قصتي مع الجماعة و قصتهم مع العسكر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
قصتي مع الجماعة و قصتهم مع العسكر

مدحت أبو الفضل

مكتبة الشروق الدولي

إهداء و تقديم

إلى أفراد المجموعة التي عشت بينهم زمنا رغدا وهم : المرحوم : كمال حلمي والمرحوم / عصمت عبد الحليم , والأخ / ماجد حسن , متعه الله بالصحة إن كان حيّا ورحمه الله إن كان قد مات . والأخ / ماهر حتحوت والأخ / يوسف أمين عبده ,والأخ / على إبراهيم شفاه الله .

وإلى زوجتي المرحومة السيدة / عفاف أحمد على النمر , التي كنت أتمني لو طال بها الأجل لتقرأ هذه الصفحات مدحت أبو الفضل

تقديم

المفكر والكاتب الكبير فهمي هويدي

اعتدنا أن نطالع مذكرات المشاهير وأن نستقبلها بدرجات مختلفة من الحفاوة لأسباب مفهومة وحتى إذا لم يحقق " النجم " إنجازا يذكر أو إضافة تؤهله لأن يحتل مكانة في تاريخ فإن الشهرة بحد ذاتها تظل جاذبة للكثيرين .

خصوصا إذا اقترنت بأضواء وسائل الإعلام المرئية والمقروءة , التي أصبحت من أهم عوامل تشكيل الإدراك في عالمنا المعاصر .

لذلك فإن إقدام مواطن عادي على تسجيل مذكراته يتطلب درجة عالية من الجرأة والثقة بالنفس .

كما أنه يعد استثناء على القاعدة . ذلك أن المشهور يعتبر نفسه شخصا مهما في نظر الآخرين الأمر الذي يشجعه على أن يعرض عليهم سيرة حياته وخلاصة تجربته , مطمئنا إلى أن هناك من يريد أن يعرف أكثر عنه مدفوعا في ذلك بالإعجاب أو حتى الرفض له.

أما المواطن العادي الذي يدرك إنه لا تتوافر له تلك الأهمية ولا يتوقع من الآخرين أن يكترثوا بسيرته أو تجربته فغنه لابد أن يتردد كثيرا قبل أن يقدم على تلك المغامرة .

ومن المفارقات أن أغلب مذكرات المشاهير أقل صدقا وصفاء من مذكرات المواطنين العاديين, لأن الأولين لابد أن تكون لهم حساباتهم التي تفرضها عليهم علاقاتهم ومصالحهم وصورته في أعين الناس ناهيك عن أن الواحد منهم يحرص بطبيعة الحال لأن يحتفظ بمكانته في التاريخ .

أما المواطن العادي فليست لديه مثل هذه الحسابات وليس لديه " جمهور " يحرص على استرضائه أو الحفاظ على صورته لديه .

ولا يعنيه شئ أكثر من أن يقول الحقيقة كما يتصورها على الأقل بغير تحوير أو تلوين خصوصا إنه ليس جزءا في التاريخ وفي أحسن أحواله فإنه قد يكون متفرجا عليه أو أداة له.

وأحسب أن الكتاب الذي بين أيدينا نموذج لهذه الحالة الأخيرة ذلك أن مؤلفه الأستاذ مدحت أبو الفضل اختار أن يسجل تجربته كعضو سابق في جماعة الإخوان المسلمين ثم في تنظيمها الخاص .

كما عايشها كشاب غيور متحمس في كلية الحقوق وكمتطوع لمقاومة الانجليز في قناة السويس , وكسجين تم اعتقاله في عام 1954 وإيداعه السجن الحربي ( حيث تعرفت عليه هناك قبل نصف قرن) وهذه التجربة التي لم تؤثر على غيرته وحماسه إذ سارع إلى الانضمام إلى المقاومة الفلسطينية في عمان, رغم أنه كان قد انتقل إلى الكويت بعد الإفراج عنه , وصار محاميا ناجحا هناك, خطوط المذكرات محددة بشكل عام بين أهل السياسة في مصر .

آية ذلك إننا نلحظ فقرا مشهورا في هذا الباب تعاني منه المكتبة المصرية , وهذا " الفقر " بأطوارها المختلفة في السجون وخارجها حتى بات ملفتا للأنظار أن الإنتاج الفكري والثقافي لرموز الحركة الشيوعية باختلاف فصائلها قدم لها حججا ودورا أكبر بكثير مما هو حاصل في الحياة السياسية على الأرض , على النقيض تماما من حركة الإخوان المسلمين التي ظل جسمها كبيرا على الأرض في حين أحتل تاريخها المكتوب حيزا متواضعا في المكتبة المصرية .

شح المصادر التي تتحدث عن تاريخ الإخوان,وتجربة التنظيم الخاص تحديدا يضفي أهمية على هذا الكتاب لأنه يقدم نموذجا لشخصية وتجربة أحد عناصر ذلك التنظيم الذي دأب الإعلام على وصفه بالتنظيم السري أو مليشيا الإخوان المسلحة .

ولا ينبغي أن يغيب عن البال أن المؤلف لم يكن قياديا يتحمل مسئولية القرارات , وإنما كان مجرد فرد عادي يتلقي التوجيهات ويتفاعل معها بصورة أو أخري والوقائع التي رواها الأستاذ مدحت أبو الفضل تصور بصدق ودقة موقف ذلك الجيل من الشباب الذي انخرط في جماعة الإخوان بحسبانها جزءا من الحركة الوطنية , وظل طول الوقت ممتلكا وعيه وإرادته, وقادرا على تقييم ما يتلقاه من توجيهات ونقدها ولذلك فإنه لم يكتف بسرد الأحداث . ولكنه لجأ إلى تحليلها وتقييمها في ملابسات وقوعا , وفي بعض الأحيان فإنه أعاد النظر في ذلك التقييم في ضوء الخبرة التي اكتسبها على مر السنين .

ألفت النظر أخيرا إلى إننا لسنا بصدد كتاب في التاريخ , ولكنه يقدم شهادة على التاريخ من خلال معايشة بعض وقائعه الأمر الذي يسوغ لى أن أقول إننا بصدد رواية لتاريخ مرحلة , قابلة للإضافة والتصويب أو الحذف أهم ما فيها أن صاحبها ليست له مصلحة في تلوين التاريخ أو توظيفه لأى غرض , وأن الرجل سجل ما شاهده دون زيادة أو نقصان .

قد نتفق أو نختلف مع بعض الآراء في الكتاب لكنك ستمضي لا ريب وقتا ممتعا مع رحلة للحياة ليست شائقة فحسب ولكنها صافية ورائقة أيضا .

مقدمة

لم يخطر ببالي يوما كتابة هذه الصفحات من حياتي عن علاقتي بجماعة الإخوان المسلمين وما مرت به من أحداث كانت متأثرة بالضرورة بعلاقة الجماعة ذاتها بحكم العسكر , الذي بدأ منذ يوليو 1952 , وما زال مستمرا حتى كتابة هذه السطور رغم ثورة 25 يناير, ذلك أنني كنت أري أن علاقتي بالجماعة من ناحية , ومشاركتي فيما مر بها من أحداث من ناحية أخري أقل شأنا من أن تروي , وأن الزاوية التي كنت أنظر من خلالها إلى الأحداث كانت زاوية ضيقة لم تكن تسمح لى برؤية الكثير .

لكن حديثا مع الدكتور ماهر حتحوت في منزله بـ " لوس أنجلوس " في يناير من العام 2012 أقنعني بأن أقدم على ما أحجمت عنه كل تلك السنين, إذ قال إنه يستحيل على فرد واحد , أو حتى على عدد من الأفراد, أن يلم أو يلموا بكل تفاصيل الأحداث , طالما أن غيرهم كان مشاركا فيها بقدر قل أو كثر,وعليه فإن الصورة الكاملة للأحداث لا تكتمل إلا بأن يكتب كل من شارك فيها رؤيته لها وما شارك به فيها أيا كان حجم هذه المشاركة حتى تكتمل من مجموع الروايات الصورة الكاملة لها في نظر المؤرخين .

لذا رأيت أن ما أكتبه قد يضيف بعض التفاصيل التي قد لا يكتمل المشهد تماما إلا بها .

ولما كانت هذه الأحداث التي مرت بها الجماعة منذ 23 يوليو 1952 وحتى الآن , ترتبط بحكم العسكر لمصر لذا رأيت أن يكون عنوان هذه الصفحات " قصتي مع الجماعة وقصتهم مع العسكر , خاصة وأنني أعتقد – وأرجو أن أكون مخطئا – أن الجماعة في علاقتها بعسكر 2011 لم تستفد بالقدر المطلوب من أحداث 1954

مدحت أبو الفضل

الانضمام إلى الجماعة

انضممت إلى جماعة الإخوان المسلمين عقب استشهاد مرشدها الأول الشهيد حسن البنا أى في العام 1949 وكان ذلك في وقت كانت الجماعة فيه مطاردة , وكان الإعلام الرسمي , وغير الرسمي , يشن حملة ضارية ضدها , نسب فيها إليها كل نقيصة , ويكيل لها الاتهامات المعقول منها , وغير المعقول , إذ كان بعضها عصيا على التصديق لمن كان لديه أى قدر من الذاكرة ,ومتابعا للأحداث , من ذلك – مثلا – اتهام الجماعة بالعمالة للأجنبي , وهو اتهام مستفز , يكذبه ما كان ينشر قبل عدة أشهر, في ذات وسائل الإعلام عن بسالة شباب الجماعة في فلسطين,

وفي مقاومة الانجليز فيما كان يعرف بقنابل عيد الميلاد , والتي سجن بسببها نفر من شباب الجماعة , وهي كلها أعمال كانت تثير إعجابي في تلك السن المبكرة وتجعلني أدرك أنني حيال شباب مختلف يمثل نوعية جديدة عما كنا نعرف من شباب الأحزاب الذين كان ولاؤهم للأشخاص وليس للمبادئ .

فكم كان صادما لى – مثلا – مقولة إن: " الاحتلال على يد سعد خير من الجلاء على يد "عدلي " وهتافاتهم للأشخاص والتطاحن بين هذه الأحزاب دون إيضاح لموجبات هذا التطاحن ووجه التمايز بينها ولا أنسي أغنية محمد عبد الوهاب التي تركت أثرا كبيرا في نفسي وقتها وهي أغنية " إلام الخلف بينكم إلاما "؟

كانت فقد وقع من نفسي – وقتها – اغتيال النقراشي موضع القبول إذ كنا ونحن طلبة في المدرسة الثانوية نخرج في مظاهرات هاتفة ضده لموقف متخاذل منه تجاه الانجليز في موضوع السودان.

إذا أنستني الأيام سبب ذلك الموقف من الرجل فقد عدت إلى كتاب الأستاذ طارق البشري " الحركة السياسية في مصر من 1945 – 1952 " أحاول تذكر لماذا كنا نتظاهر ضده في تلك الفترة , وعرفت منه أنه بعدما انتهت مدة عمل الشيخ حسن مأمون قاضي القضاة المصري في السودان اتجه الحاكم البريطاني إلى تعيين خلف سوداني له وكان هذا المنصب هو الصلة الإدارية الوحيدة تقريبا بين مصر والسودان ,وأن النقراشي ألقي وقتها في مجلس النواب بيانا هاجم فيه بريطانيا ,

إلا أن مكرم عبيد و فكري أباظة طالباه بموقف متشدد تجاه بريطانيا باتخاذ إجراءات إيجابية تجاه اتفاقيتي 1899 و معاهدة 1936 لكنه أحجم عن اتخاذ أى موقف إيجابي في هذا الصدد متجاهلا المطالب الشعبية له باتخاذ هذا الموقف ,

هذا بالإضافة إلى قبوله باتفاقيات الهدنة رغم أن موقف القوات المصرية في تلك الأثناء كان أفضل من موقف اليهود وكان من الواضح أن هذه الاتفاقيات تعقد لصالحهم لذا كانت هذه هي أسباب تظاهراتنا المنددة بالرجل وبسياساته في تلك الأيام قبل اغتياله وإن كانت الأيام قد أسقطتها من الذاكرة فلم أذكر سوي مظاهراتنا ضده دون تذكر أسبابها .

كما أن النقراشي أقدم على عمل أكثر سوءا من كل ذلك حينما قبض على فدائي الإخوان المحاربين في فلسطين وأعادهم مكبلين إلى سجون مصر مما دفع شابا متحمسا من الإخوان هو عبد المجيد أحمد حسن إلى اغتياله داخل وزارة الداخلية كل ذلك جعل عملية اغتيال الرجل – في نظري آنذاك – عملا بطوليا لقي من نفسي إعجابا بالجماعة ,

إلا أنني أدركت , ولكن بعد سنوات كم كنت مخطئا لأن أسلوب الاغتيال السياسي لا يفيد وأنه إن ذهب بشخص سيئ فلا يوجد ضمان أن من يأتي بعده سيكون أقل سوءا منه , كما أدركت أن العنف هو بضاعة الأنظمة المستبدة, إن لم تجده دفعت المعارضة إليه دفعا كي تجد فيه ذريعة للقضاء عليها بالقوة .

وحتى لا أظلم الجماعة فقد كان العنف هو السائد في تلك الفترة مارسه عبد الناصر عندما اشترك في محاولة اغتيال اللواء حسين سري عامر , ومارسه السادات عندما حاول قتل النحاس عقابا له على حادثة 4 فبراير كما شارك في اغتيال أمين عثمان عقابا له على تصريح قال فيه إن علاقة مصر بانجلترا مثل الزواج الكوثوليكي.

ومارست حكومات الأقليات في تلك الفترة العنف المتمثل في التعذيب على نحو لم تشهده مصر قبل ذلك بل إن الشيخ محمد عبده كان موافقا على الاشتراك في عملية اغتيال الخديوي إسماعيل لكنه لم يجد من كان يمكن أن يقوده إلى هذا الفعل .

كما أن اغتيال مرشد الجماعة بمعرفة النظام الفاسد الخاضع للإنجليز في وقت كان رؤساء الأحزاب يتصارعون على المناصب والمنافع ويترفعون عن التعامل المباشر مع الشعب كان شهادة له , ولجماعته , بأنها وقيادتها تنظيم مختلف عن نوعية الحياة السياسية في مصر في تلك الفترة .

كذلك أخذني ما كان يتردد آنذاك أن من أهداف الجماعة تحرير مصر , والدول العربية والإسلامية من الاحتلال الأجنبي والعمل على نهضة العالم الإسلامي على أساس القيم الإسلامية من أجل استعادة الأمة لهويتها المتميزة والمستقلة عن هوية الغرب كما وأنها كانت كثيرة التنبيه إلى الخطر الصهيوني وهو ما كان غريبا على سمعي وقتها .

لذا قررت الانضمام إلى الجماعة ولكن كيف السبيل إلى ذلك والمركز العام مغلق وكذلك الشعب مغلقة . والأمن يعتقل كل من يعرف أنه من الجماعة .

توجهت برغبتي هذه إلى زميل دراسة كنت أعرف أن له شقيقا كان طبيبا متطوعا في فلسطين ضمن متطوعي الجماعة وأنه عاد من الجبهة إلى المعتقل وقدرت أنه لابد أن تكون له صلة بالجماعة وقيادتها السرية على نحو يمكنني من تحقيق هذه الرغبة .

كان هذا الطالب هو ماهر حتحوت – الطبيب المتقاعد حاليا في أمريكا ويدير أحد مراكز الضغط الإسلامي بها – وكان شقيقه هذا هو المرحوم الدكتور / حسان حتحوت استمع ماهر إلى رغبتي ونظر إلىّ مليا فيما أذكر , ولم يقل شيئا لكنني لاحظت أنه أخذ يوطد علاقته بي, حتى إنه زارني في منزلي ثم دعاني إلى زيارته في منزله , وفي تلك الزيارة قابلت والدته لكنها لم تكن مقابلة سارة .

كانت والدته سيدة على قدر كبير من الهيبة يشع الحنان من قسمات وجهها لكنها طلبت مني في حزم وضع حد لصداقتي مع ولدها وعللت ذلك بأنها تأذت من اعتقال ولدها حسان وأصدقائه فإنها لا تريد تكرار هذه التجربة مرة أخري مع ولدها ماهر وأصدقائه .

ولكن على خلاف ما أردت تعمقت صداقتي بولدها كما تعمقت علاقتنا بالجماعة وقاست هذه السيدة ذات التجربة مرة ثانية , بعد عدة سنوات , مع اعتقال ولدها الثاني ماهر وأصدقائه, وأذكر أنها وقفت أمام الدائرة الثانية لمحكمة الثورة برئاسة اللواء صلاح حتاتة لتقول له في جرأة , عند محاكمته لولدها ماهر بتهمة الانضمام إلى النظام الخاص بالجماعة : " إنه إذ كان هناك من يستحق محاكمته , فلتكن هي لأنها لأنها هي التي زرعت في نفسه حب الوطن , إلى درجة التمرد, لكثرة ما كانت تحدثه عن ثورة 1919 ودورها فيها " وهي كلمة أشك كثير في أن هذا اللواء قد فهم معناها .

نعود إلى ما انقطع من حديث بسبب هذه الاستطرادة لأذكر أنه في أحد الأيام من ذلك العام ( عام 1949 ) سألني ماهر فجأة هل ما زلت عند رغبتك في الانضمام إلى الجماعة ؟ فأجبته بالإيجاب

ثم توجهت معه عد انتهاء اليوم الدراسي وكان يوم خميس إلى حديقة عامة بالسيدة زينب بجوار سينما الهلال , حيث قابلت عدة أشخاص في مثل عمرنا , علمت أنهم هم أفراد مجموعتنا الصغيرة في جماعة الإخوان المسلمين الصادر قرار بحلها , وبعد فترة حضر مسئول المجموعة وكان شابا يكبرنا بعدة سنوات , قدم لنا نفسه باسم مستعار هو " عزمي الجندي " وعرفنا فيما بعد أن اسمه الحقيقي هو " على عفيفي على عبده " وكان رحمه الله شخصية آسرة بكل معني الكلمة .

كان موعد اجتماع المجموعة أو ما كان يطلق عليها الأسرة هو نهاية اليوم الدراسي من كل يوم خميس, وكان اللقاء يخصص لمناقشة مدى التزامنا بالبرنامج الدراسي والتعبدي المقرر علينا ومناقشة أية مقترحات يتقدم بها أى منا , وسماع أخبار الجماعة , والتكليفات الجديدة إن كانت ثمة تكليفات جديدة مثل توزيع المنشورات التي كنا نضعها في صناديق البريد أو تحت أعتاب الأبواب أن نلصقها على أبواب المدارس والمصالح الحكومية ,

وفي أحد هذه الاجتماعات انتظرنا مسئول المجموعة لكنه لم يحضر , انصرفنا على أمل حضوره في اللقاء القادم لعل طارئا حال بينه وبين حضور الاجتماع ولما لم يحضر كذلك, أدركنا أنه اعتقل ويومها قررنا أن تكون مجموعتنا هي جماعة الإخوان المسلمين واخترنا لها مسئولا , وتوافقنا على برنامج لها تضمن قيام الليل مرة كل أسبوع , ووردا من قراءة القرآن وعددا من القراءات لكتب اقترحها أفراد المجموعة وأذكر أنه كان من بينها رسائل نهرو إلى ابنته , وكتاب الله للعقاد

وكتب أخري لا أذكرها واستمرت اجتماعاتنا بنهاية اليوم الدراسي من كل خميس إلى أن سقطت وزارة إبراهيم عبد الهادي وجرت انتخابات نيابية حصل الوفد فيها على أغلبية تمكنه من تشكيل الوزارة وهنا لى وقفة مع دور أسرتنا من أحداث تلك الفترة ولا شك أن أسرا كثيرة من أسر الجماعة في كل مصر تصرفت على نحو ما تصرفت به أسرتنا وإلا ما استعادت الجماعة عافيتها بتلك السرعة بعدما عادت إلى النور عقب الوفد إلى الحكم بعد انتخابات عام 1950.

العودة إلى النور

على أثر فوز الوفد في انتخابات عام 1950 كانت المظاهرات تخرج من المدارس والنقابات بكافة أنحاء القاهرة , بل ومن الأقاليم كذلك لتتجه إلى منزل رئيس حزب الوفد, المرحوم الزعيم مصطفي النحاس, بجاردن سيتي , هاتفة بحياته وحياة الوفد.

وكان أفراد أسرتنا , حرصا منهم على أن يبقي اسم الجماعة مطروحا على الساحة , يوزعون على هذه المظاهرات, ويطلب كل منا من المتظاهرين حملة لقيادة المظاهرة, ويهتف ابتداء بالهتافات المؤيدة للوفد ثم بعد فترة يهتف بهتافات الجماعة وبالمطالبة بإلغاء الأحكام العرفية والإفراج عن المعتقلين , إلى أن يتبين للمتظاهرين أن الهتاف خارج عن السياق فينزلونه, ليتجه إلى مظاهرة أخري , وهكذا

وأذكر أنه في ذلك الوقت أقام المرحوم أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة سرادقا كبيرا بميدان الأوبرا للمطالبة بإلغاء الأحكام العرفية,وحث حكومة الوفد على المطالبة بالجلاء , وتوزعنا في أركان السرادق مطالبين بالإفراج عن المعتقلين ومرددين هتافات الجماعة وشعاراتها حتى إن أحمد حسين وجه في خطابه كلمة إلى جموع الإخوان المسلمين المتواجدين في السرادق محييا إياهم ومشيدا بشباب الجماعة الذين لم تفت المعتقلات في عضدهم , ومشيدا كذلك بعلاقته المتينة والمتميزة بالشهيد حسن البنا , وأن مطلب الإفراج عن المعتقلين واحدا من أهم مطالبه من الوزارة الجديدة وكنا وقتها نشعر بالسعادة والرضا لأن صوت الجماعة ما زالت تتردد أصداؤه في الفراغ الذي خلفته حملة الاعتقالات العاتية .

بعد تولي الوفد الحكم بدأ الإفراج عن المعتقلين وفتحت شعب الجماعة أبوابها كما استردت مركزها العام بحكم قضائي يكشف عن مدي إيمان حكومة الوفد بالديمقراطية وبالخضوع لأحكام القضاء وعادت مجموعتنا إلى الاجتماع برئاسة على عفيفي مرة أخري لكنه بعد فترة سلم رئاسة المجموعة إلى محمد سامي البنا الطالب بكلية الطب , وشقيق صلاح البنا , أحد مجاهدي الإخوان في فلسطين الذي كان قد فقد إحدي عينيه في إحدي المعارك بها .

تضمن البرنامج الجديد لمجموعتنا التي كان يطلق عليها الأسرة ما يعرف بنظام الكتائب وهي عبارة عن لقاءات ليلية تجمع عددا من الأسر تجتمع سويا لتتعارف وتصلي صلاة العشاء جماعة.

ثم تتناول طعام العشاء وكان دائما يتكون من سندوتشات الفول والطعمية وتستمع إلى عدة محاضرات وتنام بعد ذلك لتستيقظ لتصلي صلاة الفجر ’ ثم ينصرف كل إلى حال سبيله, كذلك كان يتضمن البرنامج الجديد عددا من القراءات .

وكذا تدريبات عسكرية ولكن بغير سلاح , مثل السير في الصحراء باستخدام البوصلة لمسافات طويلة ليلا أو نهارا والزحف والقفز من فوق الموانع والمصارعة اليابانية وكان من أبرز مدربينا في تلك الفترة المجاهد الكبير عبد العزيز على محمد , أحد مقاتلي الإخوان في فلسطين بفصيلة النسف والتدمير التابعة للقائمقام الشهيد أحمد عبد العزيز , وكان كثيرا ما يصرخ فينا أثناء التدريب تشكل تلال المقطم وصحراء الهرم, وصحراء المعادي.

فقد كنا نخترق تلال المقطم إلى أن نصل إلى المعادي كما كنا نسير من ميدان الجيزة حتى نصل إلى منطقة الأهرامات التي تتمتع بالكثير من المواقع الطبيعية وغير الطبيعية كهذه الناجمة عن الحفريات والمباني الأثرية المتهدمة.

وأذكر أنه عندما كان يستبد بنا العطش في الطوابير النهارية , كثيرا ما كان قائد الطابور يطلب منا رفع ( زمزمياتنا) إلى أعلي ثم يطلب منا إفراغها على الرمال فنصاب بخيبة أمل شديدة. وأذكر أننا في إحدي سرنا من مصر القديمة حتى حلوان وكان من نتيجة ذلك أن ثقب الحذاء الذي كنت أرتديه .

وكثيرا ما كانت الشعبة تدعونا إلى مشاهدة فيلما معينا, ومن المناظر التي كانت تدعو إلى تساءل الناس منظرنا ونحن نحتل صفين من مقاعد سينما مترو لمشاهدة أفلام مثل فيلم " فيفا زاباتا" أو فيلم " أطول يوم في التاريخ"... هكذا .

تظاهرة مفاجئة أمام البرلمان

في صيف 1951 قدمت وزارة الوفد إلى البرلمان مشروعي قانونين أحدهما يسمي بقانون الجمعيات وهو يستهدف بالأساس جماعة الإخوان المسلمين , والأخر يستهدف حرية الإعلام إذ كان يقترح وضع قيود على حرية نشر الأخبار والمعلومات المتعلقة بالسراي وبالعائلة المالكة .

ورأت الجماعة أن تحتج على قانون الجمعيات وصدرت التعليمات بمفاجأة البوليس والنواب بمظاهرة تجتمع أمام المجلس في تمام الساعة الثالثة عصرا..

وكان منظر المنطقة عجبا في الدقائق القليلة السابقة على موعد المظاهرة كان العشرات يحتسون العصير في محل العصير القريب من البرلمان, وصاحب المحل يعجب من هذا الإقبال المفاجئ على مشروباته , والعشرات يقفون على محطة الترام القريبة من البرلمان, وغيرهم في الشوارع الجانبية والسائرون على الأقدام بالعشرات في الطريق العام في زحام غير مألوف في هذا الوقت, وكل منهم يتجاهل الآخر والمنظر ملفت للنظر والاستغراب وفجأة هتف سعد الوليلي " الله أكبر ولله الحمد " فتجمعت المظاهرة ولم يحضر البوليس إلا بعد فترة طويلة نسبيا ودل ذلك على أن التنظيم غير مخترق وعلى قدرة الجماعة على الحشد بعد الضربات التي تلقتها بين عامي 1948 , 1949.

أول خلاف نشهده في الجماعة

في تلك الفترة جرت مياه كثيرة سواء في نهر مصر أو في نهر الجماعة .

فقد كانت ليالي السجن الطويلة مدعاة ليعيد نفر من قيادات الجماعة وأفراد النظام الخاص تحديدا النظر فيما جري من أحداث بواسطته , بل النظر في فكرة النظام الخاص نفسها انقسم هؤلاء إلى فريقين فريق يري أن فكرة النظام الخاص فكرة ورائدة وأنه أدي الدور المطلوب منه في فلسطين , وأنه ما زال له دور مطلوب في مقاومة الاحتلال الانجليزي كما أنه مثل رادعا لأعداء الجماعة باعتبار أن وجوده حال دون التمادي في العمل على تصفيتها ,

ويبرر قرار حل الجماعة بأنه لم يكن بسبب أعمال العنف التي نسبت حقا أو زورا إليها وإنما كان ذلك بسبب التدخل الأجنبي لما كشف عنه أداء متطوعيها في فلسطين من أنه حيال نوع جديد من الشباب المؤمن الذي لديه استعداد للتضحية بالفعل وليس بالكلام والهتاف وهو ما تخشاه دولة الاحتلال .

أما الفريق لآخر فيري أن النظام الخاص لم يجلب للجماعة سوي المتاعب دون فائدة تذكر بل ودفعت الجماعة بسببه ثمنا باهظا يتمثل في اغتيال مؤسسها "الشهيد الإمام حسن البنا" .

وأنه كان يمكن إمداد معركة فلسكين بالسلاح والمتطوعين دون أن يكون وراء ذلك تنظيم سري مسلح. وأن مشروع النهضة الذي تطرحه الجماعة يحتاج إلى دراسات متخصصة وإلى تجديد في الفقه الإسلامي على ضوء مستجدات العصر التي طرأت على صور الحياة المختلفة وقد أسس هذا الفريق ما عرف بـ " لجنة الشباب المسلم" كما افتتح مكتبة في عابدين تحت هذا الاسم وكان يتولي إدارتها الأخ المرحوم أسعد السيد وكان من أقطاب النظام الخاص , وكان مجال نشاطه فيه هو شعبة المخابرات.

وهو شخصية فريدة كان هو وأمثاله من شباب الجماعة , نتاج عصر كانت مصر تتمتع فيه بقدر كبير من الحرية , لذا كان من الطبيعي أن تشهد مصر وقتها قامات كبيرة في كل مجالات الحياة في الفن و الصحافة والتعليم الجامعي والمسرح والجيش – انظر رعاك الله كيف بدأت حرب فلسطين ونحن في يدنا قطاع غزة وكيف انتهت وقد فقدنا سيناء بالإضافة إلى ذلك القطاع ! بالإضافة إلى أنه كان من الرعيل الأول الذي تربي على يد حسن البنا .

كان هذا هو الخلاف الفكري الذي عايشه كاتب هذه الصفحات وعايشته معه مجموعته ورغم صغر أعمارنا في ذلك الوقت إلا أننا كنا نري فيه ظاهرة صحية للغاية , باعتبار أن الشعار الذي كان يسود علاقة أفراد الجماعة بعضهم ببعض , وهو وجوب أن نكون جميعا على قلب رجل واحد لا يعني مطلقا أن نكون جميعا على عقل هذا الرجل الواحد.

وقد حاولت مجموعتنا أو لنقل أسرتنا , وقتها الوصول بهذا الخلاف إلى رؤية وسطية تجمع بين التوجهين وذلك بأن تهتم الجماعة بتنمية الجوانب المتعددة التي تشكل الشخص السوي من حيث الاهتمام بالقوة البدنية وتنمية روح الفداء والتضحية لديه وكذا تنمية حب الدراسة الاطلاع في الوقت نفسه,

وألا يقتصر هذا الاطلاع على أمور الدين فحسب بل يمتد إلى أمور الدنيا كذلك مع التحرر من المسلمات الفكرية المقيتة عندما تقدم بي العمر , أدركت أن ذلك الرأي كان الصواب بعينه, فمن أسوأ الأمور أن يحشر صاحب المبدأ أو العقيدة أو الرأي نفسه في عقيدته أو مبدأه أو رأيه فقط دون غيره, فلا ينظر إلى آراء ومبادئ الآخرين إلا من خلال آرائه ومعتقداته هو ومن ثم فلا يري في مبادئ الآخرين ومعتقداتهم إلا كل ما هو سيئ .

وما يصدق في السياسة , يصدق في الاقتصاد أحسب أن الاتحاد السوفييتي تفكك لأنه حشر نفسه في نظرية الاشتراكية العلمية , أو الماركسية اللينينية وهو ما انتبهت له الصين ففتحت اقتصادها على كل النظريات الاقتصادية التي تصب في مصلحة اقتصادها وكنا قد حاولنا وقتها الوصول إلى حل لهذا الخلاف الفكري , بالاستعانة بنفر ممن كانوا محل قبول من الطرفين أمثال المرحوم " حسن عبد الغني " والأخ " على رياض " والمرحوم المهندس " جمال الشافعي " وغيرهم لكننا مع ذلك لم نصل في تلك الفترة إلى مرحلة الاعتقاد بوجوب حل النظام الخاص وتصفيته ,

فقد كنا نري وقتها أنه يمثل البلورة التي يمكن أن تتبلور حولها مقاومة الاحتلال البريطاني الذي كان يمثل المشكلة الأساسية والكبرى لكل المصريين هذا وقد أتت الأحداث بعد ذلك بما صب في صالح مجموعة الجهاد , وهو الاسم الذي كان يطلق على المجموعة المتمسكة ببقاء النظام الخاص, مقابل مجموعة التربية وهو الاسم الذي كان يطلق على النفر المطالب بحله, وكان ذلك عندما ألغت وزارة الوفد معاهدة 1936, وتوجه المصريون إلى المقاومة المسلحة ضد الانجليز .

الإخوان و معركة القناة

أعلن الزعيم مصطفي النحاس من تحت قبة البرلمان إلغاء معاهدة 1936 وسحب العمال المصريين العاملين في المعسكرات البريطانية وتوفير أعمال لهم لدي الحكومة المصرية , استقبل المصريون هذه الخطوة بحماس شديد, وهو ما كان يعني بداهة السماح للمصريين بمقاومة الاحتلال بالسلاح.

وقد نشطت الجماعة فور إعلان الزعيم مصطفي النحاس البدء بهذه المقاومة إذ إنها عملت كثيرا استعدادا لهذا اليوم, لكن قيادة الجماعة رأت , لاعتبارات تتعلق بأمنها وبالوطنية المصرية, أن تجري هذه المقاومة تحت راية جامعة فؤاد الأول, وليس تحت راية الإخوان فقد استمرت تجربة الجماعة في حرب فلسطين ماثلة بقوة في الذاكرة حيث نزلوا من ساحة القتال إلى معسكرات الاعتقال .

ومن عجب أن محكمة الثورة بعد ذلك كانت تجد في الاشتراك في حرب فلسطين ثم في معركة القناة , موجبا للحكم بالسجن على من شارك فيهما أو في أى منهما .

أقام الإخوان المسلمون أو بالأحرى النظام الخاص معسكر تدريب في جامعة فؤاد الأول , حيث ينتقي من بين المتطوعين للقتال , سواء من الإخوان أو من غيرهم من طلبة الجامعة, من هم الأصلح له , ليتلقوا فيه تدريبا أوليا ثم بعد ذلك يرسلون إلى معسكر آخر في الشرقية للخضوع لتدريبات متخصصة لإعدادهم كمقاتلين , وكانت تعطي لهم بالإضافة إلى التدريبات العسكرية دراسات سبق النظام الخاص إعدادها عن المعسكرات البريطانية وكيفية التسلل إليها من بين حقول الألغام المحيطة بها ونوعية هذه الألغام وما إذا كانت قديمة من أيام الحرب العالمية الثانية , أو أنها حديثة

وكانت كتيبة جامعة فؤاد الأول بقيادة المرحوم حسن دوح أحد قيادات متطوعي الإخوان في حرب فلسطين وقد قامت بعمليات عديدة ضد القوات البريطانية في القنال , واستشهد في إحداهما وهي معركة التل الكبير الشهيدان " عمر شاهين و أحمد المنيسي " وأذكر أنه أقيمت لهما جنازة ضخمة اشترك فيها رئيس جامعة فؤاد الأول , وعدد كبير من أساتذتها وكثير من قادة الحركة الوطنية في مصر.

وكانت معركة التل الكبير هذه تمثل نقلة نوعية في العمليات ضد جيش الاحتلال فكما رواها لنا الأخ على إبراهيم الذي شارك وأسر فيها إنهم نسفوا مجمعا لخطوط السكة الحديد بما في ذلك الخط الموصل لعدد من معسكرات الجيش البريطاني, ثم قاموا بزرع لغم بالقرب من موقع الانفجار كان عبارة عن " تنك سيارة" مملوء بمادة الجلجنايت وانتظروا بجوار النسف عدة أيام حتى وصل قطار محمل بالمعدات والجنود وتوقف عند الجزء المنسوف من الخط ونزل الجنود من كتيبة المهندسين لإصلاحه وعندئذ قام الفدائيون بتفجير اللغم

ويقول على إبراهيم أن الانفجار كان عنيفا لدرجة تطايرت معها أجساد عدد كبير من جنود الجيش البريطاني في الهواء , عندئذ نزل الجنود من القطار واشتبكوا مع الفدائيين عن محاولتهم للانسحاب وكانت هذه المعركة هي أول معركة مكشوفة تقع بين الفدائيين المصريين وجيش الاحتلال.

وقد شكلت هذه العملية منعطفا هاما في مسيرة المقاومة فقد كانت أول عملية مكشوفة بين الفدائيين وجنود الاحتلال وقد استمرت عدة ساعات وظهرت فيها قوة الفدائيين كقوة متميزة تقف أمام القوات البريطانية وجها لوجه وتحدث فيها خسائر غير مسبوقة في العمليات السابقة وقد كتبت جريدة الديلي : ميرور " لا نستطيع بعد اليوم أن نقول عن قوات المعركة بين مصر وبريطانيا في دور جديد وكتبت النيوزكرونيكل : " إنها أول المعارك المنظمة تنظيما جيدا " لقد ثبت المصريون في القتال ولم يركنوا إلى الفرار , حتى علق أحد الضباط الانجليز على هذه المعركة بأنها أعنف من أى معركة خاضوها أيام الانتداب البريطاني في فلسطين وكتبت التايمز تصف ما أبداه المصريون من شجاعة في التصدي لثلاث مجموعات من قوات المشاة البريطانية تدعمها الدبابات .

ولم يقتصر الكفاح المسلح على كتيبة جامعة فؤاد الأول التي كانت وراءها الجماعة بل توجهت إلى القناة مجموعات فدائية أخري , سواء من مصر الفتاة, أو من اليساريين أو من غيرهم من الوطنيين وكان لهم شهداء وجرحي .

ولم يقتصر النظام الخاص على تدريب أفراد كتيبة الجامعة , أو حتى على أفراده بل توسع في تدريب الأعضاء العاديين بالجماعة ممن كانت الشعب المختلفة ترشحهم لذلك بقصد نشر الوعي العسكري بينهم وباعتبارهم مرشحين محتملين للانضمام مستقبلا إلى النظام الخاص فيما لو توافرت فيهم بقية شروط هذا الانضمام أو مرشحين للانضمام إلى كتيبة الجامعة فيما لو استمرت العمليات العكسرية وأصبحت تتطلب مزيدا من الإمداد في الأفراد .

وكانت مجموعتنا من المجموعات التي أرسلتها شعبة المنبرة للتدريب في أحد معسكرات الجماعة " بمدينة فاقوس " بالشرقية .

توجهت عقب صلاة الفجر إلى محطة السكة الحديد حيث التقيت بباقي أفراد المجموعة المرشحة من قبل شعبة المنيرة للاشتراك في هذه الدورة التدريبية التي تستغرق ثلاثة أيام عند الوصول إلى فاقوس قابلتنا سيارة أخذتنا إلى المعسكر الذي كان يقع في عزبة مملوكة للأخ عبد العزيز على وهو غير الأخ عبد العزيز على محمد المقاتل السابق في فلسطين وأحد أبرز مدربي الجماعة والمكان عبارة عن منزل ريفي متسع مكون فيما أذكر من طابقين, وتقع في مدخله صالة واسعة وبجوار المنزل يوجد مخزن للغلال كانت به بالات كثيرة من التبن , وملحق بالمنزل أرض واسعة خصصت للتدريب امتلأت بالحفر الناجمة عن عمليات التفجير ,

وكذا بالموانع المعدة للتدريب سواء بتسلقها أو بالزحف أسفل منها وقد تأملت كثيرا في حينه في مدى تضحية مالك هذه المزرعة وإخلاصه لدعوته لا للخسائر المادية التي قبل تحملها عن طيب خاطر نتيجة تخليه عن جزء من أرضه لاستخدامات هذا المعسكر لمدة لا يعملها إلا الله ولكن وهو الأهم أنه وضع نفسه في بؤرة الرصد الأمني إذا ما دارت الأيام وتعرضت الجماعة لمحنة جديدة وقد كان .

وبمجرد وصولنا إلى المعسكر توجهنا إلى حيث الغرف التي سنبيت فيها , وكان النوم على بطاطين مفروشة على الأرض , وقد وضع كل منا حقيبته بجوار الموضع المحدد لنومه.

وبعد تغيير ملابسنا وارتداء ملابس التدريب اجتمعنا ومعنا آخرون من شعب مختلفة من أنحاء مصر في صالة المنزل حيث كانت توجد بطاطين مفروشة على الأرض وعليها عدد من الأسلحة الصغيرة كالبندقية الأنفيلد, والرشاش الخفيف البرن, والرشاش القصير الأستن الانجليزي , والتومي جن, وعدد من المسدسات أذكر منها الموزر والبرتا واللوجر برابليوم وكذا عدد من القنابل اليدوية

وأذكر منها الميلز 36 الانجليزية والسوستة الإيطالية وكان الدرس الأول عبارة عن فك وتركيب هذه الأسلحة مع كلمة عن كيفية عملها والأعطال المتوقعة منها وكيفية التصرف معها وبلغت المهارة بالبعض أنه بعد فترة قصيرة كان يقوم بفكها وإعادة تركيبها وهو مغمض العينين ولم أكن من بين هؤلاء المجيدين فقد كانت وما زالت قدرتي على التعامل مع الآلات والمعدات محدودة حتى إنني حاليا لا أستخدم من إمكانيات هاتفي المحمول سوي استقبال المكالمات وإرسالها, ناهيك عن عجزي المخجل عن استخدام الكمبيوتر ,

وما أذكره أن كثيرا من الذخائر التي كانت تستخدم في المعسكر كانت في علب عليها ما يفيد إنها تخص الجيش المصري وعرفنا وقتها أن هناك تعاونا بين عدد من ضباط الجيش وبين الجماعة لإمدادهم بالسلاح والذخيرة اللازمين .

وفي المساء كان هناك طابور ليلي بغرض التعرف على المنطقة والتدريب على معرفة الاتجاهات باستخدام البوصلة والنجم القطبي , وكان أفراد من الطابور يتناوبون قيادته وبعد انتهار الطابور وتناول طعام العشاء آي كل منا إلى فراشه ولكن آه من البعوض و ما لقيناه من البعوض وما لقيناه منه طوال فترة إقامتنا بالمعسكر ولكن يبدو أنني كنت على موعد آخر مع البعوض لكنه بعوض من نوع مختلف إذ كان أكثر توحشا من بعوض هذا المعسكر , وكان ذلك في معسكر آخر ذهبت إليه بعد سنين من ذلك التاريخ ! وأنا لا يزعجني شئ في الدنيا أكثر من لدغات البعوض .

استيقظنا في اليوم التالي مع أذن الفجر وبعد الصلاة خرجنا في طابور سير بغرض التعرف على المكان في ضوء النهار وقد تخللت الطابور فترات من الركض , وبعد العودة إلى المعسكر قمنا ببعض التمرينات الرياضية, ثم تناولنا طعام الإفطار وبعدها انتقلنا إلى ساحة التدريب حيث تدربنا على إطلاق النار في مختلف الأوضاع , وإلقاء القنابل اليدوية دون نزع فتيل الأمان .

كما استمعنا إلى محاضرة عن المفرقعات المختلفة , وكيفية عمل توصيلاتها وقام المدربون بتفجير بعضها, ونحن منبطحون أرضا كما قمنا بالزحف تحت نيران رشاش البيرن, وفي المساء قمنا بالطابور الليلي الذي قمنا به في الليلة السابقة وتولي قيادته من لم يتمكنوا من ذلك بالأمس وكم كان مثيرا أن نري أضواء السيارات المدرعة التي كانت تتولي حراسة المعسكرات البريطانية وهي تذهب وتجئ حول هذه المعسكرات .

عند العودة إلى المعسكر جرى توزيع نوبات الحراسة على أفراد المجموعة وأذكر أنني كنت في نوبة حراستي وكنت أحمل البندقية الأنفيلد سرحت في حالة تأمل استعرضت فيها تاريخ الاحتلال الانجليزي لمصر , وتساءلت كيف , ومتى يمكن إرغام هؤلاء على الجلاء عن مصر ؟

وهل ستستمر المعركة حتى تحقيق هذا الهدف ؟ أم أن الأيام تحمل عثرات ومفاجآت ؟ على أى حال رأيت وقتها أن قضية الاستقلال أخذت منعطفا جديدا خرجت بموجبه من أيادي المحامين وهم رؤساء الوزارات المدافعين عن القضية الوطنية إلى أيادي المقاتلين من أجل الاستقلال , وأن هذه المعركة إن لم يقدر لها الاستمرار لسبب أو لآخر , ستعود لتستأنف مرة أخري فلم يعد عن المقاومة المسلحة بديلا لإرغام الانجليز على ترك مصر بما في ذلك المفاوضات التي لا تجدي ما لم تدعمها على الأرض قوة قادرة على الأقل إلى جعل ثمن الاحتلال أكثر كلفة على نحو لا يطيقه المستعمر .

في اليوم الثالث والأخير من أيام تلك الدورة التدريبية قمنا بحفر الخنادق كما تجمعنا حول تختة الرمل , وقام المدربون بشرح تفاصيل معركة وهمية يقوم فيها بعضنا بدور المهاجمين والبعض الآخر بدور المدافعين وأذكر من هؤلاء المدربين بكل الإجلال المرحوم أحمد العسال والشهيد صلاح حسن .

بعد صلاة فجر اليوم الرابع توجهت مجموعتنا إلى محطة القطار لتعود به إلى القاهرة وقد قوبلت وقتها من أهلي بثورة شديدة إذ كنت قد ذهبت إلى هذه الدورة التدريبية رغما عنهم وكان ذلك على سبيل التسلل , إذا استيقظوا صباحا فلم يجدونني ولكنهم وجدوا خطابا مني يقول لهم إنني ذهبت إلى دورة تدريب لمدة ثلاثة أيام وإنه يجب ألا يقلقوا على وقد قامت والدتي رحمها الله عند اطلاعها على هذا الخطاب بالاتصال بمعارفي وأصدقائي فتبين لها اشتراك بعضهم في هذه الدورة دون البعض الآخر الأمر الذي جعلها تطمئن بعض الشئ لمشاركة بعض أصدقائي ممن كانت تعرفهم فيها .

شهدت هذه الفترة خلافا في الجماعة. ولكنه كان خلافا بسيطا إذا ما قيس بالخلاف الذي حدث بالجماعة بعد انقلاب 23 يوليو 1952 والذي سيأتي ذكره فيما بعد .

إذا كان البعض يعترض على حجم مشاركة الجماعة في أعمال المقاومة ويري أنها أقل مما يجب كما كان يعترض على بعض تصريحات المرشد العام المستشار حسن الهضيبي رحمه الله التي رأي أن فيها قدرا من عدم التقدير الكافي لحجم المعركة وعدم التفاؤل بإمكانية وصولها إلى غايتها في ظروف مصر وقتها , على حين كان المرشد يري الاكتفاء بهذا القدر من المشاركة لأن ظهر المقاومة غير مؤمن وكانت أحداث حرب 48 ماثلة في الذهان , وكان المرشد يري أن أجهزة الأمن في مصر مخترقة من قبل الانجليز وأن فيها أفرادا إنجليزيو الهوى ,

وأن من شأن هذا الواقع أن يجعل الأمور مفتوحة على جميع الاحتمالات وقد صدق حدسه إذ كان حريق القاهرة هو الطعنة التي أصابت المقاومة في الظهر وأوقفتها وبذلك حسم هذا الحريق هذا الخلاف كما أقيلت بسببه الوزارة الوفدية في تصرف أحمق من الملك فاروق دفع ثمنه بعد ذلك غاليا في انقلاب 23 يوليو إذ دل هذا التصرف من الملك على أنه لم يستوعب المعني وراء إنذار 1942 وهو أنه عند الأزمات يجب الاستعانة بوزارة تمثل الأغلبية لا العكس .

ولكن هذا الخلاف حول حجم مشاركة الجماعة في المقاومة وترك أثره في علاقة نفر من قيادات الإخوان بالمرشد العام . وقد بلغ هذا الخلاف قمته بعد الانقلاب العسكري وكان من نتيجته فصل عدد من أفراد هذه القيادات من الجماعة .

لقاء عابر ببعض صغار ضباط الجيش

كنت في ذلك الوقت أقطن بالدور الأول فوق الأرضي بالمنزل رقم 7 بشارع محروس بميدان زين العابدين , وهو ميدان يقع في منطقة وسطا بين السيدة زينب ومصر القديمة .

وكانت للأسرة شقة صغيرة غير مشغولة بسطح العقار كانت تقطنها جدتي , وكنت أستخدمها أحيانا في المذاكرة , وكانت الجماعة تستخدمها لعقد الاجتماعات. وكنت أنتظر القادمين الذين يطلب مني رئيس مجموعتي استقبالهم لأفتح لهم الشقة , ثم أعود بعد انصرافهم لأغلقها .

وكنت في الغالب أقضي فترة اجتماعهم منتظرا بسطح العقار حتى لا ألفت نظر الأهل إلى تلك الاجتماعات.

وفي ذات يوم من أواخر عام 1951 , أو أوائل عام 1952 لا أذكر بالضبط , وكان ذلك عندما صعدت إلى سطح العقار لإغلاق الشقة بعدما قدرت انتهاء المجتمعين من اجتماعهم فوجدت بالسطح شابين من المجتمعين بقيا به بعد انصراف زملائهم فدار بيننا حديث لا أذكره ثم أنتقل الحديث عن الشقة ومن هو مالكها .

وخلال هذا الحديث سمعت تعليقات كانت غريبة على وعلى من اعتدت استقبالهم في الشقة من شباب الإخوان فقد كانت تعليقات جنسية .

نقلت ملاحظتي هذه إلى مسئول مجموعتي فأخبرني أن أفراد ذلك الاجتماع بالذات لم يكونوا كلهم من الإخوان , وان بعضهم كان من صغار ضباط الجيش. وأن هذا الأمر لن يتكرر, ولكن على ألا أخبر أحدا به, وبعدما انقطعت الاجتماعات بالشقة تماما, سواء من الإخوان أو من غيرهم , وأعتقد أنه كان لهذه الحادثة , رغم بساطتها , أثرها في أنني وقفت مبكرا موقفا متحفظا من انقلاب 23 يوليو .

موقف اختلطت فيه مشاعر الفرح والترحيب بمشاعر القلق والتوجس , لأنني تصورت أنه لو كانت نسبة كبيرة من الضباط المشتركين في الانقلاب من نوعية هذين الضابطين اللذين قابلتهما في ذلك اليوم على السطح فلن تكون الأمور طيبة على الأقل في علاقة الانقلاب بالإخوان ,

لهذا لم أستغرب ما كان يحمله لى زملاء العمل من السوريين بالكويت ( عندما ذهبت للعمل بها في عام 1960 ) العائدين من زيارتهم لوطنهم من أنباء التصرفات غير الأخلاقية لبعض شباب الضباط المصريين وروح التعالي والغطرسة التي كانوا يتعاملون بها مع أبناء وطنهم وهو ما كان من بين الأسباب التي أدت إلى أن يقف الشعب السوري من الانفصال موقفا سلبيا مع أن هذا الشعب كان قد حمل على أكتافه في أول الوحدة سيارة عبد الناصر وارتفع بها من على الأرض .

وقد كانت هذه المسألة بالذات هي موضوع الخلاف بين عبد الناصر وبين عبد المنعم عبد الرؤوف إذ كان عبد المنعم عبد الرؤوف يري أنه يجب أن يكون الضباط المنتمون لتنظيم الأحرار على قدر من التدين والالتزام الخلقي لكن عبد الناصر كان يري أن ذلك سيأخذ وقتا طويلا , وقام على أثر ذلك باستبعاد عبد المنعم عبد الرؤوف من عضوية الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار ولم يدرك عبد الناصر وقتها أن الذي يأتي بسهولة يذهب بذات السهولة وأتساءل تري هل أدرك عبد الناصر بعد انفصال سوريا, ثم هزيمة 67 أنه كان مخطئا في نظرته هذه أم لا ؟

برنامج العمل العام في الجماعة

البرنامج العام لأفراد الجماعة من الأعضاء المنتسبين إلى الشعب كان يتقرر بمعرفة القيادات العليا وهو برنامج واحد لكل الشعب , مع بعض التصرف الذي تستوجب جغرافية المنطقة فهناك تشابه في برنامج العبادات , وكذلك في برنامج القراءات وفي وجوب حضور الأسرة اجتماعا أسبوعيا في الشعبة أو في منزل أحد أفرادها , أما بالنسبة لأعضاء شعب القاهرة فكان يفضل حضورهم حديث الثلاثاء بالمركز العام , باعتباره مناسبة لتعارف إخوان القاهرة والالتقاء ببعض أعضاء مكتب الإرشاد أو الهيئة التأسيسية ممن كان يتصادف حضورهم بالمركز العام في ذلك اليوم.

وكان يقدم حديث الثلاثاء في مقار شعب الأقاليم من تختاره الشعبة من بين أعضائها لتقديمه , حرصا منها على تدريب القادرين من أعضائها على الخطابة .

كما كانت هناك رحلة أو رحلتان في الشهر لكل أسرة , وكانت هذه الرحلات أشبه ما تكون بالتدريبات العسكرية ولكن بغير سلاح وكانت هذه الرحلات تستهدف تدريب الأفراد على قوة الاحتمال والصبر والتعرف على جغرافية المنطقة فضلا عن توفير قدر من الألفة بين أفراد الإخوان وبين الصحراء التي تكون نسبة تقدر بحوالي 90% من الأراضي المصرية وعن علاقة المصريين بصحاري بلادهم أذكر أنني قرأت بعد انقضاء سنوات على تلك الفترة في مذكرات أريل شارون, مقولة عاب فيها على المصريين أنه على الرغم من أن النسبة الأكبر من أراضيهم هي أراضي صحراوية إلا أنه لا تتوافر العلاقة المفترضة بينهم وبينها,


ويقول متفاخرا : إن الشباب الإسرائيلي كان يقوم أثناء العطلة الصيفية بتشكيل مجموعات تتباري فيما بينها فيمن يخترق سيناء في وقت أقصر من غيرها, متجنبة معسكرات الجيش المصري كي تعود بعد ذلك سالمة إلى قواعدها , وإن من شأن هذه المباريات تحقيق فوائد متعددة منها تنمية القدرة لديهم على دراسة الخرائط, ورفع درجة الصبر والاحتمال لديهم فضلا عن بث الشجاعة في أنفسهم .

وأدركت عندئذ قيمة تلك الرحلات التي كان شباب الإخوان يرتادون فيها صحاري بلادهم لذا أرجو أن يهتم أهل الحكم في مصر بتشجيع تكوين فرق الكشافة و الجوالة وأن يكون من برامجها تدريب الشباب فتيانا وفتيات على ارتياد الصحاري , وتحمل مشاق السير في دروبها باستخدام البوصلة . وكلها أعمال من شأنها تنمية روح الانتماء إلى الوطن , وخلق ألفة بين جغرافيته وبين شبابه , فضلا عن تنمية درجة التحمل والصبر لديهم .

حريق القاهرة

وتوقف العمل الفدائي ضد الانجليز في القناة

كانت مصر في الفترة الواقعة بين عامي 1950 و 1952 تغلي , وتتسارع فيها الأحداث وتبدلت مشاعر الحب والولاء للملك إلى كراهية تتبدي فيما كان يردده وقتها المتظاهرون من هتافات تحط من قدره , مثل من " لم يحكم أمه لا يحكم أمة" كما أنه كانت ثمة أخبار كثيرة عن مهازل الملك.

بعضها صحيح كولعه بلعب القمار وبعضها لا توجد أدلة تاريخية تؤكد صحته , كعلاقاته النسائية, وبعضها بالقطع غير صحيح كشربه للخمر إذ يؤكد أكثر من مصدر من المقربين منه إنه لم يذق الخمر أبدا في حياته . وأذكر من تصرفاته الحمقاء في تلك الفترة التي أثارت عليه الوطنيين , تعيينه حافظ عفيفي رئيسا للديوان الملكي , ورغم ما كان يعرف عن الرجل من موالاته للإنجليز حتى إننا خرجنا نهتف يسقط " فيفي " أى فاروق " وحافظ عفيفي " ولم تفلح الدعاية التي كانت توفرها له صحف الأخوين مصطفي أمين وعلى أمين في تبديل هذه المشاعر أو التخفيف منها .

في هذا الجو الملبد بمشاعر الكراهية نحو الملك وقعت حادثة حريق القاهرة , وجاءت في أعقاب مذبحة محافظة الإسماعيلية التي وقعت في 25 يناير 1952 وهو اليوم الذي صار عيدا للشرطة وهو – وللمفارقة – ذات اليوم من عام 2011 الذي قهرت ثورة الشعب فيه الشرطة ؟ في ذلك اليوم من عام 1952 حاصرت القوات البريطانية محافظة الإسماعيلية وطلبت من قوات البوليس المتواجدين بها تسليم أسلحتهم بدعوي أن قوات البوليس تقدم المساعدة للفدائيين الذين كانوا يغيرون على معسكرات الجيش البريطاني المتواجدة في منطقة القناة .

وقد أخبرني فيما بعد المرحوم فؤاد باشا سراج الدين وكان يوم وقوع المذبحة يشغل منصب وزير الداخلية أن قائد قوات البوليس المحاصرة اتصل به يسأل هل يقاوم أو يسلم سلاحه ؟ فسأله سراج الدين تري هل لو قلت لك قاوم ستقاوم ؟ فأجابه بالإيجاب فقال له : " إذن على بركة الله , قاوم".

وقاومت قوات الشرطة المسلحة بالبنادق, هجوم القوات البريطانية المسلحة بالأسلحة الثقيلة كالدبابات , والمدفعية , وخلافه وانجلت المعركة عن استشهاد عدد كبير من قوات الشرطة وجرح عدد آخر منهم إلى أن نفدت ذخيرتهم واضطروا إلى وقف القتال وتقديرا من قائد القوات البريطانية , لهذه الشجاعة فقد سمح بمغادرة الباقين من الجنود بكامل أسلحتهم وجرحاهم في طابور عسكري وأدت لهم قواته أثناء مغادرتهم التحية العسكرية عظيم شعب مصر لو وجد النظام الذي يسمح له بإفراز أفضل ما فيه من فضائل .

الحريق

في اليوم التالي لمجزرة الإسماعيلية التي استشهد فيها خمسة وخمسون جنديا من جنود بلوكات النظام وجرح عدد كبير منهم وقعت أحداث حريق القاهرة , وكان ذلك في يوم 26/ 1/ 1952 .

بدأت وقائع ذلك اليوم الأسود بتمرد عمال الطيران في مطار ألماظة ( القاهرة ) ورفضوا تقديم الخدمات لأربع طائرات تابعة للخطوط الجوية البريطانية تبعها تمرد جنود بلوكات النظام في ثكناتهم بالعباسية ثم اتجاههم في مظاهرة إلى مجلس الوزراء مطالبين بإرسالهم إلى القناة للثأر لزملائهم , وأمام مجلس الوزراء التقت هذه المظاهرات بمظاهرات أخري كلها تطالب بإعلان الحرب , والسماح بتسلح الشعب وكان من اللافت للنظر أن أحد خطباء هذه المظاهرات كان أحد ضباط الجيش بلباسه الرسمي الأمر الذي ألهب مشاعر الجماهير .

شملت المظاهرات كذلك أجزاء عديدة من القاهرة وابتداء من الساعة الثانية عشرة أخذت النيران تستعل في أماكن كثيرة منها وكانت قد بدأت من ميدان الأوبرا بإشعال النيران في كازينو أوبرا ثم انتشرت بصورة منظمة , وبوسائل متشابهة في فندق شبرد ونادي السيارات وبنك باركليز وغيرها من أماكن اللهو ودور السينما والبنوك والمؤسسات ذات العلاقة بالانجليز وطالت الحرائق أحياة الفجالة وميدان التحرير وسادت الفوضى حتى نزلت قوات الجيش مساء أى بعد " خراب مالطه" كما يقولون .

التهمت النيران نحو 300 محل كبير منها شيكوريل وعمر أفندي والصالون الأخضر كما شملت 13 فندقا كبيرا منها شبرد ومتروبوليتان وفيكتوريا , 40 دارا للسينما منها راديو ومترو وديانا وميامي , 73 مطعما منها جروبي والأمريكيين, 16 ناديا , 10 متاجر للسلاح , وعددا من البنوك وفروعها كبنك باركليز بالإضافة إلى عدد كبير من المكاتب والشقق السكنية وبلغ عدد القتلي يومها 26 قتيلا وعدد المصابين بحروق وكسور 552 شخصا.

قدم رئيس الوزراء مصطفي النحاس استقالته إلى الملك الذي رفضها , فأعلن الأحكام العرفية وحظر التجول من السادسة مساء إلى السادسة صباحا كما أوقف الدراسة في المدارس والجامعات إلى أجل غير مسمي , إلا أن الملك بعد ذلك أقال الوزارة في تصرف طفولي يؤكد إنه لم يستوعب حقيقة درس 1942, وهو إنه عندما تضطرب الأمور فإنه يتعين أن تكون الوزارة من الأغلبية ضمانا للاستقرار.

ويمكن القول : إن حريق القاهرة كان هو المقدمة المنطقية لانقلاب 23 1952 إذ كانت إعلانا بإفلاس النظام .

في اليوم التالي نزلت لأتجول في شوارع القاهرة وتحديدا في المنطقة المعروفة بوسط البلد كانت رائحة الدخان لا تزال تملأ الجو. وكانت بعض الحرائق ما زالت مشتعلة تحت الأنقاض ورجال الإطفاء يجاهدون لإخمادها كان المنظر العام مثيرا للكآبة والقلق على مستقبل مصر ومستقبل العمل الفدائي, إذ كان من الواضح أنه تلقي طعنة من الخلف, كانت القاهرة تبدو حزينة كابية وكان حزنها يبدو على وجوه المارة , الذين كانوا يسيرون في صمت, لذا كانت المنطقة وقتها وعلى غير المألوف تتمتع بهدوء غير معتاد .

ولكن الغريب وهذه واحدة من معجزات هذا الشعب أن القاهرة استعادت حيويتها بل وأزالت أثار الحريق وبناء ما تهدم في زمن قياسي بالمقارنة لغيرها من الدول إذ أذكر أنه قبل سنوات حدثت اضطرابات في مدينة لوس أنجلوس بأمريكا أثر قيام ثلاثة من ضباط الشرطة بالاعتداء بالضرب على سائق أسود ,

وشملت الاضطرابات عددا كبيرا من الحرائق لعدد من مباني المدينة ولما زرت المدينة بعد عدة سنوات فوجئت بأن بعض مبانيها المحترقة ما زالت على حالها الأمر الذي يؤكد إن هذا الشعب يتمتع بحيوية فائقة وإن كل ما يحتاجه هو نظام سياسي يوفر لديه الانتماء يوفر فيه طاقاته الخلافة .

وكما كان متوقعا اندفع الإعلام الموالي للسراي , في انتهاز الكارثة للعمل على تصفية خصوم الملك المتمثلين في حزب الوفد وفي المعارضة التي كان رأس الحربة فيها الحزب الاشتراكي وزعيمه أحمد حسين , الذي كانت مقالاته ضد الجالس على العرش والعائلة الحاكمة تثير جنوبه والتي قدم بسببها أكثر من مرة إلى محكمة الجنايات بتهمة العيب في الذات الملكية .

بدأت الصحف الموالية للسراي في اتهام حكومة الوفد وتحديد , وزير داخليتها فؤاد باشا سراح الدين, بالتقصير في حفظ الأمن, مما أدي إلى تفاقم الوضع وخروجه عن السيطرة , إلا أن جريدة المصري المتحدثة بلسان الوفد وقتها نشرت ردا من فؤاد باشا سراج الدين أكد فيه إنه كان يتابع الأحداث لحظة بلحظة , وإنه عندما تيقن من عدم قدرة الشرطة على السيطرة على الوضع , حاول الاتصال بحيدر باشا وزير الحربية إلا أنه تعذر عليه ذلك لأنه كان مشاركا في مأدبة ملكية أقامها الملك لعدد كبير من ضباط الجيش بمناسبة مولد ولي العهد وإنه عندما تمكن من الاتصال به كانت الأحداث قد تفاقمت جدا ورغم ذلك فلم تنزل القوات المسلحة إلى الشارع إلا في المساء عندما كانت الأمور قد وصلت إلى غايتها .

وكان من الواضح كذلك أن أجهزة الدولة كلها كانت مسخرة لإلصاق تهمة الحريق بالمجاهد أحمد حسين زعيم الحزب الاشتراكي وبالفعل جري القبض عليه , ووجهت إليه تهمة التحريض على حرق القاهرة بعدما قام البوليس بإحضار شهود زور – وما أيسر ذلك على رجال الشرطة في مصر – وبقي في السجن حوالي العام ونصف العام وتفلت رقبته من حقل المشنقة إلا بقيام انقلاب 23 يوليو 1952.

واختلفت الآراء حول من حرق القاهرة البعض اتهم السراي كي تجد ذريعة لإقالة حكومة الوفد , والبعض اتهم الانجليز , بواسطة تنظيمه المسمي " إخوان الحرية " وأرجح أن الذي فعل ذلك هم الانجليز للتخلص من حكومة الوفد وإيقاف العمل الفدائي, وهو ما حدث بالفعل إذ لا أتصور أبدا أن يحرق الملك مملكته فضلا عن أنه لو كان هو من وراء هذا الحريق لشهد بذلك أكثر من شاهد بعد وقوع انقلاب 23 يوليو لذا سيظل هذا الحريق أكثر الحوادث غموضا في تاريخ مصر .

أوقف حريق القاهرة المعركة الدائرة في القناة لكنه لم يوقف تدريباتنا , كما لم يوقف عملية الشحن المعنوي من أجل جولة أخري تكون قريبة مع جيش الاحتلال , فقد كان من الواضح أن العمل من أجل الاستقلال أخذ بعدا آخر بعد معركة القناة وأن ما كان يطلق عليه القضية المصرية , انتقلت من أيدي المحامين إلى أيدي المقاتلين, وأن ذلك كان بفضل قيام حكومة الوفد بإلغاء معاهدة 1936 , والسماح بالعمل الفدائي ضد قوات الاحتلال .

ومن يومها أدرك الانجليز أن قاعدة قناة السويس فقدت قيمتها بعدما أصبح ظهرها غير مؤمن ,وأنه إذا ما طرأت ظروف تحتم عليهم استخدام هذه القاعدة فإنه سيكون عليهم القتال على جبهتين, واحدة منها مع الشعب الذي يعيشون على أرضه وبين سكانه والأخرى مع العدو المهاجم وهو ما أفقد هذه القاعدة جزءا كبيرا من قيمتها العسكرية , بحيث إن الاتفاق عليها لم يعد يساوي فائدتها خاصة وأن بريطانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية باقتصاد مرهق ,

وهو ما جعلها تقبل بالجلاء عنها استجابة للضغط الأمريكي الواقع عليها , إذ كانت أمريكا تراهن على أنه سيكون بوسعها أن تجعل لنفسها موطئ قدم في مصر بالاتفاق مع عبد الناصر ثم تبين لها بعد ذلك أنه رهان خاسر , على الأقل في عهد عبد الناصر .

مقدمات انقلاب 23 يوليو 1952

كانت الأوضاع السياسية في مصر عقب حريق القاهرة , وتوقف حركة الكفاح المسلح تنذر بأن تغييرا كبيرا لابد وأن يحدث لأن استمرارها على هذا النحو أمر غير متصور فلملك أقال وزارة الأغلبية .

كما قام بحل البرلمان والعرش فقد احترامه لدي الجميع إذ أصبحت الألسنة تلوك سيرة الجالس على العرش ووالدته, والجيش الذي خرج مهزوما من حرب فلسطين يحمل النظام مسئولية هذه الهزيمة والجيش نزل إلى شوارع القاهرة لحفظ الأمن .

والحديث عن الفساد على ألسنة الخاصة والعامة على حد سواء .

ولم يكن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمصر بأفضل من الوضع السياسي , فقد ارتفعت الأسعار ارتفاعا كبيرا أثناء الحرب العالمية الثانية واستمرت في الارتفاع بعدها بينما بقيت دخول الأفراد على حالها وكان ذلك بسبب قيام مصر بإمداد القوات البريطانية بالحاصلات والمنتجات بغير أن تدفع مقابلا لها وهو ما اقتضي إصدار نقود بغير غطاء سوي أذون على الخزانة البريطانية قيمتها أربعمائة مليون جنيه ( وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت ) ثم امتنعت بريطانيا عن دفع قيمتها بعد الحرب .

كذلك كان ملاك الأراضي الزراعية يقفون في وجه أى تشريع يؤدي إلى تحسين أوضاع الفلاحين على حساب دخولهم الكبيرة كما كان الأجانب والمتمصرون يسيطرون على معظم الشركات الكبرى في مصر, ولا يقدمون إلى العمال سوى الفتات بحيث أصبحت غالبية الشعب من العمال والفلاحين تعيش في ظروف اقتصادية صعبة , ويفترسهم تحالف الفقر والجهل والمرض , لذا وقعت في تلك الفترة الكثير من الإضرابات وكان أخطر هذه الإضرابات إضراب رجال البوليس في عام 1948 الذي انضم إليه العمال والطلبة

وكانت صحف المعارضة تنتقد هذه الأوضاع بشدة, وكان النقد يتناول الجالس على العرش وحاشيته فقد كانت جريدة روز اليوسف – مثلا – تنشر أخبارا تحت عنوان " مساخر مصري كبير في الخارج " وكان الجميع يعرف أن هذا المصري هو الملك كما كان هو حكومته يعرفان ذلك دون أن يستطيعا فعل شئ لأنه لم يكن فيما ينشر ما يفيد صراحة أن المقصود بالنشر هو الملك كما كانت جريدة الاشتراكيين ل أحمد حسين تنشر مقالات لاذعة تتناول الأوضاع الاجتماعية السيئة

وأذكر منها مقالا بعنوان " رعاياك يا مولاي " تصدرته صورة لحطام بشر وقد سجن أحمد حسين بسبب هذا المقال بتهمة العيب في الذات الملكية, كما كانت مطبوعات الشيوعيين تهاجم نفس الأوضاع وتدعو إلى تغيير نظام الحكم .

كل ذلك جعل الأرض ممهدة لهذا التغيير, الذي كان مرشحا للقيام به إما الإخوان المسلمون وإما الشيوعيون وهو أمر ما كانت لتقبل به أمريكا التي كانت تعمل على وراثة النفوذ البريطاني في المنطقة بعد خروجها من الحرب العالمية الثانية وهي تعاني وضعا اقتصاديا سيئا يجعلها غير قادرة على الاحتفاظ بمستعمراتها فضلا عن أن الحرب والتطور الحاصل في وسائلها قلل كثيرا من فائدة هذه المستعمرات .

بعد حريق القاهرة وإقالة وزارة الوفد كلف الملك على ماهر بتشكيل الوزارة الذي حاول أن يمد جسور التفاهم مع انجلترا التي تقطعت بينهما أثناء الحرب العالمية الثانية تمهيدا لأن يدخل معها في جولة جديدة من المفاوضات من أجل الجلاء فقبض على عدد من الفدائيين في مناطق الإسماعيلية و بور سعيد و السويس والتل الكبير وسمح باستئناف أعمال شجن وتفريغ السفن البريطانية في المواني المصرية كما سمح بعودة الكثيرين من العمال إلى أعمالهم السابقة في المعسكرات البريطانية لكن ذلك لم يشفع له لدي الملك فأقاله لخلاف بينهما.

في تلك الفترة تقلب على رئاسة الوزارة بعد على ماهر, حسين سري باشا , ثم نجيب الهلالي باشا وكانت هذه الوزارات لا تستمر طويلا إذ كان هؤلاء يصطدمون برغبات السراي فيقدمون استقالتهم ,ووصل الحال إلى حد من السوء جعل كاتبا ليبراليا مثل إحسان عبد القدوس يكتب مقالا بعنوان " مصر في حاجة إلى ديكتاتور " اختتمه بعبارة " لا مانع من التضحية بالديمقراطية من أجل الإصلاح"

لم تكن أمريكا بطبيعة الحال بعيدة عما يجري في مصر , تماما كما لم تكن بعيدة عن كل ما يجري في دول المنطقة .

فهي التي كانت وراء انقلاب حسني الزعيم في سوريا, كما كانت تقف بكل قوتها مع الحكومة اليونانية للقضاء على التمرد الشيوعي الذي قام في اليونان في عام 1947.

كما وأنها هي التي صنعت الثورة المضادة التي أعادت شاه إيران إلى عرشه بعدما عزله الشعب منه في عام 1951 وكان ذلك بمعرفة واحد من أشهر عملاء الـ سي أى آيه, وهو كيرميت روزفلت الذي كان كثير التردد على مصر في تلك الفترة .

وقد لفت هذا الاهتمام الأمريكي بالأحوال في مصر نظر الزعيم المرحوم مصطفي النحاس رئيس حزب الوفد وصرح لبعض خاصته في عام 1951, أثناء توليه رئاسة الوزارة , أن هناك اتجاها لإحداث انقلاب وزاري في مصر لمصلحة إنجلترا وأمريكا وأن أمريكا تدفع في هذا الاتجاه .

ومن المؤكد أن عبد الناصر لم يكن بعيدا عن ذلك كله, فقد كانت له اتصالات مع بعض الجهات الأمريكية , وقبل أن أستطرد أؤكد أن عبد الناصر في هذه الاتصالات لم يكن عميلا, أو حتى مشروع عميل , وإنما كان مشروع رجل دولة يستكشف مواقع خطواته المقبلة تماما كما كانت له علاقاته واتصالاته بالإخوان المسلمين

وكذلك بالشيوعيين بل وبمعظم القوى الوطنية في مصر كالوفد عن طريق صلاته بمحمود أبو الفتح صاحب جريدة المصري , للتعرف عليها وتحديد موقفها من التغيير المحتمل المقبل وضمان مؤازرتها لمشروعه إلى أن يصبح مشروعه واقعا ويسفر عن حقيقة توجهاته فيكون الافتراق عندها وليس قبل ذلك وهو الافتراق الذي حصل مع كل القوي الوطنية التي اتصل بها قبل الانقلاب كما حصل مع أمريكا عندما هاجم عبد الناصر حلف بغداد, ووقف مؤيدا لكل حركات التحرر في أمريكا والعالم العربي وعندها بدأت الحرب الخفية والعلنية بين الطرفين .

يقول الصاغ حسين حمودة وهو من الضباط الأحرار في مذكراته إنه حضر شخصيا عدة اجتماعات في منزل الملحق العسكري الأمريكي بالزمالك مع جمال عبد الناصر, وكان الكلام يدور في مسائل خاصة بالتسليح والتدريب والموقف الدولي والخطر الشيوعي على العالم بعامه , والشرق الأوسط بخاصة, وأن الولايات المتحدة ستساند أى نهضة تقوم في مصر لأن بقاء الحال على ما هو عليه في مصر ينذر بانتشار الشيوعية , وأن هذه الاجتماعات تمت في الفترة من 1950 - 1952 وأن الكلام لم يكن يتعدي أكثر من ذلك.

ويستطرد حسين حمودة في مذكراته فيقول , إن الولايات المتحدة هي التي حالت دون تدخل القوات البريطانية لحماية الملك فاروق كما وأنها اعترفت بالثورة فور قيامها , وفتحت معاهدها العسكرية على مصراعيها لتدريب ضباط الجيش المصري بالمئات فور قيام الثورة وإنه كان من بينهم .

كذلك قال لى المرحوم حسن العشماوي في منزله بالكويت إنه قابل في سويسرا أحمد مرتضي المراغي آخر وزير داخلية في العهد الملكي وإنه أخبره بأنه يستطيع أن يؤكد أن الأمريكيين بعدما يئسوا من فاروق, ومن قدرته على وقف المد الشيوعي, راهنوا على الجيش,وأنهم أفهموا الملك أن مخابراتهم تتبع نشاط الضباط المعارضين فيه وسوف تقدمهم له في الوقت المناسب, محذرة إياه من القيام بأية خطوة تؤدي إلى تحذيرهم وإن تنظيم الضباط الأحرار حصل بذلك على الوقت الكافي للتحرك رغم انكشاف عدد من أفراده للبوليس السياسي المصري.

وقد تأكدت لى صحة هذه الرواية فيما ذكره أحمد مرتضي المراغي في كتابه : " غرائب من عهد فاروق " إذ أكد في هذه الكتاب أن تقارير البوليس السياسي أكدت في أوائل عام 1952 أن هناك منشورات للضباط الأحرار تطبع على ماكينة رونيو موجودة في ثكنة فرقة المشاة المعسكرة في المعادي ,

وأنه ( أى المراغي ) باعتباره كان يشغل منصب وزير الحربية بالإضافة إلى منصبه كوزير للداخلية أمر بمهاجمة الثكنة وتفتيشها وبالفعل تم العثور على الماكينة , واعتقل ستة ضباط كانوا يقومون بطبع أحد المنشورات التي تهاجم الملك عليها , إلا أن الملك فاروق اتصل به شخصيا وعنفه على مهاجمة ثكنة عسكرية,وأكد له أنه يشغل منصب وزير الحربية بصفة مؤقتة إلى أن يعثر على وزير مناسب ! وأفرج عن الضباط الستة لهذا قال فاروق للسفير الأمريكي ( كافري ) وهو يودعه إلى منفاه, إنه لن يستغرب إذا ما عرف أن أمريكا كانت وراء هذا الانقلاب .

ويقول " جول جوردن " في كتابه حقيقة ثورة يوليو – وثائق تنشر لأول مرة – إصدار العالمية للكتب والنشر, إن عبد الناصر قام في مارس وإبريل 1953 وقبل زيارة ( دالاس ) لمصر بحملة استهدفت الحزب الشيوعي المصري . كما وعد الأمريكيين بأن يكون الدور على الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني .

وقد وفي بوعده في موجة الاعتقالات التي بدأت في أغسطس واستمرت خلال 1953 , والتي ضمت حوالي مائة من كوادر الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني ( حدتو) بما فيهم أعضاء أمانة الحركة , وقد ساعده ذلك سبق انتمائه إلى هذه الحركة وكان اسمه الحركي فيها " موريس "


وكل ذلك يؤكد إنه كانت توجد علاقة على نحو ما بين عبد الناصر والأمريكيين وإن هذه العلاقة استمرت إلى ما بعد إبرام اتفاقية الجلاء وإلى أن تمكن عبد الناصر من إمساك مقاليد الحكم كلها في يده وبعدها كان الافتراق عندما رفض عبد الناصر دخول مصر في حلف بغداد وقيامه بمساعدة كل حركات التحرر الوطني في أفريقيا .

وكان انقلاب الجيش في 23 يوليو 1952, وهو الانقلاب الذي قال عنه إيدن, في مذكراته الحصان الذي سيراهن عليه الجميع ( والجميع هما انجلترا وأمريكا ) والسؤال هو وفي المحصلة النهائية هل كسبتا الرهان أم خسرتاه؟ لكن يبقي السؤال المهم, بعد ستين عاما من حكم العسكر , هل كسبت مصر الرهان أم خسرته ؟.

قد يقال ولكن جمهوريات العسكر الثلاث لم تكن كلها واحدة في سياساتها وتوجهاتها لكنني أقول إن الذي فتح الباب أمامها في حكم مصر في انقلاب 23 يوليو 1952 , ولولا هذا الانقلاب العسكري لما وصل إلى حكم مصر هؤلاء الرؤساء الثلاثة , بما لهم أو عليهم , ولكن ما أجمعوا عليه هو انفرادهم بالقرار بعيدا عن الشعب الذي نحي عن الحياة العامة إما تخويفا أو احتقارا بدعوى إنه غير مؤهل للديمقراطية.

ذلك أنه من الملاحظ من مسيرة الأحداث في ( الجمهوريات ) الثلاث إنه كانت توجد عقيدة ثابتة لدي رجال الإدارة العليا وهي أن هذا الشعب ابن.. ولا يتأتي حكمه إلا بالكرباج وآية ذلك الحرص الدائم في هذه الجمهوريات الثلاث على تزوير الانتخابات والاستفتاءات مما يعني عدم الثقة في صحة رأي الجماهير أو الاطمئنان إلى صواب حكمها .

ولعلنا لم ننس بعد أن عمر سليمان الذي كان يريد أن يصبح رئيسا لجمهورية مصر , إنه أجاب عن سؤال لصحفية أمريكية عما إذا كانت الديمقراطية للشعب المصري نعم ولكن متى "؟

والذي يجهله هذا الذي يريد أن يصبح رئيسا لمصر أن لمصر تجربة عريقة في الديمقراطية ترجع إلى عام 1866 , إذ كان لها مجلس نيابي يدعي مجلس " شوري النواب " ووضع الخديوي إسماعيل نظامه في لائحتين الأولي عرفت باللائحة الأساسية وهي مؤلفة من 18 مادة مشتملة على بيان سلطة المجلس والثانية سميت باللائحة النظامية وهي أشبه باللائحة الداخلية للمجلس وهي مؤلفة من 61 مادة .

وفي عام 1879 جري وضع أول دستور لمصر, ويقول الرافعي إنه وضع على أحدث المبادئ العصرية , وإن المقارنة بين نصوصه وبين نصوص مجلس شورى النواب القديم يدرك مدي التطور الديمقراطي الذي تطورت إليه الحياة الديمقراطية في مصر, وقد خول هذا الدستور مجلس النواب سلطة البرلمانات الحديثة, فخولها حق إقرار القوانين وإقرار الميزانية وجعل الوزارة مسئولة أمامه وكل ذلك توقف بسبب تدخل الأجانب, ثم الاحتلال البريطاني لمصر, إلى أن أفرزت ثورة 1919 دستور 23.

ومرة ثانية توقف التطور الديمقراطي لمصر بفعل انقلاب 23 يوليو 1952 .

قد يقال إن ديمقراطيتنا قبل 23 يوليو كانت ديمقراطية معتلة ,ولكنها أصبحت غائبة بالكلية بعد ذلك التاريخ .

ورغم ذلك يأتي هذا الرجل الذي كان يطمح أن يصبح رئيسا لمصر, يري أن مصر تستحق الديمقراطية ولكن أى ولكن متى ؟!

وكان الانقلاب

صبيحة يوم 23 يوليو 1952 فوجئت كغيري من أفراد الشعب المصري بحدوث الانقلاب العسكري توجهت ومعي ماهر حتحوت ويوسف أمين عبده إلى المركز العام لمعرفة الأخبار .

كان المرشد وقتها يقضي الصيف في الإسكندرية وهو ما كان البعض يراه مخالفا لتقاليد الجماعة التي أرساها مؤسسها حسن البنا, الذي كان يتعمد أن تكون جولته في الصيف في مدن وقري الوجه القبلي , وإلى مدن وقري وجه بحري في الشتاء.

كان تصرف المرشد المتمثل في توجهه إلى الإسكندرية صيفا محل استنكار البعض , الذي كان يري فيه ترفا لا يليق بمرشد الجماعة .

لم نستطع أن نقف على معلومات مؤكدة من الموجودين بالمركز العام وقتها عن الانقلاب , وإن كانت ثمة شائعات تقول إن هناك مجموعات من إخوان النظام شاركوا أمس في حراسة الكنائس وبعض المنشآت الهامة , وإن كنت شخصيا لا أثق في صحة هذه الشائعات لأن معناها أن خبر الانقلاب تجاوز قيادات الجماعة إلى أفراد الصفوف الخلفية فيها, وهو ما لا يتصور حدوثه بالنسبة لحدث خطير مثل الانقلاب العسكري,

وإن كان من المؤكد أن هذه المشاركة حدثت بالفعل بعد يوم 23 يوليو , واستمرت هذه المشاركة إلى أن أمسك الانقلابيون بكل خيوط الدولة في أيديهم وسيطروا على مقاليد الأمور بما في ذلك جهاز الشرطة , وأصبحوا في غني عن أية مشاركة شعبية لفرض السيطرة الأمنية سواء من جماعة الإخوان أو من غيرها وهو أمر لم يستغرق وقتا طويلا ,وإنما عدة أيام بعد 23 يوليو.

لا أدري لماذا اختلطت لدي مشاعر الفرح والترحيب بالانقلاب العسكري بقدر من التوجس, ويبدو أن السبب في ذلك أنني ربطت بين هؤلاء الضباط الذين قاموا بالانقلاب وبين هذين الضابطين اللذين التقيت بهما على سطح منزلي قبل ذلك, رغم أنه لم يكن ثمة دليل على وجود صلة بينهما وبين هذا الانقلاب هذا فضلا عن أن ما كان يرد من أنباء عن الانقلاب العسكري في سوريا لم يكن مريحا, وكثيرا ما كانت والدتي , رحمها الله, تذكرني بمقولة كانت الأيام قد أنستني إياها إذ كنت أقول لها " أخشي أن نكون تخلصنا من فاروق لنستبدله بأحد عشر فاروقا آخر ".

وكما تخوفت أخذت العلاقة بين الجماعة والانقلابيين بعد فترة ليست بالطويلة في التدهور وفي أسباب هذا التدهور تفاصيل كثيرة سقطت من الذاكرة وتفاصيل كثيرة أخري لم يتسن لى معرفتها إذ كانت تجري على مستوى قيادة الجماعة, وقد تناولها بالتفصيل المرحوم حسن العشماوي في مذكراته كما تناولها المرحوم عمر التلمساني في كتاب الأستاذ إبراهيم قاعود " عمر التلمساني شاهد على العصر "

لكنه كان من الواضح, أن عبد الناصر, دون سائر أعضاء مجلس قيادة الثورة كانت لديه مقومات الزعامة وأن زملاءه في هذا المجلس ينزلونه منهم منزلة خاصة , وأن للرجل مشروعه الخاص لحكم مصر ربما لم تكن تفاصيل هذا المشروع واضحة بالكامل في ذهنه وقتها, ولكن كان من المؤكد أنه كان يطمح في حكم مصر, وأنه كان يؤمن بقدرته على ذلك , وأن دور أعضاء مجلس قيادة الثورة لابد وأن ينتهي عند مرحلة ما, وأنه لن يبقي منهم على القمة إلا من يرضي بالعم بجانبه باعتباره الرئيس القادم لمصر.

وهو ما أكدته الأحداث بعد ذلك إذ انفرد عبد الناصر بالسلطة, ولم يبق بجانبه من أعضاء المجلس إلا من قبل بالعمل تحت إمرته .

في تلك الأيام تردد أن الإخوان عرضوا على مجلس قيادة الثورة الاشتراك في الوزارة التي كان يؤلفها عبد الناصر, وسمعنا وقتها أن القصد من ذلك إقناع عبد الناصر أنهم يريدون المشاركة لا السيطرة وإبداء حسن نيتهم تجاهه .

كما سمعنا أن عبد الناصر قبل بهذا العرض وطلب منهم ترشيح ثلاثة أشخاص يقوم بتعيينهم وزراء في وزارته, وأن الجماعة رشحت له ثلاثة أشخاص هم حسن العشماوي و منير الدلة و عبد القادر عودة , إلا أن عبد الناصر رفض قبول هؤلاء المرشحين عندئذ قررت الجماعة سحب عرضها بالاشتراك في الوزارة وهو قرار منطقي لأنه من حق الجماعة أن تختار من يمثلها في الوزارة لا أن يختارهم لها عبد الناصر لأنها في النهاية هي التي ستتحمل المسئولية الأدبية لنجاحهم أو فشلهم في مهمتهم .

ولم يفوت الإعلام هذه الفرصة بتحريض من عبد الناصر للطعن في الجماعة بدعوى أنها تريد الهيمنة على السلطة في مصر بينما الحقيقة أن المجلس هو الذي يريد الهيمنة عليها, معتبرا أن شرعيته مستمدة من القوات المسلحة التي استولت على السلطة بالقوة ,

وأن هذه الشرعية تخوله مباشرة الحكم وحده دون سائر القوى الأخري الموجودة في المجتمع , ولم يجد الإعلام في ذلك ما يستوجب النقد. إعلام موجه يعمل في خدمة السلطة ويبرر كل تصرفاتها , بحيث يعتبر شريكا في كل مساوئ الحكم الاستبدادي الذي حكم مصر لأكثر من ستين عاما الأمر الذي نأمل أن تضع ثورة 25 يناير نهاية له .

الانضمام إلى النظام الخاص

في يوم لم أعد أذكر تاريخه من أيام عام 1953 انتحي مسئول أسرتنا بنا ( ماهر حتحوت ويوسف أمين عبده وأنا ) وطلب منا دون باقي أفراد الأسرة أن نصلي الظهر في مسجد عمر مكرم لمقابلة شخص ما.

ولما سألناه وكيف سنتعرف عليه أجابنا بأنه هو الذي سيتعرف عليكم.

عقب صلاة الظهر تقدم إلينا شخص كان من الواضح من لون بشرته ومن لهجته في الحديث أنه سوداني عرفنا فيما بعد أن اسمه الحقيقي " سبال " وقال لنا إننا نعرف أن في الجماعة تنظيما يعرف بالنظام الخاص, وإننا مرشحون للانضمام إليه, وإنه بوسعنا القبول أو الرفض ولكن في كل الأحوال يجب أن تبقي هذه المقابلة سرية.

وإن الانضمام إلى هذا النظام يعني الاستعداد للتضحية بالنفس والمال .

ولما كان ثلاثتنا خالي الوفاض من المال فمعني ذلك الاقتصار على التضحية بالنفس فلم نكن وقتها نملك غيرها , أجبناه بسيطة ؟! واستطرد قائلا إنه في هذه الحالة سيكون علينا الانسحاب من العمل العام ويحسن لو أننا أشعنا في محيطنا أننا تركنا الجماعة وهو الأمر الذي لم تترك لنا الظروف والأحداث الفرصة في تحقيقه, كما سيجئ لاحقا .

أجبناه نحن الثلاثة بالموافقة وأن الأمر لا يحتاج إلى تفكير إذ كنا نتوقع هذا العرض منذ مدة وانتهت الجلسة بأن بايعناه نيابة عن المرشد, على السمع والطاعة في المنشط والمكره ومن يومها تغيرت علاقتنا بالشعبة كلية وانضممنا إلى أسرة جديدة مكونة من كمال حلمي الطالب وقتها بكلية طب قصر العيني رئيسا للمجموعة ومن المرحوم عصمت عبد الحليم , شقيق يحيي عبد الحليم أحد القيادات العسكرية للمتطوعين في حرب فلسطين 1948 , و ماجد حسن شقيق الشهيد صلاح حسن الذي ورد ذكره فيما سبق في معرض الحديث عن دوره في تدريب مجموعة الفدائيين الذين كانوا يقومون بالعمليات الفدائية ضد قوات الاحتلال الانجليزي في القنال ,

وعلى إبراهيم محمد الطالب بكلية العلوم جامعة فؤاد الأول والذي كان قد أسره الانجليز في معركة التل الكبير, وهي إحدي العمليات الفدائية التي شنتها كتيبة الجامعة ضد القوات البريطانية ويوسف أمين عبده وماهر حتحوت الطالبين بكلية الطب ومني الطالب بكلية الحقوق وقتها .

دخلنا في برنامج جديد مكثف في كل شئ سواه في العبادات أو القرارات أو حتى التدريب البدني والعسكري وبالنسبة للتدريب العسكري , فقد كان يجري في منطقة المحاجر بالمقطم قبل أن يتحول إلى مدينة سكنية حيث اختاروا لتدريباتنا موقعا وسطا بين المحاجر, بحيث يظن كل محجر أن ما يتردد صداه من أصوات المتفجرات آت من المحجر الآخر .

أما عن البرنامج الثقافي والتربوي , فقد سقطت تفاصيله من الذاكرة ولكن ذكره بالتفصيل الأستاذ أحمد عادل كمال في مؤلفه: " النقط فوق الحروف " والأستاذ أحمد عادل من قيادات النظام الخاص ,

وقد تضمن كتابه : " النقط فوق الحروف " تفاصيل كثيرة عن رحلته مع النظام الخاص, وعلاقته بالأحداث التي جرت للجماعة منذ انضمامه إليها في عام 1946 , وحتى دخوله معتقلات عبد الناصر في عام 1954 ,وما بعدها عند اعتقاله مرة أخري في عام 1965 .

وفي تقديري أن ما يؤخذ على الكتاب , رغم ما يتضمنه من معلومات كثيرة مفيدة للباحث , وأنه لم يقيم تجربة النظام الخاص تقييما محايدا .

بل انحاز إليه بصورة مطلقة حيث تغاضي عن الأضرار التي ألحقها بالجماعة . وهو ما سأتناوله في موضعه من هذا الكتاب .

كان هذا هو موقعنا في النظام الخاص , ولكن كان للنظام الخاص أدوارا أخري غير إعداد الأفراد للجهاد اضطلع بها آخرون ممن رأت قيادته أنهم أهل لها, من ذلك متابعة السياسة العامة للدولة وتقديم تحليلات لها, ورصد نشاطات السفارات والشخصيات العامة والأجنبية وكذا رصد النشاط اليهودي في البلاد .

وقد ضبطت في السيارة الجيب المشهورة تقارير متعددة عن هذه النشاطات وللأسف لم يهتم المحققون بما ورد بها من معلومات هامة وكان النظام الخاص يتكون من ثلاثة أفرع فرع للمدنيين وكان يرأسه " عبد الرحمن السندي" ثم خلفه في رئاسته " يوسف طلعت" وفرع للعسكريين وكان يرأسه الصاغ " محمود لبيب " الذي كان ضابطا في الجيش المصري,

وبعد قيام الانجليز بخلع الخديوي عباس حلمي الثاني , هرب من مصر إلى تركيا, ومنها إلى ليبيا حيث التحق بقوات السنوسي التي كانت تحارب الإيطاليين وأثناء وجوده فيها اتفق مع اللواء " صالح حرب" وعدد آخر من الضباط المصريين وكذا عدد من المقاتلين الليبيين لشن حملة على مصر سنة 1915 لقتال الانجليز ,

وهي الحملة المسماة بالحملة السنوسية على مصر . ولما فشلت هذه الحملة عاد إلى تركيا وبقي فيها حتى عام 1924 ثم عاد إلى مصر , عندما صدر عفو عام عن كل المعتقلين والمنفيين السياسيين وفيها التقي " حسن البنا " وأصبح هو المسئول عن الضباط الإخوان بالجيش, وبعد وفاته أصبح المسئول عنهم الضابط " أبو المكارم عبد الحي "

أما الفرع الخاص بضباط البوليس فكان يسمي ( نظام الوحدات ) وكان يرأسه الصاغ " صلاح شادي " وكان صديقا لعبد الناصر , وبعد خلاف الأخير مع الجماعة حاكمه أمام محكمة الثورة وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة .

وإذا كان لى أن أقيم تجربة النظام الخاص فأري أنه أساء إلى الجماعة أكثر مما أفادها وأن ما حققه في فلسطين والقناة كان يمكن لها أن تحققه بغير وجوده والدليل على صحة هذا الرأي أنها شاركت في المقاومة الفلسطينية في عام 1968 رغم أنها كانت مثخنة بالجراح بغير وجود للنظام الخاص .

وهذه الحقيقة لا يصح أن تنال من إخلاص أفراد النظام الخاص أو تضحياتهم , ولا أن تستوجب خجلا لأن من يعمل يخطئ ووحده هو الذي لا يعمل لا يخطئ , ولهذا فللمصيب أجران , وللمخطئ أجر .

وللإنصاف فمن الطبيعي في أى بلد محتل أن تنشأ مثل هذه التنظيمات السرية وأن يجنح بعض أفرادها إلى العنف وأعتقد أنه لم يوجد في مصر في تلك الفترة , شخص كان مهتما بالشأن العام , إلا وشارك في مثل هذه التنظيمات السرية على اختلافها حتى إن الشيخ محمد عبده كان نائبا لرئيس تنظيم " العروة الو ثقي " وهو تنظيم سري قام من أجل النضال ضد الاستعمار الانجليزي في البلاد التي احتلها في الشرق خاصة مصر والهند لذا كانت تنص المادة الرابعة من اللائحة السرية للتنظيم في واجبات العضو النضالية أن عليه " مدارسة أحكام الجهاد..." وتنص المادة السابعة منها على : " أن من واجبات العضو كذلك حمل السلاح عند المكنة "

بل لقد عرفت مصر عمليات الاغتيال ضد الانجليز وعملائهم من المصريين قبل إنشاء الشهيد حسن البنا النظام الخاص , من هذه العمليات محاولة " عريان يوسف مسعد" اغتيال " يوسف وهبي باشا " لما عرف عن صلاته بالانجليز ويذكر " عريان يوسف مسعد" في مذكراته أنه بعدما انتهي النائب العام من التحقيق معه ووجه إليه تهمة الشروع في القتل تمنى له التوفيق وكذلك فعل كاتب التحقيق .

وكذلك محاولة اغتيال " محمد سعيد باشا " التي قام بها الطالب الأزهري " سيد عليى " ومحاولة اغتيال " عبد الخالق ثروت باشا " التي اشترك فيها الطالب " أحمد عبد الحي كيره " الذي هرب من مصر إلى اسطنبول , ولخطورته اغتالته فيه المخابرات البريطانية .

وعملية اغتيال بطرس غالي باشا التي قام بها الوطني الأشهر الورداني .

ومن عجب أن يأتي من يدين عملية مصرع " سليم زكي باشا " حكمدار القاهرة مع أنها كانت وليدة المصادفة البحتة ومن قنبلة صوت يفترض ألا تقتل لكنها إرادة الله التي أبت إلا أن يموت بهذه الطريقة , فجعلت هذه القنبلة تنفجر عليه كتفه, ذلك أن عمالة هذا الرجل للإنجليز كانت معلنة , وكان لا يتنكر لها , حتى إنهم كانوا قد كلفوه بمهمة ضد الأتراك أثناء محاولتهم الزحف تجاه قناة السويس في الحرب العالمية الأولي ,

وتمكن الأتراك من أسره ورغم ذلك رفض الانقلاب على الانجليز , وبعد هزيمة الأتراك في الحرب عاد إلى مصر ليصبح مساعدا " لرسل " باش الانجليزي , والذي كان يشغل منصب حكمدار القاهرة وكان هو الذي قدم ثمانية من خيرة شباب مصر إلى المشنقة بعدما استطاع غواية أحد الثوار ليوشي بهم في عملية اغتيال السردار .

إضافة إلى ما سبق من أعمال العنف والاغتيالات فقد مارس العنف المسلح كل من عبد الناصر على ما سلف .

وأنور السادات الذي ظل يفتخر حتى وهو في الحكم بمشاركته في إغتيال أمين عثمان , وزار قاعة الجلسة التي كان يحاكم فيها بخصوص هذه القضية في محكمة مصر وأطلق عليها اسمه .

لذا أعجب عندما أجد أحد الإخوان يجتهد في نفي ممارسة الجماعة للعنف , وأعجب أكثر عندما أجد محدثه من الصحفيين أو الإعلاميين يجد في هذا العنف مبررا للدعوة إلى إقصاء الجماعة عن الحياة السياسية , ذلك أنه من حق البشر , فردا كان أم جماعة , أن يراجع أفكاره بين الحين والآخر , وأن يغير مواقفه بما يستبين له أنه الحق وبغير ذلك يجمد ويصبح خارج الأحداث , وعلى المجتمع أن يعتبر ذلك أمرا طبيعيا .

ومن عجب أن هؤلاء الإعلاميين الذين يضعون ( فيتو) على الجماعة لسابقة تاريخها في العنف تراهم يمجدون كل من عبد الناصر والسادات ولم يتكلموا كلمة واحدة حال حياة أى منهما تديم ممارسته السابقة للعنف الذي وصل إلى حد الاغتيال أو الشروع فيه وهو النفاق بعينه .

الفتنة الكبرى

في تلك الفترة كنا نحن الثلاثة ماهر حتحوت ويوسف أمين عبده وأنا لا نكاد نفترق إلا عند التوجه إلى مناولنا أو كلياتنا .

بل إن الكثير من زملاء ماهر ويوسف بكلية الطب فوجئوا عندما عرفوا أنني طالب بكلية الحقوق لكثرة ما كنت أصاحبهما أثناء وجودهما بكليتهما وأذكر تعليق أحدهم إنني لابد وأنني أعرف من العلوم الطبية , أكثر مما أعرف من القانون ؟!

وكانت لنا رؤية خاصة إلى الأمور , كثيرا ما تعارضت مع رؤي غيرنا من أعضاء الجماعة وكان يطلق علينا اسم الثلاثي .

وكانت لنا مناقشات كثيرة سواء مع باقي أفراد أسرتنا أو مع سائر الإخوان إذ كانت الأحداث في تلك الفترة تتوالي وتنذر بالكثير من المفاجآت , وكانت جميعها مفاجآت غير سارة ولما كانت تحمله من خلافات سواء بين أفراد الجماعة بعضهم البعض , أو بينهم وبين مجلس قيادة الثورة .

بعدما خرجت قيادات الجماعة وكوادرها من المعتقلات والسجون في عام 1950 وكان لابد من اختيار مرشد جديد لها . وتقدم لشغل هذا المنصب عدة أشخاص كل منهم يري أنه أحق به لسابقة جهاد في الجماعة , وحسما لهذا الخلاف رشحت مجموعة مكونة من منير الدلة وحسن العشماوي وآخرين المستشار حسن الهضيبي ,وهو من قدامي الإخوان وكان على علاقة وطيدة بالشهيد حسن البنا لكن بحكم منصبه لم تكن هذه العلاقة معلومة للكافة , وقد ارتضي به الجميع مرشدا للجماعة .

على أنه بقدر قرب الرجل من المرشد الأول للجماعة , ومن عدد محدود من قيادتها بقدر ما كان غريبا عن عامة أفرادها, سواء في شخصه أو في طبيعة حياته وتصرفاته , فقد تعودوا من حسن البنا – مثلا أنه إذا جلس معهم جلس على الأرض مثلهم كما تعودوا منه أن يشد الرحال إلى مدن الصعيد في الصيف , وفي الشتاء إلى مدن الدلتا, ومنها الإسكندرية فلم يؤثر عن الرجل طوال قيادته للجماعة أنه ذهب يوما إلى مصيف كما وأنه كان يعرف الناس بأسمائهم فردا فردا فكان إذا ما زار قرية وقابل فيها فردا كانت زوجته " مثلا " على وشك الولادة , وعاد إلى نفس القرية بعد سنة أو أكثر سأل عن الرجل , وما إذا كانت زوجته وضعت ذكرا أم أنثي ؟ وكيف حال المولود ؟

على حين كانت لحسن الهضيبي شخصية وتصرفات مغاير كان إذا حضر اجتماعا جلس على مقعد , وإذا قدم الصيف ذهب إلى المصيف لكن الرجل كان حاد الذكاء وغاية في الصلابة ورعا يخشي الله لم يهن أو يضعف أمام المحن ووقف شامخا شموخ دعوته في أقسي الظروف .

كان صورة مشرفة للجماعة أمام أعدائها ولو كانت الظروف قد منحته الوقت الكافي لكان قد أخذ الجماعة إلى مسار مختلف , بعد انتهاء معركة القناة أراد قادة النظام الاستمرار في قيادته كالسابق وبنفس الأسلوب والتوجهات إلا أن المرشد رأي أنه لا يصح استمرار الأوضاع في النظام الخاص على ما كانت عليه وأنه لابد من محاسبة قياداته على بعض التصرفات التي ألقحت ضررا بالجماعة ,

وأنه لابد من إعادة هيكلته وتحديد توجهاته وأهدافه, على نحو يحول دون ازدواجية القيادة واعتقادي أنه لو كانت الظروف قد سمحت لقام فضيلته بتصفية النظام الخاص كجهاز مسلح وألحقه كتشكيل غير مسلح ضمن تشكيلات الجماعة العلنية . على أنه رغم وقوف أسرتنا مع فضيلة المرشد إلا أننا – والحق يقال – لم نكن وقتها لنقبل بفكرة تصفيته , وهو الرأي الذي أدركنا خطأه فيما بعد.

وهكذا انقسمت الجماعة إلى فريقين , فريق مناصر لقادة النظام الخاص التقليدية وآخر يقف مع مرشد الجماعة وقيادتها الشرعية , وكان عبد الناصر يغذي هذا الخلاف مستفيدا من سابق عضويته بالنظام الخاص , ومن ثم معرفته بكل قيادته إذ كان يجتمع بهم في منزل بمنشية البكري ويتناول معهم الشاي والطعام جالسا بينهم على الأرض مهاجما المرشد الذي يريد إلغاء النظام الخاص ! في الوقت الذي كان فيه يرسل الرسائل إلى المرشد و مكتب الإرشاد بوجوب تسليمه كشفا بأسماء أفراد النظام , وكشفا آخر بالأسلحة التي يمتلكها وأماكن تخزينها .

في هذا المناخ المضطرب وقعت حادثة اغتيال المرحوم السيد فايز وكان ذلك بأن سلم شخص شقيقته طردا باعتباره يحتوي على حلاوة المولد وما أن فتحه الشهيد عند حضوره من الخارج حتى انفجر فيه هو وشقيقته الصغرى فقتلهما . وكان الشهيد قد تولي قيادة النظام الخاص لفترة بعد القبض على رئيسه السابق , عبد الرحمن السندي فيما عرف بقضية السيارة الجيب وقد اتهم أحمد عادل كمال وكان من قيادات النظام بأنه هو الذي سلم بنفسه هذا الطرد لشقيقه الشهيد إلا أن التحقيق انتهي إلى نفي ذلك.

وعلى الرغم من أن التحقيقات لم تنته إلى معرفة الفاعل إلا أنني لا أستبعد أن يكون عبد الناصر وراء هذه الجريمة التي أذكت الخلاف داخل الجماعة ودليلي على ذلك أن التعذيب استطاع أن يصل إلى أدق أدق أسرار الجماعة فلماذا بقي هذا السر وحده عصيا على الانكشاف فيما لو كان فرد من أفراد الجماعة هو مرتكب الحادث ؟ لقد شمل التحقيق تحت السياط كل التفاصيل المتعلقة بالجماعة ودون أن يقترب التحقيق من هذا الموضوع .

هذا فضلا عن أن الإرهاب لم يكن بعيدا عن عقلية عبد الناصر إذ يذكر عبد اللطيف البغدادي في مذكراته أن عبد الناصر قام قبل الانقلاب بمحاولة لاغتيال اللواء حسين سري عامر مدير سلاح الحدود آنذاك دون أخذ قرار من الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار واشترك فيها معه كل من حسن إبراهيم وكمال رفعت وحسن التهامي كما وأنه قام أثناء صراع مجلس قيادة الثورة مع الإخوان بتفجير ست قنابل في أنحاء متفرقة بالقاهرة اثنتان منها بجامعة القاهرة أثناء احتفال طلابها بذكري شهدائها في معركة القناة والأربعة الأخري كانت واحدة منها في جروبي و أخري في محطة سكك حديد مصر لإلصاق تهمة التفجيرات بالجماعة .

استغلت وسائل الإعلام حادثة اغتيال المرحوم السيد فايز كالمعتاد في الطعن على الجماعة بزعم إنها تمثل تصفيات يقوم بها أفراد الجماعة ضد بعضهم البعض , رغم أن نتائج التحقيق لم تسفر عن شئ محدد في شأنه .

وهكذا كان شأن الإعلام المصري, ويبدو أنه سيظل كذلك حتى إشعار آخر , فهو إما أن يتناول الحدث من خلال المشاعر الشخصية للكاتب تجاه الأشخاص المشاركين فيه بغض النظر عن الحقائق الموضوعية , وإما أن يتناوله من خلال ما يتوافق مع توجهات السلطة لذا فمن المتوقع دائما أن يمتدح الكاتب من كان يهاجمه بالأمس إذا ما تغير اتجاه الريح.

وصلت الأمور بين قيادة الجماعة وبين قيادة النظام الخاص إلى طريق مسدود وساهم في تفاقم الخلاف تدخلات جمال عبد الناصر , مما جعل المرشد العام يصدر قراره في شهر نوفمبر 1953 بفصل أربعة من قيادات النظام الخاص , وهم عبد الرحمن السندي و أحمد عادل كمال و أحمد زكي و محمود الصباغ.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أصدرت الهيئة التأسيسية للجماعة قرارها في ذات الشهر بفصل ثلاثة من قيادات الجماعة ورموزها هم صالح عشماوي والشيخ محمد الغزالي وأحمد عبد العزيز جلال . ولا أدري حتى الآن لماذا تم فصل الشيخ محمد الغزالي من الجماعة , بل إنه نفسه في أحاديثه الخاصة وإلى أن توفي – رحمه الله – كان يبدي حيرته من هذا الأمر لكنها كانت فترة مضطربة وانعكس اضطرابها على الجميع.

مقابلتنا الأولي للمرشد العام

في أول اجتماع لمجموعتنا بعد فصل الأربعة من قيادات النظام الخاص , أخبرنا مسئول المجموعة أن ما لديه من تعليمات لا تعترف بذلك القرار , وأن الأمور ستبقي على حالها كما كانت , انزعجنا نحن الثلاثة لذلك, وتملكنا القلق , إذا ما الحل فيما لو صدرت لنا تكليفات من شأن تنفيذها تحميل الجماعة بتبعاتها على غير إرادة قيادتها, وقد تكون التبعات خطيرة .

و مصرع الخازندار الذي تم على غير إرادة المرشد ليس عنا ببعيد .

هل نطيع فنورط الجماعة , أم نعصي فنحنث بالبيعة ؟ احترنا فيمن نذهب إليه نسأله الرأي في هذه المشكلة, فنحن لا نعرف من هو المسئول الأعلى لرئيس المجموعة .

وحتى إذا عرفناه فلابد وأنه هو الذي أصدر هذه التعليمات لكمال حلمي : استقر رأينا نحن الثلاثة على أن نتوجه بهذه الحيرة مباشرة إلى مرشد الجماعة وعليه ذهبنا إليه في منزله بمنيل الروضة , وأذكر أن زوجته هي التي فتحت لنا باب المنزل , وسألتنا هل هناك موعد سابق ؟ ولما أجبناها بالنفي وأننا من الإخوان ونريد مقابلته لأمر هام وقف حائرة لبرهة, ثم أوصلتنا إلى غرفة الاستقبال, وهي غرفة متواضعة بكل معني الكلمة فهي غرفة مستشار من ذلك الزمن الذي كان يكتفي فيه بالستر , وبعد قليل جاء المرشد بملابس المنزل وفوقها ( روب ) وسألنا من أنتم ؟ وماذا تريدون ؟

أجبناه إننا من الإخوان , وأن الموضوع الذي جئنا من أجله يتطلب قدرا من الثقة من المستمع في المتكلم , فكيف له أن يثق فينا ؟ أجابنا تحدثوا فإن آنست ثقة فيكم واصلت الحديث معكم , وإلا صرفتكم مشكورين على أية حال قلنا له إننا أفراد من النظام الخاص , وأن ثمة تعليمات وصلتنا بعدم الاعتراف بقرار فصل الأربعة , فماذا نفعل ؟ ضرب الرجل كفا بكف, وقال " يادي المصيبة " وهل وصلت الأمور إلى هذا الحد ؟ وهل هذا موضوع يمكن الكلام فيه بهذه البساطة .

على أية حال ألزموا الصمت وأطيعوا الأوامر , وسوف تحل الأمور كلها على النحو المرضي خلال الأيام القادمة بإذن الله وانصرفنا وبالفعل أخبرنا كما حلمي في الاجتماع التالي للمجموعة أن قرار الفصل قد وضع موضع التنفيذ وأن قيادة جديدة تسلمت قيادة النظام الخاص .

علمنا مما كان يتردد أن القائد الجديد للنظام هو يوسف طلعتأحد مقاتلي الإخوان في فلسطين , وتساءلنا إذا كنا نحن قد عرفنا اسمه, مما يعني أن المعلومة الخطيرة متاحة للكافة فلابد وأن تكون قد وصلت لعلم رجال المباحث العامة وهو ما كان يعكس ما كانت عليه أوضاع الجماعة في تلك الفترة الحرجة من اضطراب .

بل كان الاضطراب يشمل أوضاع مصر كلها , إذ كان هناك في ذلك الوقت صراع مكتوم بين محمد نجيب وأنصاره من ضباط القوات المسلحة وخاصة ضباط سلاح الفرسان ( المدرعات ) وبين باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة وأنصارهم من الضباط, خاصة ضباط سلاح المدفعية , وقد ظهر هذا الصراع إلى العلن في أوائل عام 1954 .

أكلت يوم أكل الثور الأبيض

إذا كان الحل الأول لجماعة الإخوان المسلمين في عام 1948 , فإن الحل الثاني لها كان في يناير 1954 على أنه لصدور قرار الحل الثاني مقدمات لابد من ذكرها في حدود ما عايشته أو شاركت فيه من أحداث .

كان من الواضح لكل متابع للأحداث في ذلك الوقت أن عبد الناصر هو الممسك منذ البداية بكل الخيوط في يده , وأن باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة ينزلونه منزله خاصة بينهم, وأن له مشروعة الطموح لتولي السلطة في البلاد بمفرده وأن ما يقال عن توجهاته الديمقراطية المخالفة لتوجهات باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة هي واحدة من مناوراته العديد التي كان يجيدها بحسب تكوينه الشخصي

ولكونه كان مدرسا للتكتيك بالكلية الحربية لأن الشخص المؤمن بالديمقراطية لا يمكن أن يتحول بين يوم وليلة إلى النقيض , وأن يكون له مشروعه للحكم الفردي , ربما لم تكن تفاصيل هذا المشروع واضحة المعالم له في البداية لكن في كل الأحوال كان له مشروعه لتولي السلطة بمفرده دون باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة وأن يستبقي منهم بجانبه من كان على استعداد للقيام بدور " الكومبارس " وهو مشروع يختلف بالكلية عن المشروع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين بحيث إن الخلاف كان أمرا لا مفر منه .

كعادة عبد الناصر لم يصدر في بادئ الأمر قرارا بحل الأحزاب السياسية رغم أنه كان قد عقد العزم على ذلك , ولكن بدأ الأمر بالدعوة إلى أن تتقدم الأحزاب بإخطارات لإعادة تشكيلها بعد أن تقوم بعملية تطهير داخلية وكان يعلم تمام العلم أن هذا المطلب لابد وأن يؤدي إلى انقسامات داخل هذه الأحزاب .

وهو ما حدث بالفعل , وبعدها أصدر قراره بحل الأحزاب وللتاريخ فإن الأستاذ الهضيبي رحمه الله كان أول من تنبأ بأن هذه الخطوة سيتبعها حل الإخوان , وأنها خطوات تتابع لينفرد جمال بالسلطة إذ أذكر مقولته التي ترددت وقتها ولم تعجب الكثيرين من الإخوان " لا تفرحوا بحل الأحزاب فالدور آت عليكم ".

وإذا كان عامة الإخوان قد رحبوا بحل الأحزاب السياسية متصورين أن من شأن ذلك إخلاء الساحة لمشروعها فضلا عن تطهير الحياة السياسية من فسادها إلا أنه تبين بعد فترة ليست بالطويلة أن إخلاء الساحة السياسية من الأحزاب لم يكن إلا لصالح مشروع عبد الناصر في الحكم .

وأنه في المستقبل القريب سيكون على الإخوان إما القبول بأن يكونوا جزءا من هذا المشروع وإما الصدام , وللحق فإن الذي أدرك هذه الحقيقة مبكرا هو مرشد الجماعة المستشار حسن الهضيبي على ما سلف .

اعتبارا من النصف الثاني لعام 1953 , بدأت مظاهر الخلاف بين الإخوان ومجلس قيادة الثورة تطفو على السطح, وكان أعضاء الجماعة يقابلون أعضاء المجلس في المناسبات المختلفة التي كانوا يحضرونها , بالمنادة بالقرآن دستورا للبلاد. ومن عجب أن ثلاثتنا ( كاتب هذه الصفحات وماهر حتحوت و يوسف أمين عبده) كانوا من القلة القليلة التي أدركت خطورة هذا الهتاف واعترضت عليه .

فقد كان رأينا أن ندخل في تحالف مع كل القوي المطالبة بإنهاء حكم العسكر وعودة الجيش إلى الثكنات , وهو مطلب كل المثقفين في ذلك الوقت من أعضاء النقابات المهنية , وأساتذة الجامعات وطلابها بل ومجموعات من القوات المسلحة وعلى الأخص النسبة الأكبر من ضباط سلاح الفرسان ومن ثم كان رأينا أن تقتصر مطالبنا على مطالبة أعضاء مجلس قيادة الثورة بالحكم الدستوري , دون الهتاف بشعارات تعمق الخلاف بين الجماعة وسائر القوى المناهضة لحكم العسكر , لأنه قبل قيام حكم دستوري يسمح للناس بالاختيار بين المبادئ والأفكار المطروحة تصبح الدعوة إلى أى من هذه المبادئ في ظل نظام لا يؤمن بالتعددية ضربا من العبث لأنه سيكون أشبه ببيع جلد الدب قبل صيده, ولكن صوتنا ضاع وسط حماسة جموع الإخوان .

وكان عبد الناصر في الوقت الذي يوطد فيه علاقاته بالمنشقين على مرشد الجماعة ومكتب إرشادها من أعضاء النظام الخاص , ويحدثهم عن أن الهضيبي يعمل على حل النظام والقضاء على فكرة الجهاد في الجماعة كان في الوقت ذاته يطالب الهضيبي ومكتب الإرشاد بأن يقدموا له كشفا بأسماء أفراد النظام الخاص وبالأسلحة التي يمتلكها على ما سلف !..

معسكر بين فكي الأسد

أقام النظام الخاص معسكرا للتدريب في شهر أغسطس 1953 في موقع النادي السويسري للرماية بالمنتزه وكان المبيت في إسطبلات الخيل بسراي المنتزه المهجورة وجري اختيار المكان على أساس تعود أهل المنطقة على سماع أصوات الرماية من أعضاء النادي , ولم أر في حياتي بعوضا أضخم ولا أشرس من الموجود في هذا المكان , إذ كان معتادا على امتصاص دماء الخيل لذا كان قادرا على اختراق فوطة الوجه أو البطانية .

كان منظرنا عجبا ونحن نصلي في ذلك المعسكر إذ كان من ينظر إلينا يتصور أننا نقوم برقصة غريبة من كثرة حركاتنا التي تسببها لنا لسعات البعوض المؤلمة, وكان الإمام وهو المرحوم سيد عيد يتحمل لسعات البعوض بصبر شديد حتى إنه كان لا يتحرك أثناء إمامته لنا في الصلاة مهما تكاثر البعوض عليه فقد كان رحمه الله شديد الإيمان على نحو يجعله خاشعا في صلاته عن كل ما حوله, بما في ذلك لسعات البعوض المتوحش .

وكان من بين التدريبات التي قمنا بها في ذلك المعسكر أن ركبنا البحر من المنتزه إلى العجمي في مياه مضطربة يعلو موجها ويهبط الأمر الذي جعل الكثيرين منا يفرغون ما في بطونهم , ولم يكن بالعجمي بيتا واحدا. وما زلت أذكر إعجابي بالمنطقة حيث كانت رمال الشاطئ بيضاء على نحو غاية في الجمال , كما أن زرقة المياه كانت غير عادية وعندما زرت العجمي بعد ذاك بسنوات وجدت طبيعة المنطقة قد تغيرت كثيرا عما شاهدته آنذاك .

وقد زارنا في هذا المعسكر عبد الرحمن السندي قائد النظام السري ثم اضطررنا بعد ذلك إلى إنهاء المعسكر على عجل عندما أطلق أحد المتدربين دفعة من رشاش البرن, الأمر الذي أحدث صوتا غير مألوفا في نوادي الرماية إذ الطبيعي أن يستخدم الرماة في هذه النوادي بندقية تطلق طلقة طلقة, وليس مدفعا رشاشا لذا جمع قادة المعسكر الأسلحة , وسائر معدات التدريب وأنهوا المعسكر على الفور.

كل ذلك حدث في وقت كانت العلاقة بين الجماعة والمجلس العسكري تمر بفترة حرجة للغاية وكان كل منهما يتربص بالآخر لذا يمكن القول إن هذا المعسكر كان بحق معسكرا في فم الأسد إذ كانت إقامته في هذا الوقت الحرج وفي هذا المكان تمثل مغامرة شجاعة للغاية

الصدام والحل الثاني للجماعة

في 12 من يناير 1954 أقام طلبة الإخوان المسلمين بجامعة القاهرة مؤتمرا إحياء لذكري شهداء الجامعة في معركة القنال, وحضره " نواب صفوي " رئيس ما كان يعرف في إيران " بفدائيان الاسم" وهي المنظمة التي اغتالت " رزم أراه" رئيس وزراء حكومة الشاه في ذلك الوقت , وهي الأحداث التي انتهت بالانقلاب على شاه إيران وطرده من البلاد وتشكيل حكومة برئاسة مصدق .

أثناء انعقاد المؤتمر دخلت مظاهرة قليلة العدد من أفراد هيئة التحرير وهي المنظمة التي أنشأها جمال عبد الناصر لتكون قاعدته الشعبية في مواجهة الإخوان المسلمين وكانت تتقدم المظاهرة سيارة جيب عليها ( ميكرفون) يذيع هتافات مستفزة ويعتلي العربة شاب كان وفديا ثم تحول ليصبح عضوا في منظمة التحرير , وكان من الواضح أن القصد من هذه المظاهرة هو الاستفزاز, ودفع الأمور إلى الاشتباك

وبالفعل هذا ما حدث , إذا كان يتعذر استكمال المؤتمر دون إسكات الهتافات المضادة المنطلقة من ( الميكرفون ) لذا هاجم المتظاهرون من الإخوان السيارة , فما كان من الشخص الذي يعتيلها إلا أن أخرج مسدسه وأطلق عدة رصاصات في لهواء وعندئذ قفز على السيارة كل من المرحومين محمود أبو شلوع وفتحي البوز, وانتزعا المسدس منه ,

وضرباه فقام بعض الإخوان بالارتماء عليه ليحولوا دون استمرار ضربه وحملوه إلى داخل كلية الحقوق ودخلت معهم , إذ كنت من المشاركين في حمايته, رغم أنن كنت ما زلت أتعافي من عملية الزائدة, وبعدما اطمأننت على الرجل وخرجت من الكلية رأيت النيران مشتعلة في السيارة وتبخر المتظاهرون من هيئة التحرير وأدرك الجميل أن قرار حل في طريقه إلى الصدور وهو ما حدث بالفعل إذ صدر في مساء نفس اليوم .

بعدما عاد المؤتمر إلى اسئتناف نشاطه حدث انفجاران وعلت الهتافات ضد مجلس قيادة الثورة وضد حكم العسكر والمطالبة بعودة الجيش إلى الثكنات وكان الظن أن المجلس هو الذي رتب أمر هذين الانفجارين إلا أنه تبين بعد ذلك من مذكرات عبد اللطيف البغدادي أن الذي دبر هذين الانفجارين هو عبد الناصر شخصيا دون مشاورة باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة.

وكما كان متوقعا صدر قرار الحل في مساء ذلك اليوم وجرت حملة اعتقالات واسعة شملت مرشد الجماعة وعددا كبيرا من قياداتها ومن أفراد النظام الخاص ممن كانت المباحث العامة قد توصلت لمعرفتهم ,أدركنا نحن طلبة الإخوان بالجامعات المصرية أن وراؤنا هما ثقيلا لذا حرص أغلبنا على المبيت خارج منازلهم , وانفجرت المظاهرات في الجامعات الثلاث.

جامعة القاهرة وعين شمس والإسكندرية بصورة يومية منددة بالحكم العسكري مطالبة بعودة الجيش إلى الثكنات ولأول مرة منذ انقلاب 23 يوليو تآلفت جميع القوي المناهضة للحكم العسكري والمطالبة بالديمقراطية فشملت المظاهرات الإخوان المسلمين والشيوعيين والوفديين وكل القوي المنددة بحكم العسكر .

منذ 12 يناير 1954 وحتى 30 مارس 1954 والمظاهرات لم تتوقف بالجامعات ولو يوما واحدا .

وأذكر أننا علمنا أن الضابط وحيد جودة رمضان, من الضباط الأحرار سوف يلقي خطابا على طلبة جامعة عين شمس في ملعب كرة القدم فانتقلنا إلى هناك وقابلناه هو ومجموعة من الضباط المصاحبة له بعاصفة من الهتافات المنددة بحكم العسكر فانصرف دون أن يستطيع إكمال خطابه مشيعا بالهتاف بسقوط حكم العسكر , يسقط يسقط حكم العسكر .

في تلك الفترة قمنا باصطناع بطاقات جامعية بأسماء وهمية لنتمكن بواسطتها من اختراق الحصار الأمني المفروض على الجامعات إذ كانت لدي الأمن كشوف بأسماء الطلاب المطلوب اعتقالهم وكان قسم المنشورات لدي الإخوان يمدنا بالمنشورات التي كنا نقوم بتوزيعها داخل الجامعة وخارجها وأذكر واقعة حدثت في تلك الفترة ,

وهي أن أحد الشباب الوفدي أخبرنا أن له شقيقا يعمل ضابطا في المخابرات العامة وأنه قام بفتح حقيبته في غيبته ليطلع على أوراق كان يقوم بكتابتها وتبين له أنها تمثل خطة للقضاء على الجماعة وكان بها فصل عن كيفية تدمير شخصيات أفرادها ومن عجب أنني عندما قرأت فيما بعد الكتاب الذي يفترض أن مؤلفه هو صلاح نصر تبين لى أن يتضمن الكثير مما سمعته من ذلك الطالب الوفدي مما كان يكتبه شقيقه آنذاك ويبدو أن صلاح نصر اعتمد على جهود الضباط العاملين لديه في ( تأليف ذلك الكتاب ).

كما أذكر أن أحد طلاب الإخوان بكلية الحقوق ألقي ( برزمة ) من المنشورات في إحدي مدرجات الكلية أثناء قيامنا بإخراج الطلبة للانضمام إلى المظاهرة , فسقطت المنشورات ملتصقة ببعضها فقفز أحد ضباط الحرس الجامعي لأخذها, إلا أنني قفزت عليه ولكمته في صدره وأخذت منه حزمة المنشورات ونشرتها على الطلبة في المدرج.

وهو ما يعطي فكرة عن مدي الثقة في النفس أثناء تلك الفترة , وحالة الضعف التي كان عليها النظام آنذاك, نتيجة للخلافات بين أعضاء المجلس العسكري , والتي جعلته يحجم عن التوسع في عمليات الاعتقال ,وهو الوضع الذي اختلف تماما بعدما أمسك عبد الناصر بكافة الخيوط بيده عقب محاولة اغتياله , هذه العملية التي رأي أنها محل شك كبير.

كان الصراع بين اللواء محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية قد بدأ يظهر إلى العلن منذ أواخر عام 1953 , وكان في حقيقته مجرد صراع على السلطة , مهما قيل في شأنه .

السلطة التي يري كل من يستولي عليها من العسكر أنه الأحق بها وأنه لا يصح لغيره من أفراد الشعب أو حتى من زملائه مجرد التطلع إليها وإلا كان آثما .

يقول عضو مجلس قيادة الثورة عبد اللطيف البغدادي إنه في يوم 29 نوفمبر 1953 دعي إلى مؤتمر شعبي في الإسكندرية كان من المتفق أن يحضره جمال عبد الناصر و عبد الحكيم عامر وصلاح سالم فقط لكن عندما علم محمد نجيب بأمر هذا المؤتمر قرر حضوره والتحدث فيه وفي المؤتمر خطب جمال عبد الناصر معرضا بمحمد نجيب قائلا إنه على الشعب أن لا ينخدع لأى منافق أو مخادع يخدعهم ويغشهم وفهم الجميع بما فيهم محمد نجيب إنه المقصود بهذا الكلام ؟!.

ويضيف البغدادي أن الخلاف بين الطرفين بعد هذه الكلمات وإذاعتها من الإذاعة المصرية أصبح علنيا بعدما كان مستترا وأصبح مثار تعليق للكثيرين من أفراد الشعب .

وظلت حالة الخلاف بين الطرفين تتفاعل وتتزايد إلى أن انفجر الموقف بينهما في 11 فبراير 1954 , وعندما أراد محمد نجيب أن يشارك عبد الناصر في زيارة لقبر الشهيد حسن البنا بمناسبة ذكري استشهاده يوم 12 فبراير من كل عام إلا أن عبد الناصر رفض مشاركته في هذه الزيارة حتى لا تؤكد ما كان متداولا وقتها من أن حل الجماعة لم يكن بموافقة محمد نجيب ,

وانتهي الخلاف إلى أن محمد نجيب تيقن باستحالة استمرار التعاون بينه وبين باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة فقدم استقالته من جميع مناصبه وقبلها المجلس وكان ذلك في 21 فبراير 1954 , إلا أنه تحت ضغط الشعبي , وضغط نفر من ضباط سلاح الفرسان اضطر المجلس أن يسترضي محمد نجيب ويتراجع عن موقفه وإقناعه بالعودة رئيسا للجمهورية وكان ذلك بتاريخ 26 فبراير 1954 .

في مساء ذلك اليوم اجتمعنا كالمعتاد في الشقة التي كنا نجتمع فيها بصورة تكاد تكون يومية للإعداد للمظاهرات وذلك للإعداد لمظاهرة حاشدة تشترك فيها جامعتي القاهرة وعين شمس وطلبة المدارس الثانوية وأفراد الشعب وتتوجه إلى ميدان عابدين للترحيب بعودة محمد نجيب والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين وعودة الحكم الديمقراطي إلى البلاد .

في صباح يوم 27 فبراير 1954 خرجت المظاهرة من جامعة القاهرة وكان يشارك في قيادتها ماهر حتحوت ويوسف أمين عبده وفوزي فارس ومحمود أبو شلوع وآخرون وعندما بدأت طلائع المظاهرة تعبر كوبري قصر النيل إلى ميدان قصر النيل , أطلق عليها جنود الكتيبة 13 , المعسكرة في حديقة الحرية النار فقتلوا طالبين هما الشهيد محمود السحرتي الطالب بمدرسة الخديوي إسماعيل , والشهيد عادل عجينة الطالب بكلية الهندسة , وجرحوا عدة أفراد منهم المرحوم أحمد فراج وصالح الحديدي الطالب بكلية الهندسة وآخرين غمس البعض المناديل البيضاء في دماء الشهيدين وتفرقنا لنلتقي في ميدان عابدين .

عند وصولنا إلى ميدان عابدين كان اللواء محمد نجيب قد فرغ من إلقاء خطاب في الجماهير المحتشدة وطلب منهم الانصراف إلا أنهم رفضوا ذلك , وبعد فترة حضرت سيارة جيب تحمل ميكرفونا ويعتليها الشهيد عبد القادر عودة , وتهتف ضد مجلس قيادة الثورة وتطالب بعودة الحياة النيابية , فأشار إليه محمد نجيب أن يصعد إليه وبالفعل صعد إليه ووقف بجانبه خطيبا ومهاجما مجلس قيادة الثورة وملوحا بالمنديل الملطخ بدماء الشهيدين إلا أن محمد نجيب انسحب إلى الداخل استشعارا للحرج من هذا الهجوم,

وبعدما انتهي عبد القادر عودة من خطابه خرج إليه محمد نجيب وطلب منه أن يطلب من المتظاهرين الانصراف فانصرفوا على الفور وخلا الميدان من شاغليه في مدة قصيرة وكانت هذه المظاهرة هي السبب في إعدام عبد القادرة عودة إذ أدرك عبد الناصر أن هذا الرجل يمكن أن يشكل قيادة جديدة للجماعة بعد الحكم بسجن مرشدها , وإعدام قادتها الآخرين , وهو الحكم الذي أصدرته محكمة الثورة في قضية محاولة اغتياله , رغم ما كان معروفا عن عبد القادر عودة من أنه ينبذ العنف وأنه كان أحد الداعين إلى حل النظام الخاص , ولم يثبت بأى دليل في تلك القضية أن له صلة بمحاولة الاغتيال هذا بفرض أن هذه العملية لم تكن مدبرة من قبل النظام إذ أنها ما زالت تعتبر لغزا في حاجة إلى بحث .

ويزعم عبد اللطيف البغدادي في مذكراته أن هذه المظاهرة كانت مظاهرة مسلحة , ودليله على ذلك أن ضابط شرطة كان قد أصيب أثناء فض المظاهرة برصاصة في رقبته , وأستطيع الجزم بأن هذه المظاهرة لم تكن مسلحة أما عن واقعة إصابة هذا الضابط , فلذلك قصة تروي للمرة الأولي وهي أن الذي أطلق هذه الرصاصة هو طالب بكلية الهندسة اسمه مجد الدين زهدي ولم يكن هذا الطالب من الإخوان ووالده كان أحد مستشاري محكمة الاستئناف في ذلك الوقت وكان مشتركا في المظاهرة مثل غيره من الطلبة وإذ شاهد أحد ضباط الشرطة يطارد أحد المتظاهرين فتتبعهما وعندما دخل المتظاهر للاختباء بمدخل أحد المنازل والضابط يتعقبه

قام مجد الدين زهدي بإطلاق الرصاص عليه من مسدس كان يحمله فأصابه في رقبته بما تمكن معه هذا المتظاهر من الفرار وقد روي مجد الدين زهدي هذه الرواية لصديقه يوسف أمين عبده التي رواها بدوره ثم أكد لى مجد الدين الواقعة بنفسه عندما قابلته بعد ذلك بسنوات في لوس أنجلوس بأمريكا .

لم يكن الأمر في حاجة إلى أى قدر من الذكاء لإدراك أن الخلاف بين محمد نجيب وباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة لابد وأن ينفجر مجددا إذ يستحيل التوفيق بين الأضداد في نظام غير ديمقراطي وهو ما حدث بالفعل فقبل أن ينقضي وقت طويل على المصالحة بين محمد نجيب وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة سرعان ما نشب الخلاف مرة أخري بينهم وكان خلافا في غاية الشدة والضراوة , بحيث أسفر عن صدور ما عرف بقرارات 25 مارس التي بموجبها قرر مجلس قيادة الثورة حل نفسه وتسليم الحكم إلى المدنيين .

وأفرج مجلس قيادة الثورة عن مرشد الجماعة والإخوان في 26 مارس , أى في اليوم التالي لقرارات 25 مارس , وزار عبد الناصر ونفر من أعضاء مجلس قيادة الثورة المرشد في بيته مهنئين ؟!

ولا أعرف ماذا يمكن أن يكون قد دار من حديث بينهم !؟ .. ثم كانت الداهية التي لم نكن نتوقعها أبدا إذ صدرت إلينا الأوامر أو التعليمات – سمها ما شئت – بالتوقف عن التظاهر ضد مجلس قيادة الثورة !..

اللقاء الثاني بفضيلة المرشد

وقع علينا طلب قيادة الجماعة بالتوقف عن التظاهر ضد مجلس قيادة الثورة وقع الصاعقة إذ كنا لبقية الطلبة أن المظاهرات لا يمكن أن تتوقف إلا بعودة الحكم المدني للبلاد حتى ولو تم الإفراج عن قيادات الجماعة لذا كان طلب التوقف عن التظاهر ضد المجلس فضلا عن كونه محرجا لنا , فإنه طلب يمثل قمة الغباء السياسي لأنه سيعطي مجلس قيادة الثورة الفرصة لالتقاط الأنفاس لذا رأينا نحن الثلاثة ماهر حتحوت ويوسف أمين عبده وأنا التوجه إلى المرشد في منزله وإطلاعه على رأينا في هذا الشأن .

وبالفعل توجهنا إليه وعرفنا الرجل , وقلنا له إن هذا التوقف فضلا عن أنه خيانة لمن آزرونا في محنتنا فإنه يعتبر خطأ سياسيا فادحا لأنه يعطي المجلس الفرصة للإمساك بالخيوط التي فقدها نتيجة للضغط الشعبي إلا أن فضيلته أصر على طلب التوقف عن التظاهر ,وأن ذلك ضروري لتحقيق سياسة الجماعة تجاه مجلس قيادة الثورة , فوافقنا على مضض ونحن غير الواضح لدينا نحن الثلاثة أ، الجماعة ستتعرض لعملية افتراس رهيبة ؟!

فمعاداة ضباط مسلحين ومسيطرين على كل مفاصل الدولة ليس بالأمر الهين’ وأجيب بأن علاقة الفرد بالجماعة علاقة تستغرق كل حياته وتسيطر على عواطفه تجاه إخوانه في الجماعة , بل واتجاه الجماعة نفسها , ومع ذلك فإنني أرجو من شباب الإخوان ألا يسلموا عقولهم لقيادات الجماعة . وأن يحتفظوا بالقدرة على التفكير المتحرر من التعليمات فذلك أفضل لأنفسهم بل وللجماعة نفسها .

لقد كانت هناك قوى عديدة في ذلك الوقت تطالب بعودة الجيش إلى الثكنات , وعودة الحكم النيابي وإذ كان مجلس نقابة الصحفيين قد أصدر في 26 مارس عدة قرارات طالب فيها بإنهاء الأحكام العرفية وإلغاء الأحكام التي صدرت من محكمة الثورة والإفراج عن المعتقلين السياسيين وتشكيل حكومة انتقالية تمهد لعودة الديمقراطية .

كما طالبت نقابة المحامين بنفس المطالب , بالإضافة إلى مطالبتها للنيابة العامة بالتحقيق مع ضباط البوليس الحربي والمسئولين عن السجن الحربي وعلى رأسهم البكباشي أحمد أنور قائد البوليس الحرب عن الاعتداءات التي وقعت على المعتقلين ومنهم عبد القادر عودة الذي ضرب ضربا مبرحا عقب القبض عليه بسبب مظاهرة ميدان عابدين وأحمد حسين , وعمر التلمساني وغيرهم كما قررت الجمعية للمحامين الإضراب العام يوم 28 مارس 1954 .

وفي يوم 27, 28 مارس 1954 عقد أعضاء هيئات التدريس في الجامعات المصرية الثلاث اجتماعا طالبوا فيه بإلغاء الأحكام العرفية وحل مجلس قيادة الثورة .

وكان طلاب جامعة القاهرة قد شكلوا ائتلافا أسموه الجبهة الوطنية ضمت كل المعارضين للحكم العسكري.

كما كانت الأغلبية العمالية خارج مؤامرة عبد الناصر في إجهاض قرارات 25 مارس, إذ أصدرت نقابات عمال مصر بيانا رفعته إلى رئيس الجمهورية بتأييد هذه القرارات ومطالبة بعودة الحياة الديمقراطية .

كما اجتمعت الجمعيات العمومية لجميع نقابات عمال الإسكندرية وأصدرت قرارا طالبت فيه بإلغاء الأحكام العرفية وحل مجلس قيادة الثورة والإفراج عن المعتقلين وعودة الحياة الديمقراطية .

هذا عن المعارضة المدنية لحكم العسكر أما في الجيش فكان هناك انقسام بين المؤيدين للثورة وهؤلاء المطالبين بالديمقراطية,ووفقا لرواية عبد الرحمن الرافعي في كتابه: ثورة 23 يوليو 1952" فقد كانت هناك مجموعة من ضباط الجيش مؤيدة لمحمد نجيب , وإنها طالبته بأن يصدر بيانا بحل مجلس قيادة الثورة وتكوين مجلس رئاسي مدني برئاسة بهي الدين بركات وأحمد لطفي السيد وسليمان حافظ, مع تكليف السنهوري رئيس مجلس الدولة بتشكيل وزارة ائتلافية .

ولكن كل هذا الزخم توقف عندما قررت قيادة الإخوان المفرج عنها من السجن الحربي, وعلى رأسها مكتب الإرشاد والمرشد توقف شباب الجماعة عن الضغط على مجلس قيادة الثورة .

وانسحاب الجماعة من بين المجموعات المطالبة بإنهاء حكم العسكر وعودة الديمقراطية ؟! إذ كانت الجماعة تمثل في ذلك الوقت الكتلة الأضخم والأهم بين المجموعات المطالبة بعودة الجيش إلى الثكنات وبالحكم الديمقراطي للبلاد وكان ذلك في 31 مارس 1954 تري هل يعيد التاريخ نفسه ؟!.

إنني لم أستطع رغم كل ما قرأته مما كتبه قادة الجماعة فيما بعد حدوث أزمة مارس 1954 , أن استوعب لماذا وثقت قيادة الإخوان في عبد الناصر بعد الإفراج عنها في مارس 1954 ؟

وعلى أى أساس توقفوا عن الاستمرار في المطالبة بعودة الجيش إلى الثكنات , وعودة الحياة النيابية , بما أعطي الرجل الفرصة لأن يستعيد كل الخيوط التي كان قد فقدها في صراعه مع محمد نجيب؟ ثم على أى أساس عادوا إلى مهاجمته في يوليو من نفس العام بمناسبة مهاجمتهم لاتفاقية الجلاء التي أبرمها مع بريطانيا رغم أنه كان من البديهي إدراك أن هجومهم عليها كان يعتبر هجوما على شخصه , إذ كانت كل تصريحاته تدل على أنه كان يعتبرها إنجازه الأكبر وأنها في نظره تمثل خطوته الأساسية في مسيرته نحو الانفراد بالسلطة ؟

تري هل تصورت قيادة الإخوان أنه عندما أفرج عنها , ثم زار المرشد في بيته مهنئا بالإفراج أن ضمير الرجل استيقظ فجأة كما يحدث في الأفلام المصرية ؟

أم إنهم راهنوا وقتها على شئ نجهله , رغم أن أى مراقب لأوضاع مصر وقتها , كان بوسعه أن يدرك أنه لم يكن يوجد فيها ما يمكن الرهان عليه سوي مجموعة من ضباط سلاح الفرسان , وطلبة الجامعات وأعضاء النقابات المهنية , وأن التوقف عن الضغط كان من شأنه أن يأخذ الرجل الفرصة لإحكام قبضته على سلاح الفرسان وجعل القوي الشعبية المناهضة لحكم العسكر تفتقد الثقة في الجماعة

ومع الوقت تنصرف إلى شئونها الخاصة بحيث يستحيل بعد ذلك بعث الحيوية فيها من جديد وهو ما حدث بالفعل , إذ عندما وقع الصدام بين عبد الناصر والجماعة وقفت هذه القوي كلها موقف المتفرج رغم أنها قبل ذلك كانت تنادي بعودة الجيش إلى الثكنات .

خطوة إلى الخلف وخطوتان إلى الأمام

وكما كان متوقعا فلم يكن أستاذ التكتيك بالكلية الحربية بالذي يستسلم ويتخلي عن مشروعه للإنفراد بحكم مصر إذ دبر انقلابا على قرارات 25 مارس , وذلك بتحريض عمال النقل العام على الإضراب يوم 30 مارس فتوقفت المواصلات العامة في كل أنحاء مصر وسير المظاهرات منهم ومن بعض المجندين ممن يرتدون الذي المدني تهتف بسقوط قرارات 25 مارس ,

وبسقوط الطلبة الجهلاء بل وبسقوط الحرية – حدث هذا بالفعل – وتم ذلك لعبد الناصر بعد قيامه برشوة " صاوي محمد صاوي " رئيس نقابة عمال النقل العام في مصر بمبلغ أربعة آلاف جنيه وهكذا كانت أربعة آلاف جنيه فقط هي كل ثمن غياب الديمقراطية وحكم العسكر لمصر ؟ هذا الحكم الذي أخذ مصر, بل المنطقة كلها إلى كارثة هزيمة 1967.

كما قام اليوزباشي " حسين عرفة" قائد المباحث لجنائية بتدبير جزء من هذه المظاهرات فارتدي بعض جنوده الملابس المدنية واتجهوا نحو مجلس الدولة يهتفون بسقوط الخونة وللاعتداء على رئيسه الدكتور عبد الرازق السنهوري باشا .

كما قامت بعض الجماعات من مديري التحرير وفقا لتوجيهات الصاغ " مجدي حسنين بالتوجه إلى مجلس الدولة للغرض نفسه وتعاون الفريقان في هذه الأحداث , بينما توجه وجيه أباظة إلى مطار ألماظة وطلب من قائد المطار براميل من البنزين لإشعال حريق في مجلس الدولة ولكن قائد المطار رفض الاستجابة إلى هذا الطلب .

وطلب حسين عرفة من السنهوري الخروج للمتظاهرين , وما أن خرج الرجل حتى اعتدي عليه ( المتظاهرون ) بالضرب والسباب وأخذوا يدفعونه حتى وصل إلى حديقة المبني إلى أن وصل صلاح سالم إلى المجلس وأخرج السنهوري في حمايته .

وكان كل ذلك بسبب شائعة ( مجرد شائعة ) أن مجلس الدولة بسبيله إلى إصدار بيان يؤيد فيه عودة الجيش إلى الثكنات وإعادة الحياة الديمقراطية .

باختصار أمسك عبد الناصر بقبضة حديدية بكل مفاصل الدولة منتهزا خروج الجماعة من الساحة , وتوقفهم عن التحرك ضده , وبذلك أصبحت الساحة مهيئة لجولة أخري معها وعندما بدأت هذه الجولة لم تجد الجماعة من القوي الوطنية من بوسعه الوقوف معها .

وإذا كانت قرارات 25 مارس التي قرر بمقتضاها مجلس قيادة الثورة حل نفسه هي الخطوة إلى الوراء فقد كانت إضرابات عمال النقل العام والاعتداء على مجلس الدولة حامي الحريات هي الخطوة الأولي إلى الأمام أما خطوته الثانية إلى الأمام فكانت هي الإفراج عن الإخوان المسلمين وتهدئتهم إلى أن ينتهي من تصفية حساباته مع باقي خصومه داخل الجيش وخارجه. وابتلع الإخوان الطعم للمرة الثانية , رغم ما يقال من إنه " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ؟!

وبالفعل استثمر عبد الناصر هذه الهدنة مع الإخوان في تشديد قبضته على مفاصل الدولة والتنكيل بكل خصومه داخل الجيش وخارجه . فحل نقابة الصحفيين وتولي رئاسة مجلس الوزراء بدلا من محمد نجيب الذي أصبح رئيسا برلمانيا للجمهورية أى رئيسا بدون اختصاصات بمعني إنه أعطاه ركلة إلى الأعلى

وقام في 28 إبريل بالقبض على 16 ضابطا من ضباط المدرعات بتهمة الإعداد لانقلاب على الحكومة ,

وكان العديد منهم من بين الضباط الأحرار, وحكمت المحكمة العسكرية على العديد منهم بالسجن من سنة واحدة إلى 15 سنة مع الطرد من الخدمة كما أجري تنقلات واسعة بين ضباط هذا السلاح واعتقل العديد من الطلبة من غير الإخوان المسلمين , كما قدم عددا منهم إلى المحاكمة فيما عرف بقضية الجبهة المتحدة , وكان من بينهم مجد الدين زهدي,

وقد علمت منه أن رئيس الدائرة التي كانت تحاكمه قال لوالده , وكان زميلا له , أنه رغم اقتناعه ببراءة ولده وببراءة باقي المتهمين في القضية , فإنه آثر أن يحكم على كل منهم بالسجن سنة لاقتناعه بأنه لو قضي ببراءتهم فسيعتقلون جميعا لمدة لا يعلمها إلا الله .

كما أمر عبد الناصر بطرد عدد من أساتذة الجامعات وسلب إدارات الكليات الجامعية العديد من اختصاصاتها مثل تعيين العمداء ونوابهم , وعين مندوبا عن الدولة في مجلس كل جامعة.

باختصار أمسك بقبضة من حديد كل مفاصل الدولة , منتهزا فرصة خروج الإخوان من الساحة وتوقفهم عن التحرك ضده وبذلك أصبح في وضع مختلف تماما عندما اصطدم بهم بعد ذلك في أكتوبر 1954 إذ لم يجد الإخوان من يقف بجانبهم في هذا الصدام .

وبالتعاون مع الأمريكان الذين كانوا يطمعون في أن يحل نفوذهم محل نفوذ بريطانيا في المنطقة ويأملون في السيطرة على عبد الناصر ومجموعته, بدأت مفاوضات الجلاء .

وفي يوليو 1954 أعلنت حكومتا مصر وبريطانيا موافقتهما المشتركة على أسس اتفاق لمعاهدة جديدة لتسوية النزاع المصري البريطاني , تجلو بمقتضاها بريطانيا عن القنال , على أن تترك بعض الخبراء العسكريين بقواعدها فيها ,وأن تكون مصر شريكة لها في الحرب إذا ما حدث اعتداء عليها وقد عارض الإخوان هذه المعاهدة .

أذكر أننا قمنا بتوزيع منشور بعنوان :" هذه المعاهدة لن تمر ". وقد أخبرني وقتها المرحوم الأستاذ عبد المنعم الصاوي " وقد كان يقطن في الشقة التي تعلو شقة أسرتي في شاعر " صفية زغلول " بالقصر العيني أنه سمع عبد الناصر يعلق على هذا المنشور بقوله : هما المشايخ دول متصورين أنهم هيغلبوا الضباط "

وبدأ الصراع بين المجلس والإخوان يعود إلى العلم مرة أخري , ولكن كان عبد الناصر في الموقف الأقوى هذه المرة , وبدأ الهجوم على الجماعة فاتهم الإخوان بأنهم اتصلوا بالانجليز من وراء ظهره ورد المرشد على هذا الاتهام في مؤتمر عقده بالمركز العام متهما عبد الناصر بالكذب وأن هذا الاتصال تم بطلب منه , طلب فيه من الجماعة التشدد كي يظهر المفاوض المصري في المفاوضات أنه يواجه رفضا شعبيا لمطالب بريطانيا , وأن عليها أن تقبل بحل وسط للمسائل المعروضة على بساط البحث ,

وبعد سنوات أكد حسن التهامي في حديث نشر له بجريدة " روز اليوسف " بعددها رقم 2601 الصادر في 1/5/ 1978 تحت عنوان " هذه هي الحقيقة " أنه سمع من عبد الناصر شخصيا في مجلس قيادة الثورة بالجزيرة أن حسن العشماوي أخبره أن إيفانز المستشار السياسي بالسفارة البريطانية طلب منه الالتقاء ببعض قيادات الإخوان المسلمين ,

وأنه ( أى عبد الناصر ) حبذ إجراء هذا اللقاء لمعرفة كيف يفكر الانجليز, كما طلب منه أن يرتفع الإخوان بسقف مطالبهم ليساعده ذلك في مفاوضاته معه وأن الإخوان نقلوا إلى عبد الناصر كل ما دار بينهم وبين ذلك المستشار الانجليزي .

على ذكر هذا المؤتمر فإنني أذكر واقعة كلما تذكرتها تعجبت من مدى التهور , بل الحماقة التي كنت عليها آنذاك , إذ حضرت هذا المؤتمر وأنا أحمل حقيبة بها مدفع رشاش ( أستن) وأكثر من ثلاثمائة طلقة وقنبلة يدوية ( ميلز ) وقصة هذه الأسلحة أن على عفيفي على عبده كان قد طلب مني أن أحضرها له من منزل شقيقته التي كانت تسكن بالقرب من المركز العام, وخشي هو من أن يذهب لإحضارها ذلك المؤتمر بالمركز العام.

حماقة ما بعدها حماقة , إذ كيف كان الحال لو أن مخبرا شك فيما كنت أحمله, وتتبعني عند انصرافي من المؤتمر وألقي القبض على ؟! كان الثمن هو الأشغال الشاقة المؤبدة فهل كان هذا التصرف يساوي هذا الثمن ؟ لقد كنا وقتها غاية في الحماس ضد حكم العسكر الذي أخذ مصر خلال الستين عاما الماضية إلى الحضيض إذ ما قارنا أحوالنا بما حققته بعض الدول كماليزيا وتركيا خلال نصف هذه المدة فقط.

اللقاء الثالث والأخير بالمرشد

بقدر ما تسع الذاكرة فقد كان هذا اللقاء في أواخر أغسطس 1954 .

وكنا وقتها نعيش في دوامة إذ كان من الواضح أنه في الوقت الذي استغل فيه مجلس قيادة الثورة , أو بالأحرى عبد الناصر, فترة الهدنة مع الجماعة في تدعيم مركزه والإمساك بكل الخيوط في يده كانت قيادة الجماعة واقعة في حيرة شديدة ولا تعرف كيف تواجه الموقف , خاصة وأن عبد الناصر بدأ هجومه العلني عليها بغير تحفظ كما أخذت أجهزة الأمن تعتقل بعض أفراد الجماعة ممن سبق أن أفرجت عنهم في مارس 1954 .

كان من الواضح أن الصدام مسألة وقت وأن هذا الصدام إن حدث فسيكون الغرض منه هو القضاء على الجماعة بأقسى الطرق وأشدها عنفا لأنه بحكم معايشة عبد الناصر لأعضائها يدرك مدي إيمانهم بفكرتهم , وأنه لن يجدي معهم ما أجدي مع أعضاء الأحزاب الأخري .

في تلك الفترة سمعنا أنه جري اختيار بعض أفراد من النظام الخاص لعملية كبيرة وأنه يجري تدريبها في مكان ما ولكن انقضت الأيام ولم يحدث شئ وعرفنا فيما بعد, ونحن في السجن الحربي أن هذه العملية كانت هي اقتحام مجلس الوزراء أثناء انعقاده بعدد من سيارات الجيب تحمل نفرا من أفراد النظام يرتدون زي البوليس الحربي ويعتقلون عبد الناصر وأعضاء وزارته ولا يفرج عنهم إلا بعد تكليف مجلس رئاسي يحكم مصر , وأن هذا المجلس إن لم تخني الذاكرة يتكون من العشماوي باشا وبهي الدين بركات باشا وآخر لا أذكر اسمه وأن المعسكر الذي كان يجري فيه التدريب بمعرفة اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف كان يقع في منطقة كرداسة .

كما علمنا أنه كانت هناك خطة لاغتيال عبد الناصر في احتفال للموظفين وأن المرشد رفض ذلك كما رفض فكرة أن يحتضنه شخص يرتدي حزاما ناسفا ويفجره فيه وأن الرأي استقر في النهاية على القيام بمظاهرة ضخمة يشارك فيها الإخوان بنسائهم وأولادهم وأنه يجري الإعداد لها .

تخبط وحيرة شديدة في مواجهة الموقف . ومن يقرأ مذكرات المرحوم حسن العشماوي – وهو من أفضل من رأيت وأشجعهم وأخلصهم – يدرك حجم هذه الحيرة إذ أجاد الرجل رحمه الله تصويرها لأنه عاش تفاصيلها لحظة بلحظة .

لذا رأينا نحن الثلاثة , ماهر حتحوت يوسف أمين عبده , وأنا , مقابلة المرشد , وتمت المقابلة في منزله المقابلة في منزله, وتذكرنا الرجل , ولم نشأ أن نذكره بما قلناه له في مارس 1954 تأدبا, وسألناه ما الحل ؟ أجاب الرجل , أنا أريد أن أسمع منكم وأضاف إنني عندما ذهبت في رحلتي إلى الدولة العربية قبل شهر كان ذلك على وعد بألا أعود إلى البلاد إلا وقد انتهي كل شئ ولكنني عدت ووجدت الموقف على حاله .

أجبناه – وكنا ما زلنا مدفوعين بحماسة الشباب – أن الحل هو أن تختفي , ثم ندخل في معركة مع عبد الناصر , لعلها تستفز المناصرين لنجيب من ضباط الجيش , والمؤيدين لعودة الجيش إلى الثكنات من المدنيين فيتحركوا معنا ضد مجلس قيادة الثورة لأنه خير لنا أن نموت في الطرقات وأن نكتب بدمائنا رفضنا لحكم العسكر , مما سيجري لنا فيما لو وضع يده علينا أطرق الرجل ولم يتكلم فآثرنا الانصراف دون مزيد من الحديث .

وكان هذا هو لقاءنا الثالث والأخير بمرشد الجماعة أو لنقل كان هو لقاؤنا الأخير معه خارج الأسوار لأننا التقيناه كثيرا بعد ذلك في السجن الحربي , وقد اضطره حمزة البسيوني قائد السجن أن يقوم هو وسائر أعضاء مكتب الإرشاد بدور المايسترو أثناء إذاعة أغنية " يا جمال يا مثال الوطنية " لأم كلثوم من مكبرات الصوت التي كانت تعلو مباني السجن الحربي .

القبض على يوسف أمين عبده

القبض على يوسف أمين عبده وعلاقة يوسف باللواء عبد الفتاح فؤاد

كان اللواء عبد الفتاح فؤاد أحد الضباط الأحرار والمسئول عن منظمات الشباب يحضر إلى جامعة القاهرة طوال الفترة التي كانت المظاهرات مشتعلة فيها, وأعجب بالخطب التي كان يلقيها يوسف أمين عبده تحريضا للطلبة على التظاهر, وأقام علاقة شخصية معه وامتدت العلاقة إلى أسرته, وحاول بشتى الوسائل إقناعه بالانضمام إلى صف الانقلابيين دون جدوى وفي منتصف شهر أكتوبر 1954 وأثناء تردد يوسف على المركز العام بالحلمية تعقبه أحد المخبرين وألقي القبض عليه وهو في طريقه من المركز العام إلى منزله .

وفي المعتقل عاود اللواء عبد الفتاح فؤاد محاولاته لإقناعه بأن يبدل موقفه إلا أنه لم يفلح في ذلك .

على أنه بعد عملية محاولة اغتيال عبد الناصر بالمنشية, علم اللواء عبد الفتاح فؤاد أن اسم يوسف أمين عبده قد ورد في التحقيقات باعتباره عضوا في النظام الخاص , وأنه لابد ون يخضع للتعذيب كما هو متبع في التحقيق مع أفراد النظام فقابله في السجن الحربي

وأخبره أن فرصته الوحيدة للنجاة هي أن يخبر المحقق أنه أحد رجال عبد الفتاح فؤاد وأنه كان عينه في النظام الخاص للجماعة , إلا أن يوسف بكي وقال لا أستطيع ذلك عندئذ انصرف اللواء مغاضبا. واخبر والد يوسف بما دار في هذا الحديث , وأنه رغم ذلك لن يتخلي عن يوسف قدر ما يسعه ذلك ولكنها ستكون هذه هي آخر صلته به .

عملية محاولة اغتيال عبد الناصر والحل الثالثة للجماعة

في مساء يوم السادس والعشرين من أكتوبر 1954 , ذهبت لزيارة الأخ فوزي فارس في الشقة التي كان يستأجرها في منيل الروضة , وعندما دخلت الشقة وجدته ومعه نفر من الإخوان يقومون بحرق بعض الأوراق , كما كان الراديو يعيد إذاعة خطاب عبد الناصر في الإسكندرية في المؤتمر الذي عقده ليعلن فيه استقلال البلاد باتفاقية الجلاء التي وقعها مع الانجليز .

وعلمت منه أنه قد حدثت محاولة فاشلة لاغتيال عبد الناصر, وأن الذي باشر هذه المحالة شخص يدعي محمود عبد اللطيف .

وقال الإخوان الموجودون في الشقة إن هذا الشخص هو بالفعل من الإخوان المسلمين , وأن عبد الناصر يعرفه معرفة جيدة, إذ كان ضمن المجموعة المكلفة بالاشتراك مع بعض الضباط الأحرار لوضع لغم في قناة السويس لنسف إحدي السفن الحربية البريطانية , وأن العملية أوقفت في اللحظة الأخيرة بعدما تبين أن السفينة تحمل عددا من أفراد أسر الجنود والضباط الانجليز القادمين من الهند.

كان تعليقي أن عبد الناصر الآن أصبح كالأسد الجريح , وأنه إن عاد حيا من الإسكندرية إلى القاهرة فسيبطش بالإخوان على نحو غير مسبوق وأنه كان ينتظر هذه اللحظة ويعد لها باعتبارها العقبة الأخيرة في مشروعه لحكم مصر, وانصرفت لأعود إلى منزلي , وعلى محطة الأتوبيس شاهدت الشهيد محمد يوسف هواش , الذي نظر إلىّ ولم يكلمني إذ خشي رحمه الله أن يكون مراقبا فيقبض علينا سويا , وانصرف كل منا إلى حال سبيله ولم أره بعد ذلك, فقد كان مؤمنا غاية الإيمان بفكرته يعيش بها ولها, وأعدم بعد ذلك في سبيلها مع الشهيد سيد قطب .

وفي مساء ذلك اليوم شملت الاعتقالات أعدادا كبيرة جدا سواء من قيادات الإخوان أو من أعضائها وأخبرت أسرتي عند عودتي إلى المنزل أنه اعتبارا من الغد فلن أنام في المنزل.

كما ذهب ماهر حتحوت ليقيم لدي أحد أقاربه لتأكدنا من أن الاعتقالات لابد وأن تمتد لتشلمنا.

أما ثالث ثلاثتنا يوسف عبده فقد كان معتقلا بالفعل كما سلف .

حرصت على مقابلة كمال حلمي وقد مختفيا في ذلك الوقت في أحد معسكرات الحرس الوطني باعتبار أنه لن يخطر على بال أحد أنه يختبئ في هذا المكان ووجدته متفائلا مؤكدا أنه ما زال بوسع الجماعة المقاومة لكنني أجبته باستحالة ذلك , وأنني مستقيل من النظام ولكنها كانت استقالة متأخرة لم تجد نفعا,وقد علمت أنه هرب فيما بعد إلى السودان

ودخل الإخوان السجون وأعدم منهم من أعدم وسجن منهم من سجن , أما اللواء محمد نجيب رفيق الضباط الأحرار بالأمس وقائد الثورة فقد قيل إن أحمد أنور قائد البوليس الحربي ضربه ضربا مبرحا , ثم اعتقل في فيلا كانت مملوكة لزينب الوكيل حرم الزعيم مصطفي النحاس ولم يكن للفيلا علاقة بالفلل إلا بالاسم فقط إذ كانت مجرد خرابة خالية من الأثاث وتسرح فيها القطط والفئران وتكاد تكون بغير أبواب أو شبابيك .

ويمكنك عزيزي القارئ أن تدرك حجم التحضر الذي كان عليه ضباطنا, إذا ما قارنت بين ما فعله أعضاء مجلس الثورة باللواء محمد نجيب , وبين ما فعله ديجول بالمارشال بيتان, إذ بعد هزيمة ألمانيا وانسحابها من فرنسا جرت محاكمته وحكم عليه بالإعدام, وخفف ديجول الحكم إلى السجن المؤبد وجري تنفيذه عليه في أحد القصور الفرنسية وعندما سئل ديجول عما إذا كان بيتان يستحق هذه المعاملة أجاب " لكن فرنسا هي التي تستحق ذلك"

ويقول ثروت عكاشة في مؤلفه سالف الذكر – ص 107

" وعندي أن هذه الإجراءات العنيفة كانت من غير شك تمهد لنذر خطيرة ستأتي بها الأيام من صراع بين القوي المختلفة في الرأي , إذ كان ثمة فريق ينادي بالديمقراطية وفريق آخر ينادي بالحكم المطلق . وكان مظهر هذا ما جد بعد من استقالة الرئيس محمد نجيب في 23 فبراير 1954 ,

ثم أزمة الصراع على السلطة المعروفة باسم أزمة مارس 1954 , ثم حملة الاعتقالات لجماعة الإخوان المسلمين ثم مطالعة الشعب بمحاكم ثورية متعددة الأسماء والأغراض, إلى أن انتهي الأمر يوم 14 نوفمبر 1954 بقرار مجلس الثورة بعزل الرئيس نجيب , ثم ذلك القرار الشاذ المعيب الذي صدر عن مجلس الثورة أيضا باعتقاله وهو من هو نبلا وشجاعة .

هذا إلى أن هذا المسلك كان أمرا لا يجوز وقوعه بين رفقاء المسيرة والسلاح, وكان من اليسير بل من الحكمة أن يعالج بغير ذلك الأسلوب العنيف القاسي. وشتان بين ما عومل به فاروق الملك المخلوع من إكرام وتبجيل يوم مغادرته البلاد في السادس والعشرين من يوليه 1952 وبين ما عومل به في الرابع عشر من نوفمبر 1954 شريك جليل كان في مقدمة الثائرين من هوان وتجريس لقد انتقلت الثورة بعد نحو من عامين من بدايتها من طور إلى طور , لتصبح مقاليد الأمور كلها في أيدي أعضاء مجلس الثورة الثلاثة عشر فحسب دون مساءلة , وانقطع الخيط النبيل الذي كان يربطهم ببقية الضباط الأحرار الذين قامت الثورة على أكتافهم ".

إن هذه الواقعة تكشف عن أن ما يقال عن احترام العسكر لبعضهم البعض يقف عند حدود المصلحة الخاصة حتى إذا ما دعت المصلحة إلى غير ذلك كان بطشهم ببعضهم لا حدود له وقد يصل إلى حد الضرب والإهانة كما حدث مع اللواء محمد نجيب ,أو السجن كما حدث مع الفريق سعد الدين الشاذلي .

وتحولت الصحف من النقيض إلى النقيض إذ أصبحت جميعها تمجد الثورة والثوار , وتؤكد إن قائدها الحقيقي هو جمال عبد الناصر, وإنه لم يكن لمحمد نجيب أى دور في قيام الثورة , وأصبحت تكيل التهم للإخوان ولجميع معارضي الثورة بما فيهم محمد نجيب الذي كانت تشيد به في الأمس , ويقول ثروت عكاشة عن هذا النوع من الإعلام : " وفي نظرة عامة تدرك أن من يملك القرار السياسي في أغلب الدول العربية , ودول العالم الثالث يملك دوما كافة وسائل الإعلام يسخرها لحسابه ويبث خلالها ما يراه في مصلحته وتظل الجماهير معزولة تماما عن الحقائق الموضوعية عاجزة عن إبداء رأيها فلا يبقي سوي النفاق الذي تمجده النفوس والإبهام برأي عام غير نابع من ضمير أو وجدان أو فكر شعبي جماعي .

ومما يعاون في تزييف ضمير الرأي العام الحكم الفردي المطلق الشائع بيننا مهما تغير اسمه فإن مضمونه واحد والذي لا يسفر إلا عن أمية سياسية وعاطفية وفكرية .

وبذلك تكون أزمة مارس 1954 انتهت بانتصار عبد الناصر وهزيمة التيار الديمقراطي في مصر وخلق رهبة بين أفراد الشعب وكما يقول ثروت عكاشة " ألجمت الألسنة عن أن تنطق حقا وكان لهذا أثره السئ على الثورة فلقد حرمت بهذا من أن تجد قيادتها إلى جانبها ناصحا ينصح , وهو ما عرف آنذاك بأزمة المثقفين الذين غابوا عن الساحة السياسية ولم يعد لهم رأي يسمع, فاختفي الرأي السياسي والرأي الاقتصادي والرأي الاجتماعي ولم يعد لهذه الآراء جميعا تواجد".

الاعتقال , فالسجن الحربي

في يوم لم أعد أذكره من شهر نوفمبر 1954 , وكان يوم جمعة رأيت أن أذهب عقب الصلاة لزيارة عائلتي مطمئنا إلى أن الاعتقالات تحدث ليلا وأنني سأكون في مأمن خلال هذه الزيارة إلا أنني فوجئت بعد دخول المنزل بأقل من ساعة بضابط من المباحث العامة ومعه مجموعة من المخبرين يطرقون الباب ويلقون القبض علىّ وقاموا بتفتيش المنزل, وعثروا على رسالة مرسلة إلى من عبد العزيز على محمد أرسلها إلىّ من الأردن ورغم أنني كنت من قبل أحاول العثور عليها دون جدوى فإنها خرجت بسهولة في يد الضابط .

واقتادوني إلى مقر المباحث العامة في لاظوغلي . وفي المساء أدخلوني على أحد الضباط المختصين بمكافحة الجماعة وهو الضابط أحمد صالح داود, ووجدت الرسالة في يده وطلب مني تفسيرا لبعض عباراتها , وأجبته بأنني لا أعلم إذ أن هذه الرسالة كان المفروض أن أسلمها لشخص لا أعرفه كان سيحضر لاستلامها لكنه لم يحضر بعد ..

نظر إلىّ قائلا : " إنت يا واد بتشتغل إيه " أجبته " طالب بكلية الحقوق" رد علي " مش تتكلم كطالب " , " إنت متصور إن هذا الكلام يمكن أن يعقله أحد, إذا كانت قيادات الجماعة تكلمت , يبقي أنت مش هاتتكلم, وشرف أمي لأخليك تكع كل اللي في بطنك".

ونادي علي مخبر اسمه جلده وسلمني له. وظل جلده يحدثني عما سيحدث لى إن لم أتكلم واستمر ذلك حتى الفجر وعندها أخذني مخبر آخر إلي إحدي عربات الترحيلات وكانت مكتظة بالمعتقلين وذهبت بنا إلى قسم عابدين .

وفي تخشيبة القسم, وجدت عددا كبيرا من معتقلي الإخوان ووجدت شخصا يرقد على الأرض والدماء تسيل من أجزاء متعددة من جسده فيتألم كلما حاول أحد أن يقترب منه وعرفت أنه طالب بكلية الهندسة, وأنه ابن شقيق محمد أبو نصير أحد الضباط الأحرار وأنه ليس من الإخوان المسلمين لكنه شكل مجموعة من بعض المدنيين وأحد العسكريين من المفصولين من سلاح الفرسان لمقاومة الحكم العسكري وأنه جري ضبط بعض الأسلحة في الشقة التي كان يختبئ فيها .

نظرت إلى الجسد النازف, والذي كان صاحبه يتكلم بصعوبة عما لاقاه من تعذيب في مجلس قيادة الثورة , رغم قرابته من محمد أبو نصير , وهو أحد الضباط الأحرار وتذكرت ما رواه لى شقيق ضابط المخابرات عما سوف يفعلونه بأعضاء الجماعة , وفي لحظة صدق نادرة مع النفس ومع الله دخلت في مناجاة معه , قلت له فيها ما قاله له رسوله عليه الصلاة والسلام : " إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي "

وسألته الثبات ودعوته ألا تقتلع هذه المحنة الجماعة ورغم مرور الزمان فما زلت أستشعر حلاوة تلك اللحظات, وأعتقد إن حقيقة أو وهما – والله هو الأعلم – أنه بسببها يخرجني الله سبحانه وتعالي من الكثير من المآزق . وصدق شوقي إذ يقول : " قد يهون العمر إلا ساعة , وتهون الأرض إلا موضعا ".

جاء والدي إلى زيارتي في الصباح, وطلبت منه أن يسرع إلى المنزل ليتلف ورقة كنت أخفيتها في رمال إحدي ( الفازات ) تحتوى على أسماء طلبة الإخوان بكل من كلية الحقوق والتجارة والآداب مع عناوينهم إذ كان الإخوان قد اختاروني مسئولا عن طلبة الإخوان بهذه الكليات الثلاث, بعدما تخلي محمد على نصيري عن هذه المسئولية لاختياره لعملية اغتيال عبد الناصر وهي العملية التي رفضها المرشد..وفي الظهر أحضر والدي لى أكلة " كباب " وكانت هذه الأكلة هي آخر عهدي بالطعام المتميز طوال فترة اعتقالي .

بعد يومين تم نقلي مع آخرين إلى سجن مصر . وهناك شاهدت المرحوم العشماوي باشا وكان الرجل رغم كبر سنه صابرا محتسبا قويا , وأحضروا لنا طعاما من متعهد السجن , وكان لا بأس به إلا أنني رفضت أن آكل فطيرة بالسكر لتأففي من قذارة يد المسجون الذي كان يقوم بتوزيع الطعام على المعتقلين , وقد بقيت فترة طويلة بعد ذلك أندم على رفضي لهذه الفطيرة .

الذهاب إلى الجحيم السجن الحربي ( قهر ورسالة )

بعد عدة أيام جري نقلي ضمن مجموعة من المعتقلين من سجن مصر إلى السجن الحربي وكان ذلك مساء وبمجرد دخولنا من بوابة السجن وقبل فك قيودنا وكانت الشرطة تقيد كل معتقلين اثنين في قيد حديدي واحد استقبلنا شخص ضخم الجثة ومعه مجموعة من الجنود بالضرب بالكرابيج بكل قسوة وبغير تحسب لموقع هذه الضربات من أجسادنا فوقعنا جميعا على بعض , بعد أن سقطت منا أمتعتنا التي كنا نحملها , وعرفنا فيما بعد أن اسم هذا الشخص هو الباشجاويش ياسين , وإنه يطلق على ما حدث حفلة الاستقبال ؟ ..

وكان معنا شيخ معمم فأخذوا عمامته وظلوا يركلونها كما لو كانت كرة قدم, وكان هذا هو ما كان يحدث مع كل شخص يضع عمامة أو طربوشا .

بعد ذلك جري فك القيود من أيدينا, وقام كل منا تحت وقع السياط بالبحث عن أمتعته ثم انتظمنا في طابور , ليذهبوا بنا إلى ما يعرف بالسجن الكبير ,وهذا السجن بناه الانجليز ليكون معتقلا للأسري الإيطاليين وهو عبارة عن بناء مربع الأضلاع ويتكون من ثلاثة أدوار , وفي الدور الأرضي منه تقع الحمامات والمراحيض بالإضافة إلى بعض المكاتب والمخازن, وباقي الدور يشتمل على عدد من الزنازين , وهو واحد من عدة سجون يشتمل عليها السجن الحربي.

على إنه قبل توزيعنا على الزنازين طل من كل منا أن يقف ووجهه إلى الحائط وجري حلق شعر رؤوسنا وكان كلما انتهي الحلاق من حلاقة رأس أحدنا , صفعة على قفاه قائلا " نعيما ".

وبعدما انتهوا من حلاقة رؤوس المجموعة أدخلونا إلى ساحة السجن وجلسنا القرفصاء, وأخذوا في مناداة كل واحد منا باسمه, ليرد قائلا أفندم ثم يتقدم إلى باشجاويش هذا السجن المدعو أمين ليسأله عن اسمه فإن أجابه به تعرض لضرب مبرح من الجنود هذا بعصا وذاك بجريدة نخل وآخر بسلك كهرباء, ثم يأتي من يهمس في أذنه :

" قول اسم مرة ياوله " فينطلق المعتقل باسم امرأة وكانت كلها " عيشة " فلم يكن أى منا في حال يسمح له باختيار اسم آخر ثم ينحي جانبا بعد إخباره برقم زنزانته, مع التعليمات التي تقضي بأن يقف انتباه كلما فتح باب الزنزانة أيا كان شخص الذي يفتحه ضابطا كان أو جنديا ..

وإلا يطرق بابها مهما كان الأمر ولو كان يعاني من سكرات الموت . كما وأن الصلاة ممنوعة يا أولاد دين.

وقام الجنود بإدخالنا إلى الزنازين وسط عاصفة من الضرب والسباب . وكانت ليلة ليلاء – كما يقولون - لم نذق فيها طعم النوم ولو للحظات كان الظلام دامسا, وكنا نحس وكأننا نقيم وسط مزرعة من البق الذي كانت تمتلأ به البطاطين والذي تبين في الصباح إنه يسير مطمئنا على الجدران , وعلمنا فيما بعد أن بق السجن الحربي من أساسيات هذا السجن , كان صراخ المعذبين يصل إلى أذاننا فتنخلع له القلوب , ولم ينقطع هذا الصراخ إلا مع تباشير الصباح.

صراخ لم أسمع مثله من قبل , ولا سمعت مثله بعد ذلك , تيممنا وصلينا جلوسا . فقد كانت الصلاة ممنوعة والويل إذا ضبط أحدنا وهو يصلي .

وفي الفجر فتحوا أبواب الزنازين للنزول لقضاء الحاجة على لسع السياط وقد رأينا في فترة قضاء الحاجة مهازل كان القصد منها الإذلال وتحطيم روحنا المعنوية من ذلك مثلا أن أحدهم كان يعد من واحد إلى ثلاثة وكان على المعتقل أن يخرج بعدها فورا من دورة المياه ولو كان غارقا في برازه وبعدها نعود إلى الزنازين .

وفي الصباح أحضروا الفطور وهو عبارة عن كسرات من الخبر ( وقروانة) بها بعض الفول بسوسه, أو لنقل بعض السوس بفوله وقطعة من الحلاوة الطحينية وكان علينا اقتسام هذا الطعام بين أفراد الزنزانة بحيث كان لكل واحد منا مجرد لقيمات.

بعد ذلك أمرونا بالنزول إلى ساحة السجن لنشكل عددا من الطوابير, وقد فوجئت بوجود ماهر حتحوت ضمن المعتقلين ثم جلت ببصري أبحث بينهم عن يوسف أمين وبغير تفكير اندفعا ثلاثتنا لنقف في طابور واحد بجوار بعضنا وعرفت من ماهر أنه عندما توجهوا إلى منزله للقبض عليه, لم يجدوه فأخذوا معهم الخادم وأوسعوه ضربا كي يدلهم على منازل جميع أقاربه , وأنه اقتادهم إليها جميعها حتى وجدوه في واحد منها , وأخبرني أن منظر الخادم بعدما التقاه في سيارة البوليس كان يدعو إلى الرثاء, فقد كانت الدماء تغطي وجهه وملابسه , ويرقد على أرضيه " البوكس " بغير حراك ؟! وهكذا اجتمع ثلاثتنا مرة أخري ولكن في السجن الحربي .

بعد ذلك اقتادونا إلى الساحة الخارجية لمجموعة السجون لنقف في طوابير أمام المكاتب التي كانت تعلوها مكبرات الصوت وجنود يصوبون مدافعهم الرشاشة إلى المعتقلين لنردد مع الكورس" أجمل أعيادنا المصرية بنجاتك يوم المنشية "

وكلما قالت أم كلثوم ردوا عليا كان علينا أن نرد عليها بهذا المقطع من الأغنية, على حين كان حمزة البسيوني , مدير السجن يتجول بين الصفوف راكبا حصانه ويمسك بيده سوطا يضرب به ضربا عشوائيا وأحيانا يضرب به من يري إنه يردد مع الكورس بصوت منخفض قائلا : " ارفع صوتك يا ابن الكلب إنت في ميتم " وكان المرشد وأعضاء مكتب الإرشاد يقفون أمام الطوابير ليقوموا بدور المايسترو للمعتقلين .

عقب ذلك عدنا إلى السجن ليعاد توزيعنا على الزنازين مرة أخري وحرصنا نحن الثلاثة أن نقف خلف بعض ومن ثم اجتمعنا في زنزانة واحدة وهو ما هون علينا السجن إلى حد كبير حتى إنه عندما أفلحت الوساطة في نقل ماهر إلى السجن رقم ( 1) وهو سجن مخصص للضباط غير المطلوب تعذيبهم, حيث الطعام مما يتناوله الضباط , لم يحتمل البقاء فيه لأكثر من يومين طلب بعدها العودة إلى السجن الكبير ,

حتى إن الضابط المسئول عن سجن رقم (1) قال له : " إنت مش وش نعمة , وسوف أخبر اللواء عبد الله رفعت , بأن النقل تم بناء على طلبك".

وفي السجن الكبير كما في السجن رقم ( 4) كان الغداء والعشاء عبارة عن عدس شايط وأرز و ( شغث) وعظام باعتبارهما لحما وشئ لم نعرف كنهه على الإطلاق كنا نطلق عليه الطبخة السوداء ,وكانت الحياة في السجن الحربي تجري على هذا النحو منذ أن دخلناه إلى أن غادرناه.

كانت الأفواج تأتي إلى السجن الحربي بعضها بالعشرات والأخرى بالمئات وكلهم كانوا يستقبلون بمثل ما استقبلنا به من ضرب وركل وصفع وحلق للرؤوس والشوارب واللحي التي كان يسميها حمزة البسيوني " الوساخة " وأذكر أنه في أحد المرات أصر الباشجاويش أمين حسين السيد باشجاويش السجن الكبير, أصر على أن ينتف أحد المعتقلين لحيته بيده فلما تعذر عليه ذلك انهال عليه ضربا بالكرباج هذا فضلا عن اللعب بالعمائم والطرابيش.

في السجن الكبير شاهدت للمرة الأولي الأستاذ / فهمي هويدي وكان وقتها طالبا في كلية الحقوق , وقد تركت السجن الحربي إلى سجن مصر , وكان ما زال معتقلا ولا أدري متى خرج كما شاهدت الضابط معروف الحضري الذي كان يتولى عملية اختراق حصار الفالوجا, لتوصيل الإمدادات إلى المحاصرين , وقد أسره اليهود في إحدي هذه المحاولات .

كما التقيت في إحدي الزنزانات التي كانوا ينقلوننا إليه الخبير الاقتصادي المرحوم محمود أبو السعود وكان مقيما بصفة دائما في ألمانيا ويعمل خبيرا اقتصاديا لشركة مرسيدس , كما شاهدت المرحوم عبد الرحمن البنا مضرجا في دمه وملقي بجوار أحد حوائط السجن وهو يتأوه, ويقال إنه الوحيد من بين كل المعتقلين الذي لم يستطيع التعذيب أن يرغمه على الاعتراف بشئ ولم يقدم إلى المحاكمة وجاء إلى الكويت عام 1968 , وظل بها إلى أن توفي .

كما التقيت وللمرة الأولي كذلك المرحوم الأستاذ / جمال بدوي , ونشأت بيننا صداقة امتدت حتى وفاته , وكانت لنا بعد ذلك في سجن مصر مناقشات ممتدة حول الديمقراطية وأهميتها في تقدم الشعوب ورفعتها وإنها تمثل واحدة من أهم إنجازات الحضارة الغربية في مجال الفكر السياسي باعتبارها توفر آلية للوصول إلى قرار من بين الآراء المتعارضة بما يحول دون الصدام بين أصحابها.

كان باشجاويش السجن المدعو أمين السيد يقسم بالله أن أحد منا لن يدخل الجنة وإننا أسوأ من اليهود وأنه لذلك لا يسمح لنا لا للصلاة ولا بحمل المصحف لأننا لا نستحقهما لذلك كنا نصلي في الفترة الأولي جلوسا وفي بعض الأحيان بالإيماء .

وكما مزقت السياط أجسادنا مزقت ملابسنا وتلوثت بالدماء والطين وتفشي فيها القمل , صورة كئيبة لواقع كئيب يعجز القلم عن وصفه وبالذات عن وصف مشاعر الألم والرعب التي عشناها تحت سطوتها .

كان السجن الحربي هو الجحيم بعينه وكانت الحياة فيه لا تطاق حتى إن قدامي الإخوان كانوا يقولون إن ما كان يحدث أيام إبراهيم عبد الهادي هو لعب أطفال بالمقارنة بما يحدث في السجن الحربي صراخ المعذبين كان يستمر من بداية الليل إلى قرب طلوع الفجر , الزنازين مليئة بالبق , وكذلك البطاطين.

الفترة المسموح فيها للمعتقل بالبقاء في دورة المياه لا تتعدي دقائق الاستحمام مسألة نادرة الضرب يجري بصورة عشوائية حسب مزاج الجنود قد يكون أثناء الطابور الصباحي أو أثناء طابور الحصول على الطعام كل من يتجول من الجنود في السجن يمسك بيده شيئا يضرب به فهذا يمسك بجريدة نخل وذاك يمسك بسلك كهرباء والباشجاويشية يمسكون بالكرابيج.

ورغم كثرة المعتقلين فإنه في الصباح كان يخيم على المعتقل صمت كصمت القبور إلا في الأوقات التي تخرج فيها الطوابير لترد على أم كلثوم وهي تغني لجمال مثال الوطنية ,وأذكر مرة أنه وسط هذا الصمت سمعنا طرقا على باب أحد الزنازين فصرخ الباشجاويش أمين في أحد الجنود " اطلع جيب ابن الكلب ده " ونزل الرجل حبّوا وهو يتقيأ وكان هذا الرجل أستاذا للتحاليل في كلية طب القصر العيني و كان يعاني من آلام الزائدة الدودية وأخذوا الرجل ولم نعد بعدها نسمع عنه شيئا .

وفي أحيان كثيرة كان يطلب منا الجري في شكل حلقة أو أكثر لمدة تصل إلى ساعة أو أكثر وكان الجنود يقفون في وسط هذه الحلقة يضربوننا بالكرابيج وكان هذا الجري مع قلة الطعام يجهدنا كثيرا و أذكر أنه في أحد الأيام تجمعت المياه في ساحة السجن الكبير بسبب الأمطار وقامت الحلقات بجفيفها بهذه الطريقة.

كانت الزنازين تضيق بنزلائها إذ كانت تشغل بأكثر مما كانت تتسع له وإذا كان هذا الزحام مفيدا في الشتاء فقد كان عذابا في الصيف وكانت توجد بكل زنزانة ( قصرية ) من الكاوتش لقضاء الحاجة فيها , وأقسم غير حانث أنه عندما كان يستبد بنا العطش كنا نقوم بغسلها وملئها بالماء لنشرب منها حتى إذا ما فرغت عدنا إلى قضاء الحاجة فيها .

كانت المصاحف ممنوعة والكتب ممنوعة والصلاة ممنوعة خلال الفترة الأولي التي امتدت حتى نهاية شهر نوفمبر 1954 لذا كنا نصلي خلسة جالسين, والسير في باح السجن لأى سبب يجب أن يكون بالخطوة السريعة مهما كان عمر المعتقل وإلا ضرب وكان سب الدين أمرا معتادا والغريب أنه كان يشفع دائما بتعليق يقول " انتم فاكرين انتم بس المسلمين يا ولاد دين ...."

لم تنقطع طوابير الغناء , كما لن ينقطع التعذيب ومن ثم لم ينقطع الصراخ يوما واحدا طوال مدة وجودنا بالسجن الحربي , وكنا كثيرا ما نستدعي للنزول من الزنازين والتجمع في ساحة السجن لنشاهد عملية تعذيب أحد قيادات الجماعة . ولم تنج نساء الإخوان من التعذيب ولكنهم كانوا يلبسون المعذبة بنطلونا من بنطلونات الجنود قبل أن يقوموا بتعذيبها , فلم يكونوا قد تطورا بعد إلى درجة الكشف على عذريتها الأمر الذي يؤكد إننا في تطور مستمر ؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله .

كانت وسائل التعذيب المستخدمة تكشف عن نوعية منحطة وإجرامية من التفكير , منها الطوق وهو عبارة عن حبل مجدول حول قطع خشبية ويجري لفه حول رأس الشخص بواسطة قطعة خشبية مما يسبب آلاما فظيعة لا تحتمل وتترك آثارا غائرة في جلد الرأس .

ومنها المنفاخ الذي كان يوضع في دبر الشج الجاري تعذيبه وكانت عملية النفخ تجري تحت إشراف طبيب حتى لا يموت المعذب فتتوقف عملية الحصول على معلومات منه, وقد علمت من أحد الأطباء أن هذه الوسيلة استخدمت مع الأسري اليمنيين واذكر أنه عند عودتنا إلى سجن مصر سأل طبيب السجن عن شخص جري تعذيبه بهذه الوسيلة في مجلس قيادة الثورة وأتوا به إلى سجن مصر , ولما علم إنه ما زال حيا أبدي تعجبه من قدرة البشر على الاحتمال , وكان تعليقه أن ما يحدث جعله يعيد النظر في الكثير من معلوماته الطبية .

كذلك كانت من أساليب التعذيب المستخدمة ما يعرف بالعروسة وهي عبارة عن جهاز خشبي به فتحة يدخلون فيها رأس الشخص المطلوب تعذيبه ويربطون به ذراعيه على امتدادها كما يربطون رجليه ويجري جلده عاريا .

كذلك كان هناك ما يعرف بالثلاجة وهي غرفة تمتلئي بالمياه ليبقي فيها الشخص عدة أيام لا يستطيع خلالها الجلوس أو النوم حتى تنهار قواه تماما . ومن وسائل التعذيب كذلك التي استخدمت في السجن الحربي إطفاء السجائر في الأماكن الحساسة بأجسام المعتقلين والصدمات الكهربائية بربط إصبع الشخص في ( فردة) السلك السالبة .

وضربه ( بالفردة ) الموجبة , وينتفض الشخص وتعلو ضربات قلبه, وكانت هذه الوسيلة تستخدم أيضا تحت إشراف طبيب.

وكان من نتيجة ذلك أن استشهد عدد كبير من المعتقلين وأذكر أنني عندما نقلت إلى سجن مصر الذي كانت له نوافذ تطل على الطريق العام سمعت أفرادا من أسر هؤلاء الشهداء كانت تقف في الطريق وتنادي علينا سائلة عما إذا كان زويهم موجودين معنا في السجن , وكنا نجيب بالنفي مع علمنا بأنهم انتقلوا إلى رحمة الله بعدما ضافت بهم رحمة هذا الصنف من البشر.

كنا نجري في السجن يوميا حوالي الساعة , في شكل حلقة يقف الجندي في وسطها وهو يخبط فينا بما في يده خبطا عشوائيا , كانت الحياة بائسة إلى درجة كبيرة حتى إن البعض منا كان يتمني مغادرة السجن الحربي ولو إلى الليمان وقتها تداعي نفر منا إلى القيام بتمرد في السجن عن طريق عمل ماس كهربائي لإطفاء أنواره ثم الاستيلاء على أسلحة بعض الجنود والاشتباك مع باقيهم لعمل مذبحة لعلها تثير الرأي العام المحلي والدولي فتتوقف هذه المعاملة البشعة

وكلفت من قبل هذه المجموعة بأخذ رأي فضيلة المرشد في الأمر وتحايلت حتي وقفت في الطابور الذي يقف أمامه ليقوم بدور المايسترو فكان رده على الذي ما زلت أذكره رغم مرور كل تلك السنين : " إياكم فهذا بالضبط ما يريدونه تمسكوا بالحياة فأنتم النبت الحقيقي لهذه الأرض أما هم فعشب زائل " هكذا كانت كلماته لى حرفيا وبالفعل أتساءل أين هم الآن وما هي آثارهم التي خلفوها وراءهم ؟.

وأذكر أنه كثيرا ما كان يأتي أفراد من إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة لتصوير طوابير المعتقلين بآلات التصوير السينمائي وأشيع وقتها أن ذلك كان بغرض عرضها على جمال عبد الناصر كما كان يحضر العديد من الضباط لمشاهدة ما يحدث لنا .

كان هذا هو أسلوب تعامل العسكر مع معارضيهم مع الاختلاف في درجة القمع . فقد تعامل بذات الأسلوب مع الشيوعيين رغم أنهم لم يحملوا السلاح ضدهم ومات منهم من التعذيب الكثير أذكر منهم شهدي عطية كما تعامل بذات القسوة وإن كانت بدرجة أقل حدة مع بعض القيادات الحزبية لأحزاب ما قبل الانقلاب فقد كنا نري محمد صلاح الدين باشا وزير خارجية مصر في عهد وزارة الوفد الأخيرة وهو يروي المزروعات الموجود أمام المكاتب بالملعقة ؟!..

وكان حمزة البسيوني يحمل حقدا خاصّا لشخصين من المعتقلين رغم أنهما لم يكونا من النظام الخاص , ولم يثبت تورطهما فيما يسمح بمحاكمتهما ,وهما الشيخ يوسف القرضاوي وكان وقتها طالبا في الأزهر , والدكتور توفيق الشاوي , إذ كان يطلب من الأول أن يلقي علينا محاضرة ثم يكافئه بعدها بالضرب بالكرباج على قدميه , بعدما يقوم الجنود بطرحه أرضا ورفع قدميه إلى أعلي كما كان يطلب من الثاني أن يلقي علينا محاضرة في حقوق المواطن , وذلك لأنه كان قد نشر مجموعة من المقالات في جريدة المصري تحت عنوان : " حقوقك أيها المواطن " وبعد المحاضرة يقوم بمكافأته بنفس الطريقة ؟!

كنت وما زلت أتساءل عن نوعية هذا المسخ الذي يقوم بتعذيب البشر وأحسب أن مثل هذا ( الشئ ) لديه نزعة إجرامية تتجاوز هذه التي تتوافر لدي القاتل لأن القاتل يقتل ضحيته في ثوان , وفي الأغلب الأعم لا ينظر إلى عينيه متشفيا إلا في حالة القتل للانتقام على حين أن من يقوم بالتعذيب فلديه نفسية تبلغ من الإجرام والشذوذ أنه يحتمل سماع آلام المعذب لساعات وربما لأيام دون أن يرف له جفن أو يشعر بأى قدر من تأنيب الضمير إن كان له ضمير أصلا.

وأذكر أنه في يوم أنزلونا إلى باحة السجن كي يمر بين صفوفنا الشهيد يوسف طلعت ليخرج من بيننا شخصا لم يكن يعرف اسمه وكان الرجل يسير منحنيا كمن كسر ظهره مستندا إلى الجنود وكانت الدماء تغطي وجهه وملابسه وما أن أشار إلى هذا الشخص حتى تناوشته الكرابيج وأخذوا يسوقونه أمامهم والكرابيج تلهب ظهره إلى حيث التحقيق معه في مكاتب السجن .

التعذيب كرسالة

يخطئ من يظن من التعذيب يقتصر على الرغبة في تحطيم المعارض وكسر إرادته

أو حتى القضاء عليه , بل هو في الأساس رسالة لترويع الجماهير كي تتعلم التزام الصمت حيال كل ما يفعله الدكتاتور وهذا هو السر في سكوت كل الشعوب على حكامها الديكتاتوريين إنه الخوف الذي يحرص الديكتاتور على أن يزرعه في نفوس الجميع لذا تحرص كل الأنظمة الديكتاتورية على شيوع أخباره بين الناس ولا تحاول جادة إخفاء خبره عنهم لأنه هو الوسيلة الوحيد لإقناعهم بأن يمشوا بجوار الحائط بل في داخله إن أمكن كي يخلوا الطريق بالكامل للديكتاتور وأعوانه .

يروي أن حكيما من حكماء الهند رأي اعتزال الناس في إحدي الغابات كي يتفرغ للتأليف إلا أن القرود كانت تغير على صومعته بين الحين والآخر لتتلف كتبه وأوراقه وأدواته , ورغم قتله كل قرد يتمكن من اصطياده إلا أن غارات القرود لم تتوقف رغما عن ذلك حتى رأي أن يترك مكانه إلي مكان آخر في غابة أخري, وبينما هو يسير في الطريق إلى موقعه الجديد, قابل حكيما آخر,

وما أن علم بقصته حتى نصحه بالعودة إلى مكانه, على أن يقوم بتعذيب أى قرد يصطاده بدلا من قتله, وبالفعل استجاب الرجل للنصيحة وفيما كان صراخ القرد الجاري تعذيبه يملأ الغابة كانت القرود تطل على المشهد من أعالي الأشجار مزعورة ومرتاعة ومن يومها انقطعت غارات القرود .

حكمة هندية من بلد يعاني من كثير من المشاكل العرقية , والاقتصادية , والدينية بما لا محل معه لمقارنتها بمشاكلنا ,ورغم ذلك يحظي بنظام ديمقراطي توفر له قدرا كبيرا من الاستقرار والتقدم.

الخوف إذن هو القاسم المشترك الأعظم لكل الديكتاتوريات , على أن الخوف الذي يقيم عليه الديكتاتور مملكته قد يجعله هو نفسه أحد رعايا هذه المملكة وليس سيدها الأوحد فالخوف من الانقلاب جعل عبد الناصر يسلم الجيش لصديقه المؤتمن , وبذلك ضاع الجيش وضاعت معه مملكة عبد الناصر بهزيمة 67 , فكما يقول حسين الشافعي إن عبد الناصر مات بالفعل في يوم 5 يونيه 1967.

وغير صحيح ما يدعيه البعض من أن عبد الناصر كان لا يعلم بأمر هذا التعذيب فهو مهندسه, والدليل على ذلك ما ذكره ثروت عكاشة في مذكراته من أن عبد الناصر قال لعبد الحكيم عامر بعد هزيمة 67 وأثناء نقاش بينهما : " لقد عجبت من هذا الذي حمله إلى الضباط في عريضة ممهورة بإمضائهم يطلبون فيها عودتك وعودة شمس بدران وكأنكم تريدون أن تجعلوا مني توفيقا آخر , يعني الخديوي توفيق وموقفه من الضباط بقيادة أحمد عرابي ".

فرد المشير على قائلا : وماذا يضيرك في هذا طالما قد اتخذت قرارك بالتنحي وانتهي الأمر ؟ فأجابه : وهل كنت تريد مني أن أسلم رقبتي لحمزة البسيوني وأمثاله من الضباط المدنسين ؟

إن حجم الرعب في ممالك الرعب شئ مهول , وبالوسع إدراك هذا الحجم وأثره المدمر على المجتمع من رد عبد الناصر على صلاح الشاهد وهو يشكو له من اكتشافه أن هاتفه موضوع تحت المراقبة, إذ قال له إن هذا الأمر جد يسير بالنسبة إلى ما يرفعه إليه سامي شرف بشأنه من تقارير كانت كفيلة بأن تذهب به إلى حبل المشنقة لولا إنه يعرفه ! والسؤال بل والأسئلة , كم شخصا ذهبت به مثل هذه التقارير المتوجسة إلى حبل المشنقة أو حتى إلى الليمان لأن صاحب مملكة الرعب لم يكن يعرفه ؟

ولماذا يحتفظ صاحب هذه المملكة بسامي شرف وأمثاله إلا أنه يؤمن بأنهم ركائز هامة لمملكته, وإن ما قد يلحق البعض من أخطائهم أمر يغتفر من أجل الحفاظ على هذه المملكة ؟

إن المطالبة بفتح ملفات التعذيب ومحاسبة كل من قاموا به أو علموا بأمره وسكتوا ليس القصد منه الانتقام , أو حتى تحقيق العدالة لكنه ضروري لاجتثاث القواعد التي يمكن أن يشيد عليها نظام ديكتاتوري آخر مملكته, ذلك أن القهر والترويع , هو المدخل المعتاد لسيطرة أى نظام شمولي على الدولة وهو دائما يبحث عن الرجال المستعدين لأداء هذا الدور , لذا فاقتلاع هؤلاء الأشخاص المستعدين للقيام بالدور نفسه لحساب أى ديكتاتور آمر لازم وضروري لقيام نظام ديمقراطي يأمن شر الانقلاب عليه , من أى مغامر طامح إلى السلطة .

وبالمناسبة أحسب أن الناصريين مطالبون بالاعتذار للشعب المصري عما لقاه على يد نظام عبد الناصر من توحش أمني , استخدمه بعد ذلك لحسابه كل من السادات , ثم مبارك , إلى أن كسرت ثورة 25 يناير حاجز الخوف , وهو ما أرجو أن يستمر حتى تستطيع الثورة تحقيق نظام ديمقراطي حقيقي .

وكان أكثرنا صلابة

وأشهد أن المرشد رغم كبر سنه كان من أكثر الإخوان صلابة واعتزازا بنفسه وبدعوته كان يرتدي " أفرولا " من ملابس الجنود أرغموه على ارتدائه وكان يجري معنا ويفعل ما نؤمر أن نفعله دون أن يشتكي أو يطلب منهم طلبا أيا كان هذا الطلب .

حبسوه مع كلب حمزة البسيوني أياما فلم يشتك.

أذكر أن حمزة البسيوني قال له أمامنا مرة " يعجبك يا هضيبي اللي بيحصل للإخوان بسببك " فأجابه " هم اشتكوا لك ".

كما أذكر أن أحد الضباط أراد أن يسخر منه فقال له : " يا شيخ حسن, كيف تحرمون تقديم النساء إلى الجنود على حين أن الجيش البريطاني يعتبر ذلك حقا للجندي " أجابه رحمه الله " قاتلوا كما قاتل الجيش البريطاني وسنقدم لكم نحن النساء "

الذهاب إلى التحقيق في سجن القلعة

كان التحقيق مع قيادات النظام الخاص في الأيام الأولي عقب محاولة الاغتيال يجري في مجلس قيادة الثورة , الواقع على النيل , وبعدها كان يجري في السجن الحربي أما التحقيق مع أفراد النظام الخاص فكان يجري في سجن القلعة , لذا بعد عدة أيام نودي على أسماء أفراد أسرتنا ونقلنا نحن الستة للتحقيق معنا في القلعة , وهكذا اجتمعت الأسرة باستثناء رئيسها كمال حلمي الذي كان قد هرب من مصر, في سجن القلعة , وكان سجنا انفراديا مع منع أى اتصال بين المسجونين .

وكان التحقيق في سجن القلعة يبدأ دائما في ساعة متأخرة من الليل وينتهي قرب الفجر وكان الصراخ لا ينقطع طوال تلك الفترة .

كان الفرد منا يقاد إلى التحقيق معصوب العينين فلا يعرف أين يجري التحقيق معه أو من هو المحقق .

وأذكر أنني امتنعت عن تناول الطعام إلا أقل القليل أملا في أن يضعف جسمي فيغمي على بعد فترة قصيرة من التعذيب ولكن للأسف لم يكن يحدث ذلك , وإن كنت قد هزلت هزالا شديدا.

وكنت إذا سمعت صراخ المعذبين أروح في نوم عميق , إلى أن يوقظوني ليضعوا الحديد في يدي من الخلف , ويعصبوا عيني , ويذهبوا بي إلى التحقيق . وكان ذلك مما يغبط ماهر حتحوت, الذي كان يحرص بعد عودته من التحقيق, وقبل إدخاله إلى زنزانته المجاورة , أن يخبرني في عجالة بأهم ما قاله في التحقيق وهذا النوم يعرف في علم النفس بالنعاس الهروبي , وهو أشبه بقطع التيار الكهربائي عن الجهاز كي لا يحترق .

في القلعة شاهدت الشهيد كمال السنانيري وكان حطام إنسان يمشي متهالكا على قدميه كانت آثار الطوق بادية حول رأسه الحليق وقد حاول أن يعتذر لى عن اضطراره إلى الاعتراف على وعلى باقي أفراد المجموعة فأجبته أنه لا داعي للاعتذار فما تعرض له من تعذيب فوق احتمال البشر,وأن عليه أن يهتم بنفسه ولا يفكر في أى شئ آخر .

بعد انتهاء التحقيق في القلعة عدنا إلى السجن الحربي وبعد أيام استدعينا إلى المكاتب وطلب من كل منا التوقيع على أقواله التي أدلي بها هناك. ووقعنا دون أن نقرأ ما كان مكتوبا في الأوراق فقد كنا نعيش الهول بعينه كما كان الاعتراض لا يجدي .. بعد ذلك نقلنا جميعا إلى سجن (4) الذي خصص بكامله لأفراد النظام الخاص .

كان سجن (4) مخصصا كذلك للتعذيب, لذا كانت به زنزانة معدة كي يجري ملؤها بالمياه ويستبقي فيها المتهم لعدة أيام , كما كان يوجد بالزنزانة الواقعة بين ملتقي ضلعي السجن, عارضة خشبية تمتد بين نافذتيه, ويتدلي منها حبل به أنشوطة يجري وضعها حول وسط الشخص الذي يجري تعذيبه, وبعد إبعاد الكرسي الذي يقف عليه يصبح متأرجحا من وسطه , تتناوشه السياط التي تترك آثارها مصبوغة بدمه على الحائط لذا كانت حوائط هذه الزنزانة مغطاة بخيوط متقاطعة من الدماء في منظر يبعث الرعب في النفس هذا فضلا عما تحدثه الأنشوطة من آلام في الصدر وضيق في التنفس .

كان باشجاويش هذا السجن ( سجن 4) يدعي محمود عبد الجواد , وكان شديد الإعجاب بنفسه أصفر الشارب شديد بياض البشرة وكثيرا ما كان يتمايل بزهو في مشيته متأبطأ كرباجا مقلدا حمزة البسيوني مدير السجن .

وأذكر أن أحد الجنود كان يجلس بملابسه الداخلية أمام دورة المياه, وهو يضع ساقا على ساق , ويقول بكل جد: " بقي كنتم عايزين تختلسوا الحكم يعني هوه الحكم حلو ما هوه اهه احنا في الحكم وطالع ديننا ".

ولماذا لا يشعر هذا الجندي بكل هذه الأهمية , وقد رأيت بنفسي زميلا له يصفع ضابطا برتبة الصاغ بملابسه العسكرية فيطيح بالكاب من فوق رأسه ثم ينتزع رتبته العسكرية من على كتفيه ويلقي بها على الأرض , وقد علمت من الإخوة الذين يعرفونه أن اسمه صلاح حمودة وأنه من ضباط الإخوان .

يومها قلت إنه على العسكرية المصرية السلام , لأنه لا يتصور في جيش لدولة متحضرة أن يسمح لجندي بأن يضرب ضابطا لأى سبب كان .

لم نشعر في تلك الأيام بالشبع أبدا. وأذكر أنني قلت في أحد الأيام, وكلي أسي لرفاق الزنزانة تصوروا أنني رأيت قطعة كبيرة من الحلاوة الطحينية ملقاه في صندوق الزبالة وأنني هممت بأخذها لكني لم أستطع أن أفعل ذلك فثاروا في وجهي وأرغموني على أن أنزل معرضا نفسي للضرب كي أحضرها لهم, وبالفعل نزلت وأحضرتها لهم فالتهموها غير مبالين من أين جئت بها .

كان الجنود العاملون في السجن الحربي على درجة غير عادية من الغباء وكأن اختيارهم تم بعد إجراء اختبار غباء لهم فمن ( ينجح) فيه يتم إلحاقه على قوة السجن الحربي, فمثلا سأل أحدهم أحد المعتقلين عن مهنته , فلما أجابه بأنه دكتور مهندس علق قائلا أنه شخص ذكي لأنه إن لم ينجح كمهندس كان بوسعه أن يعمل دكتورا .

وآخر يسأل معتقلا عن عمله فيجيبه بأنه طبيب أطفال , فيسأله لماذا لم يكمل تعليمه ؟! وعندما سمحوا لنا بالوضوء والصلاة ولكن في غير جماعة, حدث ازدحام حول المغسلة , فأمر أحدهم بأن ينقسم المعتقلون قسمين . القسم الأول يذهب أولا إلى دورة المياه ثم يتوضأ بعد ذلك, أما القسم الثاني فيذهب أولا ليتوضأ ثم يذهب بعد ذلك إلى دورة المياه ؟! وآخر كان يكرر عبارة يعتبرها حكمة مصفاة " هوه إنتم حكومة علشان تختلسوا الوطن, لما تبقوا حكومة ابقوا اعملوا ما بدالكم " إذ كان من الواضح إنه جرت عملية غسيل مخ لهم أقنعوهم بها : أننا " مختلسوا الوطن" حسب تعبيرهم دون فهم لمعني هذه العبارة .

لحظات مختطفة من السعادة

رغم الهول فقد كانت لنا لحظات من السعادة نختطفها اختطافا. كان لنا نشيد يدعي نشيد الزنزانة أذكر منه ما يلي :-

يا رفاقي يا رفاقي

طال شوقي للكباب

حبذا هذا التلاقي

بين بطني والصحون

في سبيل الخبز قمنا

وزوادة عدس رمنا

إن رأينا العدس إنا

في الورى أسد غضاب

وأذكر أنه في إحدي المرات استطاع اللواء عبد الله رفعت , زوج خالة ماهر حتحوت أو يوصل له كيسا من الطعام يحتوي على جبنة فلمنك, وعلبتين بلوبيف وأطعمه أخري لم أعد أتذكرها والتففنا حول الكيس في دائرة نرقص رقصة الهنود الحمر حول النيران , وفوجئنا بالباب يفتح ويطل منه ضابط وقف مذهولا مما يري , وقال وهو في قمة الغضب ماذا نفعل بكم أكثر من هذا , وأغلق الباب بشدة ومضي , وتركنا في هلع ننتظر ما يمكن أن يحدث لنا, لكنها مرت بسلام بعد فترة كبيرة من القلق .

في يوم قال ماهر حتحوت: " تخيلوا لو أن حمزة البسيوني أصبح من الإخوان , واعتلي المنبر ليلقي خطبة الجمعة وأنه شاهد أحد المصلين وهوي يتحدث مع جاره فينظر إليه شذرا قائلا " هديك 50 على العري لو مقعدتش ساكت " وضحكنا ولكنه ضحك مكتوم حتى لا تتكرر مأساة الضابط الذي فاجأنا ونحن نرقص حول كيس المأكولات ".

كانت لنا مضحكات ولكنها كالبكاء أذكر منها أن يوسف أمين عبده كان لا يستطيع الرؤية بغير استخدام نظارته الطبية وحدث أن كسرت نظارته نتيجة للتدافع بسبب الضرب العشوائي ولم يعد صالحا منها سوي نصفها فقط وكان يوسف إذا أراد الرؤية يمسك بالنصف السليم ويضعه أمام عيني اليمني وحدث يوما أن أصر هو وأخ مسن كان معنا بنفس الزنزانة أن يقوما بإحضار الطعام مشاركة منهما في هذا الأم ,

وقد حاولنا إثناءهما عن ذلك دون جدوى إن كان كثيرا ما يحلو للجنود ضرب الواقفين في الطابور للحصول على الطعام دونما سبب وحدث ما خشينا منه إذ بينما كان يوسف يمسك بيده اليمني نصف النظارة المكسورة وبيده ليسرى ( القروانة ) بعد أن حصل فيها على نصيب الزنزانة من الطبخة السوداء , وإذا بالضرب المفاجئ يجعله يسقط ما في القروانة على رأس وملابس زميله الذي كان وقتها منحنيا ليحصل على نصيبنا من الأرز , وهي كارثة بكل المقاييس لأن الاستحمام كان أمر عسيرا في السجن وصعدا إلينا وهما على هذه الحالة المزرية فانفجرنا في الضحك ,

فما كان من الأخ المسن إلا أن يقول : " هيه معيله – خلاص بقت معيله) وكتمنا ضحكاتنا ولم يتوقف يوسف عن الاعتذار للأخ المسن والرجل يشيح بيده في وجهه في قرف , ولم يكن السجن ليخلو كذلك من لفتات إنسانية من ذلك تطوع نفر من شباب الإخوان كي يتلقوا الضرب نيابة عن المسنين من المعتقلين , في حالة الضرب العشوائي إذ كانوا كلما شاهدوا جنديا يتجه إلى أحد المسنين من المعتقلين تعمد أن يقف بسرعة أمام المسن.

كما أن جنديا من جنود السجن أخبرنا أنه أصبح من الإخوان وكان يمدنا ليلا بالمياه والطعام , ولا أدري كيف تم كشف أمره, فقام حمزة البسيوني بمده على قدميه, ولم نره بعد ذلك .

علامة استفهام كبري حول حادثة المنشية

قابلت الشهيد يوسف طلعتالذي كان مسئولا عن النظام الخاص , قابلته عند مغسلة السجن وسألته عن حادثة محاولة اغتيال عبد الناصر بميدان المنشية بالإسكندرية فقال لى أقسم لك , وأنا أعرف أني سأقابل الله بعد عدة أيام – إذ كان قد صدر عليه الحكم بالإعدام – إنني لا أعرف شيئا عن هذه العملية .

ثم سألته عن صحة ما نشر في الصحف من أنه كان في مسكنه عند القبض عليه رشاش ( برن ) وعدد كبير من الطلقات ؟ أجاب بالإيجاب .

فلما سألته ولماذا لم تقاوم ؟ أجابني " لم أستطع أن ألقي الله بدماء كل هؤلاء الجنود " علقت على كلامه بتعليق ما زلت أندم عليه رغم مرور كل تلك السنين , إذ قلت يبدو أنكم تجمعون السلاح كي نحاكم به رحمه الله كان مقاتلا شجاعا في فلسطين .

كذلك مما يلفت النظر في قضية محاولة اغتيال عبد الناصر أن هنداوي دوير الذي يقال إنه أعطي محمود عبد اللطيف المسدس وطلب منه قتل عبد الناصر, كان يعامل معاملة خاصة في السجن الحربي, إذ كان يقيم في السجن رقم ( 1) وقد رأيته بنفسي في السجن وكان رغم ما كنا فيه من هول حليق الذقن ويرتدي " روب ديشمبر " وهو أمر غير طبيعي بالنسبة إلى المتهم الثاني في قضية الشروع في اغتيال عبد الناصر ؟!..

وحدثني الصحفي الكبير المرحوم بدوي نقلا عن أحد صحفيي دار أخبار اليوم كان قد حضر واقعة الإعدام , أن الرجل كان يصرخ قائلا " موش ده اللي اتفقنا عليه " كما قال لى جمال بدوي إنه في عهد السادات كان قد أبدي رغبته لمصطفي أمين في أن يقوم بتحقيق صحفي عن هذا الموضوع إلا أن مصطفي قال له : " ابعد عن هذا الموضوع أحسن " وكل ذلك يلقي بظلال من الشك حول هذه الحادثة.وهو شك لا ينفيه اعتراف محمود عبد اللطيف أمام محكمة الثورة لأنني رأيت بنفسي كيف أن المعذب على استعداد للاعتراف بأي شئ من أجل أن تتوقف عملية التعذيب .

بل إن " بروبرت ميتشل" في كتابه : " الإخوان المسلمون " يقول على ضوء ما أجراه من دراسة حول هذا الموضوع , إنه يمكن القول إن محاولة الاغتيال إن كانت قد حدثت فبسبب إحجام الجماعة عن العمل وليس نتيجة عمل قامت به محملا في هذه الحالة هنداوي دوير وحده عبء التخطيط والتنفيذ دون مشاركة من قيادات الجماعة التي كانت تدرك أنها في وضع لا يسمح لها بالاصطراع مع الحكومة فرأي أن يقوم بما لم تكن تستطيع الجماعة القيام به .

ليس معني ذلك أنني أقطع برأي في تلك الحادثة ولكن الذي أعنيه أن هذا الحادث رغم أهميته وتأثيره تأثيرا على مسيرة الأحداث لا في مصر وحدها , بل في المنطقة العربية بأسرها لما ترتب على تولي عبد الناصر السلطة من أحداث وتداعيات لم يخضع لتحقيق جدي وشفاف يكشف كل تفاصيله ويبدد كل الشكوك التي تثور حوله بحيث لا يصح أن يبقي ضمن مفردات الصندوق الأسود لانقلاب 23 يوليو .

على أن الذي أذكره جيدا أن " عبد الناصر" في الفترة التي وقعت فيها محاولة اغتياله كان لا يتمتع بأى تأييد سواء من المثقفين أو العامة , أو لنقل إنه كان يتمتع بقدر يسير من التأييد, حتى إنني اذكر أن سيارات النقل العام هي التي كانت تحضر الذين سمح لهم باحتلال الصفوف الأولي في ميدان المنشية لسماع خطبته . وقد أكد " روبرت ميتشل" في مؤلفه هذه الحقيقة إلى درة أنه قال : " إن عبد الناصر لو كان قد صرع بالرصاصات التي يفترض أنها وجهت إليه وانهار النظام تبعا لذلك, فلربما أصبح الذي حاول قتله,والذي شنق لفشله , بطلا وطنيا "

شهداء أم هاربون

الحديث عما كان يحدث في السجن الحربي من مآس يملأ مجلدات بعضها ما زال يثير في نفسي الألم رغم مرور كل تلك السنين, فما زلت أذكر هؤلاء الذين كانوا يقضون من التعذيب وما كانوا يعانونه من الآلام في لحظات الاحتضار , وبعدها يقوم الجنود بلفهم في البطاطين ليأخذها حمزة البسيوني بنفسه في سيارته السوداء الكابورليه ليدفنهم في الصحراء ثم يكتب أمام اسم كل منهم عبارة هارب, وكان أكثر ما يحز في النفس أن نشاهد المحكوم عليهم من اليهود ممن أدينوا فيما يعرف بفضيحة لافون وهم يجلسون على مقاعد في الشمس ( يتفرجون علينا )

ومن مشاهد الاحتضار التي لا تنسى , مشهد شخص ما زلت أذكر اسمه رغم مرور كل تلك السنين, ويدعي " عبد الكريم عبد الوالي" كان أبيض البشرة , ممتلئ الجسم, وكانت الشعيرات المنتشرة تحت جلده كلها نازفة, فكان بياض جسمه مشربا بحمرة وكأنه ملتهب وكان يدور حول نفسه في ساحة السجن أشبه بالسكران , وفي الفجر صعدت روحه إلى بارئها وفي الصباح شاهدنا من ثقب الباب الجنود وهم يضعون جثته في سيارة حمزة البسيوني وكلبه يجلس في المقعد الذي بجانبه كي يقوم بدفنه في الصحراء .

المحاكمة

جري استدعاء أفراد مجموعتنا إلى ( المكاتب ) حيث أخطرنا بأنه تحدد يوم الغد موعدا لمحاكمتنا أمام محكمة الثورة ( الدائرة الثانية ) برئاسة اللواء صلاح حتاتة , مدير سلاح المشاة وبعدها اقتادونا إلى مخزن الملابس ليستخرج كل منا ملابسه التي اعتقل بها, قم اقتادونا إلى الحلاق ليجتث ما نبت من شعر رأس كل منا . مع مراعاة طقوس الحلاقة في السجن الحربي .

في صباح اليوم التالي وقفنا في طابور لركوب اللوريات التي ستقلنا إلى المحكمة . كان منظرنا يدعو إلى الرثاء فالملابس مجعدة تجعيدا شديدا وكأنها انتزعت من فم كلب – كما يقولون – كما وإنها كانت متسعة إلى درجة ملفتة للنظر , بحكم أن أغلبنا فقد الكثير من وزنه فضلا عن رؤوسنا الحليقة , فقد كان منظرنا يوحي بأننا مجموعة من المتسولين ذاهبون إلى محاكمة بتهمة التشرد .

وأتي حمزة البسيوني راكبا حصانه , وكأنه يتأهب لفتح عكا ليحذرنا من الكلام في المحكمة عن التعذيب , وأن من يفعل ذلك سيدفنه مع من سبق له دفنهم في الصحراء وكان قبلها بأيام قد جمع جميع معتقلي سجن ( 4) والسجن الكبير ليشاهدوا عملية تعذيب شخص أنكر اعترافاته أمام المحكمة معللا إياها بأنها انتزعت منه تحت التعذيب وقف المعتقل وسط حوش السجن الكبير , وحوله نفر من الجنود فيما يشبه الدائرة وبيد كل منهم سوط وظلوا يتناولونه بسياطهم وهو يدور بينهم صارخا في جنون وحمزة البسيوني يراقب المشهد من فوق حصانه وبعدها أمر بانصراف جميع المعتقلين .

ويمكن القول إن حمزة البسيوني هذا كان شخصية سيكوباتية وإنه اختير لهذه المهمة باعتباره الأقدر على القيام بها كما كان يريدها عبد الناصر تماما وهي تدمير نفسية أعضاء الجماعة, حتى لا تقوم لها قائمة بعد ذلك إذ من المؤكد أن عبد الناصر كان على علم كامل بأنه يستخدم آلة باطشة لا خلق لها ولا دين وأنه وهو ومجموعة الضباط العاملين معه بالسجن الحربي كانوا مجموعة من السفلة على حد قول عبد الناصر نفسه لثروت عكاشة في حديثه معه, خلال أزمته مع عبد الحكيم عامر

وقد بلغ انحراف الرجل وشذوذه إلى الحد الذي سمح له بأن يرد على معذب يستغيث بالله , ويستعطفهم به أن يتوقفوا عن تعذيبه , بقوله له – العياذ بالله " إنه لا يوجد ربنا في السجن الحربي ولو جاء لاعتقلته في إحدي زنازينه " واستغفر الله العظيم .

ذهبنا إلى المحكمة وكانت هي المرة الأولي والأخيرة التي نري فيها أهلنا وجها لوجه طوال مدة اعتقالنا وكانت المحاكمات تجري على نحو لا علاقة له بهذا العنوان إذ كان رئيس المحكمة يواجه المتهم بالاتهامات المنسوبة إليه ويسأله عما إذا كان مذنبا أم غير مذنب ؟ وكان المتهم يجيب بأنه غير مذنب وعندئذ يواجهه رئيس المحكمة باعترافاته متسائلا في براءة ولكن أليس هذا توقيعك ؟ فيجيب المتهم بالإيجاب .

وعندئذ يتساءل رئيس المحكمة وكأنه يتعجب من بجاحة المتهم, ولماذا الإنكار إذن ؟ ويتكرر هذا السيناريو مع كل متهم وقف أمام محكمة الثورة وهو ما لا يدع بعد ذلك فرصة للمحامين لإبداء أى دفاع جدي في الدعوى سوي القول بأن هذا الشاب مغرر به وإن من يستحق العقوبة هم من غرروا به , ثم الإشادة بعد ذلك بعبد الناصر محرر العباد والبلاد وقاهر الاستعمار .

كانت ( التسعيرة ) للفرد من النظام الخاص هي الأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات , وترتفع إلى خمسة عشر عاما إذا كانت له سابقة جهاد في فلسطين أو القناة ولكن وأثناء المحاكمة أتي من همس في أذن ماهر حتحوت بألا تقلق , وإن الأمور مرتبة مع رئيس المحكمة.

وكان الظن وقتها أن مصدر هذه الوساطة هو زوج خالة ماهر حتحوت اللواء عبد الله رفعت , الذي قدر له جمل عبد الناصر موقفه عند محاصرة قوات الجيش لقصر رأس التين إذ حال دون اشتباكها مع الحرس الملكي , لذا عينه بعد نجاح الانقلاب محافظا لمرسي مطروح ثم حاكما عاما لغزة إلا أنني علمت في العام 2011 – أى بعد أكثر من خمسين عاما- على تلك المحاكمة من ماهر أن والدته دفعت رشوة قدرها ثلاثمائة جنيه – وكانت وقتها تمثل ثروة – إلى أحد ضباط الصف الثاني من الضباط الأحرار , وهو شخص كانت له دلالة على أغلب أعضاء مجلس قيادة الثورة ويدعي جمال !.

ويبدو أن بسبب هذه التوصية تشجعت والدة ماهر فقامت لتتحدث في الجلسة على ما سلف كما أن والده ألقي قصيدة في مدح الثورة والثوار , وبعدها تساءل محامي ماهر هل يعتقل أن يكون ابن من ألقي بهذه القصيدة معاديا للثورة ؟ تهريج , عبث ويا ويل أمة يحكمها العسكر سواء أكان حكما مباشرا أو من وراء ستار .

وصدر الحكم بالبراءة وكانت مفاجأة لنا جميعا , بما فينا ماهر حتحوت إذ لم يكن متأكدا من صحة المعلومة التي وصلته في هذا الشأن قبل الجلسة كما كانت مفاجأة للعديد من إخواننا في السجن , حتى إنني أذكر أنه لما علم حسن دوح بالحكم كان تعليقه " على كده أنا هيدوني نيشانا ".

للأسف حكمت عليه ذات الدائرة بالأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاما مع أنه لم يكن له صلة من قريب أو بعيد بحادثة محاولة الاغتيال , أو حتى بالنظام الخاص ولكن كان كل ذنبه أنه كان مقاتلا في فلسطين , وقائد كتيبة الجامعة.

وهنا أذكر واقعة أعتقد أنها ما زالت في حدود السياق , وهي تكشف عن عقلية الديكتاتور ونفسيته, وهي أنه خلال أزمة مارس 1954 كتب ( الطالب وقتها ) جمال النهري على ( السبورة ) الموجودة بأحد مدرجات كلية الحقوق عبارة " لماوتسي تونج " تقول " الجيش مثل السمكة والشعب هو البحر , ومهما كبرت السمكة وتضخم حجمها فإنها إن خرجت من البحر تموت ".

مرت الأيام وحكم على جمال النهري بالأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاما ولما كان شقيق جمال النهري , الصديق الصدوق لعبد الحكيم عامر , فقد سعي عبد الناصر للإفراج عنه إفراجا صحيا بعد قضائه فترة من العقوبة إلا أن عبد الناصر قال لعبد الحكيم, " أليس هو صاحب حكاية السمكة والبحر انتظر عليه يا عبد الحكيم بعضا من الوقت "؟!

محاكمة هزلية وإعدامات بالجملة

كانت أنباء محاكمة قيادات الجماعة أمام الدائرة الأولي بمحكمة الثورة التي كان يرأسها قائد الجناح جمال سالم وعضوية القائم مقامأنور السادات والبكباشي حسين الشافعي تصل إلينا عن طريق بعضهم بما كانت تتضمنه من مهازل لا علاقة لها بأية محاكمة تجري في دولة محترمة من ذلك, مثلا – أن يسأل القاضي المتهم ما إذا كان يستطيع أن يقرأ الفاتحة بالمقلوب ؟!

وفي أحوال كثيرة كان القاضي يسب المتهم ويسخر منه علنا , ويطلب منه الوقوف في مواجهة الجمهور حتى يراه, ثم يسأل الجمهور رأيهم في شكله وفي كلامه ؟ هزل وعبث وتهريج.

محاكما كان فيها المحامون يتبارون في الطعن في موكليهم المتهمين, وكان القضاة يهددون فيها علنا المتهمين, ورغم أن الشهود أكدوا أنه لا علاقة لعبد القادر عودة بالنظام الخاص, بل وباعتراضه على استمرار وجوده بالجماعة وإن أحدا من المتهمين بخلاف هنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف كانت له أدني صلة بمحاولة الاغتيال .

وإن تعليمات مرشد الجماعة كانت تقضي بتجنب أى عمل ضد مجلس قيادة الثورة فيه إراقة دماء أى منهم إلا أنه أصدر الحكم بإعدام عدد من هذه القيادات , وقد صدق مجلس قيادة الثورة على إعدام ستة منهم وهم محمود عبد اللطيف , وهنداوي دوير والشيخ محمد فرغلي , ويوسف طلعت, و إبراهيم الطيب , وعبد القادر عودة .

في يوم النطق بالحكم وكان يوم السبت الموافق 4/12/ 1954 خرجنا إلى الباحة الخارجية للسجن كالمعتاد , ولاحظنا زيادة عدد الدشم التي تعلو أسطح مباني المكاتب وكانت تصوب رشاشاتها إلينا’ وجري إسماعنا للأحكام حال النطق بها من رئيس المحكمة , ثم أمرنا بالعودة إلى الزنازين دون ترديد الأغاني كالمعتاد وسادتنا حالة من الوجوم طوال ذلك اليوم. وبعدها بأيام جري نقل هؤلاء الستة إلى سجن الاستئناف لإعدامهم .

وقد تقدم هؤلاء المغرورون إلى المشنقة بخطي ثابتة ويذكر أن الشهيد عبد القادر عودة هتف قائلا قبل إعدامه : " اللهم اجعل دمي لعنة في رقاب رجال الثورة " أما إبراهيم الطيب فقد قال وهو يصعد إلى المشنقة "خصومنا قضاتنا ".

الذهاب إلى سجن القلعة

بعد فترة من صدور حكم محكمة الثورة ببراءتنا جري نقلنا وآخرين إلى سجن القلعة .

ولم يكن الذهاب إليه هذه المرة من أجل التحقيق , وإنما لإخضاعنا لبرنامج لإعادة تأهيلنا, تأهيلا نفسيا, وسياسيا, ودينيا وهو برنامج أطلق عليه ( التوعية ) .

أغلب الظن أن عبد الناصر نهج هذا المنهج تقليدا لبرامج إعادة التأهيل التي كان يخضع لها " ماوتسي تونج " خصوم النظام الشيوعي من الصينيين ولكن كان هناك فرق إذ كان لـ " ماوتسي تونج" نظرية واضحة بشأن نظامه السياسي , والاقتصادي وهو ما لم يكن متوافرا لعبد الناصر وقتها شئ منه, فقد كانت كل إنجازاته وقتها المعارضة في دخول مصر حلف بغداد.

في سجن القلعة كان كل منا يقيم في زنزانة انفرادية بها سرير ومنضدة لزوم إعادة التأهيل وكانت هي المرة الأولي والأخيرة خلال كل فترة اعتقالنا التي ننام فيها على أسرة وكان مسموح لنا بالسير في الطرقة التي بين الزنازين دون الخروج إلى ساحة السجن.

وكان الطعام أفضل بكثير مما كان يقدم لنا في السجن الحربي بما لا وجه معه للمقارنة هذا فضلا عن حقنا في الاستحمام بالمياه الساخنة مرة كل أسبوع وكان المسئول عن تشغيل الغلاية يدعي إبراهيم فكنا ننشده " برهوم حمينا " في معارضة لأغنية نجاح سلام, " برهوم حاكيني "

تولي عملية إعادة التأهيل عدد من الدكاترة في مختلف التخصصات من ذلك التخصص في علم النفس , والسياسة والاقتصاد , وكانت محاضراتهم مجرد " هلفطة " لم تكن تترك أثرا في عقل أى منا حتى إنني لم أعد أتذكر اسم أى من هؤلاء المحاضرين أو أنني انبهرت بمحاضرة لأى منهم وذلك باستثناء من كان موكلا إليه بمهمة تثقيفنا دينيا, إذ كان اسمه الشيخ " محمد عتمان ".

كان الشيخ عتمان تجسيدا حيا لما اصطلح على تسميته بمفتي السلطان فقد كانت كل أحاديث الرجل تدور حول فكرة واحدة وهي إن الخروج على الحاكم , يؤدي إلى الفتنة والفتنة أشد من القتل , لكن ذلك لم يكن هو الذي أبقي اسمه في ذاكرتي حتى الآن بل شئ آخر مختلف , وهو إنه كان لا يخفى ذعره, إذا ما اقترب أحد المعتقلين في مناقشته له من عبد الناصر بما يوحي باحتمال مجرد احتمال , توجيه النقد له كان الرجل يبدو مضحكا في هذه الحالة لذا كان بعض المعتقلين يتعمد الوصول به إلى هذه الحالة .

كما وأن بعض المعتقلين كانوا يبدون تأثرا مصطنعا من كلام الرجل إلى حد التظاهر بالبكاء فضلا عن مصمصة الشفاة وكان الرجل يصدق هذه المظاهر في سذاجة واضحة .

وبقدر ما كان متعهد توريد الطعام محبا للقلقاس يقدمه لنا أكثر من مرة في الأسبوع كان الشيح عتمان يكره وبصورة متطرفة أغنية " آمنت بالله " للمطربة " لورد كاش " لذا لم يترك محاضرة واحدة دون مهاجمة هذه الأغنية إلى درجة أنه كان يعتبرها أساس البلاء كله !

ومن طرائف تلك الفترة أن أحد صولات السجن سمع " ماهر حتحوت " وهو يقول ليوسف أمين عبده ألق بالقلقاس في الزبالة مرددا إنه لا بأس من ذلك ( فهو مال حكومة ) فألقي عليه درسا في الوطنية ووجوب احترام مال الحكومة لأنه مال الشعب , فرد عليه ماهر إنه أخطأ السمع , وإن صحة ما قاله ليوسف إنه بوسعه تحسين مذاق القلقاس بوضع الملح عليه لأن الملح كومة !.. واد الصول أن ينشق من الغيظ وانصرف قائلا والله الحكومة لها الحق فيما تفعله بكم .

بعدما انتهت فترة التوعية ركبنا اللوريات وكان الظن إنها ستذهب بنا إلى حيث تجري إجراءات الإفراج عنا , باعتبار أن هذا الإجراء هو الإجراء المنطقي الذي يجب أن يعقب عملية إعادة التأهيل لكنها ذهبت بنا إلى سجن مصر.

الترحيل إلى سجن مصر

وسط خيبة أمل كبيرة وقفت بنا عربات الترحيلات أمام بوابة سجن مصر فكأنهم بعدما أعادوا تأهيلنا في سجن القلعة أعادوا سجننا في سجن مصر ؟ وهو بالمناسبة يقع في قلب حي القلعة وسط المساكن وهكذا عدنا مرة أخري إلى النوم على الأرض .

أو بالأحرى النوم على البرش, والبرش لمن لا يعرف عبارة عن قطعة من الخيش المجدول بطول 170 سم وعرض 60 سم, تقريبا تستخدم لنوم المسجون عليها وكان يصرف لكل مسجون بما في ذلك نحن برش وبطانية صيفا وبرش وبطانيتان شتاء .

كما عدنا إلى النوعية الرديئة من الطعام لكنه لم يكن برداءة طعام السجن الحربي , واللافت للنظر في كل السجون المصرية أن دورات مياهها بغير أبواب وهي نوع من الحماقة , إذ معناه أن الدولة ترسخ الإحساس بالبهيمية لدي المسجون في الوقت الذي تدعي فيه أنها تعمل على إصلاحه كذلك لم يسمح لنا بقراءة الكتب أو الصحف وإنما سمح لنا بالحصول على المصاحف .

في الفترة الأولي لنا في سجن مصر, كانت الزنازين مغلقة علينا بصورة مستمرة , ولا تفتح إلا مرتين للذهاب إلى دورات المياه, وكانت الزنازين والعنابر مكدسة بالمعتقلين بصورة كبيرة بحيث إنها كانت جحيما في الصيف حتى إن الزنزانة الانفرادية أى المخصصة لفرد واحد والتي طولها متران وعرضها متر ونصف كان يحشر فيها ثلاثة أفراد والعنبر المخصص لعشرين فردا , كان يحشر فيه أكثر من ستين فردا بحيث إن المساحة التي كان يمكن أن يشغلها الفرد في نومه لم تكن تتعدي الخمسين سنتمترا بحال.

أحداث لا تنسي

ورغم أن الأيام أسقطت من الذاكرة الكثير من التفاصيل , فلا يمكن أن أنسي ذلك الشاب الذي اعتقلوه وهو بسبيله إلى السفر إلى روسيا لإجراء جراحة دقيقة في الرئة وأتوا به إلى سجن مصر وتحديدا إلى عنبرنا وظل الشاب لمدة يومين لا يستطيع التنفس إلا بصعوبة ورغم إلحاحنا على ضرورة نقله إلى المستشفي إلا أن أحدا لم يهتم , إلى أن دخل في دور الاحتضار فأخذوه من العنبر لكننا سمعنا أنه انتقل إلى رحمة الله بعدما ضاقت به رحمة البشر.

كذلك من الأحداث التي لا تنسي إنه في منتصف العام 1955 وكان ثلاثتنا ماهر , ويوسف, وأنا نشغل زنزانة بالدور الأرضي وكان هذا النوع من الزنازين ليس له باب مصمت و بل باب من القضبان الحديدية , بحيث يكون بوسع من كان بداخل الزنزانة أن يري ما يجري بخارجها أحضروا إلى سجن مصر عددا من الشباب الفلسطيني من عزة يبدو أنهم كانوا قد تظاهروا ضد حكم العسكر , وأوسعوهم ضربا قبل أن يوزعوهم على زنازين ذلك الدور

إلا أنهم هتفوا بسقوط الديكتاتورية العسكرية وبحياة كفاح الشعب المصري ولم يتردد هتافهم من المعتقلين المصريين سواء فما كان من ماهر ويوسف إلا أن قفزا على وأسقطوني أرضا ووضعوا أيديهم على فمي , وعلى الفور أدركت حجم المصيبة التي ستقع على رأسي بل على رأس كل من في الزنزانة ففي السجن يقولون إن النعمة تخص , والنقمة تعم, فلزمت الصمت , ولم أكرر الهتاف .

بعدما انتهوا من ضرب الفلسطينيين جاءنا جاويش الدور وكان يدعي " إسماعيل النشو" يسأل من فيكم قال الشعب ( بكسر الشين ) المصري نفينا أن يكون هذا الشخص من زنزانتنا قائلين إننا فعلا سمعنا هتاف ذلك الشخص ولكنه كان أت من الزنازين المجاورة قال الرجل فعلا هو واحد من الزنازين الثلاثة المجاورة ومنها زنزانتكم ويهيئ لى – هكذا قال – إنه واحد منكم .

لم يكن شجاعة مني وإنما كان تهورا وهو في بعض الأحيان يبلغ حد الحماقة وأعتقد أن السبب في هذا التهور هو أنني أحيانا أحس بالخوف يتملكني فأتغلب عليه بالاندفاع حتى أصبح الاندفاع مسألة غريزية لدي وأحمد الله تعالي أنه لم يخضعني يوما لاختبار قاس يتجاوز قدرتي على التحمل , رغم الأوضاع الصعبة التي كنت أضع نفسي فيها بتهوري وسبحانه من قال ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) .

وعلى ذكر هذا الجاويش ( النشو) فقد كان يناديني بمتحف وفي كل مرة ينطق فيها اسمي يقول " اسم إيه ده " !

ومن هذه الأحداث التي لا تنسي كذلك أنه كانت نوافذ العنبر الذي نقيم فيه تطل على شارع جانبي ضيق .

وكان أهلونا يقفون في هذا الشارع وينادون علينا فنقفز إلى النوافذ ممسكين بقبانها لنراهم ونتحدث إليهم, وكان رجال الشرطة من راكبي الخيول يطاردونهم لمنعهم من ذلك, وفي ذات يوم أوقع شرطي والدة ماهر على الأرض عند مطاردته لها. يومها بكي ماهر بحرقة وكانت هي المرة الوحيدة التي استطاع نظام عبد الناصر أن يبكيه فيها . آه كم تعذب أهلنا بسببنا.

الحياة في سجن مصر

كانت الحياة في سجن مصر تمضي مملة ورتيبة , وكنا نقضي وقفتنا في قراءة القرآن وحفظه أو في لعب الشطرنج الذي كنا نصنعه من لباب العيش , وكانت القطع البيضاء تترك على حالها , والسوداء تصبغ بصبغة اليود, أما رقعة الشطرنج فكانت بطانية يجري تقسيمها بقطعة من الصابون وكان بعضنا ممن تتوافر لديه مواهب فنية, يقوم بعجن قطع الصابون وعمل تماثيل منه.

كنا نستعين على عدم توافر الكتب بمحاضرات يلقيها كل منا على الآخرين مما يتوافر لديه من معارف ودراسات , وكان ثلاثتنا , وماهر ويوسف وأنا نتعمد عندما يحل الظلام ويصبح من المستحيل عمل أى شئ غير النوم أن نتعمد الدخول فيما بيننا في نقاش حاد يتناول مسألة مثيرة للخلاف نتفق عليها فيما بيننا وسرعان ما يشارك في النقاش الجميع .

وكان كلما خبا النقاش عمدنا إلى إذكائه. وهكذا إلى أن يحل موعد النوم . ورغم أن رفاق الزنزانة أدركوا أن هذه المناقشات مرتبة , القصد منها إقحامهم فيها على غير رغبة منهم, حتى إنهم كانوا يقولون لنا كلما بدأنا النقاش في موضوع ما ( العبوا غيرها ) إلا أنهم كانوا سرعان ما ينزلقون إلى المشاركة فيه وكنا نجد في ذلك تسلية كبيرة .

وكان معنا في نفس العنبر الأخ على إبراهيم أحد مقاتلي كتيبة الجامعة في معركة القناة وكانت رواياته عن معارك تلك الفترة وأحداثها , وعن عملية أسره في معركة التل الكبير , وكيف أنهم – أى الأسري – اكتشفوا أن عامل البوفيه الذي كان يقدم المشروبات للطلبة كان جاسوسا يعمل لحساب الانجليز, وأنه استطاع تصوير جميع أفراد الكتيبة وقياداتها .

وإن الضغط عليهم بعد أسرهم لم يكن يتعدي إجبارهم على الاستحمام بالماء البارد في الشتاء وبعض السباب كانت هذه الروايات تشغل جزءا من الوقت في تلك الفترة ... كما كان معنا أحد متطوعي الإخوان في حرب فلسطين عام 1948, وكان مقر كتيبته منطقة صور باهر وقد اشتركت في الدفاع عن القدس القديمة وحالت دون سقوطها في أيدي اليهود, التي ظلت في أيدي العرب إلى أن سقطت في أيدي اليهود عام 1967,

وقد اعتقل في نهاية الحرب وأرسل معتقلا إلى معسكر البريج ثم إلى معتقل الطور , وكانت رواياته هي الأخري عن أحداث الحرب ومعاركها مما نزجى به أوقات الفراغ , وما أطولها في السجن فقد كان غير مسموح لنا بأي نشاط مما توفره قوانين السجون للمسجونين الجنائيين !

كذلك كانت من وسائل التسلية فرقة كونها الأخ عبد المنعم قنديل , صاحب محل " ساعاتي بور سعيد " بشارع التحرير بالقاهرة وكان ينشد عازفا على " قروانة " أغاني وموشحات لا أذكر كلماتها وكل الذي أذكره منها أغنية مطلعها :

زعلان ليه أنا مرتاح

وأديني داير على السجون سواح

وموشحا مطلعه :-

أحب الهضيبي ولكنني

لساني عليه وقلبي معه

ومن بين أبيات هذا الموشح الساخرة:

أن القنابل في المخازن كلها

تكسو النظام مهابة وجلالا.

وكما كانت لنا وسائلنا في الترفية عن أنفسنا في السجن بالقدر المتاح كانت لنا وسائلنا في تهريب الممنوعات مثل أمواس الحلاقة , والأقلام والأوراق , فضلا عن تهريب الرسائل منا إلى الأهل, ومنهم إلينا , وكانت وسيلتنا إلى ذلك هم السجانين , والمساجين , ومن حوادث التهريب الطريفة أن والدة " ماهر حتحوت " أرسلت له عدة أصابع من الكنافة مع أحد السجانين وكان السجان يخبئ الكنافة تحت البيرية , وطال وقوفهم في طابور الصباح الذي يبدأ به السجانون عملهم وكان الزمان صيفا وساح العسل على وجه السجان وكانت " حوسه " كما يقولون .

حمام قفشتك

العنوان مشتق من اسم حي من أحياء القاهرة يدعي " حمام بشتك " وهو يقع بالقرب من الأزهر الشريف لذا يعتبر المكان المناسب لإقامة طلابه , إذ كانت كل مجموعة منهم تشترك في تأجير شقة سكنية فيه .

وأنا لا أعلم من هو هذا البشتك هل كان من الحكام المماليك وكان يستحم في ذلك الحمام فسمي باسمه, أم كان هو نفسه صاحب الحمام المهم أن شابا من الصعيد نزل إلى القاهرة ليجري عملية جراحية في المثانة بقصر العيني ولما علم أن العملية تأجل موعدها قصد أحد بلدياته من المقيمين في ذلك الحي , طالبا الإقامة لديه لعدة أيام إلى أن يحل موعد إجرائها , فقبل قريبه بذلك على أن يحضر ما سينام عليه , اشتري هذا الغريب كنبه , وفيما هو يقوم بإدخالها إلى الشقة بمساعدة " العربجي " الذي نقلها له على عربته , هاجمت المباحث العامة الشقة لاعتقال أحد الناشطين من المقيمين فيها لكنها كعادتها اعتقلت كل من كانوا بالشقة بما فيهم الضيف و" العربجي ".

لا أعرف ماذا حدث " للعربجي " ولكن أعرف الذي حدث للضيف إذ حل ضيفا على عنبرنا في سجن مصر, لذا كنا نشير إليه هو ومن جاء معه بأنهم معتقلوا حمام " قفشتك" ورغم أن الرجل امتنع عن الصلاة ليقنع المباحث العامة بأنه لا علاقة له بالإخوان , سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين فلم يفرج عنه حتى إنني تركت السجن وهو ما زال ضيفا عليه . تري هل استوحي فيلم " احنا بتوع الأتوبيس فكرته من هذه القصة الواقعية ؟ لا أعرف .

تجارة الأدوية في سجن مصر

انتشرت الأمراض بين المعتقلين سواء في سجن مصر أو سائر السجون الأخري , لذا سمحت مصلحة السجون , بعد موافقة المباحث العامة طبعا بالسماح لنا بشراء الأدوية من الخارج وكان من الطبيعي , تبعا لذلك أن يسمح لكل معتقل بالكتابة لأهله كي يودعوا له في الأمانات ما يريدون من مبالغ على ألا يتعدي المكتوب في الخطاب السلامات المعتادة , وطلب مبلغ يودع في الأمانات ولا شئ غير ذلك .

وكان من الواضح أن ضباط السجون يحصلون على ( عمولة ) من أثمان هذه الأدوية , لذا سمحوا لنا بالإسراف في الطلب , وأن تشمل الطلبات أشياء لا علاقة لها بالأدوية . وفي اليوم المحدد للاستلام كانت علب الأدوية والمشتريات الأخري تغطي مساحة كبيرة من أرضية الدور الأرضي الذي يقع فيه مكتب ضابط هذه الوحدة من وحدات السجن .

وأذكر أنني في أحد الأيام وأنا أتسلم ما طلبته من الأدوية أنني شاهدت المرحوم " يوسف إدريس " وهو يشكو لأحد مفتشي مصلحة السجون من خلال قضبان باب زنزانته ,

أنه محبوس حبسا انفراديا خلاف ما يحدث مع باقي زملائه , وما زلت أذكر بوضوح رد هذا المفتش عليه , إذ قال له : " إن الأصل هو الحبس الانفرادي , ومن ثم فلا يحق له أن يشتكي من هذا الوضع " إجابة سخيفة تعكس روح الاستعلاء والرغبة في البطش, وهي إجابة غير صحيحة لأن الحبس الانفرادي بحسب لائحة السجون , لا يكون إلا على سبيل التأديب في الزنزانات المخصصة لذلك , ولكن من كان يلتزم بالقانون في ذلك الوقت ؟.

حادث مقلق

يبقي كابوس السجن , في بعض الأحوال, أخف وطأة من كوابيس أخري خاصة في الأوقات التي يأخذ فيها القانون إجازة , إذ في يوم من أيام منتصف العام 1955 , وكانت الأنباء تحمل إلينا القبض على تنظيم آخر للجماعة , استدعيت لمقابلة أحد ضباط المباحث العامة الذي فاجأني بقوله إن بعض المقبوض عليهم من طلبة جامعة القاهرة ممن كان يجري التحقيق معهم في السجن الحربي اعترفوا إنني كنت المسئول عن طلبة كليات الحقوق, والآداب والتجارة .

نفيت ذلك بشدة قائلا إنني مقبوض على منذ مدة طويلة , فكيف يتأتي لى ذلك ؟ أجابني الضابط أنه شخصيا يعتقد بصحة ما أقول لذلك رأي أن يستجوبني في سجن مصر بدلا من استجوابي في السجن الحربي , وإن كان هناك ثمة احتمال لنقلي إلى السجن الحربي لمواجهتي بأقوال هؤلاء الأشخاص .

افترسني القلق لمدة طويلة, وأذكر أنني كنت قد اشتريت زجاجة دواء للكحة , وسألت ماهر تري لو شربتها كلها دفعة واحدة يمكن أن أموت ؟ أجاب احتمال كبير أن يحدث ذلك لذا عقدت العزم على أنه لو استدعيت للترحيل إلى السجن الحربي فسأشربها دفعة واحدة حتى لا أخضع للتعذيب في ذلك المكان الملعون , ومرت الأيام أكثر بطئا وتثاقلا ولكنها مرت على خير .

ثقافة الزحام

عندما ارتفع الكرباج من على ظهورنا , ولم تعد تجمعنا مشاعر الخوف بدأ الزحام يفعل فعله فيما بيننا فكان يمكن أن ينشب خلافا على بضعة سنتيمترات يحصل عليها هذا خصما من المساحة التي يشغلها ذاك.

كما كان يجري الخلاف حول من يكون موضع برشه بجوار ( جردلي )

" البول " و" المياه" كذلك كان من أسباب الخلاف إصرار البعض على الوضوء وعدم التيمم لما يخلفه الوضوء من مياه على الأرض يتحمل أثرها هذا الذي ينام بجوار هذين ( الجردلين ) والكارثة أن البعض كان يصمم على إسباغ الوضوء , طمعا في المزيد من الثواب , مع أن القاعدة الشرعية تقضي بأن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة,

وهذا يضيق بأخ له يقوم الليل ويتلو القرآن بصوت عال فيحرمه النوم, أو إنه يتقلب في منامه كثيرا فيتجاوز المساحة المخصصة له من أرضيه العنبر , أو يتشاجر لأن شخصا وطأه بقدمه ليلا وهو في طريقه إلى " جردل " البول ليتبول مشاكل صغيرة سببها الزحام فتثير خلافات صغيرة بين من كانوا بالأمس على استعداد لأن يفتدي كل منهم الآخر , وكلها مرجعها إلى الزحام .

وإذا كان الشئ بالشئ يذكر فالملاحظ أن قضية الزحام سواء أكان في الطرقات العامة أو أمام المصالح الحكومية أو عند تقديم خدمة للعامة لم يحدث وأن شغلت بال أى مسئول في مصر , وهي انعكاس لعدم أهمية المواطن , أو راحته في نظره , رغم أن هذا المسئول قد يكون من أصول متواضعة , لكنها تجليات كرسي السلطة في مصر الذي ما أن يجلس عليه الشخص حتى ينفصل عن أصوله ؟ أيا كانت هذه السلطة .

قبل عدة أشهر زرت مدينة " إسطنبول" ورغم أن عدد سكانها يقترب من عدد سكان مدينة القاهرة وشوارعها لا تزيد في الاتساع عن شوارعنا بل تقل إلا إنني لم أجد فيها أثرا للزحام لسبب بسيط وهو انتظام وكثافة أتوبيسات النقل العام , فبين كل أتوبيس وآخر مدة لا تزيد على ثلاث دقائق الأمر الذي جعل الغالبية العظمي لا تستخدم السيارات الخاصة في التنقل , بحيث كان ما يتحرك منها على الأرض عدد ضئيل جدا لا يكاد يذكر , وهو أحد أسباب الزحام في شوارع القاهرة , ولكن من أين لنا من يفكرون في مصالح الناس ويجهدون أنفسهم في محاولة إيجاد حلول لمشاكلهم .

إن الزحام بقدر ما هو علامة على الفشل في الإدارة فإنه مفسدة للأخلاق ومغير للطباع

الإفراج ومتهور آخر

بعد العام ونصف العام ومن وجودنا بسجن مصر , بدأت تظهر بوادر بقرب الإفراج عنا, إذ سمح لنا بالتريض في ساحة السجن لمدة نصف ساعة يوميا , كما سمح لنا بشراء المشروبات والسجاير من الكانتين وبعض المأكولات كعلب البلوبيف وكانت كلها مبشرات بقرب الإفراج عنا.

كان أول من أفرج عنه من مجموعتنا هو " ماهر حتحوت " وأفرج عنه من سجن مصر ثم جري الإفراج عن " يوسف أمين عبده" ولكن من مستشفي قصر العيني , إذ كان , وبالاتفاق مع أسرته , قد تناول كمية كبيرة من الشطة مع قطعة كبيرة من الحلاوة الطحينية.

فارتفعت حرارته بدرجة كبيرة, نقل على أثرها إلى مستشفي قصر العيني حيث بقي فيه إلى أن أفرج عنه منه بدرجة كبيرة نقل على أثرها إلى مستشفي قصر العيني حيث بقي فيه إلى أن أفرج عنه منه وأخيرا تم الإفراج عني ضمن دفعة من مجموعة من المعتقلين , تم جمعهم من أماكن متعددة بعضهم من سجن القلعة وبعضهم من سجن مصر وبعضهم من سجون الأقاليم .

حملتنا عربة الترحيلات إلى مبني المباحث العامة في لاظوغلي لاتخاذ إجراءات الإفراج عنا, وأثناء الانتظار حتى تمام الإجراءات أخرج أحدهم ورقة وانتحي جانبا يقرؤها ولحظة التعس مر من أمامه الضابط " أحمد صالح داود" فدفعه فضوله بحكم عمله , إلى أن يختطفها منه ليعرف ما فيه , وانتبهنا على الأخير وهو يصرخ فيه بأعلى صوته وهو في غاية الانفعال ويسبه بأقذع الشتائم ثم ينادي على الحرس ليقتادوه إلى بدروم المبني وإعادته إلى المعتقل .

وتبين أن الورقة كانت تحتوي على زجل يسخر من أعضاء مجلس قيادة الثورة وهو ما يعني فشل جهود المباحث العامة في كسر إرادة المعتقل, رغم كل ما بذلوه في هذا الشأن, وقد وقع كبار السن من أفراد الدفعة الجاري الإفراج عنها في عرض ذلك الضابط, ووصل الأمر ببعضهم إلى حد تقبيل رأسه كي يرجع عن قراره, إكراما للشهر الفضيل إذ كنا في رمضان وبعد طول إلحاح قبل بذلك , مؤكدا للمعتقل أنه سيحفظ هذه الورقة في ملفه , وأنه سيتتبع أحوال بنفسه وإن وجد في مسلكه أى اعوجاج فلن يعتقله وحده, وإنما سيعتقل معه كل أسرته.

وتمت الإجراءات بعد ذلك بسلام وعدت إلى الحرية أو بالأحرى إلى السجن الكبير الذي كانت تعيش فيه مصر آنذاك.

العودة إلى الحرية

بعد انقضاء الأيام الأولي للخروج إلى الحرية كنت أشعر بأنني انتمي إلى عالم آخر غير العالم الذي ألفته قبل السجن , كان إحساسي إحساس شخص كان يعيش وسط الضجيج, وفجأة وجد نفسه في سكون مطلق, ورغم الزحام كنت أشعر بالاغتراب والوحدة .

كانت تعليمات المباحث العامة لنا عند الإفراج أن نخطوها بوجهتنا عند مغادرتنا للقاهرة وألا يجتمع أى منا بعضو من أعضاء الجماعة أيا كان السبب لدرجة أنه إذا شاهده على رصيف انتقل إلى رصيف آخر, أما الأولي فقد التزمت بها لمدة من الزمن, ثم بدأت أتراخي في عملية الإبلاغ حتى توقفت تماما.

ففي مصر كل " غربال ) له شدة ثم لا تلبث هذه الشدة أن ترتخي مع الزمن , أما عن الثانية فلم أستطع الالتزام بها , إذ سرعان ما التقيت بـ " ماهر " ثم " يوسف " وأصبحنا نكاد نتقابل يوميا , ثم اتسعت اللقاءات لتشمل باقي أعضاء الأسرة باستثناء " كمال حلمي " الذي هرب إلى السودان و" ماجد حسن " الذي انقطعت أخباره عنا .

استأنف دراستي الجامعية حتى تخرجت في كلية الحقوق , ثم أنهيت خدمتي العسكرية لمدة عام ونصف العام , ثم ذهبت بعد ذلك إلى الكويت, وفي الفترة الواقعة بين تاريخ خروجي إلى الحرية وتاريخ سفري إلى الكويت في شهر أكتوبر 1960 يمكن القول إنني انفعلت في الشأن العام بأمرين ,

أو بالأحرى بحدثين الحدث الأول هو العدوان الثلاثي الغاشم وكأنه يوجد عدوان غاشم وآخر غير غاشم, وبمناسبة هذا العدوان استقر رأينا نحن الثلاثة ماهر ويوسف وأنا , على أن نتطوع في كتيبة جامعة القاهرة التي كان النظام يقوم بتشكيلها ولا أدري كيف وصل الخبر إلى المباحث العامة إذ استدعي اللواء " صلاح حلمي " الدكتور سعد حتحوت " خال ماهر وكان هو طبيبه عائلته وطلب منه أن يخطرنا بأن نتوقف عن ذلك معلقا " ألم يكفهم ما لاقوه "؟

العدوان الثلاثي

لا خلاف في أن مشروع السد العالي هو أحد المشروعات العملاقة التي تحسب لجمال عبد الناصر, إذ يوفر قدرا من الأمان المائي لمصر فيما لو تغيرت الأوضاع السياسية لدول حوض النيل , ولا يجعل مصر تقع بالكامل تحت رحمة أية سياسات مقبلة تكون مناهضة لمصر .

وكان المشروع يتكلف حوالي 450 مليونا من الجنيهات وهو مبلغ كبير جدا في ذلك الوقت .

في 17 ديسمبر 1955 قام البنك الدولي وكذا الولايات المتحدة وبريطانيا بإعلان أنهم سيعملون على توفير قيمة النقد الأجنبي اللازم للمشروع في مرحلته الأولي .

كما أعلنوا أنهم سيساعدون كذلك في تمويل مراحله التالية .

على أن قيام الملك حسين بطرد جلوب باشا قائد الجيش الأردني البريطاني الجنسية ثم مساندة مصر لثورة الجزائر وكذا اعترافها بالصين وقطعها لعلاقتها الدبلوماسية بفرموزا كل ذلك جعل هذه الجهات التي تعهدت بتمويل إنشاء السد العالي , إلى سحب تعاقداتها الأمر الذي جعل عبد الناصر يعلن في 26 يوليو 1956 قرارا بتأميم قناة السويس ليستعين بدخلها في تنفيذ المشروع.

كان من نتيجة قيام عبد الناصر بإعلان قرار تأميم قناة السويس أن تكون حلف ثلاثي من إسرائيل وانجلترا وفرنسا لمهاجمة مصر والاستيلاء على قناة السويس بالقوة وكان السيناريو المعد لذلك أن تهاجم إسرائيل مصر أولا , ثم تتدخل الدولتان بعد ذلك بحجة الفصل بين المتحاربين مستولية بذلك على قناة السويس , وبدأ تنفيذ الخطة في 29/ 10/1956 .

وفي ذلك اليوم تقدمت إسرائيل في سيناء وأسقطت بعض جنود المظلات عند ممر متلا بصحراء سيناء فطلب عبد الناصر من صدقي محمود قائد سلاح الطيران ضرب هذه القوات بالطائرات , إلا أنه قال إن هناك بعض الصعوبات في ذلك بحجة عدم توافر الوقود اللازم لها في مطار غرب القاهرة .

في مساء يوم 30/10/1956 وجهت كل من بريطانيا وفرنسا إنذارا إلى المتحاربين وهما مصر وإسرائيل , بأن تقف قوات كل منهما على بعد عشرة كيلو مترات من قناة السويس وهو ما يعني تصريهما لإسرائيل بأن تحتل سيناء والوقوف بقواتها على مبعدة عشرة كيلو مترات من خط القناة .

كان من الطبيعي أن ترفض مصر هذا الإنذار ويقول البغدادي إنه حتى ذلك الحين كان عبد الناصر مؤمنا بأن بريطانيا وفرنسا لن تهاجما مصر ؟! إلا أنهما خلافا لتوقعاته هاجما المطارات المصرية صباح يوم 31/ 10/ 1956 مستخدمتا نفس السيناريو الذي استخدم في حرب 67, رغم ما يؤكده البغدادي في مذكراته من إنه جري التنبيه على قائد السلاح الجوي الفريق صدقي محمود على سبيل الاحتياط , بأن يتخذ الإجراءات اللازمة لحماية الطائرات من مثل هذه المفاجأة فيما لو حدثت ؟!

وبعد ذلك قامت بريطانيا وفرنسا بإنزال قواتهما في بور سعيد التي قاومت الغزو ببسالة إلا أن هذه القوات استطاعت رغم ذلك التقدم حتى منطقة الكاب التي تبعد حوالي 35 كم من الإسماعيلية لكن القتال توقف بقرار من مجلس الأمن , نتيجة لتدخل الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تعمل على إنهاء النفوذ البريطاني في المنطقة على أمل أن تحل محله , إلا أن مشروعها هذا لم يتحقق على يد عبد الناصر فكانت لها جولة أخري معه في حرب عام 1967.

وهي الحرب التي كررت القيادة المصرية فيها نفس أخطائها في حرب 1956 , وكأنها لم تستفد شيئا من تجربة تلك المعركة .

مذبحة طرة

والحدث الثاني كان يتمثل في خبر صغير نشر بجريدة الأهرام في صفحة الحوادث في الثاني من شهر يونيو من عام 1957 , يفيد بأن تمردا وقع في سجن طرة وأنه نتيجة لذلك توفي أحد المسجونين وأصيب آخرون , توقعت أن يكون هذا الاشتباك قد حدث مع المسجونين من الإخوان, لما كان يصلنا من أنباء عن تعمد إدارة السجن إساءة معاملتهم ,

وصدق حدسي إذ أخبرني المستشار محمد ماهر حسن, نقلا عن وكلاء النيابة العامة الذين أجروا التحقيق في الحادث أن عدد القتلي تجاوز العشرين شهيدا بالإضافة إلى عشرات المصابين , وأن عملية القتل جرت بوحشية ظهرت آثارها على طبيعة الإصابات وأن الأوامر صدرت لوكلاء النيابة بإغلاق ملف القضية .

وعلمنا مما تسرب من أنباء هذه المذبحة أنه في الوقت الذي كان يحظي فيه المسجونون اليهود المدانون فيما عرف بفضيحة لافون في ليمان طرة بمعاملة متميزة من حيث الزيارات ووصول الأطعمة إليهم وعدم تشغيلهم في قطع الأحجار , وكان الإخوان المسجونون في الليمان يخضعون لاستفزازات متعددة من بعض ضباط السجن بخاصة النقيب عبد الله ماهر والملازم أول عبد العال سلومة,

وقد بدأ الصدام بمجموعة من الإجراءات الاستفزازية من ذلك إلغاء صلاة العصر جماعة في حوش العنبر عقب عودة الإخوان من الجبل .

ثم تعمد إهانة أهالي المسجونين أمامهم أثناء الزيارات إذ حدث قبل المذبحة بثلاثة أيام أن حاولت إحدي الإخوان أن تعطي شقيقها قطعة من لحم الدجاج فهاج الضابط عبد الله ماهر المشرف على الزيارة , وأهان الأخت وشقيقها, وحولها إلى قسم المعادي , كما قام بتحويل شقيقها إلى التأديب .

وفي الجبل كان الضابط عبد اللطيف رشدي المشرف على العمل في الجبل يصر على استلام المقطوعة من الأحجار الجاري اقتطاعها من الجبل كاملة فإذا كان هناك عجز لم يتغاض عنه كما كان يفعل مع المسجونين الآخرين ,

بل قام بتحويل الإخوان إلى التأديب ليلبسوا الملابس الحمراء ليخرجوا إلى الجبل ضمن فرقة ليؤدوا المقطوعية مضاعفة وإذا تكرر العجز كان الجلد بالسياط حتى وصل عدد الإخوان المجلودين إلى خمسة وخمسين, الأمر الذي دعي الإخوان إلى الإضراب والامتناع عن الخروج إلى الجبل إلا بعد أن تحضر النيابة العامة لسماع أقوالهم فيما يتعرضون له من انتهاكات تخالف قانون السجون ,

إلا أن زكريا محيي الدين, وكان وقتها وزيرا للداخلية , أمر بإطلاق النار عليهم وهم داخل الزنازين فاستشهد منهم واحد وعشرون وجرح خمسة وخمسون وفقد ستة عقولهم .

تملكنا الحزن على ما جري لإخوان لنا كان يمكن أن نكون معهم في تلك المحنة وظل الحزن مقيما في أنفسنا إلى أن فعل بنا الزمان فعله , وانهمك كل منا في استكمال دراسته ومباشرة حياته ثم بعد ذلك في البحث عن عمل , أما بالنسبة لى فقد كنت قد عقدت العزم على السفر للعمل بالكويت حيث كانت خالتي تعمل بها ناظرة لأول مدرسة ثانوية للبنات وبالفعل غادرت مصر إلى الكويت ,كان ذلك بعد جهد جهيد, ووساطات متعددة إذ كان الخروج من ذلك السجن أمرا صعبا للغاية ويتطلب موافقة المباحث العامة .

السفر إلى الكويت

كان الخروج من مصر ذلك السجن الكبير في ذلك الوقت , أمرا في غاية الصعوبة ليس بالنسبة لمن سبق اعتقاله فحسب, بل بالنسبة لكل المصريين . فقد كان الأمر بالنسبة إلى من سبق اعتقاله يتطلب موافقة المباحث العامة لحصوله على تأشيره الخروج من مصر ,

أما بالنسبة لغيرهم فقد كان يتطلب موافقة ضابط الاتصال الموجود بمصلحة الجوازات والهجرة والجنسية , وكان يدعي " المناوي بك", وأذكر أنني أثناء ترددي على مكتبه لاستكمال إجراءات الحصول على تأشيره الخروج.

رأيت المستشار " محمد ماهر حسن" – وهو بالمناسبة قريبي - يحاول الحصول على تأشيرة للخروج من مصر إلى إيطاليا موفدا من قبل وزارة العدل لتمثيل مصر في مؤتمر دولي للقانون الجنائي إلا أن المناوي رفض منحه التأشيرة لأن البلد غير مستعد للإنفاق على مثل هذه النشاطات !؟.

اتصلت والدتي بابن عمتها المرحوم " مصطفي بهجت بدوي " وقالت له إنها لن تطلب منه أن يلحقني بعمل في مصر , وكان طلبها منه هو أن يساعدني في الحصول على تأشيرة للخروج إلى الكويت , حيث كانت خالتي تعمل كأول ناظرة لأول مدرسة ثانوية للبنات بها في ذلك الوقت من العام 1960.

ولم يقصر الرجل , وأرسلني إلى اللواء " صلاح حلمي " أحد قيادات المباحث العامة في ذلك الوقت, وتصادف أنني استمعت وأنا في مكتبه إلى حوار بينه وبين أحد الضباط المكلفين بتقديم تقارير أمنية عن المرشحين لمنصب نقيب المحامين وكان هذا التقرير بخصوص الأستاذ " على منصور المحامي " إذ قال له الضابط إنه بحث في ملف هذا الأخير فلم يجد فيه ما يمنع التصريح له بالترشح لهذا المنصب إلا أنه لاحظ أنه اشترك في المرافعة عن معظم المتهمين في القضايا السياسية في فترة ما قبل انقلاب 23 يوليو , فما كان من " صلاح حلمي" إلا أن قال له وبالحرف الواحد " بأقولك إيه اعترض على قبول أوراق ترشيحه بلا خوته " وهكذا كانت تتحدد أقدار الناس في مصر في ذلك العهد!

ولم يكن هذا النمط من التفكير والنظر إلى الأمور قاصرا على ضابط في جهاز أمني , وإنما كان يمثل نمطا سائدا لدي رجالات النظام وإفرازا من إفرازاته إذ يقول ثروت عكاشة إنه عندما كان يرأس المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية قرر المجلس منح السنهوري باشا ( أبو القانون لا في مصر وحدها , بل في العالم العربي كله ) جائزة الدولة التقديرية ,

إلا أن ذلك كان محل اعتراض وزير الداخلية وقتها وعدد كبير من رفاقه من أعضاء الاتحاد الاشتراكي, لما كان بين الرجل وبين عبد الناصر من خصومة في أحداث مارس 1954 أى قبل أكثر من عشرين عاما ؟ ويضيف ثروت عكاشة, إنه صدق وعد ووعيد هذه المجموعة عندما ظهرت الصحف في صباح اليوم التالي دون إشارة إلى فوز الدكتور السنهوري بهذه الجائزة وأنه – أى ثروت عكاشة – حاول عبثا الاتصال بعبد الناصر ليخبره بذلك دون جدوى إلى أن وصل الخبر إلى محمد حسنين هيكل الذي حصل على موافقة عبد الناصر على النشر فنشرت جريدة الأهرام الخبر ولكن بصورة موجزة "

بعد عدة مشاوير بين جريدة الجمهورية حيث يعمل المرحوم مصطفي بهجت بدوي وبين إدارة الجوازات والجنسية,والمباحث العامة , وطلب مني اللواء صلاح حلمي أن أوصل تحياته لمصطفي بك, وأن أخبره بأن موافقة المباحث العامة على سفري قد صدرت ركضت إلى إدارة الجوازات لكن قيل لى إنه لم تصلهم هذه الموافقة لذا عدت أدراجي إلى إدارة المباحث العامة, إلا أنهم أكدوا لى إرسال الموافقة وأعطوني رقم الصادر فعدت إلى إدارة الجوازات وقدم لي أحدهم دفتر الوارد لأبحث بنفسي فيه عنها .

أثناء قيامي بالبحث في الدفتر اختطفه من يدي صول قائلا إن بيناته سرية رويت له القصة ووعدته , إن صدر لى جواز السفر والتأشيرة فسأعطيه كل ما في جيبي , وكان حوالي العشرين جنيها وكان ذلك مبلغا كبيرا جدا وقتها , أعاد الرجل إلىّ الدفتر وأصبح بذلك الممنوع مسموحا وبالفعل توجهنا سويا إلى الموظف الذي ما أن رأني حتى قال لى لقد أخبرتك قبلا أنه لم يصلنا بشأنك شئ من المباحث , لكن الصول أراه الدفتر كما أراه توقيعه بالاستلام وبالفعل وجد الموظف الموافقة وقد سقطت من الدرج واستقرت أسفل ( الكونتر ) ونتيجة لرجاء الصول صدر لى جواز السفر والتأشيرة في نفس اليوم .

بعدما حصلت على تأشيرة الخروج , ذهبت إلى المرحوم " مصطفي بدوي " لأشكره وسألني عن موعد السفر , فلما أجبته بأنه بعد أسبوع قال " أنت مجنون ؟" لو استطعت السفر الآن أفعل , أنا شخصيا لا أضمن البقاء على مقعدي هذا حتى الغد وقد كان إذ ذهبت إلى شركة مصر للطيران – وكانت تأشيرة سفري تحمل ختم م ط, وهو ما يعني لزوم أن يكون السفر على طائرتها – وعجلت موعد سفري ليكون بعد يومين .

وفي مطار القاهرة وبعدما أنهيت كافة الإجراءات المعتادة بما في ذلك وزن حقائبي جري النداء على اسمي , ليجري سؤالي عن كيفية حصولي على التأشيرة ؟

ثم طلب مني الانتظار لبعض الوقت فلا أصعد إلى الطائرة التي كان الركاب بدءوا في الصعود إليها, وبعد فترة حسبتها دهرا , سمح لى بالصعود إلى الطائرة وعند تحليقها في الجو نظرت إلى القاهرة من أعلي مودعا فكنت أنتوي ألا أعود إليها طالما بقي هذا النظام قائما .

وفعلا بقيت في الكويت لمدة أحد عشر عاما من عام 1960 إلى آخر عام 1971 لم أر فيها مصر, وكانت أمي – رحمها الله - إذا ما أرادت رؤيتي حضرت هي إلي .

وفي الكويت تبين لى أنه لا وجود للجماعة وإن كان يوجد بها إخوان لكنهم متفرقون حتي إن كمال حلمي – رحمه الله – عندما قابلته , قدم لى كل مساعدة ممكنة , بما في ذلك استخدام سيارته في تدريبي على القيادة , حتى أستطيع الحصول على رخصة قيادة لكنه كان غارقا بالكلية عن الحديث عن الماضي ,

كان عبد الناصر قد سحب البساط تماما من تحت أقدام الجماعة , لا في مصر وحدها ولكن في كل الدول العربية التي قمت بزيارتها فقد كانت الناصرية تستقطب الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج , كما كان يقال وقتها, حتى إن البدوي كان إذا ما نزل إلى الحضر ليشتري راديو , يطلب من البائع أن يضبط مؤشره على إذاعة صوت العرب.

الإخوان ومجزرة 1965

في أحد الأيام من شهر يوليو 1965 وعندما كنت أستمع إلى خطاب يلقيه عبد الناصر في موسكو , فوجئت به يعلن عن اكتشاف تنظيم سري جديد للجماعة أدركت عندئذ أن أفراد الجماعة سواء من كان منهم ما زال على ولائه لها , ومؤمنا بفكرتها, أو انفض عنها سيتعرضون إلى بلاء شديد ربما يكون أنكي مما تعرضنا له عام 1954 لأن مجرد وجود تنظيم للجماعة بعد كل الذي فعله بها معناه فشل رهانه على اجتثاثها والقضاء عليها.

وصدق ما توقعته إذ كانت الأنباء تتري عما يلاقيه أفراد الجماعة من تنكيل واضطهاد إذ أصدر عبد الناصر أمرا باعتقال كل من سبق اعتقاله أيا كان مسلكه في الحياة, وبغض النظر عما إذا كان ما زال علي إيمانه بفكرها أم لا !.. حتى إن الشرطة ذهبت لاعتقال أناس تبين لها أنهم توفوا من زمن ! واتصلت بأهلي في القاهرة للاطمئنان على أحوال ماهر ويوسف , وعلمت أنهما اعتقلا .

وكانت الصحف المصري القادمة من القاهرة – وكعادتها – تتحدث عن ذلك التنظيم بقدر هائل من المبالغات – أقل ما يقال عنها – أن كاتبها لا يحترم عقله كما لا يحترم عقول قرائه, من ذلك مثلا ما كان ينشر عن أن هذا التنظيم كان يستهدف قتل أم كلثوم وعبد الوهاب , ونسف القناطر الخيرية والكباري والمصانع ومحطات الكهرباء ومطار القاهرة ومبني التليفونات وبعض مراكز الشرطة ومبني المباحث العامة !

وكلها مهام تتطلب جيشا للقيام بها وأطنان من الأسلحة والمتفجرات مع أن كل أفراد التنظيم لم يكن يتعدي الخمسين شخصا وكل المضبوط مدفع رشاش واحد , والقضية كلها عندما تسني لى قراءة أوراقها كانت مجرد أحاديث ولقاءات .

ثم لماذا قتل أم كلثوم وعبد الوهاب ؟! تهريج والذي أعلمه أن المباحث العامة كانت ضد الكثير من الإجراءات التي اتخذها شمس بدران شخصيا في هذه القضية , وكان رأيها أن تنحصر الاعتقالات في حدود أفراد هذا التنظيم حتى لا يؤدي التوسع فيها إلى لمّ شمل الجماعة مرة ثانية .

وكان بطل هذه المذبحة هذه المرة هو شمس بدران الذي كان يتولي التحقيق والتعذيب بنفسه مع مجموعة من الضباط في سجن " أبو زعبل " وتميزت هذه المحنة هذه المرة بالتوسع في اعتقال وتعذيب السيدات فاعتقلت حرم المرشد العام رغم أنها كانت تبلغ السبعين عاما , كما اعتقلت شقيقته وكانت في هذا السن كذلك ! كما اعتقلت ابنتاه وشقيقتا سيد قطب وزوجة الشهيد محمد يوسف هواش .

ووالدة الشهيد سعد شوقي الذي استشهد في مذبحة ليمان طرة سنة 1957 , كما اعتقلت السيد علا البدري وكانت حاملا ووضعت مولدها في السجن, واعتقلت واحدة بعدما أو هموما أن زوجها المعتقل موجود في سيارة البوليس وإنه بوسعها أن تنزل لرؤيته فأغلقت الباب على أطفالها الأربعة وكان من بينهم رضيع وعند نزولها إلى الطريق اعتقلوها دون أن يسمحوا لها بإحضار ابنها الرضيع , وغيرهن كثيرات .

ولضآلة حجم التنظيم المكتشف فقد كثف شمس بدران من حجم التعذيب لعله يخرج بشئ يتوافق مع كل الضجة التي أثاروها بشأنه, وكان أحد ضحايا هذا التكثيف أحمد عادل كمال الذي من شدة التعذيب اخترع تنظيما سمي باسمه فلما تبين لشمس بدران عدم صحة اعترافاته عاد فعذبه لأنه كذب عليه ؟!

هزت مشاعرنا أنباء ما يلاقيه أفراد الجماعة في سجون عبد الناصر من تعذيب واضطهاد رغم أن أغلبهم لم يكن له نشاط سياسي على الإطلاق , وكان ذلك دافعا لأن يجتمع إخوان الكويت مرة أخري بعد طول تفرق , ويمكن القول إن إنشاء التنظيم الدولي للجماعة بدأت الدعوة إليه في تلك الأيام, إذ علمنا أن المرحوم حسن العشماوي دعي إلى اجتماع في الكويت لممثل الجماعة في عدد من الدول العربية ونزلوا ضيوفا عليه في بيته بعدما أخلاه من أسرته واستمر الاجتماع لعدة أيام , ذهب بعدها كل إلى بلدها.

وعدنا إلى تكوين الأسر وكان من نصيبي الانضمام إلى أسرة يرأسها الأخ محب المحجري متعة الله بالصحة إن كان حيا ورحمه الله إن كان قد انتقل إلى رحمنه فهذا هو قدرنا جميعا وأخذنا في عمل دعاية مكثفة ضد عبد الناصر , بكل الوسائل الممكنة من توزيع المنشورات ضده في مختلف دول العالم بكل اللغات وطبع كتب وتوزيعها , وكلها تتهمه بالديكتاتورية,

وتعذيب مواطنيه في الوقت الذي كان فيه متخازلا ضد إسرائيل , إذ كان يسمح لسفنها بالمرور من خليج العقبة تحت مرمي مدافع قواتنا المعسكرة في جزيرتي صنافير وتيران , وهما جزيرتان كانتا في الأصل سعوديتين وسلمتهما السعودية إلى مصر باعتبارها الأقدر على منع إسرائيل من المرور من خليج العقبة !! وهي حقيقة كانت غائبة عن عامة الناس وسط ضجيج الإعلام الناصري .

ومن عجب أن عبد الناصر الذي أقام الدنيا ولم يقعدها لاكتشافه هذا التنظيم السري العام 1964 يسمي التنظيم الطليعي ويقول ثروت عكاشة عن هذا التنظيم : " إنه عندما فاتحه عبد الناصر في إنه يزمع تكوين تنظيم سري طليعي , وعهد إليه بتكوين خلية ممن يتوسم فيهم الوطنية لم يخف دهشته لمثل هذا الإجراء الذي رآه يقلب الأمور رأسا على عقب باعتبار أنه من المألوف أن تنشئ القاعدة – لا السلطة – مثل هذه التنظيمات السرية "

هزيمة 1967

في خطوة حمقاء تؤكد انفصال عبد الناصر عن الواقع الذي أفرزه نظامه , خاصة في القوات المسلحة – التي تحولت من جيش محترف إلى قوة مسلحة مهمتها الرئيسية حماية النظام – أغلق خليج العقبة في وجه السفن الإسرائيلية.

وبدأت نذر الحرب تلوح في الأفق وتأكد لى أن إسرائيل لن تضيع هذه الفرصة في كسر مصر, التي كانت تمثل القيادة الفعلية للعالم العربي , إذ كانت معظم قوات الجيش المصري المتمرسة على القتال موجودة في اليمن وهي فرصة يستحيل أن تتكرر مرة أخري أمام إسرائيل .

عند نشوب الحرب كنت في بيروت, وفي مساء اليوم الرابع من يونيو زرت " أبو المكارم عبد الحي في منزله ووجدت عنده عددا من الزائرين أذكر منهم مدير البنك العربي فرع صيدا وكان من الطبيعي أن يدور الحديث حول احتمالات الحرب , وكان هؤلاء في غاية الحماس والتفاؤل حتى إنه كان هناك إجماع فيما بينهم على أن نهاية إسرائيل ستكون في هذه الحرب.

لذا كان رأيي صادما لهم حتى إنهم كادوا يعتدون على فما كان من " أبو المكارم " إلا أن احتضنني وسار بي إلى باب شقته وأغلقه خلفي , دون أن يقول كلمة واحدة .

في صباح اليوم التالي كانت الحرب قد وقعت فتوجهت إلى مكتب " أبو المكارم عبد الحي " في باب إدريس ببيروت وانضم إلينا ضابط سوري مطرود من الجيش السوري , ونشر أبو المكارم خريطة لفلسطين وسيناء

وبدأنا في متابعة حركة الجيوش على الخريطة وفق ما كانت تذيعه محطات الإذاعات الأجنبية وخاصة الـ " بي بي سي " وإذاعة مونت كارلو وغيرهما وبدأت الحيرة على وجه " أبو المكارم " فقد كان خبيرا بجغرافية فلسطين وسيناء وحوالي الساعة الرابعة عصرا طوي خريطته معلقا على الأحداث بأنها غير مطمئنة وانصرف وانصرفت معه كل إلى حال سبيله .

وكان الضابط السوري قد انصرف قبل ذلك عندما سمع من إذاعة لندن بي بي سي " نقلا عن الإذاعة السورية , أن مدينة صفد محاصرة من الجيش السوري وأنها بسبيلها إلى السقوط قائلا " بدأنا الفشر يبدو أن المسألة لن تنتهي على خير ".

كان وقع الهزيمة على شديدا لدرجة أنني شعرت بآلام شديدة في كتفي الأيسر , وظل هذا الألم يلازمني كلما حركت يدي اليسري لعدة أشهر , وأكد الطبيب أنه ألم عصبي , أخبرني أبو المكارم أن ضيوفه يوم الرابع من يونيو يودون رؤيتي لمعرفة الأسباب التي على أساسها كونت رأيي الذي كان صادما لهم, إلا أنني اعتذرت , وكما قلت له أكره الغباء والأغبياء وعدت إلى الكويت حالما فتح المجال الجوي للطيران المدني وتغيرت نظرة الكويتيين إلينا تماما فمنذ ذلك التاريخ اختلف التعامل مع المصريين في الكويت .

لقد كانت هزيمة 1967 , نتيجة حتمية لحكم الفرد فسلبيات حكم الفرد كثيرا ما تفوق إيجابياته , فلا أحد ينكر – مثلا – ما قدمه " هتلر " لألمانيا في كل المجالات , حتى إنه استطاع في فترة قصيرة نسبيا أن يستعيد لألمانيا عافيتها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولي وأن يكون لها جيش يتحدي به العالم فيلقي باتفاقية فرساوي في صندوق القمامة لكن قراراته الخاطئة التي لم يجرؤ أحد ممن كانوا حوله مناقشته فيها ذهبت بكل هذه الإنجازات سدي , وألحقت بألمانيا هزيمة أسوأ من هزيمتها في الحرب العالمية الأولي .

كذلك من أفدح مساوئ حكم الفرد أنه من أجل البقاء في الحكم طوال حياته فإنه يقدم أهل الثقة على أهل الخبرة وهو ما تترتب عليه كوارث , إذ كثيرا ما يكون هؤلاء على غير المستوي المطلوب لمواجهة الأحداث التي قد يكون بعضها خطيرا يمكن تدارك نتائجه والغريب أن عبد الناصر كان على علم بهذه الحقيقة

ورغم ذلك فلم يحاول كسر هذه القاعدة إذ يقول ثروت عكاشة : " إنه بعد هزيمة 67 قابل عبد الناصر , وإنه قال له " إني أعلم أن قائد البحرية كان ملكا غير متوج في الإسكندرية , وأن ثمة مجموعة تتطلع إى الحكم وهناك قائد الطيران الذي كان ليلة الحرب مساء الأحد في سهرة عشاء بأنشاص دارت فيها كؤوس الخمر حتى الفجر , وإذا الاعتداء على المطارات يقع في التاسعة صباحا .

السؤال الذي لا يجيب عليه أى ديكتاتور هو لماذا يعتبر أن الحكم وقف عليه وحده دون سائر مواطنيه مهما بلغت ثقافتهم أو تجربتهم, بحيث يعتبر تطلع غيره إلى الحكم خطيئة تستوجب التشهير والعقاب ؟ وحتى أصبح اتهام أى شخص بأنه طامع في الحكم من قبيل الاتهام الذي يستوجب النفي والتنصل منه ؟! ولكن ما يجرؤ أصلا على توجيه هذا السؤال إلى الديكتاتور ؟

لقد كانت لعبد الناصر إيجابياته التي لا تنكر , فقد كان طاهر اليد, ولم يترك مالا أو عقارا وأعتقد إنه استطاع وإلى حد كبير’ أن يفرض هذه العفة على المحيطين به , وكان منحازا إلى الفقراء , واستعاد لمصر اقتصادها بعدما كان في أيدي الأجانب ,

وحاول تصنيع مصر وحقق في هذا الخصوص نجاحا لا بأس به تبدت آثاره في المصانع العديدة التي تركها خلفه , وبددها بعده من كانوا أكثر سوءا من المحتل الأجنبي , ورفع اسم مصر عاليا إذ مثلت القيادة الفعلية للمنطقة منذ عام 1956 وحتى منتصف عام 1967 كما كانت عونا لكل حركات التحرر من الاستعمار في أفريقيا كل هذا لا يمكن إنكاره .

ولكن انفراده بالقرار شأنه في ذلك كل الديكتاتوريين ألحق بمصر هزيمة مذلة وأحسب أنه لو كان بجانبه من يملك القدرة على مناقشته بكل حرية وبغير خوف ربما لكان قد تغير مصير مصر , بل ومصير المنطقة بكاملها, إذ كان قراره بإغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية في ذلك التوقيت الذي كانت فيه أغلب قوات الجيش في اليمن وبغير إعداد مسبق لمثل هذا القرار الخطير في تداعياته كارثيا بكل معني الكلمة .

كذلك كان قراره بأن تتلقي القوات المسلحة المصرية الضربة الأولي بدلا من أن تبدأ هي الحرب التي كان متأكدا من وقوعها وفي 5 يونيو تحديدا كما قال كي لا تتدخل أمريكا في الحرب إلى جانب إسرائيل , قرارا خاطئا ويفتقر إلى التحليل السليم لأنه من أين له العلم بحجم الخسائر التي ستتخلف عن الضربة الأولي ؟ ثم هل كان يتصور أن قرار تدخل أمريكا بغير احتجاج؟

أليس فينا من يجرؤ على أن يقول لا ؟ لم يجد الرجل ما يقوله , سوي أن نصحني بالحيطة والحذر لأنه لمس من حديث القنصل معه عن الواقعة حنقا شديدا مما قلت , وأنه يتوعدني , وكان مما نصحني به ألا أفتح بابي لأي طارق قبل أن أتأكد من شخصيته وألا أسير في مكان غير مطروق بمفردي. وشكرته وانصرفت ولعل هذه النصائح , وما كان يتردد وقتها عن شحن بعض المعارضين في صناديق إلى مصر , يعطي فكرة عن طبيعة النظام الذي كان يحكمنا, وأى أثر يمكن أن يتركه هذا النظام في نفوس الناس.

بعد أيام من تلك الواقعة طرق بابي موظف من وكالة أنباء الشرق الأوسط وكان مكتبها يقع في نفس العمارة التي أقطن فيها, وقال لى إن مدير الوكالة يريد زيارتي فرحبت بالزيارة وقتما يشاء فقال إذن هو سينزل إليك .

انزعجت زوجتي المرحومة عفاف النمر لهذه الزيارة وأوصتني بضبط النفس , وعدم الانفعال , ووقفت في الطرقة تستمع إلى الحديث وجاء الضيف معللا زيارته لى , بأنه عرف أنني صديق للصحفي رجاء مكاوي الذي ترك أخبار اليوم للعمل في الخليج, وأنه يريد أن يطمئن مني على أحواله أجبته بما أعرف عن أحوال رجاء وسرعان ما أخذنا الحديث إلى الهزيمة وما خلفته من آثار على مصر بل وعلى المنطقة بأسرها , وأسمعته ما يكره , مما جعل زوجتي في حالة سيئة, لقد دفعنا من حرياتنا ثمنا باهظا من أجل تحقيق النصر , فلم نحصل لا على النصر ولا على الحرية !.

بقيت مشكلة انتهاء صلاحية جواز سفري قائمة, وكان من الضروري إيجاد حل لها كي أستطيع البقاء في الكويت , وقد حاول بعض الأصدقاء ممن على علاقة بالقنصل , أن يقنعوه بتجديده إلا أنه أخبرهم أن التعليمات صدرت بوجوب تجديده من القاهرة أسقط في يدي وهكذا تضاعفت غربتي في بلاد الغربة , ولكن سرعان ما أتاني الحل من المرحوم حسن العشماوي الذي تحصل لى على جواز سفر أردني .

دفعت الهزيمة عبد الناصر إلى أن يحدث قدرا من الانفراج في الحياة السياسية في مصر فأخذ في الإفراج عن المعتقلين من الإخوان الذين توجه عدد كبير منهم إلى الكويت فكان إخوان الكويت يعدون لهم المأوي , ويبحثون لهم عن أعمال , وكان من بين القادمين للكويت يوسف أمين عبده, وماهر حتحوت ليعملا كطبيبين بها ,

وكذا المرحوم حسن عبد الغني الذي كان ملاكا يسعي على قدمين, كان أصغر مقاتل في فلسطين ونزل من ميدان القتال إلى معتقلات النقراشي في عام 1949 , ثم أفرج عنه في عام 1951 , ليعيد عبد الناصر اعتقاله مرة ثانية في عام 1954 , ثم يفرج عنه في عام 1956 , ليعيد عبد الناصر اعتقاله للمرة الثالثة في عام 1965 , ليفرج عنهم في عام 1968 .

وأخبرني رحمه الله أنه في الاعتقال الأخير تعرض لتعذيب شديد في سجن أبي زعبل , بواسطة شمس بدران, الذي كان يعذبه بنفسه , وأنه في إحدي المرات علقه من يديه عاريا في إحدي البوابات الحديدية كل ذلك لدوره في حرب فلسطين وفي معركة القناة , مما دفعه إلى الشك, مجرد شك, في أن يكون له دورا فيما عرف بتنظيم سيد قطب ويأتي حسن عبد الغني إلى الكويت في العام 1968 ليعمل بها محاميا في مكتبنا, ليموت فيها بسرطان القولون , وبغير مبالغة فقد خرجت الهيئة القضائية كلها قضاة ومحامون لتوديعه الوداع الأخير في رحلته الأخيرة إلى القاهرة .

وبلغ الحقد بعبد الناصر على الإخوان أنه رغم الهزيمة , لم يفرج عن أى من مسجونيهم رغم أن محاكماتهم التي أدينوا فيها كانت لا تمت إلى المحاكمات بصلة, سواء أكانت محاكمات 1955 أو 1965 فقد كانت مهازل أطلق عليها زورا اسم المحاكمات وإلا فأي محكمة هذه التي يطلب فيها ( القاضي ) من المتهم أن يقرأ الفاتحة بالمقلوب ؟!

بل بلغ به الحقد على الجماعة إلى الحد الذي لو وضعت فيه مصلحة الوطن في كفة ووضع حقده عليهم في الكفة الأخري لرجحتها في نظره, إذ يقول الفريق طيار مدكور أبو العز في مذكراته أنه بعد هزيمة 1967 عهد إليه عبد الناصر بمهمة إعادة بناء السلاح الجوي من الناحيتين المعنوية والمادية ,

وكان وقتها يشغل منصب محافظ أسوان وأضاف أنه أثناء أدائه لمهمته فوجئ يطلب من عبد الناصر باستبعاد عدد من الطيارين الأكفاء من المشاركة في هذه المهمة وبالاستفهام منه عن السبب أجابه بأنهم من الإخوان المسلمين فلما أكد له عدم صحة هذه المعلوم قال له الحقيقة أن لهم أقارب من الإخوان المسلمين وإن هذه الجماعة أسوأ من اليهود ..

ويقول مدكور أبو العز إنه نجح عن طريق وساطة يحاوره اللواء الشريف في إقناعه بالعدول عن هذا الطلب , وهو ما يعني أن تغليب مصلحة الوطن على المشاعر الشخصية لعبد الناصر تجاه الجماعة كانت مسألة محل نظر منه حتى في تلك الظروف العصيبة .

الإخوان والمقاومة

رغم الجراح التي كانت الجماعة مثقلة بها, فقد رأوا المشاركة بكتيبة في المقاومة الفلسطينية المنطلقة من الأردن ولكن تحت راية منظمة فتح لأن عبد الناصر كان يضع ( فيتو) عليهم .

وأنه لهذا السبب ظل مترددا في مد يد المساعدة إلى فتح بظن أن قيادتها تخضع للجماعة فلما أيقن أن الأمر ليس كذلك قبل بالتعامل معها , وهو ما أكده " محمد حسنين هيكل " الذي قال إنه هو الذي قدم ياسر عرفات إلى عبد الناصر مؤكدا له أن الرجل مستقل في قراراته , وأن عضويته السابقة في الجماعة انقطعت منذ زمن ولم يعد لها أى تأثير على قيادته لمنظمة فتح ورغم ذلك فالذي أعرفه يقينا أن السفارة المصرية في عمان أو بالأحرى المخابرات المصرية كانت تتبع بدقة تحركات الجماعة في الأردن, والتحقق من حجم مساهماتهم في أعمال المقاومة وكتابه التقارير إلى القاهرة عن كل ما يتعلق بهذا الموضوع.

طلبت من عبد العزيز على المشاركة في عمل هذه الكتيبة للمدة التي تسمح بها ظروفي العائلية فإن استشهدت فتكون أسرتي في رعايته سبحانه وتعالي , فقد كان لى في ذلك الوقت ثلاثة أطفال, هم إيناس الطبيبة بالكويت حاليا , وخالد أستاذ القانون بجامعة " لوس أنجلوس " حاليا وطارق رجل الأعمال في أمريكا حاليا,, وإن عدت كسبت ثوان المشاركة في الجهاد .

سافرت إلى الأردن حيث قضيت ليلتي الأولي فيها في منزل يقع في جبل الحسين وعمان لمن لا يعرف , تتكون من سبعة جبال, والتقيت في هذا المنزل بعدد من الإخوان من دول متعددة وأخبرنا أننا بعد صلاة الفجر ستأخذنا السيارة إلى معسكر التدريب , وفي منتصف الليل جري إيقاظنا جميعا ,

وأخبرنا همسا أن المنزل سيتعرض للهجوم , وأن على كل منا أن يأخذ سلاحا ويتخذ له موقعا للدفاع وظننته نوعا من التدريب , إلا أنني عندما نظرت إلى الطريق العام وجدت أنواره مطفأة , كما شاهدت أفرادا يختبئون خلف أشجاره بأسلحتهم بل إن أحدهم كان يقبع فوق أحد هذه الأشجار ومعه سلاحه.

بعد فترة من التوتر , أضيئت أنوار الطريق وخرج المسلحون من أماكنهم واستقل الجميع ثلاث سيارات انطلقت بهم بعيدا وعلمنا في الصباح أن كل ذلك بسبب اجتماع كان يعقده " جورج حبش " مع بعض أفراد منظمته , في المنزل المجاور للمنزل الذي كنا فيه, ولم أشعر بالارتياح لما شاهدت إذ كان موكبه أشبه بمواكب المسئولين الأردنيين وهو ما كان يثير حفيظتهم بالقطع

وأحسب أن هذه التصرفات وأمثالها كانت إحدي الأسباب التي أدت إلى الصدام الذي حدث في شهر يوليو لعام 1971 , والمسمي " بأيلول الأسود" وأذكر أنه في هذه الفترة كثيرا ما كان الملك حسين يتجول بمفرده في سيارته حتى إن أحد الإخوة الأردنيين روي لى أنه حال انتظاره في الطريق العام لركوب إحدي وسائل النقل توقفت أمامه سيارة وسأله قائدها إلى أين تريد الذهاب ,ولما ركب بجانبه تبين له أنه الملك حسين !..

وأعتقد أن هذه السياسة كانت تهدف إلى أن يوثق الملك علاقته بالشعب , استعداد ليوم الصدام المرتقب مع المنظمات الفلسطينية لطردها من الأردن .

في اليوم التالي حملتنا السيارة إلى معسكر التدريب الواقع في منطقة الأزرق وهي منطقة تبعد حوالي 30 كيلو مترا عن بلدة الزرقاء وهي وإن كانت منطقة نائية إلا أنها من أجمل المناطق التي يمكن مصادفتها في حياتك فالمنطقة تجمع بين الجبلية , والصحراوية والزراعية وبها مجموعة بحيرات لم أشهد مثلها في حياتي من حيث صفاء المياه فقد كانت, وبدون مبالغة في لون الفضة , كما وإنها كانت تحتوي على مجموعة نادرة من الطيور لذا كانت من مناطق الصيد التي يأتي إليها الصيادون من البلاد المجاورة .

وبالذات من لبنان وكنا إذا ما ألقينا في مياهها بإصبع ديناميت تطفو على سطحها كميات كبيرة من الأسماك إلا أن التعليمات صدرت بعدم استعمال هذه الوسيلة لصيدها, وكانت مياهها دافئة رغم برودة الجو, إذ كنا في شهر يناير, وكانت بالمنطقة كذلك عين مياه حارة تستخدم في علاج الروماتزم, ويقطن المنطقة مهاجرون من شيشانيا هربوا من الاضطهاد الشيوعي كما كانت بها بعض المزارع .

كنا في المعسكر خليطا من دول متعددة ,وأعجب أنه كان من بين أفراده أفراد قادمين من مصر ؟! وكان كل منا يتعامل بغير اسمه الحقيقي, وخضعنا في المعسكر للتدريبات المعتادة لتوفير اللياقة البدنية, وكانت هذه التدريبات تصيبني بإجهاد شديد بحكم السن , وبحكم حياة الدعة التي كنت أعيشها في الكويت ,

وتدربنا على أنواع من الأسلحة لم تكن معروفة لنا في فترة الخمسينيات من ذلك البندقية الكلاشينكوف ورشاش الديكتيريوف ومدفع الجرينوف المضاد للطائرات على الارتفاعات المنخفضة وقاذف الآربيجي وكانت مدة المعسكر خمسة عشر يوما انتقلنا بعدها من أقصي جنوب المملكة إلى أقصي شمالها في المنطقة التي تعرف بتلة سعد ( والمقصود هو سعد بن أبي وقاص ) وهي منطقة في الأغوار قريبة من قرية الشونة الشمالية وتقع على الضفة الغربية لنهر الأردن وبمحاذاته .

كانت بيوت المنطقة بكاملها مهجورة لذا توزعنا على عدة منازل منها وبعد صلاة العشاء قمنا بطابور ليلي للتعرف على المنطقة , وصادفنا في طريقنا سيارة نصف نقل تحمل مدفع هاون وقام راكبو السيارة بإطلاق ثلاث قذائف على المواقع الإسرائيلية التي تقع غرب النهر ثم أنطلقوا بالسيارة مبتعدين عن المكان مضينا في طريقنا حتى وصلنا إلى قاعدة للجيش الأردني وما أن ألقينا عليهم السلام, وردوا علينا بعبارة مرحبا بالشيوخ حتى انطلقت من الجانب الإسرائيلي عاصفة من الصواريخ تمسح المنطقة مسحا ردا على تلك القذائف الثلاث.

تفرقت مجموعتنا كل في جهة يبحث له عن ملجأ ودخلت أنا في ماسورة صرف صحي كانت مختفية تحت الأرض ولا يظهر منها سوي فتحتها , ودخل معي رقيب من الجيش الأردني , أتلف أعصابي باستغاثاته المتلاحقة من جهاز اللاسكي الذي كان يحمله محادثا مدفعية الجيش الأردني المتمركزة في الخلف كي تفتح نيرانها على مصادر النيران الإسرائيلية لتخفف الضغط عن المنطقة .

توقف القصف , ولأنني كنت أعلم من المحاضرات التي استمعنا إليها في معسكر التدريب أنه سيعود ليستأنف مرة أخري , إذ يعتمد اليهود هذا الأسلوب على أمل أن يخرج المختبئون من مخبائهم فتصيبهم الضربات اللاحقة لذا ناديت على أفراد مجموعتي للالتحاق بهم حيث يختبئون فوجدت نفرا منهم في خندق مجاور, فزحفت حتى وصلت إليه وعندما هممت بالنزول إلى الخندق شعرت بما يمسكني من الخلف ويحول بيني وبين القفز إلى داخله , ومع استئناف القصف الصاروخي نزعت نفسي بقوة ونزلت إلى الخندق , وتبين بعد ذلك أن هذا الذي كان يمسكني هو سيخ حديد اخترق ( البنطلون ) وهو ما أدي إلى تمزقه عندما نزعت نفسي بشدة للنزول إلى الخندق .

بعد انتهاء القصف عدنا إلى قاعدتنا وبعد تناول طعام العشاء جري توزيع نوبات الحراسة وكان الحراس يقبعون في حفر برميلية ومع كل منهم رشاشة الكلاشينكوف وعدد من خزن الذخيرة بالإضافة إلى بعض القنابل اليدوية وفي الصباح وبعد صلاة الفجر قمنا بدراسة المنطقة , ثم توجهنا إلى قرية الشونة الشمالية ,

وكانت تعسكر فيها مجموعة من مقاتلي الجبهة الشعبية وتوجهنا إلى مسجد القرية المهجورة تماما وصادفنا في طريقنا العديد من الحفر التي أحدثتها الصواريخ الإسرائيلية وكان قطر بعضها يصل إلى ثمانية أمتار , مما يعطي فكرة عن ضخامة الصواريخ المستخدمة.

بكي خادم المسجد إذ كانت هي المرة الأولي التي يدخل إليه هذا العدد من المصلين وصممت أن أؤذن لصلاة الظهر من علي المئذنة وكان هذا أول أذان يرفع منها طوال الأشهر الماضية وتطلع إلى مقاتلو الجبهة الشعبية بشئ من الدهشة وكنت أري المئذنة الآليات الزراعية لليهود وهي تعمل في المزارع ومن المشاهد التي أثرت في كثيرا مشهد مدرسة القرية وقد تناثرت فيها الكتب الدراسية الممزقة , ومقاعد الدراسة المحطمة وقد كتب أحد التلاميذ على السبورة كلمة " عائدون ".

كنا بعد صلاة الفجر نذهب إلى المزارع الواقعة على ضفة النهر لنختبئ بين أشجارها ومعنا بندقية قنص , وكنا نعرف ما إذا كان الجندي الذي جري قنصه أصيب أم لا, من صوته فإن علا صوته بالصراخ , أدركنا أنه أصيب وإلا فإنها طلقة طائشة وكان يعقب كل عملية قنص إطلاق نار كثيف من رشاشات العدو تمسح أشجار المنطقة مسحا,

وفي أحد الأيام لم يكتف العدو بإطلاق رشاشاته وإنما قصف المنطقة بمدفعيته ثم ظهرت طائراته في السماء وخشينا أن يجري عملية إنزال جوي خلفنا فانسحبنا محاذرين الاصطدام بأية شجرة لأن أى حركة للأشجار كانت كفيلة بقصفها بالرشاشات وعندما وصلنا إلى نهاية المنطقة المزروعة بالأشجار , وكان علينا عبور هذه المنطقة المكشوفة رأينا الانتظار حتى يحل المساء , وكان طعامنا من البرتقال خلال هذه الفترة وطبعا لم نجد من ندفع من ندفع له ثمن ما استهلكناه منه وكنا نرتدي خلال هذه العمليات جلاليب المزارعين فوق ملابسنا كما كنا نحتفظ بالسلاح تحت هذه الجلالبيب أما القنابل اليدوية فكانت في سلال مما يحمله المزارعون .

ظلت الأمور تجرى مع فصيلتنا على هذا النحو نتوجه بعد صلاة الفجر لنتخذ موقعا على الضفة الشرقية من نهر الأردن.

نحاول أن نقنص منه من نتمكن من رصده من جنود العدو إلى أن قررت قيادة كتيبة الإخوان نقل العمليات إلى داخل الأراضي الفلسطينية وهو ما كان يتطلب عبور النهر وتجنب حقول الألغام , وهو ما يحتاج إلى نوعية معينة من المقاتلين على مستوى عال من التدريب والقوة الجسدية لذا جري إعادة التقييم لأفراد كل الفصائل

وكنت من بين من طلب منهم العودة إلى الأماكن التي أتوا منها فعدت إلى الكويت وحملت معي عند عودتي لأولادي بعضا من آثار تلك المرحلة من حياتي عبارة عن طلقات حية , وأخري فارغة وبعضا من شظايا الصواريخ التي أطلقت على فصيلتنا وكان نقل هذه الأشياء في الطائرات أمرا ميسورا في ذلك الوقت ,

إذ لم تكن قد استخدمت بعد معدات الكشف عما في داخل الحقائب وتجدر الإشارة إلى أنه كان من بين شهداء هذه النوعية الجديدة من العمليات الشهيد صلاح حسن وعدد كبير من الإخوة الفلسطينيين والسوريين .

لكل أجل كتاب

أثناء وجودي بالأردن وصلتنا أنباء تفيد أن الطيران الإسرائيلي شن غارة على أحد معسكرات الجماعة فدمره بصورة كاملة وأن أحد لم يقتل أو يصاب باستثناء فرد واحد أصيب بجروح خطيرة نقل على أثرها إلى مستشفي في عمان !.

وتبين فيما ورد بعد ذلك من أنباء أنه كان قد تقرر التبكير بطابور الصباح الذي يجري خارج المعسكر في التلال المحيطة به, ساعتين عن موعده المعتاد لإخلائه من المقاتلين لتتمكن مجموعة من النساء من التدريب على إطلاق النار بحيث لم يبق فيه سوي حارس البوابة المصاب.

ولسبب غير معروف , تأخر وصول الفوج النسائي لذا كان المعسكر خاليا عندما شنت الطائرات الإسرائيلية تلك الغارة عليه, تم العثور بين الأنقاض على طلقة حية عيار 30 مم من التي تستخدمها رشاشات الطائرات ونقلت مع ما نقل إلى المعسكر الجديد حيث وضعت لأيام على إحدي طاولات الطعام قائمة على قاعدتها. وذات يوم وبينما كان أحدهم يضع على الطاولة وعاء به طعام , انقلبت الطلقة على جانبها فانفجرت وقتلت مقاتلين !

وقد قابلت الحارس المصاب في الغارة الإسرائيلية بعد أجري عدة عمليات جراحية وكان يتماثل للشفاء وأخبرني أنه أخذ من إحدي معسكرات الجيش المصري أثناء انسحابه في حرب 67 عدة صناديق من القنابل اليدوية ودفنها هو وإخوانه في إحدي بساتين البرتقال وأنه يفكر في التسلل إلى غزة لإحضارها ولا أدري ما الذي فعله بعد ذلك.

لذلك قال الشهيد حسن البنا عندما سئل هل تخاف الموت " مم أخاف , أمن يوم لم يقدر علي فيه فلن أموت فيه , أم من يوم قدر على فيه الموت فلا مناص من الموت فيه ".

بعد عودتي إلى الكويت تلقينا نبأ استشهاد " صلاح حسن " في إحدي المعارك في الأردن فنعيته في الصحف الكويتية بالنيابة عن الجالية المصرية , مؤكدا في النعي أن دماء الشهداء تؤكد رفض الشعب المصري للمشاريع الاستسلامية , ملمحا إلي قبول عبد الناصر لمشروع روجرز , إذ لم نكن نردك وقتها أن قصده من قبوله له كان مجرد الحصول على فترة يلتقط فيها الأنفاس لبناء حائط الصواريخ ولكن كان تصرفي في ذلك الوقت انعكاسا لافتقاد الثقة في عبد الناصر بعد تلك الهزيمة المروعة .

وكان هذا التصرف مني هو ما دفع السفارة المصرية إلى توجيه الدعوة إلى المصريين العاملين في الكويت للاجتماع لتأسيس رابطة الجالية المصرية تكون هي المتحدث الوحيد باسمهم حتى تقطع الطريق على من يمكن أن يتحدث باسمهم بما يخالف توجهات النظام رغم عودتي من الأردن فكنت كيري يتابع ما كان يحدث على أرضها التي كانت تمثل قاعدة للعمل الفدائي ضد إسرائيل معجبا ومؤيدا تارة , وناقدا وقلقا تارة أخري لأعمال كنت أراها تمثل عبئا على العم الفلسطيني, يضر أكثر مما يفيد , إن كانت له فائدة أصلا’ مثل عمليات خطف الطائرات وتحويل وجهتها إلى الأردن ثم تدميرها هناك , كنت أرى أن هذه العمليات وأمثالها , وبعضها مما رأيته بنفسي , لا يمكن لأية دولة ذات سيادة أن تتحمله ,

وأذكر أنني قبل عودتي إلى الكويت ألقيت محاضرة في إحدي القواعد على شباب الإخوان قلت لهم فيها إن العمل الفدائي سيتوقف وإن تحرير فلسطين سيأخذ أجيالا ولكن إياكم واليأس,وصدق ما توقعته وتوقعه جميع من كانوا أدري بالشأن الفلسطيني مني ومن كتاب وصحفيين وإذ كثيرا ما نشرت في تلك الأيام مقالات , وخاصة في الصحف اللبنانية كالحياة والنهار والحوادث وغيرها ، تدعو الفلسطينيين إلى مراجعة النفس , وتغير الخطط ولكن دون جدوى حتى وقع صدام ما عرف " بأيلول الأسود " يوليو الأسود – وكان من نتيجته خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن بالكامل لتستقر بعد ذلك في لبنان , وترتكب نفس الأخطاء بما انتهي إلى طردها منه وهكذا يبدو أننا جميعا لا نتعلم من أخطائنا .

العودة إلى مصر

بعد وفاة عبد الناصر بعدة أشهر دعا مستشار السفارة المصرية في الكويت كل المصريين ممن لهم مشاكل مع الحكومة إلى الاجتماع به لحلها , بمن في ذلك من أسقطت عنهم الجنسية المصرية , وقابلت الرجل وكان مهذبا غاية التهذيب وهو أمر غير مألوف في تعامل المصري مع سفارته, فقد كنا في ذلك الزمان ننادي موظف الأمن في السفارة بسعادة البك , فما بالك بمستشار السفارة ؟!

وجري تجديد جواز سفري, ولما رآني متخوفا من النزول إلى مصر, أعطاني , كما فعل مع غيري رقم هاتفه الخاص لأتصل به فيما لو تعرضت لأية مشاكل عند نزولي إليها؟

رغم ذلك نزلت إلى مصر مستخدما جواز سفري الأردني ولما رأيت شوارع القاهرة بعد غيبة أحد عشر عاما سالت الدموع من عيني تأثرا ورغم ذلك لم يفارقني الإحساس بالاغتراب خاصة وقد سألت عن بعض الأحباء فوجدت أن منهم من مات مبكرا مثل الأخ " عصمت عبد الحليم " الذي مات بالتهاب الكبد الوبائي ومنهم من غير مكان سكنه وتعذر على الاهتداء إلى مسكنه الجديد.

ومرة أخري تفرق شكل ثلاثتنا فقد عاد يوسف أمين عبده ليعيش في مصر بعدما زالت مخاوفه مكفئا على ذاته, قاطعا كل صلة له بالشأن العام وهاجر ماهر حتحوت إلى أمريكا , ليشق طريقه فيها , غير بعيد عن العمل العام, إذ بجانب ممارسته لمهنة الطب , تطبيبا وتدريسا رأس أحد المراكز الإسلامية في " لوس أنجلوس " ثم رئيسا فمستشارا لـ ( إمباك ) وهي ( لوبي ) للضغط السياسي , من أجل القضايا العربية والإسلامية وبقيت وحدي في الكويت .

ولظروف خاصة , انقطعت صلتي التنظيمية بالجماعة منذ عام 1973 , بعدما ذهبت إلى أمريكا للدراسة , وبقيت فيها عاما ثم أرغمتني ظروفي العائلية على العودة دون استكمالها إذ كان أولادي في حاجة ماسة إلى وجودي بجانبهم في مرحلتهم العمرية تلك , وكان ذلك العام هو نهاية صلتي التنظيمية بالجماعة .

اللقاء الأخير بالمباحث العامة

في عام 1981 كنت أتردد كثيرا على القاهرة,بمعدل مرة كل شهر , وذلك للاطمئنان على أحوال ابنتي المقيمة بمفردها فيها لاستكمال دراستها في كلية طب جامعة القاهرة ولحل ما قد تصادفه من تعقيدات إدارية وهي تعقيدات تتفنن الإدارة المصرية في خلقها لمواطنيها , مما يبدد قدرا كبيرا من وقتهم وطاقاتهم فيما لا طائل من ورائه !

وكانت المباحث العامة تبعث في طلبي لمقابلة أحد ضباطها , لكن الطلب كان يتصادف أن يصل كل مرة بعدما أكون قد عدت إلى الكويت لكن في هذه المرة تسلمت الطلب بنفسي وكان على أن أقابل ضابطا لم أعد أذكر من اسمه سوي أنه " جمال بك" وذلك قبل سفري , ولما كنت سأغادر في صباح اليوم التالي فقد توجهت إلى مبني المباحث العامة في لاظوغلي فور استلامي الاستدعاء ,

ولا أذكر هل كان اسمها في ذلك الوقت ما زال المباحث العامة أم أنه تغير إلى مباحث أمن الدولة اقتادني أحد الأفراد إلى غرفة بأحد الأدوار العليا بالمبني لأواجه التصرف السخيف الذي يصرون على التعامل به مع كل قادم إليهم وهو تركه منفردا في غرفة لمدة طويلة من الوقت وفي هذه المرة أبقوا معي في الغرفة مخبرا لا يفعل شيئا ولا ينطق بكلمة أسلوب سخيف بل غبي إذ لم يكن يقتضيه السبب الذي استدعوني من أجله إلى هذه المقابلة , وكأنهم يأبون أن يدخل أحد إلى هذا المبني ويخرج منه بمشاعر طيبة نحوهم حتى لو كان هذا الأحد لم يفعل ما يستوجب منهم هذه المعاملة.

مر الوقت بطيئا وبعد مدة أحسبها طويلة أو هكذا كان إحساسي بها جاء " جمال بك" قائلا على فكرة " لو لم تأت اليوم لأنزلتك من الطائرة " واقتادوني إلى مكتبة ليجري بينا الحوار الآتي :

قال : أعرفك بنفسي أنا المسئول عن نشاط جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة , وأريد أن استفسر منك عن بعض الأمور .

قلت  : أعجب أنكم لا تعرفون أنني لم أعد أنتمي منذ زمن إلى الجماعة .

قال : أنت أول شخص أقابله من الإخوان وينكر صلته بها عهدي بالإخوان أنهم على قدر كبير من الشجاعة والاعتزاز بالانتماء إليها .

قلت : أنا لا تنقصني الشجاعة ,ولو كنت منتظما في صفوفها لما أنكرت ذلك.

قال , ولماذا تترك الجماعة , رغم أنها جماعة ذات أهداف عظيمة .

قلت : أرجو أن تنسي أنك تتعامل مع الشاب الذي اعتقلتموه قبل أكثر من ربع قرن وإذا كنت معجبا بالجماعة فبوسعك الانضمام إليها .

ثم من قال إنني لم أعد منتظما في صفوفها لعيب فيها لماذا لا يكون السبب يرجع إلىّ أنا.

قال : مثل ماذا ؟ قلت : هل هو تحقيق ؟

قال: لا, على أية حال ندخل في الموضوع تلاحظ أنك تتردد كثيرا على مصر , فما هو السبب في ذلك ؟

قلت : للاطمئنان على أحوال ابنتي التي تقيم بمفردها في مصر, خاصة وأن والدتها موظفة في الحكومة ولا تستطيع الحصول على الإجازات التي تمكنها من ذلك.

قال , ولكن ألا تري أن هذه الزيارات المتعددة لمصر تتكلف مبالغ طائلة فيما تنفقه في تذاكر السفر؟

قلت : متعمدا استفزازه طائلة بالنسبة لمن ؟ سفرياتي إلى القاهرة في عام كامل , أقل مما أنفقه في سفره واحدة إلى أوروبا أو أمريكا .

قال : على هذا أنت ثري , بل وثري جدا.

قلت :متعمدا إثارته الحمد لله فمكتبي للمحاماة بالكويت يعد من أكبر المكتب فيها ويعمل فيه محاميان مرتب كل واحد منهما خمسة عشر ألف جنيه في الشهر , بسعر العملة في ذلك الوقت .

قال : على كده يا ريت تشوف لى عمل بمكتبك بالكويت .

قلت : كل من هذه المحاميين له خبرة في العمل القانوني تتجاوز العشرين عاما.

قال : لكنك لم تقل لي لماذا تركت الجماعة ؟

قلت : تريد أن تعرف الحقيقة ؟ الحقيقة أنني تركتها يأسا من إمكانية إصلاح الأحوال في مصر في ظل هذه النظم التي أنتم جزء أساسي فيها , وأنا لا أحب أن أنطح رأسي في الصخر , مثل كل من ينشطون في معارضة النظام .

قال : يا هده أنت متشائم جدا , كما وأنك تظلمنا كثيرا عندما تعتبرنا سببا من أسباب ما تشكو منه .

قلت : يا ليت دوركم يقف عند حدود المشاركة في حالة التخلف الراهنة , ولكن ألا تري أنكم أحد المسئولين عن هزيمة 1967 ؟

قال : مرة واحدة لماذا يا سيدي ؟

قلت : عندما تحولون شعبا إلى أرانب مذعورة , هل تستغربون إذا عمد هذا الشعب إلى الفرار في مواجهة المشاكل ؟

قال : وماذا فعلنا بالشعب ؟

قلت : ربما أنتم في هذه المرحلة لم تفعلوا شيئا يذكر بعد , ولكنك بالقطع تعرف ماذا كان يفعل الجهاز في السنوات الماضية , مما كان يتردد صداه في الشارع فيثير الذعر في النفوس ومع ذلك فلماذا نذهب بعيدا , ألم تقل لى أنك ستنزلني من الطائرة وكأنني شوال بطاطس أو قفص فاكهة .

كما أنك لطعتني ولم تفكر في الاعتذار .

لماذا تعتقدون أن الشعب المصري دون شعوب العالم أصبح متبلد الحس لا تجرحه مثل هذه الأقوال أو التصرفات , أغلق الرجل ملفي المفتوح أمامه وقال لى اعتبر الموضوع منتهي ولن يزعجك أحد بعد الآن , وقد كان إذ لم يجر استدعائي بعد ذلك إلى هذا المبني , أو إلى أى مبني آخر يتبع أمن الدولة ولله المنة والشكر .

على أنه إذا ما كانت المباحث العامة ( أو مباحث أمن الدولة, فأنا لا أذكر متي تغير اسمها إلى الاسم الأخير , إن كنت لا أري اختلافا في الأداء بين الجهازين فالأمر كان مجرد تغيير لافتة لا أكثر ) قد طوت صفحتي معها في العام 1981 , إلا أنها أبت إلا أن تفتح جرحا معي ,

ومع أحد أبنائي , في تصرف أحمق وجبان ولا علاقة له بالعمل المباحثي السليم , ويبين حقيقة الأسلوب المدمر للأفراد بل وللدولة , والذي أحسب مما أسمع وأشاهد على القنوات الفضائية أنه ما زال مستمرا حتى الآن .

الذي حدث أن ولدي الدكتور خالد ( الأستاذ في مدرسة القانون بجامعة لوس أنجلوس حاليا وعضو لجنة الحريات الدينية التابعة للكونجرس الأمريكي , ومستشار البيت الأبيض سابقا ) جاء من أمريكا إلى مصر في صيف عام 1984 ليقضي فيها كالمعتاد إجازة نهاية العام الدراسي ,

وكان وقتها يدرس العلوم السياسية في جامعة " يال " وهي واحدة من أهم وأعرق الجامعات الأمريكية , ويكفي تدليلا على مكانتها أنها تنافس جامعة " هافارد " على صدارة الجامعات الأمريكية في ذلك العام جاء إلى مصر , وهو يشعر بالفخر ويحتفظ بمفاجأة لنا عند حضوري ووالدته من الكويت لقضاء العطلة الصيفية معه إذ كان قد حصل على جائزة الطالب الأفضل .

وكما في الإجازات الصيفية السابقة, انتظم في حلقة بأحد مساجد العباسية لحفظ القرآن أخذا بنصيحتي له كي يحسن من لغته العربية باعتبار أن دراسته في جميع المراحل الدراسية كانت في المدارس الأجنبية , من ناحية ومن ناحية أخري , كي يستعين بالإيمان على مقاومة المغريات التي يتعرض لها شاب مثله في تلك الدولة .

أثناء انشغال الحلقة بتدارس القرآن انقضت مجموعة من ضباط أمن الدولة ومخبريها على المسجد وألقت القبض على كل الشباب المنتظم فيها , واقتادتهم جميعا إلى قسم شرطة العباسية حيث تم حجزهم به , وبين الحين والآخر يستدعون واحدا منهم لاستجوابه بمعرفة ضباط أمن الدولة , تحت الضرب المبرح , عن علاقته بالجماعات الإسلامية ولم يسلم ولدي من هذا الضرب , وزاد عليه الضرب عندما قال لهم إنه بالمنطق لا يمكن أن يكون له ناشط سياسي لأن الفترات المتفرقة والمتباعدة والقصيرة التي يقضيها في نهاية كل عام في مصر لا تسمح له بذلك , إذا اعتبروا هذا المنطق منه من قبيل الفلسفة !!

ويقول إنه عندما قال لهم إن كل هدفه في الحياة أن يحصل على أرقي الشهادات العلمية خدمة لوطنه , سمع سبابا وتعليقات بذيئة لم يسمع مثلها قبلا ثم تلقي ركلة في ظهره ما زالت آثارها باقية حتى اليوم في صورة ندبه سوداء بجوار العمود الفقري كانت كفيلة بأن تصيبه بالشلل لو أنها صادفت النخاع الشوكي .

بعد ثلاثة أيام قضاها هؤلاء الشباب في الحجز أطلقوا سراحهم لما تبين أنهم لا علاقة لأى منهم بأي نشاط سياسي , والسؤال هو إذا كان الضرب أمرا حتميا فلماذا لا يؤجل إلى ما بعد إجراء التحريات فلربما تأتي بما لا يوجب استخدام هذا العنف من الأصل ؟

وما أن وصلت أنا ووالدته إلى القاهرة من الكويت لقضاء العطلة الصيفية حتى فاجأنا برغبته في العودة إلى أمريكا , متعللا بأسباب لم نستسغها وقتها كما لاحظنا أنه كان منطويا على نفسه عازفا على الخروج على غير العادة , وبالفعل سافر بعد عدة أيام إلى أمريكا وظل عازفا عن الحضور إلى مصر لسنوات طويلة .

لم أكن أعرف في حينه أيا من هذه المعلومات ,وإنما عرفتها قبل سنوات عندما قرأت إشارة لها في جريدة " لوس أنجلوس تايمز " في مقال عن خالد , وعندما سألته لماذا لم تخبرنا وقتها بما حدث معها , أجاب أنهم هددوه إن ذكر ما حدث معه لأحد فسوف يعتقلوه ويعتقلونني وإنه خشي أن أتهور فأدفع بالأمور إلى ما يلحق الضرر به وبي .

إجرام ووحشية وغباء , لا في حق المواطنين فحسب بل في حق الوطن كذلك لأن من شأن هذه التصرفات الإجرامية إن شاع خبرها في المجتمع أن تخلق حالة من الخوف المؤدي إلى السلبية وأسوأ الشعوب على الإطلاق الشعب السلبي , كما وأن هذه التصرفات غيرت من الشعب ومن نظرته إلى الأمور .

دون أن ندرك هذا التغيير حتى إن شابا مثقفا مثل " وائل غنيم " رغم أنهم اختطفوه من الطريق العام وعصبوا عينيه طوال مدة اعتقاله , فضلا عن إعتقال كان بدون إذن من النيابة العامة كما وإنهم لم يخطروا أهله بمكان اعتقاله , رغم كل ذلك, قال ببساطة في برنامج العاشرة مساء إنه والحق يقال- هكذا قال , عومل معاملة طيبة لمجرد أن أحد من معتقليه لم يضربه أو يسبه بالأم والأب , على غير المتوقع منهم , فأصبح ذلك في نظره – والحق يقال – معاملة طيبة ؟

ولا شك أن هذا الأسلوب الذي يتبعه جهاز أمن الدولة في البحث عن الدليل , أدي إلى إلحاق الضرر بهذا الجهاز نفسه , إذ أدي إلى نمو عضلاته على حساب عقله بحيث إذا لم يوصله التعذيب إلى شئ تعذر عليه الوصول إلى الحقيقة كما هو حاصل في حادثة تفجير كنيسة القديسين .

بقي أن أقول إن خالدا امتنع عن تجديد جواز سفره المصري وإنه لم يحرص على استصدار شهادات ميلاد مصرية لأولاده فتصرفات أجهزة الأمن السياسي في مصر مسئولة إلى حد بعيد عن تدمير روح الانتماء بين كثير من المواطنين ووطنهم تري هل هناك أمل في أن يتغير هذا الوضع بعد ثورة 25 يناير , الله أعلم

قيام الثورة على حكم العسكر

ثورة 25 يناير

يمكن القول إن مبارك ورث عن السادات أوضاعا اقتصادية واجتماعية كانت بطبيعتها تنذر بالخطر , نتيجة سياسية الانفتاح , ولم يمهل القدر السادات لمواجهتها, ولم يكن مبارك بحكم قدراته الشخصية وثقافته أهلا لها .

كان نظام عبد الناصر يقرب إلى حد بعيد بين الطبقات , قد يختلف البعض حول تقييم هذا الواقع فيراه يمثل تحقيقا لقدر من التوازن بين دخول المواطنين وقد يراه البعض الآخر توزيعا للفقر على الجميع , لكن الحقيقة أن المجتمع في ذلك الوقت لم يكن مجتمعا استهلاكيا وكان محدود التطلعات وكان يوجه مدخراته إلى التنمية وكانت الفوارق بين الطبقات ليست بالصورة التي أخذت في الظهور أيام السادات ثم استفحل أمرها أيام مبارك .

جاء الانفتاح فقلب الأوضاع الاقتصادية ومن ثم الاجتماعية , رأسا على عقب , فقد طرأت على البلاد أنماط من الاستهلاك لم تكن معروفة , نتيجة زيادة دخول البعض زيادة كبيرة , بل فاحشة مع بقاء دخول عامة الشعب على حولها , بحيث أصبحت هذه الدخول في حقيقة الأمر لا تكفي لمواجهة نفقات المعيشة في أبسط صورها بحيث أصبح على الكثيرين من المواطنين لكي يتمكنوا من العيش , أن يبحثوا عن دخل آخر يعينهم على مواجهة الحياة

وكان بعض هذه الدخول الجانبية مشروعا على حين كان أغلبها غير مشروع و وهو ما كان من نتيجته انتشار الرشوة إلى حد بعيد حتى أصبح الجميع يراها أمرا طبيعيا , يتطوع به أحيانا على سبيل الشفقة من غير طلب, ووصل الحال إلى أن مبارك نفسه قال في إحدي خطبه " إنه يعرف أن جنود الشرطة يرتشون , ثم أردف قائلا : ما همه غلابة".

ترى هل يعتقل أن يكون مرتب الوزير هو 1882 جنيها و65 قرشا رغم علم الجميع بأن هذا المبلغ لن يكفيه سوي لأيام قليلة من الشهر , ولا يتناسب مع الطريقة التي يحيا بها ألا يؤكد ذلك أن هناك مصادر أخري لدخله يعوض بها هذا الخلل الفادح بين دخله ونفقاته ونتيجة لكل ذلك قام في مصر بجانب الاقتصاد العلني اقتصاد آخر سري ساهم إلى حد بعيد في تشويه أخلاقيات المجتمع فقد كان الجميع يخدع الجميع.

وبوسع القارئ أن يدرك بعضا من حجم هذا الاقتصاد السري مقارنا بالاقتصاد العلني مما قاله الدكتور حازم الببلاوي في كتابه :" أربعة أشهر في قفص الحكومة "', إذ قال :" إنه قبل نهاية الشهر الأول بعد تقلده المنصب سأل عن مرتبه ,

فقيل له إنه 1882 جنيها و65 قرشا, وإن هذا هو مرتب نائب رئيس الوزراء ووزير المالية لكنه عند مراجعة حسابه المصرفي تبين له أنه قد أضيف إليه مبلغ 40466 جنيها, بمعدل 30000 جنيه شهريا , بالإضافة إلى ما قد يكون له من توابع أخري, لم يتسن له الحصول عليها لقصر مدة شغله للوزارة ,وإن المشير عندما علم بأن مرتبه هو 30000 جنيه شهريا , قال متسائلا " يعني أنت لا تأخذ سوي 30000 جنيه ؟

" ويضيف أن إعلانه عن مرتبه سبب له قدرا من الحرج مع زملائه الوزراء الآخرين , وقالوا له إن مرتب الوزير هو 1882,65 جنيها وإن هذا هو ما كان يجب على الإعلان عنه فقط , وهو ما يعني أن الفارق بين الدخل العلني للوزير , ودخله السري ( في حده الأدني ) هو الفرق بين مبلغ 188,65 جنيها وبين 30000 جنيه !؟

ويضيف الدكتور حازم :" إن أكثر ما أثار عجبه هو ما تلقاه من رئيس هيئة مستشاري مجلس الوزراء بطلب رأي وزارة المالية في الطلب المقدم من أحد السادة الوزراء – الأكثر صخبا بالحديث عن العدالة الاجتماعية – باعتباره رئيس لمجلس إدارة إحدي اللجان يطلب فيه تجديد الموافقة على استمرار صرف حوافز وجهود شهرية لسيادته .. أسوة بما كان متبعا مع السادة رؤساء مجالس الإدارة السابقين , وجاء رد وزارة المالية أن هذه الموافقة تتطلب قرارا من السيد المشير".

ويتساءل الببلاوي عن حقيقة الفارق بين المرتب الشهري وبين الحوافز الشهري ويضيف – رغم أنه وزير المالية – إلا أن الأمر لم يتضح له !

وهذا الكلام يبين إلى أى حد وصل الافتراق بين الاقتصاد العلني في مصر وبين الاقتصاد السري وأن الاقتصاد الأخير تمدد حتى أصبح يشمل الخاصة والعامة على حد سواء وهو إن حصل المرة

عليه من الدولة , سمي حافزا , وإن حصل عليه من غير الدولة سمي رشوة والأولي غير معاقب عليها لكن الثانية معاقب عليها ؟!

هكذا وصلت الأمور في عهد مبارك وهو يعكس حجم المصالح الضخمة التي تريد الثورة المضادة استردادها ولتذهب مصر لذلك لم يستطع الببلاوء البقاء في منصبه لأكثر من أربعة أشهر لأنهم ل يطيقوه , كما أنه لم يطيقهم .

بعد دورتين من حكم مبارك أدرك أنه لا شرعية له في الشارع مع حرصه على البقاء في الحكم, خلافا للوعد الذي قطعه على نفسه عندما آل إليه الحكم عقب اغتيال السادات لذا حرص على أن يوسع حوله دائرة المنتفعين من نظامه, وأطلق لهم الحبل على الغارب – كما يقولون – فزاد النهب والسلب , وتاجر هؤلاء في كل شئ في مصر بما في ذلك المتاجرة في ديون مصر ولبيان هذا النوع من التجارة ,

نوضح الأمر كالتالي : نفترض أن مصر مدينة لإحدي الجهات في رومانيا – مثلا – بمبلغ مائة مليون دولار , فإن صاحب ( النصيب والحظ) يعرض على هذه الجهة مبلغ ثلاثين مليون دولار تدفع فورا ( بدعوي أن مصر مفلسة ولن تستطيع أن تحصل منها على شئ ) وذلك مقابل أن تتنازل له هذه الجهة عن هذا الدين .

وبعد أن يشتري هذا الشخص هذا الدين من تلك الجهة في رومانيا , يعود بما له من نفوذ في مصر , فيبيعها ذات الدين بمبلغ مليون دولار – مثلا - وهكذا يكون قد كسب هو من هذه العملية ثلاثين مليون دولار , وتكون مصر قد كسبت بدورها أربعين مليون دولار , ورغم ما تحققه العملية من كسب لمصر فإن العملية لا تخلو من فساد لأنه طالما كانت مصر قادرة على الدفع الفوري لجزء من الدين , فلماذا لم تجر المفاوضات في الأصل لحسابها فتستفيد من السبعين مليون دولار بكاملها . أو بالأحرى يستفيد شعبها الفقير المريض من هذا الفرق ؟

إذا كان الله – سبحانه وتعالي – قد منح بعض البلاد البترول فقد منح مصر أرضا , وموقعا ومناخا, وبخصوص الأرض فقد أغدقها نظام مبارك على قلة قليلة من المنتفعين الذين أعادوا بيعها كأراض فضاء , أو ضمن مشروعات عمرانية أقاموها عليها, بأثمان باهظة مما أدي إلى ارتفاع أسعار المساكن ارتفاعا كبيرا فزاد الأغنياء غني وزاد الفقراء فقرا , وعجز الكثيرون عن الحصول على مسكن مناسب لهم أو لأولادهم فانتشرت المناطق العشوائية انتشارا كبيرا على نحو غير مسبوق , وهو ما تناولته العديد من الأفلام السينمائية منبهة ومحذرة .

كان عبد الناصر بالنسبة لموضوع الأراضي صاحب رؤية إذ قام بتوزيع أراضي البناء –

كما هو الحال مثلا في أراضي مدينة نصر – على أعضاء النقابات العمالية والمهنية , وسمح لهم بالتصرف فيها, لعلمه بعدم قدرتهم على البناء عليها , فباعوا لمن يقدرون على ذلك وهكذا توزعت الثروة بين القادر على البناء , وغير القادر عليه , وظلت أثمان العقارات في حدود المقبول خاصة وأن القطاع العام كان قادرا على التحكم في أسعار مواد البناء الرئيسية كالحديد والأسمنت .

وكان تصرف الدولة في هذه الأراضي في بعض الحالات , تصرفا يعكس صورة فاضحة من صور الاستهتار والفساد من ذلك منحها شركة " طلعت مصطفي " ملايين الأمتار لإقامة مدينتي الرحاب ومدينتي بشروط غير مسبوقة وتتمثل في أن تقدم الشركة للدولة 7% من مباني المشروع بعد الانتهاء منه ! أى بدون أى مبلغ نقدي , ولو كان كمقدم ثمن يضاف إلى خزانة الدولة أما كيف تقدر نسبة الـ 7% هذه ومتى يجري تقديمها للدولة ؟

فأمور لم تكن واضحة في عقدي التخصص على النحو المطلوب , لذا نشرت وقتها في جريدة الدستور بتاريخ 20/ 12/ 2007 مقالا بعنوان :" من دقنة وافتل له " أوضحت فيه أن الشركة فور حصولها على هذه الأراضي بغير مقابل نقدي قامت برهنها لدي البنوك مقابل المليارات ( وبجزء ) من هذه القروض باشرت أعمال البناء ومن مقدمات المشترين قامت بتسديد أقساط قروضها للبنوك وهكذا " من دقنه وافتل له "

كان الرجل بحكم ثقافته التي انحصرت في الأمور العسكرية دون غيرها يتصور أن اقتصاديات السوق تعني أن تسحب الدولة يدها بالكامل من التدخل في أموره , غير مدرك أنه يبقي دائما للدولة دورا هاما حتى في ظل هذا النظام لأنه في حالة الاقتصاد الضعيف الذي تكون فيه السوق غير تنافسية واحتكارية فإن ترك الأمور للسوق دون تدخل من الدولة يعني تركه تحت رحمة المحتكرين فضلا عن مثل هذا السوق لا يصلح عادة للإنتاج إذا تعلق الأمر بإنتاج ما يعرف : بـ "بالسلع العامة" أى السلع اللازمة لحياة الفقراء في بلد فيه نسبة كبيرة من الفقراء كمصر .

فهذه السلع ينبغي أن تقدم مباشرة من الدولة أو أن يتم توفيرها تحت إشرافها ورقابتها .

غاب عن فكر الرجل كل ذلك فصار السوق نهبا للمحتكرين وتركزت الثروة في مجموعة صغيرة من الأفراد انتشرت منظومة الفساد حتى أصبح هو وعائلته جزءا منها.

كان مبارك يري أن تشجيع الصناعة يكون بزيارة المصانع وهو عمل معطل بكل المقاييس ولا فائدة منه في عملية تصنيع مصر, خاصة مع ما صاحب ذلك من عملية واسعة في تبديد مصانع القطاع العام , بدلا من تطويرها واستخدام إنتاجها في ضبط أسعار منتجات القطاع الخاص حماية للفقراء الذين يمثلون النسبة الأكبر من الشعب ولكن كان هذا هو كل ما يمكن أن يصل إليه فكر الرجل في هذا الموضوع الهام ,

لذا نشرت مقالا في جريدة الدستور بتاريخ 12 / 5/ 2008 بعنوان :" الوصول إلى باب الدار " أوضح فيه ما يجب اتخاذه من خطوات لخلق صناعة حقيقية في مصر بعنوان " الوصول إلي باب الدار " جاء به :" يقول المثل العامي " خليك مع الكداب حتى باب الدار وقد وصلنا مع النظام إلى باب الدار, فلم نجد سوي الأزمات والتذمر , والإضرابات وبدلا من أن يكون الحديث الدارج عن تراكم الانجازات ,أو إيجاد حلول لمشاكل من نوع رغبة الدولة – مثلا - في الانتقال من الصناعة المتوسطة إلى الصناعة الثقيلة أصبح الحديث الدارج هو الحديث عن الإصلاح , الإصلاح الدستوري . الإصلاح القضائي , الإصلاح الاقتصادي , إصلاح التعليم إلخ.

ومن البديهي أن الإصلاح هو طرف في معادلة طرفها الآخر هو الخلل فلا أحد عاقل يصلح صالحا , والسؤال هو من المسئول عن كل هذا الخلل ؟ وهل من المنطق أن نظاما أنتج كل هذا الخلل قادر على إصلاحه ؟!

لم نكن الحالة الراهنة مفاجأة لى أو لغيري ممن تحرر من أسر المصلحة الشخصية وكان ينظر إلى الأمور بنظرة تحليليلة وموضوعية وقد سبق أن كتبت قبل سنوات في مقالات عدة أن مصر أسيرة لنظام متخلف يأخذ بها إلى الحضيض , وأحسب أنها قد وصلت إلى هذا الحضيض بالفعل بل وأنها لا تملك ,

في ظل الأوضاع الحالية أية فرصة حقيقية للنهوض , النظام الذي يحكم مصر حاليا لا علاقة له بالنظم التي تحكم الدولة الحديثة فهو نظام تغيب فيه المؤسسات وهو أمر غير مقبول في ظل التعقيدات الاقتصادية والسياسية التي تسود العالم المعاصر, والتي لتوجيهات المؤسسات الدوليةالتي تعمل بتوجيهات الدول الصناعة الكبرى ولمصلحتها مصر في ظل هذا النظام أشبه بعربة تحتاج إلى محرك من ثمانية " سلندرات " بلغة أهل الميكانيكا – لكنه لا يعمل من هذا المحرك سوي " سلندر واحد " هو مؤسسة الرئاسة وهو بحكم الطبيعة تقل كفاءته بمرور الزمن فإذا أضفنا إلى ذلك أن فرامل اليد المتمثلة في الإجراءات الإدارية العقيمة مشدودة إلى أعلي فلن تكون النتيجة غير ما هو حاصل بالفعل .

قد يكون النظام الحالي صالحا لإدارة قبيلة أو عزبة أما دولة عصرية متقدمة فلا والمسألة ليست لها علاقة بالديمقراطية أو الدكتاتورية فالصين- مثلا – دولة ديكتاتورية , ولكنها دولة متقدمة لأنها دولة مؤسسات, حتى إن مؤسسة الحزب قادرة على تغيير رئيس الدولة نفسه, أما في مصر بالمؤسسات مجرد هياكل خاوية , لا تعمل إلا حسب توجيها السيد الرئيس , وما دام هذا الوضع مستمرا على حاله فلا أمل في أى تغيير .

بهذا العجز فالنظام غير قادر على إحداث تنمية حقيقية لأن التنمية لا تتحقق إلا بالدخول إلى عالم الصناعة , ولكن نظامنا مثل التاجر الخايب الذي باع مصنعه ليسدد ديونه, ثم عاد بعد ذلك إلى الاستدانة لكي يستطيع أن يأكل.

فالدخول إلى عالم الصناعة , باعتباره الوسيلة الوحيدة للتنمية وتحقيق الوفرة يتطلب شروطا لا , ولن يستطيع النظام , بآلياته الحالية توفيرها, وهذه الشروط هي: -

(1) توفير الانتماء فالانتماء هو المحرك الرئيسي لكل الطاقات, في أمريكا حدث أن اختفي عالم أمريكي من أصل صيني , واحتارت أجهزة الأمن في تحديد سر هذا الاختفاء إلى أن فجرت الصين قنبلتها النووية , عندئذ عرفت الأجهزة سر هذا الاختفاء لقد استطاع النظام الصيني أن يوفر هذا الانتماء لدي المواطنين , بما فيهم المهاجرين ليشاركوا في مشروع النهضة , هل تعرفون ما الذي وفر هذا الانتماء ؟

إنها بدلة " ماوتسي تونج" الزرقاء التي أقنعت المواطن الصيني بجدية مشروعه للتنمية .. أما في ظل النظام الحالي , فأى شئ من شأنه توفير هذا الانتماء ؟.

بطبيعة الحال , نحن لا نطالب المسئولين بارتداء بدلة " ماوتسي تونج " الزرقاء فليرتدوا ما يشاءون بما في ذلك البدل من تفصيل " بريوني " ولكن نطالبهم بتوفير نظام يقنع المواطن بأن الدولة جادة في إحداث تنمية حقيقية مهما كانت التضحيات , وأن أهل الحكم على استعداد على نحو أو آخر المشاركة في هذه التضحيات وأن لديهم الجدية والتصميم على السير في طريق التنمية التي عمادها التصنيع متعدد المراحل ,وهو موضوع يحتاج إلى مقال مستقل .

(2) الاستخدام الأمثل لمدخرات المواطنين , ولكن في ظل النظام الحالي , فالحمد لله – الذي لا يحمد على مكروه سواه – فقد تجمدت أغلب هذه المدخرات في عقارات تغلق نسبة كبيرة منها أغلب شهور السنة والباقي من هذه المدخرات يخرج إلى الخارج إما ليحفظ في البنوك الخارجية أو باعتبارها أرباحا ناجمة عن استثمارات أجنبية في مشروعات عمرانية أيضا.,

إن الاستثمارات الأجنبية الفاعلة – على غير المتصور – لا تتوجه إلا إلى الدول ذات الاقتصاد القوي وهي الدول التي تتوافر لديها صناعات واعدة كي تستفيد من إمكانياتها , بمعني أن رأس المال الوطني هو رأس الحربة في عملية التنمية وبعدها تأتي الاستثمارات الأجنبية لا العكس , لذا لم تتجه الشركات الكبرى إلى الصين إلا بعد أن أصبحت الصين دولة صناعية لها وزنها .

(3) كذلك الاستخدام الأمثل لما يعرف بالميزة النسبية للدولة بعنا الغاز وكان الأولي بنا استخدامه في صناعة البتروكيماويات , وبالمناسبة فإن صناعة البتروكيماويات في دولة كالسعودية أكثر تقدما منها في مصر ,ودمرنا زراعة القطن على حين كان الأولي بنا إنشاء أقسام في كليات الزراعة لأبحاث القطن وتطويرها .

فضلا عن إنشاء أقسام في المعاهد الصناعية لصناعات القطن , كان يفترض أن تصنع مصر – مثلا – أفخم وأغلي قميص في العالم من القطن المصري ولو بالشراكة مع شركات الأزياء العالمية .

أصبح الكتاب المصر يطبع في بيروت, ونافست صناعة الدراما العربية المصرية وتفوقت عليها رغم أن مصر كانت أم الفنون أما عن تخلف صناعة الإعلام فحدث ولا حرج فقد فقدنا القدرة على التأثير واحتفظنا بلقب الريادة ؟!.

(4) نظام تعليمي أكاديمي تمتلك معاملة قدرة على البحث لحل المشكلات التي تواجه التصنيع ومهني قادر على توفير لديها الإحساس بأهمية التفاصيل .

وأخيرا نظام إداري ذكي , ونظام قضائي فاعل وحازم وسريع , وهي أمور مفتقدة في ظل النظام الحالي , والنتيجة سيظل الحديث الدارج هو الحديث عن الإصلاح أى محاولة تخدير الناس بالأمل , وستظل الفجوة قائمة بين الأسعار , وبين الدخول مع استمرار عجز النظام عن سد هذه الفجوة أو حتى التقليل منها كما يحدث في الدول التي لها اقتصاد متعاف لأن الأمر مرتبط بالدخل القومي ,

ولن يستطيع النظام أن يسد هذه الفجوة إلا بواحد من أمرين كلاهما أكثر مرارة من الآخر , إما بالاقتراض , أو بالأحرى المزيد من الاقتراض , وإما بزيادة الضرائب الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى المزيد من الركود الاقتصادي .

جريدة الدستور 13 /5/ 2008

وكان من الواضح أن قلة قليلة هي التي تحظي بالزيادة الضئيلة في الناتج القومي , الذي بدأ في التدهور بشدة , إذ يقول هيكل عن معدل النمو, إنه في عام 1990 تدنت نسبة النمو إلى 2,54% وفي عام 1991 تدنت نسبة النمو أكثر فأصبحت 2,27% وفي عام 1992 تدنت نسبة النمو أكثر وأكثر فأصبحت 1,8% وفي عام 1993 تدنت أكثر وأكثر وأكثر فإذا هي بالناقص , وليس بالزائد إلى 1% أى أن مصر, كما يقول هيكل " أكلت هذه النسبة من لحمها الحي , واستهلكت رأسمالها, ولم تضف إليه شيئا على الإطلاق ".

لذا فلا غرابة إذا كان متوسط دخل الفرد في مصر في بداية الثمانينات هو 670 دولارا في السنة ليصبح في بداية التسعينيات 610 دولارات بنقص قدره 60 دولارا في السنة, ويبدو حجم كارثة نظام مبارك على الاقتصاد في مصر إذا ما علمنا أن متوسط الدخل السنوي للفرد في تركيا, في تلك الفترة كان حوالي 8000 دولار في العام , ووصل حاليا إلى 12000 دولار في السنة ؟! ومع ذلك يأتي من يقول " آسفين يا ريس " ولا أدري على أى شئ يأسفون ؟!

ونتيجة لذلك كله, فقد بلغت نسبة العاطلين بين خريجي الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة حدا كبيرا , إذ بلغ عدد العاطلين مليونا وثمانية آلاف شاب , وهو ما دفع الكثيرين منهم إلى الهجرة بوسائل غير مشروعة , ومن ثم فهي وسائل للسفر غير مأمونة مفضلين الموت على استمرار حياتهم البائسة في ظل هذه الأوضاع .

ويضيف هيكل فيقول إذا كانت تلك هي قاعدة الهرم الاجتماعي في مصر في تلك الحقبة تحت حكم مبارك فإن قمة الهرم الاجتماعي حسب تقرير عن المؤشرات الطبقية الجديدة الذي وضعته مجموعة بحث دولية تشير إلى ما يلي :

في مصر 50 فردا تبلغ ثروة كل منهم ما بين 100 مليون دولار إلى 200 مليون دولار وأكثر .

وفي مصر 150 فردا تتراوح ثروة كل منهم ما بين 50إلى 80 مليون دولار .

وفي مصر 220 فردا تتراوح كل منهم ما بين 30 إلى 50 مليون دولار.

وفي مصر 350 فردا تتراوح ثروة كل منهم 15 إلى 30 مليون دولار.

وفي مصر 2800 فرد تتراوح ثروة كل منهم ما بين 10إلى 15 مليون دولار .

وفي 70 ألف فرد تتراوح ثروة كل منهم ما بين 5 إلى 10 ملايين دولار .

وواضح أن هذه الإحصائية لا تشمل أصحاب المليارات .

وقد جاءت كل تلك الثروات الهائلة في معظمها من عمليات تقسيم الأراضي والعقارات وما يتصل بها, ومن التوكيلات التجارية ومن احتكار بعض السلع كالأسمنت والحديد والعمولات من تجارة الأسلحة .

كان الاقتصاد المصري نتيجة لذلك على حالة شديدة من الضعف الذي أ‘جز الدولة عن تقديم تعليم حقيقي كما أعجزها عن تقديم خدمة طبية مجدية إلى الفقراء , كذلك أعجزها عن صيانة وتحديث الجزء اليسير من البنية الأساسية التي تمت في أول عهد مبارك حتى أصبحت شبكة طرقنا " مسخرة " بالمقارنة لشبكات الطرق في العالم .

ومما زاد الوضع الاقتصادي تدهورا , أن الجيش خص نفسه بقسم كبير من المشروعات المدنية الأمر الذي أدي إلى حرمان شركات المقاولات غير المحظوظة من مصدر كبير من الدخل أثر بالسلب على العاملين فيها من مهندسين وعمال وحجب جزءا لا بأس به من الدخل العام للدولة عن النشاط الاقتصادي للمجتمع , مع أن الدول الأخري , تعمد إلى مواجهة فترات الكساد بطرح عدد من أعمال المقاولات بقصد بعث النشاط والحركة في السوق , ولا أعرف ما إذا كان الجيش يدفع ضرائب عن أرباحه من تلك العمليات أم لا ؟.

ورغم أننا كنا من أوائل الزراع في التاريخ فقد تدهورت أحوال الزراعة في مصر , حتى إننا أصبحنا نرسل البعثات الزراعية إلى إسرائيل , رغم أن اليهود لم يمارسوا الزراعة , إلا قبل سنوات في فلسطين , في العشرينيات من القرن الماضي, وأصبحنا نستورد علب الفول المدمس.

وفوانيس رمضان , ورغم أننا كنا أول من امتلك إذاعة,ومحطة تليفزيونية في الشرق الأوسط إلا أننا عجزنا عن منافسة قناة فضائية كقناة الجزيرة , واصبحت مصر تستورد المسلسلات العربية والأجنبية بعدما كانت تصدر المسلسلات إلى تلك الدول .

كان العجز يفرض نفسه على كل نواحي الحياة في مصر, حتى إنني نشرت بتاريخ 8/2/ 2004 في جريدة العربي مقالا ساخرا بعنوان " مستشار ماليزي لكل مسئول " قلت فيه إذا كان أهل الحكم مصرون على البقاء في مناصبهم رغم عجزهم الفاضح عن النهوض بالأمة فليبقوا في الحكم كما يشاءون متمتعين بأبهته على أن يستعين مل منهم بمساعد ماليزي يقوم بالعمل بدلا عنه .

وإذا كان هذا هو حال الاقتصاد في ظل نظام مبارك فلم يكن الوضع المؤسسي أفضل منه إذ كان النظام حريصا على تفكيك مفاصل الدولة وبث الفرقة والانقسام بين أفراد مؤسساتها أخذا بسياسة ( فرق تسد) التي كانت توصف بها سياسة الاستعمار البريطاني لمصر فكل حزب جري تقسيمه إلى فريقين أو أكثر يتنازعون فيما بينهم على رخصة الحزب والمقر , والحزب الذي استعصي على التقسيم وهو حزب العمل جري حله وإغلاق جريدته وأساتذة الجامعات .

انقسموا إلى فريقين فريق يري إنه ليس في الإمكان أبدع مما هو قائم بالفعل , رغم ما يبديه بعض أفراد هذا الفريق في البرامج الفضائية من نقد لاذع لمستوى التعليم في مصر ! وفريق آخر يطالب باستقلال الجامعات , باعتبار أن هذا الاستقلال ضروري لإيجاد تعليم جامعي يقوم على حرية التفكير , والبحث العلمي ,

وكذلك النقابات المهنية جري بث الفرقة بين أعضائها والتي تعذر سيطرة الدولة عليها جري حلها, وضربت الدولة بكل الأحكام القضائية الصادرة بحقها في مباشرة نشاطها عرض الحائط , أما عن النقابات العمالية فكانت أقرب في توجهاتها إلى نقابات أصحاب الأعمال منها إلى نقابات العمال, ولم يسلم القضاء كذلك من هذا الأذى إذ انقسم إلى فريقين , أو تيارين , تيار الاستقلال , وتيار الاستقرار , أو لنقل تيار الخضوع إلى الأمر الواقع بدعوى أن القاضي لا يصح له أن ينشغل بشئون وطنه وإلا فإنه يكون قد تجاوز الخط الفاصل بين القضاء والسياسة.

كان مبارك عاجزا عن أن يقدم إنجازا حقيقيا لمصر في مجال الاقتصاد, لذا كانت أكبر إنجازاته في هذا الخصوص هي جولاته التي تنتهي بإسقاط الدول لبعض ديونها عليها ولأنه لا توجد في علاقات الدول محلا للهبات الخيرية , وأن لكل شئ ثمنا فقد كان الثمن هو رهن سياسة مصر الخارجية لحساب هذه الدول وعلى رأسها أمريكا وتابعتها إسرائيل وهو ما كان من نتيجته تراجع دور القيادي للمنطقة أو حتى إنه انتهي بالكلية , ومصر بغير هذا الدور يتقلص حجمها كثيرا , بحكم ما تقع تحت وطأته من مشاكل لم يفلح نظام مبارك أن يجد لها حلا .

ولو وقف الدور المصري في المنطقة إلى حد التراجع بالسلب لهان الأمر , لكن بدا في بعض الأحيان وكأنه يمارس دورا إيجابيا في المخططات الأمريكية والإسرائيلية للمنطقة , وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية إذ كانت سياسة مصر على أرض الواقع , تتطابق مع السياسة الإسرائيلية إلى حد بعيد ,

لذا امتنع عمدا عن تعمير سيناء وهو ما لا تفسير له سوي رضوخه للإملاءات الأمريكية الإسرائيلية على حساب مصلحة الوطن ومستقبله , ذلك أن تعميرها الآن فضلا عن ارتفاع تكلفته , فقد يجابه من إسرائيل بإثارة مشاكل في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها مصر حاليا .

وأقفرت الحياة السياسية لذا لم تظهر على السطح قيادات حزبية شابة كما في الدول الديمقراطية والنتيجة هي ما تعانيه مصر الآن من خلو ساحة العمل الحزبي من أحزاب حقيقة يمكن أن تعبر عن أفكار شباب الثورة وطموحاتهم .

وهذا الواقع السياسي أنتج مناخا سياسيا سدت فيه أبواب الأمل في التغيير السلمي للسلطة, وهو الأب الشرعي لظاهرة العنف السياسي وهو عنف لا علاقة له بالإسلام بدليل أن النظم المشابهة في أمريكا اللاتينية أفرزت ذات العنف رغم أنها ليست دولا إسلامية وقد دفعت مصر ثمنا باهظا لهذا العنف

إذ كما يقول هيكل إنه بلغة الأرقام يمكن القول إنه خلال عام 1994 كان لدينا خمسون معتقلا كل يوم من بين الناس سواء للاشتباه أو للتحقيق كما كان لدينا خمسة قتلي كل أسبوع , سواء بسلاح الإرهاب أو بسلاح الدولة , وفي كل شهر علقنا في حبل المشنقة ثلاثة ممن حكمنا بتطرفهم سواء أكان الدليل مواتيا لهذه الأحكام أم غير موات لها .

ويقول الأستاذ فهمي هويدي نقلا عن شهود إن عدد من قتلهم الشرطة في فترة التسعينيات من المنيا وحدها بلغ أكثر من ألف شخص بينهم 500 من مركز ملوي منهم 5 سيدات من الروضة التابعة للمركز ,3 سيدات من قرية نواي بخلاف 27 شخصا من قرية بني وركان – مركز العدوة .

ومن محافظة سوهاج قتل 500 شخص , وأحد أعضاء الجماعة الإسلامية ويدعي عيسي طاهر تم قتله في عام 1993 عن طريق إلقائه من الطابق السابع من مديرية الأمن .

وفي قرية الزاوية بمحافظة بني سويف قتل الأمن 4 أشقاء تتراوح أعمارهم من 17 إلى 21 سنة هم عادل يحيي , وأحمد يحيي . وطه يحيي , ويحيي يحي .

وجري إعدام 28 شخصا من أبناء محافظة قنا .

ولأجل الضغط على المتهمين كان ضباط أمن الدولة يحضرون نساءهم ويجبرونهم على الطلاق من أزواجهن وقد تمت 40 حالة طلاق من هذا النوع .

وحكم على 5 سيدات بالسجن لمدد تتراوح بين 5 و15 سنة وحكم على السيدة جيهان إبراهيم من حي إمبابة بالسجن 15 سنة لأنها استضافت في بيتها رجلا كان مطلوبا للأمن وزوجته , ويضيف فهمي هويدي أن الضباط الذين ارتكبوا هذه الجرائم لا يزالون في مواقعهم بجهاز الأمن الوطني حتى تاريخه .

وكان تعليقي على هذا كله, مقالا بعنوان " من أجل ذلك أقول لا للرئيس مبارك " قلت فيه "

في مؤلفه نصر بلا حرب يقول نيكسون إن الغرب غير مدين للعالم الثالث بشئ لأنه إن كان قد حصل منه خلال عصر الاستعمار ( وهل انتهي ؟) على المواد الأولية بأرخص الأثمان , فقد قدم له الكثير في مجالات الحياة المختلفة وإنه وإن كان هذا العالم متخلفا حضاريا, ولا أمل له في النهضة فذلك لأن هذا العالم مبتلي بأشد النظم السياسية تخلفا .

ويجمع كتاب الغرب ومفكروه على أنه لا احتمال في خروج العالم الثالث من دائرة التخلف لهذا السبب إذ هو مكبل بنظم سياسية متخلفة تحول دون احتمال نهضته .

والسمة المميزة لهذه النظم المتخلفة أنها جميعا تمثل ما يعرف بنظام الرئيس الملك, فهو نظام ( هجين) لا ينتمي إلى النظام الملكي أو النظام الجمهوري وإنما هو خليط من شأنه أن يفرز أداء سيئا متخلفا , ومن حسن حظ أوروبا أنها لم تعرفه وإلا ما نهضت أبدا ويرجع ذلك إلى أن أوروبا قضت على الملكية المستبدة من خلا الثورات الشعبية التي فرضت إرادة الشعوب على حين أن التغيير حدث في أغلب بلاد العالم الثالث عن طريق الانقلابات العسكرية وكان بعضها موحي به من قبل الاستعمار نفسه .

والرئيس الملك هو رئيس يصل عادة إلى الحكم عن غير الإرادة الشعبية ويبقي في الحكم طوال حياته وإفرازات نظامه تتشابه في كل دول العالم بلا استثناء وتتمثل فيما يلي :

(1) إن رغبته في البقاء في الحكم طوال حياته تدفعه إلى القضاء على كل القوي الشعبية القادرة على تغييره وإضعافها لذا فهو يقيم نظاما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتشريعيا يؤدي إلى جعل كل الخيوط في يده.

(2) عادة ما يترتب على احتكاره للسلطة ظهور تيار العنف بين مجموعة أو أكثر من المجموعات الفاعلة التي يجري إقصاؤها عن الحياة السياسية , وقد رأينا كيف تفجر العنف في كل دول أمريكا اللاتينية, وفي دول كثيرة من آسيا وأفريقيا .. وقد قاد تيار العنف الماركسيون تارة والكنيسة تارة أخري كما في بعض دول أمريكا اللاتينية .. الخ فالعنف إذن ليس ظاهرة مصرية وليس ظاهرة إسلامية وإنما هو ظاهرة سياسية .

(3) إن النظام يواجه عادة هذا العنف بأكثر الأساليب دموية ووحشية لذا يحتفظ بجهاز أمني يتميز أفراده بأداء خاص , وهم على استعداد لفعل أى شئ ي سبيل تأمين النظام إلى حد ارتكاب الجرائم وكافة المخالفات الدستورية والقانونية وهم واثقون من أنهم كما يحمون النظام فإنه يحميهم وإنه لا أحد قادر على محاسبتهم .

(4) لابد لمثل هذه النظم أن تخلق لنفسها قاعدة عريضة من المنتفعين ممن لهم مصلحة مباشرة في بقائها وتمتد هذه القاعدة فتشمل عددا كبيرا من الأفراد من قطاعات مختلفة سواء من الإعلاميين وأساتذة الجامعات, أو من رجال الشرطة وغيرهم ولأن أفراد هذه القاعدة هم عادة من الموظفين , ممن لا تسمح رواتبهم بتحقيق ثروات تجعل لهم مصلحة حقيقية في بقاء النظام, فإن النظام عادة ما يتغاضي عن انحرافاتهم ولهذا ينتشر الفساد في ظل هذه النظم بصورة أو بأخرى وبحجم أو بآخر . ولكنه قاسم مشترك بين كل دول العالم الثالث.

(5) لابد لمثل هذه النظم من قاعدة إعلامية عريضة تظهر الحاكم بمظهر الذي لا يخطئ وأنه زعيم ملهم, وأن الدولة قد عقمت فلم تنجب من يصلح للحكم غيره, ويقتنع الحاكم بذلك بحكم التكرار, ويقدم النفاق نفسه على أنه الحقيقة ويمتد النفاق إلى أجهزة الدولة المختلفة بما في ذلك مراكز العلم والجامعات فتسقط هذه المؤسسات,ولعل هذا يفسر لماذا لم تفلح مصر في تكوين قاعدة علمية رغم البعثات التي ترسلها منذ عهد محمد على وحتى الآن .

ولا يدل واقع الحال على أننا سنتوقف عن إرسال هذه البعثات.وقد بلغ انهيارنا العلمي إلى حد أن إسرائيل أصبحت تعلمنا كيف نزرع , رغم أننا مارسنا الزراعة قبل أربعة آلاف عام , وكانت لدينا أول كلية زراعة في المنطقة .

(6) كنتيجة حتمية لهذه التركيبة والقيم النفعية التي تسود المجتمع , يضعف الانتماء فيقل الإنتاج ويقل الدخل , وتنتشر الرشوة وتزيد القروض الأجنبية ويصبح أعظم إنجازات هذه النظم هو الاقتراض وإنفاق القروض على تحسين الخدمات ثم استجداء تخفيض هذه القروض و...وهكذا دواليك وغالبا ما يكون الإنفاق على تحسين الخدمات هو وسيلة للحصول على العمولات بحيث يصبح المردود أقل مما أنفق عليها بالفعل .

لهذا كله أقول للنظام الحالي لا ,وذلك :

لأنني أطمع في نظام أكثر تقدما يمكن أن يدخل مصر حضارة القرن العشرين ( مع مراعاة أننا في القرن الواحد والعشرين ) .

لأنني كمثقف وأنتمي إلى دولة عريقة أري أن من حقي أن أختار , ولا اختيار إلا عند تعدد المرشحين ..

ولأنني لا أؤمن كما يؤمن ( دكاترة ) السلطة أن مصر قد عقمت فلم تنجب من يصلح لرئاستها إلا واحدا .

ولأنه في ظل هذا النظام زاد العنف والإرهاب , الإرهابيون مجانين .. نعم .. إذن هو النظام الذي زاد فيه الجنون .... الإرهابيون مجرمون .. نعم .. إذن هو النظام الذي زادت فيه الجريمة .

ولأنه النظام الذي تفشت فيه الرشوة واقتحمت مناطق كنا نحسب أنها عصية عليه , ولأنه النظام الذي زاد في ظله الفقر , وكثر فيه الإنفاق على غير الضروريات .

ولأنه النظام الذي ركب فيه للقانون " قرون " كي يحمي أحد وزرائه من الفضيحة . جريدة الشعب 23/ 2/ 1993

ولكن وللغرابة لم أحاسب ولله الحمد على ما كتبت وهو ما يمثل ثقة زائدة بالنفس وهي ثقة أثبتت ثورة 25 يناير أنها لم تكن في محلها .

على أن الخلل الناتج عن حكم الثلاثين سنة الماضية لم ينعكس فقط على المؤسسات وأحوال الناس, بل انعكس كذلك على منطقهم وحكمهم على الأمور , فاختل منطقهم وفسدت سريرتهم , وتشوهت علانيتهم , ولم ينج من ذلك إلا من رحم ربي , حتى إن شخصا مثل أحمد شفيق الذي قبل أن يكون رئيسا لمصر في ظل نظام شرعيته هي الثورة التي أسقطت مبارك ونظامه, ولا يجد في تبديل الولاء من النقيض إلى النقيض ما يمس المروءة أو الكرامة !

كذلك أصبح الحكم فينظر الناس مجرد كعكة تختطف أو تقتسم لأنه كان في عهد مبارك مغنما منفلتا من أية قيود أو حدود على حين أن الحكم في العالم المتحضر هو عبء كبير كما وأنه السبيل الوحيد لتحقيق مصلحة الشعب وتقدمه ورخائه لذا يصبح من المنطقي في ذلك العالم أن يسعي كل حزب للوصول إلى الحكم دون أن يجد الناس في ذلك ما يستوجب النقد أو اللوم أو الحديث عن الكعكة التي تختطف أو تقتسم .

تشوهات أفرزها نظام سيئ اختلت معها نظرة أغلبنا إلى الأمور والحكم عليها ناهيك عن الاختلالات الأخري التي أصابت مؤسسات الدولة فأصبحت مجرد أشكال بغير مضمون أو محتوي لذا كان من المستحيل أن تستمر هذه الأوضاع على حالها فكانت ثورة 25 يناير المجيدة .

العسكر وثورة 25 يناير

عندما دعا الشباب إلى مظاهرات يوم 25 يناير 2011 لم أستطع أن أتخلف عن هذه الدعوة كما لم أستطع أن أمنع ابنتي رانية عن المشاركة فيها لأنني أدركت إنني في هذه الحالة سأكون منافقا , إذ أنتقد سلبية الشعب في الوقت الذي أمنع فيها ابنتي عن المشاركة ونزلنا سويا لنتظاهر أمام دار القضاء العالي ,

وشهدت هناك البلتاجي يقف مع مجموعة من الإخوان أمام نقابة المحامين وهتفنا بسقوط مبارك إلى أن شعرت بالتعب بحكم السن , فانصرفت معها, ولم أكن أتصور وقتها أن الأمور يمكن أن تتطور إلى ثورة شعبية .

وفي يوم 28 يناير عقب صلاة الجمعة أدركت أن الأمور يمكن أن تنتهي بثورة تقتلع هذا النظام الفاسد وينتهي بها حكم العسكر لذا سالت الدموع من عيني إذ تصورت أن مصر تستأنف مسيرتها نحو الديمقراطية التي توقفت في 31 مارس 1954 , وتنهي مقولة إن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة ,وهي مقولة كانت تؤذيني إلى أبعد الحدود ,

وكنت أستغرب لبلادة أهل الحكم إذ يعتبرونها أمرا مسلما, وبالفعل كانت ثورة 25 يناير,, هذه الثورة التي أحدثت زلزالا مفاجئا ترددت أصداؤه بقوة في كل من إسرائيل وأمريكا , إذا كانت الدولتان تعتبران أن مصر خرجت من الصراع العربي الإسرائيلي إلى الأبد بتوقيعها كامب ديفيد ورتبتا سياستهما في المنطقة على أساس هذا الوضع

لذا كانت الثورة تنذر بتغييرات غير معلومة لذا قررت أمريكا – وفي مثل هذه الأحوال أن تتواري إسرائيل عن المشهد خلف أمريكا – أن تتخلي عن مبارك على أن تعمل ما وسعها على استبقاء نظامه فإن تعذر عليها ذلك فعلى الأقل استبقاء السياسة الخارجية لذلك النظام أما إلى أي حد ستنجح أمريكا في تحقيق سياستها في مصر فأمر ستكشف عنه الأيام .

كان الملاحظ أن القوات المسلحة تقف على الحياد بين الثورة , والثورة المضادة ترقب ماذا ستسفر عنه الأحداث والدليل على ذلك أنها لم تحاول منع وصول الجمال والحمير والبغال إلى ميدان التحرير لمهاجمة الثوار, مع أنه كان بوسعها أن تفعل ذلك ولو بإطلاق النار في الهواء .

ويقول الأستاذ صلاح منتصر في كتابة : " الصعود والسقوط " ما يؤكد هذه النظرة إذ يعلل عدم قيام الجيش بالاشتباك مع مؤيدي النظام من راكبي الجمال والبغال إلى ميدان التحرير لمهاجمة الثوار مع أنه كان بوسعها أن تفعل ذلك ولو بإطلاق النار في الهواء .

ويقول الأستاذ صلاح منتصر في كتابه : " الصعود والسقوط " ما يؤكد هذه النظرة , إذ يعلل عدم قيام الجيش بالاشتباك مع مؤيدي النظام من راكبي الجمال والبغال, بأن الجيش كان قد تعهد بعدم استعمال العنف مع الشعب , ,أن هؤلاء هم أيضا فصيل من الشعب , وهو ما يعني وقوف الجيش على الحياد في المعركة الدائرة بين الثورة وأعدائها بحيث يكون غير دقيق القول بأن الجيش حمي الثورة , والأدق إنه لم يقاومها .

وتنحي مبارك عن الحكم , ورغم افتقاده للسلطة فقد كلف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بتولي شئون البلاد وكأنه يأبي حتى اللحظة الأخيرة من حكمه , إلا أن يخالف الدستور وينتهك أحكامه, إذ أن تصرفه هذا ليس له سند من أحكام الدستور الذي أقسم على احترامه,

ولكن منذ متى كان مبارك يهتم بهذه الأمور المعنوية بما في ذلك القسم الذي أقسمه باحترام الدستور ,وللأسف قبل الجميع بهذا القرار في خضم لهفته على أن يترك مبارك منصبه بأى ثمن وكيفما كان إذ لم يكن أحد يصدق أن بوسع الشعب المصري أن ينزل فرعونا من على عرشه لذا لم يفكر أحد وقتها في تداعيات هذا القرار وما يمكن أن يترتب عليه من آثار .

وهكذا تكون ثورة 25 يناير – إن وصلت إلى غايتها – قد أنهت حكم العسكر لمصر. الذي بدأ من 23 يوليو 1952 واستمر حتى 11 فبراير وفتحت باب الأمل في حكم ديمقراطي لمصر , ينهي مقولة إسرائيل بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة .

حماية أم احتواء

في تقديري والسياسة تقديرات واجتهادات خاصة بالنسبة لمن لا يملك كافة المعلومات أن المجلس العسكري قرر بعد انتصار الثورة , أن يحتويها , وأن يقف بها عند حدود معينة لاعتبارات منها إن لم يكن من أهمها المحافظة على مصالح ضخمة لا شك أن وصول الثورة إلى غايتها من شأنه تهديدها , لذا عملي ( أى المجلس ) خلال الفترة الانتقالية على رسم حدود ( الملعب ) وتحديد قواعد اللعبة مستجيبا في بعض الأحيان للضغوط الشعبية ولكن بقدر وفي حدود .

فمثلا في فورة الحماس المصاحب لانتصار الثورة صرح وزير الخارجية نبيل العربي , أن أفاقا جديدة للعمل الدبلوماسي انفتحت وعلى الدبلوماسية المصرية أن تحلق في سمائها بما يعيد لمصر مكانتها في المنطقة , ورسم سيادته معالم هذه السياسة في إنهاء القطيعة بين مصر وإيران باعتبار أن المبرر المعلن لهذه القطيعة هو احتلالها لبعض الجزر العربية التابعة لإحدى دول الخليج على حين أن جميع دول الخليج على علاقات متينة بإيران ,

ومن ثم لا يصح أن نكون ملكيين أكثر من الملك , كما أن محور مصر وتركيا وإيران يعتبر محورا هاما يجعل له دورا مميزا في صنع سياسة المنطقة بما يلبي مصالحها .

وكذلك إعلانه لا يوجد مبرر قانوني أو أخلاقي لأن تشارك مصر إسرائيل في حصار غزة ومنع تصدير الحديد والأسمنت إليها ,وإن مصر ستقف على مسافة واحدة من فتح وحماس , كما وإنها ستعيد النظر في اتفاقيات تصدير الغاز إلى إسرائيل , واكتشف الرجل بعد فترة أن هذه السياسات التي أعلن عنها لا يتسع لها حدود الملعب و لا تتفق مع قواعد اللعبة التي يرسمها المجلس العسكري فترك منصبه وما زالت سياسة مصر الخارجية على حالها , كما كانت في عهد مبارك وكأن ثورة لم تقم , وكأنه لم يكن من بين أسباب قيامها هذه المطالب المتعلقة بسياسة مصر الخارجية .

هذا عن سياسة مصر الخارجية أما عن الأوضاع في الداخل, فالملاحظ أن المجلس العسكري حرص على أن يقف بمطالب الثورة عند حدود معينة لا تتجاوزها ,وقاوم أى رغبة في تجاوزها بكل العنف والشراسة على نحو لم تعرفه قبلا الثورات التي يفترض أنها انتصرت.

فلم يحدث في التاريخ أن ثورة انتصرت , ثم حاكمت قيادات النظام الساقط بمقتضي القوانين التي كانت تجرم الثورة عليهم وتعتبرها خروجا على النظام يستوجب العقاب ؟ أو كما يقول هيكل :

" إن محاكمة رئيس الدولة – أى رئيس وأى دولة – يجب أن تكون سياسية تثبت عليه – أو تنفي عنه , مسئولية الإخلال بعهده ووعده وشرعيته مما استوجب الثورة عليه, أما بدون ذلك فإن اختصار التهم في التصدي للمظاهرات

-قلب للأوضاع يستعجل الخاتمة قبل المقدمة ,النتائج قبل الأسباب ذلك أنه إذا لم يظهر خروج مبارك على العهد والوعد والشرعية , إذن فقد كان تصديه للمظاهرات ممارسة لسلطته واستعمالا للوسائل الكفيلة بحفظ الأمن العام للناس , والمحافظة على النظام العام للدولة وعليه يصبح التجاوز في إصدار الأوامر أو تنفيذها رغبة في حسم سريع , وربما تغفره ضرورات أكبر منه أو في أسوأ الأحوال تزيدا في استعمال السلطة قد تشفع له مشروعية مقاصده !!"

- ولم يحدث في التاريخ أن ثورة انتصرت وأبقت على أجهزة الأمن التي كانت أداة النظام في البطش بالشعب على حالها, من غير تغيير جذري يشمل قادتها , الذين لابد وأنهم يشعرون بحكم الطبع البشري – بالحقد تجاه من تغلبوا عليهم, ويتحينون الفرصة لجولة أخري ينتصرون فيها على من قهروهم .

- هذا فضلا عن تغيير عقيدة ضباط هذه الأجهزة لتصبح حقيقة , وفعلا في خدمة الناس , ليس التسلط عليهم , وهذا كله يتطلب أعمال على أرض الواقع واضحة وملموسة .

- ولم يحدث في التاريخ أن ثورة انتصرت ولم تفتح الصندوق الأسود لأجهزة الأمن السياسية لتجتث ورما سرطانيا, لن يلبث أن يسترد عافيته إن ترك على حاله, هذا إذا أريد فعلا إقامة دولة متقدمة وعفية .

- ولم يحدث في التاريخ أن ثورة انتصرت وأبقت على منظومة القوانين التي كان النظام الساقط يستغلها في التنكيل بمعارضيه وقهرهم وتحصنه من المسئولية.

- ولم يحدث في التاريخ أن ثورة انتصرت ولم تحاسب ولو بالعزل السياسي , ورجال إعلام كانوا أداة النظام الساقط في البطش بعقول الناس والترويج لذلك النظام في صورة جلية مفضوحة من صور النفاق المدمر للشعوب والدول ورجال سياسة وقانون ساهموا عن وعي بإفساد الحياة السياسية .

- ولم يحدث في التاريخ أن ثورة انتصرت وأسقطت نظاما وعجزت عن إلغاء القانون الذي كان يسمح بمحاكمة معارضي النظام أمام المحاكم العسكرية, التي كانت من أدوات بطشه بهم , مع العلم أن المحاكم العسكرية في كل الدول المتقدمة هي مجرد مجالس عسكرية لفرض الانضباط العسكري دون أن يكون لها الحق في محاكمة لا المدنيين ولا حتى العسكريين ممن ارتكبوا جرائم تخضع لأحكام قانون العقوبات والقوانين المكملة له .

- ولم يحدث في التاريخ أن ثورة انتصرت وكان من بين أسباب قيامها الاعتراض على السياسة الخارجية للنظام الذي أسقطته , وما كان عليه من انبطاح كامل تجاه أمريكا وإسرائيل ثم تستمر نفس السياسة إلى ما بعد نجاح الثورة .

لقد كان تخاذل حكم العسكر تجاه قتل إسرائيل ستة من الجنود المصريين هو الذي دفع بالشباب إلى الاحتجاج على طريقتهم بمحاولة اقتحام السفارة الإسرائيلية وطرد السفير , ومع ذلك يحاكم هؤلاء الشباب أمام المحاكم العسكرية ؟!.. ولو كان المجلس العسكري قد اتخذ موقفا مناسبا يدافع فيه عن كرامة مصر لما حصل أصلا هذا الاقتحام.

- ولم يحدث في التاريخ أن ثورة انتصرت وأسقطت نظاما ثم وهي في قمة انتصارها تفرض عليها حكومة تنتمي إلى النظام الذي أسقطته أو على الأقل يرأسها شخص ينتمي إلى ذلك النظام لأنه وبحكم الطبيعة البشرية لا يمكن لشخص استمر في موقع السلطة قريبا من رأس ذلك النظام, ولمدة طويلة إلا أن يكون لدي هذا الشخص الاستعداد النفسي والخلقي للتواؤم معه ومع توجهاته على نحو أو آخر .

- كل ذلك جعل الثوار وبحق يدركون أن قبولهم كل هذه الأوضاع كرها عنهم خطوة نحو تسليم الثورة لأعدائها, أو بالقليل هي جولة أخري خاسرة في الصراع مع الثورة المضادة التي تريد تحويل الثورة إلى مجرد حركة إصلاحية لا تمس المصالح الاقتصادية لغير مبارك والمجموعة التي قبض عليها دون غيرهم ممن يتمتعون بهذه المصالح ولم تقترب منهم الثورة حتى الآن .

- ومن الملاحظ أن المجلس العسكري في تعامله مع شباب الثورة كان يتعمد كسر إرادتهم باستخدام قدر من العنف تجاوز في أحيان كثيرة ما كان يجري أيام النظام الساقط , مثال ذلك تعمد الإصابة في العيون وتعمد الضرب في مقتل , وسحل الفتيات بل ووصل الحال إلى حد تعريتهم فيما عرف بالكشف عن العذرية .

- وقد ترتب على التعامل العنيف مع المحتجين على قرارات المجلس العسكري المتجاهلة لأهداف ثورة يفترض أنها نجحت وقوع أعداد كبير من القتلي والمصابين دون تقديم أى شخص تسبب في إحداث هذه الإصابات أو الوفيات إلى المحاكمة ومن عجب أن الدولة اعتبرت من قتلوا في ماسبيرو , أو أمام مجلس الوزراء – مثلا – شهداء على حين اعتبرت أن زملاءهم ممن قبض عليهم مجرد مجرمين وقدمتهم إلى المحاكم العسكرية مع أنهم لو كانوا قد قتلوا لاعتبروا شهداء ؟! بمعني أن من مات يعتبر فعله مبررا على خلاف زميله الذي بقي حيا وارتكب ذات الفعل ؟!

لهذا كله أعتقد أن المجلس العسكري كان يعد الساحة خلال الفترة الانتقالية كي يمارس اللاعبون في السلطتين التشريعية والتنفيذية , دورهم في الحدود المرسومة ووفقا للقواعد المحددة, وإلا فإنه الصدام, الذي أصبح الجميع يحاذرون منه لأنه يفتح الباب إلى احتمالات غير معروفة , وإن بانت شواهدها , وخاصة وأن الانفلات الأمني , والأزمات المتتابعة , تعتبر قنابل موقوتة تنفجر تباعا لتنبيه الغافلين, أن الأمور ليست خارج السيطرة , وأن على الجميع أن يخفض من سقف مطالبه, وألا يبالغ في تطلعاته , ولكن السؤال هل يتضمن هذا الإعداد وصول شخص معين إلى رئاسة الدولة هذا ما ستجيب عنه الأيام .

حكم العسكر كارثة بكل المقاييس ذلك لأن العسكري لا يعرف معني الديمقراطية وإلا فقد عسكريته , فالعسكرية تقوم على الأمر والطاعة , صحيح إنه عادة ما يسبق إصدار الأوامر دراسة موسعة لكل الحقائق القائمة على الأرض ولكن في النهاية يبقي القرار للقائد وحده, الذي يصدر قراره على مسئوليته الشخصية فلا توجد في العسكرية مؤسسات ديمقراطية تشارك في صنع القرار كما تشارك في تحمل مسئوليته .

وشخصية القائد العسكري تبدأ في التشكل وهو طالب في الكلية الحربية , ثم تترسخ على مر السنين وهو يختلف عن المدني حتى وإن قضي فترة كان كمجند في القوات المسلحة ليعود بعدها إلى حياته المدنية , لأن هذه الفترة الوجيزة لا تشكل أسلوب حياته ونمط تفكيره بقية عمره .

لذا لم يعرف تاريخ أوروبا وأمريكا السياسي , سوى رئيسين عسكريين فقط , من بين المئات من الرؤساء المدنيين وهما إيزنهاور , وديجول , وجاءت شهرتهما نتيجة انتصارهما في الحرب العالمية الثانية وكانت من ورائهما مؤسسات ديمقراطية قوية تحدد بتشريعاتها وبتقاليدها حدود المسار الديمقراطي وتحول دون مجرد التفكير في الانفراد بالسلطة .

وعليه فمن عجب أن يدعو بعض ( الليبراليين ) إلى إطالة مدة بقاء العسكر في الحكم !

أو يدعو بعضهم إلى حل مجلس الشعب , بزعم عدم دستورية قانون الانتخابات رغم إنهم لم يعترضوا عليه في حينه, بل كانوا يؤكدون ضرورة صدوره بصورته الحالية لاستبعاد فلول النظام السابقة, وذلك لمجرد أن صندوق الانتخابات أتي بغير ما كانوا يأملون, رغم أن من شأن هذا الحل – إن حدث – أن يستعيد المجلس العسكري سلطة التشريع مرة أخري !

والأعجب أن يدعو البعض إلى أن يتضمن الدستور نصا يعطي القوات المسلحة الحق في حماية الحياة المدنية للدولة وكأن حكم العسكر لم يكن هو الذي دمر الحياة المدنية في مصر طوال الستين عاما الماضية حتى أصبحنا في ذيل الأمم المتحضرة ؟!.

الإخوان المسلمون وثورة 25 يناير

... الإمام الشهيد حسن البنا أنشأ الجماعة

...وعمر التلمساني حافظ عليها

...ومحمد بديع يأخذها إلى أين ..؟

عندما دعا الشباب إلى التظاهر يوم 25 يناير, أعلنت قيادة الجماعة أنها, كتنظيم , لن تشارك في المظاهرات وإن سمحت لشبابها بالمشاركة أو عدم المشاركة وفق تقدير كل منهم ومع ذلك فقد رأيت بنفسي عصر 25 يناير, أمام نقابة المحامين عددا من قيادات الجماعة أذكر منهم محمد البلتاجي .

وكان رأيي – وما زال – إن هذا القرار كان قرارا حكيما , فلم يكن من المقبول على ضوء التجارب التي مرت بالجماعة أن تلقي بنفسها كتنظيم في مظاهرات لا تعرف حجم مشاركة الشعب فيها , حتى إذا فشلت حملها النظام مسئوليتها , ونكل بها كما فعل في حالات سابقة لتكون عبرة لغيرها فما زالت ذاكرة الجماعة تعي ما حدث لها في عام 1949 , إذ رغم التيار الشعبي المناهض وقتها للسراي , والحكومات الأقلية وللنقراشي باشا تحديدا فإنه وقف موقف المتفرج على تنكيل الحكومة بها بعدما كان يشيد بأدائها في فلسطين .

كذلك الحال في عام 1954 فرغم أن التيار الشعبي في غالبيته, كان مناهضا لحكم العسكر , وتحديدا لعبد الناصر , مؤيدا لمحمد نجيب , إلا أنه وقف متفرجا على ما جري من تنكيل للجماعة رغم تعاطفه الهامس معها .

كان المعتقد بعد نجاح الثورة , وحصول الجماعة على حقها في التواجد الرسمي أن تستفيد من تجاربها التي دفعت فيها ثمنا باهظا من حريات ,ودماء وأموال أعضائها لكنها – للأسف – كررت نفس الخطأ الذي وقعت فيها عام 1954 , وذلك لأنه :

-اقترفت عن شباب الثورة , وعن قسم من الشعب ممن يتخوفون من المجهول الذي تمثله جماعات ما أطلق عليه الإسلام السياسي( وهو تخوف له ما يبرره سواء من تصرفات بعض هذه الجماعات أو من الحملات الإعلامية الضارية التي كانت تستهدفها طوال الستين عاما الماضية وحتى الآن ) وذلك بإعلانها الهوية كمطلب جماهيري , على حين أن كل ما كان يجب أن يجتمع عليه الجميع في تلك المرحلة هو المطالبة بإقامة نظام ديمقراطي وتطهير البلاد من عناصر الثورة المضادة ومن ثم مطالبة المجلس العسكري بتحقيق المطالب التي من شأنها تحقيق هذه الغاية .

-كذلك اندفعت الجماعة نحو السلطة , بطريقة تخلو من الحسابات الصحيحة , بتقدير أنها ستكون وسيلتهم إلى تحقيق مشروعهم للنهضة عملا بالمقولة السائدة " إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن " في الوقت الذي كان المجلس العسكري يرسم فيه حدود النظام القادم وقواعد العمل السياسي فيه, رافضا أن يحقق مطالب الثوار التي تتعارض مع ذلك مستخدما أكثر وسائل القمع معهم, لكسر إرادتهم , دون أن تحرك الجماعة ساكنا ,

والنتيجة إنه سيكون على الجمعة إما أن تمارس السلطة في الحدود التي رسمها العسكر , ووفقا للقواعد التي وضعوها خلال الفترة الانتقالية , وبذلك ستفقد ثقة الشعب , وإما الاصطدام بعدما أصبح الظرف غير موات له .

ففي خلال الفترة الانتقالية , اكتسبت الثورة المضادة مواقع كثيرة , وتغيرت أوضاع كثيرة إلى درجة أن عمر سليمان وجد في نفس الجرأة ليعرض نفسه على الشعب رئيسا للبلاد, وكل ذلك بسبب افتراق الجماعة عن الكتلة التي يطلق عليها شباب الثورة , والتي أثبتت الأحداث أن لها قدرة على الحركة ومستعدة للتضحية وأنها أبعد نظرا في كثير من الأمور من ذلك – مثلا – اعتراضهم على حكومة الجنزوري على نحو كلفهم أرواح العديد من الشهداء , في الوقت الذي كانت فيه الجماعة تؤيده لتعود بعد انقضاء عدة أشهر لتعترض عليه ؟!..

وكلها أمور تجعل من الاصطدام حاليا في غير صالح الجماعة تماما كما كان في أكتوبر 1954 ولذلك فإن التاريخ لن يرحم الجماعة إن فشلت ثورة 25 يناير, باعتبارها الكتلة الأكبر التي كان بوسعها الترشيد والقيام بالضغط المؤثر .

- عليه فإن موقف الجماعة من كمال الجنزوري مشابه تماما لموقفها من إسماعيل صدقي في العام 1946 , فقد كان منطقها في الحالتين, أنها لا تريد أن تبدو أمام الرأي العام , وكأنها تعارض لمجرد المعارضة, وأنه لذلك لا مانع لديها من أن تعطي لكل منهما الفرصة لكي تحكم أعماله عليه,

وكأن إسماعيل صدقي والجنزوري هبطا فجأة على الحياة السياسية , وكأنه لم يكن لكل منهما تاريخا طويلا في العمل السياسي يكفي للحكم عليه مسبقا بحيث إن الفرصة التي أعطتها الجماعة للرجلين , جاءت في الحالتين خصما من رصيدها لدي الرأي العام ,وإذا كان للجماعة عذرها في الأربعينيات باعتبارها مبتدأة في العمل السياسي فما هو عذرها بعد كل التجارب التي مرت بها ؟

على أن الأمر في خصوص تعيين حكومة الجنزوري لا يقف عند هذا الحد بل كان يتعين فهمه على أن تعيينه رغم الاحتجاجات الشعبية على هذا الاختيار هو وكما سلف رسالة من المجلس العسكري إلى الجميع بما فيهم الجماعة , بأنه يضع حدا لسقف المطالبات الشعبية لا يجوز تجاوزه, وكان عليها في حينه إما أن تقبل بهذه الرسالة أو ترفضها فتنضم إلى المتحجين علي هذا الاختيار إن حجم الخراب الذي خلفه حكم مبارك كبير جدا, بحيث يستحيل على أية جهة إصلاحه على نحو يكون له مردود مناسب في الأجل القريب , وهو ما يعني وجوب ألا تتصدر الجماعة المشهد بحيث تتحمل كل تبعات الفشل أو لنقل عدم النجاح بالقدر الذي يحظي بالقبول من مجتمع ينقصه الكثير.

- أنا لا أفهم – مثلا – لماذا قبلت الجماعة أن يكون رئيس مجلس الشعب والشورى منها ولا أفهم لماذا الإصرار على أن تكون لمجلسي الشعب والشورى نسبة كبيرة في لجنة وضع الدستور طالما كان هناك إجماع على المحافظة على هوية الأمة التي تمثلها المادة الثانية من الدستور ؟

إن مشروعا تقدمه الجماعة عن حجم الحريات العامة التي يجب أن ينضمها الدستور , والآليات الكفيلة بعدم إهدارها والعمل على جمع الأمة خلفه , أفضل بكثير من هذه المعركة التي لا طائل ولا فائدة منها .

- إن تحقيق المشروع الحضاري المستمد من قيم الإسلام من طهارة اليد , وتحقيق العدالة الاجتماعية وخلق مجتمع عملي غير استهلاكي وتنمية اقتصاده سيأخذ وقتا حتى يثق الناس في قدرة أنصار هذا المشروع على توفير حياة أفضل لهم وهو ما يتطلب أعمالا على أرش الواقع تقنعهم بذلك , بحيث إن سيطرة الجماعة على عدد من البلديات أو المحليات يكون له مردود أفضل من سيطرتها على مجلس الشعب في هذه الفترة التي تحاول فيها الجماعة تقديم نفسها إلى الناس بالتصريحات وبعضها يكون متناقضا وسط الحملات المكثفة من الدعاية ضدها لأكثر من ستين عاما هذا بشرط أن تنجح الجماعة بالفعل في تقديم خدمة أفضل , وأكثر تميزا للجمهور .

- تخطئ الجماعة كثيرا إذ تصورت أن أمريكا تقبل بقيادتها لأي بلد في المنطقة, وهي ان كانت تقترب منها حاليا فذلك أخذا بالقاعدة المعروفة في السياسة أنه إذا ما أردت أن تخنق عدوك فعليك بالاقتراب منه إلى أقرب مدي ممكن وهو ما يدعو الجماعة إلى أن تقترب من السلطة بحذر شديد وتمهد الأرض لذلك بالتأكيد للجميع بالأفعال ولو تضمنت بعض التنازلات لا بالأقوال , إن مشروع الجماعة القصد منه إصلاح حال الوطن والمواطنين وليس قلب الأمور رأسا على عقب كما يصور الإعلام الذي يسعي , بعضه إلى الإثارة عن سوء نية, وبعضه الآخر عن سوء قصد .

- إن أداء الجماعة في مجلس الشعب , لم يكن بالأداء المتميز , لأنه من غير المعقول – مثلا – أن يستخدم الكتاتني سيارة رئيس المجلس السابق , رغم حديث الجماعة المتكرر عن الزهد, والبعد عن مظاهر الحياة وبساطة الخلفاء الراشدين.... الخ كما أنه من غير المقبول أن يستعين رئيسا مجلسي الشعب والشورى , بنفس الطاقم الإداري لرئيسيه السابقين وهم بالقطع ممن يحتفظون بولاء كامل لنظام المخلوع .

- وتحاول الجماعة أن تركب قطار الثورة الذي غادرته مبكرا , ولكنها ستدرك إنه خلال العام ونصف العام المنصرمين تغيرت أمور كثيرة تماما كما تغيرت خلال الفترة من مارس 1954 إلى أكتوبر 1954 , منها انصراف الكثيرين من أفراد الشعب إلى شئون حياتهم اليومية التي حرصت الثورة المضادة على الإضرار بها حتى يكفروا بالثورة والثوار ,

ومنها انعدام الثقة بينهم وبين باقي القوي الثورية , ومنها القيود التي وضعها المجلس العسكري أمام مؤسسات الدولة في ممارسة كل منها لدورها خلال الفترة التي توقف فيها الضغط الشعبي عليه وتركه يقوم بوضع الحدود للعمل السياسي خلال الفترة المقبلة ,ومنها الألغام الكثيرة التي لابد وأن ينشغل النظام القادم بنزعها بدلا من أن يتفرغ للبناء ...

حسابات خاطئة تكرر نفسها ويدفع الجميع ثمنها لكنني أثق كل الثقة إنه ليس وراءها – كما يقولون – صفقة بين الجماعة والعسكر لأن الذي لديه استعداد لإبرام الصفقات لا يضحي كل هذه التضحيات على مر السنين من أجل عقيدته , إلى حد الاستشهاد وكان من الأيسر له أن يتقي كل ذلك بعقد الصفقات حقنا لدماء أعضاءه ووقف النزف الناتج عن الاضطهاد المستمر على أنه وللإنصاف فلابد من القول إنه لدي بعض من يضعون أنفسهم في خانة الليبراليين " قدر كبير من التحامل غير المنطقي

بل وغير الأخلاقي أحيانا على الجماعة أيا كانت حساباتها وتصرفاتها بل إن الحسابات السياسية لهؤلاء قد تصل أحيانا إلى حد الشطط فتستخدم في خلافها معها نفس منطق النظام السابق فلا تمانع في استمرار حكم العسكر بدعوي حماية الوطن من حكم ( الأغلبية) ذات التوجه الإسلامي حتى ولو كان في ذلك إعادة لمصر إلى ذات المربع الذي كانت تقف فيه قبل ثورة 25 يناير, ولا شك أن إطالة الفترة الانتقالية , ومن ثم إطالة فترة حكم العسكر , وكانت نتيجة للمشاكل التي أثارها هؤلاء كيدا للجماعة .

بل إنه كثيرا ما يتجاوز طعن هؤلاء في الجماعة إلى الطعن في الإسلام ذاته, وهو ما رصده وانتقده الكاتب الإسلامي الكبير فهمي هويدي في أكثر من مقال له. بمعني أن جميع الفرقاء مدعوون إلى إعادة حساباتهم لما فيه مصلحة الوطن من أجل إقامة نظام ديمقراطي تكون الكلمة فيه لصندوق الانتخاب , وبعدها يكون الاختلاف حول أفكارهم ومبادئهم أما قبل ذلك فنكون أشبه بمن يبيع جلد الدب قبل صيده .

أقول هذا ليس تبريرا لأخطاء الجماعة فالخطأ لا يبرر الخطأ وإنما أقوله على سبيل رصد صورة الحقيقية لأجزاء هامة من المشهد السياسي القائم .

كلاكيت ثاني مرة(الجماعة والعسكر)

لم يكن لهذا الفصل أن يضاف إلى الكتاب بعدما فرغت منه لولا تأخر الصديق والكاتب والمفكر الكبير فهمي هويدي في كتابة تقدمة الكتاب , إذ جرت خلال ذلك أحداث أحسب أن رصدها والتعليق عليها لا يخرج عن السياق , لأنها تقع في المربع الذي يقف فيه كل من العسكر والجماعة إن لم يكن تقف فيه الثورة والعسكر .

راهنت الجماعة مبكرا على التغيير عن طريق الشرعية الدستورية ونزلت من قطار الثورة مبكرا لتكتشف بعد فترة تزيد على العام أن أمور كثيرة تغيرت في المشهد وإن أوضاعا استجدت ما كان لها أن تحدث لو بقيت في الميدان خلف مطالب الثورة والثوار التي لا يمكن اعتبار أن الثورة قد نجحت قبل تحقيقها , تاركة الثوار وحدهم في مواجهة الملعب وقواعد اللعب التي على الجميع – بما فيهم هم – الالتزام لقد كانت هذه الفترة الانتقالية أشبه إلى حد كبير بالفترة الواقعة بين 31 مارس 1954 وبين يوليو من ذلك العام .

لقد سمحت هذه الفترة الانتقالية للعسكر بأن يعدوا الملعب لاستقبال رموز وقيادات النظام السابق وكل المستفيدين من فساد, بعدما تعافوا من الصدمة التي أحدثتها بهم الثورة وأن يتجمعوا بقيادة أحمد شفيق , بعدما وجدوا أنه من الأفضل ألا يتصدر عمر سليمان المشهد, وأن يبقي في الكواليس ناصحا ومرشدا فاستبعدته اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية لنقص في التوكيلات عدده 36 توكيلا ؟

وقبلت بشفيق كمرشح رئاسي فيما يمكن تسميته " مهزلة قانونية " إذ تجاهلت من أجل ذلك اعتبارات قانونية يعرفها الشادي في القانون فضلا عن أن يكون من رجاله العاملين سنوات في حقله ؟!

كانت عودة الرجل إلى الساحة بعد طرده كآخر رؤساء وزراء المخلوع تتسم بقدر كبير من البجاحة كما تحمل نذير شؤم للثورة التي راهنا على أنها يمكن أن تنقل مصر إلى القرن الواحد والعشرين فأمامنا من أجل ذلك شوطا كبيرا )

استخدم المجلس العسكري من أجل هذه العودة المشئومة لا ذهب المعز وسيفه , بل سيفه فقط , فنحن في نظرهم أهون شأنا من أن نسترضي بذهب المعز, وإنما يكفينا سيفه, وكان ذلك في صورة ترويع مستمر بانفلات أمني محسوب ,وأزمات اقتصادية متتالية , وترويع إعلامي استخدمت فيه كل الآليات الإعلامية للنظام الساقط , فضلا عن إثارة الإعلام بصورة ذكية للنعرات الطائفية باختصار استطاعت هذه الفترة الانتقالية أن تستقطب أسوأ التوجهات لدي قسم لا بأس به من الشعب .

كان شفيق هو الحصان الأسود الذي ستراهن عليه كل القوي المناهضة للثورة سواء أكانت قوي محلية أو دولية فغير خفي مثلا مدي ترحيب الصحف الإسرائيلية باحتمال نجاحه في الانتخابات, حتى إن بعض هذه الصحف الإسرائيلية اعتبرت أنه في حال فوزه سيكون كنزا استراتيجيا لإسرائيل أفضل من حسني مبارك نفسه لأن حسني مبارك كان يفرض شرعيته بانتخابات مزورة أما شفيق فهو سيتصدر بانتخابات ديمقراطية.

المهم أن الانتخابات أسفرت عن الإعادة بين الحصان الأسود , وممثل الجماعة, وهو وضع جد خطير ويفتح أمام احتمالات كثيرة بالنسبة للثورة عموما , وللجماعة خصوصا ,وهي نتيجة ناجمة عن افتراق الجماعة عن الثورة والثوار في وقت مبكر .

لو فاز الحصان الأسود – لا قدر الله – فمعني ذلك عودة نظام مبارك بذات توجهاته, وكذلك بذات آلياته التي ما زالت قائمة على أرض الواقع ,ومن ثم عودة الجماعة إلى موقع المعارضة وبالتالي التي ما زالت قائمة على أرض الواقع , ومن ثم عودة الجماعة إلى موقع المعارضة وبالتالي تعرضها إلى ما كانت تتعرض له من اضطهاد ويصف وائل غنيم في كتابه " الثورة " ( ص 44 ) هذا الوضع فيقول :

" كانت الجهة الأكثر تأثرا والتي ظلت في صراع محتدم مع النظام المصري منذ نشأتها في عام 1928 هي " الإخوان المسلمون " ولذلك ظلت شعبية الإخوان في الشارع فزاعة يستخدمها النظام مع الغرب عندما يتم مطالبته بتطبيق ديمقراطية حقيقية .

دفع الإخوان ثمنا غالبا لتصميمهم على دخول المعترك السياسي رغم تضييق النظام عليهم, وهم أكثر من اعتقل وأكثر من تم تحويلهم إلي محاكمات عسكرية وأكثر من شوهوا إعلاميا "

الدور الثاني – أو الملحق

أعطي الشعب مرشح الجماعة ملحقا أو دور ثانيا , لعله يستدرك ما فاته في الامتحان السابق فيما يشبه الفرصة الأخيرة لها منتزعا هذه الفرصة من فم الأسد , فليس بخاف أن المجلس العسكري استخدم أمشي سلاحين للترويج لشفيق من أجل استمرار حكم العسكر لمصر , وهما سلاحي الترويع والتجويع .

الترويع المتمثل في الانفلات الأمني الذي دفع الناس إلى تسليم أمر أمنهم إلى المسئولين عن الإخلال به !

والتجويع المتمثل في الانفلات الأمني , الذي دفع الناس إلى تسليم أمر أمنهم إلى المسئولين عن الإخلال به !

والتجويع المتمثل في الأزمات الاقتصادية التي وصلت إلى حد إتلاف جزء كبير من الثروة الزراعية نتيجة ندرة المياه لتعطل آلات الري بسبب اختفاء السولار , مما دفع الناس كذلك إلى تسليم أمر لقمة عيشهم إلى من يتحكمون فيها !

هذا بالإضافة إلى المدفعية الثقيلة التي شنها هذا النوع من الإعلام المنحط على الجماعة هذا الإعلام الذي تربي في حظائر الاستبداد على استجداء المنافع ولو كانت مجرد فتات.

لقد أدرك الشعب بفطرته أن الصراع في حقيقته ليس كما يصوره البعض , صراعا بين الحكم الديني وبين الحكم المدني , بل هو صراع بين الحكم المدني وبين الحكم العسكري , لأن مرسي ليس رجل دين فانحاز إلى الحكم المدني .

لقد أدرك الشعب بفطرته أن انتخاب شفيق يعني عودة نظام مبارك إلى الحكم هذا النظام الذي أوصل البلاد والعباد إلى الحال التي هي عليه, وهي حال يكفي وصفا لها أن مصر في ظل هذا النظام أصبحت تستعين بالخبرة الأجنبية لا في صنع صاروخ متطور مثلا , وإنما في جمع قمامتها ؟ هذا عن مصر الداخل أما عن مصر الخارج فقد أصبحت بفضل ذلك النظام الحليف الاستراتيجي لإسرائيل ؟!.

لقد أدرك الشعب بفطرته إنه حيال مرشح كذاب , وذلك عندما زعم شفيق في كذب مفضوح أن الجماعة اشتركت في الاعتداء على الثوار فيما عرف بموقعة الجمل , ومعروف أن أفدح الجرائم في النظام الديمقراطي هي كذب الرئيس , فآثر أن يعطي الفرصة لمرشح الجماعة, وإن كان ذلك في نظر البعض هو أهون الشرين .

استخدم شفيق ذات الرشاوي الانتخابية التي كان يستخدمها الحزب الوطني , وكان ذلك عندما أعلن إنه لن يحاسب أحدا على قيامه بالبناء على الأراضي الزراعية في الفترة السابقة على وصوله إلى سدة الحكم , وكان من نتيجة ذلك زيادة الاعتداء على الأراضي الزراعية في زيادة غير مسبوقة في الأسابيع القليلة السابقة على انتخابات الرئاسة , ورغم ذلك فلم تؤثر هذه الرشوة على عدد لا بأس به من أفراد الشعب ممن آثروا إعطاء أصواتهم لمرسي في فرصة أخيرة للجماعة.

لذا فإن هذه الفرصة الأخيرة التي يمنحها الشعب للجماعة تدعوهم إلى مواجهة أخطائهم في الفترة السابقة بقدر كبير من التفهم , والعمل على تلافي أثارها ذلك أن لمهمة الثقيلة التي تنتظر رئيس الدولة تقتضي اجتماع كل القوي الفاعلة في المجتمع لمواجهتها .

على الرئيس القادم أن يقنع الناس فعلا لا قولا إنه كل المصريين , وأن الوزارة التي سيقوم بتشكيلها هي وزارة ائتلافية فعلا لا قولا , وأن يضع شعار المشاركة لا المغالبة موضع التنفيذ الحقيقي ,وأن يدرك أن كل المطلوب في هذه المرحلة هو بناء نظام ديمقراطي يجعل الصندوق هو الحكم بين الآراء المتعارضة .

نظام يحول دون اعتقال المعارضين أو المخالفين لأن العمل على تحقيق المبادئ والشعارات في واقع لا يسمح بذلك , أشبه بزراعة نبتة في أرض بور لا تصلح للزراعة أو الاستنبات .

هذا وإذا كان عبد الناصر قد استطاع أن يجمع أفئدة المصريين حوله, في أول عهد بالحكم رغم الاختلاف حول شخصه في ذلك الحين بتأميم القناة لصالح الشعب , فيمكن للرئيس أن يجمع القلوب والعقول حوله إن هو أمم مزايا المنصب الرئاسي لصالح الشعب, فلا معني مثلا أن يتمتع الرئيس بكل هذه المنتجعات والاستراحات في طول البلاد وعرضها , بحيث يجب أن تعود منفعة كل هذه الاستراحات باستثناء واحدة إلى الشعب وبالذات إلى فقرائه في شكل مستشفيات أو حتى منتجعات للأطفال اليتامى.

كذلك لا معني إطلاقا لهذه التشريفات التي يقف فيها الجنود على الصفين تحت الشمس الحارقة كلما ذهب الرئيس أو أتي وهو منظر لم أشاهد له مثيلا خلال إقامتي في الكويت لمدة 35 عاما فقد كان أمير الكويت يذهب ويأتي بغير هذه التشريفة وهو أمير من صلب أمير, وليس رجلا من عامة الشعب .

لتصبح الرئاسة مؤسسة ولا بأس من الاستعانة بخبرات غيرنا من الدول المتقدمة في هذا الشأن فالحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق بها ولتكن الشفافية هي الأصل في كل ما يتعلق بهذا المؤسسة فمن غير المعقول مثلا أن يكون بالوسع معرفة دخل أوباما في أمريكا على حين يستحيل معرفة دخل رئيس جمهوريتنا .

إنها الفرصة الأخيرة فهل تحسن الجماعة انتهازها ؟.

الانفلات الدستوري

عندما تصور المجلس العسكري أن هناك ثمة احتمال لعدم حصول شفيق على منصب الرئيس بما مؤداه تحول مصر من الحكم العسكري إلى الحكم المدني اتخذ مجموعة من الإجراءات ابتداء من يوم الخميس الذي عرف بيوم الخميس الأسود كان القصد منها تجريد الرئيس من أهم صلاحياته, تماما كما كان عليه الحال مع مجلس الشعب الذي كان الحل مصيره عندما حاول أن يمارس أهم صلاحياته وهي مراقبة أداء السلطة التنفيذية .

من ذلك صدور حكمي المحكمة الدستورية بعدم دستورية ما سمي بقانون العزل وكذا عدم دستورية قانون انتخابات مجلس الشعب في ذلك الخميس الأسود , ثم مسارعة المجلس العسكري باتخاذ إجراء لا يملكه وهو حل مجلس الشعب مستبقا في ذلك حكم محكمة القضاء الإداري التي أحالت إلى المحكمة الدستورية قانون الانتخابات للنظر في أمر دستوريته من عدمه , وهي المحكمة ( أى المحكمة الإدارية ) المنوط بها وحدها الحكم بحل مجلس الشعب إن هي اعتبرت أن الحكم بعدم الدستورية يشمل كل قانون انتخابات مجلس الشعب , أو الحكم ببطلان انتخاب نفرا من أعضائه إن هي اعتبرت أن الحكم بعدم الدستورية يقتصر على المواد التي تسمح للأحزاب بالترشح في الدوائر المخصصة للمستقلين .

تم قيام المجلس العسكري بعد ذلك بإصدار إعلان دستوري مكمل بدعوي تحديد صلاحيات رئيس الدولة وهو في حقيقة الأمر محاولة منه لتجريد الرئيس المنتخب من صلاحياته من ذلك مثلا حرمانه من سلطة التشريع في غيبة المجلس التشريعي بدعوى أنه لا يصح وفقا لمبدأ الفصل بين السلطات أن يجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وهو ادعاء غير صحيح ذلك لأن المجلس العسكري وهو غير منتخب يجمع بالفعل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وعليه فلماذا يكون ذلك حلالا للمجلس العسكري وحراما على الرئيس المنتخب .

هذا فضلا على إنه من المقرر في فقه القانون الدستوري أن من حق رئيس الدولة في حالة غياب البرلمان أن يصدر مراسيم بقوانين لها قوة التشريعات على أن تعرض على البرلمان عند أول انعقاد له .

كذلك فقد تضمن هذا الإعلان الدستوري حق رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة في الاعتراض على أى نص دستوري يتعارض مع أهداف الثورة ومبادئها الأساسية دون تحديد لهذه الأهداف والمبادئ تاركا أمر هذا لتحديد لمطلق تقديره الأمر الذي يتيح له التدخل في صياغة الدستور وفق توجهاته .

وفي موجة هذا الانفلات الدستوري أصدر وزير العدل قرارا جاء بالقطع بناء على طلب من المجلس الأعلى , يعطي ضباط الجيش سلطة الضبطية القضائية وهو قرار باطل لمخالفته نص المادة 23 من قانون الإجراءات الجنائية التي تخول وزير العدل حق التفويض لممارسة تلك السلطة بالنسبة لبعض الموظفين بالنسبة للجرائم التي تدخل في اختصاصهم والتي تكون متعلقة بأعمال وظائفهم .

بمعني أن التفويض محدد بهذه الجرائم التي تقع في دائرة اختصاص الموظف العمومي , ولما كان ضباط الجيش لهم وظيفة أصلية لا علاقة لها بهما يجري في الشوارع والميادين فإن هذا التفويض الممنوح استثناء لوزير العدل لا يشملها , وبذلك يعتبر هذا القرار الذي يمنح ضباط الجيش سلطة الضبطية القضائية إجراء مخالفا للقانون , وهو ما يعتبر كذلك طعنا في قلب مسيرتنا نحو الدولة المدنية إذ يدخل القوات المسلحة في صلب عمل الشرطة التي هي مؤسسة مدنية وإن كان لها أن تستعين بالقوات المسلحة في حالة الطوارئ فقط هذه الحالي التي يفترض أنها ألغيت !.

كذلك أنشأ المجلس الأعلى ما عرف بـ " بمجلس الدفاع الوطني " بعضوية 6 مدنيين و11 عسكريا على ألا ينعقد أو تصدر قراراته بالأغلبية المطلقة أى أنه جعل القرار فيه للعسكريين وحدهم ومع ذلك يدعي المجلس العسكري أنه يعمل على إنشاء دولة مدنية ؟!...

كما وأن المجلس العسكري حرص على أن يعين للرئيس القادم الطاقم الرئاسي الذي سيعمل معه أو بالأحرى الذي سيكون أسيرا , دون أن ينتظر حتى أن يقسم هذا الرئيس اليمين الدستوري ثم يتشاور معه في اختيارهم .

وإذا كان البعض يعتبر كل ذلك بمثابة انقلاب دستوري من المجلس العسكري فإنني أفضل اعتباره انفلاتا دستوريا, يرسخ حكم العسكر للبلاد, يؤكد حقيقة أن تدخل المجلس العسكري في الثورة لم يكن لحمايتها بل لاحتوائها .

والسؤال هو لماذا ؟ وللإجابة أقول :-

إن مصر القوية باقتصادها وبمؤسساتها وبشعبها وبسياستها المستقلة , من شأنه أن يهدد النفوذ الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة لذا فقد أحدثت الثورة المصرية زلزالا في كل من أمريكا وإسرائيل .

والذي أعلمه من صديق يدير أحد مراكز الضغط في الولايات المتحدة الأمريكية , أن أمريكا حرصت على أن لا تجابه الثورة بالدم لأنها تدرك أنها هي التي ستتحمل مباشرة المسئولية الأدبية عن هذا الدم, باعتبارها الحليف الاستراتيجي لنظام مبارك لذا رأت أنه من الأفضل الالتفاف على الثورة بدلا من مجابهتها بالقوة , مستغلة في ذلك علاقات امتدت لأكثر من ثلاثين عاما مع بعض القيادات العسكرية في مصر,

لهذا يقول الكاتب الكبير الأستاذ فهمي هويدي " إن القطيعة مع النظام السابق لم تعد مطروحة ولكن المطروح بقوة هو استمرار دور المجلس العسكري واستنساخ النظام القديم مع ادخال بعض التعديلات التكميلية عليه أما محور الصراع الدائر فلم تنحيته من على الطاولة , وإن الكلام عنها – إذا صار – فإنه لم يعد يتجاوز صرف تعويضات أسر الشهداء وعلاج المصابين كأننا بصدد الدخول في مرحلة إزالة آثار الثورة .

ويضيف الكاتب الكبير فيقول :" المسألة لم تعد نفقا مظلما دخلته الثورة وسط حفاوة نفر من محترفي السياسة والثقافة وأعوان النظام السابق , لكنها نقطة تحول في مسار الربيع العربي كله, أحسب أنني ليس الوحيد الذي تلقي تعليقات الدهشة والقلق التي انتابت أوساط النشطاء العرب حين صدمتهم أخبار الانقلاب الذي حدث في مصر يوم الخميس ".

وفي مقال آخر له يقول توصيفا للحالة الراهنة :-

" لقد سقطت الأقنعة ورفعت الأستار يوم خميس النكوص الذي وجه فيه المجلس العسكري سلسلة من الضربات الموجعة التي عصفت بالآمال المعلقة على استمرار المسيرة وتسليم إدارة البلد إلى السلطة المدنية المنتخبة في الثلاثين من شهر يونيو الحالي , وكانت خلاصة الرسالة أو مجموعة الرسائل التي تلقيناها منذ ذلك الحين تقول إن المجلس العسكري فوق السلطة وليس جزءا منها ولأنه انتخب نفسه فليس لأحد عليه ولاية , ثم إن هناك فرقا بين وجاهة السلطة وممارستها ,والوجاهة من نصيب المدنيين المنتخبين , أما إصدار القرار فإن لم يكن بيد المجلس العسكري فللأخير حق الاعتراض عليه , ومن لا يعجبه ذلك فالمحكمة الدستورية – التي صارت إحدي أدوات المجلس العسكري – هي الحل.

أمريكا وحكم العسكر

بما أننا ما دمنا بصدد الحديث عن حكم العسكر فأحسب أنه لابد من كلمة تتناول هذه الصورة من صور الحكم على وجه العموم, وهي الصورة التي تخرج فيها القوات المسلحة عن وظيفتها الأساسية وهي حماية حدود الدولة لتباشر الحكم سواء بصورة مباشرة , أو حتى بصورة غير مباشرة من وراء ستار .

يمكن القول إن الانقلابات العسكرية للجيوش الحديثة هي فكرة أمريكية بامتياز فكما يقول " نعوم تشومسكي " : - " وإن استعرضنا استعراضا خاطفا للسجل التاريخي الأمريكي يبين أن المحور الدائم في السياسة الخارجية الأمريكية إنما كان تخريب الأنظمة البرلمانية والإطاحة بها واللجوء إلى العنف لتدمير المنظمات الشعبية التي قد تتيح لأغلبية السكان فرصة الدخول إلى الحلبة السياسية .

والعلة في ذلك هي أن السيطرة على الحاكم الفرد والتأثير فيه بإخضاعه للضغوط يبقي أيسر كثيرا من السيطرة على الشعب بمؤسساته الديمقراطية .

صحيح أن بعض الانقلابات العسكرية التي قد يكون موحي بها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية قد تنتهج سياسة مناهضة لها , ولكن ذلك إن حدث فإنه يكون أشبه بالحروق التي تحدثها عملية تطويع الحديد في يد الحداد فلا توجد سياسة ناجحة مائة بالمائة .

أدارت أمريكا بنجاح العديد من الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية واستطاعت عن هذا الطريق السيطرة على اقتصاديات العديد من دولها ثم مارست التجربة بعد ذلك في أفريقيا وفي بعض دول العالم العربي وكانت البداية في سوريا .

وأذكر في هذا الصدد عبارة كنت قد قرأتها في مذكرات " دين أتشيسون " وزير خارجية أمريكا في فترة الأربعينيات قبل وقوع الانقلاب العسكري في سوريا , يقول فيها :" إنه كلما التقي وزير خارجية إحدي الدول العربية سمع منه حديثا مراهقا ( وهو نفس تعبيره ) عن الحق السليب في فلسطين وإنه لذلك فقد آن الأوان لأن تذهب هذه الأنظمة لتخلفها نظم أكثر وعيا بالحقائق المستجدة في المنطقة بعد قياد دولة إسرائيل .

وعندما قرأت عن أحوال دون أمريكا اللاتينية أثناء وقوعها تحت حكم العسكر قبل أن تتخلص من هذا النوع من الحكم كي تبدأ مسيرتها نحو الديمقراطية ومن ثم مسيرتها نحو التقدم فوجئت بأن أحوالها كانت تتشابه مع الحال في مصر تحت حكم العسكر خاصة بعد الفترة الناصرية وعلى الخص تحت حكم مبارك .

يقول تشومسكي في مؤلفه سالف الذكر , أن الكلفة الاجتماعية التي دفعها الشعب تحت حكم الجنرال " بين وشيه" في تشيلي كانت أعلي كلفة في أمريكا اللاتينية فقد ارتفع فقراء تشيلي من ميلون شخص إلى سبعة ملايين شخص , من تعداد سكان يبلغ 12 مليونا, وإن النمو الاقتصادي للدولة انتفع به 10% من السكان فقط وإن الأخذ باقتصاديات السوق لم يؤدي إلا إلى زيادة ثراء الأثرياء وزيادة فقر الفقراء ,وإن التردي البيئي في تشيلي أصبح مشكلة كبيرة وإن التهاب الكبد وحمي التيفود والديدان أصبحت تمثل مشكلة كبيرة للدولة , تماما كما تمثل القمامة والالتهاب الكبدي واحدة من المشكلات الكبير في مصر .

وذات الشئ بالنسبة للبرازيل في ظلم حكم العسكر وكذلك الأرجنتين التي تجاوزت فيها نسبة من هم تحت خط الفقر تحت حكم العسكر 40% كما هو الحال عندنا تماما .

وجدير بالذكر أن كل هذه الدول تغيرت أحوالها تمام بعدما ثارت على حكم العسكر ,

وقطعت شوطا كبيرا في طريق الديمقراطية , تري هل يمكن أن يحدث ذلك في مصر فيترك العسكر الديمقراطية تأخذ مسيرتها دون عوائق ؟! الأيام وحدها الكفيلة بالإجابة عن هذا السؤال .

لذا فإننا إذ ننادي بقيام دولة مدنية ديمقراطية فإننا نأمل في إقامة دولة عصرية متقدمة تعير لمصر دورها في قيادة المنطقة , بعدما تخلت طائعة عن هذا الدور نزولا على رغبة الحليف الاستراتيجي الأمريكي ! وكذا الحليف الاستراتيجي الإسرائيلي ؟!

وفي ذات الاتجاه يقول دكتور خالد أبو الفضل :-

" إن السياسة الأمريكية نحو مصر كانت منقسمة على ذاتها في الأشهر الماضية بين وجهتي نظر وزارة الخارجية الأمريكية , التي كانت تري دعم الديمقراطية في مصر , وعدم دعم مرشح رئاسي بعينه وانتظار ما ستسفر عنه انتخابات الرئاسة .

وحتى لو جاءت بمرشح " الإخوان " الذين قدموا للولايات المتحدة ضمانات بعدم المساس بالخطوط الحمراء للمصالح الأمريكية في مصر والمنطقة , وبين وجهة نظر وزارة الدفاع الأمريكية " البنتاجون " المدعومة بموقف اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة والتي تري أن مصلحة " واشنطن " لن تتحقق إلا بدعم الفريق أحمد شفيق , بشكل يعبر عن استمرار استقرار مصالح أمريكا في مصر والمنطقة وكان البيت الأبيض يميل لوجهة نظر وزارة الخارجية الأمريكية لكنه اضطر للاستجابة للضغوط الصهيونية على القرار الأمريكي في ظل اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية , فكان قرار البيت الأبيض بتبني وجهة نظر وزارة الدفاع.

وإن المجلس العسكري في مصر وكذا حكومة المملكة العربية السعودية لعبا دورا في إقناع البيت الأبيض بوجهة نظر وزارة الدفاع الأمريكية بأن الثورة المصرية انتهت ولم يعد لها تمثيل في الشارع المصري الذي سئم حالة عدم الاستقرار, التي بدأت منذ أحداث يناير 2011 لذا كان قرار البيت الأبيض المطالب للمجلس العسكري بدعم " شفيق " في الانتخابات الرئاسية بجميع الطرق المشروعة .

لكن المفاجأة كانت هي تغلب "مرسي" على " شفيق " في معظم الدوائر التي تابعتها الوفود الأمريكية التي تابعت الانتخابات ولقد حضرت مناقشات في الأيام الأخيرة في العاصمة الأمريكية تتحدث كلها عن ضرورة دعم المجلس العسكري , فيما اتخذه من قرارات في الفترة الأخيرة, ودعمه في حال فوز " شفيق " بالرئاسة مع استخدام خطاب رسمي من قبل الإدارة الأمريكية , ظاهرة الغضب مما يحدث في مصر, وباطنه تأييد المجلس في كل ما يتخذه من أمور , ومد مصر بحزمة مساعدات اقتصادية في الأشهر المقبلة حال نجاح شفيق .

إن تعزيز إسرائيل لقواتها العسكرية على الحدود المصرية والإسرائيلية كانت هي الأخري جزءا من الضغوط الصهيونية على الولايات المتحدة الأمريكية وهدفت لإرسال رسالة للولايات المتحدة مفادها بأن إسرائيل لن تقف مكتوفة اليدين حال تعرض حدودها لأى تهديد , وستسعي لحماية حدودها ومنع أى دعم لحركة حماس بما يتطلبه أمنها القومي حال وصول المرشح الإخواني للرئاسة في مصر "

في فقد الثورة

لم يكن من المقرر أن أورد هذا الفصل في الكتاب إلا أن الذي دفعني إلى ذلك هو ما ورد في الإعلان الدستوري التكميلي عن حق رئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة في الاعتراض على أى نص دستوري يرد في مشروع الدستور ويكون متعارضا مع مبادئ الثورة وأهدافها, ذلك أن الحكم الصادر من المحكمة الدستورية والذي كان محل احتفاء المجلس العسكري بعدم دستورية ما عرف بقانون العزل مكرسا وضع الفريق كمرشح لرئاسة الجمهورية

وهو الذي دفعني إلى إضافة هذا الفصل للكتاب كي أوضح الفريق كمرشح لرئاسة الجمهورية وهو الذي دفعني إلى إضافة هذا الفصل للكتاب كي أوضح أن ذلك الحكم هو الذي يتعارض تماما مع أهداف الثورة ومبادئها, وإنه مخالف لما يعرف بفقه الثورة الذي كان يجب على المحكمة الدستورية أن تلتزم به وهي تفصل في دستورية أو عدم دستورية هذا القانون إن كانت تؤمن فعلا بأنه توجد في مصر ثورة وإن هذه الثورة كأية ثورة أخري لها أحكامها وفقهها .

يذهب أغلب فقهاء القانون الدستوري إلى أن الثورة بعد نجاحها تصبح تصرفا قانونيا وليست حالة واقعية تخضع لأحكام القوانين العادية وأن لها قوانينها الخاصة التي تستبد إلى حق الدفاع الشرعي المقرر في القانون الجنائي والذي يقرر حق كل إنسان في الدفاع عن نفسه ضد العدوان غير المشروع عليه باعتبار أن الثورة هي حال من حالات الدفاع الشرعي من الشعب ضد نظام يهدد كيانه ومستقبله بالقوة خارج إطار الدستور والقانون فالدفاع الشرعي ما هو إلا دفع القوة بالقوة.

وهو حق تفرضه الطبيعة البشرية , لذا يقول الأستاذ الألماني إهرنج  :" إن مقياس شعور الناس بحقهم في الثورة يتوقف على مقدار ثورتهم للذود عن هذا الحق ضد نظام يعتدي على حقوقهم الدستورية وينتهك حرمات القانون ويستخدم كل صور الفساد من أجل البقاء في السلطة.

ويري الأستاذ " هوريو" أن الثورة ما هي إلا شبيها بهذا الحق , أى حق الدفاع الشرعي للمجتمع عن نفسه ضد طغيان النظام الذي ثار عليه , وتأخذ حكمه وتعتبر مبررة من الناحية القانونية , وعلى هذا الأساس فإن السلطة إن استبدت في تصرفاتها وتعسفت مع الشعب وتجاوزت حدود الدستور , وانتهكت حرمات القانون , فإن للأفراد أن يثوروا عليها دفاعا عن حقوقهم المسلوبة , فهذا التكييف القانوني للثورة هو الذي يفسر عدم معاقبة جنود النظام على قتلهم للثوار , رغم أن هؤلاء الجنود كانوا وفقا لأحكام القانون والدستور الساقط في حالة دفاع عن الشرعية.

لهذا نكون إزاء حالة من التناقض البين عندما يستبعد القضاء شخصا من الترشح لرئاسة الجمهورية لمجرد إنه كان قد حكم عليه من محكمة عسكرية بسبب معارضته للنظام الساقط, إذ يمثل ذلك اعترافا بشرعية تلك الأحكام في الوقت الذي كانت فيه هذه الأحكام تعد واحدة من أسباب الثورة على النظام الذي أصدرها ؟!.

وعليه وما دمنا نتحدث عن الحق في الدفاع الشرعي , فلابد وأن نكون بصدد جناة ومجني عليهم , بحيث يستحيل اعتبار الفريقين في مركز قانوني واحد , وإن الإخلال بمركز أيهما يمثل إخلال يتعارض مع أحكام الدستور التي تفرض كأصل عام هذه المساواة بمعني أنه لا يمكن المساواة في المركز القانوني بين الثوار وبين من يعتبرونهم من رجال العهد السابق خطرا عليهم وعلى ثورتهم .

ومما تقدم يتضح الآتي : إلى أن يضع الشعب دستوره الجديد المعبر عن أهداف ثورته ومبادئها الأساسية كما يقول الإعلان الدستوري المكمل , فإنه لا يصح محاكمة دستورية أو عدم دستورية القوانين التي يشرعها برلمان الثورة وفق أحكام الدستور الساقط ولا حتى وفق أحكام الإعلان الدستوري , إذا ما كان متعارضا مع أهداف الثورة ومبادئها الأساسية والتي تكون صادرة بقصد حماية الثورة , حتى ولو كان القصد منها حمايتها من شخص معين يري الثوار أنه يمثل خطورة عليهم وعلى ثورتهم .

وفي هذا المعني يقول الدكتور جمال العطيفي – في مؤلفه آراء في الشرعية وفي الحرية (11) .

" والثورة دائما تكون لها شرعيتها التي يمكن تسميتها بالشرعية الثورية , ومعني هذا أن للثورة قوانينها الخاصة بها .

فمبدأ الشرعية الذي يعني في صورته العادية أن الدولة لا تستطيع أن تخرق أحكام الدستور القائم أو المبادئ الدستورية العامة السائدة بأن تصدر قوانين تتنافي معها .

هذا المبدأ بهذا التصور لا يمكن أن يكون سائغا في مرحلة الثورة, وإلا لكان معني ذلك إنه لم يكن في مقدور دولة الثورة التي قامت في 23 يوليو 1952 أن تخلع الملك أو أن تلغي دستور 23 أو أن تحل الأحزاب أو تحد من الملكيات الإقطاعية أو أن تقوم بتأميم الشركات أو تقوم بتصفية الإقطاع والرأسمالية فمن البديهي أن الثورة ذاتها هي تحطيم للقانون القائم وإنها تستمد شرعيتها من تأييد الجماهير لها , فالشعب متى افتقد مثله اعلي في العدل ولم تعد تسعفه أحكام القانون الرسمية المطبقة فإنه يبدأ الثورة بقصد تغيير هذا النظام القانوني الذي لا يعبر عن مصالحه وآماله فالثورة إرادة شعبية صريحة لإجراء التغيير المطلوب في النظام السياسي والاجتماعي القائم .

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة هو إذا ما كان الحال كذلك فما هي القاعدة أو القواعد الدستورية التي يكون على المحكمة الدستورية أن تستند إليها عند النظر في دستورية أو عدم دستورية مثل هذه التشريعات التي يصدرها برلمان الثورة ويكون القصد منها حماية الثورة أو الثوار من فرد أو أفراد ينتمون إلى النظام الساقط ويمثلون خطورة خاصة بالنسبة لها أو لهم .

والإجابة عن ذلك أن هذه القواعد تستمد مما يعرف بالعرف الدستوري الذي تقرر في الثورات السابقة باعتبار أنه لا يوجد دستور أو تشريع يمكن أن ينظم حالة الخروج عليه .

وفي هذا المعني يقول الدكتور " محمد كامل ليلة " في مؤلفه القانون الدستوري طبعة 1963 ص 38 , ما يلي :-

" العرف الدستوري قد يخلق قاعدة دستورية جديدة لم تكن موجودة من قبل , وقد يعدل في قاعدة موجود’ مثلا , وقد يظهر العرف بجوار الدستور ,

ويتولي تنظيم بعض المسائل التي يغفل الدستور عن تنظيمها فيقوم العرف بهذه المهمة ويكمل النقص الموجود.

وحديثنا منصرف إلى العرف الذي ينشأ مع وجود دستور مكتوب .. وهذا العرف كما بينا يقتصر دوره بالنسبة للدستور على تفسير نص أو نصوص غامضة فيه, أو يكمل نقصا في الدستور بتنظيم موضوعات لم يكن الدستور قد تناولها بالتنظيم وقد يصل الأمر بالعرف إلى تعديل بعض نصوص الدستور .

لذا فإن الحكم بعدم دستورية ما كان يعرف بقانون العزل, لإخلاله بمبدأ المساواة بين المواطنين أو لكونه يفتقد إلى العمومية والتجريد التي يجب توافرها في التشريعات العادية حكم يتعارض مع أهداف الثورة ومبادئها , هذا إذا ما كانت المحكمة الدستورية تعتبر ما حدث ثورة فعلا وليس مجرد حركة إصلاحية للنظام الذي كان قائما .

وختاما فإنني عندما أستعرض حياتي أجد أن أفضل أيامها وأكثرها ثراء هي التي عشتها في رحاب الجماعة , معترف بها أو محظورة بكل ما كان فيها من آمال أو إحباطات .

كانت لنا أحلام بأننا نحن من سيعيد مصر إلى صدارة المنطقة, ثم توالت الإحباطات التي أعجزت البعض منا عن الاعتصام بالأمل وكنت للأسف واحدا من هؤلاء لذا فإنني إذ انتقد الجماعة إنما انتقدها من منطلق الحرص على ألا تذهب كل هذه التضحيات هباء .

انتقدها رغبة مني في أن تتعامل برشد مع الأحداث , فعثراتها تكلف الكثير من دماء وأموال وحريات أعضائها بل تكلف مصر نفسها الكثير.

رحم الله شهداء الجماعة ووفقها إلى ما فيه الخير لمصر وللوطن العربي, ورحم الله كل الشهداء الذين قدموا للوطن دماءهم من أجل رفعته وتقدمه, أو بالأحرى من أجل أن ينفلت من إسار حكم العسكر الذي تردي به إلى هذا الحال البائس .

انتهي بحمد الله في 25 / 6 / 2012