبقات الشعب، مما نهض بالأفكار والمشاعر، وحبَّب إلى النفوس الفداء والتضحية في سبيل تحرير الوطن وتحطيم العقبات والحواجز التي تحول دون تمتعه بالاستقلال التام.
أسباب تتعلق بالجيش
وثمت أسباب تتعلق بالجيش، وهي أيضًا من الأسباب السياسية للثورة، ولكن لها طابعًا خاصًا لارتباطها بالجيش ذاته، ولذلك جعلنا لها عنوانًا خاصًا.
أيقن الضباط الأحرار قبل حرب فلسطين أن الاحتلال البريطاني قد وقف للجيش المصري بالمرصاد منذ سنة 1882، وعمل جاهدًا على إضعافه وتحطيمه، وتجريد مصر من كل قوة حربية، ومن هنا تضاعفت في نفوسهم المقت والعدوان للاحتلال، فهم يشاركون الشعب في الأسباب العامة للثورة عليه، وبحكم اندماجهم في الجيش لمسوا عن كثب نتائج مؤامرات الاحتلال على الجيش بالذات.
لقد بادر الإنجليز إلى إلغاء الجيش الوطني منذ الساعة الأولى للاحتلال، واستصدروا من الخديو توفيق مرسومًا في 19 سبتمبر سنة 1882 بإلغاء هذا الجيش، بدعوى مناصرته للثورة العرابية، وكان صدور هذا المرسوم هو الخطوة الأولى لإفساد نظام الجيش ومحو صبغته القومية.
وتلت هذه الخطوة خطوة أخرى أشد منها خطرًا، وهي إرسال بقية هذا الجيش إلى السودان بحجة المساهمة في إخماد ثورة المهدي، وكانت في إبانها، وكان غرض الإنجليز من إنفاذ هذا الجيش هو التخلص منه في حروب السودان، وقد وقع ما دبروه، إذ أبيد معظمه في واقعة "شيكان" التي انتصر فيها المهدي على فلول الجيش المصري يوم 5 نوفمبر سنة 1883. وكان يقوده الجنرال هيكس، وهو ضابط بريطاني خلو من الكفاءة الحربية، وتدل الدلائل على أن بريطانيا دبرت تعيينه قائدًا للجيش في هذه المعركة بغية القضاء عليه تمهيدًا لاحتلال السودان.
وبعد أن تمر لبريطانيا ما أرادت من إلغاء الجيش الوطني، أنشأت بدله جيشًا هزيلاً خلوًا من الروح الوطنية ومن القوة المادية والمعنوية، برآسة سردار (قائد عام) إنجليزي، ويتولى قيادته ضباط من البريطانيين، وهبط عدده إلى نحو عشرة آلاف من الجنود والضباط، وأقصى الضباط الوطنيون عن إدارات الجيش الهامة، وتولاها الضباط الإنجليز، وكان الضباط المصريون لا يضمنون البقاء في مناصب الجيش عامة إلا إذا أبدوا ولائهم للاحتلال والقواد البريطانيين، وإذا بدت منهم روح وطنية كان جزاؤهم الإحالة إلى المعاش أو الاستيداع، وبذلك مسخ الاحتلال روح الجيش، ونزل به إلى مستوى عميق من الضعف والهوان.
ويدخل في هذا السياق تقرير البدل النقدي للإعفاء من التجنيد، فقد وُضع هذا النظام سنة 1886، بإيعاز من الاحتلال، وأدى إلى امتهان الجيش واعتبار التجنيد تكليفًا تختص به الطبقات الفقيرة التي لا يستطيع الفرد منها أن يفتدي نفسه بدفع البدل العسكري، فهذا النظام البغيض الذي لا مثيل له في أية أمة تحترم نفسها. قد خرج بالجندية في عهد الاحتلال عن معناها السامي في أنها فرض واجب على كل مواطن للدفاع عن بلاده، إلى اعتبارها عبئًا يقع على كاهل الفقراء دون سواهم، وبذلك حُرمت البلاد طيلة عهد الاحتلال والحماية روح الجندية وما تستتبعه من الشجاعة والتضحية، كما حُرم الجيش من الفئة التي تستطيع دفع البدل العسكري، وهي في الغالب الفئة المثقفة التي تنهض بمستوى الجيش. وأغلق الاحتلال المدارس الحربية والبحرية، ولم يعد في البلاد في عهده سوى مدرسة واحدة حربية (بالقبة) كان يؤخذ لها عدد قليل من التلاميذ من ساقطي الشهادة الابتدائية أو من السنة الثالثة بالقسم الابتدائي، وقليل من حملة الشهادة الابتدائية، واقتصر التعليم فيها على معلومات ضئيلة لا قيمة لها، يقوم بتدريسها معلمون معظمهم من الإنجليز.
وحرص الاحتلال على تشديد قبضته على الجيش، وإبعاد أي تدخل ولو ضئيل للسلطات المصرية في شؤونه، وإذ رأى الإنجليز من الخديو عباس حلمي الثاني في أوائل عهده اهتمامًا بترقية الجيش، فقد نقموا منه هذا الاتجاه، وتألب عليه الضباط البريطانيون، وتألفت منهم لجنة برياسة السردار (اللورد كتشنر) وعرضوا الأمر على اللود كرومر المعتمد البريطاني وصاحب الحول والطول في مصر في ذلك العهد، فأضمروا انتهاز أول فرصة لإذلال الخديو والنيل من مهابته أمام الجيش لكي تستقر لهم السيطرة الكاملة عليه، وقد رأوا في الحادثة المعروفة بحادثة الحدود سنة 1894 الفرصة المرتقبة لتنفيذ وعيدهم، ذلك أن الخديو عباس اعتزم زيارة الوجه القبلي بطريق النيل في تلك السنة، ووصل في سياحته إلى وادي حلفا يوم 18 يناير 1894، وهناك عرض فرقة من الجيش المصري كان يتولى قيادتها ضابط بريطاني، فلاحظ نقصًا في نظام الجنود وتدريبهم، وأبدى ملاحظته في هذا الصدد إلى وكيل وزارة الحربية وقتئذ (محمد ماهر) وكان يرافقه في سياحته وندد بالجيش ونظامه، وذاعت هذه الملاحظات، فثارت ثائرة اللورد كتشنر سردار الجيش، وعدها إهانة له، وجعل منها أزمة تتعلق بالكرامة الإنجليزية، فبادر بتقديم استقالته من منصبه، وأبلغ الأمر إلى اللورد كرومر، فاستشاط هذا غضبًا من مسلك الخديو، وأرسل إلى حكومته يستطلع رأيها فيها يجب عمله، فكان جوابها أن يطلب من الخديو إصدار أمره بشكر السردار وامتداح الضباط الإنجليز، وإبعاد محمد ماهر من منصبه، ومعنى ذلك اعتذار الخديو عن ملاحظاته، وقد اتخذت الصحف البريطانية لهجة التهديد والوعيد حيال هذه الحادثة، واعتبرتها أزمة خطيرة لا يحلها إلا الاعتذار!
وكان مصطفى رياض رئيسًا للوزارة، فبادر إلى نصح الخديو بالاعتذار والإذعان لمطالب الاحتلال، وانتهت الأزمة بالتسليم، وأصدر الخديو أمرًا بمثابة خطاب إلى السردار أعرب فيه عن رضائه عن حسن حالة الجيش ونظامه، وتهنئته للضباط الذين يرأسونه مصريين كانوا أو إنجليز، وتقديره للخدمات التي أداها الضباط الإنجليز للجيش، وطلب إلى السردار أن يعلن هذا الأمر للضباط والجند، فكان هذا الاعتذار ضربة أليمة الخديو والحكومة المصرية، وكان لهذه الحادثة أثر سيء في حالة الجيش المعنوية، إذ شعر الضباط المصريون أن خضوعهم للسيطرة الإنجليزية هي السبيل إلى الترقي والاطمئنان على مراكزهم.
وبالرغم من وسائل الضغط والاضطهاد التي أتبعها الإنجليز لمحو الروح الوطنية من الجيش، فقد وقع سنة 1900 تمرد في فرقتين من الجيش المصري الذي تولى استرجاع السودان، وذلك على أثر صدور أمر نائب الحاكم العام (البريطاني) للسودان بتجريد الجيش من سلاحه وذخيرته، فأبت الفرقتان إطاعة هذا الأمر، لما فيه من الامتهان لكرامتها وعدم الثقة في لجيش، وقابل الإنجليز هذه الحركة بالعنف والقسوة، وسجن الضباط المتهمون بالتمرد وطردوا من خدمة الجيش.
وظل الإنجليز يمنعون في إذلال الجيش وإضعاف روحه المعنوية طيلة عهد الاحتلال والحماية.
ولما قامت ثورة سنة 1919 وأعلنت بريطانيا في تصريح 28 فبراير سنة 1922 إلغاء الحماية والاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، لم تتراخ قبضتها على الجيش الذي ظل تحت قيادة السردار الإنجليزي، خاضعًا لسيطرته، وزعمت بريطانيا أن تصريح 28 فبراير سنة 1922 يخولها حق الاحتفاظ بالحالة التي كانت عليها البلاد في مسائل معينة، ومنها الدفاع عن مصر وتأمين سلامة المواصلات البريطانية فيها، وأن هذا التحفظ يجعل لها الإشراف على الجيش المصري، وكان آخر سردار إنجليزي لهذا الجيش هو السيرلي ستاك الذي قُتل في 19 نوفمبر سنة 1924، وأطاح مقتله بوزارة سعد زغلول، وأعقبه الإنذار البريطاني المشئوم الذي قضى ضمن ما قضى به بإقصاء الجيش المصري عن السودان.
وبالرغم من أن منصب السردار بقي شاغرًا بعد مقتل سير لي ستاك، فقد حل محله في اختصاصاته المفتش العام للجيش، وكان بريطانيا، ويدعي سبنكس باشا.
وحرص الإنجليز على التمسك بسيطرتهم على الجيش، ومنع أي محاولة للمساس بهذه السيطرة، وظهر هذا الإصرار بشكل مثير في يونيه سنة 1927، إذ نشأت أزمة سياسية حادة بين مصر وبريطانيا بسبب الجيش، وخلاصتها أنه لمناسبة نظر البرلمان ميزانية الدولة عن سنة 1927 – 1928 تألفت لجنة فرعية متفرعة من لجنة الحربية في مجلس النواب لبحث ميزانية وزارة الحربية فأبدت بعض مقترحات خاصة بإصلاح نظام الجيش وترقيته، ومنها إلغاء منصب السردار (وكان شاغرًا كما أسلفنا منذ مقتل السير لي ستاك) وتحسين أسلحة الجيش ومهماته، وترقية التعليم في المدرسة الحربية، واقترح بعض أعضاء اللجنة تعديل قانون مجلس الجيش بحيث لا يكون المفتش العام البريطاني عضوا فيه، وقدمت اللجنة الفرعية تقريرها بمقترحاتها وملاحظاتها إلى لجنة الحربية، وقبل أن تفحصها هذه وتبت فيها برأي.
وصل نبؤها إلى دار المندوب السامي البريطاني والصحف البريطانية، فهبَّت ترعد وتبرق، وتتهدد وتتوعد، ونشأت الأزمة بين الدولتين، إذ وجهت بريطانيا إلى الحكومة المصرية في 29 مايو سنة 1927 مذكرة أوضحت فيها أنها ترى أنه يجب على مصر أن تساعد بريطانيا العظمى على صيانة مصر من الاعتداء الأجنبي (نأمل!) وعلى حماية المواصلات الإمبراطورية، وأنها ترغب في أن يكون الجيش المصري صالحًا مستعدًا للاشتراك (كذا) في الدفاع عن البلاد، وهي لذلك على استعداد لأن تقدم لمصر كل مساعدة للعمل على إيجاد مثل هذه القوة بشرط أن تكون مدربة طبقًا للقواعد البريطانية وبأقل عدد من الأشخاص البريطانيين، إذ أن هذه القوة ستدعى للتعاون مع الجنود البريطانية في مصر، وأنها لاحظت في الأيام الأخيرة أن هناك اتجاهًا مقلقًا يرمي إلى إدخال النفوذ السياسي في الجيش المصري، واصطحب هذا الاتجاه بمحاولات أكيدة لتقليل اختصاص المفتش العام للجيش والضباط البريطانيين الذين يعملون في المصالح المختلفة التابعة لوزارة الحربية، وإن هذه المحاولات لقيت أخيرًا تأييدًا في بعض ما أوصت به لجنة الحربية البرلمانية في تقريرها الذي نشر حديثًا وسيطرح للمناقشة قريبًا في البرلمان، وترى الحكومة البريطانية أن الموافقة على هذه التوصيات تقلل كثيرًا من الفرص التي تتهيأ للتسوية الودية لهذه المسألة الهامة بين مصر وبريطانيا العظمى، ولذلك فإنها تدعو الحكومة المصرية إلى إعادة النظر في موقفها بغير إبطاء، وخلصت المذكرة إلى طلبات الحكومة البريطانية وهي :
(1)وجوب تمكين المفتش العام للجيش المصري (اللواء سبنكس باشا) من أن يؤدي في حرية وعلى الوجه المناسب اختصاصه كما تسلمها من اللواء هدلسن باشا في يناير سنة 1925، إذ هي لم تلغ قط، ولهذا الغرض يجب أن يمنح رتبة فريق مع المرتب المتناسب وواجباته، ويجب أن يعطي عقدًا على الأقل لمدة ثلاث سنوات في أول الأمر.
(2)إذا بقيت لجنة الضباط على شكلها الحاضر فيجب على وزير الحربية ألا يتأخر عن أن يرفع إلى صاحب الجلالة ملك مصر توصيات هذه اللجنة فيما يتعلق بالتعيينات والترقيات ومنح الأوسمة ومسائل النظام عامة.
(3)أن يعين ضابط بريطاني كبير برتبة لواء ليكون مساعدًا للمفتش العام ينوب عنه في غيابه، ويقوم بالأعمال التي يقوم بها المفتش العام نفسه، وهذا الضابط يحل محله في غيابه أو عندما يكون قائمًا بأعمال المفتش العام أقدم ضابط بريطاني يكون موجودًا.
(4)يجب أن تكون مصلحة الحدود (ومصلحة خفر السواحل إذا نفذ الإدماج الذي تقرر أخيراً) تحت إشراف المفتش العام البريطاني للجيش أو نائبه في غيابه، ويمكن بدلا من ذلك أن يكون المدير العام لهذه المصلحة ضابطا، بريطانيا كما كان الحال حتى إبريل سنة 1925.
(5) أن تظل المراكز التي يشغلها الآن ضباط أو رجال بريطانيون في المصالح التابعة لوزارة الحربية وكذلك في مصلحة خفر السواحل إذا أدمجت في مصلحة الحدود، محفوظة في أيد بريطانية، ولا ينبغي أن تمس اختصاصاتهم لا مباشرة ولا بالواسطة.
(6) وفيما يتعلق بالاختصاص القضائي تبقى الحالة الحاضرة على ما هي عليه في الجهات الداخلية في اختصاص مصلحة الحدود، أي يبقى النظام العرفي فيها.
وظاهر من هذه المذكرة أن الغرض منها استبقاء الإشراف البريطاني كاملا على الجيش المصري، كما كان في عهد الاحتلال والحماية.
واتخذت الأزمة شكلا حادا حين أذاعت أنباء لندن البرقية أن ثلاث بوارج بريطانية أمرت بالسفر من مالطه إلى المياه المصرية، ثم ألقى السير أوستن تشمبرلين وزير خارجية بريطانيا بيانا في مجلس العموم عن الأزمة قال فيه إن الحكومة البريطانية إنما تدخلت في هذه المسألة لأن فريقا من الساسة المصريين ذوي الكلمة النافذة أراد استعمال الجيش أداة معادية لإنجلترا، وأن الدليل على ذلك ما اقترحته اللجنة الحربية (الفرعية) لمجلس النواب من زيادة وحدات الجيش وأسلحته (تأمل !)، وأضاف إلى ذلك أن الحكومة البريطانية مستعدة لفتح باب المفاوضات في المسائل المعلقة. ولكن إلى أن يتم الاتفاق عليها يجب الاحتفاظ بأسباب الأمن في مصر، وأن الحكومة البريطانية قد تلقت تقارير من مصر بأن هناك سعياً يبذل للتحريض والهياج. وهذا هو ما أدى إلى إرسال البوارج الثلاث إلى مصر.
وقد جاءت هذه البوارج فعلا إلى ميناء الإسكندرية وبور سعيد. فكان لحضورها وقع أليم في النفوس.
وانتهت الأزمة بأن قررت الحكومة مد مدة خدمة سبنكس باشا المفتش العام للجيش. ومنحته رتبة فريق، وقبلت تعيين وكيل إنجليزي له وهو اللواء بالمر باشا. وعينت ضابطا إنجليز جدداً بالجيش.
واستبان من ملابسات هذه الأزمة أن إنجلترا لا تريد أن يكون لمصر جيش قوى يعول عليه في الدفاع عنها. وقد أفصح المحرر الحربي لجريدة الديلى تلغراف عن هذه النية بقوله : " إذ ما قبلت زيادة عدد الجيش المصري وجبت زيادة جيش الاحتلال. وإذا ما قبلت زيادة سلاح الجيش المصري وجبت زيادة سلاح الجيش المحتل ".
ولما عقدت معاهدة 26 أغسطس سنة 1936 حرصت بريطانيا على اشتراط أن تكون أسلحة الجيش المصري من بريه وجوية ومعداتها من طراز أسلحة القوات البريطانية، ومع إلغاء وظيفة المفتش العام للجيش المصري، فقد اشترطت إيجاد بعثة عسكرية بريطانية لاستكمال تدريب الجيش المصري " لمصلحة المحالفة التي تم عقدها " واشترطت " نظراًُ للظروف التي هيأتها هذه المعاهدة " أن لا توفد مصر إلى الخارج أحداً من أفراد قواتها المسلحة لتلقى دراسته في أي معهد أو وحدة من معاهد التدريب أو وحداته في غير بريطانيا.
واستطاع الإنجليز عن طريق هذه البعثة العسكرية أن يسيطروا وقتا ما على إدارة الجيش المصري، ووقفوا حجر عثرة في سبيل إنشاء المصانع الحربية في مصر، لكي يضمنوا أن تظل البلاد عاله عليهم في السلاح والذخيرة، وظلوا يسيطرون على الجيش، وساعدهم على هذه السيطرة أن فاروق كان يحرص على إخضاع الجيش لسلطانه، ولم يكن ينازع في أن يكون زمام الموقف آخر الأمر في يد السياسة البريطانية.
ولما دخل الجيش حرب فلسطين امتنعت بريطانيا عن تزويده بالسلاح والذخيرة، ونقصت عهدها مع مصر في أن تمده بحاجته منها، وكان هذا الامتناع من أسباب هزيمة الجيش في فلسطين.
فهذا التاريخ الذي وعاه الضباط وشاهدوا بعض حلقاته ومآسيه، قد ثبت في نفوسهم العقيدة بأن لاحتلال هو مصدر إضعاف الجيش المصري وتجريد مصر من القواة الحربية. وأن لا سبيل إلى إنشاء جيش قوي جدير بالمهمة الملقاة على عاتقه إلا إذا تحررت البلاد من الاحتلال، ومن فاروق معاً.
فما فعله الاحتلال في الجيش كان من أهم البواعث على ثورة 23 يوليو سنة 1952.
الأسباب الاقتصادية
كانت الحالة الاقتصادية في أوائل سنة 1952 مما يحفز النفوس إلى الانتقاض والثورة، والعمل على تحرير البلاد من عومل الفقر التي كانت تتراءى فيها.
حقاً إن البلاد قد خطت خطوات متوالية منذ الحرب العالمية الأولى في سبيل التقدم الاقتصادي، واطرد هذا التقدم، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتعددت المنشآت الصناعية وتقدمت تقدماً محسوساً، ولكن مصر كانت (ولم تزل) تعد من البلاد المتخلفة اقتصادياً.
وكان من مظاهر التخلف ظهور العجز في ميزانها التجاري، ومعنى ذلك أنها تستورد منالخارج أكثر مما تصدر إليه، وكانت زيادة الواردات على الصادرات بمثابة دين عليها للدول الأجنبية، وقد بلغ هذا العجز في السنوات السابقة على سنة 1952 الأرقام الآتية:
السنة | العجز |
---|---|
1946 | 14 مليون جنيه |
1947 | 12 مليون جنيه |
1948 | 30 مليون جنيه |
1949 | 40 مليون جنيه |
1950 | 38 مليون جنيه |
1951 | 39 مليون جنيه |
هذا إلى ما كان من سيطرة الاستعمار البريطاني والنفوذ الأجنبي عامة على حالة البلاد الاقتصادية والمالية، وكان هذا النفوذ يمتد أحياناً إلى المحيط السياسي، فيحرك من وراء ستار خطوط السياسة وأوضاعها وأزماتها، والحلول لهذه الأزمات.
ومن مظاهر سوء الحالة المالية ظهور عجز كبير في ميزانية الحكومة سنة 1951 – 1952 بلغ في أوائل يناير سنة 1952 نحو خمسة وعشرون مليون جنيه.
وكانت الغالبية العظمى من الشعب تشكو الفقر، وأبرز مظاهره انخفاض مستوى المعيشة بين الأهلين إذا قيس بمستوى البلاد الأخرى.
وقد قصر نظام الحكم عن توفير ما كان تحتاج إليه البلاد من زيادة ثروتها القومية. ومواجهة الزيادة المطردة في عدد السكان، وافتقار البلاد إلى آفاق جديدة تزيد.من الإنتاج القومي ومن دخل الأفراد.كتنمية الثروة الزراعية، وزيادة مساحة الأراضي المزروعة. وتنمية الثروة الحيوانية، وتحسين غذاء الشعب، وحماية أسعار الحاصلات الزراعية. وتحسين طرق المواصلات وزيادتها. وتنمية الثروة الصناعية. والتوسع الصناعي في مختلف النواحي. واستثمار الثروة المعدنية والبترولية، واستثمار الثروة المائية والنقل البحري، وفتح أسواق في الخارج للمنتجات المصرية من زراعية وصناعية، وتوسيع عمران المدن. ونشر الصناعات الريفية بين المزارعين وسكان القرى. ثم إحياء الصناعات الحربية.
فالنقص الذي بدا في هذه النواحي كان من شأنه أن يزيد من السخط والتذمر، والتطلع إلى تغيير شامل في نظام الحكم قد يساعد على إصلاح ما اعتل من شؤون البلاد الاقتصادية والمالية.
الأسباب الاجتماعية
كانت الحالة الاجتماعية تدعو أيضاً إلى الثورة، وأهم مظاهرها فقدان العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب.
إن العدالة الاجتماعية من مقومات المجتمع المتقدم، وأساسها أن تتحيف طبقة حقوق طبقة أخرى، وإن تقل الفوارق الشاسعة بين الطبقات، وأن تعمل الدولة على تحسين حالة الطبقات الفقيرة من الوجهة الاقتصادية والصحة والثقافية والأخلاقية، وبذلك يتحقق التضامن الاجتماعي بين أفردا الأمة، وتتمكن الروابط بين الطبقات، فتقوى الأمة في مجموعها وتزداد تكتلا ومناعة.
كان واجباً على الدولة أن تتدخل بين الطبقات لكي تقر العدل الاجتماعي بينها ن دون أن تحرم أي طبقة ثمرة نشاطها وجهودها، وهذا الواجب يقتضيه العدل والإنصاف. إذ لا يخفي أن ثراء أصحاب الأموال والملكيات الكبيرة لا يرجع إلى جهد أصحابها فحسب، بل يدخله إلى حد كبير جهد المجتمع ذاته، وطبقاته المختلفة، وأفراده العديدين المجهولين، فمن العدل أن ينال هذه الطبقات وهؤلاء الأفراد بعض ما يتمتع به الأثرياء، لأنهم لو استثمروا أموالهم في أرض بلقع جرداء خالية من حكومة منتظمة ومجتمع متعدد الطبقات، لما ربحوا شيئاً من هذا الثراء، وقديماً قال الشاعر :
الناس للناس من بدو ومن حضر
- بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
حقاً إن وجود فوارق في الثروة بين أبناء الأمة الواحدة أمر طبيعي ومشروع، ولكن الاتجاه الاجتماعي السليم يقتضي تقليل الفوارق الشاسعة بين طبقات الشعب، بقدر الإمكان، بشرط أن لا يضر ذلك بكيان المجتمع، لأن تقليل الفوارق بين الطبقات هو تحقيق لهدف تنشده الأمم الراقية، وهو المساواة بين أفرادها في الحقوق والمزايا والواجبات، ولا مراء في أن المساواة – على جانب الحرية – من دعائم الهيئة الاجتماعية المتقدمة.
كانت البلاد تشكو سوء توزيع ملكية الأراضي الزراعية، وإن سوء توزيع هذه الملكية في مصر ظاهر من إلقاء نظرة على عدد الملاك ومقدار ما يملكون، ونسبة صغار الملاك إلى كبارهم في مجموع هذه الأراضي، وهذا الإحصاء واضح مما يلي :
إن مساحة الأرض المنزرعة 5.962.662 فدان وكان مجموع ملاكها 2.760.661 مالكاً
فإذا نظرنا إلى الملكيات الصغيرة فإننا نجد أن :
1 – 1.459.167 مالكاً يملك كل منهم لغاية نصف فدان مجموع ملكياتهم 413.551 فدان.
2 – 522.162 مالكا يملك كل منهم أكثر من نصف فدان إلى فدان ومجموع ملكياتهم 356.695 فدان.
3 – 327.612 مالكا يملك كل منهم أكثر من فدان إلى فدانين ومجموع ملكياتهم 449.186 فدان.
4 – 153.293 مالكا يملك كل منهم أكثر من 2 لغاية 3 أفدنة ومجموع ملكياتهم 354.855 فدان.
5 – 81.366 مالكا يملك كل منهم أكثر من 3 لغاية 4 أفدنة ومجموع ملكياتهم 247.017 فدان.
6 – 56.589 مالكا يملك كل منهم أكثر من 4 لغاية 5 أفدنة ومجموع ملكياتهم 247.017 فدان.
ومعنى ذلك أن 280 مالكا يملكون 583.400 فدان ومجموع ملكياتهم 7% من الأراضي المنزرعة.
وأن 2.308.951 يملك كل منهم أكثر من فدانين ومجموع ملكياتهم 1.330.062 فدان أي أن 84% من الملاك يملكون 21% من الأرض.
وأن 2.600.199 مالكًا لا يملك كل منهم أكثر من خمسة أفدنة ومجموع ملكياتهم 2.101.276 أي أن 94% من الملاك يملكون 35% من الأرض وإذا نظرنا إلى الملكيات الكبرى فإننا نجد أن :
- 61 مالكًا كان يملك كل منهم أكثر من 2000 فدان ومجموع ملكياتهم 277.258 فدان.
- 28 مالكًا يملك كل منهم أكثر من 1500 فدان إلى 2000 فدان ومجموع ملكياتهم 97.454 فدان.
- 99 مالكًا يملك كل منهم أكثر من 1000 إلى 1500 فدان ومجموع ملكياتهم 122.216 فدان.
- 92 مالكًا يملك كل منهم أكثر من 800 فدان إلى 1000 فدان ومجموع ملكياتهم 86.483 فدان.
ومعنى ذلك أن 280 مالكًا يملكون 583.400 فدان.
أي أن 1 على 10.000 من الملاك يملكون حوالي 10% من الأرض وإذا نظرنا إلى الملكيات التي تزيد عن 200 فدان فإننا نجد أن :
2215 مالكًا يملكون 1.208.493 فدان.
أي أن 8 على 10.000 من الملاك يملكون 19% من الأرض.
وواضح من هذا البيان مبلغ سوء توزيع الملكية الزراعية، وهذا التوزيع السيئ جعل الغالبية العظمى من صغار الملاك الزراعيين يملك الواحد منهم نحو ربع فدان، وهو مقدار لا يكفي لسد حاجة هذه الطبقة من السكان، إذ لا يزيد دخل الفرد منهم في السنة عن مبلغ تافه لا يكفي للقوت الضروري للمالك وعائلته، أما غير الملاك وهم الغالبية العظمى من السكان فلا يجدون هم وعائلاتهم ما يكفي لقوتهم الضروري، لأنهم لا يملكون شيئًا، وهذا ولا ريب من أسباب انتشار الفقر في البلاد، خصوصًا إذا لوحظ أن الملكية تتفتت بالتوريث، فتهبط نسبة ملكية الفرد من هذه الطبقة تدريجًا على توالي السنين.
ذهب بعض المفكرين والباحثين إلى أن علاج هذه الحالة يكون باستصلاح الحكومة الأراضي البور وتوزيعها على صغار الملاك بأسعار وشروط سخية، وهذه الوسيلة مع نفعها لا يمكن أن تؤدي إلى علاج ناجع لحل مشكلة الفقر، لأنها محصورة في دائرة ضيقة لا تتجاوز بضع مئين. ومع الزمن بضع آلاف من الأفراد، في حين أن المشكلة تعم الملايين، ومن الواجب أن تعمل الدولة على خلق ملكيات صغيرة ومتوسطة في أوسع دائرة، لأن المجتمع يرقى بها ماديًّا وأدبيًا، وما لم تتسع رقعة الملكيات المتوسطة والصغيرة فإن مشكلة الفقر تبقى مضروبة على البلاد.
والعلاج الرئيسي لسوء توزيع الملكية الزراعية هو وضع حد لزيادة الملكيات الكبيرة، ووقف هذه الزيادة، فهو السبيل لنشر الملكيات الصغيرة، ثم إنه الوسيلة الفعالة لمنع استمرار الارتفاع في أسعار الأطيان، فإن تهافت كبار الملاك على زيادة ما يمتلكون من شأنه أن يرفع أسعار الأطيان ارتفاعًا لا يتناسب مع غلتها الحقيقية، وارتفاع أسعارها يؤدي إلى ارتفاع الإيجارات، وهذا يدعو إلى غلاء المعيشة، وبالتالي إلى ازدياد الضيق في البلاد، وعلاج هذه الحال يكون بتحويل إجباري لرؤوس الأموال من استثمارها في شراء الأطيان إلى استثمارها في الصناعة، ولا يتم ذلك إلا بتحديد نصاب الملكية الزراعية،وبذلك يتحول استثمار الأموال إلى الميادين الصناعية، فتزداد ثروة البلاد ويرتفع تبعًا لذلك مستوى المعيشة بين الأهلين. ومن مزايا هذا النظام أنه يساعد على انتشار التعاون الزراعي، لأن التعاون لا ينجح إلا في وسط ملكيات صغيرة أو متوسطة، وقلما يلقى نجاحًا بين أصحاب الملكيات الكبيرة، لأنهم ليسوا في حاجة إليه، ولا جدال في أن التعاون هو من الوسائل الناجعة للتقدم الاجتماعي والاقتصادي.
وقد يعترض بعضهم على تخصيص الملكية الزراعية بالتحديد دون الملكية الصناعية والتجارية مثلاً، وتيساءلون إذا كان مبدأ تحديد الملكية عادلاً فلماذا لا يطبق على الصناعة والتجارة؟
والرد على ذلك أن الصناعة الحديثة تقوم على الإنتاج الكبير، بخلاف الزراعة فإنها تجود في الملكيات المتوسطة التي يباشر أصحابها زراعتها بأنفسهم أكثر مما تجود في الملكيات الكبيرة، فالإنتاج القومي يزداد كلما كثرت الملكيات المتوسطة والصغيرة، على أن لا تتفتت هذه إلى الدرجة التي ترادف الفقر، بخلاف الإنتاج الصناعي، فإنه ينمو كلما اتسع مداه وزادت رؤوس أمواله، وتوحدت إدارته، اعتبر ذلك في المصانع الكبرى، وقارن بين إنتاجها وإنتاج المصانع الصغيرة أو الصنائع اليدوية، فإنك ولا شك تجد أن الإنتاج يتضاعف في ظل الإنتاج الصناعي الكبير.
لذلك لا يكون من مصلحة الإنتاج القومي ولا من العدل الاجتماعي تفتيت الملكية في الصناعة، وكذلك الشأن في التجارة وبخاصة التجارة الخارجية، وهذا هو الفارق بين الزراعة والصناعة أو التجارة. هذا إلى أن الأساس الاقتصادي السليم للحياة الزراعية أن الزراعة يجب أن تكون وسيلة للعيش الرغد، لا وسيلة لاستغلال المال، وإذا زادت رقعة الأرض عن حد معين انقلبت وسيلة الاستغلال المال تؤدي إلى استبعاد الزراع، وهذا ما لا ينبغي أن يكون.
ولكن السعي إلى تحديد الملكية الزراعية قد باء بالفشل في عهد النظام الملكي، وكانت كل محاولة من هذا القبيل مقضيًا عليها بالإخفاق، لأن النظام الملكي وخاصة إذا اقترن بالاستبداد والاعتساف كما كان في مصر يتعارض والعدل الاجتماعي.
لقد بُذلت في سنة 1945 محاولة تشريعية لتحديد الملكية الزراعية، ولكنها انتهت بالإخفاق، ففي تلك السنة تقدم المرحوم محمد خطاب إلى مجلس الشيوخ –وكان عضوًا فيه- بمشروع متواضع في تحديد نصاب الملكية الزراعية، وأحيل إلى المشروع إلى لجنة الشئون الاجتماعية بالمجلس، وانتهت إلى إقراره في وضع مخفف يقضي بعدم جواز زيادة ملكية الفرد على مائة فدان مما يدفع عنه أعلى ضريبة أو أرضًا زراعية يدفع عنها مثل هذا القدر من الضرائب، ونص المشروع على عدم سريان القانون على الملاك الموجودين وقت صدوره، ولا على ورثتهم.
ومع أن المشروع كما ترى لم يكن يسري على الماضي، فإنه لقى معارضة شديدة في مجلس الشيوخ، إذا عارضته أغلبية أعضائه، وكان معظمهم من كبار الملاك، كما عارضته الحكومة، فقرر المجلس رفضه بجلسة 16 يونيه سنة 1947.
وقد قلت في سنة 1949 تعقيبًا على هذا الرفض في الجزء الثاني من كتاب (في أعقاب الثورة) : "ومن يومئذ كتب على هذا المشروع أن لا يرى حتى الآن وجه النهار، ولعل الزمن كفيل ببعثه من جديد، في يوم غير بعيد".
ولم يكن هذا اليوم منتظرًا ولا ممكنًا والنظام الملكي قائم يتولاه فاروق، فكان لابد من ثورة لتحديد الملكية الزراعية.
فحالة البلاد الاجتماعية كان لها من هذه الناحية دخل كبير في قيام الثورة.
من أجل ذلك كان أول هدف اجتماعي حققته ثورة 23 يوليو بعد قيامها هو تحديد الملكية الزراعية، وصدر بذلك قانون الإصلاح الزراعي في 9 سبتمبر سنة 1952 الذي قضى بتحديد نصاب الملكية الزراعية للشخص الواحد بمائتي فدان، وجعله ساريًا على جميع الملاك الموجودين وقت صدوره.
الفصل الخامس: فاروق يمهد للثورة
إن كل الدلائل والمقومات تنبئ بأن فاروقا كان يمهد لثورة 23 يوليو 1952، فإن تاريخه في الملك كان يتطور يومًا بعد يوم إلى حيث يجعل هذه الثورة أمرًا محتومًا، وتصرفاته، وخاصة في أواخر عهده، كانت تدفع الشعب والجيش إلى الثورة دفعًا.
وقد انتهى حكمه في 26 يوليه سنة 1952، على يد الثورة، فمن واجبنا أن نؤرخ له، كما أرخنا لأبيه الملك أحمد فؤاد من قبل ، ونبين كيف أن تاريخه كان تمهيدًا للثورة.
نشأته الأولى
ولد فاروق في 11 فبراير سنة 1920، وهو ابن الملك أحمد فؤاد من زوجته الملكة السابقة نازلي صبري بنت عبد الرحيم صبري باشا.
وبدا في ملابسات ولادته وولايته للعهد مبلغ التدخل البريطاني في شئون مصر الداخلية، وسيطرته عليها، فقد اجتمع مجلس الوزراء عندما بلغه نبأ مولده، وقرر إبلاغ النبأ إلى المديرين والمحافظين؛ ثم إلى المندوب السامي البريطاني (اللورد اللنبي)، وإلى وزارة الخارجية البريطانية.
وكان الولاء للاستعمار البريطاني هو الذي أملى على مجلس الوزراء هذا القرار الشاذ. إذ بلغ نبأ مولد فاروق إلى المندوب السامي البريطاني وحده دون معتمدي الدول الأجنبية، ثم إلى وزارة خارجية بريطانيا دون غيرها من الدول.
وفي الوقت الذي أحيط به مولد فاروق بهذه المظاهر الاستعمارية المهينة، المنافية للكرامة القومية، فإن الولاء للاستعمار جعل السلطان (الملك) فؤاد والوزراء يجمحون عن المناداة بفاروق وليًّا للعهد، انتظارًا لصدور الأمر بذلك من لندن!
وانتهذت الحكومة البريطانية من ناحيتها فرصة مولد فاروق، وأرادت أن تعلن عن مظهر من مظاهر الحماية بتدخلها في تقرير وراثة العرش، إذ لم يكن قد بدت بعد في أمر ولاية العهد في ظل الحماية البريطانية، وإذ رأت أن السلطان (الملك) فؤاد لم يعلن تلقيب ابنه وليًّا للعهد، وذلك في خطاب بعث به اللورد اللنبي إلى السلطان فؤاد في 16 إبريل سنة 1920 هذا نصه :
"دار الحماية في 15 إبريل سنة 1920
"يا صاحب العظمة إن الحادث السعيد الجديد ألا وهو ميلاد نجل لعظمتكم قد دعا حكومة جلالة الملك إلى النظر في نظام وراثة السلطنة المصرية، وعليه فقد أمرت من لدن جلالة الملك بأن أبلغ عظمتكم الاعتراف بنجل عظمتكم الأمير فاروق ونسله من الذكور على قاعدة الأكبر من الأولاد فالأكبر من أولاده وهكذا، وإن لم يوجد فيمن يولد لعظمتكم من الذكور ومن يتناسل منهم من الذكور على نفس تلك القاعدة كأولياء عهد لعظمتكم في حق تقلد السلطنة المصرية.
"وإني مع تقديمي التهاني لعظمتكم بهذه المناسبة السعيدة أسمح لنفسي بانتهاز هذه الفرصة للإعراب عن اعتقادي الخالص بأن المحافظة على العلاقات الودية التي تقتضيها مصالح بريطانيا العظمى ومصر ستكون دائمًا محل اهتمام عظمتكم ومن يخلفكم من السلاطين.
"ولي الشرف بأن أكون على الدوام لعظمتكم بكل احترام وإخلاص".
القاهرة في 15 إبريل سنة 1920. "اللنبي فيلد مارشال".
وقد أرسل السلطان فؤاد إلى الملك جورج الخامس برقية شكر على هذا البلاغ، قال :
"القاهرة في 16 إبريل سنة 1920.
"صاحب الجلالة الملك – لندرة
"أرجو جلالتكم التفضل بقبول فائق تشكراتي على البلاغ الذي قدمه إليّ اليوم بأمر جلالتكم الفيكونت اللنبي نائب جلالتكم بمصر بحصول الاعتراف بنجلي الأمير فاروق ونسله من الذكور على قاعدة الأكبر من الأولاد فالأكبر من أولاده، وهكذا، وإن لم يوجد فيمن يولد لي من الذكور ومن يتناسل منهم من الذكور على نفس تلك القاعدة كأولياء عهد لي في حق تقلد السلطنة، وإني أنتهز هذه الفرصة لأؤكد لجلالتكم أن المحافظة على العلاقات الودية التي تقتضيها مصالح بريطانيا العظمى ومصر ستكون دائمًا محل اهتمامي، وأعتقد بأنني سأستطيع دائمًا الاعتماد على معاضدة جلالتكم الثمينة وجميل صداقتكم".
"فؤاد"
فرد عليه الملك جورج ببرقية وجيزة، أعرب فيها عن سروره لبرقية السلطان، قال :
إلى عظمة السلطان
"قرأت مع خالص السرور برقية عظمتكم، وأني أؤكد لعظمتكم اهتمامي وتأييدي لكل ما يعود على مصر بتوفير أسباب السعادة، كما أني أؤكد صادق ما أتمناه شخصيًّا لذات عظمتكم ولأسرتكم من العز والهناء".
"جورج"
ولا يخفى أن صدور نظام وراثة العرش عن دولة أجنبية، هو من أخص مظاهر الحماية، بل هو التبعية بعينها، فكأن الحكومة البريطانية أرادت أن تسجل هذا المظهر في وثيقة رسمية، وكان هذا الوضع شاذًا، ومنافيًا للاستقلال، بل هادمًا للسيادة القومية، والكرامة الوطنية، وكانت البرقيتان اللتان تبادلهما السلطان فؤاد والملك جورج الخامس أدل على هذه المعاني، وإنك لتلمح من رد الملك جورج مبلغ الزراية والاستحفاف، وانتحال صفات جديدة للتدخل في شؤون مصر، وفي الحق إن هذه الوثائق الثلاث ليست مما يشرف التاريخ القومي.
احتجاج الحزب الوطني
وقد احتج الحزب الوطني على التدخل البريطاني في وراثة العرش، وأصدر قرارًا بهذا الاحتجاج لم يستطع نشره في الصحف، فوزعه في نشرات خاصة مطبوعة، وأبلغه إلى معتمدي الدول في مصر، في خطاب قال فيه :
"أتشرف بأن أرفع لجنابكم القرار الذي أصدرته اللجنة الإدارية للحزب الوطني المصري راجيًا إبلاغه إلى حكومتكم الجليلة خدمة لحقوق الأمة المصرية السياسية، وهذا نصه :
"لقد نشرت "الوقائع المصرية"، وهي الصحيفة الرسمية للحكومة في عددها الصادر في 17 إبريل سنة 1920 خطابًا من الجنرال اللنبي مؤرخًا في 15 في الشهر الماضي خاصًا بولاية عهد الحكومة المصرية، ثم أصدرت الحكومة منشورًا إلى موظفها وأعلنت لهم فيه النبأ الخاص بولاية عهد مصر وطلبت إليهم التوقيع عليه اعترافًا للعلم بمدلوله، وبما أن مسألة عرش مصر وما يتعلق به هي من المسائل الخاصة بالأمة المصرية وحدها دون غيرها، وبما أن إقدام الحكومة البريطانية على التدخل في شؤون مصر الخاصة في الوقت الذي تعمل فيه الأمة المصرية جميعًا على استرداد استقلالها التام باذلة في سبيل ذلك كل جهودها المشروعة بعد اعتداء صريحًا على أحكام القانون الدولي من جهة وعلى مبادئ حرية الشعوب وحقوق الأمم الطبيعية من جهة أخرى، وبما أن الوسائل التي تتخذها الحكومة البريطانية في تنفيذ أغراضها السياسية إزاء مصر قائمة على سلطان قوتها وعلى الأحكام العرفية المعلنة منها، فإن جميع الأعمال الناتجة عنها تعتبر بغير شك غير مشروعة ولا جائزة لأن الأمة وحدها هي المالكة للتصرف في جمع حقوقها السياسية، وبما أن الأمة المصرية لا تزال ولن تزال متمسكة بحقوقها المقدسة وأنها لا تعترف لإنكلترا بمركز خاص في مصر ينحو لهل أي حق أو أية صفة للتدخل في شؤون البلاد السياسية سواء كانت بخصوص العرش أو الوراثة أو غيره، وكذلك بما أن الأمة المصرية لا تزال تعمل على تحقيق مبدئها القاضي باستقلال مصر التام مع سودانها وملحقاتهما استقلالا غير مشوب باحتلال أو حماية أو وصاية أو أي تدخل أجنبي.
" فاللجنة الإدارية للحزب الوطني ترى من واجبها عدم السكوت على كل عمل سياسي يراد به الافتئات على حقوق البلاد كلها أو بعضها، لذلك قررت بالإجماع :
(أولا) الاحتجاج بشدة على جميع هذه الأعمال وما يماثلها.
(ثانياً) تبليغ وكلاء الدول الأجنبية وقناصلها العاملين الممثلين لها في مصر هذا القرارلإبلاغة إلى حكوماتهم.
وتفضلوا ألخ "
"وكيل الحزب الوطني، - علي فهمي كامل "
وتلك كانت أول مرة (وآخر مرة) يعين فيها ولي عهد الدولة المصرية بقرار من الحكومة البريطانية.
وليس من قبيل المصادفات المحض أن هذا الذي عين وليا للعهد بإرادة بريطانيا هو الذي خلع من العرش في 26يوليه سنة 1952 بإرادة الشعب المصري، لأنة ولا ريب كان يشعر في خاصة نفسه أنه مدين بمركزه لبريطانيا، ولعل هذا الشعور من الأسباب التي ظهر أثرها في نفسه على مر الزمن وباعدت بينه وبين الشعب.
تربيته وتعليمه
لم يجد فاروق منذ نشأته تربية طيبة صالحة، ولا تلقى تعليما صحيحاً نافعاً، فقد كانت تربيته في السراى، بين الخدم والحاشية الذين كانوا يحيطونه بمظاهر الملق والتعظيم والتأليه، فنشأ في بيئة بعثت فيه نزعة التعالي على الشعب.
هذا إلى أن والده الملك فؤاد كان يشرف بنفسه على تربيته، وكان يغرس في نفسه هذه النزعة التي كانت منهاجه منذ تولي العرش، إذ لم يكن قط ملكا ديمقراطيا.
وكان لفاروق مدرسون خصوصيون يتناوبون تعليمه في السراي، وكان تعليما سطحيا ناقصاً.
وفي أكتوبر سنة 1935 أرسله أبوه إلى إنجلترا ليتم تعليمه بها، وأدخله كلية وولوتش الحربية بلندن، وأسكنه وحاشيته قصراً فخماً عرف بقصر كنري هاوس بضواحي لندن.
وكان رائداه في هذه الرحلة القصيرة من التعليم الفريق عزيز المصري وأحمد محمد حسنين.
كان عزيز المصري يحاول أن ينشيء فاروق النشأة الأخلاقية الفاضلة البعيدة عن الرذائل، ولكن أحمد حسنين كان على العكس يتملق غرائز الأمير الشاب، ويحبب إليه حياة الانطلاق الذي لا يحده قيد من فضيلة أو خلق طيب، وعلى يده عرف فاروق مزالق الهوى والعبث في لندن، وهو بعد في تلك السن المبكرة، واشترك معه في هذا التوجيه السيء الضابط عمر فتحي (الفريق فيما بعد) وكان في حاشية فاروق.
ولم يلبث عزيز المصري أن ضاق ذرعا بانحراف فاروق وإعرضه عن نصائحه، فأبت كرامته أن يستمر في مهمته، وخاصة بعد أن وقف له أحمد حسنين وعمر فتحي بالمرصاد وأوغرا عليه صدر فاروق، فتركه يستحوذان عليه ويسيران به في مهاوي الانحراف والرذيلة.
ولم يقم في إنجلترا إلا سبعة أشهر، إذ غادرها عقب وفاة والده.
ولايته الملك
توفي الملك أحمد فؤاد في 28 إبريل سنة 1936، وفي اليوم نفسه نودي بفاروق ملكا لمصر، وكان لما يزل في إنجلترا، فلما بلغه نعى والده حضر إلى مصر على عجل، فبلغ العاصمة يوم 6 مايو سنة 1936 وهو في بداية السابعة عشر من عمره،وكانت وزارة علي ماهر الأولى تتولى الحكم منذ أواخر عهد الملك فؤاد، وإذ كان فاروق لم يبلغ بعد سن الرشد، فقد أصدر مجلس الوزراء بيانا بتولي هذا المجلس سلطات الملك الدستورية باسم الأمة المصرية إلى أن يسلم مقاليدها إلى مجلس الوصاية على العرش.
وتولى مجلس الوصاية هذه السلطات إلى أن أتم فاروق ثمانية عشر عاما هجرية وميلادية 29 يوليه سنة 1937، فتولى سلطاته الدستورية من ذلك اليوم.
وحينما تولى الملك كان الشعب يؤمل فيه الخير، ويتفاءل به تفاؤلا كبيراً، وقد استقبله من يوم نزوله إلى الإسكندرية حتى وصوله إلى العاصمة ثم إلى قصر عابدين، بأعظم مظاهر الفرح والأمل الفياض، وابتهج بتبوئه العرش ابتهاجا شديداً، وقلما وجد ملك شاب من عطف الشعب ومحبته مثلما وجد فاروق من الشعب المصري حين تبوأ العرش.
زواجه الأول
وفي 20 يناير سنة 1938 تزوج للمرة الأولى بالآنسة صافيناز (الملكة السابقة فريدة) كريمة يوسف ذوالفقار وكيل محكمة الاستئناف المختلطة وقتئذ.
وبدا زواجه المبكر دليلا – على الأقل في الظاهر – على اعتزامه سلوك سبيل الاستقامة في حياته الخاصة، وهذا ما حببه إلى الشعب.
كان هذا الاختيار في الزواج اختيارًا موفقًا، فإن شخصية الملكة فريدة، وما اتصفت به من الاستقامة والفضائل، جعلها موضع التقدير والعطف من الشعب، وقد رزق منها فاروق ببنات ثلاث هن فريال وفوزية وفادية.
على أن هذه الحياة الزوجية لم تلبث مع الزمن أن تصدعت، بما لمحته الملكة فريدة من انحراف فاروق إلى مهاوي الرذيلة والفساد، واتصاله بالعشيقات والخليلات، واحدة تلو أخرى، ولم يتستر في فساده، بل بدا عليه الجهر به وعدم المبالاة بالتقاليد الاجتماعية والأخلاقية، وبلغ به الاستهتار أن اتخذ من القصور الملكية موطنًا لفساده ونزواته.
وشهدت الملكة فريدة عن كثب بعض هذه المظاهر الآثمة، وكظمت غيظها، مراعاة لسمعة الملك، وإبقاءً على حياة الزوجية، وصبرت طويلاً على ذلك كله، حتى طفح الكيل، ولم يبق في قوس الصبر منزع، فانفصمت عرى الزوجية بينهما بالطلاق في 17 سنة 1948.
وكان هذا الطلاق وما استفاض من مقدماته وملابساته، من الأسباب التي غضت من مكانة فاروق عند الشعب، وجعلت الألسنة تلوك أنباء استهتاره وفساده، وكانت هذه الأنباء تتردد بين الناس، وهم بين مصدق لها ومكذب، فجاء الطلاق مثبتًا صدقها.
زواجه الثاني
وظل فاروق عزبًا عدة سنين، زاد فيها مجونه وفساده، ثم تزوج للمرة الثانية في 6 مايو سنة 1951 من الآنسة ناريمان كريمة حسين فهمي صادق سكرتير عام وزارة المواصلات.
وكان زواجه بها أشبه بحادثة من حوادث خطف النساء التي تروى عن الملوك والأمراء في القرون الوسطى، ذلك أنه اختارها زوجة له على الرغم من أنها كانت مخطوبة للدكتور محمد زكي هاشم (المندوب وقتئذ بمجلس الدولة)، وقد حدد اليوم الذي فيه الزواج، وأرسلا بطاقات الدعوة لحضور قرانهما.
ولكن فاروق رأى الآنسة في دكان أحمد نجيب الجواهرجي تاجر المجوهرات، ولعل هناك ترتيبًا قد اتخذ ليراها في هذا المكان، فأعجبته، فاعتزم الزواج بها، مع علمه أنها مخطوبة لغيره، وقد أمرها وأمر والديها بفسخ الخطبة ورد دبلة الخطوبة وقطع صلتها بخطيبها، وأعلن فاروق بعد ذلك أنه سيخطبها. ولما ترامت أنباء هذه الحادثة، كاد الناس لا يصدقونها لغرابتها وما انطوت عليه من دلائل الخطف والغصب، ومجافاتها للإنسانية والأخلاق الحميدة.
ولكن لم تكد تمضي عدة أشهر حتى أعلن القصر نبأ "الخطبة الملكية" خطبة فاروق لناريمان صادق في 11 فبراير سنة 1951، ثم عقد زواجه بها في 6 مايو سنة 1951.
فاروق في الحكم
لم يقدر فاروق حب الشعب وعطفه وابتهاجه بولايته الملك، وتحركت في نفسه مع الزمن نزعة الحكم المطلق، ودلت الدلائل على أنه لم يكن مؤمنًا بالدستور ولا بحقوق الشعب عامة.
وبالرغم من أنه حين تولى سلطاته الدستورية قد أقسم اليمين على احترام الدستور، فإنه لم يبر بهذه اليمين، وخرج على احترام الدستور، فإنه لم يبر بهذه اليمين، وخرج على أحكامه المرة بعد المرة.
كان نزوعًا إلى الاستبداد، ولوعًا بالطغيان، ولعله ورث هذه النزعة عن أبيه الملك فؤاد، وعن أسلافه من قبل.
وقد شجعه على تجاهل حقوق الشعب كبار رجل القصر الذين كان يختارهم لمعاونته، وخاصة رؤساء الديوان الملكي، فإنهم كانوا يزينون له الحكم المطلق والعدوان على الدستور.
كان علي ماهر أول رئيس للديوان في عهده، اختاره لهذا المنصب في 20 أكتوبر سنة 1937 في عهد وزارة مصطفى النحاس.
ولم يكد يمضي عهلى تعيينه شهران حتى أقيلت هذه الوزارة في 30 ديسمبر سنة 1937، وكانت حائزة ثقة البرلمان.
حقًا إن إقالة الوزارة من حق رئيس الدولة بمقتضى الدستور، وحقًا إن مساوئ وزارة الوفد قد تعددت في ذلك العهد، ولكن لم يكن علاج هذه المساوئ عن طريق الإقالة، بل العلاج السليم أن يجيء إسقاط الوزارة من طريق الشعب.
على أن فاروق لم يكن ينبغي من إقالة وزارة النحاس إصلاح أداة الحكم، بل كان ينبغي أن يكون حاكمًا مطلقًا فحسب، يقيم الوزارات ويسقطها كيفما شاء، وبدا عليه الطغيان وهو بعد في سن الشباب.
يدل على ذلك أن المشادة التي وقعت بينه وبين وزارة النحاس وأفضت إلى إقالتها دارت على أمور كانت قد حُل معظمها في عهد وزارة سعد زغلول سنة 1924، أي في عهد الملك فؤاد، وبدا على فاروق أنه لا يرتضي الحلول التي قبلها أبوه وقتًا ما من قبل، وأراد أن يعيد الكرة فيما زعم أنه من حقوق الملك، كتعيين الأعضاء المعينين في مجلس الشيوخ، ورفض توقيع مشروعات القوانين التي تقدم إلى البرلمان، وتعيين كبار الموظفين وإحالتهم إلى المعاش، ومنح الرتب والنياشين، وتعيين كبار موظفين القصر، فهذه المسائل التي سلم الملك فؤاد بأنها من حقوق الوزارة، أراد فاروق أن تكون ن حقه هو، ولعله استند إلى أن أباه قد رجع هو أيضًا فيما سلم به سنة 1924.
وبالرغم من أن فاروق كان قليل الدراية بالفقه الدستوري، بل كان يجهله جهلاً تامًا، فإنه استمع إلى نصائح علي ماهر في تمسكه بما ليس من حقه، وافتياته على حقوق الشعب، وزين له أن الأساس الصالح لنظام الحكم هو أن الملك يملك ويحكم، خلافًا للقاعدة الدستورية الصحيحة وهي أن الملك يملك ولا يحكم.
ولما عين محمد كامل البنداري وكيلاً للديوان الملكي في مايو 1938، كان هو أيضًا من الذين أدخلوا في روع فاروق أن الأمر والنهي والحكم والسلطان في يديه، وليس لأحد أن يشاركه فيه، وهو الذي أجرى على لسانه تلك الكلمة المعبرة عن أسوأ معاني الحكم، والتي ألقاها الملك يوم 20 فبراير سنة 1939 عن طريق الإذاعة في تحية العام الهجري الجديد (1358هـ) وقال فيها :
"إنني مع إعجابي العظيم بوالدي، طيب الله ثراه وتغمده برحمته، قد أكون خالفته في بعض أطباعه، ولكني أؤكد أنني قد احتفظت بأبرز هذه الطباع، فأنا مثله لا يستطيع أن يؤثر في أحد إذا تبينت صواب أمر واعتقدت بعد تقليب وجوه الرأي أنه في صالح شعبي أفرادًا وجماعات، وإن ثقتي في نفسي وتوكلي على الله هو الذي يلهمني تصريف الأمور يوجهني الوجهة التي أختارها".
فهذا الكلام الذي يلقيه ملك شاب لم يكن يجاوز التاسعة عشرة من عمره ولم يمض على ولايته الملك عامان، يرسم اتجاهًا خطيرًا نحو التعالي والغرور والطغيان، وكان البنداري هو الذي أعد له هذه الكلمة، إذ كان المستشار السياسي الأول للسراي في غيبة علي ماهر (رئيس الديوان) بلندن وقتئذ لحضور مؤتمر فلسطين.
فعلي ماهر، ومحمد كامل البنداري، يحملان التبعية الأولى في جنوح فاروق إلى الحكم المطلق، وطغيانه، وعبثه بحقوق الشعب.
ويأتي من بعدهما أحمد محمد حسنين، فقد عينه فاروق رئيسًا للديوان الملكي في يوليه سنة 1940، وكان هذا المنصب شاغرًا منذ أن اعتزله علي ماهر عقب تأليف وزارته الثانية في أغسطس سنة 1939، فلما استقالت هذه الوزارة في يونيه 1940 وقع اختيار الملك على أحمد محمد حسنين، وكان الأمين الأول له في القصر، فجعله رئيسًا للديوان، وظل يشغله إلى أن توفي سنة 1946، وكان هو أيضًا يحرض فاروقا على الاستعلاء على الشعب، والعدوان على الدستور.
فهؤلاء الثلاثة : علي ماهر، محمد كامل البنداري، أحمد محمد حسنين، يتقاسمون التبعة في دفع الملك إلى الحكم المطلق.
ومهما يكن من نزعة فاروق الوراثية إلى هذا النوع من الحكم، فإنهم ولا ريب بحكم مراكزهم واتصالهم به كان في استطاعتهم أن يبصروه بعواقب استهانته بالدستور، ويردوه إلى السبيل الحق، ولكنهم هم أنفسهم كانوا يؤيدون في خاصة أنفسهم هذه النزعة، كما يدل على ذلك تاريخهم، ولم يكونوا مؤمنين بالمبدأ الأساسي في الحياة السياسية الحرة وهو أن (الأمة مصدر السلطات) بل كانوا يؤثرون عليه أن (الملك هو مصدر السلطات) فكانوا يزينون له ما يتفق مع ميولهم وأهوائهم.
وقد استبانت مظاهر الحكم المطلق، في إقالة وزارة النحاس، ثم في مسلك فاروق حيال الوزارة التي خلفتها، وهي وزارة محمد محمود التي اختارها هو، فقد قررت هذه الوزارة حل مجلس النواب وأجرت انتخابات جديدة أسفرت عن أغلبية غير وفدية.
فلم يكترث الملك لمجلس النواب الجديد، وبدا كأنه لم يعترف له بوجود، ولما أراد محمد محمود أن يدخل في وزارته تعديلاً يتناسب مع نتيجة الانتخابات، رفض الملك طلبه، وبقيت الوزارة كما ألفت يوم إقالة وزارة الوفد، كأن لم تحصل انتخابات، وعَلَت كلمة رئيس الديوان (علي ماهر) على كلمة رئيس الوزارة، وتداعى النظام الدستوري نفسه، بأن فرض علي محمد محمود أن يستقيل في أغسطس سنة 1939 وهو حائز لثقة مجلس النواب الجديد، وكانت استقالته تشبه الإقالة، فقد جاءت على أثر مقابلة جرت بينه وبين سعيد ذو الفقار كبير أمناء فاروق. إذ قابله في فندق وندسور بالإسكندرية، وأفضى إليه برغبة الملك في استقالته، وكان هذا هو موضوع المقابلة، فلم ير محمد محمود بدًّا من الاستقالة، وقد جاءت مفاجأة له ولمجلس النواب، إذ كان حائزًا لثقته! ولكنه الحكم المطلق أملى على فاروق تنحية الوزارة الحائزة لثقة نواب الأمة، وجاء برئيس لديوان (علي ماهر) وعينه رئيسًا للوزارة، وتجلى انهيار النظام البرلماني إذ تولى رياسة الوزارة بعد علي ماهر ثلاثة رؤساء ليسوا من حزب الغالبية البرلمانية القائمة وقتئذ. ولم يكن لمجلس النواب ولا لمجلس الشيوخ رأي في قيام الوزارات وسقوطها أو تعديلها، بل كانت الأزمات الوزارية تنشأ وتنتهي وتعدل الوزارة وتستقيل وتعين الوزارة التي تخلفها دون أي دخل أو اتجاه للبرلمان، وكان البرلمان يفاجأ بالتعديل أو السقوط، ويذعن لكل وضع تريده السراي، وذلك كله من علامات الحكم المطلق الذي جعله فاروق أساسه لحكمه وطغيانه.
ولقد أفلت الزمام وقتًا ما من يده خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك يوم 4 فبراير سنة 1942 عقب استقالة وزارة حسين سري، إذ حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين في هذا اليوم المشهود، وأنذر السفير البريطاني (اللورد كيلرن) الملك بتعيين مصطفى النحاس رئيسًا للوزارة، فسلم بالإنذار البريطاني، وعهد إلى النحاس أن يؤلف الوزارة، وكان هذا على الرغم منه.
وعلى أنه ما فتئ يسعى بعد 4 فبراير سنة 1942 في إعادة الصفاء بينه وبين الإنجليز، فنجح في هذا السعي، وكان من مظاهر الود والصفاء أن أنعم عليه برتبة (جنرال فخري في الجيش البريطاني)، وكان يتباهى بهذه الرتبة واعتبرها ترضية كافية عن محاصرة الدبابات البريطانية لقصر عابدين يوم 4 فبراير سنة 1942.
وفي إبريل سنة 1950 أقام في قصر بإنشاص مأدبة كبيرة لقائد القوات البريطانية في منطقة قناة السويس وكبار الضباط البريطانيين في هذه المنطقة، وبلغ عدد المدعوين منهم نحو تسعين ضابطًا كبيرًا يمثلون مختلف الأسلحة في جيش الاحتلال، فكانت مأدبة مهينة، جرحت الكرامة القومية، إذ كرم الملك فيها قائد جيش الاحتلال وضباطه في الوقت الذي كانت البلاد تغلي فيه كالقدر في نضالها ضد الاحتلال.
ولقد ظلت وزارة النحاس مفروضة عليه منذ فبراير سنة 1942 حتى أكتوبر سنة 1944، وكان يبغي إسقاطها، لأنه لم يكن يطيق أن يرى وزارة تستقر في الحكم مدة طويلة، واعتزم فعلاً إقالتها في إبريل سنة 1944 وإسناد رياسة الوزارة الجديدة إلى أحمد محمد حسنين رئيس ديوانه، وما أن علم السفير البريطاني بهذا الاتجاه حتى رجع إلى حكومته يستوضحها رأيها في هذا التغيير، فجاءه الرد ببرقية لا تزيد على كلمة (لا تغيير) No Change، فأذعن الملك لهذه البرقية الآمرة، وأبقى على الوزارة رغم أنفه.
وكان الأجدر به أن يذعن لإرادة الشعب، ويستجيب إلى اتجاهاته في قيام الوزارات وسقوطها، بدلاً من أن يذعن لبرقية تأتيه من الحكومة البريطانية، ولكنه كان ينحو نحو والده الملك فؤاد في تخاذله أمام الاحتلال، وتحيّفه حقوق الشعب.
ومن مظاهر استعلائه على الشعب وعلى الدستور أنه حين استقبل في سنة 1944 لجنة مجلس النواب الرد على خطاب العرش لاحظ أن رئيس المجلس (عبد السلام فهمي جمعة) تناول في كلمته التي ألقاها أمامه الحديث عن إرادة الشعب، وحاجات الشعب، فضاق فاروق صدرًا بالاستماع إلى هذا الحديث، وصاح قائلاً : "اسمع يا باشا، إرادة الشعب من إرادتي أنا"، فدل بهذه الكلمة علىمبلغ غروره واستهانته بحقوق الشعب.
هذا، ولم تكد الحرب العالمية الثانية تقترب من نهايتها ويخف تدخل الإنجليز في اختيار الوزارات، حتى عاجل وزارة النحاس بالإقالة في 8 أكتوبر سنة 1944، وعين في اليوم نفسه أحمد ماهر رئيسًا للوزارة الجديدة، وحل هذا مجلس النواب الوفدي، وأجرى انتخابات جديدة أسفرت عن أغلبية غير وفدية، ومع ذلك لم يلزم فاروق حدوده الدستورية بل استمر يعبث بالدستور ويتدخل في شئون الحكم ويملي إرادته في كبير الأمور وصغيرها.
وبدأ استعلاؤه على وزارة أحمد ماهر ونزعته إلى الطغيان حين جاء المستر فرنكلن روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأسبق إلى مصر في فبراير سنة 1945 بعد عودته من مؤتمر القرم الذي عقد في مدينة (يالتا)، وأبدى رغبته في الاجتماع بفاروق على ظهر الطراد الذي كان يقله ورسا في مياه البحيرات المرة، على مقربة من مدينة الإسماعيلية، ومع أن هذه المقابلة كانت سياسية هامة ترتبط بسياسة مصر العليا، وتناول الحديث فيها علاقات مصر بأمريكا وعلاقاتها بالحلفاء عامة، فقد أبى فاروق أن يرافقه رئيس الوزارة أو وزير الخارجية (محمود فهمي النقراشي)، كما تقضي بذلك القواعد الدستورية، بل اصطحب معه أحمد حسنين رئيس الديوان الملكي... وهذا ولا ريب خروج على الدستور ونزوع إلى الطغيان، وفيه رجوع عما التزم به الملك فؤاد من قبل، في عهد وزارة عبدالخالق ثروت، فقد اعتزم الرحلة إلى أوروبا سنة 1927، وأرادها رحلة ملك مطلق، لا ملك دستوري، فلم يدع أي وزير لمرافقته، على حين أن المألوف في النظم الدستورية أن يصطحب الملك رئيس الوزارة أو وزير الخارجية في مثل هذه الرحلات، وهنا نشأت أزمة داخلية، وقف فيها سعد زغلول (وكان رئيسًا لمجلس النواب) إلى جانب ثروت (رئيس الوزارة)، واشترط أن يصحب الملك في رحلته، وقد عرض على البرلمان فتح اعتماد لنفقات هذه الرحلة، فأحجم عن إقراره حتى يقبل الملك فؤاد أن يصاحبه رئيس الوزارة، وانتهت الأزمة بقبوله الملك اصطحاب ثروت في رحلته، ومن ثَمَّ أقر البرلمان اعتمادات الرحلة.
ولكن فاروق لم يشأ أن يخضع للتقاليد التي قبلها أبوه من قبل، وانفرد بمقابلة الرئيس الأمريكي دون أن يصطحب أحدًا من الوزراء المسئولين، وكان ذلك مظهرًا لطغيانه في الحكم.
وفي سنة 1945 أيضًا زار المملكة العربية السعودية، والتقى بالمرحوم الملك الراحل عبد العزيز آل سعود في "رضوى"، وتحد إليه في الشئون العامة والروابط بين البلدين، ولم يصطحب معه رئيس الوزارة ولا وزير الخارجية، بل لم يبلغ أحدًا منهما نبأ هذه الرحلة، ولم يعلما بما دار فيها إلا بعد عودته.
واتبع نفس هذا الأسلوب مع وزارة النقراشي التي تولت الحكم بعد مقتل أحمد ماهر في 24 فبراير سنة 1945، وبلغ من تعاليه وطغيانه أنه أصر على أن لا يعقد مجلس الوزراء إلا في المدينة التي يكون هو مقيمًا بها، ففي سنة 1946 علم وهو في القاهرة أن النقراشي دعا مجلس الوزراء إلى الاجتماع ببولكلي بالإسكندرية، فإذا بفاروق يأمر بعدم عقده هناك مادام هو في القاهرة، فألغى النقراشي الاجتماع!
وفي عهد وزارة إسماعيل صدقي دعا ملوك ورؤساء الدول العربية إلى مؤتمر عقده في قصره بإنشاص سنة 1946 دون وساطة رئيس الوزارة أو وزير الخارجية بل دون علمهما، وأرسل يدعو الملوك والرؤساء بواسطة أحد موظفي القصرن واجتمع المؤتمر بناء على هذه الدعوة وتباحث في مسائل سياسية هامة دون أن يشترك فيه أو يحضره رئيس الوزارة (إسماعيل صدقي) ولا وزير الخارجية (أحمد لطفي السيد).
وفي سنة 1949 حدث الإنقلاب العسكري الأول في سوريا، ونحى رئيس الجمهورية الشرعي السيد شكري القوتلي، وتولى الحكم حسني الزعيم، فاستدعاه فاروق والتقى به في إنشاص وأكرمه، وبارك هذا الإنقلاب، واعترف به، وحدث كل ذلك دون أن تعلم به الوزارة (وزارة إبراهيم عبد الهادي).
وقد لازمته نزعته إلى الطغيان طيلة مدة حكمه، وكانت من الأسباب الهامة التي باعدت بينه وبين الشعب، ومهدت للثورة عليه.
ولم تسلم الوزارات التي تعاقبت على البلاد حتى نزوله عن العرش من تدخله في شئون الحكم تدخلاً لا يسمح به الدستور، وكان عند تأليف معظم الوزارات يشطب اسم الوزير الذي لا يرضى عنه، فيضطر رئيس الوزارة إلى استبعاده لك يتم تأليف الوزارة.
وكان يتدخل في تعيينات كبار الموظفين، فلا يعين موظف كبير إلا بموافقته وهذا ولا ريب افتيات على حقوق الوزارة، وكثيرون من كبار الموظفين كانوا يعينون بإيحاء منه، فكانوا بمثابة عيون له على الوزارات.
ولما عادت وزارة النحاس إلى الحكم على إثر انتخابات سنة 1950، كان الظن أن يقف تدخل فاروق في شئون الحكم ويلزم حدوده الدستورية، بعد طول التجارب الماضية، ولكنه على العكس تمادى في هذا التدخل واستفحل نفوذه ونفوذ رجال حاشيته في دوائر الحكومة، وكان لتخاذل النحاس في وزارته الأخيرة أثره في تمادي الملك في طغيانه، فلقد كان فاروق منذ ظهور نتيجة الانتخابات يتوجس خيفة من الوزارة التي استمدت وجودها من إرادة الشعب، وعلم أن للنحاس مطالب يريد تقديمها إليه، فقابله على خوف مما سيطالبه، فإذا بهذه المطالب تتضاءل وتتهاوى، إذ قال للملك أن له طلبًا واحدًا، وهو أن يسمح له بتقبيل يده!
التوجيهات الملكية
وظهر أسلوب جديد في الحكم المطلق، وهو ما أسمته الوزارة الوفدية "التوجيهات الملكية"، فكانت هذه "التوجيهات" أوامر لا تقبل المناقشة والنقض، فازداد طغيان الملك، إذ رأى الحكومة الشعبية تستحدث مصدرًا جديدًا للسلطات غير ما نص عليه الدستور، وهو "التوجيهات الملكية"، وهذا ولا ريب تدعيم لصرح الحكم المطلق.
وقد تسللت "التوجيهات الملكية" إلى مختلف الوزارات، بل إلى الجهاز التشريعي، وكان من نتائج هذا التسلل أن استجابت الوزارة إلى إيحاء السراي، وأصدرت قانونًا لم يكن له مثيل في حماية الطغيان الملكي، وهو القانون رقم 120 لسنة 1950، الذي قضى بحظر نشر أنباء الأسرة المالكة إلا بإذن مكتوب من وزير الداخلية، وقضى بمعاقبة كل من ينشر في الصحف أو في غيرها من المطبوعات دون هذا الإذن أخبارًا أو صورًا أو رموزًا عن الشئون الخاصة للأسرة المالكة أو لأحد أعضائها بالحبس لمدة لا تزيد عن ستة أشهر وبغرامة لا تتجاوز مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، وكان غرض فاروق من استصدار هذا القانون ألا تشير الصحف إلى أنباء فضائح الأسرة المالكة، وبذلك حُجبت أنباء الملك وأسرته عن المواطنين، وقضى على الشعب أن يعيش في ظلام من هذه الناحية، فلا يحق له أن يعلم من أنباء الملك والأمراء والأميرات إلا ما تريد السراي أن يعلمه، والوزارة الوفدية تتحمل من هذه الناحية تبعة كبيرة في تمادي الملك في طغيانه واستعلائه على الشعب.
من مظاهر طغيانه
ومن مظاهر طغيانه أنه كان إذا غضب على وزير أو موظف كبير لأتفه الأسباب يعلن عدم رضائه عنه ويضطره إلى الاستقالة.
وقد نحى شيخ الأزهر (الشيخ عبدالمجيد سليم) عن منصبه في سبتمبر سنة 1951 لمجرد تلميحه إلى الإسراف الذي كان يحف برحلاته إلى كابري والريفييرا وغيرها من ملاهي أوروبا، وقال في ذلك كلمته المأثورة (تقتير هنا وإسراف هناك)، فما أن وصلت هذه الكلمة إلى مسامع فاروق حتى ثار وأصدر أمرًا بإقالته من منصبه، وكان فاروق وقتئذ يعبث ويلعب في ملاهي أوروبا!
ونحى محمود محمد محمود رئيس ديوان المحاسبة عن منصبه واضطره إلى الاستقالة لمجرد أنه أبدى بعض الملاحظات عن منح كريم ثابت خمسة آلاف جنيه من أموال مستشفى المواساة وعن صفقات الأسلحة والذخائر الفاسدة.
في الشئون الخارجية
وكان يحرص على وضع يده على وزارة الخارجية وشئون مصر الخارجية عامة، فلم تكن تجري تعيينات أو تنقلات في هذه الوزارة إلا بإيحائه وتوجيهاته، أو على الأقل بموافقته وإقراره، وكان يتدخل في تعيين كبار ممثلي مصر في الخارج ومن دونهم من الملحقين وغيرهم، فيختار من عرفوا في الجملة بالولاء للسراي، وسارت التقاليد غير الدستوري على جعل تعيين موظفي السلك السياسي في الخارج بأوامر ملكية دون توقيع وزير الخارجية، وقد جرى في هذا على سنة فؤاد فكلاهما قد خالف دستور سنة 1923 باستحداث الأوامر الملكية يوقعها الملك دون رئيس الوزارة والوزير المختص، وصارت هذه الأوامر مصدر التعيين في تعيينات كبار رجال الدين ورجال السلك السياسي وضباط الجيش وكبار موظفي القصر ومنح الرتب والنياشين مع أن كل هذه المسائل من شئون الدولة التي لا يختص بها الملك.
واعتاد رجال السلك السياسي عند عودتهم من الخارج أن يذهبوا رأسًا إلى القصر الملكي للإفضاء بمعلوماتهم الهامة عن الحالة السياسية، كأنهم موظفون في القصر وكان أغلبهم يرسلون إلى القصر تقارير خاصة عن الشئون السياسية المصرية، وقد يتعطف بعضهم فيرسلون بصور من هذه التقارير إلى وزارة الخارجية، وغيّر بعضهم اسم السفارات والمفوضيات المصرية فجعلوه "سفارة حضرة صاحب الجلالة ملك مصر" بدلاً من "سفارة مصر".
وظهر استثناء فاروق بالشئون الخارجية في مقابلاته ومفاوضاته مع رؤساء الدول الأجنبية، فإنه كان يحرص في الجملة على عدم اشتراك رؤساء الوزارات أو وزراء الخارجية فيها.
سيطرته على الجيش
وجعل الجيش في قبضة يده بتدخله في تعيين رؤسائه وقواده من صنائعه وأتباعه، أو المعروفين بالولاء له، لكي يضمن السيطرة على ضباط الجيش وإداراته المختلفة.
واعتبر فاروق الجيش أداة للملك لا أداة للشعب، وتمادى في طغيانه حتى أنه غيّر في شعار الجيش إذ كان (الله. الوطن. الملك) فجعله (الله. الملك. الوطن)، وهكذا تعلى على الوطن فجعل نفسه أكبر منه، ومقدمًا عليه، وجعل الوطن في المرتبة التالية للملك، وهذا من التغييرات المعبرة الدالة على الإسراف في الطغيان.
وحينما تألفت وزارة الوفد في يناير سنة 1950، فرض عليها إنشاء وظيفة قائد عام للقوات المسلحة وإسنادها إلى الفريق محمد حيدر، على أن يكون تعيينه بأمر ملكي، وأصدرت الوزارة قانونًا بفتح اعتماد لإنشاء هذه الوظيفة، على أن يمنح شاغلها راتب الوزير إذا كان وزيرًا سابقًا، وذلك لكي يضمن فاروق بقاء الجيش تابعًا له.
الشركات والرتب والألقاب
وكان يسيطر بواسطة حاشيته على الشركات، فجعل عضوية مجالس إدارتها وقفًا على من عُرفوا بالولاء له، وكان يطلب أحيانًا فصل أي عضو لا يرضى عنه، فيفصل في الحال.
وكذلك شأنه في الرتب والألقاب، فإنه جعلها وقفًا على من يأنس فيها الولاء والإخلاص لشخصه.
واستفحل نفوذ حاشيته في دوائر الشركات والمال، وفي الوزارات والمصالح والدواوين، وكان لهم من النفوذ أكثر مما كان للوزراء، لأنهم كانوا في تدخلهم يستندون إلى طغيان الملك، فكانت كلمتهم لا تُرد، وأهواؤهم لا تُحد.
واستنكر الشعب سياسة فاروق وعم السخط عليه، لأنهم لم يكفهم مساوئه وتدخلاته، بل عانوا أيضًا من مساوئ حاشيته وتدخلاتهم غير المشروعة في شئون الحكم، وفي محيط الشركات والجمعيات.
استغلاله للملك ونَهَمُه إلى المال
وزاد في كراهية الشعب له أنه اتخذ المُلك وسيلة للإثراء وجمع المال، وإفساد أداة الحكم، وبالرغم من ثرائه الواسع، وضخامة موارده من مخصصاته في الميزانية ومن أملاكه التي لا حصر لها، وأمواله المودعة في مختلف البنوك والتي تُعد بعشرات الملايين من الجنيهات، فإنه كان دائم الجشع والنهم إلى المال، لا يشبع منه، ويسعى إلى الاستكثار منه بجميع الوسائل.
وزادت ثروته من الأراضي الزراعية عما كان قد اقتناه فؤاد وهو على العرش وورثه عنه، وزادت أمواله في البنوك عما كان لفؤاد من قبل.
وكان مع جشعه إلى المال شحيحًا بخيلاً.
وكان يشتغل سلطانه في الاستزادة من الأملاك الزراعية.
كان إذا أعجبته أرض يملكها أحد المصريين سعى بمختلف الوسائل والمناورات والتهديدات إلى إكراه صاحبها على بيعها له، في حين أنه ليس في حاجة إليها.
وكان يسخر جهاز الدولة في استصلاح أراضيه، حتى أنه كان يستخدم المسجونين في إصلاح بعضها.
وكان يستغل سلطانه في بيع محصولاته، فيبيعها بأثمان أعلى من سعر المثل، ويضطر تجار الجملة إلى محاباته لينالوا الحظوة لديه ولدى الحكومة.
وكانت الشركات المالية التي تبغي الحظوة لدى الحكومة ترشوه بعدد وفير من أسهمها تمنحه إياها مجانًا أو بثمن صوري، فتجاب طلباتها لدى الحكومة مثل شركة (سعيده) للطيران التي فازت سنة 1951 بإعانة قدرها مائة وثلاثون ألف جنيه، بالرغم مما ثبت للجان الحكومة من فساد إدارتها، وقد تبين أنها أهدت فاروقا جزءًا من أسهمها وأنه كان الموعز بهذه الإعانة.
وكانت النفقات الباهظة التي تصرف على قصوره المملوكة للدولة وعلى صيانتها وتحسينها وتجميلها وتأثيثها تؤخذ كلها من ميزانية الدولة، وقد بلغت الملايين من الجنيهات.
وامتنع عن دفع ضريبة الإيراد العام المستحقة عليه للدولة، والضريبة على سياراته، والرسوم الجمركية على متعلقاته، بالرغم من أن القانون لا يعفيه من هذه الضرائب، وقد بلغ المستحق عليه من ذلك كله نيفًا ومليونًا من الجنيهات.
واستولى لنفسه من الأموال التي كانت تجمع من التبرعات الخيرية على مبلغ 420.000 جنيه.
واستولى على كثير من الأوقاف بطرق غير مشروعة وطرد نظارها من إداراتها وانتزع من وزارة الأوقاف أوقافًا تبلغ مساحتها 45519 فدانًا.
منها وقف الأميرة زينب هانم كريمة محمد علي المعروف بوقف شاوه ومساحته 9380 فدانًا، وقد انتزعه سنة 1948.
ووقف الخديو إسماعيل المعروف بتفتيش الوادي ومساحته 15639 فدانًا، وقد انتزعه سنة 1945، ووقف آخر للخديو إسماعيل ومساحته 20500 فدان موزعة في المنتزه والمنصورة والمعتمدية إلخ، وقد انتزعه سنة 1948، وكان انتزاعه لهذين الوقفين بموجب "نطق سام" أبلغته الخاصة الملكية إلى وزارة الأوقاف، وقعد أعيدت هذه الأوقاف إلى الوزارة في أغسطس وسبتمبر سنة 1952 بعد خلع فاروق.
واختلس كثيرًا من الآثار المصرية القديمة من المتاحف أو من الحفائر التي كان يجري فيها التنقيب عن هذه الآثار، واختلص بعض التحف من دار الآثار العربية، وعاونه في ذلك بعض الموظفين وخاصة دريتون المدير الفرنسي للمتحف المصري، ونال من أجل ذلك حظوة كبرى عنده.
وفي أوائل سنة 1951 طلب من وزارة الوفد أن تصرف له مرتبه لمدة سنة مقدمًا، ومقداره مائة ألف جنيه، ومع مخالفة هذا الطلب للقوانين المالية فقد استجابت إليه الوزارة لتشتري به بقاءها في الحكم، وطلب منها أن تحول هذا المبلغ إلى دولارات ترسل إلى أمريكا، فنفذت رغبته، وأمرت البنك الأهلي بتحويله إلى دولارات أرسلت إلى أمريكا، وكان هذا التصرف معاونة للملك على تهريب هذا المبلغ في وقت كانت الدولة أشد ما تكون حاجة إلى العملة الصعبة، وكان رصيدها من الدولارات في هبوط بسبب المبالغ الضخمة التي كانت ترسل إلى والدته الملكة السابقة نازلي وإلى شقيقته فتحية، ومع أن فاروق كان له في بنوك أمريكا رصيد كبير من الدولارات فإنه أراد أن لا يمس هذا الرصيد، فأخذ ما طلبه من خزانة الدولة.
ولو أن موظفًا بسيطًا كان في حاجة ملحة إلى اقتضاء مرتبه مقدمًا لمدة سنة بل لمدة شهر واحد وطلب من الحكومة أداءه له مقدمًا، لقوبل طلبه بالرفض مع التقريع والتوبيخ، ولكن فاروق صاحب الملايين من الجنيهات قد وجد من استهتار الحكومة بالنظم المالية ما جعله يظفر بطلبه المبني على الجشع واستغلال النفوذ.
ولما زاد نهمه إلى المال وحرصه عليه أخذ يهرب إلى الخارج الملايين من الجنيهات، ويودعها في مختلف بنوك أوروبا، وبدأ تهريبه حوالي سنة 1948 حين ابتدأ يتجر في الأسلحة الفاسدة، وبلغ مجموع ما هربه إلى الخارج عدة ملايين من الجنيهات، وأودع في بنوك أمريكا أكثر من عشرة ملايين دولار. مسألة فخر البحار وإصلاح المحروسة
وكان له يخت خاص يسمى (فخر البحار) اشتراه سنة 1943 من الأمير يوسف كمال بحوالي 76 ألف جنيه، ففكر في وسيلة يستبقي بها هذا اليخت الأنيق ويتخفف من نفقات استعماله ومرتبات بحارته، ويربح ثمنه، فباعه إلى الدولة بمبلغ 176 ألف جنيه بدعوى ضمه إلى وحدات الأسطول المصري، ولكنه استبقاه لنفسه يختًا خاصًا له، وصار يركبه في نزهاته ورحلاته الخاصة، وقد سافر به في رحلاته إلى أوروبا كما سيجيء بيانه، فكأنه باعه للدولة بيعًا صوريًا، لأنه لم يخرج من حيازته، وقبض من الدولة ثمنه دون مقابل، وحملها أيضًا نفقات استعماله وصيانته.
وقد ظهرت هذه الفضيحة أثناء تحقيق قضية صفقات الأسلحة والذخيرة الفاسدة، فجاءت دليلاً جديدًا على اشتراكه في هذه الصفقات.
وأمر بإصلاح الباخرة (اليخت) "المحروسة" على حساب الدولة، وكانت البحرية الإيطالية تقدر لإصلاحها عشرين ألف جنيه، فلم يعجبه هذا الرقم، واختار شركة بحرية إيطالية لإصلاحه، ووصل ثمن هذا الإصلاح إلى مليون ونصف مليون جنيه.
وقد وقف المرحوم النقراشي وكان رئيسًا للوزارة موقفًا مشرفًا من طلب فاروق فتح اعتماد أول بمبلغ مليون جنيه لهذا الغرض، فرفض الطلب، وكتب إلى الخاصة الملكية يقول : "في الوقت الذي تفتك فيه الشيوعية بعقول الشباب المصري ويشتد التذمر من الفاقة التي تحيط بأفراد الشعب فإن الناس لن يقبلوا منا التفكير في مثل هذا العمل، ولذلك فإني لا أستطيع –ما دمت رئيسًا للوزارة- أن أوافق على طلب هكذا، واستقالتي بين يدي جلالتكم".
وتربص فاروق حتى اغتيل النقراشي، فعاود طلباته تدريجيًا حتى أجيبت، وبلغ ما أنفق على إصلاح هذا اليخت العتيق مليونًا ونصف من الجنيهات، ذهب الجانب الأكبر منها إلى فاروق وعملائه، وكان وسيطاه في هذه الصفقة أنطونيو بوللي الكهربائي بالقصر ووسط الملك في فساده، وأدمون جهلان أحد سماسرته في الصفقات الحرام.
سرقاته من الأفراد
وبلغ نهمه إلى المال أن امتدت يده إلى سرقة الأفراد، دون خجل أو استحياء.
كان إذا علم بتحفة في دار أحد الأعيان يأمر بنقلها فورًا إلى سراي عابدين، فلا يسع صاحبها إلا أن يذعن ويعتبرها هدية للذات الملكية.
وكان إذا جلس إلى موائد القمار يغش أحيانًا في اللعب ويسرق من ملاعيبه ما يريد، وفي أغلب الأحيان كانوا لا يجرؤون على مساءلته عن هذا التصرف المنكر، احترامًا لذاته "الملكية" أو ابتغاء الزلفى لديه.
وكثيرًا ما كانت موائد القمار وسيلة للرشوة المستترة يبذلها بعض السماسرة ونهازي الفرص للملك تحت اسم خسارتهم في لعب القمار معه، وكانت هذه الرشوة تؤتي ثمرتها من حيث تحقيق أطامع الراشين في الوزارات والمصالح، وفي الزلفى إلى فاروق واكتساب ثقته.
سيف إمبراطور إيران ونياشينه
وسرق في سنة 1944 سيف الإمبراطور بهلوي إمبراطور إيران السابق ونياشينه وذلك على أثر وفاته في جنوب أفريقيا ونقل جثمانه إلى مصر، فقد دفن وقتًا ما في مقابر الأسرة المالكة، ووضع سيفه الخاص ونياشينه في تابوته.
وعندما أرادت حكومة إيران نقل الجثمان إلى طهران، اكتشف سفيرها في القاهرة أن سيف الإمبراطور ونياشينه انتزعا من الجثة.
وكان لهذه الحادثة ضجة كبيرة، إذا طالبت حكومة إيران بهذه المخلفات الثمينة، فأجاب القصر بأنه لا وجود لها، وتبين أن فاروق قد سرقها، وأخفاها في قصر القبة، وذهبت عبثًا مطالبة إمبراطور إيران الحالي وحكومته بهذه المخلفات الثمينة، مدى ثماني سنوات، حتى عثر عليها في قصر القبة بعد خلع فاروق، فسلمت إلى السفير الإيراني بالقاهرة في فبراير سنة 1953 وأعيدت إلى حكومة إيران.
خنجر سيف الإسلام
وفي مرة أخرى أعجبه خنجر مرصع بالجواهر الكريمة كان يحمله سيف الإسلام عبد الله نجل إمام اليمن الراحل في زيارته لمصر، وأراد أن يقتنصه لنفسه، فدعا الأمير إلى مأدبة "ملكية" وطلب إلهي أن يخلع حزامه وخنجره ويضعهما على المشجب (الشماعة)، قبل دخوله غرفة المائدة، وأوعز فاروق إلى من يثق فيهم من رجال حاشيته بسرقة الخنجر والحزام، فلما انتهى الغداء بحث الأمير عن الخنجر فلم يجده في مكانه، وسأل عنه فلم يجد جوابًا، وكان أن تمت "السرقة الملكية".
وقد عثر على هذا الخنجر في متحف فاروق الخاص بقصر عابدين بعد خلعه عن العرش.
استغلاله حرب فلسطين
واستغل حرب فلسطين استغلالاً وضيعًا، قلما وصل إليه ملك من قبل، فقد انتهز حاجة الجيش إلى الأسلحة والذخائر من الخارج لاستكمال تسليحه، فاتجر شخصيًا مع رهط من المقربين إليه في صفقات من الأسلحة والذخائر تعاقدت عليها إدارة الجيش، وتبين أنها أسلحة وذخائر فاسدة، كانت لا تصيب المرمى، بل تنفجر في من كانوا يستعملونها من الجنود والضباط، وقد أودت بحياة الكثيرين منهم، وكان عملاء فاروق يجوبون الأسواق في أوروبا ويعقدون هذه الصفقات الحرام، ويرسلونها إلى مصر لتنقل إلى ميدان الحرب في فلسطين، فتنفجر في أيدي الجنود وفي صدورهم، أو تحدث دخانًا يؤدي إلى اختناق الجنود، ودرّت هذه الصفقات أرباحًا وفيرة تقاسمها فاروق وعملاؤه، وكانت من أسباب الهزيمة في حرب فلسطين.
وقد نزل فاروق في هذا الاستغلال إلى أحط دركات السقوط والخيانة، وأي جريرة أفظع من أن يكسب ملك المال الحرام عن طريق تعريض بلاده للهزيمة وتعريض أفراد الجيش للقتل والهلاك؟
وليس في مساوئ فاروق كلها ما يعادل هذا الإثم في فظاعته ووضاعته، وكانت هذه الجريمة هي الضربة القاصمة التي زلزلت العرش، وأطاحت بالبقية الباقية من سمعة فاروق، وملأت نفوس المواطنين سخطًا عليه.
استقالة رئيس ديوان المحاسبة
تسلم إدارة الجيش هذه الصفقات رغم لفت نظرها إلى فسادها، وأبدى رئيس ديوان المحاسبة وقتئذ (محمود محمد محمود) في تقرير له بعض ملاحظات عن هذه المسألة الخطيرة، كما أبدى ملاحظات أخرى عن صرف مبلغ خمسة آلاف جنيه من أموال التبرعات والإعانات التي جمعت لمستشفى المساواة إلى كريم ثابت المستشار الصحفي لفاروق، بدعوى أنها مقابل دعاية بذلها للمستشفى، والصحيح أنها منحة أمر له بها فاروق من أموال هذا المستشفى الخيري.
فغضب فاروق على رئيس ديوان المحاسبة واضطره إلى الاستقالة.
استجواب مصطفى مرعي
وقدم مصطفى مرعي في مايو سنة 1950 سؤالاً بمجلس الشيوخ حوله إلى استجواب عن أسباب استقالة رئيس ديوان المحاسبة، وشرح هذا الاستجواب شرحًا مستفيضًا لقى تأييدًا كبيرًا من المعارضين ومن الرأي العام، وانتهى إلى اقتراح تأليف لجنة برلمانية لتحقيق أسباب استقالة رئيس ديوان المحاسبة.
إقصاء المعارضين عن مجلس الشيوخ
فكان جواب فاروق وحكومة الوفد على هذا الاستجواب وعلى تأييد المعارضين لاقتراح تأليف لجنة التحقيق، أن صدرت ثلاثة مراسيم في 17 يونيه سنة 1950 عصفت بكيان مجلس الشيوخ وأخرجت منه عددًا كبيرًا من المعارضين بطريقة تنطوي على اعتداء صارخ على الدستور.
وأول هذه المراسيم يقضي بزوال عضوية المجلس عن جميع الأعضاء الذين عينوا في عهد وزارة حسين سري لمناسبة التجديد النصفي سنة 1941 وأعيدوا للعضوية بالمرسوم الصادر في 19 ديسمبر سنة 1944 وعن كل من حل محلهم بسبب الوفاة أو الاستقالة (وكان معظمهم من المعارضين).
وقضى المرسوم الثاني بتعيين أعضاء جدد كلهم من صنائع الوزارة أو السراي بدل الذين أبطل تعيينهم. والثالث بإسقاط رياسة محمد حسين هيكل لمجلس الشيوخ وأبدل به علي زكي العرابي.
كانت هذه المراسيم الثلاثة بمثابة عقاب للمعارضين على استنكارهم لصفقات الأسلحة والذخائر الفاسدة، ولم يتورع وزير الدفاع وقتئذ (مصطفى نصرت) عن الدفاع عن هذه الصفقات، وألقى في هذا الصدد بيانًا بمجلس الشيوخ ردًا على استجواب مصطفى مرعي، قال فيه ضمن ما قال :
"وصلتني مناقضات ديوان المحاسبة –وهي التي استند إليها المستجوب- بعد مدة قصيرة من تولي وزارة الحربية، فكان من الطبيعي أن أتقصى الحقائق المتعلقة بما اتبع بصفة عامة في أمر توريد احتياجات الجيش أثناء حرب فلسطين، وقد اتضح لي أن هناك أفرادًا كثيرين كما أن هناك جهات متعددة أملت عليها مصالحها الخاصة إثارة الشكوك في كل أعمال التوريدات، كما أن قيام لجنة الاحتياجات بالأعمال الخاصة بالتوريدات من جهة، وقيام الجهات المختصة في القوة المسلحة باستلام وفحص ما يورد من جهة أخرى، كان ذلك سببًا في حدوث بعض الاحتكاك وإثارة منافسات أدت إلى التقدم ببعض البيانات التي استند إليها ديوان المحاسبة في مناقضاته، على أنه بعد البحث والتدقيق، اتضح لي أن التوريدات التي أثارت مناقضات ديوان المحاسبة لا غبار عليها".
وأخذ إحسان عبدالقدوس ينشر في (مجلة روزاليوسف) المقالات والوثائق الخطيرة المثبتة لفساد الأسلحة والذخائر، فأبلغت وزارة الحربية النائب العام للتحقيق في التهم المنسوبة إلى رجال الجيش.
بدأت تحقيقات النيابة في هذا البلاغ منذ صيف سنة 1950، وتناولت اشتراك بعض رجال حاشية فاروق والمقربين إليه في هذه الصفقات، ومست الملك شخصيًا، لأن حاشيته إنما كانت تعمل لحسابه وبإيعاز منه، وقد حقق مع هؤلاء الأشخاص، وصدر أمر بالقبض على أدمون جهلان حين مجيئه إلى مصر وهو السمسار الأول لصفقات الملك وأداته في إيداع نصيبه من تجارة الأسلحة الفاسدة في البنك البلجيكي والدولي.
ولكن هذا الأمر لم ينفذ، واحتمى أدمون جهلان بالسراي، وظل مطلق السراح، بل سمح له بالعودة إلى أوروبا، بدعوى أنه أمين صندوق الرحلة الملكية، ودلت ملابسات مجيئه وعودته على أنه إنما جاء إلى مصر موفدًا من الملك ليأخذ بعض الأوراق الدالة على اشتراك فاروق في صفقات الأسلحة والذخائر.
وقد تدخل الملك في تحقيقات النيابة تدخلاً سافرًا أثناء نزهته في أوروبا، ومنع استمرار الإجراءات ضد شركائه وصنابعه، وكان من مظاهر تدخله السافر أنه أوفد ناظر خاصته أثناء تفتيش خزانة أدمون جهلان وتسلم منها أوراقًا بحجة أنها تخص ذات الملك، ومنها كشوف الحساب التي تكشف عن اشتراكه في تلك الصفقات الخاسرة.
وانتهى التحقيق بحفظ القضية بالنسبة لرجال الحاشية.
وجاء تدخل فاروق في سير العدالة دليلاً جديدًا على اشتراكه في هذه الصفقات الحرام، ومؤيدًا لما ترامى إلى الناسب في هذا الصدد، فاشتدت كراهية الشعب له، وتحولت الكراهية إلى سخط يوشك أن ينفجر ويعصف بعرشه.
حياته الخاصة
كان لحياة فاروق الخاصة أثرها في التمهيد للثورة، فقد كانت بعيدة عن الفضائل والأخلاق القويمة، وعن الاستقامة عامة، كانت مجموعة من الرذائل والفساد تستفز الغضب والسخط.
كان من الناحية الشخصية والخلقية فاسد السلوك، يستكثر من الخليلات والعشيقات، وجلهن من النساء الساقطات، أو الراقصات المستهترات، مما ينم على نفسية وضيعة وشذوذ في الفساد.
ومن مظاهر هذا الشذوذ أنه لم يتورع غير مرة عن السطو على الأعراض، والاغتصاب أو ما يشبه الاغتصاب.
وظهر إسفافه في السلوك الشائن أنه اصطفى بعض المنحطين من حثالة الحاشية، كحلاقه (جارو)، ومساعد الحلاق (ينزو)، وأمين سره في فساده (أنطونيو بوللي وكان يسمى مدير الشؤون الخصوصية للملك)، ومدرب كلابه (كافاتس)، وغيرهم، فجعلهم بطانته الذين يصطحبهم في غدواته وروحاته، وكان منظهرهم وهم يلازمونه في الأندية الليلية والفنادق والمقاهي والملاهي يدعو إلى السخرية والاشمئزاز؟
وإلى جانت هذه المخازي، كان يلعب القمار، واستفحل فيه هذا الداء على مر السنين، حتى صار مدمنًا عليه، ولم يعرف عن ملك آخر مثلما عرف عنه من المجاهرة بهذه الآفة والإكباب عليها علنًا في الأندية العامة، على ملأ من الناس.
واشتهرت بعض الأندية بغشيانه إياها محاطًا بحثالة القوم، ولعبه الميسر في بعضها، كنادي السيارات، وكازينو الحلمية بالاس، وملهى الإسكارابيه (الجعران)، وأوبرج الأهرام بالقاهرة، ونادي السيارات بالإسكندرية.
وكان رجال الحرس الملكي والبوليس السري يحرسون كل مكان يأوي إليه، وكان منظرهم وهم يسهرون حتى الصباح حول أندية القمار التي كان يغشاها منظرًا يدعو إلى الأسف العميق.
هذا عدا مجالس الميسر التي كانت تعقد في بيوت بعض أصفيائه، ويتخللها مظاهر أخرى للفساد والمجون. وكان لهذا السلوك أثره البعيد في سقوط سمعة فاروق وسخط الناس عليه، وازدرائهم إياه، ومن مظاهر استهتاره أنه كان يمضي بعض الأوراق الهامة ويصدر أوامره في شئون الدولة على موائد الميسر، أو في سهراته الماجنة، وعلى مرأى ومسمع من جلسائه اللاعبين معه من حثالة القوم.
وقلما كان يقابل رؤساء الوزارات، بل كانوا يرسلون إلى القصر المراسيم والمذكرات بالطلبات التي يعرضونها عليه، وكان يعرضها عليه خادمه الخاص محمد حسن، فهو الذي كان له حق الاتصال الدائم به، وحتى رؤساء الديوان الملكي وكبار رجال القصر لم يكونوا يتصلون به إلا بواسطة هذا الخادم، أو أحد الخدم الخصوصيين الذين يسمون بالشماشرجية، وفي ذلك قال أحد رؤساء الديوان إن مصر تُحكم بالخدم!
ولم يصل امتهان كرامة الحكم ووقاره إلى هذا الدرك الأسفل من الإسفاف وكان في رحلاته الماجنة بأوروبا يمضي مراسيم الدولة، وذهب إليه عبد الفتاح حسن حينما عين وزير دولة سنة 1951 إلى كابري، حيث يلهو كان ويعبث، وحلف اليمين أمامه هناك!
انحدار سمعة فاروق في مصر والخارج
حينما انحرف فاروق نحو الرذيلة في حياته الخاصة، ترامت إلى الناس أنباء نزواته وصلاته غير الشريفة بخليلاته وعشيقاته، ثم إدمانه على لعب القمار واصطفائه المنحطين والأشرار.
فساءت سمعته عند الشعب، وفقد محبة المواطنين وعطفهم، واجتمعت سيئاته في حياته الشخصية إلى مساوئه في الحكم، فانقلب الحب إلى سخط عام.
أما في الخارج فقد بدأوا يعرفون فضائح فاروق وابتذاله من أفواه المطلعين عليها، ومن الصحف الأجنبية التي كانت تنشر بين حين وآخر طرفًا من هذه الفضائح، مما كان يبعث به إليها مراسلوها في مصر.
وزاد في انحدار سمعته في الخارج رحلاته إلى أوروبا، فقد بلغ به الاستهتار مبلغًا لم يصل إليه من ملك قبل، وأخذت الصحف الأوروبية والأمريكية تنشر أنباء هذه الرحلات، وما كان يصحبها من مجون وشذوذ، وإسراف وصخب، وفضائح وتصرفات جنونية، وانكباب على موائد القمار في الفنادق والكازينوهات العالمية، وتحدثت الصحف عنه بأساليب لاذعة من السخرية والزراية، فأساء فاروق إلى سمعة مصر، وكان عنوانًا سيئًا لها في العالم.
وكان المصريون الذين يصطافون ويشاهدون فضائحه في الخارج أو يسمعون بها أو يقرأون أنباءها في الصحف، يتولاهم الخجل من أن تنحدر سمعة مصر في العالم إلى هذا الحد، وأن يمثلها ملك بهذا الإسفاف، وإذ كانت هذه الصحف والمجلات يمنع دخولها إلى القطر المصري، فقد كان المصطافون يحتفظون خفية ببعضها، ويعودون بها إلى مصر، فيطلع عليها أصدقاؤهم وذووهم، وكانت موضع الأسف والاشمئزاز، وكانت الحكومة تمنع دخول هذه الصحف إلى مصر، ولكنها لم تستطع أن تمنع نشر ما احتوته من الفضائح عن ملك مصر.
وقد تعددت رحلات فاروق إلى الخارج.
وكانت أولى رحلاته إلى جزيرة قبرص في أغسطس سنة 1946، على ظهر اليخت (فخر البحار)، وقد ذهب خصيصًا إلى هذه الجزيرة إذ كان على موعد هناك مع ممثلة السينما ليليان كوهين (كاميليا)، إحدى عشيقاته، وقد سبقته إليها، وشهد الناس اتصالاته الماجنة معها بالجزيرة، فلاكت الألسن أنباء هذه الاتصالات ووصل صداها إلى مصر.
وفي هذه النزعة الغرامية عرج بجزيرة (رودس) في سبتمبر سنة 1946، وهناك طار إليه إسماعيل صدقي رئيس الوزارة وقتئذ، ليوقع على مراسيم التعديل الوزاري الذي أدخله صدقي باشا في وزارته، وقد وقعها فاروق، كما وقع هناك أيضًا مراسيم إنشاء مجلس الدولة وتعيين محمد كامل مرسي رئيسًا له، وتعيين مستشاري هذا المجلس ونوابه، ومراسيم الحركة القضائية، وقد وقعها جميعًا على ظهر اليخت (فخر البحار).
وفي صيف سنة 1950 سافر إلى فرنسا، بصحبة عدد ضخم من حاشيته المقربين إليه، وكان متنكرًا باسم (فؤاد باشا المصري)، ولعله ظن أن تنكره بهذا الاسم يحجب فضائحه ومغامراته عن الأنظار، ولكنه كان حينما حل أو ارتحل ترقبه عيون المصيفين والصحفيين، وتنشر الصحف العالمية من أنباء مجونه واستهتاره ما يزري بسمعة مصر، واتخذ من (دوفيل) بشمال فرنسا مصيفه الرئيسي، وجعل من كازينو هذه المدينة مكانًا للهوه وعبثه، ولعبه القمار، وكانت المدينة خلال إقامته مقصد الغنيات والراقصات وبنات الهوى يكملن الصورة المبتذلة لعبثه ومجونه.
ونشرت صحيفة (فرانس سوار) الباريسية في أغسطس سنة 1950 مقالاً عن مصيف دوفيل قالت فيه : "إن المغنية الفرنسية أنى بيرييه المجهولة في فرنسا والمشهورة في مصر (كذا) ستغني (أغنية النيل) التي وضعها الموسيقار جي لا فارج والتي غنيت لأول مرة بالقاهرة في ملهى (إسكارابيه) أمام جمهور مختار من أهل الطبقة الراقية (كذا) وفي مقدمتهم فاروق".
وأنى بيرييه هذه كانت إحدى عشيقات فاروق، وقد اتصل بهاحين جاءت إلى القاهرة من قبل، وغنت أمامه فعلاً غير مرة في ملهى (اسكارابيه)، وجاءت إلى دوفيل أثناء لهوه بها، وغنت أمامه في حفلاته الماجنة.
واستدعت حاشيته الراقصة المصري (سامية جمال)، فرقصت أمامه أيضًا في دوفيل، ووصفت الصحف الفرنسية حفالته الصاخبة وصفًا يزري بكرامة مصر، وأسمت سامية جمال (راقصة ملك مصر)، ونشرت حديثًا لأحد مديري كازينو دوفيل لمناسبة اصطياف فاروق بها قال فيها أن دوفيل لم تشهد منذ عام 1920 موسمًا ناجحًا كموسم هذا العام (1950) وأن إيراد الكازينو بلغ من لعب القمار حوالي مائة ألف جنيه.
وكانت رحلته إلى فرنسا على ظهر اليخت (فخر الحياة) الذي أقله إلى مارسيليا، ولبث في انتظاره حتى يعود من دوفيل، وقد انتقل فاروق من دوفيل إلى بعض المصايف الأخرى بفرنسا، ثم قصد إلى (بيارتز) بجنوب فرنسا على الشاطئ الأطلنطي وهي المدينة المشهورة بفندقها وكازينو القمار العالمي فيها، ثم قصد إلى (سان سباستيان) بإسبانيا، وعاد منها إلى بيارتز، ومنها إلى طولون على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث استقل اليخت (فخر البحار) إلى مدن الريفيرا، فعرج بكان و(نيس) ثم (مونت كارلو) ذات الشهرة العالمية في القمار، والريفييرا الإيطالية، وحيثما حل كان يعكف على مجونه ومباذله، ثم عاد إلى مصر حوالي منتصف أكتوبر سنة 1950.
وفي صيف سنة 1951 سافر إلى كابري ثم إلى الريفييرا على ظهر اليخت (فخر البحار)، ومعه زوجته ناريمان، وكانا يقضيان شهر العسل، وفي صحبته ذلك العدد الضخم من حاشيته والمقربين له، وبلغ به الاستهتار وعدم الشعور بالمسئولية أن بدأ رحلته في يوم الرؤية لهلال رمضان، أي الشهر الذي تراعي فيه التقاليد الدينية، فخالف هو هذه التقاليد، وهو على رأس أمة عُرفت بأنها زعيمة الشرق والإسلام، ولم تفارقه في هذه الرحلة نزواته ومفاسده، وكان يشاهد مصطحبًا الغانيات في أوضاع مستهترة، ويقضي في مجونه معظم الوقت في الفنادق والكازينوهات الكبرى وحول موائد القمار.
كتاب المعارضة إلى فاروق 18 أكتوبر 1950
استفحلت مساوئ فاروق، وذاعت تصرفاته المنافية للنزاهة والاستقامة، وتصرفات رجال حاشيته الذين كانوا يعملون بوحي منه وبتحريضه.
وقد هال أقطاب المعارضة وقتئذ أن تنحدر أداة الحكم وسمعته إلى هذا الحضيض، فاجتمعوا وتداولوا فيما يجب أن يعملوه لعلاج هذه الحالة التي أخذت تتفاقم، فاتفقوا على أن يرسلوا إلى فاروق كتابًا ينددون فيه بهذا الفساد، ويطلبون منه أن يضع له حدًّا، ويطهر حاشيته ممن استغلوا مناصبهم، وأن يعود إلى الوضع السليم في الحكم، وهو أن الملك يملك ولا يحكم، وطلبوا تصحيح الأوضاع الدستورية تصحيحًا شاملاً وعاجلاً، ومعالجة المساوئ التي تعانيها البلاد، وأشاروا في كتابهم إلى أن الشعب قد صبر طويلاً على هذه المساوئ، وأن هذا الصبر لابد أن يكون له حد ينتهي إليه.
والكتاب وثيقة هامة من وثائق الحياة السياسية في ذلك العهد، وهو صيحة مدوية بمجاهرة فاروق وهو في أوج سلطانه وطغيانه باستنكار مساوئه ومساوئ الحكم الذي كان له دخل كبير في إفساده، والكتاب في جرأته وقوته، لا يقبل أهمية عن كتاب أعضاء الوفد الأوائل إلى السلطان فؤاد في 2 مارس سنة 1919، قبيل شبوب ثورة سنة 1919، والذي أوردنا نصه في موضعه.
وكما نشرنا ذلك الكتاب، فإننا ننشر هنا كتاب المعارضة إلى الملك فاروق، قالوا : "يا صاحب الجلالة :
إن البلاد لتذكر لكم أيامًا سعيدة كنتم فيها الراعي الصالح والرشيد، وكانت تحف بكم أمة تلاقت عند عرشكم آمالها، والتفت حول شخصكم قلوبها، فما واتتها فرصة إلا دلت فيها على عميق الولاء والوفاء، وما العهد ببعيد بحادث القصاصين، وقد أنقذكم الله من مخاطره وهو أرحم الراحمين.
واليوم تجتاز البلاد مرحة قد تكون من أدق مراحل تاريخها الحديث، ومن أسف أنها كلما اتجهت إلى العرش في محنتها، حيل بينه وبينها لا لسبب إلا لأن الأقدار قد أفسحت مكانًا في الحاشية الملكية لا يستحقون هذا الشرف فأساءوا النصح وأساءوا التصرف، بل إن منهم من حامت حول تصرفاتهم ظلال كثيفة من الشكوك والشبهات هي الآن مدار التحقيق الجنائي الخاص بأسلحة جيشنا الباسل، حتى ساد الاعتقاد بين الناس أن يد العدالة ستقصر حتمًا عن تناولهم بحكم مراكزهم، كما ساد الاعتقاد من قبل أن الحكم لم يعد للدستور، وأن النظام النيابي قد أضحى حبرًا على ورق، منذ أن عصفت العواصف بمجلس الشيوخ فصدرت مراسيم يونيه سنة 1950 التي قضت على حرية الرأي فيه وزيّفت تكوين مجلسنا الأعلى، كما زيفت الانتخابات الأخيرة من قبل تكوين مجلس نوابنا.
ومن المحزن أنه قد ترددت على الألسن والأقلام داخل البلاد وخارجها أنباء هذه المساويء وغيرها من الشائعات الذائعات، التي لا تتفق مع كرامة البلاد، حتى أصبحت سمعة الحكم المصري مضغة في الأفواه، وأمست صحافة العالم تصورنا في صورة شعب مهين، يسام الضيم فيسكت عليه، بل ولا يتنبه إليه، ويساق كما تساق الأنعام، والله يعلم أن الصدور منطوية على غضب تغلي مراجله، وما يمسكها إلا بقية من أمل يعتصم به الصابرون.
يا صاحب الجلالة:
لقد كان حقا على حكومتكم أن تصارحكم بهذه الحقائق، ولكنها درجت في أكثر من مناسبة على التخلص من مسئوليتها الوزارية، بدعوى " التوجيهات الملكية " وهو ما يخالف روح الدستور، وصدق الشعور ولو أنها فطنت لأدركت أن الملك الدستوري يمتلك ولا يحكم كما انها توهمت أن في رضاء الحاشية ضمانا لبقائها في الحكم. وسترا لما افتضح من تصرفاتها. وما انغمست فيه من سيئاتها – وهي هي لا تزال أشد حرصا على البقاء في الحكم وعلى مغانمه منها على نزاهته – ولهذا لم نر بدا من أن نهض بهذا الواجب فنصار حكم بتلك الحقائق ابتغاء وجه الله والوطن، لا ابتغاء حكم ولا سلطان وبراً بالقسم الذي أديناه أن نكون مخلصين للوطن والملك والدستور وقوانين البلاد، وما الإخلاص لهذه الشعائر السامية إلا إخلاص الأحرار الذي يوجب علينا التقدم بالنصحية كلما اقتضاها الحال.
يا صاحب الجلالة :
إن احتمال الشعب مهما يطل فهو لابد منته إلى حد، و إننا نخشى أن تقوم في البلاد فتنة لا تصيبن الذين ظلموا وحدهم، بل تتعرض فيها البلاد إلى إفلاس مالي وسياسي وخلقي، فتنتشر فيها المذاهب الهدامة، بعد أن مهدت لها آفة استغلال الحكم أسوأ تمهيد.
لهذا كله، نرجو مخلصين أن تصحح الأوضاع الدستورية تصحيحًا شاملاً، وعاجلاً، فترد الأمور إلى نصابها، وتعالج المساوئ التي تعانيها مصر على أساس وطيد من احترام الدستور، وطهارة الحكم، وسيادة القانون، بعد استبعاد من أساءوا إلى البلاد وسمعتها، ومن غضوا من قدر مصر وهيبتها، وفشوا فشلاً سحيقًا في استكمال حريتها ووحدتها ونهضتها، حتى بلغ بهم الفشل أن زلزلوا قواعد حكمها وأمنها وأهدروا فوق إهدار اقتصادها القومي، فاستفحل الغلاء إلى حد لم يسبق له مثيل، وحرموا الفقير قوته اليومي.
ولا ريب، أنه ما من سبيل إلى اطمئنان أية أمة لحاضرها ومستقبلها، إلا إذا اطمأنت لاستقامة حكمها، فيسير الحاكمون جميعًا في طريق الأمانة على اختلاف صورها، متقين الله في وطنهم، ومتقين الوطن في سرهم وعلنهم.
والله جلت قدرته هو الكفيل بأن يكلأ الوطن برعايته، فيسير شعب الوادي قدمًا إلى غايته.
إمضاءات
إبراهيم عبد الهادي، محمد حسين هيكل، مكرم عبيد، حافظ رمضان، عبد السلام الشاذلي، طه السباعي، مصطفى مرعي، عبد الرحمن الرافعي، إبراهيم دسوقي أباظة، أحمد عبدالغفار، علي عبد الرازق رشوان محفوظ، حامد محمود، نجيب اسكندر، زكي ميخائيل بشارة، السيد سليم.وقد منعت الوزارة نشر هذا الكتاب، وصادرت الصحف التي نشرته، وأذاع النحاس في 21 أكتوبر سنة 1950 بيانًا ردًا عليه، وذكر في بيانه أن العريضة من ناحية الشكل جانبها التوفيق والصواب، بدعوى أن الموقعين عليها اختاروا لرفعها إلى جلالة الملك اليوم السابق لعودة جلالته من الخارج (أكتوبر سنة 1950)، وأنها "قدمت على ورق وبخط غير لائقين بما يرفع إلى أسمى مقام في البلاد"!!
وقال إنها من ناحية الموضوع حوت كلامًا معادًا، وأن الحكومة في غنى عن أي رد جديد، وإن ما أوردته بشأن التحقيق الجنائي الخاص بأسلحة الجيش زعمًا منها أنه قد تناول بعض تصرفات لرجال من الحاشية الملكية وأنه يخشى أن تقصر يد العدالة عن بلوغهم، فإن الحكومة ليس في وسعها أن تخوض في هذا الأمر لتقديم الأدلة الحاسمة على إفك ما يزعمون (كذا)، نزولاً منها على قرار النيابة العامة بخطر النشر، وأشار "إلى الرغبة الملكية السامية بأن تسير تحقيقات الجيش في مجراها الطبيعي"، وأن هذه الرغبة جاءت حاسمة قاطعة لدابر الشائعات الخبيثة التي دأب البعض على إذاعتها عمدًا لإثارة القلق في نواحي البلاد، وأن الحكومة قد أفسحت من صدرها إلى اليوم لعل هذا البعض يعود إلى رشده ويدرك ما تضر به مصالح البلاد العليا من جراء هذه الخطة المدبرة، أن الحكومة بإزاء هذا الإصرار لن تسكت بعد اليوم (21 أكتوبر 1950) على هذا الإجرام السافر في حق البلاد.
وأول ما يلاحظ على هذا البيان أن النحاس يرد فيه على عريضة منعت الوزارة نشرها، وأنه تبرع قبل أن ينتهي التحقيق في قضية أسلحة الجيش، بالجزم بأن ما نسب إلى بعض رجال الحاشية الملكية هو إفك يزعمه المعارضون، وهذا ولا ريب تدخل في مجرى التحقيق لا يجوز صدوره من السلطة التنفيذية.
وقد غضب فاروق على موقعي هذا الكتاب، وظل ناقمًا عليهم إلى أن نزل عن العرش.
الانحلال والانحدار
اجتمع إلى مساوئ فاروق في الحكم وفي حياته الشخصية ظهور الفضائح في عهده بين أفراد عائلته وأقرب الناس إليه.
كانت هذه الفضائح موجودة من قبل، ولكن في نطاق ضيق، بحيث لم يلق الكثيرون بالهم إليها، أما في عهده فقد برزت وتفاقمت، وصارت موضع الأحاديث الخاصة والعامة، ولعل مسلك فاروق الشخصي كان مغريًا ومشجعًا لأفراد عائلته على الاستهتار وعدم المبالاة، وكان هو قدوة سيئة لهم في هذه الناحية.
ففي عهده تزوجت عدة أميرات من أجانب، وهجرن مصر، وأقمن مع أزواجهم في أوروبا وأمريكا، ومعظمهم من الأفاقين ونهازي الفرص، فساءت سمعة أسرة محمد علي بين الشعب.
ولم تحافظ والدته نازلي على السمعة الحسنة والتقاليد القويمة، وقد اتهمها فاروق بأن لها علاقة بأحمد محمد حسنين، واستبان من حديث لها أنها تزوجته زواجًا عرفيًا، وثبت أن فاروق بعد وفاة أحمد محمد حسنين ذهب إلى داره بحجة العزاء، وأخذ ينبش في أوراقه الخاصة، وانتزع ورقة تدل الملابسات على أنها هي وثيقة زواجه بنازلي.
وساءت العلاقة بين فاروق ووالدته، وسافرت إلى أوروبا في صيف سنة 1946، ولم تعد إلى مصر.
والتقت حين وصولها إلى مرسيليا بأفاق يدعى رياض غالي كان أمينًا للمحفوظات بقنصلية مصر في مرسيليا وانتدبته القنصلية ليكون في خدمة "الملكة" وليشرف على نقل حقائبها، ومن يومئذ لازمها، وصحبها إلى سويسرا فباريس فلندن فأمريكا.
ولما وصل إلى مصر نبأ هذه الصلة طلبت وزارة الخارجية من رياض غالي العودة إلى عمله في مرسيليا، فرفض الإذعان لطلب الوزارة، فأحالته إلى المعاش، فاستبقته نازلي في خدمتها، واتخذته سكرتيرًا لها، وعوضته أضعاف مرتبه.
ولما استقر بها المقام في أمريكا زوجته من ابنتها فتحية في مايو سنة 1950، وأعلن نبأ الزواج، فكانت ضجة، وكانت فضيحة.
وقد طلبت الخاصة الملكية سترًا لهذه الفضيحة الحجر على نازلي، فقضى مجلس البلاد في 31 مايو سنة 1950 بالحجر عليها وتعيين ناظر الخاصة قيمًا عليها، ونزع وصايتها على بنتها فتحية، وبطلان زواج فتحية من رياض غالي والتفريق بينهما (ولم ينفذ الحكم في شقة الأخير).
وأصدر فاروق في أول أغسطس سنة 1950 أمرًا بتجريد نازلي من لقب الملكة ومن الحقوق والمزايا التي تتعلق بهذا اللقب، ولم يفد كل ذلك في انتشال سمعة فاروق وعائلته من الحضيض الذي وصلت إليه، بل زاد في الزراية بهم جميعًا.
وبلغت الزراية أقصى مداها حين رحل فاروق إلى فرنسا فعد إصداره هذا الأمر، وأطلق لنفسه العنان في الإكباب على الشهوات والقمار، وازدادت فضائحه ذيوعًا.
الشعب ينشد الثورة
تفاقمت المساوئ والخطايا في حياة فاروق العامة والخاصة، وتزايد تيار السخط عليه، وتحول إلى بركان يوشك أن ينفجر، فجاء الجيش وأشعل البركان، ومن ثم شبت الثورة.
فالمساوئ التي عاناها الشعب من حكم فاروق، والسخط الذي كان يعتمل في النفوس ويستفز الشعور، جعل الشعب يتطلع إلى ثورة تنقذه من هذه المساوئ، ولم يكن من سبيل إلى هذا الإنقاذ إلا بخلع فاروق، لأن كل الدلائل والبينات كانت مجمعة على أنه غير قابل للإصلاح.
ففاروق كان يسير في حكمه وفي حياته الشخصية إلى الهاوية، إلى النهاية المحتومة.
كان يدفع الشعب والجيش إلى الثورة دفعًا، وبدا كأنه يتعجلها، فقامت الثورة فعلاً، ثورة 23 يوليو 1952، وأطاحت به وبعرشه وأسرته.
وقلما وُجد ملك من الملوك الذين فقدوا عروشهم من ينطبق عليه بقدر ما ينطبق على فاروق قول الشاعر :
- كذاك من لا يسوس المُلْكَ يُخْلَعُهُ