النقط فوق الحروف

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
النقط فوق الحروف
"الإخوان المسلمون والنظام الخاص"
غلاف-النقط-فوق-الحروف.jpg


بقلم: الأستاذ/ أحمد عادل كمال


بين يدى المؤلف والكتاب

المؤلف هو الأستاذ أحمد عادل كمال مؤرخ الفتوحات العسكرية الإسلامية والكتاب هو النقط فوق الحروف (الإخوان المسلمون والنظام الخاص)

ويمكن لنا أن نترك الكلمات السابقة كما هى فيكون التقديم بليغا موجزا , فالمؤلف معروف للمشتغلين بالحقل الإسلامي, وهو من المهتمين بأمور المسلمين فى النصف الثانى من القرن العشرين. وبدأت صلته بالحركة الإسلامية شابا يافعا ممتلئا بالحماس والتعقل , شديد الغيرة على دينه , عظيم الحزن على حال المسلمين وما انتهوا إليه فى كل البلاد, وفى مصر وطنه بشكل خاص.

وكان ممن تشكل منهم "النظام الخاص" الذى نسب إليه أعداء الإخوان الجرائم والتجاوزات, ولم يكن أحد ليعلم بحقيقة ما نسب إلى هذا التشكيل من أعمال ومبالغات ومغالطات.

فقد كان الكلام من جانب واحد, هو جانب الأعداء, وليس من العدل أن نحكم على قوم بكلام خصومهم فيهم, ولم تكن هناك فرصة لنسمع صوت أحد هؤلاء الذين اتهموا فصمتوا وصبروا صبر المضطر وليس صبر المختار. كانت الظروف فى مصر صعبة وحرجة للمسلمين والأحرار وسائر الشعب, فالبلد يحكم حكما عسكريا دكتاتوريا بالغ العنف والسطوة, ولا يسمح بصوت يرتفع إلا بالتسبيح بحمد النظام وسدنته, وانتهى بهم الحال إلى ما نرى اليوم فى بلدنا وفى البلاد المجاورة من مصائب وويلات.

واستمر الإعلام مكثفا طيلة الأربعين عاما الماضية يصم الإخوان المسلمين بالإرهاب والتجاوز, ولا يستطيع واحد منهم أن يرفع صوته دفاعا وصدا لاتهام. ومن كثرة ما رددته الأبواق المعادية, ومن شدة البطش والإرهاب الذى أوقعته العسكرية الدكتاتورية بالإخوان, وجدنا منهم من صدق وقام معتذرا عما فعله "النظام الخاص".

واختلط الحابل بالنابل وحجبت الرؤية, ولم يعد أحد يملك الحكم الصحيح على الحوادث التى جرت. وصار تاريخ الإخوان المسلمين لغزا من الألغاز ولم يتطوع أحد ممن اشتركوا فى الأحداث بالتاريخ وكتابة المذكرات حتى تفهم الحقائق على وجهها الصحيح. وحتى يمكن أن يكتب التاريخ.

وقد كنت واحدا ممن قدر لهم أن يطلعوا على بعض الحقائق عن تاريخ الإخوان المسلمين , وكان ذلك فى الزنازين المغلقة, والأحاديث الهامسة فى غفلة عن الرقباء, ورجال فؤاد علام وأمثاله.

وكنت أتعجب وأتساءل: هل يأتي اليوم الذي يعرف فيه الناس حقيقة الإخوان المسلمين والنظام الخاص ؟

وكنت أيامها – رغم ظلام السجن وشدة وطأته – على يقين من دورة التاريخ وأن يوما سيأتي تظهر فيه الحقائق ويعاقب المسىء.

وقد قدر لى أن أرافق الأستاذ أحمد عادل كمال مؤلف الكتاب فى سجون مصر المختلفة, العسكرية منها والمدنية, وكنت فى جواره أعواما سمعت منه الكثير عن تاريخ الإخوان المسلمين.

وكنت أسأله عن الواقعة المشوشة المضطربة فى ذهنى من كثرة ما اعتورتها الألسنة بالتحريف والتبديل.

فيجيبني بذاكرة حاضرة وذهن صاف, ويذكرها مسلمة لاشية فيها, ولم يكن يحاول أن يدعى البطولة فيما شاهده وشارك فيه من أحداث, بل كان يذكر الواقعة ببساطة وشجاعة ويذكر ما له فيها وما عليه, إن كان فيها ما عليه, بشجاعة وصدق ووضوح.

وكان فى كثير من الأحيان يعتذر عن الحديث فى واقعة من الوقائع ويقول:

- هذه لم يأت أوانها بعد ونحن فى سجن أم تراك نسيت؟

وكان الرجل يفهم التاريخ ويعيه ويذاكره, وقد شغل نفسه به فقد كنا نعيش زمن الأزمات والملمات.

وجعل الرجل مهمته الأساسية أ، يحاول تفسير التاريخ الإسلامى بشكل يخضع لمنطق العلوم الحديثة, ونجح فى هذا بعد جهد أخذ منه سنوات وسنوات.

ولعلنا نقول غير مبالغين إنه أول من فسر تاريخ الفتوحات الإسلامية فى هذا العصر, بعد أن كانت طلسما تختلف التفسيرات فيه وتتباين الآراء.

وفى صبر وجلد استطاع الأستاذ أحمد عادل كمال بعد دراسة متأنية طويلة أن يضع كل لبنة فى مكانها من البناء, وكان يصبر الليالى الطويلة فى القراءة والفحص ليضع اللبنة المناسبة فى مكانها وقرأ كتب الأولين والآخرين بالعربية وغير العربية, وقرأ فى الجغرافيا والفلك والعلوم وفى أبواب قد تبدو لأول وهلة ألا علاقة لها بتاريخ الإسلام والمعارك, ثم يأتى أحمد عادل كمال فيؤكد لك ضرورتها عندما يكتمل البناء.

وكثيرا ما رأيته يراجع أحوال الطقس والفلك فى أيام معينة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام, فيطلع على المراجع القديمة, ويتصل بدور النشر العالمية , ويسأل العلماء.

وكل هذا ليفهم كيف تحرك خالد بن الوليد من العراق إلى الشام على سبيل المثال, فلابد له أن يحيط إحاطة تامة بظروف الحدث. وكنت أقول له أحيانا:

- عليك أن ترجح رواية على أخرى فالبدائل أمامك كثيرة وكان يرد علىّ فى هدوء:

- عندما يكون الأمر له علاقة وصلة بالتاريخ فالنزاهة والعدل ضروريان. فنحن نحقق حوادث قد حدثت منذ عشرات المئات من السنين أو يزيد. وقد نجد من بين أسلافنا العظام من يعاتبنا أمام الله سبحانه وتعالى لإهمال أو تقصير. هذا بالإضافة إلى واجبنا تجاه من يقرأ لنا.

وفى هذه العبارة التى قالها لى الأستاذ أحمد عادل كمال يكمن منهجه فى كتابة التاريخ.

منهج يتسم بالصدق والأصالة وتحرى الحقيقة والتعب فى الوصول إليها.

وهذا يطمئن من يقرأ له, فهو مؤرخ صادق يتحرى الصدق فيما يقول ويكتب, ويشاد على نفسه إذا كان الأمر له صلة بالأموات, فما بالنا بالأحياء.

لهذا لا تفاجأ أيها الأخ العزيز وأنت تقرأ كتابة هذا إن وجدت فيه حادثة تدينه, أو تلومه عليها, فالرجل كما قلت لك يكتب بتجرد وصدق, ويستوى أن تكون النتيجة له أو عليه.

ولا نستطيع أن نمضى فى الحديث الطويل عن المؤلف ويكفينا الإشارة إلى منهجه فى الكتابة والتفكير. ثم ننتقل إلى الحديث عن الكتاب الذى بين يديك أيها الأخ العزيز.

النقط فوق الحروف (الإخوان المسلمون والنظام الخاص), هذا الكتاب حافل بالأسرار الهامة المندرجة تحت هذا العنوان الذى قرأت, وهى تنشر لأول مرة عن تاريخ الإخوان المسلمين والنظام الخاص.

وقد طال انتظارنا لهذا الكتاب النادر فى موضوعه, لأن كاتبه شاهد على ما حدث, وشارك فى كثير من الأحداث التى جرت.

وهو يتكلم هنا عن موتى وأحياء, وهناك الكثير ممن شهدوا معه هذه الأحداث وشاركوا فى صنعها, فهو لا يكتب عن وقائع قد غاب شهودها, بل يحكى عن أمور يعرفها من شاركه فيها ويستطيعون الرد لو كان فيها ما يستدعى ذلك. فالكتاب وثيقة هامة نادرة, وهى شهادة حى على أحياء وأموات.

وتأتى أهمية الكتاب أن صاحبه رجل غير عادى فى هذا الباب,فهو مؤرخ كما قلنا, وكما يعرفه سائر المشتغلين بالحركة الإسلامية وعلوم المسلمين. وهو يحكى فيه كيف تكون "النظام الخاص" ذلك السر الذى ظل غامضا حتى خرج هذا الكتاب إلى النور. ولعله أغضب فى نشره هذا أخوة له أعزاء, كان من رأيهم أن كتابه قد يثير فتنة, فقال قولة الفيلسوف اليونانى:

- " أفلاطون حبيب إلىّ ولكن الحقيقة أحب إلىّ من أفلاطون".

ومن رأيه أننا إن لم نكتب تاريخنا فمن يكتبه عنا؟ هل نترك هذا للأجانب والمستشرقين؟

أم ينبغى علينا أن نكتب مالنا وما علينا, وندع الحكم على كل هذا لله سبحانه وتعالى المطلع على الأسرار, التى يكشف عنها أحمد عادل كمال فيما يتصل بهذا الموضوع.

وتأتى أهمية الكتاب كذلك من أ، مؤلفه يضع "النقط فوق الحروف" فى أمور كثر فيها الجدل, وتعددت حولها الآراء, وهو أحد صناعها وشهودها.

معاصر ممارس يعبر عن المنظور الذى رآه, ولكنه يجامل أحيانا, وأحيانا لآخر لايفعل, فيذكر الواقعة كالسيف الصارم فى هدوء وبرود.

وهو رغم اشتركه فى الأحداث محايد وصادق ونزيه, وهى أهمية أخرى تضاف إلى الكتاب.

كتاب أحمد كمال الذى بين يديك أيها الأخ العزيز كناب مهم جدير بالقراءة المتأنية, رغم سهولته وطرافته فى كثير من المواضع.

وقد لاحظت أنه لم يتعرض للفتنة التى حدثت في صفوف الإخوان فى مطلع حكم العسكريين إلا فى أضيق نطاق, وهو فى سرد وقائعها وتفاصيلها يدعو إلى الإتحاد والحب فى الله, الأساس الأعظم الذى قامت عليه جماعة الإخوان المسلمين, وهو يحذر من الفرقة والخلاف فى نسج رائع آخاذ. وقد وجدته كتب ردودا موجزة حذرة عن بعض ما نشر ورآه خطأ فى هذا الباب

تحية من عند الله مباركة طيبة لجماعة الإخوان المسلمين التى بدأت تنفض النوم عنها, والتى أنجبت مثل أحمد عادل كمال, ونذكر القارىء العزيز أن هذه هى الطبعة الأولى, وفى الطبعة الثانية أعرب لى المؤلف عن استعداده لنشر كل الردود والتصويبات والتعقيبات, وأنا معه فى هذا وأمام الله سبحانه وتعالى لعهد على ذلك.

وأترككم للكتاب المثير العجيب الذى طال انتظارنا له.

وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين

أحمد رائف

القاهرة فى 24|12|198م

الزهراء للإعلام العربي

نقط آخرى على الحروف

من الظواهر المحيرة والتى يعجب لها ويتعجب فيها الكثيرون ذلك التعلق والإرتباط الشديد بدعوة الإخوان المسلمين لدى جميع من عمل فيها, أو انتسب إليها أو حتى مسه طائف منها.. ظاهرة مؤكدة مطردة لا تكاد تتخلف, وهى بالفعل ظاهرة محيرة, تدعو إلى التساؤل والاستفسار ولتنقيب.. ترى هل يمكن أن يرد ذلك إلى إخلاص الرواد الأوائل الذين قادوا التبليغ بها وتجميع الناس حولها؟

أو أنه يرد إلى طبيعتها من حيث كونها دعوة تجدد تراث محمد صلى الله عليه وسلم وتنفى عنه الأوهام والبدع, وتعيد إليه بريقه الأخاذ يوم أن كان وحيا يتلى وسنة تتبع؟

أم أنه يرد إلى أسلوبها الذى كان يزرع الحب بالبسمة الرقيقة يبنى اليقين بالإقناع الهادىء ؟ أم أنه يرد إلى منهجها الذى كان يقوم على تقديم الأهم على المهم وتجاوز الخلافات ورفض الجدل, وربط الناس بالجوهر لا بالمظهر ورفض التزهيد فى الدنيا وهجرها, وتعليم أبنائها معايشة الأحداث¸والانفعال بها والسباحة فى أعتى اللجج؟

أم أنه يرد إلى طريقة التربية فيها والتى كانت تجمع بين الدنيا: تعليما وتثقيفا وتدريبا, وبين الآخرة: وتقوى وإعدادا للقاء الله؟

على كل الأحوال.. فأيا كان المصدر الذى ترد إليه ظاهرة الحب الشديد من اتباع الدعوة لها. فإنها بكل أو ببعض ما سبق من تميز استطاعت أن تستقطب أجيالا عاشوها إلى حد التوحد معها والذوبان فيها. وكان من الطبيعى أن يكون لهذه الأجيال تاريخ صنعوا بعضه بالكامل وشاركوا فى صنع بعضه الآخر. ويكون من الطبيعى والحال كذلك أن يحتاج هذا التاريخ إلى من يرصده ويسجله وينشره ويجلبه. ومن بين الكتب التى بدأ صدورها حول هذا التاريخ كتاب" حصاد العمر " للأستاذ صلاح شادي ثم هذا الكتاب الذى بين يديك" النقط على الحروف" ولقد أثار كتاب النقط فوق الحروف عند صدوره ما يشبه الزوبعة بين البقية الباقية من صفوف الحرس القديم من جماعة الإخوان المسلمين, وبين غيرهم من المشتغلين عموما بالحركة الإسلامية.

لقد تفاوت استقبال الكتاب تفاوتا عظيما بين القبول الراضى بل والمتحمس, وبين النعى على الكتاب إلى حد رفض فكرة إصداره. وأحسب أن المعترضين على فكرة إصداره. وأحسب أن المعترضين على فكرة إصدار الكتاب والناعين على نشر ما جاء فيه من معلومات وأخبار إنما يصدرون عن منطلق استراتيجى يتلخص فى أنه قد يكون كشفا عن أسرار أو أوراق ما زالت مغطاة أو مجهولة بمقدار أو بآخر. وهنا يعن للمرء أن يسأل نفسه: هل كتب الأستاذ أحمد عادل كمال شيئا جديدا لم يكن معروفا من قبل لدى العارفين وهم كثير؟.. والإجابة التى لا يختلف فيها المخضرمون الأحياء المعاصرون أن جل ما كتبه المؤلف, إما أنه قد سبق نشره فى صحف الفترة المعاصرة للأحداث, أو أنه قد تم جمعه وعرضه بل وتحليله ومناقشته فى كتب صدرت منذ أمد بالعربية وغير العربية, ولعل من بينها كتاب إسحاق موسى الحسيني " الإخوان المسلمين.. كبرى الحركات الإسلامية" الصادر فى بداية الخمسينات من هذا القرن, أو أ،ه قد اشتملت عليه وتضمنه أوراق وملفات التحقيق فى القضايا التى عرضه لها الكتاب وتناولها, وهذا يقينا فى أرشيف السلطة. وعند هذه النقطة بالذات قد يطيب لى أن أشير بأن المؤلف كان غالبا ما يستشهد على الأحداث ويسند الرواية إلى نصوص وردت فى أوراق تحقيق القضايا أو الحوادث.

الجديد حقا الذى تميز به الكتاب ووفق فيه توفيقا كبيرا لم يكن المعلومات أو الأخبار أو الأسرار, وإنما كان الربط بين الأحداث وبين ظروفها ودواعيها, والربط بينها وبين المناخ السياسى العام والتداعي التاريخى, ثم وهو الأهم تقديم التفسير الذى ينشده الباحث عن الحقيقة – عن الكيفية التى تمت بها صناعة وصياغة أولئك الرجال" أبطال الحوادث" الذين انفعلوا بإيجابية.. ففعلوا ما فعلوا وذلك فى تقدير الكثيرين هو أهم ما قدمه كتاب النقط فوق الحروف" حيث استطاع أن يرد الأفعال لا إلى المناخ أو الظروف البيئية المعاصرة لتلك الأحداث فحسب, وإنما إلأى طريقة من التربية وأسلوب من الصياغة ونمط من الإعداد.. جعلهم يرفضون الواقع الذليل, ويعملون على تغييره, ويسترخصون الحياة ويقبلون على الموت, إيمانا بما رأوه واجبا دينيا ووطنيا.

لهذا, فإن ما كتبه أحمد عادل كمال بالشجاعة التى كتب بها والتى يستغربها ويحسد عليها من عملوا فى تنظيمات خاصة ويعرفون طبيعتها, إنما يقدم تفسيرا موضوعيا, أدنى ثماره ونتائجه أنه يفتح الباب لتصحيح النظر, والتقويم للأحداث التى أوردها.

يضاف إلى ذلك أن الكتاب يقص أحداثا, ويقص هنا معناها أنه يتتبع وقائع وأفعالا, إن لم يقصها هو الآن وهو حى يرزق, فسوف يقصها – يقينا وبالضرورة – غيره والفرق بين الحاليين هو الفرق بين شاهد العيان وبين الراوى عن وعن.. والفرق أيضا فى جرعة الإطمئنان التى يستطيع القارىء أن يتأكد منها فى ثنايا الكتاب من طهارة المؤلف وعفة لسانه وتجرده وشجاعته . الأمر الذى يدعو مرة أخرى إلى التقدير والإعجاب إلى " المدرسة الخاصة" التى تحية للمؤلف.. ول"المدرسة الخاصة"

وبعد أن قرأت الكتاب أجد أنه من الواجب على – كمتابع للحركة الإسلامية – أن أشير إلى أمرين:

الأول: أمانة المؤلف روى شاهدا أو مشاركا, وعفة لسانه فيما كان موضع خلاف أو اختلاف فى وجهات النظر, وشجاعته فيما كنب, وشجاعته فى نقد نفسه أحيانا أو فى التعليق على الأحداث. ثم قبل ذلك كله وفاؤه للموتى وللأحياء الذين زاملوه أو تعهوده بالإعداد والصياغة.

الثانى: تواضعه الشديد, وهو يقدم التحية للنظام الخاص, بالدرجة التى لا تتكافأ أبدا مع الصفحات المشرقة التى قدمها لأبناء تلك " المدرسة" الذين لا يجحد منصف دروهم فى فتح الطريق" للثورة وللتغييرات التى أحدثتها.

ربما خجل الرجل من أن يحيى مدرسته التحية الواجبة التى تستحقها لأنه كان من بين طلابها ونظارها أحيانا, ومن ثم فقد أشفق من أن يوصف بأنه " مادح نفسه".. ولكنه فى هذا ظلم مدرسته التى تميزت فى أقل القليل بأنها:

- خطت الأصول بل والفصول للعمل الوطنى المنفعل بالهموم الحقيقية والمصالح العليا للوطن الإسلامى فى عمومه.

- ترجمت الشعارات والأقوال والخطب والندوات بالواقع, وبذلك فتحت الطريق ومهدته للتغيير الذى حدث.

- حفظت للحركة الإسلامية استمرارها وأبقت على وجودها فكرة شابة.

- فرخت نماذج ما زال من بقى منها حيا قدوة حالت دون اغتيال الحركة الإسلامية – برغم ما واجهته من عنت وملاحقة – وأبقت لها القدرة على التحرك فى زحفها إلى مكانها الطبيعى.

- أنجبت تلك الكتيبة التى ما زلنا نرى بعضها من رهبان الليل وفرسان النهار.

- خطت منهجا جديرا بالدراسة والتحليل فى انتقاء الخامات والعناصر التى تستطيع عمل الرسالة وتحقيق الآمال الكبيرة. وهى قبل ذلك كله وبعده, لم يثبت على أحد من عمدائها المؤسسين بالذات أنه كان طالب دنيا أو صاحب غرض شخصى.

- أما ما يمكن أن ينسب إلى تلك المدرسة من أخطاء معدودة فقد ناقشه مؤلف الكتاب فى سياقه التاريخى الذى إن لم يؤد إلى الغفران, فإنه يؤدى دون شك إلى التأكيد التقدير والإنصاف " لنظام خاص" ملأ الدنيا وشغل الناس وفتح الطريق للتغيير ولم تتعد تجاوزاته خطأين أو ثلاثة, ولعله يجوز لنا فى هذا الصدد أن نذكر أنه من الوارد, أن تقع أخطاء فردية خلال التطبيق العملى وقد حدث فى الصدر الأول أن قتل زيد بن حارثة رجلا كان قد نطق بكلمة التوحيد, فظنه زيد قالها نفاقا.. وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الغضب لما حدث ولام زيدا حتى أحرجه.. وتحميل الإسلام أو دعوته مسئولية الخطأ الفردى ظلم عظيم, وأخذ الفكرة أو النظام بالتجاوزات الفردية خطأ شديد.. زمن هنا كان الأمر الذى أدعو إليه بكل شدة هو أن يأخذ المسلمون أنفسهم بمزيد من العلم ومزيد من البصيرة ومزيد من المراجعة لكل ما يقدمون عليه حتى لا يحمل الناس الإسلام بما يتورطون فيه. وأخيرا تحية للمؤلف وتحية للمدرسة التى تربى فيها واله نسأل أن يتقبل عنده الضحايا والشهداء, وأن يصلح للأحياء دينهم ودنياهم وآخرتهم.

والله ولى التوفيق

الدكتور محمود الأنصاري

الأمين العام المساعد

للإتحاد الدولي للبنوك الإسلامية


إهداء

إلى شهداء الإسلام .. المعذبين فيه

السابقين منهم واللاحقين

الذين باعوا أنفسهم لله

الذين يريدون وجه الله

الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ,ولا يخشون أحدا إلا الله

"التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله رضى الله عنهم ورضوا عنه"


تقديم الطبعة الثانية

" النقط فوق الحروف" ظهرت طبعته الأولى فى المعرض الدولي للكتاب بالقاهرة فى أواخر يناير (1987), فكان رد فعله ايجابيا فوق ما تصورن بصورة أثلجت صدرى, وكأنما كان تعبيرا عن أنفاس مكبوتة عشرات من السنين, فهو يضع أمام أبصار الحاضر والمستقبل صورة الماضى على حقيقتها, بعد أن حاول خصوم الفكرة تشويهها أربعين عاما يتيهون فى الأرض.

ولم تكن ردود الفعل الإيجابية هى ما يهمنى , قدر ما كان يهمنى ما عسى أن يوجه من نقد, أو يستوفى من نقص أو يصحح من وقائع. فكان من الإخوان من رأى أن " النقط فوق الحروف" سابق لأوانه, يكشف أمورا لم يحن الوقت بعد للكشف عنها, وهو رأى لا أتفق معه, إذ إنه من المسلم به أنه لكل سر أجلا, فلا وجاهة لاستمرار حبس حقائق مضت عليها تلك السنون فى وجه انتقادات غير متفهمة ومغالطات مقصودة. ورأى بعضهم حدة فى تصويب بعض الوقائع التى ذكرت على غير حقيقتها فى كتابات أخرى, فى حين رأى آخرون أن أسلوب النقط فوق الحروف كان عفا ومقنعا, وذهب رأى ثالث إلى أنه كان من الواجب أن يكون الأسلوب أكثر حدة! وما رأيت هو ما يجده القارىء هنا, وانتقد فريق قصور الكتاب عن الإحاطة بكل ما يجب,وهو اعتبار أقره وقد أشرت إليه فى مقدمة الطبعة الأولى, وأزيد الأمر وضوحا, فأضيف أن ما بين هاتين الدفتين هو نصف كتاب, أما النصف الآخر فقد ضاع ولا طاقة لى على استعادته, ولا قدرة لذاكراتى تعيننى على إعادة كتابته, بل ولا أستطيع أن أتذكر على سبيل الحصر العناصر المفقودة, وإن كنت أذكر بعضها. كان من بينها تطور النظام الخاص من مراحله الأولى حتى عام (1948) حين جرت إعادة تنظيمه وتوسيعه, ليمتد خارج مصر ويتصل ويتعاون مع الهيئة العربية العليا, لإنقاذ فلسطين ومع تنظيمات أخرى فى العالم الإسلامى: فى تركيا, وبعض دول المغرب , والسودان وغيرها, تستهدف ذات الأهداف, كما كانت تعد للنظام صحافته وإذاعاته ووسائل إعلامه, التى تنطق عنه ووسائله التنفيذية والتصنيعية.

فقد كذلك بعض السرد لقضايا الإخوان فى أواخر الأربعينات ت, مثل قضية الأوكار وحامد جودة, إخفاء محمد مالك, إخفاء يوسف علي يوسف وعديد من القضايا الأخرى.

وفقد أيضا أعمال النظام الخاص فى مصر كقاعدة لمتطوعى الإخوان المسلمين فى فلسطين, مثل جلب السلاح والذخيرة, ولوازم الجهاد وإصلاحه وصيانته وإرساله إلى الميدان, والتدريب والإعلام فى الوطن وراء الجبهة, وغير ذلك من الأنشطة المتعلقة بفلسطين.

فقد كذلك ما كان عن معتقلات النقراشي وإبراهيم عبد الهادي فى الهايكستيب والطور وغيرهما. كذلك كان مما ضاع دور النظام الخاص فى القنال والشرقية عام (1951) فى أعقاب إلغاء معاهدة (1936), ووقوف الإخوان المسلمون فى الإسماعيلية وعلى رأسهم الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت, إلى جانب الشرطة وإمدادها بالذخيرة من مخازن الإخوان فى معركتها الباسلة أمام الجيش الإنجليزي.

أتذكر أيضا متفرقات مثل مشروع مبكر لم يتم تنفيذه لتهريب المجاهد المسلم عبد الكريم الخطابي من منفاه, وغير ذلك مما عسى أن يقوم بتسجيله أصحاب الذكرى والتذكرة.

ومما جاءنى من ملاحظات والطبعة الأولى بالمطبعة على وشك الصدور من الأستاذ (مصطفى مشهور) بأسلوبه الرقيق فيما يشبه العتاب, أنه لم يطلع على "النقط فوق الحروف" قبل إخراجه عسى أن يكون له رأى فيه. وقد قبلت حقه فى العتاب مع حفظ حقى فى الدفاع.

تصدر وزارات التعليم كتابا فى كل مادة يعتبر هو المادة التعليمية المقررة رسميا, يعرف بأنه" كتاب الوزارة" ويظهر إلى جوار ذلك عديد من الكتب التى يؤلفها أساتذة كل مادة يعرضها كل منهم بأسلوبه وطريقته. وحماعة "الإخوان المسلمون" لم تصدر" كتاب الوزارة" ولم أقصد " بالنقط فوق الحروف" أن يكون كتاب الوزارة أو كتاب الجماعة, وإنما هو رؤية كاتبه ووجهة نظره الخاصة فيما مر به من أحداث,وما أحاط بها من ظروف وملابسات, وفرق بين الكتابتين, فالفرد قد ينحاز إلى وجهة نظره وهذا حقه – ولو أنى حاولت ألا أفعل - والفرد قد يسمح لقلمه أن يتحرر من بعض القيود, أو حتى ينفلت بما قد لا تفعله الجماعة, وعلى سبيل المثال الذى قد لا يغطى جميع المعنى انتقد بعضهم احتواء " النقط فوق الحروف" على صور بعض النساء مثل, ليدى لمبسون حرم السفير البريطانى والممثلة اليهودية كاميليا فى حين أرى أن جميع القراء وبدون استثناء فيما أحسب , يرون أكثر منها آلاف المرات فى الصحف والمجلات يتصفحونها وينظرون إليها كما يرون النساء ذواتهن فى التليفزيون وفى الطرقات والمواصلات. فلم يعد " النقط فوق الحروف" هو كتاب التبرج من أجل الصورتين وكان الأهم عندى أن أضع صور الأحداث أمام القارىء, وربما كان " النقط فوق الحروف" هو الكتاب الوحيد فى موضوعه المزود بالصور حتى تاريخ صدوره, ولكن لو كنت أنا الذى أضع كتاب الجماعة لاستبعدت مثل هاتين الصورتين.

ولما تضمنه "النقط فوق الحروف" من تصويبات وملاحظات على حصاد العمر, فقد ظن بعض الإخوة السوء بين الأخ صلاح شادي وبينى, وأبادر فأنفى ذلك نفيا قطعا, فليس فى قلبى إلا الحب لجميع الإخوان مهما كانت آراؤهم, ويكفينى أن عينى رأسى قد شاهدتا صلاح شادى فى السجن الحربي فى أكتوبر (1954) ينال من عذاب صديقه القديم جمال عبد الناصر النصيب الأوفى حتى انحنى ظهره, وكان انحناء الظهر يحدث لمن تجاوز تعذيبه حدودا تقترب به من الموت, وكنت فى حبس انفرادى فى إحدى زنازين الشفخانة وقد انحنى ظهرى أيضا حين جاء لى صلاح شادي بتفاحة وقطعة من الشيكولاته. وصلت إليه بشكل أو بآخر وسط ذلك العذاب فآثرنى بها ولعله رشا بعض الجنود حتى تصل إلّ, فما كان لى أبدا أن يتغير قلبى نحو أخى.

ولكنه تناول أمورا لعلى أدرى بها منه, وقد بلغ من خطورة ما كتب أن تناقلها عنه حتى كبار الإخوان فمن شأنها أن تدخل التاريخ من تلك الأبواب, وهى أمور خاصة بالنظام الخاص الذى كان تنظيما سريا لا يعرفونه ولا يعرفها من كان خارجه, فما إن كتبها الأخ صلاح حتى تلقفها من وجدها على أنها تاريخ صحيح, وساعد على تقبله ما كان من اختلاف بين عبد الرحمن السندي والأستاذ حسن الهضيبي , ثم فصل السندى من الجماعة, فإن مجرد الإختلاف أو حتى تعديه إلى الفصل, لا يبيح عرض المسلم بغير الحق,ولقد أعلن الأستاذ الهضيبى ذاته فى حينه أن قرار فصل الأربعة ليس من أسبابه ما يمس دينهم, فبأى مسوغ نمس الآن دينهم! ووجدت بين أن أسير مع التيار على علاته, أو أن أؤدى الشهادة, ومن يكتمها فإنه آثم قلبه, ولقد انتظرت سبع سنين دأبا بعد صدور "حصاد العمر" , أن يفعل ذلك غيرى أو يصوبه فلم يحدث , وصار لزاما على أن أفعل.

واتصل بى الأخ محمد مهدي عاكف, بشأن ذكر اسمه فيمن ذهب إلى بيت الأستاذ الهضيبى بمناسبة قرار فصل الأربعة ونفى أنه كان معهم, بطبيعة الحال هو أدرى بنفسه, وحين أعتمد على ذاكراتى فى شأن كهذا فينفيه صاحب الشأن فهو أعلم به وأدرى وأصدق, وأشكره لهذا التصويب,

وقال لي أستاذ كبير فاضل: " هل نفهم من هذا الكتاب أنك تدعو إلى تكوين النظام الخاص الآن؟" قلت:" بالطبع لا". قال:" فإن الأمر يحتاج إلى إيضاح". لقد أنشىء النظام الخاص فى ظروف غير التى نحياها اليوم, فكان مناسبا بل لازما فى زمنه بل رأينا فيه فريضة, وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كنا فى مصر وفى بلاد المسلمين نعيش تحت احتلال أجتبى واستعمار غير مسلم يفرض علينا ديننا التحرر منه ولو بحمل السلاح, وهو أمر مشروع بجميع الاعتبارات لا ينكره إلا ذليل ولا يجرمه إلا قانون استعمارى. ثم صارت الحكومات الآن فى بلادنا لا يحكمها احتلال, وإنما تخضع لمفاهيمها وأفكارها وما جنته أيديها وسياستها, فإذا لم تكن هذه الحكومات ذات اتجاهات إسلامية ومفاهيم ملتزمة, فإنه يكون من المناسب هنا أن يكون السبيل شعبيا جماهيريا, بنش الدعوة وازدياد الأنصار وحسن السياسة, ومهما كان للسلطة من مواقف معارضة, فلا بديل لها فى النهاية عن نزولها على رأى الأمة, وهذا يقتضى من العمل الإسلامي أن يأخذ بالعلانية إلى أقصى أبعادها, ولا مجال للسرية والتستر. فإن عاد استعمار أو احتلال لأرض المسلمين وجبت العودة إلأى أساليب التحرير.

فى هذه الطبعة الثانية من "النقط فوق الحروف" بعض الإضافات ومزيد من الصور, وكما ذكرنا فإن تاريخ " الإخوان المسلمون" لا ولن يجمعه كتاب, فلا بأس أن يكون بكتابنا هذا نقص وأراه مقبولا فالكمال لله وحده.

ربيع الآخر 1409

ديسمبر 1988

أحمد عادل كمال


مقدمة الطبعة الأولى

تحس الجماهير المسلمة التى تتابع العمل الإسلامى, ويهمها الوقوف على حقيقة نشاط الحركة الإسلامية, بحاجتها إلى نشر ما كان من نشاط حركة الإخوان المسلمين فى القرن العشرين, ويزداد هذا الإحساس لدى أولئك الذين يرغبون فى أن يكون لهم نصيبهم فى هذا النشاط ابتغاء وضاء الله وحسن مثوبته.

وقبل أن أسطر حرفا فى الموضوع أحب أن أقول لإخوانى المسلمين – وكل المسلمين إخوانى – إنهم لن يجدوا تاريخ الإخوان المسلمين فى كتاب, فما كان لنشاط كالذى قامت به هذه الجماعة فى تشعبه وتنوعه وأصالته وعمقه واخلاصه وجهاده وانتمائه لعقيدة الإسلام أن يتضمنه كتاب. وليس بين الإخوان جميعا من يحيط علمه كل أنشطة الجماعة , بل وربما لم نجد من بين الإخوان جميعا من يحيط بجانب كامل من جوانب ذلك النشاط, فإذا خرجنا عن دائرة أعضاء الجماعة وجدنا أن الجهل أشمل وأعم. لقد كتب بعضهم عن الإخوان فما وفوا. ولست أزعم أنى أقدم عنا تاريخ الإخوان المسلمين ولا تاريخ جانب كامل مرة منه, ولكنها مقتطفات أو صفحات منه. لقد حرصت أكثر من مرة على تدوين هذه الأوراق, وكان مصدر هذه الرغبة إحساسى أن ما أكتب سوف يسقط من التسجيل ويذهب فى بطون النسيان إذا لم أكتبه, وحسبى أن أحدا لم يكتبه حتى الآن.

لقد كان للإخوان قضايا كثيرة قدمت إلى محاكمات عن أحداث نسبت إليهم, كان صالح الدفاع غالبا فى إنكارها ونفى صلتها بالمتهم موضوع القضية حتى لا يحكم عليه. كما كان بعض من يقع تحت تعذيب وضغوط تفوق طاقته يجعله يلقى الإتهام جزافا. وفى هذا وذاك تضييع الحقيقة وتنطمس العبرة.

كان لنا نشاط أتينا فى ثنياه أفعالا بدوافعها ودواعيها ومبرراتها, ومع ذلك فقد تبرأنا منها فى حينها. وأحداث أخطأنا بها وتقتضى العبرة بيانها. وأحداث لم يكن لنا يد فيها, نسبت إلينا وألصقت بنا وهذا أيضا ينبغى إيضاح ذلك بشأنها.

وليست هذه هى المرة الأولى التى أحاول فيها الكتابة فى الموضوع بل لعلها تكون الثالثة أو الرابعة... وغفر الله لوالدى, دأب على حرقها كلما وجدها رغم الجهد المضنى الذى كنت أبذله فيها, ذلك الجهد الذى يعتمد على الرجوع بالذاكرة إلى الأحداث فى أزمانها, وعلى الرجوع إلى من عاصر تلك الأحداث, ثم الرجوع إلى الصحف التى لم تكن تنشر من الإيضاح إلا قليلا يتمثل غالبا فى رأى حكومات الاستبداد فى عهود مظلمة وشرح وجهات نظرها وإلصاق التهم بالباطل مع تعليقات وفيرة كل غايتها التشنيع والتشهير. ورغم ذلك فلم أستطع فى المحاولة الثانية أن أكتب أكثر من مائتى صفحة فى أكثر من عام ونصف عام. ولقد تناولتها بطريقة الموضوعات لا بطريقة اليوميات أو الحوليات.

واليوم أجد الجهد أشق وأضنى, فالعهد أبعد والذاكرة أضعف والمعاصرون أقل لوفاة من توفاه الله وتفرق كثير من الأحياء فى الأمصار والأقطار. ومعذلك فقد استعنت الله وأمسكت القلم بعد أسبوع من مغادرتى المعتقل عام 1965 . وحتى هذا الذى كتبت تعرض لمحنة أخرى, فقد استولت عليه قوات الشرطة العسكرية فى غارة شعواء لها على منزلى بمناسبة اعتقالى عام 1965 وفقدته سبع سنوات قبل أن ألتقى به مرة أخرى وقد ضاع حوالى نصفه. ولكن ما بقى كان حافزا أن أحاول نشره على أى صورة. لا يحب الإخوان اللواء فؤاد توفيق علام لما كان بين مباحث أمن الدولة والإخوان, ولكنى أشكره – ولا يسعنى إلا أن أشكره – لأنه أعاننى على استردادها, أو على الأصح من موقع مسئوليته بمباحث أمن الدولة أعادها لى حين طلبتها. هى التى يجدها القارىء بين هاتين الدفتين مع لمسات طفيفة.

قالوا لى: سوف تغضب الجميع بما تكتب.

السلطة تراك تؤرخ لجماعة تقرر حلها وما زالت تصر على ذلك الحل وبعض الإخوان على الأقل لن يغفروا لك رأيك.

وأبعد من هذا وذاك.. بعضهم يقول لى أكتب كذا ولا تكتب كيت. وأعتذر فأقول ماكان من ذكريات فهو ذكرياتى, وما كان من رأى فهو رأيى, وفى هذا ما كان صوابا فهو صوابى وما كان من خطأ فهو خطىء, ولكنى لا أستهدف به غير الحق وغير وجه الله, أصبت فى ذلك أم أخطأت.

هذه صفحات ينتظرها كثيرون دأبوا على طلبها. وأملى الآن – وهى بين أيديهم – ألا تصدمهم, فقد يجدونها أقل حجما مما كانوا يتوقعون, لن يجد بعضهم التصدى المطول لبعض ما نشر عن النظام الخاص ورائده عبد الرحمن السندي رحمه الله وعديد من كرام الإخوان لما كان بين بعضهم وبعض فيما لابس الجماعة من فتنة, ولكنى ضمنت هذه الصفحات وجهة نظرى ولم أضمنها كل ما أعلم وإذا أمد الله فى العمر فقد أضيف فى طبعات أخرى فى المستقبل, وأرجو أن يكون على هذه الصورة مقبولا عند الله وعند الناس وأن يضيف جديدا إلأى ما سبق أن نشر السابقون أو يصوبه, وأسأل الله أن يوقفنى فيما أكتب.

13 ربيع الأول 1407هـ

15 نوفمبر 1986م

أحمد عادل كمال


الفصل الأول: إنتماء

تقديم

قبل أن أدخل إلى صلب الموضوع أستميح القارىء أن أقدم كاتب هذه السطور بأسطر قليلة على طريقة الإخوان فى التعارف فيما بينهم فى لقاءاتهم.

Ikhwan-logo1.jpg

فقد ولدت عام 1926 بحى السيدة زينب بمدينة القاهرة لأبوين من أواسط الطبقة المتوسطة. كان أبى موظفاً حكومياً بمصلحة الطرق والكبارى, وكنت باكورة إنجابهما ثم أنجبا بعدى أخا ثم أختا ثم أخا بين الواحد منا وأخيه نحو سنتين. لم اختلط بأقرانى ومن هم فى مثل سنى, ولكنى انطويت فى المنزل أعكف على هوايات أستطع مزاولتها بين الجدران. هوين جمع طوابع البريد وقطع العملة الأجنبية والرسم ولعب الشطرنج مع والدى وأخى الأصغر. وبقيت على هذا حتى أخرجنى عن هذه العزلة اتصالى بجماعة الإخوان المسلمين. وإنى لأعجب الآن كيف ينقلب فتى على تلك الصورة بين عشية وضحاها حتى يغشى ذلك المجتمع الصاخب بكل ما فيه من نشاط روحى وثقافى ورياضى وسياسى وحركى علنى وسرى فيسلك سبيله فيه قدما باندفاع شديد فى جميع هذه النواحى. رحم الله إمامنا ومرشدنا ورضى عنه أوسع الرضوان.. إنى مدين له وللدعوة التى هداه الله إلى أن يدعو بها, بكل خير نلته فى حياتى وبكل ما أرجو يوم ألقاه رحمه الله أوسع الرحمة وجزاه خير الجزاء فلم يكن مثله أحد استطاع توجيه طاقة الشباب نحو الهدى والتجرد والعمل للإسلام والفداء. ومدين فوق ذلك لخالق كريم وري أعلى خلق فسوى وقدر فهدى.

كان والدى كبير العناية بتعليمى وتعليم إخوتى. ولقد كانت أسرتنا أسرة تهتم بالتعليم. فكان الوالد يقضى معنا ساعات الليل والنهار الواحد نلو الآخر فى مذاكرة لدروس مدارسنا, وستمر معى على ذلك حتى نلت الشهادة الثانوية(التوجيهية) عام 1942 ثم دخلت كلية التجارة لجامعة فؤاد الأول فتخرجت فيها عام 1946 فى سن العشرين دون أن أفقد عاما واحدا من سنى دراستى.

خلال ذلك اتصلت بدعوة الإخوان المسلمين عام 1942, وتخرجت فى الكلية عام 1946, وعملت بالبنك الأهلى المصرى بعد تخرجى, ثم قبض على فى 15 نوفمبر 1948 لاتهامى فى قضية السيارة الجيب. وبقيت بالسجن إلى مارس 1951, ثم اعتقلت عام 1954 وبقيت بالمعتقل حتى 17 يونيو 1956 .. ثم أعيد اعتقالى فى سبتمبر 1965 ضمن من شملهم قرار الرئيس جمال عبد الناصر باعتقال كل من سبق اعتقاله! وبقيت بالمعتقل حتى فبراير 1971 بعد مثواه بين يدى الديان بنحو من أربعة أشهر.

لا أعنى بذلك الكتابة عن شخصى – فهو أمر لا يهم القارىء – وإنما أعنى تبيان أثر هذه الدعوة المباركة على يافع عاش قى ذلك الزمن, وكيف كانت تقترب من خارجه حتى توغل إلى شغاف قلبه.


خواجـــات

كانت مصر تمتلىء بالأجانب من كل صنف. منهم الإمجليز الذين كانوا يعملون بالسفارة الإنجليزية والشركات الكبرى مثل شركة شل وغيرها, فضلا عن جنود الإحتلال الذين كانوا يروحون ويجيئون فى كل شارع من شوارع مصر حتى شارع قدسى من حدائق القبة الذى كنا نعيش به كنا نراهم فيه. فى ذلك لوقت من الأربعينيات لم يكن الإنجليز موظفين بالحومة, كان المصريون هم موظفو الحكومة. وكان هناك أجانب من جنسيات أخرى كثيرة أقل مرتبة من الإنجليز, بلغار ويوغوسلاف وإيطاليون وكان أكثرهم من الأرمن والقبارصة واليونانيين.

هؤلاء كانوا موظفين بالشركات, لا سيما المساهمة, يملئون وظائفها ويعملون باللغة الإنجليزية أو الفرنسية, ولم يكن المصريون يجيدون غير العربية, فكانت تلك الوظائف تكاد تقتصر على تلك النوعية من الأجانب, وكانت لهم مدارسهم: الفرير والخرنفش والسيكركير.. الخ , هذه الوظائف لم يكن يقربها من المصريين إلا المتفرنجون واليهود. كذلك انتشر هؤلاء الخواجات فى محال البيع مثل شيكوريل وأركو وبلاتشى, وغيرها. وكان لبعضهم محالهم المملوكة لهم, وكثر اليهود بين هؤلاء. كما انتشر الأرمن واليونانيون خاصة حتى أعماق ريف مصر يفتحون أكشاك أو محال الآيس كريم والجبن والبيض والبسطرمة والخمور.


أول الخيط

وقفت أمام واجهة محل " الخواجة" المصور أنظر إلأى طوابع البريد التى كان يتاجر فيها إلى جوار تجارته فى الآفلام والصور وآلات التصوير. وفاجأنى الشاب الواقف إلى جوارى بقوله:

- ألست القاطن فى حدائق القبة؟... بشارع قدسى.

- ...بلى

- هل تهوى جمع طوابع البريد؟

- ....نعم

- وأنا كذلك!

- ......

- هل تحب أن ترى مجموعة طوابعى؟

- ... لا يهم.

- ولكنى أحب أن أرى مجموعتك. إنى أسكن إلأى جوارك.. فى نفس الشارع.

- .....

ضايقنى أن يقتحم إنسان على نفسى كما فعل هذا واستثقلته. ولكنه أمعن فى الثقل فأصر على أن يحملنى خلفه على دراجته إلى منزله ليرينى مجموعه طوابعه. كما أصر بعد ذلك على أن يحضر إلى منزلى ليشاهد مجموعه طوابعه. كما أصر بعد ذلك على أن يحضر إلى منزلى ليشاهد مجموعة طوابعى. ذلك الذى استثقلته هو حسين محمد عبد السميع (دكتور الإقتصاد الزراعى فيما بعد) كان طالبا بمدرسة فؤاد الأول الثانوية بالعباسية, عرفته ثم كان صديقى الأثير نحو سبع سنوات, نكاد لا نفترق.

وجاءت أحداث عام 1942 المتصلة بالحرب العالمية الثانية. وقامت مدرسة فاروق الأول الثانوية بالعباسية- التى كنت طالبا بها – بإضراب لا أذكر أهدافه, كان ذلك فى صبيحة اليوم المشهود الذى حاصرت دبابات الإنجليز سراىٍ عابدين فى ليلته السابقة وأرغمت الملك فاروق أن يسند الوزارة إلى مصطفى النحاس باشا كان ذلك يوم 4 فبراير 1942. كنت فى السادسة عشرة, واستخفتنى المظاهرة فسرت معها إلى ميدان عابدين, وهناك كانت كثير من المدارس تفد إلى الميدان, ومنها كانت جارتنا مدرسة فؤاد الأول. وعثرت وسط زحام ذلك اليوم على حسين عبد السميع فتشابكت يدانا حتى انفضت المظاهرة. وفى هذه المظاهرةٍ طرقت أذنى للمرة الأولى هتافات...


الله أكبر ولله الحمد

الله غايتنا , الرسول زعمنا , القرآن دستورنا, الجهاد سبيلنا, الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا وما أحسب أم كان للإخوان صلة بمظاهرات ذلك اليوم , وأغلب ظنى أن أحدهم هتف بها فى ذلك الصخب. سمعت الهتافات فلم أفهمها... إن هتافات" يحيا فلان باشا" أو " يسقط الإستعمار" أو يعيش جلالة الملك" أو مثل ذلك كانت واضحة المعانى, أما " الله أكبر ولله الحمد" أو " القرآن دستورنا" فهو مالم أدركه. وسألتن حسينا.

- ما هذا يا حسين؟

- هذه جمعية فى السكاكينى.

- ولم يزد. ذلك أن اباه الأستاذ محمد عبد السميع الغنيمي كان من الإخوان, وكان ذا نشاط فى شعبة الظاهر بالسكاكينى, فكان أحيانا يأخذه معه إلى تلك الدار فيسمع بها تلك الهتافات. وبعد أن انتهت المظاهرة واتجهنا إلى الانصراف ظهر شخص لست أذكره – صديق لحسين ولعله عرفه فى شعبة الظاهر – سار معنا, أو سرنا معه, من عابدين إلى الحلمية الجديدة, حتى وصلنا إلى دار المركز العام للإخوان المسلمين الذى كان يشغل الدار رقم 13 شارع أحمد بك عمر, وكان يطل على ميدان الحلمية, فوجدتاه محاطا بالبوليس وقد أغلقت أبوابه بالشمع الأحمر. فى الحقيقة لقد كنت متورطا فى السير مع حسين وصديقه إلى مالا أدرى غير أن إلحاحهما وتشبثهما بى منعانى أن أتركهما وأعود بمفردى.

اتجهنا بعد ذلك إلى بيت الأستاذ المرشد العام قريبا من دار المركز العام. وهناك لم نجده, وإنما كان عدد من الإخوان يزيد على الأربعين, ملئوا غرفة المكتبة وقد افترشوا أرضها,ووقف الأستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتير عام الجماعة خطيبا فيهم. وأذكر من كلامه يومذاك أن الحالة لا تدعوا إلى القلق وأن فضيلة الأستاذ المرشد يعالج الأمر مع السلطات بحكمته, وأن دور الإخوان لا تلبث أن تفتح وأن يعود نشاطها من جديد. انتهى ذلك اليوم ورجعت إلى بيتى بأول فكرة عن الإخوان المسلمين, لم تكن واضحة بطبيعة الحال, ولا تركت فى نفسى أى انطباع.


ماذا كان فى مصر؟

قد لا يكون خارجا عن الموضوع أن أعود إلى الظروف والمناخ العام الذى ساد مصر فى ذلك الوقت. وكثير من تفاصيل هذه الظروف بل أكثرها لم تكن معلومة لرجل الشارع ولم تكن معلومة لنا, ولكن انعكاساتها جميعا كنا نعيش فيها.

ولقد وجدت أن أفضل مصدر لذلك هو مذكرات لورد كيلرن, الذى كان اسمه فيما سبق سير مايلز لمبسون, فقد كان أكثر الناس اطلاعا على كل شىء مما يورد ذكره, وكان كعبة جميع أطراف اللعبة, ثم كان رجلا متعجرفا لا يستحى أن يذكر كل تجاوزاته وتجاوزات دولته على أنها حقوق له ولها. تلك المذكرات ظهرت بعد هذه الأحداث بأكثر من ثلاثين عاما, وأقصد هنا الكتاب العربى" دبابات حول القصر" عن مذكرات اللورد... ولن أطيل :

ففى مارس 1941 جاءت قوات ألمانية إلى ليبيا, وقام روميل بهجومة البعيد الذى أوصله إلى العلمين. وتأزم الموقف بين حسين سري باشا والملك.وقبل أن يقدم حسين سري استقالته إلى السفير أن يؤجل ذلك حتى يوم الثلاثاء الساعة 12 ظهرا, ثم يقوم لمبسون بمقابلة الملك الساعة الواحدة (بعدها بساعة) يقول لمبسون عن حسين سري" أنا فى منتهى الإعجاب بإخلاصه وصداقته". وكان حسين سري هو الذى أوحى إلى ما يلزلمبسون أن يطلب النحاس باشا للوزارة. ثم اتصل حسين سري بلمبسون أن , وهو يتناول إفطاره يوم الإثنين 2 فبراير 1942, وأخبره أنه لا يستطيع الإنتظار حتى اليوم التالى وأنه سيقدم استقالته إلى الملك الثانية عشرة والنصف ظهرا.

فقام السفير بالإتصال بأحمد حسنين باشا رئيس ديوان الملك وفرض على الملك أن يقابله الساعة الواحدة. وتمت المقابلة فأخبره السفير الملك بالآتى:

1- أنه يجب أن تكون فى مصر حكومة مخلصة لمعاهدة 1936 قادرة على تنفيذها نصا وروحا.

2- أن تكون حكومة قوية وقادرة على الحكم ولها سند شعبى كاف.

3- وهذا يعنى حتما تكليف النحاس باشا بتأليف الوزارة, ويجب طلبه فورا للتشاور معه فى تأليف الوزارة.

4- يتعين أن يتم ذلك قبل ظهر اليوم التالى الثلاثاء 3 فبراير 1942.

5- إن الملك مسئول شخصيا عن أى اضطرابات قد تحدث أثناء ذلك.

وفى صبيحة 3 فبراير 1942 قابل أمين عثمان السفير الإنجليزى وأبلغه أن النحاس مستعد لتولى الحكم إذا ساندنه السفارة, وأن الوفد سيتعاون مع السفارة حتى لو لم تكن هناك معاهدة, وطلب إلى السفير تعليماته بشأن مقابلة النحاس للملك بعد الظهر, فوجهه السفير أن يرفض النحاس فكرة حكومة قومية مؤقتة وأن يقبل الوفد ترك بعض الدوائر الإنتخابية للأحزاب الأخرى.

وقرر مجلس الحزب فى مصر, بحضور السفير, تسليم الإنذار التالى عن طريق أحمد حسنين باشا" إذا لم أسمع حتى السادسة ٍمساء اليوم أن النحاس باشا قد كلف بتشكيل الحكومة فعلى جلالة الملك فاروق أن يتحمل عواقب ذلك التصرف". وذهب لمبسون إلى أبعد من ذلك فأعد وثيقة للتنازل عن العرش ليجبر فاروق على توقيعها .

وفى السادسة والربع جاء أحمد حسنين إلى السفارة يحمل رسالة: إن الملك بعد أن تسلم الإنذار البريطانى يعتبر انتهاكا خطيرا للمعاهدة المصرية البريطانية ولاستقلال البلاد. ومن أجل هذا السبب وبعد استشارة الزعماء وتعديا على استقلال مصر".

وأجاب لمبسون أنه سوف يحضر لمقابلة الملك الساعة التاسعة. وقبل الموعد بعشرين دقيقة كان لمبسون والجنرال ستون وعدد مهيب من الضباط الإنجليز المسلحون حتى أسنانهم بالقصر, وكانت طوابير الدبابات والمصفحات وناقلات الجنود تأخذ مواقعها حول قصر عابدين ،واقتحم لمبسون وستون على الملك حجرته... وبدون اطالة... خضع الملك. وساءت سمعة الوفد بسبب هذا الحادث ثم بسبب انشقاق مكرم عبيد وإصدار الكتاب الأسود بفضائح الوزارة فى أوائل 1943. وكانت صور السفير الإنجليزى مع النحاس باشا أو معه وحرمه تظهر بالصحف المصرية تنطق بالصداقة بينهما, وقد درج السفير أن يتأبط أحدهما أو يتوسطهما. والأعجب من ذلك أن تظهر صورة حرم السفير تضع يدها فى ذراع فاروق!

كان الإنجليز يمنون بهزائم أمام المحور, وكان وجودهم فى مصر يتعرض للخطر, فبعد ذلك بقليل فى مايو 1942 استولى روميل على طبرق وكانت قلعة حصينة للإنجليز, ثم اندفع نحو مصر والجيش الإنجليزى الثامن يفر أمامه فرار أرنب أمام الثعلب.


خيـط آخـــر

بعد أيام كنت عائدا إلى منزلى فصادفت ثلاثة من شبان , طاهر عماد الدين ومحمد هاشم يلحان علي عبد المعز عبد الله أن يذهب بهما إلى السينما على نفقاه لمناسبة سيارة تخصه, كأن كان قد نجح فى امتحان أو التحق بعمل لست أذكر, ووافق عبد المعز فعادا يطالبانه أن يكون دخولهم السينما فى لوج. وكان اعتراضه أنهم ثلاثة واللوج يكون لأكثر, فلما صادفتهم ألحوا على أن أكون معهم. وفى طريقنا مررنا بشارع السكاكينى فسمعنا أذان المغرب ينبعث من أحد بيوت الشارع.. كان المؤذن يرتدى البذلة ولم يكن شيخا وكان يؤذن من الشرفة. وقال عبد المعز إنه لهذه المناسبة – موضوع الدعوة – عزم على الصلاة فأستاذنا دقائق ريثما يؤدى صلاة المغرب ويعود . وانتظرناه بالخارج ولكنه غاب فى المنزل وطال بنا الانتظار دون أ يخرج حتى أصابنا الضجر, ثم خرج لنا شاب لم نكن نعرفه – عرفناه فينا بعد الأخ بسيونى – فقال" تفضلوا يا إخوان" وألح علينا فى الدخول. قلنا إننا فى إنتظار صديق يصلى ولا يلبث أن يخرج فأجاب بأن صديقنا ينتظرنا بالداخل.

كان المكان بيتاً ذا طابقين. الأرضى فقط هو الذى كان شعبة الإخوان المسلمين بالظاهر. كانت عبارة عن صالة وثلاث غرف وفناء كبير به بعض الملاعب لكرة السلة والملاكمة والمصارعة ومكان للجوالة ومكان آخر للصلاة كما كان به تكعيبة عنب بها مصباح كهربائى تصلح للجلوس وعقد الاجتماعات تحتها. وكان عبد المعز جالسا على دكة من الخشب فى ركن من أركان الصالة وقد جلس معه أحد" الإخوان" يلقى عليه درسا أو موعظة!.

ولفت أنظارنا ما علق على الجدران من لافتات عليها بعض عبارات أو مبادىء الجماعة وصور لفضيلة الأستاذ حسن البنا, رضى الله عنه وأرضاه. وذهبنا ننظر ونتطلع إلى تلك المعلقات دون أن ندرك حتى وقتها أن الإخوان حين دعونا للدخول إلى شعبتهم إنما أدخلونا إلى الطريق التى أمسكت بنا لنصبح بعد ذلك " إخوانا مسلمين" من تلك المعلقات أذكر على سبيل المثال إطارا من الخشب احتوى هذه النشرة.


عقيدتنا

1- أعتقد أن الأمر كله لله, وأن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم رسله للناس كافة. وأن الجزاء حق, وأن القرآن كتاب الله, وأن الإسلام قانون شامل لنظام الدنيا والآخرة.

وأتعهد بأن أرتب على نفسى حزباً من القرآن الكريم, وأن أتمسك بالسنة المطهرة, وأن أدرس السيرة النبوية وتاريخ الصحابة الكرام.

2- أعتقد أن الإستقامة والفضيلة والعلم من أركان الإسلام.

وأتعهد بأن أكون مستقيما أؤدى العبادات وأبتعد عن المنكرات, فاضلا أتحلى بالأخلاق الحسنة وأـخلى عن الأخلاق السيئة وأتحرى العادات الإسلامية ما استطعت, وأؤثر المحبة والود على التحاكم والتقاضي, فلا ألجأ إلى القضاء إلا مضطرا, وأعتز بشعائر الإسلام ولغته, وأعمل على بث العلوم والمعارف النافعة فى طبقات الأمة.

3- أعتقد أن المسلم مطالب بالعمل والتكسب, وأن فى ماله الذى يكسبه حقا مفروضا للسائل والمحروم.

وأتعهد بأن أ‘مل لكسب عيشى, وأقتصد لمستقبلى, وأؤدى زكاة مالى, وأخصص من إيرادى لأعمال البر والخير, وأشجع كل مشروع اقتصادى إسلامى نافع, وأقدم منتجات بلادى وبنى دينى ووطنى, ولا أتعامل بالربا فى شأن من شئونى, ولا أتورط فى الكماليات فوق طاقتى.

4- أعتقد أن المسلم مسئول عن أسرته, وأن من واجبه أن يحافظ على صحتها وعقائدها وأخلاقها.

وأتعهد بأن أعمل لذلك جهدى, وأن أبث تعاليم الإسلام فى أفراد أسرتى, ولا أدخل أبنائى أية مدرسة لا تحفظ عقائدهم وأخلاقهم, وأقاطع كل الصحف والنشرات والكتب والهيئات والفرق والأندية التى تناوىء تعاليم الإسلام.

5- أعتقد أن من واجب المسلم إحياء مجد الإسلام بإنهاض شعوبه وإعادة تشريعه, وأن راية الإسلام يجب أن تسود البشر, وأن من مهمة كل مسلم تربية العالم على قواعد الإسلام.

وأتعهد بأن أجاهد فى سبيل هذه الرسالة ما حييت, وأوضحى – فى سبيلها بكل ما أملك.

6- أعتقد أن المسلمين جميعا أمة واحدة تربطها العقيدة الإسلامية وأن الإسلام يأمر بالإحسان إلى الناس جميعا.

وأتعهد بأن أبذل جهدى فى توثيق رابطة الإخاء بين جميع المسلمين وإزالة الجفاء والإختلاف بين طوائفهم وفرقهم.

7- أعتقد أن السر فى تأخر المسلمين ابتعادهم عن دينهم, وأن أساس الإصلاح العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه, وأن فكرة الإخوان المسلمين تحقق هذه الغاية.

وأتعهد بالثبات على مبادئها والإخلاص لكل من عمل لها, وأن أظل جنديا فى خدمتها أو أموت فى سبيلها.

لم يشأ الإخوان أن يتركونا نشاهد ما على الجدران ثم ننصرف... فأعدوا لنا على عجل بعض المقاعد أتوا بها من الغرف ووضعوها إلى جوار عبد المعز, ثم دعانا الأخ بسيونى إلى الجلوس معهم. وما أن جلسنا حتى أخذ يخبرنا عن اسمه وعمله وعنوانه – كما فعلت فى التقديم السابق- ثم سأل كلا منا عن مثل ذلك فأخبرناه. وراح يسترسل فى شرح دعوة الإخوان... ما هيتها وفكرتها وغايتها ووسيلتها...الخ وكنت أقول لنفسى طوال حديثه ومالنا وكل هذا؟ أنا ما خرجت من بيتى لأسمع هذا الحديث. ولا حتى لأذهب إلى السينما, فلا أنا ذهبت إلى السينما ولا أنا مكثت فى بيتى. ماذا يريد هؤلاء الناس؟ الإخوان المسلمون!؟ يتحدث أخونا عن الإسلام وإعادة مجد الإسلام والإتصال بالله وتطهير النفوس... فماذا يريدون منى؟

كان الأخ بسيونى كلما أحس أنه سرح بنا فى الحديث يسألنا عما إذا كان حديث معقولا وعما إذا كنا نوافق عليه؟ وكان كل همنا أن ننتهى لننصرف, فكنا كلما سألنا وافقنا وأجبنا بالإيجاب. وأخيرا قال لنا:" إذن ما دمتم توافقون على فكرتنا وتتجاوبون مع مبادئنا فأنتم منا وتحت إخوانكم!" قلنا" كيف"؟

قال" أنتم الآن من الإخوان المسلمين, لأن الإخوان المسلمين هم الذين يؤمنون بما آمنتم بع الآن".

قلت" هل تريدون اشتراكا؟ وكم مبلغ الإشتراك؟"

قال"لا,لا, إن المال لا يهمنا, كل ما يهمنا هو ذلك الإخاء الذى يرضى الله به عنا, ولا يهمنا إلا هذا الإتفاق ثم أن نراكم بعد ذلك كثيرا...

سرنا أن نصل إلى شىء ما ... إلى أى شىء نخرج به من هذه الشعبة. غير أنه قبل أن يختم حديثه دعا أحد إخوانه وطلب إليه أن يحضر لنا استمارات انضمام فملأها لنا, وكانت تتضمن بيانات عن أسمائنا وأعمارنا وأعمالنا وعناوين بيوتنا ووقعنا عليها, وظننا أننا نستطيع أن نذهب.

ولما وقفنا لننصرف قالوا لنا عندهم محاضرة يسرهم جدا أن نسمعها وأن نحضرها معهم, والتفوا حولنا كل يحبذ لنا حضور المحاضرة. كانت فصلا من مدرسة رصت به القمطرات. وكان محاضر الليلة الشيخ محمد جبر التميمى. وحضر معنا تلك الليلة الأستاذ عبد السميع الغنيمى وكان معه نجله حسين.

ما زلت أذكر تلك المحاضرة, موضوعها وألفاظها. ولقد كانت مادة للتهكم بعد انصرافنا, وقد أدار دفة التهكم زميلانا محمد هاشم وطاهر إذ كانا يتميزان بالفكاهة والمرح. وظلا طوال الطريق إلى منازلنا يضحكان على السينما التى أردناها فانقلبت إلى محاضرة فى السمع والطاعة ودرس فى المواعظ والاعتبار. لقد صرنا جميعا بعد ذلك إخوانا مسلمين ما خلا الزميل هاشم الذى لم يمكث بالإخوان إلا قليلا. أما تلك الليلة بالذات فقد ذهبنا وليس فى عزمنا أن نعود. إننا لم نؤمن بشىء, وكل ما سمعنا فى ليلتنا تلك لم نأخذه لمأخذ الجد


إصـــــرار

ومضت أيام. ثم زارنى حسين فى منزلى ومعه خطاب لى من شعبة الظاهر يقولون إنى التقيت بهم وارتبطت معهم على هذه الفكرة ثم غبت عنهم وقد شغلهم غيابى (!) فإذا لم أزورهم فى وقت قريب فسيكون من واجب لجنة الزيارات بالشعبة أن تزورنى للاطمئنان على

غاظتنى فكرة أن تزورنى تلك اللجنة وأنا حتى ذلك اليوم لا أكاد أزور أو أزار وبهذا الدافع وحده راودتنى نفسى أن أزور الشعبة مرة أخرى حتى لا يزورنى أحد.لم أكن أكره الإخوان ولم أكن منكرا لدعوتهم, غير أنهم كانوا يعاملونني بخلاف ما ألفت, فاتفقت مع حسين على موعد تذهب فيع معا إلى شعبة الظاهر بالسكاكينى.وفى الموعد كنا هناك. صلينا المغلاب ثم مدن لنا الحصر تحت تكعيبة العنب فجلسنا, وكنا نحوا من أرعين طالبا أترابا فى السن, أقرانا فى الدراسة, أشباها فى كيف الحضور. وما زلت أذكر من نلك المجموعة من دخل معى الجماعة وسرنا معا بعد ذلك فى صفوف الإخوان. كان محاضر الليلة الأستاذ محمد الخضري وكان نائب الشعبة – يعنى رئيسها بلغة الإخوان – كان الخضرى دفاقا بالحماس, فياضا بالمعانى الروحية, غزير المادة, مؤثرا إلى حد كبير فى سامعيه. وكان حديث الليلة يدور حول الأمل والاطمئنان إلى نصر الله, وأننا لسنا يائسين مع سوء حال المسلمين وانصرافهم عن شريعتهم من أن نعيد مجد الإسلام وأن نرشد المسلمين إلى أنوار دينهم وأضواء إسلامهم ومنهل ربهم, وأننا لسنا صغارا كما كنا نظن بأنفسنا بل إننا كبار وكبار جدا. فلئن كنا صغار السن فإننا كبار القلوب والله تبارك وتعالى يقول فى حديثه القدسى الذى يرويه عنه نبيه صلوات الله وسلامه عليه "ما وسعنى أرضى ولا سمائى ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن" فنحن كبار برضاء الله عنا, ونحن كبار باتصالنا بهذه الدعوة التى كتب الله النصر والعزة لأصحابها "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون" " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد "وما النصر إلا من عند الله" . فمفتاح النصر بأيدينا "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".. وإنه من التفريط فى حق هذه النفوس الكبيرة أن تستصغر شأ،ها, ومن الإسفاف فى جنب أنفسنا أن نستهين بها, أو أن نقبل العيش على هامش الحياة غثاء كغثاء السيل, أو زبدا يذهب جفاء, بينما يتصدر للتصرف فى البلاد والعباد ألوان الناس وأحطهم وكل أبتر من هدى الله.

وعيت كل كلمة قالها الخضرى فغاضت إلى أغوار قلبى وأعماق نفسى, حتى أنى أعتبر تلك الليلة بل هذه اللحظات بالذات هى موضع التحول الحقيقى فى اتجاهى كله لقد كان يحدثنا بآيات الله وأحاديث رسوله وحاشا لله سبحانه وتعالى أن يرسل رسوله بإفك من القول وكذب من الحديث ولغو باطل من الوعود.

وقبل أن ننصرف من ذلك الدرس الموفق حقا وزعت علينا قصاصات من الورق ليكتب كل منا خواطره أو مابدا له أو أى اعتراض أو اقتراح أو استفهام وليس يلازم أن يكتب اسمه, وأفهمونا أن ملاحظاتنا سوف تكون محل اهتمام واعتبار. وكنت قد أتعبنى طول الجلوس على الحصيرة أكثر من ساعة ونصف فآلمتنى الجلسة التى لم أعيدها, وكانت هذه خاطرتى التى سطرتها ولم أوقع باسمى. وبعد نحو من عام – وكنت قد صرت من صميم الإخوان – علمت أن هذه القصاصة قد نوقت فى مجلس إدارة الشعبة وانقسم المجلس بشأنها, ففريق رأى أن الجماعة لا تستجدى الهداية للناس فمن شاء أن يحضر ويجلس على الحصير فيها, ومن ترفع وتكبر وطغى وآثر الحياة الدنيا فإن الحجيم هى المأوى(!)

ولا حاجة بالشعبة إليه. بينما رأى فريق آخر أنه يلزم لانتشار الدعوة اجتذاب الناس بالحسنى والحكمة والقول اللين, فإذا كان بعضهم يتعبه الجلوس على الأرض فلا ضير من أن يجلش على الكرسى وهى متوافرة بالشعبة. جلس بعد عام مع جمع من الإخوان نتذاكر لقاءاتنا الأولى فذكرت أمر القصاصة, فهب واحد منهم يقول " أنت صاحب القصاصة؟" قلت " نعم" قال" "لقد كان من أمرها كذا وكذا, وكنت حينذاك من المتمسكين بفكرة الحصر, ولكنى الآن أؤمن بالكراسى, إذ لولاها لربما كنا قد فقدناك". أما فى حينها فقد جمع الإخوان بين الرأيين, وفى اليالى التالية فرشوا الحصر ورصوا الكراسى والدكك من حولها, فمن شاء أن يفترش الحصر فعل, ومن شاء القعود على المقاعد جلس دون كلفة.

أردت بهذه القصة أن أبين عن نوعى التفكير والعقلية اللذين كانا بالإخوان فى حينها وربما فى كل أحيانها بعد ذلك, النوع اللين المرن والنوع الصلب المتمسك.

وتوالت الليالى وتعاقبت أتردد على دار شعبة للإخوان المسلمين بالسكاكينى, وكانت تبعد عن منزلنا نحو نصف ساعة سيرا على الأقدام. وبدأنا نتلقن معانى الدعوة ونتذوقها معنى بعد معنى من محاضرات الخضرى المستمرة كل ليلة تقريبا, فإذا غاب الخضرى لسبب أو لآخر ناب عنه أى من إخوان الشعبة وكان منهم من يجيد الحديث ومنهم من لا يجيده, وهذا الصنف الأخير كان يعتمد على كتاب من الكتب أذكر منها رياض الصالحين وإحياء علوم الدين. وكانت أحاديث الليالى هذه تتناول الإسلام كفكرة ربانية ورسالة من الله لمن خلق على سطح الأرض . وعن الجهاد فى سبيل الله, وعن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وعن الحب فى الله والتآخى عليه والتزاور فيه, وعن مجالس الذكر والعلم وفضلها وأبها, وعن البذل لله, وعن التمسك بشرع الله وأخذ الأنفس بسنة نبيه, وعن قيام الليل وإتقان الصلاة وصيام النهار, وعن غض البصر وحفظ الفرج... وعن... وعن... محصول ضخم من معانى الإسلام الرحب الفسيح الذى أحاط بكل شىء وتناول كل نواحى الحياة وصدق الله العظيم" ما فرطنا فى الكتاب من شىء".


مـع الدعـــوة

أينا كنا من كل هذا؟ وكيف غفلت الأمة هذه القرون الطوال عن رسالتها التى ختم الله بها الرسالات جميعا؟ أخذت أسترجع ذلك كله – كلما رجعت من الشعبة – طوال الليالى حتى مطلع الصبح, أتأمل الأهداف التى حددها الإخوان فى اختصار جامع وتركيز دسم...

نكوين جيل مسلم من الناس يفهم الإسلام فهما صحيحا ويطبقه على نفسه... تحرير الوطن الإسلامى العام من كل سلطان أجنبى....

إقامة دولة مسلمة فى هذا الوطن الإسلامى تطبق أحكام الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هذه هى الأهداف الثلاثة التى ينتظمها جميعا مبدأ من كلمتين:


"الله غايتنا"

عرفنا الإسلام نظاما شاملا للحياة جميعا فهو دعوة صادقة ودولة, عبلدة وقيادة, مصحف وسيف, جيش وفكرة, وهو عقيدة صادقة وثقافة وقانون, ومادة وثروة, ورحمة وعدالة...

سبحان الله... شتان مابين حقيقة الإسلام ولبه, وما زحم الطرقات من مواكب الصوفية ودجل أهل البدع. لقد كانت أذهاننا قبل ذلك تخلط خلطا غير صادق وهو أبعد ما يكون عن الواقع والحق – بين الإسلام كرسالة وعقيدة وبين التمائم والرقى, فعرفنا أن ليس فى الإسلام التمائم ولا رمل ولا ودع وليس فيه رجال للدين وآخرون للدنيا, وإنما كل المسلمين أمام الله سواء, وكل المسلمين رجال دين وكلهم رجال دنيا, فالمسلم مطالب أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا, وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أمته فيقول "ليس خيركم من ترك دنيا لآخرته ولا من ترك آخرته لدنياه ولكن من أخذ من هذه وهذه" وكتاب الله تبارك وتعالى ينطق بالحق فيقول "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة, ولا تنس نصيبك من الدنيا, وأحسن كما أحسن الله إليك, ولا تبغ الفساد فى الأرض." فالإسلام ينكر أشد الإنكار انقطاع قوم للعبادة والصلاة فى الخلوات والتكايا, وانطلاق الآخرين للعربدة والتسكع والإغتراف من ملذات الدنيا ومباهجها. فلا يقرب العبد من ربه غير عمله, فلا وساطة من علماء ولا من صالحين, سواء كانوا أحياء أو أمواتا, فالتوسل بغير الله جهل وضرب من الشرك" وأن ليس للإنسان إلا ما سعى, وأن سعيه سوف يرى, ثم يجزاه الجزاء الأوفى" فكلنا رجال دنيا وكلنا أيضا رجال دين.

عرفنا أن لب الإسلام عقيدة التوحيد فلا يقبل الشرك من أى نوع أو لون. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعوا" اللهم إنى أعوذ بك من أن أشرك بك شيئا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه." فلا عبادة أوثان ولا عبودية لأشخاص ولا انصياع لهوى. فالاستخذاء للكبراء والانحناء للحكام ليس من الإسلام, يقول صلى الله عليه وسلم " لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا" ونهى عن تشييد الأضرحة والصلاة إليها ولو كان المدففون بها نبيا من أنبياء الله, وقال" لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وحرم صناعة التماثيل للسبب ذاته. كما اعتبر الإسلام اتباع الهوى خلافا لشرع الله نوعا من الشرك فقال "أفرأيت من اتخذ إلأهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة".

كانت الشعبة مدرسة غاية فى البساطة, ولكنها كانت تلقى من الدروس أجلها وأعظمها, ولقد عرفنا أيضا أن الدين يؤخذ من نصوصه, وأن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار. وفى النص القرآنى "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" فمن آمن بهذه الدعوة ورضى العمل لها فليكن مستعدا للبذل والتضحية... التضحية بماله وبنفسه ودمه وروحه وبراحة باله وطمأنينة حاله, وبحاجة آله ووالديه وعياله... عليه أن ينظر إلى هذه الدنيا كشجرة استظل بها ثم تركها ومضى "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فاصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شىء مقتدرا. المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا".


فــارق

أجلت فكرى فى هذا... فوجدت أن الغاية العليا الأسمى لعامة الناس الذين يعملون لغاياتهم" باستقامة" هى لقمة العيش. وهى نفس الغاية التى لا تتعداها أذهان الأنعام وقلوبها.

لقد كنا فى طريقنا إلى السينما سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا. وأدركنا أن سابق أيامنا كانت ضياعا يأباه الله على عباده" ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون" عرفنا أن ستقف فى وجوهنا طواغيت الأرض جميعا, كما وقف من قبل فرعون وهامان والنمرود وطغاة قريش لرسالة الحق والهدى.

واليوم ما أكثر الطغاة وما أكثر الطواغيت. هذه قوى الاستعمار والصهيونية والصليبية والخيانة والجهالة ممن يزعم الإسلام.. كل ذلك سوف يلبس لنا أردية الإباحية والإلحادية والنفاق والاستبداد والاضطهاد وسيف المعز وذهبه.. وليس معنى ذلك أن ستقف تلك القوى فى سبيل الدعوة بعيدا عنا, فقد صرنا نحن الدعوة والدعوة نحن, وإن تحطيم الجماعة يستلزم تحطيمنا بأشخاصنا وأجسادنا.. كل ذلك ذكره لنا أساتذتنا من الإخوان فاستخففنا به واستهنا, وقبلنا أن نواجه كل أولئك بما ندرى وما لا ندرى مما سوف سيجيئوننا به, وعلى وجوهنا بسمة الرضا, وملء قلوبنا حرارة الإيمان وبرد اليقين, فلئن كانت تلك القوى فى أعين الناس كبيرة فالله أكبر وأجل. ولم لا؟ وماذا علينا وقد آمنا؟ وأى ضر نتظرنا؟ القتل شهادة, والسجن خلوة, والنفى سياحة, والتشريد هجرة, فماذا؟! كل عذاب بأجره وكل ثبات بثوابه فمرحبا بالآلام.. وبالابتسام.

كنا نعيش فى بلد يجثم على أنفاسه الاحتلال الإنجليزى ويتولى أموره ملك فاسد وحكومات هزيلة ضعيفة بعدت عن الإسلام كل بعد.


أمــــل

كانت آمالنا لا حدود لها, فكنا نؤمل كل شىء. نؤمن أن دعوتنا ستنتصر وأننا سوف نهزم جميع أعدائنا وخصومنا وكل من نحدثه نفسه أن يقف فى سبيلنا المقدس.

قرأ بعض الإخوان خبرا من جريدة يومية أن طائرات الألمان شنت غارة على لندن وأنها أصابت البرج الشهير لساعة بج بن bjg ben بقنابلها... وكان يجلس الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي – وكان رجلا ضريرا من كرام الإخوان – فبان عليه الحزن الحقيقى والأسى. فعجبنا, وسأله سائلنا عما به وعما يهمه من أمر بج بن؟ فقال بلهجة كلها الجد " كنت أريد أن أؤذن من فوق ذلك البرج يوم فتح لندن!" قلنا بمرح ودعابة" فأذن من فوق غيره!" قال فى إصرار " كنت أريد أم أؤذن من فوق هذا". ضحكنا... غير أن أعماقنا كانت تقول "ربما... فمن يدرى!" لعلنا فى يوم نفتح لندن!!

هذا الأمل الواسع العريض كان مستمدا من الثقة بالله. وامتلأت قلوبنا بأن القوة لله جميعا, وأن جميع قوى الأرض تهون أمامنا إن حاولت أن تنال من عقيدتنا "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل" وما دمنا ننصر الله فالله ناصرنا. ولقد كان الأستاذ المرشد عليه رحمه الله يستشهد بالتاريخ على تعبيره الجميل" أحلام الأمس حقائق اليوم وأحلام اليوم حقائق الغد".

كنا نحيا بعقيدتنا ونأمل الخير فيها وندعوا الله ا، نموت عليها, ونحس فيها بكل متعة وجمال وسعادة, ونأسى لإخواننا المسلمين الذين لم يروا ما رأينا ولم يؤمنوا بمثل ما آمنا به, وكنا نقول لمن يريد أن يثبط فينا هذا الأمل:

منى إن تحققت تكن أعذب المنى
وإلا فقد عشنا بها ومنا رغدا


هذه مهمتنا

لقد ذكر الأستاذ المرشد آية من كتاب الله وصفها فى رسالة "إلى أى شىء ندعوا الناس" بأن لخص فيها مهمة المسلم فى الحياة "يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون, وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم, وما جعل عليكم فى الدين من حرج, ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل. وفى هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم, وتكونوا شهداء على الناس".

فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم, فنعم المولى ونعم النصير"

ثم عقب على الآية فقال" هذا كلام بيّن لا لبس فيه ولا غموض. ووالله إن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإنه لواضح كالصبح ظاهر كالنور, يملأ الآذان , ويدخل على القلوب بغير استئذان, فهل لم يسمعه المسلمون قبل الآن؟ أم سمعوه ولكن على قلوب أقفالها فهى لاتعى ولا تتدبر؟!".

ثم يقول أيها المسلمون: عبادة ربكم والجهاد فى سبيل التمكين لدينكم وإعزاز شريعتكم هى مهمتكم فى الحياة. فإن أديتموها حق الأداء فأنتم الفائزون وإن أديتم بعضها أو أهملتموها جميعا فإليكم أسوق قول الله تبارك وتعالى " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق".

ولهذا كان من أوصاف صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم" رهبان بالليل فرسان بالنهار " يقوم ليله فى محرابه يقول: يادنيا غرى غيرى, فإذا دوى نفير الجهاد رأيته على صهوة جواده يصول ويجول ويفلق الهام.


إعـــداد

ويستمر الأستاذ فى شرح فكرته فيقول: إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادىء تحتاج من الأمة التى تحاول هذا أو من الفئة التى تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل فى عدة أمور

إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف, ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والإنحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.

على هذه الأركان الأولية التى هى من خصائص النفوس وحدها, وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تبنى المبادىء وتتربى الأمم الناهضة وتتكون الشعوب الفتية وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنا طويلا. وكل شعب فقد هذه الصفات الأربع, أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه, فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلى خير ولا يحقق أملا. وحسبه أن يعيش فى جو من الأحلام والظنون والأوهام" إن الظن لا يغنى من الحق شيئا", هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته فى خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"

هكذا كان يهزنا ذلك الأستاذ المربى العملاق ليوقظنا من سبات هذه الأمة العميق. إنه لا ينكر أهمية الإعداد المادى من المال والعتاد وآلات الحرب والقتال – وهو قد أعد منها ما استطاع – ولكنه يرى, ورأيه الصواب, أن أهم منه وألزم القوة الروحية من الخلق الفاضل والنفس النبيلة والإيمان بالحقوق ومعرفتها والإرادة الماضية والتضحية فى سبيل الواجب والوفاء الذى تنبنى عليه الثقة والوحدة وعنهما تكون القوة.

الإنسان روحا وخلقا هو البداية وهو النهاية. وما زالت أزمتنا فى النصف الثانى من الثمانينيات أزمة أخلاق. ليس خروجا أن أعبر أحد عشر عاما... حين استتب الأمر للثورة وتسلطن جمال عبد الناصر, راح يسأل رؤساء أحزاب مصر عن رأيهم فى الإصلاح من أين يبدأ؟. ووجه هذا السؤال إلى الأستاذ حسن الهضيبي مرشد الإخوان, فأجابه ا، الإصلاح لابد أن يبدأ بالأخلاق. وكانت هذه الإجابة الصحيحة الواعية صدمة لجمال.

قال: لا... هذا طريق طويل لاننتظره. قال الأستاذ حسن الهضيبي: فماذا تريد؟

قال جمال: أريد أن أضغط على زر فيحدث ما أريد!

ويمضى الزمن خمسة عشر عاما وتأتى الهزيمة المنكرة عام 1967 ويقف جمال خطيبا وقد نسى ما قال من قبل فيقول: ماذا أصنع؟ لا أستطيع أن أضغط على زر فيحدث ما أريد.

هذا الذى جهله جمال رئيسا تعلمناه صغارا على مائدة الإخوان. لم ننسه وأرجوا ألا ننساه وأرجو كل من يتصدر لدعوة الإسلام أن يأخذ نفسه به.

معان كثيرة كثيرة... كلها كانت جديدة على عقولنا وأذهاننا. لم تتفتح لها قلوبنا قبل أن يبصرنا بها الإخوان. وإنها لمعان ضخمة وجليلة, لو ذهبنا نتحدث عنها لاتسعت أمامنا الصفحات ولخرجنا بهذه السطور عن مقصودها وهى وفيرة فى رسائل الإخوان التى كتبها الأستاذ المرشد رحمه الله وفى خطاباته, نجدها فى رسائل"التعاليم" وبين الأمس واليوم" و تحت راية القرآن" و"دعوتنا فى طور جديد" و"رسالة المؤتمر" و" المؤتمر الدورى السادس" و"مشكلاتنا فى ضوء الإسلام" و"الجهاد" و"دعوتنا" و" إلى أى شىء ندعو الناس" و"نحو النور" و"إلى الشباب" وفى كل ما كتبه أو ما كتبته له جريدة الإخوان اليومية أو مجلتهم الأسبوعية التى كانت تصدر إلى عام 1948. كما تابعت "جريدةالدعوة" الأسبوعية نشر كلماته وكتاباته منذ بدء صدورها فى عام 1951 بعد محنة الإخوان الأولى واستشهاده رضوان الله عليه حتى عام 1954.


الفصل الثاني: فى شعبة الظاهر علـوم وفوائـد

صوت أتررد على شعبة الظاهر كل يوم تقريبا. فكنت أصلى العصر فى البيت, ثم ألتقى وحسين عبد السميع ونتجه معا على شعبة سيرا على الأقدام, فنجد بها أقراننا من الإخوان فنتجاذب أطراف الحديث ونتعارف ونتمازح ونتألف حتى يؤذن مؤذن المغرب فينتظمنا صف الصلاة, فإذا فرغنا انتقلنا جميعا إلى تكعيبة العنب فجلسنا تحتها نستمع لأحاديث الخضرى غالبا أو غيره أحيانا. والآن وقد مضت على تلك الأيام السنون أعترف للأستاذ الخضرى بما تلقيت عنه من الخصال التى ترضينى ومن مكارم الأخلاق. فبفضل تلك الأحاديث واظبت تماما على الصلاة وبدأت أستشعر لها لذة ومتعة, ثم طلبت النوافل وقيام الليل والحرص والمداومة على صلاة الفجر فى الشعبة, فكنت ومن معى من الإخوان فى حدائق القبة نواظب كل يوم على قطع مسافة تستغرق منا نصف ساعة سيرا على الأقدام فى جوف الليل لنؤدى صلاة الفجر مع إخواننا فى الشعبة. وسيان عندنا تقلب الصيف والشتاء...

تعلمنا كذلك تلاوة القرآن الكريم, واعتدنا أن يكون لنا ورد يومى لا يقل عن جزء – وكثيرا ما كان يزيد – ثم تعدينا ذلك إلى ورد آخر للحفظ فبدأنا للحفظ نحفظ جزء عم ومن سورة الأنفال, ثم استمر الحفظ من شتى سور الكتاب الكريم.

وأحسبنى تعلمت أيضا من الخضرى شجاعة الرأى وصراحة القول والاعتراف بالخطأ عن طيب نفس, والدأب والمداومة على العمل والإخلاص لله والصدق فى القول والحب والإخاء فى الله.

كان فى نحو الأربعين وكنت فى نحو السادسة عشرة, وكنت أتوق إلى المثل وأتعلق بما أراه منها وأعشق السمو وأصبو إليه ذهبت يوما إليه فى منزله, وكنت قد أعتدت أن يفتح لى غرفة الضيوف فأدلف إليها, فلما هممت بالدخول هذه المرة اعترضني بجسمه وقال:" معذرة! لا أريد أن تدخل...ليس بها نساء, بل هنا إخوان ولكن لا أريد أن تراهم" قال تعالى "وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم" لم تصدمني هذه المقابلة ولم أجد بها أى إساءة بل سرنى ما فيها من صراحة وصدق واعتبرته درسا أضيفه إلى محصولى. كنت أعتبر نفسى تلميذا أطلب العلم والأدب, ثم راق لى أن أمضى حياتى على هذه الوتيرة... أطلب العلم وأنشد الأدب. وتصارحنى نفسى من داخلى أنى قد توقفت بأحسيسى ومشاعرى وشبابى وفتوتى عند ذلك العمر.

غنمت كذلك الإخاء الكريم الذى نشأ بينى وبين إخوانى بالشعبة كثيرا وأحبونى, وكنا كثيرا ما نتزاور فى البيوت. وقد خرجت بهذا عن عزلتى إلى الروح الإجتماعية, وتحولت من شخص انطوائى إلى شخصية اختلاطية, وإن كان ذلك الاختلاط ظل حبيسا فى محيط الإخوان. وللإخوان طابع خاص تميز به مجتمعهم, فهم ذوو خلق قويم, لا تسمع بينهم الكلمات الخارجة ولا الألفاظ النابية, وكانوا جميعا متعاونين على البر والتقوى, فإذا حل وقت الصلاة قاموا جميعهم إلى صلاتهم, فإذا كان بأحدهم حاجة إلى تجديد وضوئه لم يكن ثمة ضجر ولا حرج أن يحضر له صاحب الدار القبقاب ويخلى له الطريق إلى دورة المياة. وهم متصارحون فكل يذكر لإخوانه ظروفه الخاصة. وهم متكافلون على أعباء الحياة, يحمل بعضهم كل بعض. وهم متحابون يستشعرون لإخائهم ثوابا وجزاء. وهم سواسية كأسنان المشط رغم تفاوت مستوياتهم وأعمارهم, يجلسون جميعا متجاورين, ويتحدثون بغير كلفة, لا فارق بين الطبيب وبائع الخبز والمهندس وصانع الأحذية والطالب والموظف ومجند الجيش.

لكل هذا تميز مجتمع الإخوان عن غيره من المجتمعات. وكان هذا هو المجتمع الذى صرت شخصية اجتماعية فيه. أما غيره من المجتمعات فربما كنت لا أقوى على الاندماج فيها. هذا المجتمع دخل طرفا ثالثا فى حياتى بين البيت والمدرسة, بل لقد كان هو الطرف الأول. ولم تطل فترة المدرسة. فقد أنهيت تعليمى الثانوى والتحقت بكلية التجارة بجامعة فؤاد الأول بالجيزة عام 1942 فاتصلت بالإخوان بها أيضا.

معذرة لهذه السطور, وقد كان بودى لو أغفلتها, غير أنى حرصت على ألا أسقط من هذا التسجيل أهم وأبرز خصائص دعوة الإخوان المسلمين, وهى أثرها فى جيل الشباب فى عهدها. فحين أذكر هذه الآثار على نفسى إنما أقدم نموذجا واحدا من عشرات الألوف, هذه الروح الفاقة التى بعثتها الدعوة فى قلوب الشباب والرجال كانت هى سر الإخوان المسلمين الأكبر الذى كمن وراء كل شىء آخر يتصل بالإخوان وبنشاط الإخوان. هذا السر هو الذى انفرد به – بدون شك – الإخوان عن أى تكوين معاصر آخر حزبى أو شيوعى أو غير ذلك.


ارتبــاط وعمـــل

هذاالمجتمع الحلو الجمسل لم أعد أحتمل البعد عنه, فقد وجدت فيه عذوبة ومتعة, ووجدت فيه إخواناهم أحب إلى نفسى من نفسى, ثم هم وسيلتى إلى الله يوم تدنو الشمس من الرءوس فنستظل بظل الله يوم لا ظل إلا ظله. ففى حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل, وشاب نشأ فى عبادة الله عزوجل, ورجل قلبه معلق بالمساجد, ورجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنى أخاف الله, ورجل تصدق صدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" (متفق عليه) أدركت ما تتطلبه الدعوة من عمل وكد فكنت لها عاملا من اليوم الأول. وكان العمل الأول موجها إلى شخص فدأبت عليها أروضها وأزودها بحاجتها من التحصيل, وكان لهذا التحصيل شعب ثلاث: المحاضرات والقرأءة والحفظ, وكانت أكثرها الأولى كما كانت الثانية فى الأعوام ثم ما زالت تنمو ملكة القراء’ والإطلاع بمرور الزمن.


فى الجوالة

الشهيد محمود عبداللطيف يتقدم استعراض لجوالة الإخوان المسلمين

واتجهت عناية الجماعة إلى الجوالة, وجاءت أوامر المركز العام بأن كل أخ يستطيع أن يكون جوالا فليكن. كنت أرى طوابير الجوالة واجتماعاتهم بالشعبة فلم تكن تعجبنى ولم يروقنى ما بها من أمر ونهى" وعسكرية", وكنت أرى فى جفاف وجفاء. ولقد دعيت مرارا إلى الإنخراط فى سلكها فأبيت حتى إذا كانت المسألة تعليمات دخلت فيها. وتكونت لنا عشيرة من عشرة من الإخوان الطلاب سميناها عشيرة خالد بن الوليد. وكان كبيرها يلقب رفيق العشيرة, بينما كانت مجموع العشائر كلها فى الشعبة تكون الرهط, وكبير الرهط المسئول عنه يلقب زعيم الرهط. واختارونى أمينا لصندوق العشيرة. وما زلت أذكر ذلك الصندوق الذى كنت أمينه.. كان صفيحة دواء صغيرة وكان به يوم تسلمته خمسة وعشرون مليما. فبدأت مهمتى بفتح باب التبرع لتدعيم مالية العشيرة وارتفع رصيد الصندوق إلى أحد عشر قرشا. ثم اتفقنا أن يكون الاشتراك الشهرى للجوالة قرشين, يأخذ الرهط منه نصف قرش ويبقى قرش ونصف للعشيرة.

مع هذه الجوالة خرجت فى بعض الرحلات سرت فى بعض طوابير الاستعراضات فى المناسبات المختلفة, كما اشتركت فى بعض المعسكرات وتلقيت بعض الدروس الكشفية. والواقع أن جوالة الإخوان كانت قليلة العناية بهذه الدروس بسيطو الخبرة فيها, وكان جل همها من هذه الناحية ينصرف إلى المظهر, ولقد كان هذا مقصودا, فقد أصبحت الجوالة من أبرز وأهم أساليب الدعاية للجماعة.

كنا ندفع اشتراك الرهط وكنا ندفع غيره اشتراك الشعبة. وكان غالبا فى حدود خمسة قروش, وقد بدأنا سداد ذلك الإشتراك من تلقاء أنفسنا دون أن يطالبنا به أحد بعد أن شعرنا أن دعوتنا يعوزها المال وأن لا مورد لها إلا جيوبنا. ومن باب ذكر الحق...ما شعرنا أبدا أن المال عقبة فى سبيلنا فى ذلك الوقت, فأى مبلغ كنا نحتاج إليه لأى وجه من وجوه النشاط أو لشراء شىء من لوازم الشعبة كان يتم جمعه فى أى جلسة من الجلسات تطوعا من الحاضرين فى تسابق وعن طيب نفس... فقط يذكر الأخ المسئول أ، الشعبة فى حاجة إلى مبلغ كذا فيدفع كل حسب مقدرته. ولنعد إلى ذكر الجوالة, فمازلت أذكر تلك الطوابير, الاستعراضية الضخمة التى كان يتراوح عدد المشتركين فيها بين الستة آلاف والعشرة آلاف جوال... كنا ننتهز الفرص لإجراء هذه الاستعراضات فى الشوارع. لم تكن تلك المناسبات مقصودة لذاتها دائما, وإنما كانت ذريعة, وكان بيت القصيد إظهار قوة الجماعةومظهرها العسكرى ولفت النظر إلى أن الجوالة بالذات هى القوة العسكرية للجماعة, وفى هذا صرف للنظر عن التشكيل الجدى الذى أعد سرا وفى كتمان تام بعيدا عن مظهريات الجماعة وهو "النظام الخاص" وسوف نعرض له إن شاء الله.

أصيب الملك فاروق فى حادث تصادم سيارته الخاصة وإحدى سيارات الجيش البريطانى بالقرب من قرية القصاصين بمديرية الشرقية, ولزم فاروق المستشفى هناك للعلاج فترة, ثم رجع إلى القاهرة فى احتفالات عامة, وكانت فرصة يستعرض الإخوان فيها جوالتهم. وزار الملك عبد العزيز آلا سعود مصر فكانت مناسبة أخرى لاستعراض آخر بدأ من شعبة الظاهر بالسكاكينى إلى سراى الزعفران – قصر الضيافة فى حينه – فاستعرضها من شرفة القصر, وكان يقف إلى جواره المرشد بين زحام جماهير الناس التى ملأت الطرقات يشاهد الآستعراض معهم! ثم رجعت الطوابير سيرا على الأقدام وينظم خطوها دق الطبول إلى سراى عابدين فالمركز العام بالحلمية الجديدة حيث انصرف الإخوان الجوالة. اشترك فى هذا العرض عشرة آلاف جوال كانوا يسيرون سداسيات, كل رهط يتقدمه علم الإخوان الأخضر ذو المصحف الأحمر والسيفين وعليه اسم الرهط, وكانوا يحملون بأوامر تلقى من ميكروفون محمول على سيارة. وكان يشرف على قيادة هذه الطوابير غالبا الإخوان سعد الدين الوليلي وعبد الغنى عابدين .

وأذكر عرضا آخر اتجه من المركز العام إلى السفارة السورية فى الزمالك ثم رجع إلى المركز العام, بمناسبة عيد استقلال سورية كان ذلك فى 17 أبريل 1946 وشهد العرض فضيلة المرشد العام مع جميل مردم سفير سوريا فى مصر آنذاك. كذلك كانت تجرى أمثال هذه الاستعراضات فى بعض المناسبات التى اعتاد الإخوان الاحتفال بها, مثل ذكرى المولد النبوى الشريف أو عيد الهجرة أو الإسراء والمعراج, كما كانت تحدث أحيانا – كما ذكرنا – فى مناسبات كعيد ميلاد الملك أو عيد جلوسه أو ما شاكل ذلك. وكانت الاستعراضات تحدث أيضا بمناسبات عقد المؤتمرات الدورية أو الشعبية للإخوان. وأحيانا كانت تقام استعراضات محلية لمنطقة من مناطق فى حى من الأحياء, دعاية للفكرة به, أو بمناسبة افتتاح شعبة جديدة, أو لاحتفال الشعبة بذكرى غزوة بدر مثلا.

وكنا فى استعراضاتنا هذه يحين علينا وقت الصلاة فنميل إلى مسجد قريب نؤدى الفريضة ثم نعود كل إلى مكانه من الصف بنظام دقيق وسرعة عجيبة, فإذا أدركنا الوقت بعيدا عن أى مسجد كنا نأخذ جانبا من الطريق أو أرض فضاء فنقيم الصلاة.


فى الكتيبة

كان النظام التشكيلى للإخوان الذى وجدتهم عليه حين عرفتهم يقوم على الاجتماعات اليومية غير محدودة فى الشعبة أو المركز العام. كما كان يقوم على نظام الكتائب.

والكتيبة عند الإخوان اجتماع مجموعة مختارة من الإخوان يبلغون الأربعين عددا فى دار من دور الإخوان (شعبة أو المركز العام أو بيت مناسب من بيوت الإخوان) وكان يحضره الأستاذ المرشد العام. وهو نظام تربوى بدأ عام 1937 قبل اتصالى بالإخوان بسنوات خمس.

وكتب الأستاذ لنظام الكتائب رسالة" المنهج", حدد فيها مراحل العمل وتكوين الكتائب. وأتذكر من مراحلها أن يصل أفرادها إلى اثنى عشر ألفا" ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة"ويؤسفنى أن ليس تحت يدى الآن تسخة من هذه الرسالة, إذ إن النسخة الوحيدة التى كنت أملكها قد استولت عليها النيابة العامة فى تحقيقات قضية السيارة الجيب ولم يتيسر لى غيرها¸فإن ذلك المنهج لم يقدر له أن يأخذ طريقه العملى, ويبدو أنه كان عنيفا إلى حد ما, فسحبت قيادة الإخوان هذه الرسالة من أيديهم, وقد كانت رسالة خاصة لا تباع.

ثم كتب الأستاذ رسالة أخرى هى رسالة التعاليم, وكان العنوان الذى على غلاف طبعتها الأولى" التعاليم, منى إلى إخوان الكتائب". كتبها ليوحد بها أفهام الإخوان على ضوابط معينة ومعلومة, وقد صدرها بقوله"

"فهذه رسالتى إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين الذين آمنوا بسمو دعوتهم وقدسية فكرتهم وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها أو يموتوا فى سبيلها, إلى هؤلاء الإخوان فقط أوجه هذه الكلمات الموجزة الصادقون "وسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون"

أما غير هؤلاء فلهم دورس ومحاضرات وكتب ومقالات ومظاهر وإداريات ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات, وكلا وعد الله الحسنى.

ثم قال: " أيها الإخوان الصادقون. أركان بيعتنا عشرة فاحفظوها" الفهم والإخلاص, والعمل, والجهاد, والتضحية, والطاعة, والثبات, والتجرد, والأخوة, والثقة".

ثم شرع يشرح كل ركن من هذه الأركان فطلب إلأى الإخوان أن يفهموا الإسلام فى حدود عشرين أصلا موجزة كل الإيجاز, مضمونها أن الإسلام نظام شامل فهو جيش وفكرة وحكومة ومسجد وعبادة وقيادة, وأن القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم يفهمها طبقا لقواعد اللغة العربية, وينكر الإلهام والكشف كمصادر للتشريع ويعتبر التمائم والكهانة منكرا يجب محاربته... وهكذا استطرد حتى أكمل عشرين أصلا هى إيجاز الإسلام كله.

ثم تناول الركن الثانى فتكلم عن الإخلاص وأبان أن الأخ يقصد من عمله كله ابتغاء وجه الله دون نظر إلى نقدم أو تأخر أو مغنم. وذكر أن مراتب العمل المطلوبة من الأخ أن يصلح نفسه, وأن يكون البيت المسلم بحمل أهله على احترام فكرته, وإرشاد المجتمع بنشر دعوة الخير فيه ثم تحرير الوطن الإسلامي من أى سلطان غير مسلم, وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق فإذا قصرت فالنصح والإرشاد ثم الخلع والإبعاد ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. وبعد ذلك إعادة الكيان الدولى للأمة الإسلامية وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام فى ربوعه.

وانتقل إلى ركن الجهاد فذكر أن أول مراتبه إنكار القلب وأعلاها القتل فى سبيل الله.

وشرح التضحية بأنها بذل النفس والمال ولوقت والحياة وكل شىء فى سبيل الغاية, ولا تضيع فى سبيل فكرتنا تضحية, من قعد عن التضحية معنا فهو آثم.

ثم ذكر مقصوده بالطاعة فقال إنها امتثال الأمر وانقاذه توا فى العسر واليسر والمنشط والمكره, وقال إن الطاعة غير لازمة لمن كان فى مرحلة التعريف بالدعوة بقدر ما يلزم احترام المبادىء العامة للجماعة, ولكنه ألزمها على من كان فى مرحلة التكوين, كما جعل "كمال الطاعة" من كفالات النجاح فى مرحلة التنفيذ, حيث حدد مراحل العمل بالتعريف والتكوين والتنفيذ.

وأراد بالثبات أن يظل الأخ مجاهدا فى سبيل غايته مهما تطاولت السنون حتى يلقى الله وهو على ذلك. ثم ذكر التجرد فقال: أن تتخلص لفكرتك من كل ما سواها من المبادىء والأشخاص, لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة".

وأراد بالأخوة أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة, فإن أقل الحب سلامة الصدر وأعلاه مرتبة الإيثار.

ثم فسر الثقة بأنها اطمئنان الجندى إلى القائد فى كفاءته وإخلاصه اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة وأبان عن وسيلة ذلك وأخيرا ختم الرسالة بذكر واجبات روحية وثقافية وصحية وخلقية ومظهرية وعملية واجتماعية ومالية بلغت فى مجموعها تسعة وثلاثين واجبا, وفى بعض الطبعات وجدتها أربعين وهى معروفة بين الإخوان بأنها" واجبات الأخ العامل " ولم يكن جميع الإخوان إخوانا عاملين, وإن كان كثير منهم بل أكثرهم كان كذلك, فمنهم من غلب ظروفه الخاصة التى لم تكن تسمح بذلك ومنهم من وقف على حافة الجماعة. وكان للدكتور عبد العزيز كامل فكاهة طريفة إذ قال عندنا إخوان عاملون وعاملون إخوان.

كان اجتماع الكتيبة يبدأ عادة بصلاة العشاء بعد أول وقتها وبعد تناول طعام العشاء معا, ذلك العشاء كان يتم خلاله التعارف بين إخوان الكتيبة وبعد الصلاة يجلس الأستاذ فى مواجهة الإخوان ويجلسون أمامه وحوله على الأرض. وأحيانا كان يرتفع فى جلسته على مقعد, لا ترفعا ولا تكبرا ولكن حتى يرى الجميع ويراه الجميع. ثم يبدأ بالتعرف إلى إخوانه واحدا واحدا ويتفرس فيهم, فإذا وجد بينهم من لا يعرف سأله برقة بالغة وأدب جم عن اسمه وعمله وبلده ثم لا ينسى ذلك بعد أبدا.

ثم كان يبدأ حديثه بذكر إخائنا وهذا الحب الذى بيننا فى الله وما يضفيه علينا من متعة وإيناس فى الدنيا وثواب وعطاء فى الآخرة. وبعد ذلك يفيض فى معان روحية دفاقة, ويغوص فى كتاب الله تبارك وتعالى يستخرج منه المعانى كما يستخرج الغواص اللؤلؤ من أعماق البحار, فيسمو بقلوبنا إلى أفاق علا ونحس بها تتصل بالله اتصالا نشعر معه أنه معنا ناظر إلينا وأن ملائكته تحف بنا فى جلستنا بأجنحتها إلى السماء... فى هذه الحالة أظن أن لم يكن بيننا من لا يحس بذنبه ويندم عليه ويعزم على ألا يعود. وكان حديث الأستاذ يستطرد نحوا من ساعتين وقبل أن يختمه يميل إلى معنى التوبة والإخلاص ونجدد العهد والبيعة عليهما, ثم يقوم لينام, وينام كل منا. وكنا نستعد لذلك فيحضر كل منا ثياب نومه وغطاءه. وقبل الفجر بساعة كان يتم إيقاظنا فنتوضأ ونتهجد ثم نؤذن للفجر ونصليه يؤمنا فيه أخونا الأكبر ومرشدنا الأستاذ, ثم يجلس بيننا فنتلو المأثورات جماعة وهى مجموعة من الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. سمعت إخوانا بعد ذلك بسنوات ينكرون تلاوة المأثورات جماعة ويقولون إنها مخالفة للسنة وإن الأستاذ الإمام لم يكن يقرؤها فى جماعة.. ولكنى أشهد أننا كنا نفعل ذلك وهو معنا. ولقد حضرت معه فيما بين عامين 1943 و 1946 حوالى ثلاثين كتيبة أظن أننا ما تركنا تلاوة المأثورات جماعة فى واحدة منها.

وبعد الفراغ من المأثورات كان يحدثنا حديثا غالبا ما كان فى السياسة فيصارحنا بما لم يكن يصارح به فى المحاضرات العامة. فكان يذكر لنا رأيه الصريح فى رجالات مصر وغير مصر وفى كل هيئة من الهيئات, ويحدثنا عن اتصالاته بهم وأحاديثهم معه وأنواع عقلياتهم وأنماط تفكيرهم, كذلك كان يحدثنا عن نياته بالنسبة لكل موقف من المواقف أو قضية من القضايا, ويظل يجيب عن أسئلتنا حتى تطلع الشمس ويحين موعد انصرفنا إلى أعمالنا.

كان رحمه الله كيسا فطنا لبقا فى أحاديثه وإجاباته. سأله أحد الإخوان ليلة عن رأيه فى فاروق. فقال: فاروق من؟ قال: الملك. قال: رضى الله عنه ! وأدركنا السخرية فضحكنا. وسأله آخر عن السبب فى أننا لا نرى فى كتائبنا غيره فأين معاونوه؟ أين الوكيل العام والسكرتير العام والمراقب العام ..أين أحمد السكري وأين عبد الحكيم عابدين وأين عبد الرحمن الساعاتي ..الخ...ولماذا لا يحضرون معنا الكتائب؟! فأجاب فى ظرف ودهاء: وهل لا أكفيك أنا؟! فضحكنا وضحك رحمه الله. إلا أن أسئلتنا بصفة عامة كانت تجاب بصراحة وصدق ووضوح.

نظام الكتائب هذا هو النظام التربوي والإدارى الذى وجدته فى الإخوان حين اتصلت بالجماعة, وقد استمر فيها إلى النهاية, غير أنه جدت عليه أنظمة أخرى احتلت من تشكيلات الجماعة ومن عنايتها مركز الصدارة فتأخر نظام الكتائب عن مكانه الأول. لم يكن تعديل النظم أو إضافة نظم جديدة مجرد وقوف عند مظاهر إدارية, وإنما كانت مرونة تتطلبها مطالب العقيدة ودواعي الدعوة إليها.


فى الأســرة

ثم جاء عام 1943. كنت قد ألفت الشعبة وألفت إخوانها وألفوني. وذات يوم فتحت أحد أدراج مكاتبها فوجدت به بعض الصفحات مطبوعة بالرونيو طبعا غير أنيق ولا نظيف, وشرعت أقرؤها فوجدتها تنظيما جديدا يقضى بتشكيل الإخوان فى أسر تكافلية وتعاونية, كل أسرة من عشرة. وقد كان لهذا التشكيل الجديد مناسبة وقصة.

كان أول ظهور للإخوان على مسرح السياسة, حين حملوا فى مصر عبْ قضية فلسطين إبان ما عرف بالثورة العربية هناك. فأمدوا أبطال الثورة من مجاهدين فلسطين بالمال والسلاح وطبعوا النشرات والمنشورات شرحا لقضيتها وإيقاظا للهمم لنجدتها والذود عنها بالنفس والمال, وأذكر من هذه النشرات كتاب " النار والدمار" الذى قام الإخوان بتوزيعه رغم أنه كان مصادرا. كما قام الإخوان بعدة مظاهرات تأييدا لكفاح العرب من أجل فلسطين. ومن العجيب أن كل هذا لم يلفت أنظار الحكومات المصرية ولكنه لم يغب عن نظر المستعمرين الإنجليز كان ذلك عام 1938.

وبإيعاز من الإنجليز بدأ اضطهاد الحكومة فى مصر للإخوان, فنقلت وزارة حسين سري – ولم يكن حزبيا وإن كان مثل غيره عميلا مستترا للإنجليز – نقلت الأستاذ المرشد العام فى فبراير 1941 إلى قنا, وقد كان مدرسا بوزارة المعارف العمومية. ثم ألغى هذا النقل بعد انتهاء العام الدراسى بسبب ضجة أثيرت خوله فى البرلمان.

وفى أكتوبر 1941 هاجم الأستاذ المرشد العام الإنجليز والسياسة البريطانية هجوما شديدا وسافرا فى دمنهور, فأصدر رئيس الوزراء حسين سري باشا أمرا باعتقاله هو والأستاذ أحمد السكري الوكيل العام للجماعة والأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام لها, فاعتقلوا فى 13 أكتوبر 1941 وأودعوا معتقل الزيتون , وحرم على الصحف ذكر كلمة "إخوان". ولم يدم ذلك الإعتقال طويلا.

ووقع حادث 4 فبراير 1942 المشهور – كما ذكرت من قبل – وحاصرت دبابات الإنجليز سراى عابدين. وسقط حسين سري واعتلى كرسى الوزارة مصطفى النحاس باشا وأجرى انتخابات جديدة رشح الأستاذ المرشد نفسه فيها لأول مرة فى دائرة الإسماعيلية – وأظن ذلك كان على مبادىء الإخوان المسلمين – ولكن الإنجليز اليقظين طلبوا إلى النحاس باشا – وكان ما زال غافلا عن الإخوان لا يعرف شيئا – أن يحول دون وصول حسن البنا إلى البرلمان ... واستدعى النحاس باشا الأستاذ المرشد وصارحه بالأمر, وأفهمه أنه بناء على رغبة الإنجليز هذه سيحال بينه وبين النجاح فى هذه الانتخابات بأى وسيلة. ولم يشأ الأستاذ البنا أن يجعلها معركة بين مصريين ومصريين لصالح الإنجليز فوافق على التنازل عن ترشيح نفسه فى مقابل اغتنام بعض الفوائد لدعوته بأسلوب المساومة, فسمح للإخوان بإصدار جريدتهم الأسبوعية تحمل اسمهم "الإخوان المسلمين" وسمح لهم بالاجتماعات والمحاضرات داخل دورهم.

ثم حاول الإنجليز عن طريق مستر وولتر يمارت المستشار الصحفي بالسفارة البريطانية بالقاهرة رشوة الإخوان بالمال. فازدراها الأستاذ ورفضها بكل إباء. وعلى الأثر صدر أمر النحاس باشا بإغلاق جميع شعب الإخوان بالقطر المصرى وبمراقبة دار المركز العام وأشخاص الإخوان.

وفى 1943 كان هناك خوف من نفى الأستاذ حسن البنا من مصر,كان الفصل صيفا وكان الأستاذ مازال مدرسا بالوزارة, وكان عليه المراقبة فى إحدى لجان الامتحانات, ووصل فضيلته متأخرا بضع دقائق فوجد سواه قد حل محله فى المراقبة , وأصر هذا الآخر أن يقوم عن فضيلته بالمراقبة. ورجع الأستاذ إلى غرفة المدرسين وكتب بها رسالة "النبى الأمين" فى زمن الامتحان. هذه الرسالة أعاد الإخوان طبعها بعد محنة 1948 تحت عنوان "بين الأمس واليوم" ثم أعادوا طبعها مرة أخرى مع رسالة "التعاليم" وكانتا معا تحت عنوان "من تطورات الفكرة الإسلامية, وأهدافها". هذه الرسالة "النبى الأمين" هى التى وجدت طبعتها الأولى بالرونيو فى درج المكتب بالشعبة.

فى هذه الرسالة عرض الأستاذ حسن البنا لقيام الدعوة الإسلامية وللقواعد الأساسية للإصلاح الاجتماعى الذى قامت عليه دعوة الإسلام, وأبان عن الشعائر العملية لهذا النظام. ثم سار مع قيام الدولة الإسلامية الأولى حتى تسللت إليها عوامل التحلل فعملت عملها حتى حدث الصراع بين الإستعمار والعالم الاسلامى, ووصف تمزق سلطان المسلمين حتى قال" ... وهكذا أيها الإخوان أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات وأن يشرق نور دعوتكم فى ثنايا هذا الظلام وأن يهيئكم الله لإعلاء كلمته وإظهار شريعته وإقامة دولته من جديد" ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز".

ثم أوضح للإخوان أهدافهم العامة والخاصة, وذكر لهم وسائلهم العامة والخاصة, وبصرهم بالعقبات فى طريقهم, ومنحهم الأمل بذكر عوامل النجاح ثم أوصى الإخوان وصية أردفها بما عليهم من واجبات الاعتزاز بمعرفة الله والتخلق بالفضائل والإقبال على القرآن والسيرة والتحاب فيما بينهم والسمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره.

وكان مع هذه الرسالة لائحة تنظيمية عنونت "لائحة النظام التعاونى" تناولت التنظيم الإدارى وواجبات إخوان الأسر الشخصية والإجتماعية والمالية. وكان من مقتضى نظام الأسر أن تكون اجتماعاتها فى بيوت الإخوان لا فى شعلهم, وذلك لاعتبارين.. الأول: أن يعتاد الإخوان ذلك فلا ينفرط عقدهم إذا أغلقت الشعب, والثانى: توثيق عرى الإخاء بين الإخوان وزيادة أواصر الحب والصداقة بينهم نتيجة لهذا التزاور وما يتبعه من ازدياد فى التعارف والتآلف.

كذلك كان مع الرسالة واللائحة خطاب توجيهى للإخوان يحثهم على التعارف والتآلف والتكافل ويرشدهم إلى كيفية شغل وقت اجتماع الأسرة.

شرعت أطالع هذه الصفحات حينما دخل على محمود اللبان من إخواننا العاملين بالشعبة. فغضب منى وانتهزنى وقال إنه ليس من حقى أن أفتح الأدراج ولا أن أقرأ الأوراق.

ولم أقتنع بوجهة نظره فقد كنت تشعبت قبل ذلك بأنى واحد من الإخوان لى مالهم وعلىّ ما عليهم, فشكوته إلى الأستاذ الخضرى. وأمام الخضرى قال إنها رسالة سرية خاصة بالموظفين والعمال وأنها ليست خاصة بالطلبة. وأجابه الخضرى بأنه كان من واجبه بصفته سكرتيرا للشعبة وما دام يعتبر الرسالة خاصة ولها صفة السرية ليست سرية وإنى لم أكن مخطئا. وعلى ذلك أصررت على أن أتم إطلاعى على الرسالة. وعاد اللبان يعترض بأن نسخ الرسالة قليلة وأن المركز العام لم يطبع للقطر كله سوى مائتى نسخة وأن هذه النسخة وحدها هى نصيب شعبة الظاهر. وحكم الخضرى أن يعطينى اللبان الرسالة لأجل نتفق عليه, فأمهلنى ثلاثة أيام.

أخذت الرسالة وأسرعت بها إلى صديق مرءوس لوالدى كاتب على الآلة الكاتبة. واتفقت معه أن يكتب لنا على آلته نسختين من هذه الرسالة بالكربون الزفر. شرعت أملى عليه وهو يكتب فأتممنا الرسالة وملحقاتها فى يومين أو ثلاثة. وأعدت الأصل إلى اللبان فى موعده. وكان بالشعبة "حوض بالوظة" للطبع, أخذته إلى منزلى واستحصلت على كمية من الورق فطبعت أربعين نسخة من الرسالة, كانت أنظف كثيرا من طبعة المركز العام وأوضح وأكثر أناقة.

أعجبنى نظام الأسرة كما قرأته وأحببت أن تكون لنا نحن الطلاب أسرة وفاتحت فى ذلك بعض من أبادلة الثقة والمحبة من إخوانى الطلاب بالشعبة وأطلعتهم على الرسالة. واتفقنا على تكوين الأسر واخترنا أفرادها معا من بيننا, فكنا نفس أعضاء عشيرة خالد بن الوليد فى رهط الجوالة, وأعطينا كل عضو نسخة من الرسالة ثم أعدت حوض البالوظة إلى الشعبة ومعه ثلاثين نسخة من الرسالة سلمتها إلى اللبان, ثم أخطرنا الشعبة أننا انتظمنا فى أسرة للطلاب. ووقف مجلس إدارة الشعبة بين موافق ومعترض. فمن وافق فعلى أساس أنه عمل يسير فى الاتجاه العام للجماعة وأنه يفيد هذه المجموعة تربويا, ومن اعترض فعلى أساس أن نظام الأسر تعاونى وتكافلى فيه التزامات مالية وهو موضوع لغير الطلاب. وتمسكنا بأسرتنا فانتهى الأمر بالموافقة على تكوين الأسرة مع إعفائها من الالتزامات المالية. واعتبرنى إخوان الأسرة سكرتيرا لها.

نجحت هذه الأسرة. بل لقد كانت أنجح أسرة فى الشعبة ولاحظ الآخرون هذا النجاح فوكلوا إلينا إنشاء أسر أخرى للطلاب فشرعنا ننشئها أسرة إثر أخرى. وما انقضى عامان حتى كان نظام الأسر يعم طلاب الإخوان المسلمين فى مصر بأسرها. كنا نذكر إنشاء أسرتنا بعد ذلك فتنذر بقولنا إنها كانت أول أسرة للطلاب فى العالم, وكنا صادقين.

كنا إخوان هذه الأسرة نأخذ أمورنا كلها بمأخذ جدى, تعارفنا حتى كان أحدنا يعرف كل شىء عن أخيه وعن ظروفه فى المدرسة وفى البيت وعن حالته المالية والإجتماعية. وتآخينا حتى كان حب كل منا لأخيه يفوق حيه لنفسه ويؤثره بكل خير. وتصارحنا حتى لم يكن أحدنا يجد حرجا فى الإعتذار عن عدم حضور اجتماع الأسرة بأن والدته تلد أخا له وأنه مشغول بالخدمة فى البيت. ثم شرعنا نتدارس دراسات إسلامية وسياسية ونحفظ معا أورادا من كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم. لقد أنشأت هذه الأسرة فيما بيننا من الحب والعاطفة مالا زلت أحسه حتى الآن, وبعد أن انقضى على ذلك قرابة خمسة وثلاثين عاما... ولو أقسم أحدهم علىّ بذلك الإخاء لأبررته.

استمر اتصالى بهذه السرة حتى انتقلت إلى شعبة حدائق القبة عام 1944, فبكى بعضهم لانتقالى من بينهم, كان حبا أمره عجيب قال عنه الأستاذ المرشد إنه لا ينال بحيلة ولا يشترى بمال. هو من عند الله يقذفه فى قلوب من يشاء من عباده.

الفصل الثالث: إلى المركز العـام

فى يوم من الأيام الأولى لترددى على شعبة الظاهر ذبت إلى دار الشعبة كالمعتاد فلم أجد بها أحدا, وانتظرت طويلا دون جدوى ثم انصرفت. وفى اليوم التالى سألت عن ذلك فعرفت أن الأمس كان الثلاثاء وفى هذا اليوم من كل أسبوع يلتقى الجميع فى المركز العام حيث يلقى عليهم الأستاذ المرشد حديثا. وحتى ذلك الوقت لم أكن رأيت الأستاذ حسن البنا, وكنت معجبا بالأستاذ الخضرى.

قلت يكفينى الخضرى ولا داعى لحضور حسن البنا أيضا. قالوا إن الخضرى نفسه يتتلمذ على دروس الأستاذ البنا وإن ما يذكره لنا فى الشعبة ما هو إلا شذرات من ذلك الفيض الأعم. واتفقت مع حسين أن نذهب معا, الثلاثاء التالى.. وذهبنا. كان المركز العام حينذاك هو البيت الصغير رقم 13 شارع أحمد بك عمر بميدان الحلمية الجديدة. وهو الآن قد هدم وزرع مكانه حديقة صغيرة للناس.

دخلنا من باب الدار, وفى غرفة إلى يمين الداخل جلس بعض الإخوان بينما وقف جمع آخر يتحادثون, بعضهم ملتح وبعضهم حليق وأشار حسين وقال هذا هو حسن البنا. ولم أتبين المقصود بإشارته فلم يكن من بينهم جميعا من يتميز عليهم فى مظهره أو جلسته أو فى أى شىء. فقلت: ايهم يا حسين؟ قال: هذا. وأشار بيده مرة أخرى وقال ذو اللحية. قلت: أصحاب اللحى كثيرون, قال الجالس على الأريكة وكان أكثر من ملتح, فسكت.

وطاف حسين بى غرف المركز العام – غرفة للسكرتارية جلس فيها محمد الطوبجي, وغرفة لقسم الطلاب, وغرفة للمكتبة اختفى بين أكداس كتبها علوي عبد الهادي أمين المكتبة حينذاك,غرف أخرى كان بها أحمد السكري وعبد الرحمن الساعاتي وعبد الحكيم عابدين وصالح عشماوي وصلاح عبد الحافظ وعبد الحفيظ الصيفي, عرفتهم جميعا فى ذلك اليوم. هؤلاء كانوا رجال المركز العام.


حديث الثلاثاء

الإمام البنا وحديث الثلاثاء بالمركز العام

بدأ حديث الثلاثاء فى صالة الدار رغم أنه كان للدار فناء, غير أن عدد الحاضرين كان قليلا لا يملأ الفناء, كما كان الفصل شتاء( من عام 1942).

وازدحمن الصالة فوقفنا أمام أبوابها فى الشرفة المطلة على الفناء, وكان الأستاذ المرشد يتحدث بدون ميكرفون فى البداية.

لم يكن رضى الله عنه بالطويل ولا بالقصير وإن كان إلى القصر أقرب. ولم يكن بالرفيع ولا بالسمين وإن كان ممتلئا ربعا, ولم يكن أبيض ناصع البياض ولا اسمر بين السمرة ولكنه كان سواء بين ذلك, وكان رحمه الله كث اللحية أصلع الرأس لم يدب الشيب إلى شعره, حاد النظرات واسع العينين وإن كانت عينه اليمنى تبدو للناظر المدقق أضيق قليلا من اليسرى وربما كان سبب ذلك ما ذكره فى "مذكرات الدعوة والداعية" من أن طالبا منافسا – حين كان طالبا – سكب على وجهه مادة كاوية. لم يكن يستلفت النظر بحركاته بيد أنه كان يأسر التفات الحاضرين بشخصه وذاته.

لم يكن فيه شىء غير عادى.. ولكنه وبكل تأكيد كان فيه سر غير عادى ليس من السهل أن تدرى ما هو.. وأعتقد أنه كان الإخلاص. كان يلبس جلبابا أبيض عليه عباءة بنية اللون من الوبر وعمامة مزركشة من لباس علماء اليمن – كانت هدية إليه من بعضهم – وكان يقف على الأرض خلف منضدة صغيرة بدون منبر ولا منصة ولا ارتفاع عن الأرض.

لا أذكر الآن موضوع المحاضرة, ولكنه كان لا يقرأ من ورقة.. كان يتدقق ارتجالا بدون صخب الصاخبين ولا زمجرة المهرجين. لم يكن يخطب إنما كان يتحدث.. ببساطة ودون كلفة. كان حديثه عربيا فصيحا يمتاز بالسلاسة المتناهية, وكان يخلط به أحيانا بعض العبارات أو الألفاظ العامية. وكان يرتفع إلى سماوات علا من الروحانية, ويقدم الدسم المفيد من ثقافة الإسلام فى سهولة ويسر مع معرفة كبيرة واطلاع واسع بعلوم الدنيا ومعارف الغرب, ويمزج ذلك كله بنكتة لطيفة أو فكاهة مهذبة. ولم يكن حديثه مع دسامته واتخامه بالمعارف والعلوم ثقيلا على الذهن. كان كل منا يشعر أنه يخاطبه هو. كان السامعون جمعا من مختلف البيئات والأعمار والثقافات, ومع ذلك فقد كان هذا هو شعور كل فرد فيهم, وكل منهم يحس أنه يستفيد وينهل من حديثه. ولعل السر فى ذلك أن حديثه لم يكن موجها إلى العقول وحدها وإنما كان يخاطب القلوب كذلك, وكان رحمه الله داعية يدعو بدعوة, ومن أوليات لوازم الداعية أن يكون عارفا بالنفوس خبيرا بها. وكان رضى الله عنه حاضر البديهة, متمكنا من علمه, تسعفه الآيات يزفها يؤيد بها ما يذهب إليه فنسمعها غضة طرية كأنما يتنزل بها الوحى, ويزجيها استشهادا لرأيه فتجدها تماما فى مواضعها ذات حلاوة وطلاوة وثمر مغدق, انظر إلى نمط من أسلوبه نسوقه من رسالة التعاليم يتحدث فيه عن الأخوة:

" وأريد بالأخوة أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة, والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها,والأخوة أخ الإيمان, والتفرق أخ الكفر, وأول القوة قوة الوحدة , ولا وحدة بغير حب, واقل الحب سلامة الصدر وأعلاه مرتبة الإيثار "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه, لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم, وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره,وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية و" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وهكذا يجب أن نكون". أ.هــ


هذا نموذج من كتاباته...وأيضا من أحاديثه

وهذا نموذج آخر اقتطفاه من حديث الثلاثاء الذى ألقاه فى 4 أبريل 1939 "فى هذا الصخب الداوى من صدى الحوادث الكثيرة المريرة التى تلدها الليالى الحبالى فى هذا الزمان, وفى هذا التيار الجارف المتدفق الفياض من الدعوات التى تهتف بها أرجاء الكون وتسرى بها أمواج الأثير فى أنحاء المعمورة مجهزة بكل ما يغرى ويخدع من الآمال والوعود والمظاهر, نتقدم بدعوتنا نحن الإخوان المسلمين, هادئة ولكنها أوسع من حدود أقطار هذه الأرض جميعا, خالية من المظاهر الزائفة والبهرج الكاذب ولكنها محفوفة بجلال الحق وروعة الوحى ورعاية الله, مجردة من المطامع والأهواء والغايات الشخصية والمنافع الفردية ولكنها تورث المؤمنين بها والصادقين فى العمل لها السيادة فى الدنيا والجنة فى الآخرة. اسمعوها صريحة داوية يجلجل بها صوت الداعى الأول من بعد كما جلجل بها من قبل "يا أيها المدثر, قم فأنذر, وربك فكبر" ويدوى معها سر قوله تعالى:"فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" ويهتف بها لسان الوحى مخاطبا الناس أجمعين "يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون"...الخ".


حســـن البنـــا

جاء ذكر الأستاذ البنا فيما مضى من صفحات, وسوف ينكرر ذكره كثيرا فيما بقى, فليس مقبولا إذن أن نستمر دون أن نذكر شيئا عن الرجل, فإذا كان القارىء من الإخوان فإن تكرار الحديث عنه لن يمله, وإن لم يكن منهم فلربما كان فى حاجة إلى أن يقرأ شيئا عنه.

ولد الأستاذ حسن البنا بقرية المحمودية مديرية البحيرة بمصر, وكانت الأسرة أصلا من إحدى قرى موكز فوة. ثم نشأ فى القاهرة وتزوج من الإسماعيلية من أسرة الصولى, فموطن أصهاره الأصلى بلدة صول من أعمال مركز الصف من مديرية الجيزة. وتلقى الأستاذ دروسه الأولى فى كتاب القرية ثم فى المدرسة الإعدادية بالمحمودية (وكان للمدارس الإعدادية حينذاك مفهوم آخر خلاف المفهوم الحالى عنها) ثم فى مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور ثم فى دار العلوم بالقاهرة. وقد تميز فى كل هذه المراحل بأنه كان دائما أول الناجحين مما جعله موضع فخر أساتذته ورعايتهم وصلته بهم صلة خاصة, وكان من هؤلاء الأساتذة الأستاذ عبد العزيز عطية عضو الهيئة التأسيسية للإخوان بعد ذلك. وقد اعتكف الأستاذ فى الأزهر الشريف أسبوعا يستذكر مواد الامتحان بين الكشف الطبى وامتحان القبول لدار العلوم عام 1923. وكان من المتوقع أن ترسله وزارة المعارف العمومية فى بعثة دراسية إلى انجلترا أو فرنسا على عادتها فى إيفاد أوائل الحاصلين على دار العلوم لولا ظروف خاصة جعلت الوزارة تخرج عن ذلك التقليد.

وكان الأستاذ البنا صناعتين: إصلاح الساعات وتجليد الكتب. فكان يفتخر بأنه عامل, وكثيرا ما كان يداعب الإخوان ويهددهم بأنه سيتركهم ويفتح محلا ويقول مبتسما" صنعة فى اليد أمان من الفقر". وكان الأستاذ يقرض الشعر وهو فى الثالثة عشرة من عمره فى المناسبات الوطنية ولكن دعوته شغلته يعد ذلك عن إقراض الشعر وإن لم تشغله عن تذوق الأدب فقد كان أدبيا ممتازا وليس أدل على ذلك من كتاباته وخطاباته.

حصل الأستاذ على دبلوم دار العلوم ولم يبلغ الحادية والعشرين من عمره فتم تعيينه مدرسا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية فى الدرجة السادسة بمرتي شهرى قدره خمسة عشر جنيها مصريا وتسلم عمله فى 20 سبتمبر 1927, واستمر بعد ذلك مدرسا فى الدارس الابتدائية تسع عشرة سنة لم ينل فيها الدرجة الخامسة إلا بحكم قانون الموظفين المنسيين. وقد عرض عليه عبد الحميد عبد الحق باشا وزير الأوقاف أن ينتدبه إلى مكتبة بالوزارة ليعاونه فى إصلاح المساجد على أنه يمنحه الدرجة الثالثة أو الثانية بصفة استثنائية ويتقاضى مرتبها, ولكنه رحمه الله رفض العرض وقبل أم يكون عضوا فى لجنة إصلاح المساجد بدون مقابل على أن يظل فى وظيفته مدرسا بنفس درجته وراتبه.

وفى مايو 1946 استقال الأستاذ من وظيفته بوزارة المعارف بمناسبة إنشاء الجريدة اليومية للإخوان المسلمين, وهو لا يملك مرتب شهر واحد, فقرر له مجلس إدارة الجريدة مرتبا شهريا قدره مائة جنيه ولكنه رفض أن يتسلم مليما واحدا, فقد كانت الجريدة أيضا تعانى ضائقة مالية, واستمر يشارك فى إدارتها وتحريرها ويبذل جهده المضنى دون مقابل حتى بلغ ما اقترضه خلال عامى 19461947 لينفق منه خمسمائة جنيه, حتى أنشأ مجلة الشهاب الشهرية ففرض لنفسه من إيرادها ما يوازى راتبه الحكومى حين استقال وهو أربعون جنيها مصريا, فكان ينفق منها على نفسه وبيته وأسرته وأولاده, ويقدم منها ما يفرض عليه للدعوة من التزامات مالية شأن جميع الإخوان. وقد أسهم الأستاذ خمسة أسهم لشركة المعاملات الإسلامية وأربعة فى شركة الإخوان للصحافة وثلاثة فى شركة الإخوان للطباعة لم يسدد بعض الأقساط المستحقة من قميتها, وقد تنازل عنها جميعا للمركز العام للإخوان المسلمين على أن يسدد ما بقى من ثمنها.

وكان الأستاذ المرشد يشارك الإخوان فى كل المناسبات الفردية والاجتماعية والدينية, فكان يخطب الجمعة والعيدين ويصلى التراويح بهم فى رمضان يختم فيها القرآن الكريم, وكان كثير ما يجرى بينهم صيغة عقد الزواج بنفسه ويدعو لأطفالهم بالدعاء المأثور حين يولدون وكان يشيع جنائزهم ويصلى عليها, كما كان يقيم معهم فى معسكراتهم ويوجههم فى حياتهم العامة والخاصة ويخلص لهم الحب والمودة وكانوا يبادلونه العاطفة من أعماق قلوبهم.

وكان يسكن فى مسكن متواضع, رقم 15 شارع سنجر الخازن بالحلمية الجديدة قريبا من دار المركز العام بإيجار قدره جنيهان مصريان, زيدا فى أيام الحرب العالمية الثانية إلى 216 قرشا بحكم قانون المساكن وقد عاشت فيه أسرته فترة بعد استشهاده.

ولقد تعرض الأستاذ فى صغره للموت أكثر من مرة, فقد كان يلعب مع أخيه عبد الرحمن وهما صبيان حينما انهار فوقهم منزل, لكن السقف استند على درابزين السلم وهما من تحته حتى رفعت الأنقاض. ووقع من فوق سطح يرتفع عن الأرض أكثر من ثمانية أمتار فجاء وقوعه فى "ملطم مونة" فلم يصب بمكروه. وسقط مرة فى إحدى الترع زمن الفيضان بفعل كلب عقور وهاب الرجال أن ينجدوه فأنقذته امرأة خلعت جلبابها بسرعة وألقت بنفسها إلى الماء. وركب فرسا فجمحت برأسه لو اصطدم به, ولكنه استلقى على ظهره بسرعة على السرج حتى مر من تحت الحاجز بسلام.

وقد استشهد رحمه الله فى 12 فبراير 1949, اغتالته الدولة أمام جمعية الشبان المسلمين بشارع" الملكة نازلى" – رمسيس حاليا – بمدينة القاهرة. وقد ترك من الذرية أحمد سيف الإسلام ووفاء وسناء ورجاء وهالة ثم ولدت استشهاد بعد استشهاده.

لقد كان حسن البنا طاقة بشرية ضخمة, لو قدر عمر الإنسان بطاقته البشرية وبإنتاجه لتجاوز عمر الرجل الأربعين عاما ببضع مئات من السنين لقد آمن بنظرية تطبيق القرآن فى المجتمع, وكان صاحب تجربة الفرد المسلم وتفاعله فى المجتمع, وكان عملاقا تساوى فى الإعجاب به من أيدوه فاتبعوه ومن عارضوه فقتلوه. ولا يستطيع أحد أن يزعم أن استشهاد الأستاذ فى سبيل دعوته هزيمة, فكما يقول الأستاذ محمد الغزالي: "ليس قتل الصديقين والصالحين فى هذه الدنيا بالأمر الصعب!" وكان ذلك دأب بنى إسرائيل حتى مع أنبيائهم" أفكلما جاءكم رسول بمالا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون".


عـاطفـة الثـلاثـاء

أعجبنى الرجل وملك قلبى.ولم يكن لجمال فى صورته, فلم يكن ممن يبهر الناس جماله وإن لم يكن به ما يعيب صورته, ولا لعذوبة فى صورته فقد كان فى صوته بحة خشنة وإن كانت بحة لطيفة مقبولة, ولا لبهاء فى هندامه فقد كان يرتدى من الثياب أبسطها وأنظفها متواضعا فى ذلك جد التواضع, لكنه كان جليلا مهيبا فيه جلال العابد ومهابة العالم, ثم كان فوق ذلك كله – ولعل هذا هو السر – مخلصا أشد الإخلاص متفانيا فى فكرته متجردا لها, فإذا ما تحدث خرج الحديث من قلبه , وما خرج من القلب فهو يصل إلى القلب, وكان يقدم من نفسه نموذجا ساميا ومثلا عاليا للرجل الربانى دون أن يذكر حرفا عن نفسه, فيصغر الواحد منا فى نفسه كثيرا ويحس أنه لا شىء أمام عملاق ضخم صنعه الله على عينه واصطنعه لدعوته, فلا يجد أحدنا حرجا ولا غضاضة أن يقرأ أنه فى حاجة إلى هذا الرجل ليرشده. ليس فى الإسلام واسطة بين العبد وربه وليس فيه كهنوتية, وليس عندنا رجال للدين يغفرون للمذنبين ويبيعون فدادين الجنة للصالحين, ولكننا إزاء" إمام" قل نظيره بين أئمة الهدى النادرين فى أرض مات أحياؤها وضل أصحابها, والمعنى ليس غريبا على الإسلام (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) فهو ولى من أولياء الله الذين عناهم لقوله (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون, الذين آمنوا وكانوا يتقون) كما قال سبحانه (الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) ولقد كان موفقا يوم اختار لنفسه لقب "المرشد العام للإخوان المسلمين" فلقد كان حقا يهدى إلى الرشد.

انتهت محاضرة تلك الليلة فوجدتني عازما عزما أكيدا على المواظبة عليها كل أسبوع. وكان من نهجه أن يبدأ حديثه بذكر عاطفة الأخوة والحب الذى جمعنا فى الله وعلى طاعة الله, وكان قديرا فى تأكيد هذا المعنى بين جماهير الإخوان, حتى صار أحدنا يلقى أخاه فى الطريق أو فى مركبه الترام لا يعرفه ولا يدله عليه إلا إشارة الإخوان يضعها فى عروة سترته فيقبل عليه يضمه ويعرفه بنفسه ويسأله عن اسمه وعمله وبلده وشعبته.. ثم يواعده ليلقاه فى حديث الثلاثاء!

بعد ذكر معنى الحب والإخاء كان الأستاذ ينتقل إلى التذكير بفضل مجالس العلم والذكر – كعاطفة الثلاثاء هذه _ فكان يستشهد بحديث أبى هريرة المتفق عليه عن رسول الله صلى اله عليه وسلم "إن لله تعالى ملائكة يطوفون الطرق يلتمسون أهل الذكر, فإذا وجدوا قوما يذكرون الله عزوجل تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. فيسألهم ربهم وهو أعلم: ما يقول عبادى؟ يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. فيقول: هل رأونى ؟ فيقولون: لا والله ما رأوك. فيقول: كيف لو رأونى؟ يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة واشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا. فيقول: ماذا يسألون؟ يقولون: يسألونك الجنة. يقول: هل رأوها؟ يقولون: لا والله يارب ما رأوها. يقول: فكيف لو رأوها؟ يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ يقولون: يتعوذون من النار. فيقول: وهل رأوها؟ يقولون: لا والله ما رأوها. فيقول: كيف لو رأوها؟ يقولون: لو رأوها كانوا أشد فرارا واشد لها مخافة. فيقول: فأشهدكم أنى قد غفرت لهم. يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم". وكثيرا ما كان يذكر ما رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده". بهذا وبمثله كان يقر فى نفوسنا احترام الدرس وحبنا له وحرصنا عليه واعتزازنا به.

وكان الأستاذ يكره أن يسميه "محاضرة" ويقول: "إنها ليست محاضرة ولكنها عاطفة فقولوا عاطفة الثلاثاء ولا تقولوا محاضرة الثلاثاء ولا درس الثلاثاء".

استمر عدد رواد عاطفة الثلاثاء يزداد باطراد حتى لم تعد تتسع لهم صالة الدار فانتقلت إلى الفناء, ثم ازداد المقبلون عليها حتى ازدحم الفناء بدوره فكان يمتلىء الشارع أمام الدار بالوقوف يقفون طوال المحاضرة التى كانت تمتد إلى ساعتين أو ثلاث. وهنا كان يستعان بالميكروفون.

ثم اتسع المكان اتساعا جديدا بشراء الدار الجديدة للمركز العام بميدان الحلمية الجديدة فى مواجهة الدار القديمة وتشغل الناصية المكونة من سكة راتب باشا وميدان الحلمية (أطلق عليه بعد ذلك ميدان حسن البنا) وشارع أحمد عمر. وهو حاليا قسم الدرب الأحمر للشرطة بعد أن استولت عليه حكومة جمال عبد الناصر. ثم انتقلت المحاضرة بعد ذلك إلى الفناء الأوسع بأرض دار شركة المعاملات الإسلامية التابعة للمركز العام بشارع محمد على أمام مسجد قيسون, فكانت تمتلىء بهم أيضا ويقفون فى الشارع أمام الدار.

وكان الأستاذ يتخير لأحاديثه سلاسل مفيدة لدارسة الكتاب والسنة المطهرة والتاريخ الإسلامى بطريقة جديدة من ابتكاره. فبدأ سلسلة "نظرات فى كتاب الله" وكان يجعل لكل محاضرة موضوعا قائما بذاته من هذه السلسلة. وكان يقول إنه لا يقصد بهذه النظرات أن يحصى حقائق علمية ومذاهب خلافية أو أن يعرض لكثير من وجوه التفسير ولكنه قصد إلى أن يمهد سبيل الفهم لكتاب الله بين يدى من يقرؤه وذلك بأن يعرض للمعانى الكلية.

وأذكر أنه بدأ سلسلة نظرات فى كتاب الله بالحلقة الأولى "الإنسان فى القرآن" ثم "الكون المنظور فى القرآن" ثم "الكون غير المنظور فى القرآن" ثم "الله فى القرآن – أو حقوق الألوهية فى كتاب الله" ثم "الجزاء فى القرآن" وهكذا. ولن أستطيع أن أودون هنا أحاديث الثلاثاء فقد كان الواحد منها يمتد إلى ساعات ثلاث, ولكنى أعرض نماذج مختصرة غاية الاختصار كل غايتى منها أن يدرك من لم يدرك حسن البنا كيف كانت أحاديث, ولنأخذ لذلك مثالا "الإنسان فى القرآن".

قال: "إن من واجبنا كأناس أن نعرف الوضع الذى وضعنا الله فيه لنقوم بحق أنفسنا, ثم نعلم تبعا لذلك حق الله علينا. وكان الأساس الذى دار عليه القرآن فى عرض هذا الموضوع هو قصة آدم, وقد ذكرت فى مواضع كثيرة من القرآن... فى سورة البقرة وفى الأعراف والحجر والإسراء وطه وص والرحمن. ذكرت مجملة فى بعض المواضع وعرضت بشىء من التفصيل فى مواضع أخرى.

" فبنيت الأعراف أن سبب ضلالة الشيطان هو الكبر, وأن سبب زلة آدم هو الاغترار به. زبنينت الحجر أن إبليس اعترف بريوبية الله وأن هناك فريقا ليس لإبليس سلطان عليهم. وتبين الإسراء أيضا شيئا من ناحية طريقه استيلاء إبليس على الناس وبيان أكاذيب وعوده. وتشير طه كذلك إلى أن الإنسان ضعيف مالم يدركه الله بقوته, وأن الإنسان من طبيعته النسيان فنسى وطمع. وعرضت سورة ص لتفسير الصلصال والحمأ المسنون بأنه كان طينا وأن الله أكرم الإنسان لأنه خلقه بيده ثم إقرار من إبليس بعزة الله وأن اللعنة التى نزلت عليه لعنة ربانية.

وألمت القصة بعنصر الإنسان المادى وأنه من طينة هذه الأرض وجوهرها. ثم القصة بظاهرها تدل على أن الإنسان المادى خلق على غير مثال سبق, فهو ليس متسلسلا من غيره كما يفترض بعض علماء الحيوان. ولم يبين القرآن ولا عرضت السنة لكيفية الخلق.

"وكما بينت القصة أن التكوين المادى للإنسان طينى عرضت كذلك للتكوين الروحى ونفخت فيه من روحى) فبينت أنك أيها الإنسان لست هذا الغلاف الطينى ولست هذا الغلاف اللحمى ولكنك من روح الله فأنت قبله لم تكن إلا قبضة من طين, ثم أنت بعده صرت بشرا سويا, فأنت كائن من كائنات الأعلى لأن إنسانيتك لم تتكون وتتشكل إلا بعد أن نفخ الله فيك من روحه لا شأن لك بحقيقة هذه الروح, إنما يكفى أن تعلم أنك عنصر ربانى وكل ما اتصل بالله فهو فوق تفكير الإنسان.

"وعرضت القصة كذلك لناحية ثالثة هى نسبة الإنسان إلى الملائكة أن الله أسجد له الملائكة بعد أن أمده بروحه, فهو بهذا أعظم عند الله من الملائكة, فلو حقق الإنسان إنسانيته لكان أسمى من الملائكة, أما لو نسى لحق بالشيطان, وقد ثبت أن الملائكة سيكونون فى خدمة الصالحين يوم القيامة, كما تبين القصة أن تجلى الحق تبارك وتعالى على الملائكة هو تجل من ناحية واحة ناحية الطاعة. أما تجليه على الإنسان فهو أعظم لأن فيه ناحية الاختيار. " وعرضت القصة رابعا لصلة الإنسان بالشيطان فبينت أن بينهما خصومة عنيفة وأن الحياة ليست إلا صراعا بينهما.

والمعنى الخامس فى القصة هو أن الإنسان مخلوق من الكائنات العلوية, موطنه الأصلى الملأ الأعلى وفيه نشأ, ثم أهبط اختيارا, ثم هو يعود إلى هذا الوطن إن عرف طريق الرجوع.

" كذلك تناولت القصة نسبة الإنسان إلى الكون كله فإذا به كائن علوى بين الكائنات وله منها مكان الخلافة (وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة) (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) فالإنسان مسلط والكون كله مسخر له.

"ولم يهمل القرآن نسبة الإنسان إلى الإنسان فإذا به ينادى (بعضكم من بعض) (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) فالإنسان أخ الإنسان.

وثامنا بين نسبة الإنسان إلى الله فأجملها فى قوله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).

ثم دعا القرآن الإنسان إلى التسامى بروحه بالأعمال الصالحة وتطهيرها بمعرفة الله وتزكيتها بالإقبال على الخير".

ولنأخذ مثالاً ثانياً لتناوله موضوع "الكون المنظور فى القرآن" قال: "تناول القرآن كثيرا من ظواهر الكون وعرض لها فى آيات كثيرة جاء فيها ذكر السماء المظاهر الكونية تكلم عنها القرآن فى بدء خلقها وفى عوارض وجودها وتكلم عن بعضها فى نهاياتها. وقد عرض لهذه النواحى لا ليعالج أمرها علاجا فنيا تحليليا دلائل قدرة الله وعلائم الصنع الدقيق الحكيم ومظاهر التصرف البارع البالغ. عرض لها لتكون نبراسا يهدى الناس لمعرفة الله .

ثم إنه لم يتناولها من ناحيتها الفنية لأن العقل الإنسانى يتدرج, فلابد أن تترك له الحرية لإدراك هذه الكائنات وإدراك. أسرارها بحسب تدرجه فى قوته واكتماله. وما ذكره القرآن عن هذه الكائنات لم يتعارض مع ذكرته النظريات العلمية الصحيحة لا فى قليل ولا فى كثير – لا فى بدء خلقها ولا فى عوارض وجودها ولا فى نهايتها المحتومة. العبرة العملية هى تقبل على النظر فى الكون ونتخذ من هذه الوسيلة الصحيحة لتقوية الإيمان".

كان الإخوان يستمعون بإنصات وشغف الساعات الطوال دون كلل أو ملل. بل لقد كان شعورى بعد أن أقف طويلا أرتشف من ذلك المنهل العذب أن أحس بالحسرة على انتهاء الحديث, ولو مكث الليل يتحدث لوقفت استمع حتى تطلع الشمس. وكان إذا ما انتهى من حديثه اندفعت إليه جموع الإخوان يصافحونه ويقبلونه يده. كان لا يحب أن يقبل أحد يده, ولكنه ما كان يستطيع أن يقاوم عواطف ألوف الإخوان الذين كانوا يهجمون عليه بعد الحديث لتقبيل يده.وفى أثناء حديثه كثيرا ما كان يرى أخا من إخوان الأقاليم وسط الجموع أو يلمح أحدهم داخلا الدار أثناء المحاضرة فيقطعها برهة ريثما يرحب به ويقدمه إلى الألوف الشاهدة فيقول "هذا أخونا فلان من بلدة كذا جاء يشاركنا عاطفتنا... كيف أنت يا أخانا فلان؟ وكيف حال شعبتكم؟.. وكيف تركت الشيخ فلانا؟ وكيف حال ولدك؟ هل شفاه الله؟" ثم يسأل الإخوان أن يدعوا لولد أخيهم بالشفاء, ويتحدث قليلا عن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب. ولربما كان الأخ محل هذه الحفاوة مغمورا فى الناس لا يكاد يعرفه أحد, مطمورا لا يكاد يحس بوجوده إنسان, فلا هو من عليه القوم ولا هو من أصحاب الجاه والسلطان..

ولكنه أخ من الإخوان من النوع الذى كان يصفه بالتعبير البليغ "قوم إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا" ثم يعود يستطرد فى موضوعه الأصلى من جديد.

كان حديث الثلاثاء تجاوبا بين الإخوان ومرشدهم, وكثيرا ما كان يتفق معهم فيه على حفظ آية وحديث فى موضوع معين ثم يأتى فى الثلاثاء التالى ويسألهم – وهم ألوف –" هل حفظتهم الآية والحديث؟" فيقولون " نعم" فيقول" قل لنا يا أخ فلانا آية عن الصدق" فيقول (بسم الله الرحمن الرحيم, يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). جميل, وقل لنا يا أخ فلان حديث عن الصدق.. الخ.

وكان الإخوان يوجهون إلأى مرشدهم الأسئلة فى مختلف الشئون, يكتبونها فى قصاصات من الورق, ويناول كل قصاصته للذى يجلس أمامه حتى تصل إلى الجالسين فى الصف الأول فيضعونها على المنضدة أمام الأستاذ, ويستمر سيل القصاصات يصل طوال المحاضرة ليجيب عنها فى آخرها. كانت تشمل أسئلة فقهية وإسلامية وأسئلة سياسية وأسئلة فى أمور الجماعة وأسئلة حول شخصية, كما كانت تتضمن فكرة أو اقتراحا. وكان يجيب عن جميع هذه الأسئلة لا يغفل منها شيئا ولا يحرجه منها سؤال. وكان بعض ما يمس شخصه مقبولا نوعا, كمن سأله عن مصدر رزقه, وكان بعضها سخيفا كمن سأله عن راتبه. وكتب إليه أحدهم يوما "إنك إذا وقفت تصلى رأيناك تهتز أماما وخلفا, فلماذا؟" فكان جوابه "أكرمك الله يا أخى, لقد لفت نظرى لشىء سوف يشغلنى, أنى أصلى لا ألتفت لما تذكر ولا أحس به, ولكنى بعد الآن سيشغلنى ذلك كلما وقفت للصلاة فالأمر كرجل ملتح كان ينام مرتاح البال حتى سأله أحدهم عن لحيته هل يضعها تحت الغطاء أو فوقه إذا نام, فصار وضعها يتعبه بعد ذلك إن وضعها فوق الغطاء شعر بالبرد وإن وضعها تحته أتعبته".

كان يتحدث فى حفل أقيم فى سرادق بالمنصورة أقيم فى إحدى المناسبات الإسلامية, فوصلته قصاصة بها "إنكم تنادون بقيام الدولة الإسلامية وعودة الخلافة الضائعة, فمن يكون الخليفة المرشح وفق برامج الإخوان ومناهجهم؟" لقد كان السؤال دقيقا محرجاً, إذا قال الملك فاروق فقد اشتهر فسقه وذاع وعم فساده كل البقاع, وإذا قال غيره تكون إجابته – كيفما كانت – دعوة لإسقاط الحاكم وقلب نظام الحكم فى مصر. ولكن الرجل الذى تمكن من فكرته وتمكنت منه عقيدته قرأ السؤال فى الميكروفون ... فأنصت الجميع... ثم قال:

- من كاتب هذا السؤال؟

- وبعد تردد قليل وقف شاب معروف بأنه حزبى من حزب الوفد, وكان الوفد يخاصم الإخوان حينذاك. فقال له الأستاذ:

- - هل تقرأ القرآن؟

- - نعم.

- - هل قرأت سورة القصص؟

- - لا أذكر.

- إذن فعد إلى قراءتها يا أخى. تجد فى أولها (إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين) هذا تصوير لحال أمة. ثم قال (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين, ونمكن لهم فى الأرض, ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) حينما أراد الله لهذه الأمة المستضعفة هذه الإرادة التى يرثون بها الأرض والتى تجعلهم أئمة قد تمكن دينهم ... حينما أراد الله لهذه الأمة الإرادة, أين كان القائد الذى يحقق الله به هذه الإرادة؟

- لا أدرى.

- تجده فى الآية التالية (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين)!

أرأيت يا أخى؟ كان قائد تلك المعجزة رضيعاً مطارداً يلقى فى اليم من الخوف. يا أخى نحن مطالبون بأداء رسالة وحمل أمانة ولا نبحث عن من يتصدر ويترأس, ولكننا دعوة, وحين يحين لتصبح الدعوة دولة سوف يصنع الله لها قائدها الذى يتزعمها, فهذا شأن الله يصنع على عينه من يشاء والله أعلم حيث يجعل رسالته.


مـع قســم الطـلاب

لم تكن محاضرة الثلاثاء والأحفال العامة هى صلتى الوحيدة بالمركز العام فتلك صلة عامة. وإنما كان هناك صلة أخرى أعمق واوثق, فمنذ بدأت دراستى بكلية التجارة عام 1942 اتصلت بالإخوان فى الكلية. وكان الاتصال فى الكلية يغاير نمط الإتصال بالشعبة, فلم يكن بالكلية أسر ولا جوالة للإخوان وإنما كان لكل سنة دراسية من سنى الكلية الأربع مندوب, ثم كان هناك مندوب للكلية جميعها. وكانت مهمة كل مندوب أن يتعرف على الإخوان الذين فى سنته الدراسية, وهو مسئول عن تعارفهم ببعض. وكنا نعقد لذلك الاجتماعات تارة لسنة دراسية بعينها وتارة لإخوان الكلية فى مصلى الكلية أو فى المركز العام. وكانت "جريدة الإخوان المسلمون" الأسبوعية تباع لنا فى هذه الاجتماعات.

وكثيرا ما كنا نحتفل فى الكلية بالمناسبات الإسلامية, فندعو طلاب الكلية وأساتذتها إلى أكبر مدرجاتها حيث يبدأ الحفل بتلاوة القرآن الكريم, ثم يتوالى الخطباء من طلاب الكلية وأساتذتها, وأيضا من إخوان من غير الكلية, وكثيرا ما كان يحضر هذه الاحتفالات ويخطب فيها مصطفى مؤمن وكان طالبا بكلية الهندسة وسعيد رمضان وكان طالبا بكلية الحقوق. وحين كنا نقيم حفلات للتعارف بالمركز العام كنا ندعو إليها نخبة من أساتذة الكلية وطلابها, وأحيانا كان يشاركنا هذه الحفلات إخوان كليات أخرى, وكان يشهدها معنا أستاذنا المرشد فكان ينتهز هذه الفرصة ليشرح لضيوفنا دعوة الإخوان وغايتها وأهدافها ووسائلها وخطوات سيرها, كما كان يجيب على أسئلتهم ويستمع لكلماتهم وانتقاداتهم. وأذكر حفلا من هذه الأحفال فوق سطح دار المركز العام على إفطار فى يوم من أيام شهر رمضان المبارك, وكان بين المدعويين إليه بعض الزملاء المسيحيين وبعض دوى الاتجاهات اليسارية. فكانوا يسألون عن موقف الإخوان من المسيحيين والأقليات المسيحية فى مصر وفى العالم الإسلامي, بينما ذهب اليساريون يقولون إن دعوة الإخوان يسيرها فرد واحد هو"حسن البنا" فهى تقوم على أسس ديكتاتورية فاشية مناقضة لمبادىء الديمقراطية الحديثة التى آمن بها العالم واتجه إلى الأخذ بها, كما قالوا إن الإسلام فكرة نظرية لا يمكن تطبيقها.

أما يساريتهم فهى أحدث ما وصل إليه فكر العالم وهى مطبقة فعلا. وكان الأستاذ يجيب فى هدوء وسماحة وسعة صدر وفى منطق وإفحام وأناة.

تربيـة كان أكثر ما أفدت من قسم الطلاب هو اجتماعات "الكتيبة" التى كنت أدعى إليها. ولقد حضرت مع الأستاذ المرشد نحوا من ثلاثين كتيبة, سبع منها فقط كان عن طريق الشعبة, والباقى كله كانت دعوتى إليه عن طريق قسم الطلاب بالمركز العام. كنا نتكتم هذه الاجتماعات لسببين: أولهما ترويض أنفسنا على الكتمان, وثانيهما حتى لا يحضرها غير من دعى إليها. وكان المفروض أن يكون عدد المدعوين إلى اجتماع الكتيبة فى حدود الأربعين غير أنها كثيرا ما كانت تصل إلى ستين وكان الأستاذ يتغاضى عادة عن ذلك, ولكنها بلغت الثمانين مرة فبان الامتعاض عليه ولفت نظر المسئولين عن دعوة الكتيبة إلى ذلك, وكان يرى أن العدد إذا زاد فقد الغرض من اللقاء وهو التعارف والتآلف ثم الاستفادة.

وكان اجتماع الكتيبة بقسم الطلاب إذا عقد صيفا عقدناه فوق سطح المركز العام, وإذا كان شتاء عقدناه فى بعض الغرف المتسعة. وعن طريق هذه اللقاءات عرفت تخبة من إخوان الجامعة, وبعضهم يشغل الآن أوضاعا وأكثرهم من المبرزين فى أعمالهم. وكان يشهد هذه الاجتماعات أيضا بعض الإخوان من طلاب كلية البوليس وطلاب المدارس الثانوية. عن طريق هذه اللقاءات الخاصة أخذنا كثيرا من فقه الدعوة.


حــركــات

وكان لقسم الطلاب نشاط آخر هو الحركات التى كنا نقوم بها فى الجامعة وفى المدارس الثانوية. تلك الحركات كانت ظاهرة هامة من أوجه نشاط الإخوان ومن أبرز علامات الحركة الوطنية بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945. وكان قائد هذه الحركات واحدا من أبرز الإخوان فى هذه الحقبة ومن أقواهم شخصية وأوسعهم إطلاعا هو الأخ مصطفى مؤمن من طلاب كلية الهندسة. ولقد كان خطيبا مفوها لا يبارى, يأخذ بالألباب, وذا قدرة فذة على إثارة الحماس, كما كان عقلية حركية تتفتق كل يوم عن جديد. كان بعض تلك الحركات يخدم القضية الوطنية المصرية وكان بعضها وكان بعضها يؤيد القضايا الإسلامية والعربية خارج مصر. فمن الصنف الأول لا ينكر إلا جاحد أن الفضل يرجع إلى الإخوان فى تحديد أهداف مصر أو ما أسميناه الأمانى الوطنية, وأعلناها وجمعنا الناس عليها وحملنا الحكومات الهزيلة على الاعتراف بها داخليا والمطالبة بها خارجيا, وفى الواقع لم يتم ذلك بإقناع تلك الحكومات وإنما كان بتوريطها أمام الرأى العام المتزايد الذى أمكن بلورته على ذلك. كان الإخوان هم الذين ضغطوا هذه الأهداف فى كلمتين " الجلاء والسودان". من ذلك أيضا دعوة الأحزاب والزعماء والمتزعمين والوزراء والمستوزرين إلى الوحدة لمواجهة المستعمر صفا واحدا. فلما غلبت على هؤلاء حزبيتهم وتهافتهم على كراسى الوزارة وتناحرهم على ذلك, حمل الإخوان لواء نبذ الحزبية قاطبة ونجحوا فى هذا إلى حد بعيد, حتى صار محرما فى الجامعة نتيجة لذلك الهتاف بأن يعيش فلان باشا أو بأن يسقط فلان باشا وصار أى حزبى لا يجرؤ على هتاف من هذا النوع, وارتفع بدلا من ذلك" كفران بالحزبية, إيمان بالوطنية". من ذلك أيضا رفض الأحلاف والمعاهدات التى كان من شأنها ربط مصر بعجلة "الإمبراطورية البريطانية العجوز" – وربما كان الأستاذ المرشد هو صاحب هذا التعبير – وإحباط كل مشروع من هذا القبيل. لقد كان قسم الطلاب وتحريكه للجموع الطلابية فى هذه الاتجاهات من أبرز ما ظهر من الصور عن حركة الإخوان فى الأربعينيات, وكان هو اللسان الناطق عن حركة الإخوان.

هذه الحركات اتخذت شكل عقد المؤتمرات لطلاب الجامعة فى حرم الجامعة { جامعة فؤاد الأول – جامعة القاهرة الآن} أو فى قاعة الاحتفالات أو فى مدرجات الكليات المختلفة, وكذلك اتخذت شكل الخروج فى مظاهرات خارج أسوار الجامعة بعضها اصطدم بالبوليس وسقط فيها من الضحايا من الطرفين من سقط, والشهادة لله لقد كان الأستاذ البنا يكره ذلك أشد الكره. كذلك يقبض على بعض الإخوان فى هذه المظاهرات, وتم تقديم بعضهم إلى المحاكمات بتهمة التظاهر وتعطيل الدراسة.

كذلك عقدنا مؤتمرات جامعية عديدة لنصرة فلسطين وسوريا ولبنان وباكستان وأندونيسيا. ولقد كان من صميم عقائد الإخوان المسلمين, غير أن القوى الحزبية والشيوعية كانت تناوىء ذلك وتحاول نشر منطق "مصر للمصريين" وألا شأن لنا بفلسطين وسوريا وكل ما هو خارج حدودنا, ولقد عانينا من هؤلاء الكثير فى محاولاتهم لعرقلة تقدم الحركة التحررية التى سرنا بها حينذاك.

إن هذه المرحلة فى حاجة إلى تاريخ مسهب لبيان أهميتها ودور الإخوان الواضح فى توجيه الحركة الوطنية فى مصر فى أعقاب الحرب العالمية الثانية, وفى رأينا أن المهندس مصطفى مؤمن هو خير من يقوم بهذا العمل, فهو الذى قاد هذه الحركة بضع سنين. لقد تزعم الإخوان النشاط الوطنى فى مصر وأشعلوه وبلوره وقادوه وتقدموا الصفوف ودفعوا الثمن والحمد لله.


استقــلال مصــر !!

فى تلك الأيام كانت الحرب العالمية الثانية دائرة الرحى منذ 1939. وكان هناك ضغط مستمر من جانب السفير الانجليزى سير مايلزلمنبسون لتدخل مصر الحرب إلى جانب انجلترا. عاملان منعا ذلك لفترة طويلة. أولهما شعب مصر الذى كان يمقت الإنجليز بسبب الإحتلال الذى طال قرابة سبعين عاما حتى حينذاك ونتج عنه تعاطف واضح مع الطرف الآخر فكنا إذا انتصر الألمان ونشمت فى الإنجليز الذين كنا نكتئب إذا كسبوا.

والثانى الملك الذى كان بينه وبين الإنجليز تنازع سلطة ونوع من لعبة القط والفأر. كذلك كانت هزائم الإنجليز لا تشجع على إعلان الحرب إلى جانبهم. كنا نرى جنود الجيش الثامن الإنجليزى فى القاهرة وغيرها من مدن مصر, أكثرهم من الهنود. ما شأن الهند بألمانيا وإيطاليا, ينتزع الشاب الهندى من أبيه وأمه وزوجته وهم أشد ما يكونون حاجة إليه لتروى دماؤه رمال الصحراء وغير الصحراء؟! شأنها أنها كانت مربوطة بعجلة بريطانيا العظمى, وفى مصر لم نكن نحب أن نرتبط بهذا الرباط الذى لا شأن لنا به ولا ناقة لنا فيه , فضلا عن بغضنا لهؤلاء الناس الذين يحتلون بلادنا وينعمون بخيراتها ويتدخلون فى شئونها.

قد لا يدرك شباب هذا الجيل, جيل الثمانينات وما يأتى بعدها معنى الإحتلال والتدخل, ولذلك فليس خروجا عن الموضوع أن نحكى طرفا من ذلك. قد يظن أحد أن الأمر اختلف بعد معاهدة 1936 عما كان قبلها... أبدا. سيان قبلها وبعدها. قليلا من الصبر لتقرأ هذه الأسطر.

فى عام 1934 طلب ملك الإنجليز أن يسافر ولى العهد فاروق إلى انجلترا ليتعلم هناك. وأبدى أبوه الملك فؤاد رغبته أن يتعلم اللغة التركية أولا. واقترح المندوب السامى مايلز لمبسون أن يدرس فاروق فى كلية ايتون بإنجلترا مع إحضار مدرس خصوصى ليعلمه اللغة التركية. ووافق الملك فؤاد على أن يؤجل ذلك إلى أن يبلغ فاروق السادسة عشرة من عمره {وكان لا يزال فى الرابعة عشرة}.

يقول مايلز لمبسون" وقد عارضت هذه الفكرة بشدة وطلبت أن يسافر الأمير فى أسرع وقت".(!)

ما شأن مايلز لمبسون وتعليم وتربية ولى العهد فى دولة مستقلة حتى ينتزع حق أبيه فى اختيار منهج تعليمه وتربيته؟ من الواضح أنه كان الرغبة فى أن ينصع الإنجليز ملك المستقبل على أعينهم.. نوع من غسيل المخ كما صنعوا ملوكا آخرين ظهروا فى المنطقة. المهم, وافق الملك فؤاد على ذلك يقول مايلزلميسون عن الملك فؤاد" كنا نستطيع أن نجعله يتصرف كما نريد فى النهاية وأى تصرف كنا نريده كان من الممكن أن يتم عن طريقه".

ويحكى ذلك المندوب السامى ما يلزلمبسون عن حفل استقبال أقامه فى السفارة البريطانية بالقاهرة ودعا إليه جميع رؤساء الأحزاب ويذكر ملاحظاته عنهم وأنه كم كان مسليا لرجال السفارة أن يراقبوا كيف يتصرف هؤلاء الناس! كأنما كانوا يتفرجون على قرود أو نسانيس.

" النحاس باشا كان منظره يبدو عجيبا وعندما سلم السفارة كان ذيل البالطو الأسود الذى ارتداه خصيصا لهذا الحفل يهتز يمينا ويسارا, وكان يتعمد أن ينفخ صدره وهو يقترب منى..الخ.

... وبدأ لى أن كلا من صدقى ومحمد محمود على درجة كبيرة من الذكاء وأنه من السهل أن يخضعا عند الضرورة لتعليمات السفارة.{ص18}..الخ حتى الأمير محمد على تحدث معه فى جنازة الملك فؤاد {توفى 28 أبريل 1936} عن أحقيته فى الوصاية على العرش فأعطاه الانطباع أن طلبه سوف يتحقق.{ص27}. مربية الملك فاروق حتى عاد ملكاً من انجلترا مسزتايلور, انجلزية . صيدلى الملك تيترنجتون, انجليزى.مدرسات الأميرات, انجليزيات.

وحتى بعد أن عاد فاروق من انجلترا اختار له السفير مدرسا انجليزيا اسمه فورد. وكان فاروق يزوغ من مدرسه هذا فأعطاه السفير الإنجليزى درسا عن عدم انتظامه مع مدرسه واعترف فاروق بذلك ووعد بالانتظام. كانت معاهدة" الشرف والاستقلال" فى 26 أغسطس 1936. ولكن السفير يذكر فى مذكراته أنه فى 24 ديسمبر 1936 ذكر لفاروق أن حكومة بريطانيا تؤيد أسرته المالكة ولكن هذا التأييد سيتأثر حتما بتصرفاته.{35} واعتذر الملك ووعد باصطحاب مدرسه فورد معه فى رحلته إلأى الصعيد وأنه سيكون ولدا أحسن كثيرا مما مضى.

وحين أخرج الملك وزارة النحاس باشا عام 1937 قال السفير الإنجليزى لعلى ماهر" إن لندن قلقة للغاية من إقدام الملك على طرد النحاس, وإن مثل هذه التصرفات قد تؤدى إلى دمار الملك وربما الأسرة المالكة أيضا... فرجاه ماهر ألا يكون قاسيا على فاروق عند مقابلته بعد ظهر ذلك اليوم" فإن فاروق ما زال غلاما".

ومع ذلك يقول لمبسون فى برقية بعث بها إلى لندن كما جاءت بصفحة 42 من مذكراته"... أبلغته {فاروق} بنفسى أن حكومة الجلالة قلقة من مسار الأحداث فى مصر وأنه قد يكون ماشيا فى الطريق الخاطىء, وأننا لا نستطيع أن نعفيه من الخطأ, كما أن تأييد بريطانيا له سوف يتأثر إذا استمر فى هذا الخطأ , وقد حذرته مرارا من النتائج الخطيرة التى قد تترتب على قراره بطرد النحاس باشا من الحكم رغم أنه يتمتع بأغلبية كبرى فى البرلمان, وقلت له إن هذا خطر على عرشه. وطلبت منه أن يتفق مع النحاس باشا وأن الأوامر الصادرة إلىّ من لندن أن أتحدث إليه { فاروق} بلهجة شديدة. ... وبعد ذلك تلوت عليه التعليمات التى بعثتموها إلىّ من لندن. وقال الملك إنه يفهم ما تريدونه تماما".

ذلك كان الاستقلاق الذى جاءت به معاهد الشرف والاستقلال... استقلال غنيا عن أى تعليق. ومع هذا التسلط من الإنجليز على مقدرات مصر و" رجالات" مصر – وقد تكون كلمة رجالات هنا فى محلها إذا حملناها على أنها جمع مؤنث سالم – قد يكون من المفيد أن ننقل ما ذكره مايلز لمبسون {لورد كيلرن} عن أسلوب حاييم وايزمان زعيم الحركة الصهيونية حين قابله فى 7 فبراير 1938, فقد ذكر له مهددا أن اليهود قد يصبحون مصدر متاعب لبريطانيا إذا لم يحصلوا على ما يريدونه فى فلسطين. الإنجليز يتسلطون على مصر واليهود يتسلطون على الإنجليز.

وفى أوائل فبراير 1940 حضر انتونى إيدن إلى مصر لتحية القوات الإسترالية والنيوزيلنديه والهندية التى جىء بها للقتال, وصحبه السفير مايلز لمبسون لزيارة ولى العهد الأمير محمد على توفيق فشكا لهما من فاروق وذكر لهما أن رئيس الوزراء علي ماهر هو السبب, وأنه لا يوثق به بالمرة, وأن شقيقه أحمد ماهر هو الذى قال له ذلك.{ ص51} وطلب إلى ايدن أن يعامل المصريين بحزم لأن معاملتهم بلطف تخرج الأمور من أيديهم(!) هذا محمد على بن الخديو توفيق ومن شابه أباه فما ظلم. كان مازال يتكلم بلغة أبيه حين قال لعرابى قبل ستين عاما" أنتم عبيد إحساناتنا".

وفى 17 يونية 1940 بعد توقيع معاهدة الشرف والاستقلال بأربع سنوات قابل السفير الإنجليزى مايلزلمبسون قابل الملك فاروق فى الإسكندرية وطلب إليه خروج علي ماهر من رئاسة الوزارة بشرط ألا يعود إلى القصر رئيسا للديوان, وحذر الملك أن يلعب بالنار, وأخبره أن الجنرال ويفل{ قائد الجيش الإنجليزى} ينتظره ليعرف منه قرار الملك {وفى ذلك تهديد باستخدام القوة}. كما طلب إليه أن يعود إلى القاهرة. ورفض السفير رجاء من أحمد حسنين باشا أن يمنح علي ماهر فرصة أخرى.

وفى أواخر يونيو 1940 وافق لمبسون على تعيين حسن صبري باشا رئيسا للوزارة باعتباره الرجل الذى ترضى عنه بريطانيا{ص53}

كانت فرنسا قد انهارت أمام ألمانيا وحدثت كارثة دنكرك واجتاح هتلر الدانمرك والنرويج. وفى أغسطس 1940 اشتدت الغارات الجوية على المدن المصرية ثم عبرت القوات الإيطالية حدود مصر فى 12 سبتمبر 1940 وفى 28 أكتوبر 1940 غزت إيطاليا اليونان. وتناقش لمبسون مع وزير المالية المصرية عن نقل الغطاء الذهب للبنكنوت المصرى إلى جنوب أفريقيا خوفا من تقدم الغزو الإيطالى. إلا أنه مع ديسمبر 1940 استطاع الإنجليز أن يردوا الإيطاليين وراء حدود مصر.


ماهر بعد النحاس

بقى مصطفى النحاس باشا فى الحكم من 4 فبراير 1942 حتى آقاله الملك فاروق إقالة مهينة فى سبتمبر 1944 ووجه إليه خطابا جاء فيع إنه عجز عن توفير الغذاء والكساء لشعبه وانه قرر إقالته لتشكيل وزارة تكفل للشعب غذاءه وكساءه.

كانت الوزارة قد استنفدت أغراضها فسمح الإنجليز للملك بإقالتها. وكان الوفد قد فقد تقدير الطبقة المثقفة وتعاطفها بإعتباره قبل علانية العمالة مع الإنجليز. ولم يجده فتيلا دفاعه عن نفسه بأنه قبل الوزارة إنقاذا للعرش. لقد عم الفساد الأحزاب كلها وحمل حزب الوفد كثيرا من ذلك واستطاعت الشيوعية أن تنفذ إلى بعض أجنحته لمقابلة النفوذ الشعبى المتزايد فى سرعة فائقة للإخوان المسلمين فى الريف والحضر, بين الفلاحين والعمال والطلاب والموظفين والعلماء وغيرهم على السواء.

حين يختلف الوفد مع الإخوان فما أسهل على أبواقه وصحافته أن تزعم أن جماعة الإخوان تسترضى الملك, والشيوعيون معهم بعضهم لبعض ظهير. أما حين يصطاف الملك فى كابرى ويخطب النحاس باشا زعيم الوفد فيقول" إن أبصارنا لترنوا إلى تلمك البقعة المباركة من أرض كابرى".. قلنا لعلها تهكم وسخرية, ولكن يعود جلالته من كابرى فيستقبله الباشا مقبلا يده... هذا كله لم يكن استرضاء للملك!!

نعى بعض الكتاب الشيوعيين فى كتب هزيلة حقا على الإخوان المسلمين أنهم حطموا اللجنة الوطنية وآثروا السير منفردين فى محاولة لتصويرهم إلى جانب الملك حينا أو إلى جانب الإنجليز حينا آخر . وليس أعرق فى الكذب المتعمد والبهتان من هذه المزاعم, ويكفى لدحضها ما تعرض له الإخوان من محن لم يتعرض لمثلها أحد على أيدى حكومات الملك والإنجليز. وبالرغم من أنه ليس لهذه الكتب وزن فى علم التاريخ إلا أن المتأخرين حين يدرسون حركة الإخوان فإنهم يجمعون من كل حدب وصوب ما كتب عنهم, ولا اعتراض على ذلك, إنما الاعتراض أن يحدث دون تمييز بين الغث والسمين. فليس كل من كتب صادق فيما كتب.

لاسيما إذا كان شيوعياً اجتمعت لدية الخصومة والعداوة مع الانحلال واللا أخلاق. إن إصدار كتاب لا يحتاج إلى أكثر من كاتب يكتب وجهة تمول وتوزع , وليس فى ذلك ما يؤهله لأن يصير مرجعا ومصدر للمعلومات. وحين نطالع كتاب "الإخوان المسلمين" وهو الدراسة التى حصل بها ريتشارد ب ميتشل على درجة الدكتوراه من جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية نجده زاخرا بالأخذ عن تلك الهلاهيل المفتراه بما يبعدها فى كثير من أجزائها عن مستوى الدراسة التى تستحق درجة الدكتوراه.

يتعين لاعتماد أى مصدر أن يكون كاتبه معروفا موثوقا به فى مدقه وأمانته أو على الأقل معروف الهوية والاتجاه. فإذا أخذ ميتشل عن مصدر اسمه " الإخوان فى الميزان" للمدعو محمد حسن أحمد – أن طلاب الإخوان قد انسحبوا فى شهر أكتوبر 1945 من اللجنة الوطنية فحصلت هذه اللجنة على تفويض من الطلاب وغيرت اسمها إلى اللجنة التنفيذية بما يعنى أن الحركة الطلابية واصلت مسيرتها دون الإخوان, فإنما هو مجرد إدعاء. لا كانت هناك لجنة وطنية ولا لجنة تنفيذية! وأى معاصر يعلم علم اليقين أن كل ذلك كان أسماء بلا مسميات.

لقد تزعم اليهودى الايطالى المليونير هنرى كورييل الحزب الشيوعى المصرى.فإذا تصدى هؤلاء ليتزعموا المسار الوطنى فسحقهم الإخوان صار الإخوان خونة؟! بكل وضوح..

لقد تزعم الإخوان المسلمون جهاد الطلاب دون منازع فى تلك الفترة. وكان الشيوعيون يعارضون الإخوان على طول الخط, وقد تابعوا موسكو فى الاعتراف بإسرائيل عام 1948, وأعلنوا أنه لا شأن لنا بفلسطين وأن قضيتنا هى مصر. وكذلك فعل الوفد حين أعلن الإخوان لمنع الاحتفال بدعوى أننا فى مصر ولسنا فى سوريا ووقع اشتباك بين الطرفين أوضح لمن كانت الأغلبية. كان الإخوان المسلمين, مسلمين فى مشاعرهم, مسلمين فى عواطفهم, مسلمين فى اتجاهاتهم, مسلمين فى سياستهم. وحين رفضوا أن يضعوا يدهم النظيفة فى أيد ملوثة بالشيوعية ؤ فهذا أمر طبيعى. كانوا مسلمين يرفضون ماليس إسلاميا فرفضوا الذيلولة لموسكو. وفى ذلك يتمثل الأستاذ حسن البنا بقول الشاعر:

ونحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالميين أو القبر


انتخابات مزورة

اقال الملك وزارة النحاس وحل مجلس النواب الوفدى وأجريت انتخابات جديدة قاطعها الوفد. وفى هذه الإنتخابات رشح الإخوان:

كما رشح الأستاذ أحمد حسن الباقوري نفسه عن دائرة الخليفة. لم يكن من مرشحى الإخوان وقد أعطاه الإخوان أصواتهم.

لم يكن أحمد ماهر رئيس الوزراء بعد النحاس فى صراحة النحاس. فقد ترك المرشحين يدخلون الإنتخابات ثم زورها بحيث لا ينجح منهم أحد وكان التزوير أظهر ما كان فى دائرة الإسماعيلية. كان المرشح المضاد مقاول ممن يتعاونون مع الجيش الإنجليزى تنقل عمال الجيش إلى لجان الإنتخابات ببطاقات انتخابية مصنوعة... ثم أعلن فوز سليمان عبد وفرح أحمد ماهر.

وقد أراد الأستاذ البنا يضرب المثل فى سماحة الإسلام وأن الإخوان لا يفهمون دينهم على أنه تعصب فكان وكيله فى لجنة الطور يونانى متمصر مسيحى يدعى الخواجة باولو خريستو, وكانت تلك اللفتة الذكية محل تعليق وسخرية من أحمد ماهر والنقراشى فى لقائهما مع سعيد رمضان ولم يكن قد بلغ العشرين ولكنه استطاع أن يفحمهما. شهر نوفمبر 1944 أجريت مراسم افتتاح ذلك البرلمان وخرج الملك فاروق الأولى {والأخير} فى عربة ملكية حمراء اللون زاهية مذهبة تجرها الجياد وسط فرسان الحرس الملكى , وكان يجلس عن يسارة ذلك المزور الذى صار رئيسا للوزارة أحمد ماهر باشا, خرجا من سراى عابدين ليلقى ماهر خطاب العرش على أعضاء البرلمان عن لسان الملك. وفى ميدان الأزهار بباب اللوق اتخذنا مواقفنا نهتف بحياة "جلالة الملك", فما أن أهل بطلعته- وكان يبتسم لشعبه وإلى جواره رئيس وزارته يبتسم أيضا حتى رفعنا لافتات كنا نخفضها بسقوط الإنتخابات المزورة وارتفعت هتافاتنا عدائية لسقوط تلك الإنتخابات وسقوط ماهر مزور الإنتخابات. وعلى أمتار قليلة منى رأيت ابتسامة الملك تزول لتكسو وجهه سحابة واضحة من الكآبة فى حين استمر المزور الجالس إلى يساره يبتسم.

كنت أردد الهتاف وأنا أقف خلف مأمور قسم شرطة عابدين. واستدار الرجل بكل غيظ وأمسك بتلابيبى وآخرين إلى جوارى, واستعان فى ذلك بجنوده, ثم استوقف سيارة أجرة وفتح بابها ودفعنى داخلها ودفع ورائى الآخرين فأسرعت بفتح الباب الآخر وذهبت منه فى الزحام, أما الآخرون فقد احتجزوا يوما بقسم عابدين قبل أن يفرج عنهم بجهود بعض المحامين. أذكر منهم محمود الشربيني. ولعلها مناسبة لمناقشة من يزعمون أن الإخوان سلكوا أساليب غير قانونية , وكان أحرى بهم أن يكونوا ديمقراطيين وأن يصلوا إلى أهدافهم عن طريق التقدم إلى المجالس النيابية دون اللجوء إلى ما يصفونه " بالعنف" نقول أنه حدث مرة أيام النحاس باشا وحكم الوفد ومرة أخرى أيام أحمد ماهر فزورها كما سبق بيانه. نعم هذه هو الأسلوب الديمقراطى ولكن الحاكم والملك والأحزاب والإحتلال هى التى لم تكن ديمقراطية وهى التى كانت تسلك السبيل غير القانونى وغير الشرعى وكانت لا تستحي أن تزور. فإذا أجرت الإنتخابات وزارة وفدية جاء البرلمان وفديا. وإذا أجرتها وزارة سعدية جاء البرلمان سعديا فإذا ذهب الإخوان مذاهب أخرى فقد كان لهم كل العذر بل كل الحق فيما ذهبوا إليه.

وفى ميزان الخاص أن الحكومة التى نزور الإنتخابات تفقد شرعيتها إن كانت لها شرعية من بادىء الأمر. وحيل بين الإخوان المسلمين وبين النيابية فى الإنتخابات المتعاقبة بدءا من انتخابات 1942 فما بعدها بشتى الوسائل, بالمنع عسفا من الترشيح أو التزوير, أو بحل الجماعة, أو بالعزل السياسى, أو بحياكة قوانين سيئة السمعة تستهدف عدم دخولهم هذه المجالس و كأن يقتصر الترشيح للمجلس على الأحزاب فى حين يمتنع قيام الأحزاب على أسس طائفية ويعد الإسلام من الطائفية!.. الخ, فلم يتسن للإخوان أن يكون لهم أى تمثيل نيابى فى مصر قبل انتخابات 1984, ودخل أفراد معدودون على قائمة حزب الوفد, ثم فى انتخابات 1978 على قائمة حزب العمل. حدث ذلك بعد أن دخل مجلس الشعب بسنوات طويلة العمال والفلاحون والنساء والفئات... وصفات مبتكرة.



الإخوان المسلمون والإخوة الأقبـاط

فى الدعايات الحزبية لانتخابات مجلس الشعب فى مصر عام (1987) ردد حزب الحكومة الحزب الوطني الديمقراطى أن دعوة الإخوان إلى الأخذ بشريعة الإسلام, هى دعوة إلى الفتنة الطائفية بين عنصرى الأمة: المسلمين والأقباط, واشتعلت النار فى مسجد بصعيد مصر, ثم أحرقت كنيسة وراحت الإذاعة والتليفزيون نركز على الوقوف فى وجه الفتنة الطائفية, ومن وراء الإذاعة صارت الصحافة لا سيما القومية منها – الأهرام والأخبار والجمهورية – تركز على هذا المعنى, وتزيد بأن تنسب أمورا إلى الجماعات الدينية المتطرفة, وتجاوز بعضها أكثر فنسب تلك الجماعات إلى الإخوان, وأنها جميعا تخرج من معين واحد, وتمادى بعضهم أكثر وأكثر فاجترأ على التاريخ الإسلامى بجلاله, ورغم أنه لم تكن عدالة وإنصاف لأهل الذمة إلا فى عهد عمر بن الخطاب, وأنها كانت فلتة غير قابلة للتكرار.

ولم يكن شىء أبعد عن الصدق من هذا, ورغم أن دعاة الإخوان ومسئوليتهم ظلوا يرددون فى خطاباتهم وفى كتاباتهم نفى ذلك عن الإخوان وعن الإسلام, فقد ظلت تلك الدعايات الحزبية تلعب بالنار, وآثرت الاستمرار فى منهجها تحسبا أن ذلك أضفنا فى الطبعة الثانية من "النقط فوق الحروف" هذا الفصل عن فكر "الإخوان المسلمين" نحو الإخوة الأقباط.

فى رسالة"نحو النور" للأستاذ حسن البنا, جاء تحت عنوان "الإسلام يحمى الأقليات ويصون حقوق الأجانب" ما يأتى:" يظن الناس التمسك بالإسلام وجعله أساسا لنظام الحياة ينافى وجود أقليات غير مسلمة فى الأمة المسلمة, وينافى الوحدة بين عنصرى الأمة, وهى دعامة قوية من دعائم النهوض فى هذا العصر.ولكن الحق غير ذلك تماما, فإن الإسلام الذى وضعه الحكيم الخبير الذى يعلم ماضى الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل, فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذى لا يحتمل لبسا ولا غموضا فى حماية الأقليات, وهل يريد الناس أصرح من هذا النص؟ {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} .فهذا النص لم يشتمل علة الحماية فقط, بل أوصى بالبر والإحسان إليهم, وإن الإسلام الذى قدس الوحدة الإنسانية العامة فى قوله تعالى:{ يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}, ثم قدس الوحدة الدينية العامة كذلك, فقضى على التعصب وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعا فى قوله تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما آوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمين. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم فى شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم. صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة} .ثم قدس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة فى غير صلف ولا عدوان, فقال تبارك وتعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}

هذا الإسلام الذى بنى على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ, لا يمكن أن يكون أتباعه سببا فى تمزيق وحدة متصلة, بل بالعكس, إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية, بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدنى فقط. وقد حدد الإسلام تحديدا دقيقا من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم, فقال تعالى بعد الآية السابقة:

{لا ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}

وليس فى الدنيا منصف واحد يكره أمة من الأمم على أن ترضى بهذا الصنف دخيلا فيها وفسادا كبيرا بين أبنائها, ونقصا لنظام شئونها.ذلك موقف الإسلام من الأقليات غير المسلمة, واضح لا غموض فيه ولا ظلم معه, وموقفه من الأجانب موقف سلم ورفق ما استقاموا وأخلصوا, فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم فقد حدد القرآن موقفنا منهم بقوله: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لايألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إ، كنتم تعقلون, ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم}. وبذلك يكون الإسلام قد عالج هذه النواحى جميعا أدق علاج وأنجحه وأصفاه.أ. هـ. هذا ما ذكره مرشد الإخوان فى رسالة من رسائله التى كان الإخوان يتدارسونها ويحفظونها ويعملون بها, وتلك تعاليمه التى كان يلقنها لنا فى محاضراته العامة, وفى لقاءاته الخاصة على السواء, وكان له بين رءوس الأقباط ومطاردتهم وقساوستهم صداقات ومودات, كان كثيرا الأسفار فى تجواله على شهب الإخوان, فكان يزور أصدقاءه الأقباط فى كل مكان ويودهم, وكانوا يستقبلونه ويودونه ويخطبون على منابر الإخوان. وفى جهاد الإخوان وحركتهم حدثت احتكاكات إليهم العمليات ضد الإنجليز أو اليهود أو عملائهم أو غيرهم بالحق أو بالباطل... ليس فيها حدث واحد كان ضد الأقباط منذ بدأتن حركة الإخوان عام (1928), حتى كتابة هذا عام (1988).

ولقد نسبت إلى الإخوة الأقباط أمور عام (1981) نسبها إليهم الرئيس أنور وأجهزة حكمه, ويعرف الجميع مكان الإخوان من ذلك! كان مكانهم فى المعتقلات مع الأقباط وبأعداد كثيرة. رئيس الحزب الوطني الديمقراطى أنور السادات هو الذى أوقف سلطات البابا شنودة بطرك الأقباط, وحدد إقامته فى دير بوادى هبيب {وادى النطرون} عام (1981).لم يكن مرشد الإخوان ولا نظامهم الخاص بل كان رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الوطني الديمقراطى, هو الذى اعتقل طائفة من القبط ومن الإخوان وكان بينهم مرشدهم "عمر التلمسانى" رحمه الله, فما كان بينهم وراء الأسوار – وخارجها – إلا كل تفهم ومودة ثم تزاور بعد الإفراج عنهم. وقبل ذلك فى أواخر الأربعينيات شكل الأستاذ حسن البنا لجنة سياسية لجماعة "الإخوان المسلمون" ضمت أربعة من السياسيين الأقباط, أتذكر منهم "لويس فانوس ووهيب دوس". فى جريدة الأهرام 16/4/ 1987 كتب المستشار ميلاد تادرس يقول:" إخوان... فى السراء والضراء.

"أود أن أسرد واقعة عايشتها بنفسى وكنت أحد شهودها, وتتعلق بالشهيد "حسن البنا" زعيم ومؤسس "الإخوان المسلمون" ففى الأربعينيات أرادت الجمعية الخيرية القبطية بدمنهور إقامة كنيسة للأرثوذكس, وكنت وقتها محاميا بدمنهور وعضوا بالجمعية, واشترينا قطعة أرض تجاور مسجد "جمعية المحافظة على القرآن الكريم", ولم تعترض جمعية المحافظة على القرآن الكريم على إقامة الكنيسة بالقرب من المسجد, ولكن المعارضة كانت بشدة وبقوة من فرع "الإخوان المسلمون" بدمنهور, وهكذا تعثر بناء الكنيسة حتى فكر رئيس الجمعية الخيرية القبطية وهو المرحوم الدكتور فهمى مسعد فى مقابلة الشهيد حسن البنا, وفعلا وشرحنا له الموقف. فاتصل المرحوم "حسن البنا" تليفونيا أمامنا بالسيد رئيس الفرع بدمنهور, وقال: إنه لا يود أن يسمع أن الإخوان يقفون ضد بناء الكنيسة بل عليهم أن يساعدوا فى البناء."وعدنا إلى دمنهور بعد أن طيب الشهيد "حسن البنا" خاطرنا وطمأننا وأقيمت الكنيسة ومازالت الواقعة فى أذهاننا, وإن دلت هذه الواقعة على شىء فإنها تدل على خلق الشهيد حسن البنا وتفهمه سماحة الإسلام وصدق رسالته من إخاء ومحبة بين البشر, وأن رسالة الإخوان المسلمين لا تقوم على التفرقة بين أديان الله, بل تربطهم جميعا عبادة الواحد, بل تدل هذه الواقعة على مدى وطنية الشهيد "حسن البنا" واعتباره أن جميع المصريين – مسلمين وأقباطا – هم أمة واحدة, تربطهم مع بعض مصالح الوطن وتقاليده وعاداته, انتصاراته وأفراحه وكذا أحزانه ,وأننا إخوان فى السراء والضراء عشنا معا قرونا طويلة لا يعكر صفوها إلا بعض أرض نعيش فيها معا نرويها بسواعدنا وبدمائنا".أ.هـ وفى أحد اجتماعات الكتائب مع الأستاذ البنا عام (1946) - وهى اجتماعات خاصة – ذكر الدكتور حسان حتحوت أنه سيجعل من رسالته فى الحياة بيان المودة بين المسلمين والأقباط, وما يحمله الدينان من هذه المعانى, فى ذلك الاجتماع سمعت من حسان حتحوت تعاليم الإنجيل: أحبوا مبغضكم, باركوا لاعنيكم, وصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم ... من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر, ومن سخرك ميلا فسر معه ميلين ومن نازعك الرداء فأعطه الإزار أيضا. تعليمات تغرس السماحة فى نفوس المؤمنين بها. وقد بارك الأستاذ البنا ما قال الدكتور حسان. وأتذكر مقالا نشره الدكتور حسان فى مجلة الدعوة بعنوان "أخى جرجس".

سوف أذهب إلى أبعد من هذا, وليحملنى القارئ مسلما كان أو قبطيا ولندخل إلى أعمق الموضوع لنضع النقط على الحروف. لقد أثبت الإسلام النبوة والرسالة للمسيح عله السلام, والطهارة لأمة وفضلها على نساء العالمين, بمن فى ذلك أم النبى صلى الله عليه وسلم وزوجاته أمهات المؤمنين وبناته, ولكنه لم يقبل أ، يكون المسيح هو الله أو ابن الله, ومن هذا المنطلق صار المسلمون مؤمنين بنبوة المسيح كافرين بإلوهيته, وليس هذا هو الإيمان من وجهة النظر القبطية.كما أن القبط رغم تقدير كثير من باحثيهم وكتابهم لشريعة الإسلام وحضارته ونبيه صلى الله عليه وسلم, لا يؤمنون بنبوة محمد ورسالته, فهم لم يؤمنوا من وجهة النظر الإسلامية.

هذا هو واقع الحال وتقدير موقف صادق لا مجاملة فيه, فما حكم الشريعة الإسلامية فى ذلك؟حكم واضح واضح واضح, وآيات القرآن الكريم صريحة لا لبس فيها {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} {أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} {لا إكراه فى الدين} {لكم دينكم ولى دين}

والنتيجة قالها عمر بن الخطاب "لكم مالنا وعليكم ما علينا".

فإذا ضربنا فى جذور الماضى وجدنا هاجر امرأة خليل الله أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام مصرية, وهى أم اسماعيل عليه السلام أصل الفرع الذى منه محمد صلى الله عليه وسلم, ووجدنا مارية زوج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصرية قبطية من أنصنا من أعمال أسيوط,وحتى بعد أن أسلمت وتزوجها النبى صلى الله عليه وسلم وولدت له ابنه إبراهيم وإلى أن ماتت رضى الله عنها ظلت تعرف بأنها مارية القبطية. وكان للمسلمين الأوائل الذين فتحوا مصر موقفا سجله تاريخ الفتح حين كان الحكام الروم يحرقون قبط مصر بالنار ويقطعون أوصالهم ويغرقونهم فى البحر ويقتلونهم ويعذبونهم بكل وسيلة لتحويلهم عن مذهبهم إلى مذهب بيزيطة, حتى فتن كثير منهم ومن قساوستهم وأساقفتهم... وجاء عمرو بن العاص فرفع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم وخلصهم مما كانوا فيه من البلاء, فلولا عمرو ابن العاص لقد كاد دين القبط أن يزول. كان الخلاف المذهبى بين الكنيسة البيزيطية أن قبط مصر هم الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم, فى حين ذهب الروم إلى أن للمسيح أقنوما إلهيا وأقنوما بشريا واتحد فيه اللاهوت بالناسوت... إلى آخر مالا شأن لنا به هنا, ولكن يتبين منه أن مذهب قبط مصر كان ابعد عن عقيدة المسلمين من مذهب بيزيطة, ومع ذلك فقد نصر عمرو بن العاص والمسلمون الفاتحون قبط مصر فى مواجهة الروم ولم يضعوا أى قيد من أى نوع على عقائد القبط وأعلن عمرو الأمان للأب بنيامين الذى كان البطرك الثامن والثلاثين للقبط وكان هاربا من حكم الإعدام يطلبه الروم لإنفاذه. ولم يكن عمرو – والمسلمون معه – حرية الاعتقاد التى كفلها الإسلام لجميع الناس, ولم يكن عمرو – والمسلمون معه – ممتنا على القبط ولا متسامحا معهم من عنده وإنما كان مسلما يحكم بما أنزل الله وما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإن ذلك الأمان الذى أعلنه عمرو ونشره فى ربوع مصر للبطرك بنيامين لهو مفخرة للمسلمين فى جميع العصور يلزمهم التمسك به مدى الدهر:" أينما كان بطرك القبط بنيامين نعده الحماية والأمان وعهد الله, فليأت البطرك إلى ههنا فى أمان واطمئنان ليلى أمر ديانته ويرعى أهل ملته".

وعاد البطرك بنيامين فأمر عمرو أن يقابل بما يليق به من الترحاب والتكريم واستقبله عمرو ثم قال لأصحابه" لم أر يوما فى بلد من البلاد التى فتحها الله علينا رجلا مثل هذا بين رجال الدين". وجعله عمرو أميرا على قومه لا يدافع فيهم أمره وجعل له ولاية أمر دينهم. ثم ذهب بنيامين من الإسكندرية إلى أديرة وكنائس وادى النطرون وخطب يبارك كنيسة هناك فقال:

" كنت فى بلدى الإسكندرية فوجدت بها أمنا من الخوف واطمئنانا بعد البلاء, وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة وبأسهم" . ووصف قومه بأنهم فرحوا بعودته كما تفرح الأسخال {العجول} إذا ما حلت لها قيودها وأطلقت لترتشف من لبان أمهاتها. وكتب حنا النقيوسى بعد الفتح بخمسين عاما وهو الذى لم يتورع أن يصف الإسلام والمسلمين بأشنع الصفات كتب يقول عن عمرو "ولكنه لم يضع يده على شىء من ملك الكنائس ولم يرتكب شيئا من النهب أو الغصب, بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته". بقى أمران, أحدهما من جانب المسلمين – وليس كلهم – والآخر من جانب بعض الأقباط – وليس كلهم. الأول يتعلق بالجزية باعتبارها شرطا من شروط عقد الذمة, فيذهبون إلى أنه مادام الأقباط لا يؤدون الجزية فقد انتقص عهد الذمة. وأحسب هؤلاء لم يأخذوا فى اعتبارهم شروط عقد الذمة كلها ثم المتغيرات كلها. كانت الجزية ضريبة دفاع تؤخذ من غير المسلمين مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية, وكانت الحروب حينذاك دينية وكانت حروب المسلمين جهادا فى سبيل الله لفتح باب الدعوة إلى الإسلام وبيانه للناس, فلم يكن المناسب أن يلزم غير المسلم ببذل روحه ودمه من أجل مالا يعتقد, من أجل ذلك أعفى غير المسلمين من الجهاد, وفرضت عليهم الجزية التى كانت أشبه بالبدلية التى عرفناها فى مصر إلى منتصف القرن العشرين . أما اليوم الأقباط والمسلمين ينخرطون معا فى الخدمة العسكرية, فضلا عن أ،ها برمتها قد برئت من العقيدة وصارت أغراضها السياسية بحتة لا شأن لها بالدين فنجد أ، مصر فى الخمسينات والستينات قد ساعدت القبارصة اليونانيين بالسلاح ضد القبارصة المسلمين الأتراك لانتزاع قبرص منهم,كما زجت بجيشها فى حرب لا شأن لنا بها فى الكونغو, ولم تعد إعلاء كلمة الله هى هدفها. صرنا إلى أوضاع يرحب فيها كثير من المسلمين أن يؤدوا البدلية مقابل إعفائهم من مثل هذه الحروب, ومع ذلك ففى عهد الفتوح الأولى زمن عمر بن الخطاب أعفى غير المسلمين من الجزية إذا شاركوا فى الفتح أو الدفاع عن الأرض بعد فتحها.

الأمـــر الثانى: يتعلق بمخاوف لدى بعض الأقباط يستقونها من بعض كتب التاريخ, تحكى سوابق اضطهاد من الحكام المسلمين . وأول ذلك ما نسبه مؤرخ قبطى – بكل أسف – عمرو بن العاص وهو حنا النقيوسى, أن المسلمين استولوا على أغنام المصريين فى طريقهم إلى الفيوم, ثم أجبروا أهل الفيوم, على فتح أبوابها ووضعوا السيف فى جميع من استسلم, بمن فيهم الشيوخ والنساء والأطفال, وأن عمرو بن العاص قارف من العنف ما يفوق الحصر وأحرق المحاصيل عند دمياط...الخ

وحنا فة هذا يخالف روايات المؤرخين المسلمين. ويخالف ما جاء بكتاب ساويرس بن المقفع الأشمونيين من حسن معاملة المسلمين وأمانتهم مع قبط مصر وبطركهم. ويخالف تعاليم الإسلام التى كان المسلمون الأوائل يتمسكون بها. ويخالف سياسة المسلمين فى الأقطار المفتوحة, ولم يفعلوا ذلك فى العراق والجزيرة وإمبراطورية الفرس والشام.

ويخالف أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم التى تتنبأ مصر وتوصى المسلمين بقبطها وقد ذكر ابن عبد الحكم عشرة أحاديث فى هذا كما أورد الإمام مسلم بعضها صحيحه.

وأخيرا قد نكون مضطرين إلى أن نذكر أن ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونيين ذكر عن حنا زور انتخاب البطرك, ليفوز بهاج رجة بدلا من إسحق الذى استحقها بعد وفاة البطرك يوحنا, وأن عبد العزيز بن مروان وإلى مصر قد اكتشف ذلك فأعاد الأمور إلى نصابها, وفى هذا يلقى ساويرس الضوء على أمانة العرض التاريخى لدى حنا أسقف نقيوس, كما ذكر ساويرس أن القبط عزلوا حنا النقيوسى من منصبه’ لإدانته فى تعذيب راهب حتى الموت, وآخرين أخرجوا عذراء من ديرها واغتصبوها فى وادى هبيب . والذى أحب أن يعرفه الإخوة الأقباط أن النقيوسى قد كتب تاريخه فى ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر, وفى عهده وقعت فتنة قمعها عبد العزيز بشدة وتذهب إلى أنها هى التى آثرت فى شعور حنا نحو المسلمين, فقاس عمرو بن العاص على عبد العزيز بن مروان, وخالف جميع ما ذكرنا.فإذا عبرنا مراحل التاريخ المختلفة بعد ذلك لانكاد نجد حاكما أوقع بالقبط إلا وأوقع بالمسلمين أيضا, وأقرب ذلك ما كان من الرئيس أنور السادات عام(1981). إذا كان ذلك هو فكر الإخوان وفهمهم وسياستهم المستم من القرآن الكريم والسنة, والثابت فى رسائلهم وتاريخهم وممارستهم, وإذا كانوا يعلنون جهارا نهارا أن ليس بينهم وبين المواطنين الأقباط إلا كل مودة وبر وقسط, فلماذا التقول عليهم بغير الحق؟, ولذا رميهم بل ورمى الشريعة كلها بأنها تحدث الفتنة؟! إن المطالبة بتطبيق الشريعة لا يتجزأ عن إيمان المسلم بإسلامه, وهى فريضة على المسلم, ولا أتصور أن يعترض الأقباط على أن يتمسك المسلمون بإسلامهم,كما لا يصدر عن المسلمين أى ضغط على الأقباط ليخالفوا دينهم والقرآن الكريم هو الذى يقول {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}

أمشى خلال مدينة القاهرة أو غيرها من مدن مصر فتصادفنى الكنائس بقبابها وأبراجها, وقد ارتفعت الصلبان فأشعر بالزهو, لأن هذا هو الإسلام... هذه هى حرية العقيدة والأديان, أن يعيش الأقباط فى أمان مع المسلمين, تمتزج بيوتهم فيتعارفون ويتزاورون ويتوادون ويتراحمون فيما بينهم {أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن اله يحب المقسطين}. أرجو بهذا أن أكون قد وضعت النقط فوق الحروف.


الفصل الرابع: صحافـة الإخوان

وقبل أن نمضى مع الأحداث نقف وقفة قصيرة نعرض فيها موجزا عن صحافة الإخوان فقد كان للإخوان المسلمين صحافتهم على مراحل دعوتهم المتدرجة. تلك الصحافة لاقت من النجاح ومن نقيضه ما هو جدير بالتسجيل, ولقد كان أول ما ظهر للإخوان فى هذا الشأن مجلة كانت تحمل اسمهم, وكان صاحب امتيازها العالم الجليل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا والد الأستاذ المرشد. وكانت ذات طابع ثقافى بحت تتناول شرح الأحاديث النبوية الشريفة وتفسير القرآن الكريم وبعض أبواب الفقة والخطب المنبرية وما شاكل ذلك. ولربما كان ذلك مناسباً لنشاة الجماعة وما كانت عليه حين صدور هذه المجلة.


النذيــر

بعد ذلك أصدر الإخوان مجلة النذير فى عام 1938. كان صاحب امتيازها محمود أبو زيد المحامى, وقد صدر حينذاك قانون يحتم أن يكون رئيس تحرير أى صحيفة من حملة المؤهلات العليا, فكلف المرشد العام الأستاذ صالح عشماوي أن يتولى رئاسة تحريرها باعتباره حاصلا على بكالوريوس التجارة العليا... ورحب الأستاذ صالح بذلك باعتباره عملا للدين والدنيا. كانت النذير جريدة أسبوعية. ولعلها كانت أول مجلة إسلامية سياسية تنقد الأوضاع فى حماس وجرأة. كان محمد محمود باشا رئيس وزراء مصر حينذاك وقد اشتعلت الثورة العربية فى فلسطين فى مقاومة الحركة الصهيونية التى ظهر نشاطها هناك, وكان اتجاه الإخوان مساندة عرب فلسطين فى حين كان الاتجاه العام للدولة فى مصر غافلا غير مهتم. وإذا بذلك الرجل محمد محمود باشا يقول إنه رئيس وزراء مصر وليس رئيس وزراء فلسطين. فكتب صالح عشماوي ينال من الرجل بما هو أهل له. وعاد يكتب مطالبا بتعديل الدستور بأسلوب فيه عنف حققت معه فيه النيابة. فكانت النذير طرازا جديدا من المجلات الإسلامية وكان لها فضل كبير فى تنوير الأذهان وشرح الإسلام كدين ودولة.كانت النذير توزع داخليا عن طريق شعب الإخوان, وكان توزيعها ناجحا يصل إلى خمسة آلاف نسخة فى العدد, وكانت منتشرة إلى درجة أن أعداء الدعوة كانوا يرسلون خطابات السباب ردا على ما تنشر. واستمرت النذير تنطق باسم الإخوان حتى عام 1940. فى ذلك العام حدثت فتنة شباب محمد, فانشق عن الإخوان الأستاذمحمد علي المغلاوي, والدكتور علي النشار, والأستاذ محمود أبو زيد المحامى صاحب امتياز النذير, وانضم إليهم آخرون من خارج الجماعة, وكان اتجاه شباب محمد حماسيا اندفاعيا بصورة لم يقبلها الإخوان. حينئذ صار الإخوان بلا جريدة فاستأجروا مجلة اسمها التعارف.


مجــلة الإخــوان المسلمين

1g.gif

فى فبراير 1942 أرغم الإنجليز الملك فاروق على إسناد الوزارة إلى مصطفى النحاس باشا, فبدأ بإجراء انتخابات فى البلاد تقدم إليها الأستاذ حسن البنا فى دائرة مدينة الإسماعيلية. ولكن النحاس استدعاه وصارحه بأن الإنجليز قد طلبوا إليه عدم دخول حسن البنا البرلمان, وكان حديثا بين الرجلين خرج به الأستاذ البنا بتنازله عن ترشيح نفسه مقابل تيسيرات قدمها الباشا... السماح للإخوان بمزاولة نشاطهم داخل شعبهم والتصريح لهم بمجلة "الإخوان المسلمون".

استمرت هذه المجلة تصدر حتى صودرت فى عام 1948 بحل جماعة الإخوان. وكان رئيس المجلة صالح عشماوى, وكانت ثقافية سياسية توزع داخل شعب الإخوان شأن مجلة النذير.


الجــريدة اليـوميـــة

كانت الجرائد اليومية السائرة تقاطع كلمة"إخوان" فلا تذكرها أبدا.وكان لكل حزب سياسى جريدته التى تنطق باسمه,أما جماعة كبرى مثل الإخوان فلم يكن لها.ومع الإحساس بالحاجة إلى ذلك فقد أنشأ الإخوان شركتين مساهمتين هما شركة الإخوان للطباعة وشركة الإخوان للصحافة وكان رأسمالهما معا 70ألف جنيه مصرى. وتم شراء مطبعة كانت من قبل مطبعة جريدة الجهاد جريدة الجهاد, ولم تكن مناسبة بحال, فقد كانت بطيئة لاتفى بالحاجة وكانت تطبع ثلاثة آلاف نسخة فى الساعة, وكان المطلوب طبع عشرين ألفا فى اليوم, ومعنى هذا أن تعمل المطبعة سبع ساعات لإتمام العدد, وبذلك يفوتها قطار الصعيد وقطار الصحافة والنزول إلى الشارع مع سائر الصحف, وقد كان الحاج محمد حلمي المنياوي هو وسيط شرائها ولقد بدأت الجريدة ورئيس تحريرها الأستاذ أحمد السكري فلما انشق عن الجماعة تولى رئاسة تحريرها الأستاذ صالح عشماوي.

ووقعت الجريدة فى عديد من الأخطاء سببت لها المتاعب, فبالإضافة إلى عدم مناسبة المطبعة, حدث أن استعانت ببعض الصحفيين من خارج الإخوان لم يكونوا خبراء صحافة على المستوى المناسب. وكانت تمنح رواتب كبيرة بالنسبة لما كان يجرى حينذاك وبالنسبة لإمكاناتها. وقد استنفدت تلك الأخطاء جانبا من رأسمالها.من المعلوم أن أى جريدة لا تغطى نفقاتها من عائد التوزيع, ولكن لابد لها من مواد أخرى, ومن أهم تلك الموارد المصاريف السرية التى تمنحها الحكومات لصحافتها, وهذا لم يكن للإخوان منها أى نصيب, ومن أهمها أيضا عائد الإعلانات, وهذه لم يكن للإخوان منها أى نصيب, ومن أهمها أيضا عائد الإعلانات,وهذه كان لها مع صحافة الإخوان عامة وجريدتهم اليومية شأن. فلم يكن لجريدة الإخوان أن تنشر أى إعلان بل كان عليها أن تتحرى وأن تدقق فلم يكن لمثلها أن تنشر إعلانا لا يجوز أو يكون فيه شبهة, من ذلك إعلانات السينما والملاهى والخمور والسجاير والدخان وملابس السيدات لاسيما إذا صاحبها رسم أو مصور. وكانت الجريدة تتعرض للنقد الشديد بمناسبة وبغير مناسبة فى هذا الشأن. إعلان عن شفرات الحلاقة قالوا إن اللحية من السنة وإن حلقها بدعة ولا يجوز الإعلان عن مثل هذا... الخ كثير كثير, مثل هذا أقام حجرا على الإخوان فيما يقبلون ومالا يقبلون, وكثيرا ما تركوا مالي سبه بأس مخافة الوقوع فيما به بأس ولقطع ألسنة الحاقدين والأصدقاء المتزمتين على السواء. وبذلك فقدوا أهم الموارد لتمويل الجريدة.

كذلك كانت شركات التوزيع التى عليها ترويج بيع الجريدة حربا على الجريدة! ولا شك أن ذلك كان بدافع وإيعاز بل وإغراء أعداء الدعوة وأعداء الجريدة: ربما كان من هؤلاء الجرائد الأخرى والأحزاب وكافة الخصوم والأعداء. كانت الجريدة تخفى عن أعين فلا يراها الجمهور ولا ينادى عليها حتى تعود مرتجعات, وكنا نسأل عنها الباعة فينفون وجودها.

ومع كل ذلك فقد صمدت الجريدة من عام 1946 إلى أن حلت الجماعة فى ديسمبر 1948 وصودرت جريدتهم. لقد كانت الجريدة من حيث مادتها مشبعة, ولقد أعطاها الأستاذ البنا جل جهده فى أيامها الأخيرة وبذل لها كل طاقته.روى أن صهره الحاج عبد الله الصولي كان يزور بيت الأستاذ فيجده على غير ما يرام من حيث أحواله المادية, فكان يترك للبيتما هو كفيل أن يصلح شأنه وينصرف ثم يعود فيجد البيت كما هو... فقد كان المبلغ يذهب إلى الجريدة!


الكشكــول الجــديــد

كان خصوم الإخوان يهاجمونهم بإسفاف, وكان الإخوان يتعففون عن الرد عليهم, أو يتعففون فى الرد عليهم ولا سيما صحافة حزب الوفد والنشرات الشيوعية. ولقد تحمل الإخوان من الصبر شيئا كثيرا حتى اقترح محمود عساف وأمين إسماعيل إنشاء مجلة أسبوعية تتولى الرد والمهاجمة بنفس الأسلوب. وللحقيقة, ورغم أن ذلك كان فيه من التنفيس عن الصدور الصابرة ما فيه فقد اعترض على الفكرة من اعترض, ووافق من وافق على استحياء. ولذلك لم يعلن عن الكشكول الجديد على أنه من صحافة الإخوان المسلمين....ولكن الإخوان هو الذين أنشؤها ومولوها. وقام عليها محمود عساف وأمين إسماعيل بعد أن قدما استقالتيهما من الجماعة.

ومن أمثلة ما كانت تنشره الكشكول باب بعنوان "دائرة المعارف الوفدية" بدأت بحرف الألف وأذكر منها شرحا لكلمة "أب" جاء بها " أبوك معروف لط طبعا. يقال للوفديين ملعون أبوكم..وليست الوزارة ميراثا عن أبيكم... تهكمى ساخر تأليف جلسات هزلية لمناقشاتهم فى مجلس النواب. وهكذا كانت تتحدث عن مصطفى النحاس وسليمان غنام وفؤاد سراج الدين بعبارات نحاس الوفد وغنام الوفد وسراج دين الوفد. وكان الوفد يصدر جريدة "صوت الأمة" فصورت الكشكول صفحة على نفس نظام الجريدة جعلت عنوانها " صطل أمة" بنفس نوع الخط. وبالرغم من قوة المجلة فى تحريرها وإغراقها فى الفكاهة فقد توقفت بعد قليل بسبب استنكار الإخوان أ،فسهم لأسلوبها.


الشهـــاب

وعلى الجانب الآخر نشأت هذه المجلة الجادة. فقد أرادت أسرة المرحوم الشيخ محمد رشيد رضا استئناف صدور " المنار" وطلبوا إلى الأستاذ حسن البنا القيام على ذلك, وبالفعل صدرت بجهوده بعض أعدادها. ولم يكون له من مورد خاص بعد استقالته من عمله كمدرس وتفرغه للدعوة. فأراد أن يكون له مورد ولذلك أنشأ مجلة الشهاب على أغرار المنار إسلامية ثقافية بحتة وكانت شهرية. كان صاحب امتيازها ومديرها ورئيس تحريرها, وصدرت منها عدة أعداد فى 1948 ولم تكن تباع ولكنها اعتمدت فى توزيعها على الاشتراكات. وحين انجلت محنة 1948 وكان الأستاذ البنا قد استشهد أنشأ سعيد رمضان فى الخمسينيات مجلة" المسلمون" على نفس النسق.


صحافة صديقة

هذا ما كان من شأن صحافة الإخوان منذ نشأتها حتى محنة 1948 واحتجابها تماما إلى عام 1951. وجدير بالإشارة أنه كان هناك صحافة صديقة ولكنها محدودة. فقد دأبت مجلة الاعتصام وهى مجلة الجمعية الشرعية وكانت أسبوعية على نشر موجز مختصر لحديث الثلاثاء, ولم تكن مجلة الإخوان تنشره اعترافا منها بمجلة الاعتصام. كذلك تولى علي الغاياتي صاحب منبر الشرق النطق باسم الإخوان فى غيبتهم وبعد عودتهم, وكان صديقا للإخوان وكانوا أصدقاءه وكان مثلهم يعانى من ضعف الموارد رحمه الله, وكان كثيرا ما يستصرخ ذوى الأريحية ليتبرعوا إنقاذا لمنبر الشرق على صفحاتها.


الدعـــوة

وبعد أن خرج الإخوان من معتقلاتهم استأجرصالح عشماوي الوكيل العام للجماعة مجلة المباحث القضائية فأدت دورها من شهر مايو 1950 حتى آخر ذلك العام. بدأت المباحث لعدة أعداد ثقافية بحتة ولكنها بدأت تتجرأ بالتدريج حتى صارت تتناول الأوضاع القائمة.

وفى يوم الثلاثاء 22 ربيع الثانى 1370 – 30 يناير 1951 صدر العدد الأول من مجلة "الدعوة" فكانت أول مجلة إسلامية أسبوعية تطبع بالطباعة الحديثة بمطابع جريدة المصرى وتوزع عن طريق شركة التوزيع, ولأول مرة أيضا كانت تغطى مصاريفها رغم عدم حريتها فى قبول الإعلانات ورغم حملها عبء بعض الإخوان الذين عملوا بها بقصد مورد لهم, وكانت الدعوة على مستوى مشرف من حيث برقياتها وتعليقاتها ومواضيعها وهيئة تحريرها. كان يكتب فيها صالح عشماوي رئيس تحريرها وصاحب امتيازها وأمين إسماعيل ومحمد الغزالي والسيد سابق وعبد العزيز كامل والبهي الخولي وأحمد حسن الباقوري وعبد المنعم النمر ومحمد فتحي عثمان وسيد قطب ومحب الدين الخطيب وأنس الحجاجي وعبد الحكيم عابدين ورجاء مكاوي وغيرهم, وشرف بذلك كاتب هذه السطور وكان ثمن العدد قرشين.

واستمرت الدعوة فى الصدور حتى بعد فصل صاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ صالح عشماوي من الجماعة فى نوفمبر 1953 ولكن توزيعها هبط بصورة خطيرة, وظلت الدعوة بعد ذلك تصدر بصورة شبة عادية حتى أواخر 1954 رغم معاناتها ماليا. بعد ذلك كانت تصدر عددا محدودا جدا من النسخ – ليس للبيع ولا للتوزيع – على فترات متباعدة بقصد الإبقاء على امتياز ها حيث إن هذا الامتياز يسقط بمضى مدة معينة إذا لم تصدر الجريدة.

وفى فبراير 1957 صدر عدد خاص عن إمام الشهيد الأستاذ البنا ووزع عدد كبير كتجربة لمحاولة الظهور, ولكن شعر الأستاذ صالح عشماوي بعدم ارتياح السلطة بل واستيائها من صدوره وكان هذا وحده كافيا – فى ظل الظروف التى كان يحياها شعب مصر – لعدم تكرار التجربة أو على حد تعبيره هو " كش ملك"


مجـلة الإخوان مرة آخرى

وبفضل صالح عشماوى لم يعد لجماعة الإخوان جريدة فقد كان صاحب امتياز مجلة الدعوة. ولم يدم هذا طويلا فقد أصدر الإخوان مجلة "الإخوان المسلمون" مرة أخرى وصدرت منها أعداد محدودة. وكانت أسرة قطب هى القاسم المشترك الأعظم التى قامت على أكتافها. فكان الأستاذ سيد قطب – رحمه اله – رئيس تحريرها وكان يحرر فيها الأستاذ محمد قطب والأخت حميدة قطب وآخرون بطبيعة الحال. وسرعان ما احتجبت هذه المجلة بين اشتباك الجماعة بحكومة الثورة فى مصر . ظهورها واحتجاجها كانا عام 1954 وكان ذلك نهاية المطاف بصحافة الإخوان فى مصر حتى عام 1976.


الدعوة مــرة أخرى

عادت الدعوة إلى الظهور مرة آخرى اعتبارا من شهر رجب 1369هـ يوليو 1976 بعد وفاة عبد الناصر ببضع سنين. عادت يديرها ويشرف عليها المرشد العام الأستاذ عمر التلمساني, وصاحب امتيازها ويرأس تحريرها الأستاذ صالح عشماوي,واتخذت مقرا لها 8 ميدان السيدة زينب بالقاهرة فى المكان الذى كانت تشغله قبل ذلك عيادة أسنان الدكتور أبو بكر نور الدين بعد أن تقاعد. كانت تباع المجلة فى مصر والدول التى سمحت بدخولها ولكنها ظلت ممنوعة لدى الدول التى كانت مازالت تشن حربا على الإخوان مثل ليبيا والسودان ودول البعث – سوريا والعراق – واستمرت تصدر إلى أن لقى صالح عشماوي ربه, فتوقفت بحكم القانون الذى يلغى ترخيص الصحيفة التى يتوفى صاحبها.

وبصفة عامة فقد لقيت صحافة الإخوان من السلطات ألوانا من العنت. وكانت الرقابة فى الأزمات تخنقها حتى لا تجد ما تستطيع نشره. ونسوق هذه الطريفة مثالاً لما كان يحدث. كان للإخوان شهداء فى ظرف من الظروف وإذا بالرقابة تحرم نشر كلمة "شهداء" فى أى سياق. وتركت الصحيفة التعرض للسياسة من أى زواياها حتى تسطيع أن تصدر. وفى مقال عن شمول رسالة الإسلام وأن الإسلام هو رسالة كل دين ساق الكاتب الآية {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى} وجرى قلم الرقيب على كلمة شهداء فشطبها, ونوقش فى ذلك معناها هنا "أم كنتم حضورا شاهدين..." وبجهل مطبق أو تعسف مقصود أجاب ... إذن اكتبوها أم كنتم حضورا شاهدين إذ حضر يعقوب الموت!! وفى 16 سبتمبر 1986 نشرت جريدة الشعب تحت عنوان "تقديم ثلاثة صحفيين إلى المحاكمة" أن الإخوة جابر رزق وبدر محمد وصلاح عبد المقصود أصدروا كتابا غير دورى تحت اسم البشير فصودر وقدموا إلى المحاكمة بتهمة وفى جريدة الشعب الصادر فى 30 ديسمبر 1986 جاء الآتى:


الإفـــراج عن مطبوعات الإخوان المصادرة

أفرجت محكمتا جنح عابدين, وجنح العجوزة عن مطبوعات الإخوان المسلمين التى تحفظت عليها مباحث أمن الدولة منذ عدة أشهر. فقد أصدرت محكمة جمح مستأنف عابدين يوم الأربعاء الماضى ببراءة الأستاذة فاطمة حمزة صاحبة امتياز مجلة "لواء الإسلام" مما نسب إليها من مخالفات لقانون الصحافة. وكان الإخوان المسلمون – برئاسة المرشد السابق المرحوم عمر التلمساني – قد تعاونوا مع الأستاذة فاطمة حمزة لإصدار المجلة فصادرتها المباحث. كما أصدرت محكمة جنح العجوزة حكمها ببراءة كل من الصحفيين: جابر رزق وبدر محمد وصلاح عبد المقصود, من التهم التى وجهتها لهم مباحث أمن الدولة وهى إصدار مجلة بدون ترخيص وهو الكتاب غير الدورى المسمى "البشير" بالرغم من أ، الذى أصدره كان المرحوم الأستاذ عمر التلمساني.


الفصل الخامس: مــع النظام الخاص

مقدمة

فى يوم من فبراير 1946 دعانى حسين عبد السميع إلى منزله فى موعد حدده وأكد على الميعاد لأن هناك مقابلة هامة ورفض أن يزيد على ذلك حرفا. وفى الموعد وجدت رجلا لم أكن أعرفه فى انتظاري عرفنى به حسين على أنه الخ أحمد حجازي من الإخوان الموثوق بهم, ثم تركنا حسين وانصرف فى غرف البيت. وبدأ أحمد حجازي حديثه معى بسؤالى عن رأيى فى بعض المواضيع العامة, وظل يتدرج بالحديث حتى وصل به إلى موقفنا من الحكومات الضعيفة أمام الاستعمار والوزارات الخائنة. ورغم تعريف حسين وتزكيته للأخ أحمد حجازي فقد كنت حذرا معه فى حديثى لأنى لم أكن أعرفه من قبل فظل يستفرغ ما فى جعبتى وأنا لا أريد أن انطيق إلا بصعوبة حتى اتفقنا فى النهاية إلى أن الأخذ بفريضة الجهاد هو الذى يميز الإخوان عن سواهم. بعد ذلك تطرق إلى كيفية هذا الجهاد ووسائله, وذهب يسألنى إذا كان الواجب يحتم علينا أن نتجهز وأن نتدرب. وأجبت بأن المر عسير, فأين نتدرب ومن أين السلاح وكيف يتم هذا فى غفلة من عيون الحكومة. قال وقد عيل صبره من مطاولتى" هذا أمر قد فرغنا منه" بهذه الإجابة الحاسمة انفتح له قلبى فوافقته. وانصرف أحمد حجازى بعد أن بايعته على السمع والطاعة والكتمان.

بعد ذلك طلب إلى أحمد حجازى ترشيح إخوان لإكمال المجموعة. وذهبت انظر فى الإخوان من جديد فلم أرشح سوى اثنين عبد المجيد حسن رحمه الله وطاهر عماد الدين. وأخذ أحمد حجازي الاسمين والمعلومات التى ذكرتها له عنهما وذهب, وبعد أيام استدعاهما عند حسين كمال فعل معى. واتفق عبد المجيد معه توا. أما طاهر فقد رفض لأن اتصال حجازى به لا يأتيه عن طريق المسئول عن الشعبة. وكان رأى طاهر وجهة نظر على كل حال . وأوضح حسين أن نائب الشعبة وحتى كبار المسئولين فى الميدان العام للجماعة ربما لم يكونوا من هذا النظام أو يعرفوا عنه شيئا, غلا أن طاهر لم يقتنع. وبعد أيام قلائل كنا عند حسين نتداول فى حركتنا بالجامعة وكان معنا مصطفى مؤمن, وفى انصرافنا سمعت مصطفى ونحن نهبط درج المنزل يقول لطاهر" هل كلمك أحمد حجازي فى موضوع؟" قال" نعم " قال " تستطيع أن تطمئن إليه". ففرح طاهر وعاد يقبل الانخراط فى النظام الخاص.


دراسات

حدد لنا حجازى موعدا فيه ثلاثتنا معه, وكانت تعليماته أن تكون صلتنا العامة أمام الناس عادية جدا حتى لا يلحظ أحد أن بيننا نوعا معينا من الرباط. وقال إنه يمتنع علينا إذا صادفناه فى أى مكان أن نتحدث معه أو نبدى معرفتنا به أو أن نحاول أن نرى من يقابلهم أو يحدثهم أو يحدثونه, وأن رؤيتنا له مع أى إنسان لا تعنى انتماء هذا الإنسان إلى النظام , وأن جلستنا هذه – وكانت تعقد فى البيوت, عندى أو عند طاهر – يجب أن تأخذ المظهر العادى أمام أهل البيت فلا يخيم السكون علينا وألا يكون المتحدث الوحيد الذى لا يسمع إلا صوته, ثم قال " اضحكوا فضحكنا . كذلك طلب ألا يقدم احدنا على إحداث أى حدث فى حياته الاجتماعية قبل الاتصال به, فمن أراد مثلا أن يترك كليته أو يتزوج أو ينتقل من منزله أو ماشاكل ذلك فإنه يلزم أن يراجعه.

بعد هذا بدأ الدرس الأول, فأخرج من جيبه مسدسا إيطالى الصنع من طراز باريتا عيار 9 مم وشرحه لنا شرحا تفصيليا وافيا من ناحية حركته الميكانيكية وكيف يعمل, وقد فكه لنا قطعة قطعة ثم أعاد تركيبه, كما شرح لنا شفويا كيفية استخدامه. وبعد فرغ من ذلك طلب إلى كل منا واحدا واحدا أن يعيد ذكر الشرح الذى سمعناه.

وقبل أن ينصرف واعدنا على الموعد التالى. وفى الدرس الثانى كان معه مسدس آخر بلجيكى الصنع من طراز براوننج عيار 9مم كان هو موضوع الدرس. كنا نسمى المسدس مصحفا حتى لا نلجأ فى أحاديثنا إلى ذكر المسدسات. ثم أعطانا الموعد الثالث وكان موضوعه القنبلة اليدوية مليز 36 شديدة الانفجار. ثم كان الدرس التالى فى القنبلة اليدوية الحارقة إيطالية الصنع من طراز بريدا... واستمرت الدروس... المسدس الوبلى ذو المشط والمسدسات ذات الساقية والقنبلة اليدوية الفسفورية الحارقة والقنابل الإيطالية الترموس وسوسييتا رومانا والمتفجرات والمفرقعات من جلجنايت وت.ن.ت وقطن البارود وأنواع الفتائل والمتفجرات والبوادىء ولوازم النسف والتدمير... الخ.

لم تكن جميع لقاءاتنا تسير على هذه الوتيرة الواحدة, فكثيرا ما كانت تخرج عن هذا الروتين. فمرة قرأ علينا لائحة النظام الخاص وناقشناها معه, مرات أعطانا رسائل مطبوعة فى مواد مختلفة كالقانون الجنائى وقانون تحقيق الجنايات والإسعاف وحرب العصابات. وخرجنا معه مرات فى رحلات تدريبية كان بعضها فى جبل المقطم أطلقنا فيها النار من أنواع مختلفة من المسدسات وكان بعضها فى قرية عين غصين بمنطقة قناة السويس. كانت قرية إخوانية بحتة, دخلناها ومؤذن الجمعة يرسل تكبيراته من فوق مسجدنا فما صادفنا فى طرقاتها سوى الأوز والدجاج وبعض الأطفال أما أهلها فكانوا جميعا بالمسجد. هذه القرية كانت تقع وسط معسكرات جيش الإحتلال الإنجليزى وكان هذا الجيش دائب التدريبات فلم يكن سماع أصوات الطلقات النارية باختلاف أنواعها أو فرقعة القنابل اليدوية والمتفجرات بالأمر الشاذ أو الغريب فى تلك المنطقة. أطلقنا النار من مسدسات ومن البنادق ومن الرشاش الصغير" التومى جن" وفجرنا أنواعا من القنابل اليدوية شديدة الإنفجار والحارقة وكان يسمع هذه الأصوات يعزوها بحكم العادة إلى معسكرات الجيش الإنجليزى. وأعتقد أن معسكرات الجيش الإنجليزى أيضا كانت تعتقد هذا فما كان أكثرها, وكان نزولنا عين عصين ضيوفا على رئيس الإخوان بها الشيخ حسن الأحمر رحمه الله. فى خلال هذه الفترة التى قضيناها مع أحمد حجازي لاحظنا بعض الملاحظات كانت محل نقدا, فقد كنا فى كل اجتماع على موعد الاجتماع التالى الذى كان يأتى فى بعض الإحيان بعد عشرة أيام أو أسبوعين. فطالبنا أن تكون الاجتماعات أسبوعية ثابتة الموعد. ولاحظت أن أحمد حجازى مزدحم بالمواعيد فقد كان عبء مجموعات القاهرة كلها عليه وحده. كان مديرا لمنطقة القاهرة فى النظام الخاص, ولذلك لم يكن يسعه إلا أن يعطى هذه المواعيد المتباعدة فاقترحنا أن تقسم القاهرة إلى مناطق وأن توزع المسئوليات على أكثر من مسئول لقد بدأنا فخورين بالدراسات التى ذكرت, ثم لم ألبث أن غيرت نظرتى إليها فطالبت أن تكون أكثر وأكبر وأدسم من هذا. كانت مجموعتنا ثلاثة فقط على خلاف العدد المفروض للمجموعة وهو الخمسة. ولقد كانت جميع هذه الملاحظات محل اعتبار ونظر.


كشف طبى

فى الفترة التى قضيناها مع أحمد حجازي أجرى علينا الكشف الطبى. طلب إلينا حجازى أ، نتوجه إلى دار المركز العام الساعة الثالثة بعد الظهر, وهو وقت لا يتواجد فيه أحد بالدار, وأن نطلب مفتاح غرفة المكتبة من موظف التليفون بالدار,وقبل الموعد كنا أمام غرفة التليفون فلما حان الموعد ولم ننصرف قال لنا" هل تنتظرون أحد؟" قلت" نعم نحن على موعد هنا". قال " أنتم الذين تواعدتم على أخذ المفتاح؟" قلت"نعم". فأخرجه لنا وقال" اصعدوا وافتحوا المكتبة وادخلوا ثم أغلقوا الباب وراءكم من الداخل".فعلنا كما قال, وبعد قليل سمعنا طرقا خفيفا على الباب ففتحنا ودخل رجل لم نكن نعرفه بيده حقيبة من حقائب الأطباء, وأعدنا غلق الباب بالمفتاح. قال لنا الوافد "أنا الدكتور أحمد الملط" قلنا أهلا وسهلا", وأجرى علينا كشفا دقيقا وعاما واحدا واحدا... على النظر والأعصاب والقلب والضغط والصدر والمعدة... الخ, وأخذ عينات من البول. وسجل الدكتور كل النتائج التى حصل عليها فى استمارة مطبوعة خاصة بذلك مع مقاس الصدر والطول, ثم شهد لنا باللياقة الطبية.


بيـــعة

وفى الفترة التى قضيناها مع أحمد حدازى أيضا أدينا البيعة الواجبة على إخوان النظام الخاص. فحدد لنا أحمد موعدا لقيناه فيه بمسجد قيسون بالحلمية الجديدة فى صلاة العشاء, وبعد الصلاة انصرف أحمد ونحن نتبعه عن كثب فى خطوات سريعة, وظل يسير فى الطرقات الملتوية بالحلمية والصليبة حتى طرق بابا ضخما من الخشب لمنزل كبير قديم قرضا قوائمه فهو أشبه بالطبلية على الأرض, كانت الغرفة مضاءة إضاءة قوية, وتركنا بها أحمد وقام إلى غرفة مجاورة ثم عاد ومعه عبد الرحمن السندي فعرفنا به على أنه رقم (1) فى هذا التنظيم وبعد أن حدثنا عن النظام وأهدافه استوثق من استعدادنا استدعانى عبد الرحمن وحدى فقمت معه, وإذ بدأت أخطو إلى الغرفة المجاورة وقد أمسك بيدى فوجئت بها فى ظلام دامس وقد فاح فى أرجائها روائح البخور والعطور الشرقية ثم أجلسنى على الأرض.

وجاء صوت الرجل الجالس فى الظلام لا أتبين منه شيئا, يذكرنى بمبادىء الدعوة التى جندنا أنفسنا لنصرتها وإلى أن الجهاد من أركانها وهو سبيلها, وإلى أنى بأداء هذه البيعة أضع نفسى تحت تصرف القيادة سامعا مطيعا لأوامرها فى العسر واليسر والنشط والمكره معاهدا على الكتمان وعلى بذل الدم والمال. وقد ذكر ثقة القيادة فينا ومع ذلك أشار إلى أى خيانة أو إفشاء سر سوف يؤدى إلى إخلاء سبيل الجماعة مم يخونها. وبايعت على ذلك وقد مددت يدى فوضعتها على مصحف ومسدس وقد وضع يده فوق يدى ولئن لم نر شخص الرجل فلقد كان واضح من صوته أنه الأستاذ صالح عشماوي. ثم قام عبد الرحمن وأخذ بيدى فى الظلام الذى مازلت لا أتبين خلاله شيئا فخطونا نحو باب الغرفة إلى الغرفة الأولى شديدة الاستضاءة. فجلست بها لا أكاد أرى شيئا من شدة الضوء لفترة فى حين أخذ عبد الرحمن أخانا عبد المجيد فأدى بيعة مماثلة ثم عاد به وأخذ طاهر فبايع أيضا ثم عاد.

فى تلك الليلة أيضا أعطانا أحمد أرقامنا السرية التى كان علينا أن نتعامل بها بدلا من أسمائنا فكان رقمى 16 ورقم عبد المجيد 17 ورقم طاهر 18. وانصرفنا إلى بيوتنا وسعادتنا لا تعدلها فى الدنيا سعادة.


حصــاد العمــر

اللواء صلاح شادي

لقد أصدر أخونا فى الله تبارك وتعالى صلاح شادي كتابا عنوانه "صفحات من التاريخ – حصاد العمر" أحسبه من أوله إلى آخره كتاب من يدفع عن نفسه أنه أسلم جماعة الإخوان المسلمين إلى جمال عبد الناصر, وهو إذ يفعل ذلك يحاول أن يلصقها بمن امتلأ قلبه حقدا عليه – كما يبدو من كتابه – عبد الرحمن السندى.

يحتاج كاتب تاريخ الإخوان أ، يرجع إلى ما يستقى منه. وبكل أسف فقد نهج إخوان أجلاء فى بعض ما كتبوا أن نقلوا عن الأخ صلاح باعتباره من داخل وحدات الجماعة ومطلعا على خباياها, فركبوا شططا, وأعطوا الأخ المسلم عبد الرحمن السندي, رحمه الله, حقا أن يخاصمهم أمام الله يوم القيامة فيأخذ من حسناتهم وقد تكون كثيرة ويحمل من سيئاته وقد نكون كبيرة. كانت لعبد الرحمن أخطاء وكانت عليه مآخذ, فهو بشر... وكثر نقده بمناسبة حادث الخازندار وبمناسبة مخالفته الأستاذ حسن الهضيبي مرشد الجماعة... الخ. ولكن هذا لا يعنى أبدا أن نلصق بالرجل, وقد أفضى إلى ربه , كل نقيصة وأن يستباح عرضه فيحمله غيره أخطاء فعلها هذا الغير! {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما. ومن يكسب خطيئة أو إثما فإنما يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا} ولئن كانت على عبد الرحمن مآخذ فقد كانت له مآثر أكبر.

لقد كتبت هذه الصفحات ولم يكن حصاد العمر قد ظهر, ومنعنى من إصداره إحساسى يحاجته إلى نظر وإضافات لم يتسع لها وقتى حتى صدوره. ولست أريد به ما يطلبه البعض, أن يكون ردا أو جوابا على من أود أن أجل من إخواني فتلك مهاترة لا أحبها, ولا أريد به أن يكون كتابا على كتاب خاصة من نوع حصاد العمر, ولا أبغى أن أضيف إلى كتب الفتنة كتابا. ولكنى اضطررت على غير رغبة منى أن أضيف تعليقات قليلة ومقتضبة جدا وبأقل عبارة, فإذا الصحف نشرت فتكفينا محنة أخرى أن نأتى ربنا صفا فيأخذ للشاة العجفاء من الشاة القرناء!ومحن الآخرة أشد وأنكى من محن الدنيا والعياذ بالله من كل منهما. إخواني أحبهم وأعزهم وأجلهم وأحسبهم من أهل الجنة بما قدموا, والمرء مع من يحب. لذلك تجنبت أبوابا لم أطرقها وآويت إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذروا المراء لقلة خيره. ذروا المراء فإن المؤمن لا يمارى. ذروا المراء فإن الممارى قد تمت خسارته. ذروا المراء فكفى إثما ألا تزال مماريا. ذروا المراء فأنا زعيم بيت فى وسط الجنة وأهلاها لمن ترك المراء وهو محق"

فإذا قال الله سبحانه وتعالى: "... فلا جدال فى الحج" فإنما هو تدريب فى أيام الحج على فضيلة غالية وساقة من مكارم الأخلاق وقد قرن الجدال بالرفث والفسوق. أسأل اله أن يتقبل من المحسن وأن يغفر ويتجاوز عن غيره.

كان بين صلاح شادي وعبد الرحمن السندي حب مفقود خلافا لما كان بين كل أخ مسلم وأخيه. والسبب أن [صلاح شادي] كان يرغب أن يكون ضمن قيادة النظام الخاص فى حين كا عبد الرحمن السندي يرى عدم صلاحية صلاح لهذا. ولم يكف صلاح عن رغبته هذه ولم يعدل عبد الرحمن عن رأيه ذاك حتى آخر عمره. لم يكتب عبد الرحمن السندي عن صلاح, ولكن صلاحا كتب فى 1981" حصاد العمر" جله عن عبد الرحمن من منظوره هو بعد أن لقى عبد الرحمن ربه عام 1962 بتسعة عشر عاما, وقد تضمن الكتاب حوارات ثنائية بين الاثنين يتصدى فيها صلاح لعبد الرحمن فيفحمه ويدمغه!! وعبد الرحمن ليس حيا لجيب فالميدان خال لبطل واحد.

مثلا يذكر صلاح عن حادث القطار الحربى الإنجليزى أن رجاله هم الذين نفذوه ويذكرهم بأسمائهم... فليكن, فأنا شخصيا لم أكن أعرف فاعله, ولكن يضيف أنه فى مقابلة مع عبد الرحمن زعمها عبد الرحمن لرجاله! وكانت صدمة لصلاح!!

‘ذا كان الموقف بين غريمين أحدهما صار فى ذمة الله فقد تحتاج الرواية إلى شهود وإلا بقيت ضعيفة. لست أتهم صلاح شادي لا سمح الله بغير الصدق, ولكن الأمر يتعلق بأخ مسلم آخر وقد درج المسلمون فى رواياتهم على الإسناد, فالإسناد جزء من الرواية, فإذا كان الرواى هو شاهد الواقعة فلا بأس, ولكن إذا شابها خصومه وحقد أو مصلحة فإن الأمر مختلف. ولأضرب لذلك مثلا نقيس عليه.

روى ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية انتقص من أجره فى كل يوم قيراطان" وكان أبو هريرة يروى الحديث´من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو كلب له زرع! انتقص من أجره فى كل يوم قيرطان" فنقد الحديث لأن أبا هريرة كان له زرع! أبو هريرة صحابى رسول الله صلى الله عليه وسلم روى 5374 حديثا, أبو هريرة أكثر الصحابة رواية وروى عنه أكثر من 800 رجل وكان أحفظ الصحابة, قال الشافعى: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث فى دهره. وكان ابن عمر يترحم عليه فى جنازته ويقول " كان يحفظ على المسلمين حديث النبى صلى الله عليه وسلم.أبو هريرة الذى لا ترقى رقابنا جميعا إلى قلامة ظفره, انتقد حديثه لأنه كان له منه موقف شخصى. ويعلل ابن خلدون قلة رواية أبى حنيفة للحديث فيقول: إنه ضعف رواية الحديث اليقينى إذا عارضها الفعل النفسى. ليس الأمر أمر أبى هريرة أو أبى حنيفة أو شادى أو كاتب هذه السطور ولكنه قواعد علم اختص به المسلمون دون سائر الأمم فلا تغلبنا عليها سواد الخصومة . صلاح شادى أخ مسلم وعبد الرحمن السندى أخ مسلم, لكل جهاده الذى لا يمحوه خصومة الآخر له, والموازين القسط ليست بأيدينا ولكنها بيد الله وليس أحدنا وكيلا عن الله فى الأرض يحاسب الناس ويصدر أحكامه نيابة عنه!

يقول أيضا فى "حصاد العمر":... إنما العيب الرئيسى فى تنظيم الجهاز السرى على وجه الخصوص أعزره فى رأيى إلى عدم كفاءة رئيس النظام فى النهوض بتبعات العمل الفدائى فى مجال التنفيذ, وظهر ذلك فى قضية الجيب, حين بادر بغير إكراه يذكر إلى الحديث عن خفايا التنظيم ورجاله بصورة فضحتها التحقيقات, بل وظل يمارس عمله فى إصدار الأوامر من داخل السجن بعد هذه الاعترافات..." أقول," لم يحدث أبدا. كان عبد الرحمن السندى مريضا بالقلب وكانت تنتابه الأزمة القلبية أشد ما تكون, والمحقق لا يرحم, وعبد الرحمن صامد لا يفوه بكلمة. لقد قرأنا ملف القضية فى السجن ورقة ورقة ولك يكن به حرف واحد مما دعاه حصاد العمر, وإذا كان صاحب ذلك الحصاد يستطيع فليدلنى على كلمة واحة فاه بها عبد الرحمن عن النظام أو رجاله. وليسأل هو ومن يشاء جميع من بقى حيا من إخوان قضية الجيب مصطفى مشهور, أحمد حسنين, حسنى عبد الباقي, محمود الصباغ, أحمد الملط, أحمد زكي حسن, محمد فرغلي النخليلى, أحمد عادل كمال, طاهر عماد الدين, محمد أحمد علي, علي حسنين الحريري الخ شهود عدول فليسألهم واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

هذا مجافاة للحق لم أستطع أن أتجاهله وإلا كان إقرار بحدوثه. والوقائع الصحيحة فى هذا الشأن أن عبد الرحمن السندي نفى نفيا قاطعا معرفته بشىء اسمه النظام الخاص, أما عن المسئولين معه عن النظام, فكما جاء فى صفحة (1722) من ملف تحقيقات قضية السيارة الجيب, قرر أنه لا يعرف محمود الصباغ ولا مصطفى مشهور, واستمر على ذلك إلى آخر التحقيقات ونهاية المحاكمات, وبالنسبة لأحمد زكى حسن وكذا حسني عبد الباقي فقد جاء ذكرهما وذكر عبد الرحمن فى سجل حسابات ومصروفات النظام الخاص, الذى ضبط عند أمين صندوق النظام محمد فرغلى النخليلى, وكان يحفظه مع سجلات مسبك للمعادن يملكه بالرويعى, وكان هو الذى يمسكه, وعلل عبد الرحمن السندي تلك الحسابات بأنها خاصة بمشروع نسيج كان مزمعا إنشاؤه. ولم يتفق أحد ممن وردت أسماؤهم بالسجل معه فى الرأى, بشان وجود هذا المشروع المزعوم, ولكن لم ينتج عن هذا كشف أسرار أو إدانة لأحد, بل أذاب الموضوع وقفله فى دائرة مفرغة تدور فيه تحقيقات النيابة دون جدوى, وكل الذى استطاعته النيابة فى آخر الأمر أن تنتهى إلى أن أقوال عبد الرحمن السندى لم تكن صحيحة. هذا شىء وما جاء فى "حصاد العمر" شىء آخر. أما عبد الرحمن السندي – شأن كل مسلم – نسأل الله أن يجزيه خيرا عما قدم.وأن يغفر له فيما أخطأ, ولا ننسى له أنه هو الذى قام على تكوين هذا النظام العظيم الذى سبق به عصره – هدفا وتنظيما – وقام على تطويره ودفعه, وبذل كل شىء فى سبيله حتى دراسته الجامعية وصحته ومن بعد صحته حياته.

فى صفحة (1775) من ملف تحقيقات قضية الجيب بمحضر النيابة بتاريخ الخميس (9 ديسمبر 1948) جاء الآتى:"ورد تقرير حضرة الطبيب الشرعى بشأن حالة عبد الرحمن السندي على فراج السندى, ويتبين من الاطلاع عليه عنده مرض مزمن بالقلب, وأنه فى حاجة إلى احتياطات وقائية وصحية, وأن من الأصوب نقله إلى مستشفى حكومى, حتى يكون تحت العناية الطبية والصحية اللازمة. وقد أرفقنا التقرير بالأوراق بعد التأشير عليه. ويكتب للحكمدارية بنقل المتهم على الفور إلى مستشفى الدمرادش, لوضعه تحت الحراسة اللازمة, كما يكتب للمستشفى بعلاج المتهم مع موافاتها بصورة من تقرير حضرة الطبيب الشرعى للإطلاع على حالة المتهم المرضية...الخ".

وضاق مستشفى الدمرداش ذرعا بإجراءات الحراسة وتفتيش الداخلين والخارجين, فطلب خروج عبد الرحمن وأعيد إلى سجن مصر العمومى حيث كنا, ولكن حالته الصحية حتمت أن يكون تحت رعاية مستشفى الدمرداش, فأعيد إلى السجن ثم إلى قصر العينى مرة آخري. واستطاع عبد الرحمن أن يسوى الأمور مع الحراسة فبقى بمستشفى قصر العينى حتى أفرج عنه.

فإذا أخذنا فى الإعتبار مستوى علاج مرض القلب فى مصر عام (1948) لأدركنا مقدار آلام عبد الرحمن السندي, وهو يحقق معه فيثبت ويستجوب فيصمد.


شىء عن عبد الرحمن السندي

عبد الرحمن السندي.jpg

فلا يحسبن أحد من تصاوير"حصاد العمر" ومن أخذ عنه أن عبد الرحمن السندي رحمه الله كان فاقد المقومات والمزايا! لقد كان – فوق كونه أخا مسلما – مؤمنا إيمانا لا حدود له بفريضة الجهاد فى سبيل الله ولزومه وحبب ذلك إلى قلبه فأفرغ ذلك الإيمان فى النظام الخاص وأخلص له الإخلاص كله. كان يعشقه ويغار عليه.

كان عبد الرحمن طالبا بكلية الآداب, وغضب عليه أبوه لاتصاله بالدعوة وخيره بينها وبين أن يستمر إنفاقه عليه, وبكل صدق وبدون مرونة فيما يبدو اختار الدعوة, وأوقف أبوه الإنفاق فالتحق بوظيفة بالشهادة الثانوية, ولم يكن الوقت يتسع لرعاية النظام والوظيفة والدراسة, فاضطر إلى التخلى عن الدراسة وأفرغ همته ونشاطه فى النظام. كان عبد الرحمن يربط كل تكليف بتوقيت, وكان سؤاله التقليدى هو... متى؟

وفى ذلك (المتى) لا ينسى وإنما يابع, وكانت لازمته فى متابعته هى لماذا؟

- هل تم الموضوع المتفق عليه؟

- ليس بعد.

-لماذا؟

- من أجل كذا.

- ولماذا لم تفعل كيت؟

- (لماذا) كثيرة. وفى الوقت الذى كانت لعبد الرحمن قبضة حديدية كان له قلب طفل. كان مرهقا فى متابعته ولكنه كان عاطفيا إلى أبعد الحدود, وكان ذلك أظهر ما يكون إذا تعلق الأمر بأرزاق إخوانه. بعد خروجنا من السجون عام (1951) أنشأ شركة السندى وشركاه للتجارة وفشلت فشلا ذريعا بسبب تصرفه فى أموال الشركة طبقا لاحتياجات إخوانه, الذين كانوا يحتاجون إلى المال سواء لمعاشهم أو لتسير أعمالهم , وذهبت أموال الشركة بغير عودة.

- كذلك كان عنيدا يصعب تحويله. وكانت تعليمات أطبائه أن يبتعد عن الانفعالات ويركن إلى الراحة فى فراشه, ولكنه كان لا يلتزم, وكان يقول لى إن إخلاده إلى الراحة يمرضه وتنتابه أزمات القلب, ولكنه لا يشعر بها إذا داوم نشاطه. واستمر معه المرض حتى كان يوم (29 يولية 1962) عاد عبد الرحمن السندي إلى بيته بشارع سليمان جوهر بالدقى من صلاة الفجر فى مسجد قريب كعادته, وجلس يقرأ القرآن حتى يحين موعد خروجه, ثم وجدته أسرته مال على جنبه والمصحف بين يديه وقد اسلم الروح إلى خالقها عن واحد وأربعين عاما. رحمه الله. وما زالت أسرته تعيش حتى صدور هذا فى ذلك البيت بالشارع الشعبى سليمان جوهر.


عــود إلـى حصاد العمر

- ويؤسفنى أيضا أن يضطرني ذلك "الحصاد" أن أرد فى إيجاز أشد على شىء أصابنى به. قال إن أحمد عادل كمال نقل حقيبة ذات محتويات خاصة يحرص كل الحرص على سريتها إلى بيت سيد عيد يوم حادث السيد فايز, رحمه الله, خشية تفتيش بيته. وبداءة لا أذكر بعد ثلث قرن إن كان ذلك قد حدث, ولكن مخزنا وأرشيفا للنظام نحفظ به أوراقنا ونطبع به على آلة الرونيو مطبوعاتنا,وكانت لنا به حجرة خاصة لهذا الغرض. وكان سيد عيد جارا لى يسكن قريبا من بيتى, فكان الإيداع بمنزلة والأخذ منه يتم دائما ويوميا. فإذا استبان ذلك لم يعد غريبا ولا مرتبطا بأى حدث أن أنقل أى شىء إلى ذلك البيت.

- هذا قول لا ألقيه على عواهنه فالسيدة الفاضلة والدة سيد عيد تعلمه وهى من الأمهات المسلمات الصابرات, اللائى شاركن أبناءهن المحنة, وكانت تستقبلنى غياب سيد وتسمح لى بدخول الحجرة أضع فيها وآخذ منها. أذكر ذلك مستشهدا بها أطال عمرها, وعبد العزيز شلبي أخو السيد عيد ورفيقه فى البيت يعرفه أيضا,والأخ إبراهيم صلاح كان يعرفه. ولكن ما جاء بحصاد العمر كان من نوع " لا تقربوا الصلاة" أو " ويل للمصلين" ذكر شيئا وأسقط ما تغنم بإسقاطه الحقيقة.

- ويستطر حصاد العمر فيقول" وقد عرض أحمد عادل كمال فى التحقيق على الفتاة التى تسلمت الطرد {شقيقة المرحوم السيد فايز} فلم تتعرف عليه مما يقطع بأنه لم يكن هو الذى نفذ العملية... محمد أبو سريع يشبه أحمد عادل كمال وعندما عرض أحمد عادل كمال على الفتاة قالت إن الجانى يشبهه, والغريب أن الحكومة لم تحاول فى اعتقالات 1965 أن تثير موضوع سيد فايز إطلاقا, ولو حاولت لحصلت على ما تريد من معلومات لأن أحمد عادل كمال وقتها كان مستعدا من شدة التعذيب أ، يقول كل شء".


وألتقط الخيط لأصحح الوقائع

- نعم لقد عرض أحمد عادل كمال على الفتاة سيدة فايز عبد المطلب بناء على بلاغ بدون توقيع. وخلافا لما جاء بحصاد العمر, لقد تعرفت عليه على أنه هو الذى حمل إليها الطرد فقبض عليه. واستشهد عادل بإبراهيم صلاح أنه كان معه فى بيته طوال اليوم الذى ذكرته الفتاة ووقع فيه الحادث حينذاك عدلت الفتاة عن أقوالها وعللتا بأن شخصا طلب إليها أن تقول ذلك, فأفرج عنه وذكرت الصحف ذلك فى أخبار التحقيقات فى حينه, ولابد أن صاحب الحصاد يعرفه تماما, وكان أولى به أن يسأل من الذى أوعز إلى الفتاة ى قلب محنتها أن تقول ما قالت. وما الدافع له على ذلك. هذه واحدة.

الثانية أن محمد أبو سريع لا يشبه أحمد عادل كمال فى قليل أو كثير, ومع ذلك فقد كتب أحدهم مكتوبا غفلا من التوقيع إلى المحقق يتهم أبو سريع أنه هو الذى حمل الطرد, وجىء به وعرض على الفتاة فلم تتعرف عليه. الثالثة أن يستغرب حصاد العمر أ، الحكومة لم تحاول فى اعتقالات 1965 أن تثير موضوع سيد فايز إطلاقا بأسلوب كأنما يحثها أن تعذبه ليعترف!. لا يا سيدى لقد أثارته وبذلت من جهدها فى التعذيب ما بذلت وما يعلمه الجميع. ولقد سئلت عن ذلك فى مهزلة التوعية التى جرت فى معتقل أبو زعبل 1966 وأجبت بما تقدم فى الميكروفون أمام ألوف الإخوان المعتقلين.

- هذا أقصى ما استطعت من إيجاز فيما اضطرت إلى تناوله اضطرارا فى مايو 1985 كنت فى رحلة همل إلى لندن وكان هناك أيضا أحمد رائف صاحب دار الزهراء للإعلام العربى, وجاءتنا دعوة كريمة لزيارة جالية إسلامية.

- فى مدينة برايتون. وذهبنا وجالسناهم نتحدث وإذا بهم يقولون إن الأستاذ الداعية صلاح شادي كان هناك العام السابق وحدثهم عن عبد الرحمن السندي وانحرافاته التى أودت بالجماعة! وسألونى عنا أعلم فى هذا الشأن. قلت تلك وجهة نظر صلاح شادي, وهناك وجهات نظر أخرى, وكل محاسب بقوله ونيته. قالوا فماذا تنصحنا؟ قلت الحب والإخاء. وإياكم وفساد ذات البين.


هــذا الكتاب والفتنة

- لا ينفى أحد أنه كانت فتنة بين الإخوان. ومرت السنون ودخلوا سجون عبد الناصر ومعتقلاته, وامتزجت دماؤهم على سياطه وعلى جدارنه, وعادت نفوسهم صافية صفاء الأخ لأخيه. وتقابل الشيخ محمد الغزالي مع المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي وتصافيا وتعانقا ودون أى عتاب سألت دموع الحب الرجلين الصالحين. وعادت مجلة الدعوة للإخوان صاحب امتيازها ورئيس تحريرها صالح عشماوي وكله شوق وسرور ويشرف عليها عمر التلمساني مرشد الإخوان.

وعاد المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله, وألف الله بين قلوبهم {لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}.

- فى هذا المناخ الطيب جاء عام 1981 بعد سبعة وعشرين عاما على انقضاء الفتنة, ومحنة جديدة تطل برأسها على الإخوان فى مصر... فى هذا الوقت طلع الأخ المسلم صلاح شادي بحصاد عمره يذكر الفتنة وانحرافات صالح عشماوي والشيخ محمد الغزالي وغيرهما من أفاضل الإخوان من منظوره هو ويوزع الاتهامات شمالا ويمينا وأماما وخلفا وفوقا وتحتا, وكم أكبرهما أن لم يرد عليه أحد منهم. لقد بنى حسن البنا, رضى الله عنه وأرضاه, بنيان الجماعة على الحب وما هو أكبر من الحب _ الإخاء. واختار لها اسم الإخوان. وهو فى هذا قد سار على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقام مجتمع المسلمين بالمدينة وصار الإخاء يجمعهم ويجمع بينهم. ومر اليهودى شاس بن قيس بمجلس الأنصار ورآهم أوسهم وخزرجهم يرفلون فى هذه النعمة فغاظه صلاح ذات بينهم وحاكت فى صدره يهوديته الحاقدة فعمد إلى ذكر يوم بعاث وما كان من انتصار الأوس على الخزرج, فتنازعوا وتفاخروا واختصموا, وكادت الفتنة تشتعل بينهم من جديد لولا ا، تداركها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرهم بما ألف الإسلام بين قلوبهم وآخر بينهم وما زال بهم حتى بكى القوم وعانق بعضهم بعضا واستغفروا الله جميعا. لست أقارن بين أخ مسلم مؤمن وبين يهودى حاقد كافر, حاشا لله ما إلى هذا أقصد, ولكن هذا ذكرنى بذاك, والشىء بالشىء يذكر.

- ذكرت ذلك فقلت فى نفسى: لا.. لن أخوض فى هذا الكتاب فى الفتنة بعد أ، عبرت بكل شرورها. من راق له أن يخوض فيها فشأنه, وأرجوه ونصحه ألا يفعل, فإنها حجاب فى الدنيا وعذاب فى الآخرة, وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول " إياكم وفساد ذات البين فإنها الحالقة, لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".

- اسأل الله تعالى أن يجعل ما أكتب أهلا للغرض منه والله المستعان,


الحــب والرابـــطة

- الحب فى الله بين الإخوان مدعاة لظل الله يوم الكربات, وهو الخصلة الرابعة فى الحديث الشريف" سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله, غمام عادل , وشاب نشأ فى عبادة الله تعالى, ورجل قلبه معلق فى المساجد, ورجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وافترقا عليه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنى أخاف الله, ورجل تصدق فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أ،فقت يمينه, ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"{ متفق عليه}

- وإعظاما لهذه الأخوة بين الإخوان جعل الأستاذ "حسن البنا" ورد الرابطة من أوراد الإخوان مزج فيه دعاء الغروب المأثور مع دواعى الموقف, وهو دعاء يدعو به الأخ المسلم غروب كل يوم ونصه:" بسم الله الرحم الرحيم. قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير تولج الليل فى النهار وتولج النهار فى الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشاء بغير حساب". اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لى { ثم يتذكر الأخ الداعي من يستطيع أن يحضره من إخوانه فى ذهننا يتوجه إلى الله } اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك والتقت على طاعتك وتوحدت على دعوتك وتعاهدت على نصرة شريعتك, فوثق اللهم رابطتها, وأدم ودها, وأهدها سبلها, واملأها بنورك الذى لا يخبو, واشرح صدورها بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك, وأحيها بمعرفتك وأمتها على الشهادة فى سبيلك, إنك نعم المولى ونعم النصير. وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".أ.هـ

- إذا كان الحب فى الله هو من أكبر ما تربى عليه الإخوان, فقد كان إخوان النظام هم أكثر الإخوان حبا لإخوانهم, وأكثرهم حبا لدى الإخوان.


تاريخ النظام الخاص

- هذا النظام الخاص الذى انتمينا إليه ما قصته وما تاريخه؟ سؤال لابد منه. كانت الأمة الإسلامية غافلة حين كانت الحركة الصهيونية تولد وتشب وترسم وتخطط وقد جعلت هدفها الأول انتزاع فلسطين من المسلمين وإقامة وطن يهودى بها فى قلب العالم الإسلامي. وسارت الحركة أشواطا نحو تهجير اليهود من كل بقاع العالم إلى فلسطين. كان أكثر هؤلاء من القطاع الشيوعى وهذه ملاحظة لابد من الوقوف أمامها للربط بين الصهيونية الأم والشيوعية المولودة. فكانت الأفواج الأولى التى غذت قيام دولة اسرائيل من اليهود الروس ثم من يهود بولندة ورومانيا والنمسا. وكان التمويل يأتى من الغرب, من انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة. وبدأت حركة شراء الأراضى بفلسطين وإقامة المستعمرات اليهودية عليها.

- وبدأـ حركة المقاومة من الفلسطنيين أصحاب الديار لهذا الانتزاع المنظم الذى يقوم به اليهود فى حماية بريطانيا العظمى التى كانت تضع على فلسطين منذ استولت عليها من الدولة العثمانية فى الحرب العالمية الأولى. كانت المعركة بين شعب أعزل يطرد من دياره وبين الخبث اليهودى كله الذى استطاع أن يسخر العالم لتحقيق أهدافه, فكانت الثورة العربية بفلسطين التى تزعمها مفتى فلسطين سماحة الحاج محمد أمين الحسيني.

- كانت عرى الإسلام تفصم عروة عروة. وبسقوط الدولة العثمانية فى الحرب العالمية الأولى زالت الخلافة الإسلامية وبدأت الدعاوى القومية, فظهر فى تركيا مصطفى كمال أتاتورك الذى كرس جهده لأن تخلع تركيا ثياب الإسلام قطعة قطعة حتى إنه ألغى الحروف العربية من الكتابة التركية وأحل محلها الحروف اللاتينية. وأى كسب أكبر من هذا لأعداء الإسلام؟.. وكانت النعمة السائدة فى بلاد المسلمين حينذاك هى النعمة القومية... مصر للمصريين, فلا شأن لنا بما يجرى فى غير مصر.. كفانا أن ننظر إلى أنفسنا فإذا استطعنا أ، نحرر بلادنا وأن يذهب إخواننا فى كل مكان إلى الجحيم فقد نجونا! وتبلورت هذه الاتجاهات فى مبادىء الأحزاب فى كل مكان, وفى مصر كان حزب الوفد المصرى بزعامة سعد زغلول يرفع شعار" الاستقلال التام أو الموت الزؤام" ولا شىء عن مبادىء هذه الأحزاب ولم يكن يعنيها أن سعد زغلول يشرب الخمر وأن كمال أتاتورك مثلا أعلى بها. قالها أنور السادات قبيل مصرعه, أن مثله الأعلى هو كمال أتاتورك وأنه نشأ فى بيت علقت على جدرانه صورة أتاتورك.

- من هنا كانت يقظة الإخوان المسلمين وتمسكهم بإسلامهم هما الخطر الحقيقى لذلك المخطط الرهيب الذى راح كموجة المد يأخذ مداه. فإن قدر لها النجاح فقد أعادت على الأرض عهدا من الخلافة الراشدة وإن قدر لها أن تقتل قتلت شهيدة فى سبيل الله,

- أدرك الإخوان الأمر على حقيقة ولعل أحدا سواهم لم يدركه. فقام الإخوان فى مصر بعملية جمع التبرعات لتمويل إخواننا الفلسطينيين الذين يقاتلون من أجل دينهم ومن أجل إسلام ديارهم وكان ذلك عام 1938. ولكن مفتى فلسطين أفاد الأستاذ البنا أن الذى يعوزهم ليس المال ولكنه السلاح. وراح الإخوان يجوبون آفاق مصر وريفها فى حركة لجمع السلاح يمدون به إخوانهم المسلمين فى فلسطين. ولم يكن الإخلاص وحده يكفى, فنتج عن عدم الخبرة بالسلاح أن كانت بين ما جمع الإخوان قطع غير صالحة. وهنا فكر عبد الرحمن السندي لأول مرة فى إنشاء نظام خاص لاستيفاء هذه الدراسة وللقيام على أمرها.. اليوم لفلسطين وغدا لمصر ولسوريا وللعراق. الخ. وهكذا نشأ النظام الخاص, مجموعات محدودة لمدة طويلة قبل أن يبدأ فى الزيادة والإنتشار حوالى 1945.

- هذه معلوماتى عن نشأة النظام الخاص عام 1938 الذى انضممت إليه عام 1946. ولكن لمحمود عبد الحليم رواية تختلف بعض الشىء عن هذه, أن الأستاذ حسن البنا هو صاحب فكرة إنشاء النظام الخاص وأنه بدأه بصالح عشماوي وحسين كمال الدين وحامد شريت وعبد العزيز أحمد ومحمود عبد الحليم ولكنه محمود عبد الحليم _ رأى نفسه يعمل وحده حتى تم تعيينه فى دمنهور فرشح عبد الرحمن السندي ووافق الأستاذ المرشد. هذه القصة لا أنفيها ولكنى لا أعلمها إلا من هذا الوجه ولم أسمع بها من قبل.... {الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ 1/258}


تحيــة للنظــام الخــاص

- هذا النظام الخاص كان أكثر أجهزة الإخوان المسلمين فاعلية فى تربية النفوس وصقلها بروح الإسلام. ذلك أن الميدان العام للإخوان كان يتلقى الأفراد ملتزمين وغير ملتزمين, صالحين وغير صالحين من المجتمع الذى نعيش فيه بإيجابياته وسلبياته, فيمرون بوسائل التكوين التى ذكرنا سابقا من دروس ومخاضرات وجوالة وأسرة وكتيبة... الخ, وكل منها يضيف إلى تكوين النفس أشياء. أما الانضمام إلى النظام الخاص فكان من عناصر منتقاة.

- لست أعنى بهذا أن إخوان النظام الخاص كانوا طبقة مترفعة على إخوان الميدان العام, أبدا بل هم منهم ومن صميمهم, ولكنهم هم الذين وقع الإختيار لحمل العبء الثقيل للتضحية والفداء بالمال والنفوس وربما بأكثر من ذلك, وكم من أخ كريم فاضل لم ينتظم فى النظام الخاص لسبب أو لآخر لعله أفضل ممن انتظم, كأن يكون العائل الوحيد لأبوين شيخين كبيرين أو لأولاده الكثيرين أو لعدم اللياقة الصحية أو لحاجة المجال العام للإخوان لجهده أكثر من إمكان استفادة النظام الخاص منه, أو مشاكل ذلك من الأسباب. ورب أخ انتظم فى النظام ثم لم يكن على مستوى الأمل فيه, ولكن هذا وذاك لا يغير من لأمر شيئا,فإخوان النظام الخاص كانوا صفوة منتقاة لصفات معينة ثم تعهدها النظام بمزيد من التربية والتكوين والصقل والتأهيل فكانت الثمار رجالا لا يبالون وقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم, رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر". أعد رجالا بذلوا من أموالهم ومن ذواتهم وأرواحهم وأمنهم وحرياتهم ومن مستقبلهم ومن أقوات أولادهم وزوجاتهم وآبائهم وأمهاتهم ومن أمنهم وأرزاقهم ما عز نظيره وما يؤرخ لهم به.

- كما كانوا الروح الدافعة فى المجال العام سواء الشعب وأقسام المركز العام خاصة قسم الطلاب وقسم التربية البدنية وفسم العمال. كانت التعليمات تصدر لأكثر إخوان النظام الخاص بالانسحاب من الميدان العام, ثم شعرنا بأثر ذلك عليه فصدرت التعليمات إلى كثير منهم بالعودة إلى مواقعهم مرة أخرى.

- هذا الصنف من الرجال عرفه الصديق والعدو على السواء, بل كان العدو أكثر إحساسا بوطأته وأكثر خوفا ورهبة منه سواء كان صهيونيا أو مستعمرا أو حزبيا انتهازيا أو غير ذلك من الحثالات السياسية التى ظهرت. رجال أراد أولئك أن يصوروهم بصورة الإرهابيين القتلة السفاكين وما كانوا كذلك. على المستوى الفردى كان كل من يعرفهم يعرف أنهم رسل حب وإخاء وسلام وصفاء وإيمان وخشية وتجرد وتوكل.ويعرف من يدرس أعمالهم ويحللها أنها كانت تحركات اضطرارية لمواجهة عدوان وبأقل قدر ممكن من العنف وبأكبر قدر مستطاع من تجنب الضحايا, وكل ذلك فى إطار الإلتزام الشرعى بفريضة الجهاد فى سبيل الله.

- {وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فاقيموا الصلاة, وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}


نشـــاط

- كان لنا فى النظام الخاص نشاط كبير, فقمنا بعملية حصر وجرد لليهود بمصر إذ لم يكن ولاؤهم للحركة الصهيونية محل شك. وأذكر فى مجال المقارنة بين اتجاهنا واتجاه الدولة فى مصر فى ذلك الوقت هذه الواقعة.تسللت ذات ليلة إلى بيت من بيوت اليهود بحى الظاهر التى لاحظنا أنهم يعقدون اجتماعاتهم بها وكمنت فى إحدى شرفاته المتصلة بحديقته واطلعت على اجتماع يهودى داخل البيت, كان بعض حديثه يجرى بلغات غير عربية لم أفهمها وكان يتخلل ذلك حديث بالعربية واذكر أن أحدهم صاح فى زميل له يقول" أنت معلق أوراق وتستطيع أن تبرر وجودك... أما أنا فماذا أقول ؟ ماذا أقول إذا سئلت أو قبض على؟!" وقد ضمنت التقرير الذى حررته ذلك الحديث المشبوه وكانه وعنوانه, وقدر لذلك التقرير أن يسقط فى يد الشرطة والنيابة العامة بعد ذلك فى قضية السيارة الجيب, والعجيب أنه بدلا من أن تهتم تلك السلطات بالتقرير من حيث موضوعه ذهبت تحقق فيمن عسى أن يكون كاتبه لتوجه إليه تهمة الانتماء إلى النظام الخاص!! هذا التقرير أثبتته النيابة العامة فى ملف تحقيق قضية السيارة الجيب بالصفحة رقم 1937 من الجزء السادس كما أوردت ذكره حيثيات الحكم, كما قرر الطب الشرعى أنه محرر بخطى.

من أوراق السيارة الجيب

- إن الأوراق التى تكشفت فى قضية السيارة الجيب والتى اقتضى الدفاع عن المتهمين فى حينه التبرؤ منها باعتبارها جريمة يجرمها القانون لهى مفخرة يحس بها من يقرؤها اليوم, مفخرة لأى تحرك إسلامى تحررى متقدم على هصره يبدو منه انتشار مصانع الخمور والخمارات التى كانت يملكها ويديرها اليهود, والشركات التى يرأس كلا منها مصرى باشا وجميع إدارتها من اليهود. أسوق لذلك أمثلة معدودة من كثير جدا زخر به ملف القضية. فى صفحة 1939 وما بعدها بمحضر تحقيق محمد عبد السلام وكيل نيابة الاستئناف ومحمد سالم حسن كاتب التحقيق يوم الأربعاء 28 صفر 1368 الموافق 29 ديسمبر 1948 الساعة 10,45 صباحا بسراى النيابة

مثــال (1) مصانع نسيج القاهرة:

- الرئيس: محمد خطاب بك

- الأعضاء: أميل عدس – بيبر ديبرمان – رولان لينين – ميبيتو يوسو – موريس يوسو – يوسف زكار – راؤول هنكارت.

مثـال (2) شركة النيل للمنسوجات:

- الرئيس: هنرى دى بتشتو

- نائب الرئيس عبد الرحم البيلى

- الأعضاء: لوسيان دى بتشتو – جوزيف دانوارى – ايلى بصرى

مثال (3) تقرير جاء فيه:

أن "أ .ص" يسكن بالدقى ومتزوج من اسرائيلية وليس له أملاك, وأن قرابته للمرحوم توفيق نسيم باشا هى التى أوصلته إلى المراكز التى شغلها وأنه طرد من الحراسة الألمانية لسرقته 40000 جنيه وأنه أحد المتهمين فى قضية زاما والعمرانية وأنه كان رئيسا لبلدية الإسكندرية وكانت فضيحة الكورنيش على يديه وأحيل إلى المعاش بسببها.

- ثم يضيف المحقق: ويبدو أن المقصود بهذا التقرير هو أحمد صديق باشا

مثــال (4) : شركة البيرة المساهمة بومنتى والأهرام:

- رئيس: رينية اسمعلون

- أعضاء: جورج آرثر مارتن – ستيكر – بير جزنبرجز – جاك فيكتور مورينو – محمد فرغلى باشا.

مثــال (5) الشركة المصرية للمواسير والأعمدة المصنوعة من الأسمنت المسلح:

- رئيس: موريس موصيرى.

- أعضاء: هنرى برسليون – فيتا فرحات – هنرى كرشفسكى – رالف هرارى – إدوار هيلر – السير الكسندر لويد – حسين سعيد بك.

مثــال (6) شركة الطوب الأبيض الرملى :

- رئيس: إرنست ترمبلى

- أعضاء: يعقوب رسكوب – يوركهات – حمصى – علاء الدين مختار بك

مثـال (7) شركة مكابس الأسكندرية:

- رئيس: على أمين يحيي باشا

- أعضاء ماسيل مكيوه – ارمان نحمان – يكتور طورييل – ريمون أرقش – وليم موستاكى – جوزيف باردا – دافيد شيكوريل – ليون شيكوريل

مثــال (8): حسن رفعت باشا:

وقد حمل رقم 22 { الخاص بالأخ أسعد السيد أحمد بتاريخ (26/8/1948) جاء به:

أولا:

(1) يقطن حسن رفعت بالعمارة رقم 20 شارع الجبلاية.

(2) ويشترك فى عضوية ناد بشارع سليمان باشا بالقرب من ميدان سليمان, وهذا النادى يشترك فى عضويته أشخاص معينون والنادى يقع بنفس العمارة التى بها مكتب الأستاذ على بدوى المحامى ومحل سجاد كبير والنادى يقع بالدور الأرضى وبابه فى منعطف إلى الشمال.

(3) وقد شوهد حسن رفعت وهو يجتمع بالضباط الذين تزعموا حركة إضراب البوليس الأخيرة, وكذلك شوهد وهو يأخذ أظرف مقفوله من أشخاص يلبسون الملابس البلدية, يعقبها أن يخرج محفظته ويعطيهم نقودا ورقا.

(4) ويتردد حسن رفعت على السفارة البريطانية ويسلم هناك المظروفات التى يتسلمها من المخبرين.

ثانيا:

(1) شوهد يوم(17/8/1948) أحد الضباط وهو يقف على باب العمارة وينتظر مدة طويلة, وأخيرا حضر أحد الشبان وهو طالب بالجامعة { حزبى – ذكر اسم الحزب – فاسد الأخلاق وهو ابن أحد أساتذة الأزهر} وأخذا يتكلمان معا مدة طويلة وانصرف الشاب ودخل الضابط إلى النادى وخرج بعد مدة, وذهب إلى المنزل رقم (20) بشارع الجبلاية, وصعد إلى ما بعد الدور الأرضى, ونزل فى رفقة شخص آخر تدل هيئته على أنه ضابط أيضا وتكلما معا مدة فى الشارع, ثم انصرف الضابط الأول.

(2)وحضر نفس الشاب الجامعى فى اليوم التالى, واتصل بنفس الضابط ويتعقب هذا الشاب وجدته يدخل إلى المنزل رقم... بشارع قولة بعابدين: والمنزل أمامه كشك نور ونحنه ورشة تصليح سيارات وقهوة,ويقع المنزل على ناصية قولة والدواوين {وهذا المنزل سبق أن أبلغت عنه أنه مركز نشاط يهودى, إذ بمراقبته إحدى المران نزل منه عشرون شابا وفتاة...} ثم نزل بعد مصف ساعة تقريبا, وذهب إلى قهوة النيل بميدان العتبة وجلس مع بعض الشبان مدة طويلة, وحضر شاب جامعى أيضا وانضم إليهم وإن كانت هيئة الآخرين لا تدل على أنهم طلبة, وفى منتصف الليل قام الشاب الجامعى الأول وركب الترام إلى السيدة, ومنها إلى منزله بشارع الصليبة"أ.هـ

وتقرير آخر: إن حسن رفعت باشا قد تحول نشاطه فى خدمة الإنجليز من محيط الوزارة إلى محيط خارجى, يتلقى فيه تقارير لصالح السفارة البريطانية مباشرة. ورغم خطورة هذين التقريرين وما يكشفانه عن اتصال حسن رفعت باشا – الذى كان من قبل ذلك وكيلا لوزارة الداخلية بالسفارة البريطانية, وبعناصر يهودية, لم تهتم النيابة العامة أبدا بما جاء بهما وإنما راحت تستجوب أسعد السيد إن كان كاتبه لتوجه إليه الاتهام.

مثـال (9) رسم تخطيطى بالقلم الكوبيا:

يشمل السفارتين البريطانية والأمريكية بقصر الدوبارة وعليه بعض التأشيرات بالخطوط والأسهم بالقلم الرصاص الأحمر ومكتوب بالقلم الحبر الأسود بعض إيضاحات عن مواضع معينة وأشير فى بعض هذه العبارات إلى مواضع أسلاك التليفون وأنه يمكن تعطيلها بصهر أو قطع اللحامات الموجودة داخل حجرة يمكن فتحها بسهولة, وإلى أن المشرف على المنطقة من مصلحة التليفونات هو الحاج أحمد العادلي, ويقطن بشارع لبيب نمرة (21) بروض الفرج ومعه عشرون عاملا. كما أشير إلى أنه يمكن إحداث العطل من الحجرة رقم (367) شارع قصر العينى التى يمتد منها الكابل... الخ. وقد عثر على هذه الورقة بالحافظة التى ضبطت مع مصطفى مشهور عند القبض عليه.

- وغير هذا كثير جدا يملأ صفحات ملف القضية

- شركات اسمها النيل, والقاهرة, والمصرية...الخ وهى يهودية! وذلك دأبهم. مثل ذلك محلات سان مايكل الشهيرة جدا فى انجلترا وفى غيرها, سان مايكل ترجمته ترجمتها الحرفية" القديس ميخائيل", فهو اسم قديس مسيحي مع أن ماركس وسبنسر أصحاب المحلات من اليهود.

- وعلى ذكر موصيرى {من مثال رقم 6,4 وحتى لا يظن أحد أن هذه التقارير كانت خبطا فى ظلام فإنى أسوق للقارئ شيئا جاء فى مذكرات لورد كيلرن السفير البريطانى فى مصر يقول كيلرن:{ص133}" قالت لى أميرة – زوجة بيتر ولى عهد اليونان وكانت وزوجها من شلة فاروق وكان جميع أسرة ملك اليونان لاجئين إلى مصر أيام الحرب العالمية الثانية: إن " فاروق" يسهر هذه الأيام عند أسرة مصرية من أصل يهودى وهى أسرة موصيرى. وإن هيلين موصيرى الزوجة تحتفظ بتليفون خاص فى غرفة نومها وهذا التليفون لا يعرف رقمه السرى ولا يستخدمه سوى شخص واحد فقط هو الملك فاروق.

- وعندما يحلو لفاروق أن يلعب القمار فى الواحدة فى الواحدة صباحا مثلا فإنه يدق التليفون لهلين موصيرى ويطلب منها أن تجهز له البرتيتة وإذا كان فاروق يريد حفل عيد ميلاد لأحد لأصدقائه أو حفلة تنكرية أو مفاجأة لإحدى صديقاته فإنه كان يتصل بهلين موصيرى ويطلب منها اعداد كل شىء" ويمضى كيلون " وحكت لى الأميرة اليونانية أيضا أن فاروق اقتحم منزلها ذات ليلة من الباب الخلفى بعد أن تسلق سور الجنينة وصعد إلى الطابق الثانى. وكان الخدم يعرفونه. ولهذا أغلقوا عليه غرفة نوم الأميرة حتى يستدعوها من حفل راقص كانت تقيمه فى الطابق الأرضى وفشلت جهور الأميرة بيتر وزوجته فى إقناع الملك فى إقناع الملك بالنزول للحفلة. واستعانت الأميرة اليونانية بأميرتين من أسرة طوسون وبصديقة الملك فاروق اليهودية هيلين موصيرى. ونجح الأربعة فى إقناع فاروق بالعودة من حيث أتى حتى لا تراه أحد على هذه الصورة التى لا تليق بملك يتسلل من أبواب الخدم"أ.هـ

- ومن الأسرة اليهودية التى كانت تحيط بفاروق غير أسرة موصيرى كانت أسرة قطاوى أيضا. ما الذى كان يأخذ فاروق من هيلين موصيرى أو قطاوى أو الممثلة كاميليا واسمها الحقيقى ليليان كوهين أو أى اسم آخر ؟ النزوة والمتعة...الخ ومالذى كان يأخذ اليهود؟.. طبعا كل شىء.

- هذا التغلغل اليهودى سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعي, كان يتيح للصهيونية فرصا لنشاطها على أرض مصر, حتى انهم فى أعقاب الحرب العالمية الثانية كانوا يجمعون السلاح من مخلفات معارك صحراء مصر الغربية لتسليح عصاباتهم فى فلسطين , حتى أنهم قاموا باغتيال"لوردموين" مندوب الأمم المتحدة فى نوفمبر (1944) وحين حكمت المحكمة بإعدام فاتليه تعرضت وزارة أحمد ماهر لضغوط كبيرة, لعدم تنفيذ الحكم, ولكن كانت عليها ضغوط أخرى مضادة أحدها بلا شك أن" لوردموين" كان إنجليزى الجنسية .

- كذلك قمنا بعملية حصر مماثلة لرجالات الأحزاب فى مصر, فقمنا بحصرهم فى منتطقتنا ودراسة مساكنهم ومسالكها وما تيسر من المعلومات عنهم. وأذكر أنى قمت ومجموعتى بدراسة بيت النقراشى باشا فى مصر الجديدة وغيره. لم يكن هدفنا حينذاك التعرض لهم ولكنها دراسات متعددة الأهداف, فمن أهدافها كان تدريب الإخوان على هذا النوع من الدراسات, ومنها احتمال الحاجة إليها فى يوم ما لعمل جاد, كما تم حصر عدد من الأهداف المحتملة والعمليات الممكن تنفيذها, ومنها شغل هذا الطاقة الدفاقة لنا كشباب عن أن يتصرف من تلقاء نفسه بدافع من حماسة كما كان يحدث أحيانا.وفى صفحة (1954) من ملف تحقيقات قضية السيارة الجيب نجد محررا تحت رقم " خمسة عشر" ما يأتى:


المخابــرات

1- رئيس القسم – يشرف على توجيه أعمال القسم بناء على توجيهات القيادة.

2- وكيل القسم يباشر تنفيذ توجيهات رئيس فرع المخابرات ومسئول أمامه عن نشاط القسم

3- الوحدات – تتكون الوحدة من عدة مجموعات أفرادها منبثون بين الهيئات والحركات, لاستقاء الأخبار وموفاة رئيس الوحدة بها وتوصية الأفراد وأمراء المجموعات كل فى اختصاصه.

4- الأفراد –يكونون مجموعات خماسية يوزع أفرادها على الهيئات الآتى بيانها ولا يقل عن سبعين شخصا توزيعهم كالآتى:

5 للدراسة والتعقب

15 للشيوعية

24 لسبعة أحزاب وهيئات

2 جهات أخرى

2 حزب العمال

10 نقابات عمال

2 البوليس السياسى

5 السكرتارية ورئاسة العمليات.

5- الأقاليم – ويلزم للقسم مكتب فى كل اقليم, وينظم مكتب الاسكندرية على غرار مكتب القاهرة"أ.هـ"

- ولكى تقارن تلك اليقظة المبكرة للنظام الخاص " للإخوان المسلمين والتى جاءت فى وقتها تماما, وكانت السبب الحقيقى وراء تحالف اليهودية والإستعمار وعملاءها ضده, تنقل الآتى بنصه مما جاء فى كتاب " ملفات السويس" صفحة (103) لمحمد حسنين هيكل, وكما نشرته له جريدة الهرام يوم (15 أكتوبر 1986), ليعلم القارىء أين كان "الإخوان المسلمون" ونظامهم الخاص كاغيرهم يغط فى نوم عميق, وينعم بأمتع الأحلام. قال: ولم تكن النظم الحاكمة فى العالم العربي قادرة على فهم ما يجرى قرب حدودها على خطوط الهدنة مع اسرائيل. ومن المؤكد أ،ه لم تكن هناك – خصوصا فى مصر – نظرة عميقة إلى طبيعة الفكرة الصهيونية ذاتها, ولا إلى الظروف الاقليمية التى أصبحت فيها إسرائيل واقعا قائما, ولا كان هناك التنبه الكافى إلى طبائع الصراع معها, ولا إلى أساليب إدارته فى المناخ الدولى المستجد, والذى راحت فيه الهيمنة الأمريكية تؤكد نفسها يوما بعد يوم. كانت دوائر الحكم فى مصر – القصر الملكى ومعظم الأحزاب السياسية – لا تعرف مافيه الكفاية عن الحركة الصهيونية وكان النظر إليها فى الفترة التى أعقبت الحرب مباشرة متأثرا بطابع إنسانى, لم يكن له فى حقيقة الأمر مبرر. وكانت معظم المعلومات لدى دوائر الحكم تجىء من الحاخام "حاييم ناحوم" (أفندى) حاخام اليهود فى مصر و" أصلان قطاوى" (باشا) وهو أبرز أفراد الجالية اليهودية فى مصر, وكان عضوا فى مجلس الشيوخ المصرى, وكانت زوجته وصيفة شرف لملكة مصر. وكل من هذين الرجلين كان يصور الحركة الصهيونية على أساس أ،ها مجرد تنظيم ليهود لاجئين من جحيم النازى, يبحثون عن مأوى يستطيعون العيش فيه بسلام ومن المحتمل أن كلا من هذين الرجلين لم تكن لديه صورة حقيقية عن مطالب الحركة الصهيونية الجديدة, ومن المرجح على أية حال أن الحاخام حاييم ناحوم (أفندى) كان يعارض فكرة إقامة دولة يهودية, لأن ذلك كان يمكن أن يؤثر على أوضاع اليهود فى العالم كله, فضلا عن أنه من الخطر – وربما من المستحيل – جمع يهود العالم كلهم فى دولة واحدة.

{لا نذهب مع الأستاذ هيكل إلى حسن الظن بناحوم وقطاوى}

رغم أن عددا من الساسة المصريين المهتمين بالقضايا العربية, كانوا يحاولون لفت النظر مبكرا إلى حقيقة الخطر الصهيونى, فإن الرأى الغالب فى مصر الرسمية كان يميل إلى اعتبار ذلك نوعا من المبالغة, وربما من هنا أن حكومة مصر طوال مدة الحرب, لم تمانع فى أن يكون فى مصر مركز لتدريب فيلق يهودى يشترك مع الحلفاء فى معارك الصحراء فى أواخر (1942) وطوال (1943) وكان هذا الفليق اليهودى هو النواة الأساسية للجيش الاسرائيلى فيما بعد. وحتى عندما بدأت الخطط الصهيونية فى فلسطين تتضح بما لا يقبل مجالا للشك بعد صدور قرار التقسيم, فإن الحكومة المصرية لم تكن على وعى بحدود الخطر الاسرائيلى.


مثــال آخـــر

- كذلك جاء بصفحة 1940 من ملف تحقيقاتقضية السيارة الجيب تقرير فريد فى نوعه أثبتته النيابة فى محضر الاطلاع برقم 19 وقد حرره الأخ رقم 55 – ولست أعرف من كان – جاء به أن أحد الإخوان {ذكر اسمه} لم يعد يبالى بالدعوة وصار يجاهر بذلك, وأنه يتعاطى الخمر والمخدرات فى مجالسه, وأنه يسعى وراء مطربة {ذكر اسمها} يجتمع بها وأصدقاؤه فى بيت الفنانين بدرب اللبانة بالمنشية, ثم غيروا المكان لأنه صار وكرا شيوعيا ومراقبا من البوليس, وأن الحفلات صارت تقام فى منازل الأصدقاء, وأن صديقا له سهل له الاتصال بشقيقة المطربة المذكورة, وأنه تعرف بفتاة إسرائيلية سنها السادسة عشرة...الخ

- وفى صفحة 2823 سئل الأخ فأجاب بأنه يعرف المطربة ويعرف أختها كما يعرف الصديق المذكور { مما يزكى التقرير} ولكنه نفى تعاطى المخدرات وتعرفه بالفتاة الإسرائيلية كما نفى معرفته بكاتب التقرير. ولا شك أ، مثل هذه المعلومات كان من الأهمية بمكان أ، تعرفه قيادة الجماعة لاتقاء آثاره, وأكثر من هذا كان الأستاذ حسن البنا يعرف اتصال بعض الأعضاء بالبوليس السياسى وكان أسلوبه فى ذلك أن يتركه دون أن يشعره بانكشاف أمره,وكان منطقه فى ذلك أنه يمكن استخدام ذلك العميل فى تسريب شىء يريد تسريبه, كما أن الجماعة لابد أ، تكون هدفا لعديد من الجواسيس فمن عرفناه منهم فغن بقاءه تحت أعين الجماعة أفضل من طرده واتخاذ مجهول غيره بواسطة أعداء الجماعة. كانت عند الإخوان معلومات وافية عن الأنشطة الداخلية والظاهرة للأحزاب وكذا الجماعات الوطنية السرية التى بدأت تظهر مع نهاية الحرب العالمية الثانية خاصة بمنطقتى القاهرة و|الإسكندرية. وقد أخبرنى أحد إخوانا المخابرات بعد ذلك أننا كنا نعلم من قبل عن محمود عيسوي الذى قتل رئيس الوزراء أحمد ماهر .وأنه كان عضوا فى مجموعة من ثلاثة أعضاء من الحزب الوطني وانهم كانوا يتدربون يوما على استعمال السلاح على الحدود بين صحراء حلوان وحقل ذرة فأصابوا امرأة وقتلت عفوا.


مخـابـرات الإخوان

- وكان يتبع النظام الخاص قسم للمخابرات يبدو أنه أنشىء مبكرا, فأدخل بعض إخوان النظام فى الأحزاب والهيئات الأخرى بمصر حتى نكون يقظين لما يجرى على الصعيد السياسى فى مصر. وكان من الأمثلة الناجحة فى هذا الشأن الأخ أسعد السيد أحمد الذى انضم إلى حزب مصر الفتاة حتى وصل إلى الحرس الحديدى الذى أنشأه لحنايته زعيم الحزب الأستاذ أسعد أحمد حسين. ذلك الحرس كان مكونا من ستة أفراد . وأصاب الملل أسعد من تلك المهمة لأنها كانت تحرمه من التردد على دور الإخوان حتى لا ينكشف أمره, فذهب يعرض على الزعيم أن يندس فى صفوف الإخوان ليأتيه بأخبارهم, وأعجب الزعيم جدا بالفكرة فرد موسى إلى أمه. انكشف أمر اسعد بعد ذلك فى قضية السيارة الجيب, وتطوع الأستاذ أحمد حسين كمحام للدفاع عنه, وكان أهم ما عنى به أن يتبين أمرا.... هل كان أسعد من الإخوان واندس على مصر الفتاة, أم كان من مصر الفتاة واندس على الإخوان فقبض عليه معهم؟!

- وفى بعض فترات الخلاف بين حزب مصر الفتاة والإخوان كان للإخوان مؤتمر كبير ومزدحم فى دراهم بالحلمية الجديدة فأرسل الحزب اثنين من أعضائه لتفجير عبوة وسط الجموع. وجاءنا العلم بهما فكنا فى انتظارهما وما أن جاءا وجلسا حتى قبض الإخوان عليهما وحبسوهما فى حجرة ببدروم الدار تحت الحراسة بعد تجريدهما من المفرقعات. وطال انتظار الأستاذ أحمد حسنين دون أن يسمع الانفجار, وبعد انتهاء المؤتمر اتصل به الأستاذ البنا تليفونيا وقال له " لك عندنا أمانة, إن كان يهمك أن تستردها فلتحضر" وجاء أحمد حسين فسلمه الأستاذ البنا عضوى حزبه وأكياس المفرقعات, ولا أعلم مادار بينهما من حديث, ولكنه كان درسا جعل مصر الفتاة لا تعود لمثلها أبدا.

- ولا يعنى هذا أ، العلاقة بين الجماعة والحزب كانت دائما علاقة خصومة فقد كانت مصر الفتاة حزبا مثل كل حزب من حيث الشكل القانونى ولكنه تميز عنها بحيوية لم تكن لها وضم فى صفوفوه عددا من الشباب المتحمس ولكنه لم يكن أبدا فى حجم الإخوان, وساهم فى النشاط السياسى فكانت له مواقف قبلها الإخوان ومواقف لم يؤيدوها, وللحزب فى ذلك حقه وللإخوان حقهم.

وفى خطابه فى المؤتمر الدورى الخامس " للإخوان المسلمون عام (1357)هـ 1938م تناول الأستاذ البنا الموقف بين الإخوان ومصر الفتاة, فكان مما قال:

- "وإن كثيرا من الناس يود لو اتحدت جماعة مصر الفتاة مع "الإخوان المسلمون", ,هذا شعور ما من شك فى أنه جميل نبيل, فليس أجمل من الوحدة والتعاون على الخير, ولكن الأمور ما ليس يفصل فيه إلا الزمن وحده. فى مصر الفتاة من لا يرى الإخوان إلا جماعة وعظية, وينكر عليهم كل ما سوى ذلك من منهاجهم, وفى الإخوان من يعتقد أن جماعة مصر الفتاة لم ينضج فى نفوس كثير من أعضائها بعد المعنى الإسلامي الصحيح نضجا يؤهلهم للمناداة بالدعوة الإسلامية خالصة سليمة, فلنترك للزمن أداء مهمته وإصدار حكمه, وهو خير كفيل بالصقل والتمييز.

- بقى أمر أخير ذلك هو موقف الإخوان من مصر الفتاة فى قضية تحطيم الحانات,ومعلوم أنه ما من غيور فى مصر يتمنى أن يرى فوق أرضها حانة واحدة, وقد ألقى الإخوان تبعه هذا التحطيم على الحكومة قبل الذين فعلوه, لأنها هى التى أحرجت شعبها المسلم هذا الإحراج ولم تقطن إلى ذلك التغيير النفسانى والاتجاه الجديد القوى الذى طرأ عليه من تقديس الإسلام والاعتزاز بتعاليمه... ونحن نعتقد أن هذا التحدى لم يحن وقته بعد, ولابد من تخير الظرف المناسب أو استخدام منتهى الحكمة فيه, وإنفاذه بصورة أخف ضررا وابلغ فى الدلالة على المقصد كلفت نظر الحكومة إلى واجبها الإسلامي. وبالرغم من أن المفوض عليهم لم يعترفوا, فقد وجه الإخوان خطابا إلى معالى وزير العدل يلفتون نظر معاليه إلى وجوب النظر إلى هذه القضية نظرة خاصة تتناسب مع الدافع الشريف فيها, وأن يسرع بإصدار تشريع يحمى البلاد من هذه المهالك الخلقية.{أ.هـ}

- وأحيانا كان أحمد حسين يزور المركز العام للإخوان المسلمون ويلقى خطاباته وقد ظهرت بقضية السيارة الجيب تفارير بعضها بخط اسعد عن تفجيرات مصر الفتاة ومكانها فضبطت وكانت لها قضية اتهم فيها سعد مهدى محمد أبو النجا من الحزب. وتقارير عن الشيخ عبد الرحمن الصوالحي من الحزب الوطني وأنه كان يحتفظ ببعض المتفجرات لدى الشيخ عبد المنعم النمر – وزير الأوقاف بعد ذلك فى عهد أنور السادات – بمنزله بشبرا فكانت سببا للقبض عليهما. كنت فى زنزانة رقم 61 نت دور 6 بسجن مصر العمومى وكان الشيخ نمر يجاورنى فى رقم 60 فكانت صداقة. ورغم الحبس كانت وروحه مرحة فكهة. سأل أسعد عن مبررات التقرير الذى كان سببا فى القبض عليه ولمن كان يكتبه, ولم يشأ اسعد أن يخبره عن مخابرات الإخوان فأجابه بأنه كتبه لنفسه وللتاريخ, فأطلق عليه الشيخ النمر اسم الجبرتى.


عـــود إلــى الأحـــداث

- قلنا إن الإخوان قرروا النزول إلى المعترك السياسى مع انتهاء الحرب العالمية الثانية, ومن ابرز أحداث تلك الفترة اغتيال أحمد ماهر باشا رئيس الحزب السعدى بمصر. لم يكن قاتل أحمد ماهر من الإخوان ولكنه كان من الحزب الوطني وكان هدفه من اغتياله منعه من إعلان الحرب على دولتى المحور – ألمانيا وإيطاليا – والزج بمصر فى حرب لا شأن لها بها. وننقل هنا عن اللورد كيلرن السفير الانجليزى فى مصر حينذاك ما اثبت فى مذكراته.. فيما نشر فى كتاب "الدبابات حول القصر" ص128. قال:

- " بعد أسبوع واحد من زيارة تشرشل وفى 24 فبراير 1945 دق جرس التليفون فى مكتبى. وكان الجنرال سمارت على الطرف الآخر من الخط... وقال لى أنه سمع الآن أن أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء قد أصيب بجراح بالغة عقب محاولة لاغتياله فى ردهة مجلس النواب. وقال إن الجانى أطلق على أحمد ماهر باشا الرصاص من مسدس, إنه أصيب بثلاث رصاصات, وطلب منا المصريون إرسال طبيب عسكرى بسرعة.

- " وعلى الفور اتصلت بالجنرال باجيت لإرسال طبيب من الجيش البريطانى إلى السفارة ليصحبنى إلى مكان الحادث حيث كنت أنوى الذهاب إلى هناك. ولكن بعد عشر دقائق اتصل بى سمارت مرة أخرى ليبلغنى أن أحمد ماهر باشا قد توفى .

قال محمود العيسوي رحمه الله فى التحقيق: إنه ينتمى إلى الحزب الوطنى وذكر محسن محمد فى كتابه "من قتل حسن البنا"{ص78} عن عبد العزيز علي من قادة النضال السري للحزب الوطنى إن محمود العيسوي من شباب الحزب. ثم نسب إلى الشيخ السيد سابق أنه ذكر للدكتور خالد محمد خالد أن محمود العيسوي من صميم الإخوان المسلمين, وأن الشيخ أحمد حسن الباقوري ذكر فى مذكراته أن النظام الخاص هو الذى وجه محمود العيسوى لاغتيال أحمد ماهر. والذى تؤكده أن محمود العيسوى رحمه الله كان من الحزب الوطني ولم يكن من الإخوان. - متأثرا بجراحه. ورأيت أننى يجب أن أصحب الطبيب معى رغم ذلك للتأكد من صحة تقرير الوفاة. واقترح الجنرال باجيت أن نخطر القادة العسكريين للقوات البريطانية فى مصر أن يقفوا فى حالة استعداد لمواجهة أية طوارىء ووافقته على هذا الرأى."

- وركبنا السيارة إلى مبنى البرلمان, وكان البوليس يحاصر المكان تماما, وبعد أن اخترقنا حصار البوليس وجدنا باب البرلمان مغلقا. ولكن جايلز بك {انجليزي الجنسية} الذى كان يعمل بالبوليس المصرى فتح لنا الباب. وكان كل شىء بالداخل عبارة عن فوضى. واقترح أحد ضباط البوليس أن أذهب لرؤية الجانى الذى احتجزوه فى غرفة مجاورة. وقلت له إن هذا لا يهمنى بالمرة. وأننى أريد رؤية رئيس مجلس النواب فورا. وعثرنا عليه فى إحدى الغرف مع عدد من كبار المسئولين وأكدوا لى جميعا حادث إطلاق الرصاص وأن أحمد ماهر باشا مات وأن جثته نقلت إلى منزله.

- "وبصعوبة بالغة خرجنا من المكان الذى كان حافلا برجال البوليس وكانوا يفتشون كل من يقابلونه فى المبنى. وتوجهنا إلى وزارة الداخلية حيث قيل لنا إن النقراشى باشا قد انصرف. وعلى سلم الوزارة قابلت مكرم عبيد باشا الذى أكد لنا الأنباء. وقررت أن أتوجه إلى قصر عابدين فورا. ولم أجد حسنين باشا هناك. فطلبت من كبير الأمناء أن يبلغ الملك فاروق تعزيتى الخاصة. ثم توجهنا إلى منزل أحمد ماهر باشا بالقرب من القبة..."

- " إن وفاة أحمد ماهر باشا خسارة كبيرة لنا فقد كان صديقا شخصيا لى طوال السنوات الماضية. كما كان مخلصا لنا ويساعدنا فى معظم الأحيان. ومن الصعب التنبؤ بآثار هذه الخسارة علينا. ومن الواضح أن الذى قتل أحمد ماهر من الوطنيين المتطرفين. وأنه أطلق على أحمد ماهر الرصاص لاقتراحه دخول مصر بالحزب. وقالوا لى إن هذا الرجل بعث بخطاب إلى أحمد ماهر يهدد فيه بالقتل إذا مضى فى خطته لإعلان الحرب ضد ألمانيا. ,وأن الخطاب وصل إلى رئيس الوزراء فى نفس اليوم وسلمه إلى رجال البوليس ولكن يبدو أنهم لم يتخذوا إجراءات كافية.


وزارة النقراشي

- مات أحمد ماهر وتولى رئاسة الوزارء من بعده – بنفس وزراء الوزارة – محمود فهمى النقراشى باشا.

- ولد النقراشي بالإسكندرية 1888 وتخرج فى مدرسة المعلمين بالقاهرة ثم أرسل فى بعثة إلى جامعة نوتنجهام بانجلترا, وبعد عودته اشتغل مدرسا للغة الإنجليزية بمدرسة رأس التين بالإسكندرية, ثم عين ناظرا لمدرسة الجمالية بالقاهرة 19141919 فمديرا للتعليم بأسيوط ونقل فى العام التالى وكيل إدارة بوزارة الزراعة ثم مساعدا لسكرتير عام وزارة المعارف العمومية.

- وقد انضوى إلى حزب الوفد ورقى عام 1924 وكيلا لمحافظة القاهرة ثم وكيلا لوزارة الداخلية, وقبض عليه فى أواخر 1924 فى حادث مقتل السير لى ستاك باشا سردار السودان, وأفرج عنه فى فبراير التالى, ثم أعيد القبض عليه بعد ثلاثة أشهر لاتهامه فى بعض الجرائم السياسية ولكنه برىء منها.

- وتولى وزارة المواصلات فى وزارات الوفد 1930و1936و1937 ثم أخرج من الوزارة لخلافه مع النحاس باشا وانضم إلى أحمد ماهر باشا فى تكوين الحزب السعدى {نسبة إلى مبادىء سعد زغلول} وعين وزيرا للداخلية فى الوزارة الائتلافية 1938 ثم تقلد وزارة المعارف ثم الداخلية مرة أخرى ثم فى 1940 وزيرا للمالية! وبعد مصرع أحمد ماهر فى فبراير 1945 تولى رئاسة الوزارة. وكتب إحسان عبد القدوس مقالا فى مجلة روزاليوسف عنوانه "هذا الرجل يجب أن يذهب" والمقصود كان السفير الإنجليزى, ولم يتردد النقراشي فى مصادرة المجلة والقبض على إحسان عبد القدوس. وبدأ النقراشي شابا نجاهدا وانتهى باشا جلادا.

- كان فى نظر الإخوان غبيا متغطرسا أحمق, أطلق عليه بعض إخواننا اسم "ابو جهل" وكان الأستاذ البنا ينهى الإخوان عن مثل ذلك. وفى وزارته هذه شددنا الضغط فى شأن أمانينا القومية مطالبين بالجلاء ووحدة وادى النيل واصطدمنا به صدامات عدة فى شكل مظاهرات طلابية.


مظـاهـرة كـوبـرى عبـاس

- وفى عهد هذه الوزارة وقع حادث كوبرى عباس الشهير الذى أعده البوليس كمينا لمظاهرة سلمية قادها الأخ مصطفى مؤمن,خرجت من الجامعة فى اتجاه سراى عابدين, ولكنها ما أن بدأت تجتاز الكوبرى من جهة الجيزة نحو الروضة حتى حاصرتها القوات من الجهتين ولم تترك لها منفذا وراحوا يضربون الطلاب بالسياط والهراوات على رءوسهم حتى سقط كثير من الجرحى وقبضوا على بعضهم. لم يكن لذلك التصرف الأحمق ما يبرره فقد كانت المظاهرة سلمية تهتف مطالبة بجلاء الإنجليز ووحدة وادى النيل, وقد شاع حينذاك أن القتلى بلغوا كذا وكذا, ولكن الذى أؤكده – وقد شهدتها واصابتنى بعض هراوات الشرطة – أن أحدا لم يقتل يومها رغم أن كثيرين ألقوا بأنفسهم من فوق الكوبرى إلأى النيل أو إلى ضفته الطينية من جهة الجيزة, ولكنها على أى حال كانت مذبحة أسفرت عن مئات الجرحى, وفضت المظاهرة بعنف بالغ فلم تبلغ عابدين ولم تتجاوز كوبرى عباس, ومع ذلك استطاع مئات ممن شهد المذبحة على الكوبرى الفرار وقبض على كثيرين. واكتسبت هذه المظاهرة شهرتها حيث كانت سلمية تماما تطالب هتافاتها بجلاء جيش الاحتلال وتتجه إلى القصر الملكى بعابدين فاستقبلها البوليس بكمين ومجزرة لا مبرر لها على الإطلاق.


عيد ميلاد الملك

- كان ذلك فى الثلث الأول من شهر فبراير 1946 ولعله كان فى اليوم التاسع منه.وفى اليوم التالى امتلأ حرم الجامعة بالجرحى من طلاب مظاهرة الأمس, كانت رءوسهم مضمدة وأذرعهم معلقة فى أعناقهم بأربطة الشاش, فكان منظرا مثيرا حتى لمن لم يشهد المظاهرة. وأجمعت الجامعة عن بكرة أبيها على الإضراب احتجاجا على همجية وزارة النقراشى. وألقيت الخطب الملتهبة فى الجامعة... كانت الجامعة فى أبهى زينة بمناسبة اقتراب عيد ميلاد الملك, وكان مقررا أن يضع الملك حجر الأساس للمدينة الجامعية, ولكن الطلاب حطموا الزينات وداسوا صورة الملك وفتحوا صنابير الحريق فأغرقوا مكان الاحتفال. ورغم ما حدث بالأمس فقد تحركت جموع الطلاب تريد الخروج فى مظاهرة تحد جديدة. وتصدت قوات البوليس للمظاهرة من شارع الجامعة, وفى خروج المظاهرة من باب الجامعة اندفع أحد طلاب كلية التجارة فسقط تحت عجلات لورى فقتلته, وحمل الطلاب زميلهم القتيل وارتدوا به إلى الجامعة, وأرادوا الخروج به فى شكل جنازة, ولكن السلطات أبت. وأخفيت الجثة وظل الحرس الجامعى يبحث عنها. ثم أمكن تهريبها فى سيارة خاصة إلى كلية الطب بشارع قصر العينى وأعطيت التعليمات سرا إلى جميع الطلاب فتسللوا من الجامعة إلى كلية الطب. وأقفرت الجامعة من الطلاب فى حين امتلأت كلية الطب, وهناك عاد الحرس الجامعى يفتش الكلية بحثا عن الجثة وكانت قد أخفيت فى دولاب للمهمات بالمشرحة فلم يعثروا عليها, وأقمنا بعض المتاريس وأعددنا الحجارة اللأزمة لقذف البوليس.

- وازدحمت قوات البوليس حول الكلية وظلت تتزايد وأمسينا ونحن هناك واستطاع الدكتور كمال عبد النبي {سفير مصر فى باريس بعد ذلك} أن يتسلل إلينا داخل الكلية وأن يبلغنا تعليمات المرشد العام بالإنصراف فرادى حيث إن النقراشي قد أعطى تعليماته للبوليس بإقتحام الكلية والقبض على كل من يوجد بداخلها. وما كدنا ننصرف حتى قام البوليس بهجومه على كلية الطب من خلال مستشفى قصر العينى, واعتدى فى هجومه ذاك بالضرب على المرضى فى أسرتهم واقتحم الكلية وقبض على من كان مازال بها... واستولى على الجثة, وأعلن إغلاق الجامعة.

- وفى اليوم التالى... عيد ميلاد الملك {11 فبراير 1946} – ورغم كل ما حدث – ذهب الملك طبقا للبرنامج السابق وضعه ليضع حجر الأساس للمدينة الجامعية , ولكن... لم يكن بالجامعة طلاب... كان هناك مصابيح ملونة محطمة وأسلاك كهرباء مقطعة وملقاة فى كل مكان وشعلة كبيرة امتدت إليها يد التدمير ومياة تغمر المكان كله, سارت فى وسطه سيارة الملك إلى مكان الاحتفال.

- وهناك أقيم الخطباء الذين سبق إعدادهم وألقى كل خطبته ومنهم مندوب عن الطلاب. وسأل الملك" أين الطلاب؟!" فكان مكرم عبيد باشا هو الذى أجابه " فى السجون والمستشفيات يا مولانا"


النقراشي يترنح

- كان الإخوان المسلمين هم زعماء تلك الحركة وقادتها وجنودها, وطلاب الجامعة من ورائهم.ولذلك حين وجه الأستاذ البنا رسالة إلى السراى يطلب فيها إخراج النقراشي من الحكم فقد كان لذلك الطلب وزنه... بل كان – ولو أ،ه لم يحمل ذلك الأسلوب – بمثابة إنذار. وفى منصف الليل وقفت سيارة ملكية فاخرة فى الحى الشعبى الحلمية الجدية أمام البيت المتواضع الذى يسكنه الرجل الفقير الذى يهز الدولة ويهز العرش... حسن البنا. وطلب الرجل لمقابلة عاجلة مع رئيس الديوان الملكى أحمد حسنين باشا. وكان موقف حسن البنا حاسما وواضحا...لقد أساء النقراشي بالاعتداء على أبنائنا الطلاب الذين لم يقترفوا إثما إلا المطالبة بأمانينا القومية... إنهم لم يطلبوا إلا جلاء قوات الإحتلال ووحدة وادى النيل, وهى مطالب مشروعة لا ينكرها إلا خائن... ولذلك لابد أن يخرج النقراشي من الوزارة. ولم يخرج الرجل من سراى عابدين إلا ومعه وعد بذلك. وسئل عن رأيه فيمن يلى الوزارة من بعد النقراشى, وأجاب لا يهمه شخص من يجىء.. المهم سياسته.


مقـابلة مع حسنين باشا

- وفى نفس الوقت كانت اتصالات أخرى تجرى معنا نحن الطلاب. اتصل بى عمر أمين سكرتير قسم الطلاب حينذاك وكان طالبا بكلية الهندسة وطلب إلى الحضور – مندوبا عن كلية التجارة – فى موعد حدده بميدان عبد المنعم بالدقى لمقابلة رئيس الديوان الملكى! وفى الموعد وجت مندوبين من الإخوان عن سائر الكليات. كنت فى العشرين من عمرى وكانوا نحو ذلك. وتقدمنا إلى الفيللا التى كان يقطنها أحمد حسنين باشا فأدخلنا إلى حجرة الصالون. وعلمت أن واسطة الاتصال بين الباشا وبيننا كان الصحفى المعروف الأستاذ مصطفى أمين وكان هو نفسه حاضرا. كما شهد جانبا من الاجتماع كريم ثابت المستشار الصحفى للقصر الملكى. وجاء الباشا وكان حريصا مل الحرص أن يتباسط معنا فى الحديث, وبدأ حديثه بذكرياته عن أيام شبابه وعن رحلته فى صحراء مصر الغربية وعن هوايته للعبة الشيش وأنه أجادها إلى المستوى الذى جعله يحصل على ميداليات وكئوس لتفوقه فى مبارياتها, واستطرد فى الحديث عن لعبة الشيش وأن كل بطل له حيله الخاصة فى تلك اللعبة التى يحرص على ألا يبوح بأسرارها, ولكنه الآن وبعد أن بلغ تلك السن فإنه لا يبخل بتلك الأسرار على أبنائه من الشباب, وظل يدور حول معنى الشباب من زوايا متعددة إلى أن ذكر أن جلاله الملك شاب مثلنا وأنه يحبنا لأننا من جيله ويحس بأحاسيسنا ويشعر بمشاعرنا, وسقط كريم ثابت فقال: إن الملك مثلنا يحب معاكسة الفتيات وله فى ذلك صولات وجولات, ولم يكن منتبها فيما يبدو إلى أننا إخوان مسلمون, وأراد حسنين باشا أن يتدارك الأمر ولكن بعد فوات الأوان. واستمر يقول: إنه لذلك فهو – جلالة الملك – عاتب علينا أشد العتب لما فعله الطلاب فى الجامعة, وإنه فوجىء أشد المفاجأة لأنه كان يفهم وهو قادم أنه إنما جاء ليضع حجر الأساس لمشروع يفيد منه الطلاب حيث يجدون المأوى بدلا من الضياع ويغنيهم عن البحث عن مساكن لا تليق بهم ولا يجدون إيجارها, وأن جلالته رأى الطلاب قبل ذلك يوم اصطحب جلالة الملك عبد العزيز آل سعود لزيارة الجامعة فقال له:" لماذا أرى وجوه الطلاب صفراء يا حسنين؟ لابد أن تعمل لهم مشروعا للغذاء" والآن يجىء لمشروع إنشاء المدينة الجامعية فتقابلونه هذه المقابلة يا غجر! قالها بدلال بالغ وتصنع للعشم الذى ينقله لنا عن الملك.

- وأجبنا بأن النقراشي أساء وضربنا. قال هناك سلطة عليا فى البلاد وهى الملك وانه باستطاعتنا أن نشكو النقراشى إلى الملك. قلنا إن النقراشى منع المظاهرة سليمة من الوصول إلى قصر عابدين وزج إخواننا فى السجون وهو ما زال يبحث عنا للقبض علينا!.. وانتهى الحديث بيننا إلى أن أصبح صفقة... النقراشي يخرج الحكم ويفرج عن المقبوض عليهم وتحفظ القضايا ونحن نقوم بمظاهرة من الجامعة إلى قصر عابدين تهتف بحياة الملك! حفاظا على كرامته فى البلاد وقد ضحى الملك بالنقراشى وكان كل ما يهمه هيبته هو. وكان ما يهمنا سقوط النقراشى والإفراج عن إخواننا.


وزارة صــدقى

- ذهب النقراشي فى فبراير 1946 وجاء من بعد إسماعيل صدقي. ولصدقى باشا تاريخ أسود, فقد ترأس الوزارة قبل ذلك عام 1930, وفى بعض الإضرابات الطلابية التى أثارها ضده خصومه أمر البوليس فاقتحم المدارس وضرب الطلاب بالرصاص فى الفصول. عاد إسماعيل صدقى وبدأ يخطب ود الإخوان ويطلب علانية – الصفح عن ماضيه ويستشهد فى سبيل ذلك بمستقبله وما سوف يفعل لقد كان الظن أن الملك سيعهد بالوزارة إلى خاله شريف صبري, فلما عدل عن ذلك فجأة إلى إسماعيل صدقى ظن الرجل أن حسن البنا هو الذى طلبه, ولعله نما إلى علمه أن مقابلة تمت بين وأحمد حسنين. ومر على دار الإخوان بالحلمية الجديدة فلم يجد المرشد العام فانصرف بعد أن ترك له بطاقة وتحرى الأستاذ البنا وقتا يعلم غياب صدقى فيه عن مكتبه فرد له الزيارة وترك ورأى الإخوان أن يمنحوا الرجل الفرصة التى استجداها. وقد أثار هذا ثائرة حزب الوفد على الإخوان فقد كان صدقى هو عدوه اللدود. واحتمل الإخوان من أذى الوفد وسلاطة ألسنة صحفه الشىء الكثير, وانحاز الشيوعيون إلى الوفديين فى هذا, فقد كانوا يدركون دائما أبدا أن لا حياة للشيوعية فى وجود الحركة الإسلامية وكثيرا ما ركبوا موجة الوفد.

- ووعد صدقى ووعد... وأسرف فى الوعود. وسافر إلى لندن فى 17/10/1946 وظل يتفاوض مع وزير الخارجية البريطانية مستر بيفن وكان يصحب صدقى فى هذا وزير خارجيته إبراهيم عبد الهادى, وأخيرا عاد صدقى وخرج على الأمة بما اسماه مشروع معاهدة " صدقى – بيفن" . ولم يكن ذلك المشروع بالذى يحقق للأمة أمانيها وإنما كان صيغة أخرى لمعاهدة 1936, وبه من النصوص ما يربط مصر بعجلة الامبراطورية العجوز, فقد كان ينص على الوجود الإنجليزى فى مصر فى حالة الحرب أو التهديد بالحرب, وكان ما عرف عن مشروع المعاهدة قبل سفر صدقى وإبراهيم عبد الهادي إلى لندن يكفى لرفضها فرضها الإخوان وانتقدوها. ولكن صدقى أعلن أنه سيوقع المعاهدة... واشتدت مهاجمة الإخوان لصدقى وللمعاهدة, وعادت الجامعة تشتعل بالاضرابات والمظاهرات الفرية التى ظل الوفديون والشيوعيون يكررونها.

- وأطلق بوليس صدقى النار على مظاهرة جامعية يتزعمها الإخوان ففضها. وفى اليوم التالى 23/ 9/ 1946 تجددت المظاهرات بقيادة الإخوان أيضا وكانت يومذاك مسلحة, فما أن أظهرت قوات البوليس بسلاحها حتى ألقيت عليها تسع قنابل يدوية بشارع الجامعة بين كلية الزراعة وميدان الجيزة – من النوع الصوتى لتخويف البوليس وتفريقه... وقد كان. إلا أن بعض العساكر قد اصيب وتوفى أحدهم فى اليوم التالى 24 / 9. وأصدر صدقى باشا قرارا بإغلاق الجامعات والمدارس وتعطيل الدراسة, وكان وزير معارفه حينذاك محمد العشماوي باشا.

وفى رسالة من الأستاذ حسن البنا إلى شعب وادى النيل على الصفحة الرابعة من جريدة "الإخوان المسلمون" 10 أكتوبر 1946 جاء فيها:

" إن حكومة صدقى باشا فى إصرارها على إجراء المفاوضات لا تمثل إرادة الأمة. وأى معاهدة أو تحالف تتوصل إليه مع بريطانيا قبل أن يتم جلاء قواتها هو إجراء باطل ولن يلزم الأمة".

- وحسب صدقى أن الحالة تحصر بإغلاق الجامعة بؤرة المظاهرات, والواقع أن غير الإخوان لم يكن لهم ميادين أخرى, ولكن الإخوان واجهوه بمظاهرات صاخبة تخرج من المساجد بعد صلاة الجمعة, فشدد حراسته على المساجد وخاصة فى أيام الجمعة وكان مستعدا لضرب المصلين فى المساجد حتى امتنع بعض الناس عن الصلاة فى المساجد... فويل للمصلين! لولا أن غير الإخوان من تكتكيهم فنظموا بعض المظاهرات من المساجد أيضا ولكنها كانت ليلة تخرج بعد صلاة العشاء. وظلت قوات البوليس متأهبة فى حالة طوارىء مدة طويلة حتى أصاب رجالها الإعياء. وفى ليلة قررت قيادتها منح بعض قواتهم راحة. كان ذلك يوم 16 / أكتوبر / 1946 شن الإخوان مظاهرات ضخمة فى جميع أنحاء البلاد.

- فى تلك الليلة تصادف أن كان الإخوان قد أعدوا عدتهم لمظاهرة من نوع جديد. ففى تمام الساعة السابعة والنصف بدأت مظاهرة فى حى شبرا وأخرى فى الجيزة واتجهت قوات البوليس إلى هذين الحيين من أطراف القاهرة . ولكن جمهور الإخوان كا يتجمع فى ميدان العتبة بوسط القاهرة. ومع دقات الساعة الثامنة من ساعة البريد كان سعد الدين الوليلى يعتلى الأكتاف ويهتف بهتاف الإخوان " الله أكبر ولله الحمد" واجتمع الإخوان حوله فى ثوان وسارت المظاهرة من العتبة بحذاء حديقة الأزبكية نحو شارع فؤاد وتستمر المظاهرة, فإذا حضر البوليس مرة أخرى فلنتفرق ثم نتجمع من جديد عند شارع عماد الدين وتستمر المظاهرة.... وهكذا. ولكن الذى حدث أن البوليس الذى جذبته المظاهرتان الخادعتان فى شبرا والجيزة لم يحضر فاستمرت المظاهرة من العتبة حتى الإسعاف. ووقف بعضنا هناك يتساءل... والآن ماذا تفعل؟. وكان الجواب " انصرف".

وجاءت قوات البوليس بعد ذلك. لا يطيب لبعض العقلاء هذا الأسلوب من المظاهرات, ويتساءلون ماذا خسر الإنجليز بتحطيم المصابيح ؟ لم يكن الأمر أمر المصابيح ولا مركبات الترام ولكنه كان إعلان السخط على الحكومة فى سياستها التى تحدث بها إرادة أمتها, فهو أسلوب من أساليب زلزلة أقدامها لإسقاطها حتى لا يتم لها ما تريد. وعلى الأثر أصدر صدقى باشا بيانا يعلن فيه أن بعض الدهماء من المشاغبين فعلوا كذا وكذا. وأنه لن يخضع أبدا لتوجيه الدهماء وأنه ماض فى سياسته وأنه سيوقع معاهدة " صدقى – بيفن" وكان فى ذلك يرد على هتافات المظاهرات... يسقط صدقى ويسقط بيفن.


يــوم الحــريــق

- وأعلن الإخوان عن يوم الحريق, وهو يوم غير معلن موعده تحرق فيه الجرائد والمجلات والكتب الإنجليزية كرمز لمقاطعة الإنجليز وإعلامهم وثقافتهم. وتم ذلك فجأة فى ليل 25 نوفمبر 1946 فى أماكن عديدة من القاهرة والأقاليم وقد شاركت فى إحراق بعض أجولة فى تقاطع شارع الملك { مصر والسودان الآن} وشارع الملكة نازلى {رمسيس الآن} وقد تم ذلك عن طريق شعب الإخوان وكانت هذه لشعبة حدائق القبة.


ضـرب أقسـام البوليس

- ألقى الباشا القفاز فى وجهنا, فلم يكن إلا تصعيد المقاومة. ووزعت أقسام البوليس بمدينة القاهرة على بعض المجموعات لدراستها. وجلست مجموعتنا فى بيت احدنا تعد اللفائف المتفجرة. كان بكل لفافة بعض أصابع الجلجنايت وبها مفجر اتصل به قطعة من الفتيل السود طوله أربعون سنتيمترا, تكفى اشتعاله أربعين ثانية, وفى نهايته مشعل كيماوى يشتعل بالضغط عليه بزراديه أو بكعب الحذاء.

- كان المطلوب تفجير تلك العبوات فى أقسام البوليس ذاتها, فى كل قسم عبوة بحيث لا تصيب أحدا. لقد كانت المتفجرات ملفوفة فى ورق كرافت فليس لها شظايا ومن الممكن ألا تصيب, ولكن الفرقعة فى حد ذاتها كانت مطلوبة لإعلان عن أن قسم البوليس هذا قد ضرب بالقنابل. لم نكن نبتغى أكثر من الفرقعة وكان قسم مصر الجديدة هو نصيب مجموعتنا. وتم توزيع العبوات المتفجرة على المجموعات المشتركة فى العملية. وانتظرنا كل مجموعة فى بيت واحد منها فى انتظار أوامر الانطلاق, ولكن جاءت التعليمات بتأجيل العملية والانتظار فى اليوم التالى. وكان اليوم التالى كسابقه مع تعليمات بزيادة دراسة الأقسام.

- وفى اليوم الثالث جاءت التعليمات فى الساعة التاسعة والنصف مساءا بأن يكون التنفيذ فيما بين الساعة العاشرة والعاشرة وعشر دقائق, فمن لم يتمكن من التنفيذ فى خلال تلك الفترة فليعد دون تنفيذ. وليس عليه أن ينفذ بعد الميعاد وذلك لخطورة العملية حيث سيكون كل قسم قد علم بما حدث للأقسام الأخرى فيتخذ حيطته وتستيقظ حراسته.

- وتعسرت معنا المواصلات فلم نتمكن من الوصول إلى قسم مصر الجديدة فى الموعد المناسب. وعز علينا أن نعود بمتفجراتنا فاتجهنا إلى نقطة بوليس حدائق القبة عسى أن نجد فيها هدفا مناسبا. ولكن كان هناك زفاف فى منزل يقابلها وقد امتلأ بالكهارب والزينات التى أحالت الليل نهارا كما امتلأ الشارع بالأطفال الفرحين بالفرح فانصرفنا عنها إلى هدف آخر. كان ذلك فى 4 ديسمبر 1946. وبتنا على جمر حتى الصباح, ثم تهاتفنا على الصحف وقد نشرت أخبار ضرب أقسام البوليس على صفحاتها الأولى بخط كبير. وكأنما شعر والدى بشىء فراح يسألنى أين كنت ليلة أمس, ولكنى لم أخبره, وفى لقائنا مع قيادتنا علمنا أن العملية تمت بنجاح وأن جميع إخواننا قد عادوا بسلاك, إلا أن أخانا الذى وضع عبوة قسم الموسكى بميدان العتبة قد حشرها فى نافذة بين الزجاج والحديد فأدى انفجارها إلى شظايا أصابت بعض الناس وشرطة القسم. كما وضعت قنبلة قسم عابدين فى سيارة لورى مما يحمل عساكر الشرطة كانت تقف أمام القسم, وضعها على المقعد الأمامى إلى جوار السائق الذى كان يغط فى نومه من الإرهاق والتعب, ولحسن الحظ والحمد لله لم تنفجر وكانت هى الوحيدة التى عثروا عليها صحيحة وأجروا عليها بحوثهم وعرضوها على خبير القنابل والمفرقعات بفرقة مطافى القاهرة فوضع عنها تقريرا وصفها فيه وصفا دقيقا وذكر أنها صناعة محلية ثم قال عن النشعل إنه صفيحة أمان تنزع ليشعل الفتيل بالكبريت! فكانت مادة لتكهنا وتنذرنا.

- لقد أعلنت وزارة الداخلية عن مكافأة 2500 جنيه{ على ما أذكر} لمن يرشد إلى الفاعل أو معلومات تؤدى إلى الفاعل, ولكن أحدا لم يتقدم بأى شىء. وعلى أثر هذه العملية تنازل إسماعيل صدقي عن كبريائه وغطرسته فكتب الملك استقالة فى 8 ديسمبر 1946 يتعلل فيها بالمرض. وسقط مشروع" صدقى – بيفن".


قطــار الشــرابية

- كان الإنجليز قاعدة كبيرة فى العباسية عرفت باسم " القرنص" وكان هناك خط سكة حديد يخرج من هذا القرنص حتى يتصل بشبكة السكك الحديدية فى مصر عند الشرابية. فى هذا المكان – الشرابية – ينحنى الخط ليتجه نحو منطقة القنال كما تتجه شعبة منه نحو الإسكندرية, ويعترضه مزلقان, ولذلك كان على أى قطار يجتاز تلك المنطقة أن يهدى من سرعته.

- ويبدو أنه هناك موعد ثابت لقطار الجنود المتجه من القرنص إلى القنال وفى ليلة سمعت – وكنت فى منزلى – أصوات انفجارات, ثم نشرت الصحف أن القطار الحربى المتجه إلى الإسماعيلية قد تعرض لهجوم بالقنابل اليدوية أدى إلى مصرع عدد من جنود الحليفة, وأعلنت وزارة الداخلية عن مكافأة خمسة آلاف جنيه لمن يرشد عن الفاعل أو إلى أى معلومات تكشف الغموض عن الحادث. كما أعلنت السفارة البريطانية عن مكافأة أخرى مماثلة – خمسة آلاف أخرى لنفس الغرض . ولم يكن للمكافأتين أى أثر.

- ولقد علمت بعد ذلك أن اثنين من الإخوان أخذا سلة مما يستعمل فى نقل الخضروات وانتظرا القطار حيث يبطىء من سرعته, فكان أحدهما يأخذ القنبلة من السلة ويناولها فينزع مسمار أمانها ويسقطها فى إحدى نوافذ القطار المتحرك فتنفجر داخله وسط الجنود ثم يناوله غيرها وهكذا حتى مر القطار. لم يعلن أى بيان عن رقم الخسائر ولم نسمع شيئا فى هذا الشأن ولكن لا شك أنه كان يتناسب مع مقدار المكافأة.


قنـابل عيـد الميـلاد

- سقط صدقى وعاد ذلك الرجل – السيىء عند الإخوان وغيرهم – النقراشي رئيسا للوزارة يوم 9 ديسمبر 1946. وفى الأيام الأولى من وزارته قمنا بعمليتنا الجماعية التالية. فقد أتى الكريسماس – عيد الميلاد عند المسيحيين الغربيين – وفى هذا اليوم اعتاد جنود الجيش الإنجليزى بكل أجناسه {استراليين – نيوزيلنديين – جنوب أفريقيين.. الخ} اعتادوا أن يحتفلوا به على طريقتهم. هذه الطريقة كانت تقوم أساسا على السكر والعربدة فى الحانات والكباريهات ودور المجون التى امتلأ بها وسط القاهرة, وكثير منها خصص لجنود " الحليفة" انجلترا فى ذلك الوقت, ثم يخرجون فى صخب شديد ليجتاحوا ما أمامهم. كانوا ينهبون المحلات ويخطفون النساء ويستبيحون كل شىء.

- وقرر النظام مقابلة هؤلاء فى سوراع وسط القاهرة. ولكن قرار النظام جاء متأخرا بعض الشىء, وتصادف أن مكثت فى عملى بالبنك الأهلى المصرى حيث كنت أعمل من الصباح حتى الحادية عشرة مساء. فلم أعلم بذلك القرار ولم يبلغنى به أحد. وكان التوقيت المحدد للعملية من الساعة العاشرة إلى العاشرة وعشر دقائق ثم الرجوع. وكانت البارات والحانات التى تعج بهم ذات أبواب زجاجية بشدة بحيث تحطمه وتنفذ من خلاله فتنفجر بالداخل وسط الجنود.

- ولكن حدث شىء من سوء الحظ . فبعد أ، تم تسليم القنابل للإخوان وصدرت التعليمات إليهم, وكانت تصدر إليهم فى بيوتهم, حدث فى حوالى الساعة الثامنة مساء أن مرت سيارة مسرعة أمام نادى الاتحاد المصرى الإنجليزى بالزمالك, وألقى مجهول قنبلة يدوية من السيارة على النادى ولاذ بالفرار. هذا النادى كان رمزا للصداقة المصرية الإنجليزية, وكان أعضاؤه بعضا من الإنجليز مع بعض المصريين العملاء. وكان لهذا الحادث أثره, فقد أعلنت حالة الطوارىء فى البوليس المصرى وبين قوات الجيش الإنجليزى. وانتشر البوليس المصرى العلنى والسرى وكذا قوات البوليس الحربى الإنجليزى انتشرت فى الشوارع فى حالة من التأهب والترقب لأى محاولة جديدة.

- وكانت التعليمات تقضى بأن من يجد صعوبة فى تنفيذ عمليته أن يعود دون أن يغامر بنفسه. ويبدو أن العملية كانت صعبة بالفعل فى ظروف اليقظة التامة والتأهب. ومع ذلك فقد نفذ كثير من الإخوان عملياتهم بنجاح فكانت شبه مذبحة للجنود الإنجليز السكارى. وكانت القوات تروح وتجىء تتفرس وجوه الناس فاشتبه ماهر رشدى حكمدار بوليس العاصمة وكان فى لورى بوليس, اشتبه فى شابين يسيران متجاورين فى شارع عبد الخالق ثروت وأوقف سيارته ونزل جنوده بسرعة فأحاطوا بهما واقتادوهما معهم فى السيارة. كانا محمود نفيس حمدي وصديقى حسين عبد السميع وكانت قنباته ما زالت فى جيبه... وصارت قضية وكان حسين ونفيس أول صيد يقع منا.

- عبد المنعم عبد العال نفذ عمليته وعاد إلأى بيته بالعباسية, وكان يوم الاحتفال بعرس شقيقته, فشارك أهله الاحتفال حتى منتصف الليل. وحين أراد ابن خالته كمال القزاز الانصراف نزل معه لتوصيله إلى محطة الأتوبيس, ودفعه حماسه أن يأخذ معه قنبلة أخرى. وفى عودته صادف أحد لوريات الجيش الانجليزي فى شارع الملكة نازلى – رمسيس حاليا – يعود بحمولته من الجنود فى اتجاه ثكناتهم بالعباسية. وقذف اللورى بالقنبلة فأحدثت دويا فى سكون الليل واجتمع حوله حرس الليل من البوليس المصرى وحاصروه بصفافيرهم حتى قبضوا عليه. فكانت قضية ثانية.

- وأودع المتهمون فى هاتين القضيتين سجن الأجانب الذى كانت تشرف عليه حكمدارية بوليس القاهرة, هذا البوليس كان الإنجليز هم الذين يديرونه بشكل مباشر, ولذلك كانوا يودعون المتهمين فى القضايا السياسية فى مراحل تحقيقها الأولى هذا السجن. وكانت نوعية المقبوض عليهم تدل بوضوح وجلاء أن البوليس يتخبط وأنه لا يهتدى إلى شىء فقبض مثلا على سعد الدين الوليلى مدرب عام الجوالة ظنا منهم أن هذه الأعمال لابد أنها كانت صادرة عن الجهاز ذى المظهر العسكرى, الذى يرتدى الزى الكاكى ويرفع الأعلام ويدق على الطبول والترومبيتا. كذلك كان محمد فريد عبد الخالق رئيس قسم الطلاب من بين المقبوض عليهم.

- وكان لحسين عبد السميع دولاب فى كلية الزراعة كنا نحتفظ فيه بعدد من القنابل اليدوية احتياطا للحاجة إليها فى نظراتنا إذا ما اصطدمت بالبوليس واحتاج الأمر. فلما قبض على حسين أردنا استخراج القنابل من دولابه وكان لابد من أحد منا يعرفه. وقال عبد المجيد حسن أنه رآه مرة وأنه ترك معه أحد مفتاحى الدولاب. وذهب عبد المجيد مع أحد إخوان الكلية لتنفيذ المطلوب ولكنهما وجد أن الدواليب قد نقلت من مكانها.وبعد صعوبة بالغة استطاعا التعرف على الدولاب فى مكانه الجديد دون لفت الأنظار. وذهبت لأبشر حسينا فقد قدرنا أنه يحمل هم ذلك الدولاب, وكان المتهمون – وكلهم كانوا محبوسين انفراديا – يجلسون على حواف نوافذهم ينظرون إلى الطريق, فقد كان السجن الأجانب فى شارع الملكة نازلى, وقبض على وأنا فى تلك المحاولة بعد أن أخبرته فعلا ولكنى أنكرت كل صلة لى بأحد من المتهمين, فأفرج عنى بعد أيام قضيتها فى قسم بوليس الأزبكية. وفى الواقع كان من الجائز أن أتهم فى القضية لولا أن قسم البوليس حين أحالنى إلى النيابة العامة للتحقيق أرسلنى سيرا على الأقدام مع أحد عساكر القسم, وفى الطريق أمكننى التفاهم معه ماليا وأن أتصل بمنزلى تليفونيا لأخبرهم. وفى ليلتها أمرت النيابة بتفتيش منزلى وذهبت صحبة البوليس, فلما دخلت غرفتى مع البوليس أنكرتها مما اعتراها من تغيير. لقد أخرج والدى مكتبى ودولابى حيث لم يكن لديهم متسع من الوقت لفرز ما بها, أخرجوها بكل محتوياتها إلأى خارج البيت كله. ووضعوا مكانها مكتب أحد إخوتى بعد تفريغه مما به. فما أن فتح الضابط الذى صحبنى أدراجه ولا حظ خلوها تماما حتى أدرك كل شىء فلم يتم تفتيش البيت, وهدنا توا إلأى القسم, وبطبيعة الحال كتب تقريره بأنه لم يعثر على شىء يفيد التحقيق. وأفرج عنى.

ويذكر محسن محمد فى كتابه"من قتل حسن البنا": أن النقراشي أبلغ حادث قنابل عيد الميلاد تليفونيا إلى السفير البريطانى سير رونالد كامبل وعرض أن يرسل إلى المستشفى مساعدات إضافية {الأمر الذى يعنى جسامة الخسائر} وأن السفير أجابه بقوله:" إنى على ثقة من أنك ستتخذ كل الإجراءات لاستئصال هذا النوع من الجرائم" ثم قام السفير بزيارة النقراشى وقال له:" أتحدث إليك بدون تعليمات ولكنى أنقل قلقى الشخصى, إنى واثق من أن سلطات الأمن تحت قيادتك تبذل كل ما فى وسعها للقبض على مرتكبى هذه الأعمال الإجرامية... الأمر الذى لابد أن يكون محيطا للشرطة ومشجعا للمجرمين هو التأخير فى الإجراءات الجنائية والإفراج عن كثير من المتهمين بكفالات بسيطة".

- ولقد كانت ثقة السفير بأن سلطات الأمن تحت قيادة النقراشى تبذل كل ما فى وسعها صحيحة ويعلمه السفير دون شك فإن الذى كان يقود تلك السلطات كان اللواء الإنجليزي الجنسية رسل باشا حكمدار بوليس القاهرة.

- قال النقراشي للسفير: ليس فى الإمكان التدخل لدى القضاء, فالمحافظة على مشاعرهم فى الاستقلال والأمان أمر جوهرى, لتحقيق الممارسة الصحيحة لعدالة" وأضاف أنه لا شك أن المحاكم المصرية لا تعمل بالسرعة المعتادة فى بريطانيا. وهنا يتبادر سؤال: هل كان نقل المستشار أحمد الخازندار من الإسكندرية إلى القاهرة مصادفة؟

كانت هناك فى الإسكندرية قضية مماثلة لعدد من الشبان الوطنيين اتهموا ب"الاعتداء" على جنود الحلفاء. ونظرت القضية أمام محكمة جنايات الإسكندرية برئاسة أحمد الخازندار بك رئيس محكمة استئناف الإسكندرية. وصدر الحكم ضد الشباب الوطنى بأقصى عقوبة. ونظر الخازندار بك أيضا قضية أخرى شهيرة اتهم فيها المقاول حسن قناوى بقتل سبعة من الصغار بعد ممارسة الشذوذ الجنسى معهم. وكانت من القضايا التى اجتذبت انتباه الرأى العام ومتابعته وصدر الحكم ضد قناوى بالحبس سبع سنوات, فكان حكمنا محيرا بل مثيرا بالنسبة لتفكيرنا نحن الشباب. إذا كان قناوى بريئا فكيف يحكم عليه, وإذا كان مذنبا فكيف يقتصر الحكم على سبع سنوات فى قتل سبعة لدوافع غير كريمة؟! المهم. صدر الأمر بنقل أحمد بك الخازندار من الإسكندرية ليشغل وظيفة رئيس محكمة استئناف القاهرة. وقدمت إليه القضيتان. القضية المتهم فيها حسين ونفيس والقضية المتهم فيها عبد العال. ولقد شهدت جلسات القضية الأولى. اعتمد الدفاع أساسا على نفى إتيان المتهمين لأى اعتداء على جنود الحلفاء, ثم على طريقة المحامين ذهب الدفاع إلى أنه إذا افترضنا جدلا أن لهما شأنا فى ضرب الجنود الإنجليز السكارى بالقنابل , فأى دافع يكون وراء ذلك؟ لا شك أنه دافع وطنى يهدف إلى تحرير أرضنا من دنس الإحتلال و... وإذا بالخازندار بك ينتفض فوق منصته ويدقها بقبضته ويصيح فى الأستاذ المحامى الذى كان يترافع بذلك فقال له "كلام فارغ إيه ده يا استاذ اللى بتقوله؟ دول حلفاء موجودين هنا للدفاع عنا بموجب معاهدة الشرف والاستقلال... تبقى فوضى لما نسيب كل ولحد يدى أحكام على كيفه وينطلق الأولاد فى الشوارع بالقنابل والرصاص! لا ده كلام فارغ ما نسمعوش أبدا!!" من الناحية القانونية الصرفة التى لا شأن لها بأى اعتبار آخر ربما كان كلامه سليما... ولكن... كان هذا الكلام صدمة لنا.

وكشاب مشحون بالحماس فى الثانية والعشرين من عمرى رجعت من المحكمة أطالب برأس الخازندار حماية لنا فى عملياتنا المستقبلية, واعتبرت أن الرجل يصدر أحكامه والدفاع لم يتم مرافعته... ولعله لم يكن أصدر أحكاما ويبنى هذه الأحكام على أن وجود جيش الإحتلال فى مصر وجود شرعى وأن جنوده حلفاء... وأن معاهدة الذل والاحتلال هى معاهدة شرف واستقلال, إنه من وجهة نظرنا رجل صفته كذا وكذا... ولم تكن مفاجأة لى أن أعلم أنه لم يكن رأيى وحدى وأن هناك غيرى من تطوع لاغتيال الخازندار. وصدرت الأحكام. حكن على حسين عبد السميع بالحبس ثلاث سنوات وعلي عبد المنعم عبد العال بالسجن خمس سنوات. واستأنف الإخوان الأحكام.


محاولات التنظيمات

هذا فى حين كانت قضية الجلاء ووحدة وادى النيل تأخذ نصيبها من الإهتمام , بل كانت هى قضية البلاد يتصدرها الإخوان ويضغطون على الإنجليز للجلاء وعلى الحكومات المصرية الهزيلة حقا ليكون لها موقفها الرسمى.وتحت هذا الضغط أعلن النقراشى أنه ذاهب إلى مجلس الأمن لعرض قضية مصر... وذهب.

فى ذلك الوقت من عام 1947 كان قد ظهر جليا أن للإخوان المسلمين نظاما خاصا يقوم بعمليات خاصة. لم يكن معروفا باسمه ولا بأشخاصه ولكن بأعماله, وربما أيضا بأعمال أتاها آخرون. لم يكن رجل الشارع ليميز بين هذه وتلك, إنما بدأت تنشر حوادث التفجير المنضبطة وغير المنضبطة والاغتيالات أو محاولاتها. ومن ذلك اغتيال لورد بأيدى اليهود واغتيال أمين عثمان بيد حسين توفيق وأنور السادات, وغيرهما ومحاولة اغتيال النحاس باشا بتفجير سيارة أمام منزله بجاردن سيتى رجال الملك...الخ.

وكان مصطفى مؤمن فى زعامته للحركات الطلابية كثيرا ما يطلب دعم النظام الخاص لمواجهة رصاص البوليس بالمثل ولم يكن يجاب إلى طلبه غالبا , حيث لم يكن الأستاذ المرشد يوافق على التصعيد الدموى مع من لا ذنب له, حتى ضرب أقسام البوليس كان بعبوات صوتية لا لتدميرها ولا لإصابة من بها.

حينذاك بدأ مصطفى مؤمن فى تكوين مجموعيتى له خاصة تتلقيان أوامرهما منه. ونما علم ذلك النظام, وبدأ التحرى عن أفرادهما وما إذا كان هناك غيرهما. فى ذات الوقت كان النقراشي قد اتجه إلى الولايات المتحدة لعرض قضية مصر فى مجلس الأمن, لهذا وذاك كلف الأستاذ حسن البنا مرشد الإخوان كلف مصطفى مؤمن بالسفر إلى الولايات المتحدة للدعاية للقضية المصرية فسافر فى 26 يولية 1947.

وهناك ومن شرفة الزوار تسلق مصطفى درابزين الشرفة يوم 22 أغسطس 1947 ونزل إلى قاعة مجلس الأمن يخطب بالإنجليزية متحدثا عن عدم شرعية احتلال الإنجليز لمصر ووجوب جلاء قواتها دون أى شروط...الخ . وكان ذلك التصرف مفاجأة للجميع لم يحدث مثله قط, واستدعى رئيس الجلسة حرس المجلس لإخراج مصطفى. وعاد مصطفى إلى محاولته فى يوم آخر وأخرجوه أيضا. وكانت هناك مشكلة خاصة بالجزارين وأخرى بسائقى التاكسى فاتصل بهم مصطفى ونظم معهم مظاهرات لأهداف مشتركة تجمع قضاياهم وقضية مصر. وضاقت دوائر الأمن الأمريكية بنشاطه فأخرجوه من الولايات المتحدة. وبعث إليه المرشد العام أن يتجه إلى انجلترا للدعاية لقضية مصر ذلك أن موضوع مجموعاته لم يكن قد انتهى فى مصر, وذهب مصطفى إلى انجلترا وترك أمريكا.

تم حصر النظام الخاص بمصطفى وفرز أفراده وتم ضم بعضهم إلى النظام الخاص للإخوان واستبعاد آخرين. وعاد مصطفى فجلس إلى المرشد ينهى إليه ما كان فى جولته.

وبعد أن فرغ من ذلك فاتحه المرشد فى موضع التكوين الخاص الذى ذكرنا " مصطفى,أنت المرشد أم أنا؟"فأجاب " فضيلتك طبعا!" واستمر المرشد فى هدوء يشرح له أن الجماعة لا يصلح لها مرشدان, فأما أن يلتزم, وإنا أن يطلب منه أن يتنحى ليتولى مصطفى منصب المرشد العام!" وانتهى الأمر بحل المجموعتين وتعهد مصطفى بلزوم الصف والالتزام بخط الجماعة.

والحقيقة أن ذلك الحدث لم يكن حدثا مفردا وإنما نشأت عدة أحداث من مثل هذه التنظيمات كان النظام الخاص يبادر إلى تصفيتها بفرز عناصرها حتى لا يبقى سوى تنظيم الجماعة وكان ذلك أمرا ضروريا ولازما لعدم انفراط السيطرة على التصرفات فى جو مشحون بالحماس.


حــادث الجبـــل

هكذا اشتهر بهذا الاسم. ذلك أننا كلفنا بالبحث عن مكان مناسب بجبل المقطم يصلح للتدريب على استخدام الأسلحة والمفرقعات. فقد كان جبل المقطم قريبا من القاهرة فهو لا يتتاج إلى أجازات أو سفر والمطلوب أن يكون المكان موغلا فى الجبل ميسورا الوصول إليه بالسيارة. وأن يكون صالحا كميدان ضرب نار, وأن يكون مستورا عن الأعين , وأن يكون به ما يصلح أبراج مراقبة للحراسة.ووجدنا كل تلك الصفات فى موقع حين واقعناه على خرائط المساحة وجدناها عبرت عنه باسم الأسيمرات. أما الآن فقد امتدت إليه المنشآت ويقع حاليا جنوب المنطقة الثانية لمقابر مدينة نصر.وبدأ التدريب فى ذلك الموقع بمعدل مجموعتين فى اليوم الواحد, مجموعة تذهب مع الفجر حتى العصر وأخرى تذهب مع العصر وتهود مع الفجر,وكان الذهاب والعودة يتم بسيارة ستيشن واجن, وكان الترتيب ألا ترى مجموعة الأخرى وأن يكون هناك بصفة دائمة فى مكان مرتفع من يرقب المجال حول الموقع بمنظار مكبر, هذا الحارس كان فى استطاعته أن يرى سيارة قادمة بسرعة قبل أن تصل بثلث ساعة على الأقل. وكانت هناك حفر معدة ليوضع بها كل السلاح والذخيرة ويردم عليها لدى أول إشارة وبذلك تبقى المجموعة فى حالة معسكر وليس معها ممنوعات قانونية.

واستمر ذهاب المجموعات وعودتها بمعدل مرتين كل يوم ولمدة طويلة حتى صنعت السيارة مدقا واضحا مميزا فى الجبل.. وحتى لفتت نظر الحجارة فى محاجر الجبل بأول الطريق. وبلغ الخبر إلى البوليس ونحن لا نشعر. وكان مسئول التدريب يدرب مجموعة هناك, ومن تكرار التدريب فى أمن وسلام فقد تاغضى عن حذره فتجاوز عن وضع الحارس مكانه ولم يشعر والمجموعة معه إلا بقمم الجبل حوله وقد ظهرت من فوقها قوات البوليس شاهرة سلاحها وتطالبهم بالتسليم وهم منهمكون فى تدريبهم, كان ذلك يوم 19/1/ 1948 ونشرت الصحف الخبر.

وحتى هذه الحالو كان هناك إعداد لمواجهتها. أجاب إخواننا المقبوض عليهم بأنهم متطوعون لقضية فلسطين, وهى إجابة كان متفقا عليها. وفى نفس الوقت كانت استمارات بأسمائهم تحرر فى مركز التطوع لقضية فلسطين, كما تم اتصال بالحاج محمد أمين الحسينى مفتى فلسطين ورئيس الهيئة العربية العليا وشرحنا له الوضع على حقيقته, وكان متجاوبا معنا تماما فأقر بأن المقبوض عليهم متطوعون من أجل فلسطين وأن السلاح سلاح الهيئة. وبذلك أفرج عن الإخوان وسلم السلاح إلى الهيئة العربية العليا. ومع ذلك فقد كان للحادث أثر بعيد . ذلك أنه عثر مع المسئول رحمه الله على كشف اشتهر فيما بعد بأنه كشف الجبل يحوى مائة اسم من أسماء إخوان النظام وأرقامهم السرية مرتبين فى مجموعات هى المجموعات التى كان مزمعا تدريبها تباعا من منطقة جنوب القاهرة. ولم يعلم أحد من المسئولين عن النظام فى حينها شيئا عن كشف الجبل, ولم يذكره المسئول, ولكن ذلك الكشف ظهر بعد ذلك فى القضايا وكان من قرائن الاتهام القوية فضلا عن أنه كشف الأسماء التى احتواها.

وقبل أن نمضى مع الإخوان فى أحداثهم داخل مصر, اعترض مسيرتهم حادث هام ومثير جاءهم من وراء الحدود... من ذلك الأفق البعيد فى الجنوب... من اليمن السعيد.

الفصل السادس: حكاية يحيى حميد الدين

اليمن السعيد

كل شعب على سطح الأرض أخذ بقسط قل أو أكثر من التقدم والرقى إلا هذا اليمن السعيد. لا زراعة غير زراعة القات والزراعة البدائية المحدودة, ولا صناعة إلا الصناعة المتخلفة فى الغزل والنسج, ولا طرق ولا مواصلات ولا صحة ولا تعليم ولا مرافق ولا... ولا... لا شىء على الإطلاق... تخلف ليس كمثله تخلف.وليت الأمر عنوان وصلةوقف عند هذا الحد, إذا لقلنا تجاوزا" هان الأمر" ولرضينا بالهم, ولكن أسلوب الحكم فى اليمن أكمل الصورة السوداء البشعة لذلك اليمن السعيد.

كانت اليمن إحدى ولايات الإمبراطورية العثمانية وكان المنصور والد يحيى حميد الدين مفتيا لمدينة صنعاء. وتوفى الإمام شرف الدين فبويع المنصور خلفا له وظل فى منصبه حتى توفى عام 1902. وحدث نزاع على الإمامة انتهى بفوز ابنه يحيى فظل يحكم اليمن حتى شهر مارس 1948. ولقد تزعم يحيى مقاومة الحكم التركى بالسلاح حتى أرغم الأتراك عام 1911 على توقيع معاهدة تعترف فيها تركيا باستقلال اليمن.ثم انهزمت تركيا فى الحرب العالمية الأولى فدعم ذلك استقلال اليمن. وكانت اليمن محط أنظار إيطاليا وأطماعها,كما كانت يسيل لها لعاب الإنجليز الذين كان لهم وجود سياسى وعسكرى مجاور فى عدن. وتلافيا لأى مواجهات أو متاعب بين الدولتين الاستعماريتين فقد اتفقتا – إيطاليا وانجلترا – على ترك اليمن وشأنها فلا يتدخل أى منهما فيها.

حدثنى أحد الإخوان, كان مدرسا هناك فى الأربعينيات, قال ... كانت مدرسة ابتدائية واحدة فى صنعاء التحق بها عدد محدود من التلاميذ الذين يعانون الفاقة والمرض. وكان " سيف الإسلام" أحمد ولى العهد وإمام اليمن بعد ذلك هو شخصيا الذى يمتحن الأولاد فى آخر العام, فكان يتخذ مكانه فى شرفة المدرسة. ويصف له التلاميذ فى فنائها أسفل الشرفة. ثم يسأل كل ولد منهم أن يذكر النسب الشريف, قينطلق الولد" مولانا الإمان المعظم يحيى بن المنصور بن...الخ" حتى يصل به إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد راع هذا الأخ الصديق فقر الأولاد الذى بلغ بهم درجة العرى, فتشفع لهم لدى سيف الإسلام أحمد أن يمن عليهم بجلباب منحه لكل ولد. وبعد تردد وامتعاض وافق "السيف" وصرف لكل تلميذ جلبابا استحق به دعاء وثناء. ومر العام وبليت الجلابيب, وتشجع صاحبنا فعاد يتشفع للأولاد فى جلبا آخر فى العام الجديد. ولكن سيف الإسلام رفض هذه المرة وأصر على الرفض, فإنه أعطاهم الجلابيب إحسانا فى العام الماضى فإذا ما كرر العطاء هذا العام صارت عادة وقد يظن الأولاد بها أن الجلباب صار حقا لهم يطالبون به إذا لم يمنحه من تلقاء نفسه فيختل نظام الدولة ويتطاول السوقة على أسيادهم!

ومرض مولانا الإمام يحيى حميد الدين ذات مرة فاستعان بأطباء استجلبهم من مصر الفتاة مؤقتة... كان أحدهم قريبا لى وعاد يقص... دعاهم وزير المواصلات فى مقر وزارته, وكان يجلس على وسادة على الأرض وجلسوا مثله يتحادثون, ودخل الحجرة رجل يحمل كيس بريد أفرغه على الأرض بين يدى الوزير مما به من خطابات. زمد الوزير يده فأخرج من تحت وسادته خاتم البريد والختامة وراح يختم الطوابع وهو ينفخ من كثرة العمل فى هذه الوزارة.

كان نظام الحكم فرديا استبداديا مطلقا. شعب يحكمه رجل واحد بمفرده مستعينا فى هذا بأسرته وقبيلته...قبيلة حميد الدين. كان باليمن قبائل آخرى كبيرة فكان يحيى حميد الدين يحتفظ لديه فى صنعاء برهائن من أبناء شيوخ تلك القبائل. إن كانت القبيلة مستقيمة فى ولائها وتنعم برضاء الإمام اتخذ من رهائنها موظفين وعمالا فى قصره ووزارته, وإن كان الأمر على خلاف ذلك ففى سجن صنعاء متسع... كانت زنازين السجن حجورا – أو حفر– منحوتة فى الجبل وأبوابها أغطية علوية من قضبان الحديد تقفل بأقفال يحتفظ الإمام بمفاتيحها. ويختزن المسجونون بها مقرنين فى الأصفاد كل اثنين او ثلاثة أو أربعة معا. ولقد تصادف أم كان الإمام بمفاتيحه على سفر حين توفى أحد المساجين, وبقى أياما مقيدا مع زملائه حتى أنتنت جثته إلى أن عاد الإمام فأفرج عن الجثة . لقد رفع أعضاء هيئة كبار العلماء بصنعاء عريضة إلى يحيى حميد الدين, لم يتسن لنا الحصول عليها كاملة بعد انقضاء أكثر من أربعين سنة, ولكننا عثرنا على مقتطفات منها نضعها بين يدى القارىء وهى تتضمن ولا شك مطالب جريئة:

1-جعل الواجبات المالية أمانة على أربابها كالواجبات البدنية يؤديها الرعايا والملاك طيبة بها نفوسهم, ويحلّف ذوو التهم.

2-إسقاط الجبايات الجمركية والمطالب المعتبرة غير شرعية والمنهى عنها مثل المكس وزكاة الباطن والضرائب التى كنتم تنأون وتنهون عنها وهى التى يسمونها عائدات بيت المال ويلزمها الجلادون أقلاما معدودة ويؤذون بها خلق الله باسمكم وقد أغناكم الله عنها.

3-... النظر فى تحسين أحوال أرباب الدوائر الحكومية كلها بلا استثناء بزيادة المعاشات سدا لباب ذريعة الرشوة ونهب الصعفاء وليخلصوا لكم ولدولتكم فى أعمالهم وينصحوا فيما يرفع ولعلى كلمتكم. والعفو تفضلا عن القايا المزمنة التى أرهقت الرعايا إرهاقا وألجأتهم إلى الخروج من أوطانهم راغمين لما حل بهم,والتحنن على البقية الباقية, والرفق بهم هو الركن الركين لاستجلاب القلوب واجتذاب الذين ودعوا اليمن.

4-منع كل ذى سلطة من سيوف الإسلام والأمراء والعمال عن الخوض والتدخل بالتجارة فى الرعية ورحمة الناس بالمناكب فى معايشهم ومكاسبهم ومهنهم, فقد استاء لهذه الحال الحاضر والبادى ونهى عن ذلك وحذر الشارع الحكيم صلى الله عليه وسلم حيث نهى عن تجارة ذوى السلطان فى الرعية وتوعد وأنذر من لم ينته عن الإضرار بالمسلمين بما ليس يخفى على سعة معلوماتكم. وهذا من أهم الضروريات التى يجب الالتفات إليها.

5-العفو منه وتنازلا عن المعتقلين فى حجة فقد نالت منهم العقوبة منالها وأصبحوا فى حالة يرثى لها, ولئن أحسنتم إليهم وجبرتم ما تصدع من قلوبهم فستجدونهم كعادتهم من خيرة رجالكم . وفى رسالة وجهها إليه العالم الجليل الشيخ محمد بن سالم البيجاتى:" يا أمير المؤمنين. إن دخول الجندى فى بيوت الرعية لجباية الأموال أو تأديبهم أو لأى شىء آخر أمر لا يقره دين ولا ترضى به شريعة ولا يقبله أى قانون أو ذوق سليم".

واستنجد اليمنيون الأحرار بالمرشد العام الأستاذ "حسن البنا" فأرسل فى (17 فبراير 1947) رسالة إلى ولى العهد سيف الإسلام أحمد يناشده فيها الله العمل على رفع مستوى اليمن الاجتماعى, ثم بعث بناء على قرار مكتب الإرشاد العام فى (22 فبراير 1947) وجه المرشد العام رسالة مطولة إلى يحيى حميد الدين عبّر فيها عن شعور الإخوان نحوه وأمانى الشعب اليمنى.{ الدعوة ع3ص31}


الجمعية اليمنية الكبرى

وبالرغم من الكبت والجبروت الذى خيم على اليمن فقد استطاع بعض اليمنيين المغضوب عليهم الفرار إلى عدن حيث تكتلوا وأنشأوا الجمعية اليمنية الكبرى{ الحركة اليمنية الحرة} وكان سيف الإسلام إبراهيم – أحد أولاد يحيى {ولده السادس}, وكل أولاده سيوف الإسلام! قد فر من قبل إلى الحبشة, فعاد إلى عدن وانضم إلى الجمعية وتغيرت كنيته إلى سيف الحق تمييزا عن إخوته. وامتد نشاط الجمعية إلى داخل اليمن ذاتها, كما اتجه بعض أعضائها إلى الالتحاق بمعاهد التعليم فى مصر.

كان اليمنيون الأحرار فى حاجة إلى كل معونة من كل حر مخلص, وكان الإخوان المسلمون هم حملة لواء العمل للحرية وتخليص المسلمين فى كل الأرض من كل ظلم ونير. وجاء بعض اليمنيين من أعضاء الجمعية إلى الأستاذ المرشد حسن البنا يحكون له حقيقة الأوضاع فى اليمن ويطلبون العون بالرأى, ويعرضون خطة لاغتيال يحيى حميد الدين والاستيلاء على السلطة هناك لتحرير رقاب الناس فى اليمن.

وكان الأستاذ البنا يقدر للدم حرمته فرفض فكرة اغتيال يحيى, وكان منطقه لإقناع إخواننا اليمنيين أن يحيى قد بلغ الثمانين أو جاوزها, وهو شيخ كبير مريض مصاب بالفالج ويشكو هبوط القلب, اجتمعت عليه العلل حتى لقد ظن به الموت من قبل. فإذا انتظرنا أجل الله فيه فلن يطول انتظارنا كثيرا والعمار بيد الله فإذا توفاه ملك الموت الذى وكل به فليكن حينئذ تصحيح المسار دون إراقة دماء. وعلى هذا اتفق اليمنييون أعضاء الجمعية والإخوان. وأعطى الأولون الآخرين قائمة بأسماء وزرائهم الذين سيتولون الأمر بوفاة الإمام يحيى لنشرها بجريدة الإخوان لدى وصول برقية منهم بوفاة الإمام. ومات الإمام يحيى... وأصدر طبيبه الخاص الألمانى شهادة بذلك . وجاءت البرقية إلأى الإخوان... وطلعت جريدة الإخوان بالخبر, وبأن عبد الله بن الوزير تقلد مقاليد الأمور باليمن, ونشرت قائمة كاملة لوزراء الوزارة الجديدة... سبق صحفى جبار ذهلت له كبريات الصحف المحلية والعالمية التى لم تحرز مثله!ولكن..!

وكما حدث من قبل... عاد يحيى حميد الدين إلى الحياة ! كان ذلك فى شهر فبراير 1948.


اغتيـــال يحيـى.. المفاجأة مذهلة.. وهى ضربة قدر

وسارع عبد الله بن الوزير ووزراؤه يهنئون الإمام على حياته ويدعون له بالعافية وطول البقاء, وينفون عن أنفسهم ما نشرته جريدة الإخوان بمصر. وقبل الإمام منهم وتظاهر بالاقتناع , ولكن ذلك التظاهر لم ينطل عليهم. فقد اكتشف يحيى أن هناك شيئا لم يضع يده عليه بكامله, فهو ينشد المهلة حتى يحيط بكافة جوانب الموضوع ويعرف جميع المتآمرين على نظامه قبل أن يبطش بهم. ولم يكن ذلك يخفى عليهم, كانوا يدركونه ويحسونه وكانوا يشعرون بالعيون تحيط بهم وتحصى عليهم أنفاسهم... وهم فى أمس الحاجة إلى لقاءات يتدارسون فيها موقفهم بعد الذى كان. وفى ذلك التوتر والأعصاب المشدودة قرروا استدراكا لحيواتهم ودفاعا عن أنفسهم وعن أمل شعب اليمن فى الخلاص – قرورا اغتيال يحيى حميد الدين.

جميل جمال ضابط عراقى سابق اشترك فى حركة رشيد عالى الكيلانى بالعراق أثناء الحرب العالمية الثانية... كانت ثورة من الجيش العراقى على الوجود الإنجليزي بالعراق, وتحرك رشيد بالجيش العراقى فحاصر الجيش الإنجليزى بقاعدة الحبانية والتحم به, ولم يقدر للحركة النجاح ففر رشيد إلى ألمانيا وفر ضباطه كل إلى حيث استطاع. ولجأ جميل إلى اليمن السعيد, واتخذ يحيى حميد الدين منه قائدا لحرسه. بهت قائد حرس الإمام مما رأى من أحوال اليمن... السعيد.وانضم إلى اليمنيين الأحرار . قضى يحيى تفاهته فنزل إلى بساتينه يستروح الهواء ويستشعر الحياة – ويثبت للناس أنه فى صحة وعافية. كان يمشى بين أشجاره ومن ورائه حارسه جميل يحمل الرشاش الصغير تومى جن. وفجأة صوب الحارس رشاشه إلى المحروس وأفرغ فى بدنه ثمانين مقذوفا بعدد سنى حياته وكأنما أراد أن يستوثق من أنه لن يعود إى عادته فى الرجوع إلى الحياة. ومات يحيى موتا... فكانت آخر موتة يموتها, وقتل معه اثنان من أبنائه.

هذا ما أعرفه من زمن طويل – من حينها – ولكن جاءتنى رواية أخرى عن أحمد رائف عن إبراهيم الوزير – ابن شقيق عبد الله الوزير – أن الذين قتلوا يحيى حميد الدين كانوا ثمانية عشر رجلا كل رجل من قبيلة حتى يتفرق دمه فى القبائل فالله أعلم.


وبدأت الحركة

ونشرت جميع الصحف الخبر هذه المرة... كما نشرت أسماء الوزراء الذين سبق أن نشرتها جريدة الإخوان منذ حوالى ثلاثة اسابيع. وقامت الدنيا وقعدت... أو لم تقعد, فقد صار التواطؤ مع الإخوان ظاهرا لا ليس فيه... وصار موقف الإخوان فى غاية السوء. أن يقتلوا جنود الإحتلال فى مصر وأن يحاربوا الصهيونيين فى فلسطين فهو أمر من وجهة نظر معارضيهم فى كلام... إرهاب.. وجرائم... الخ. أما أن يقتلوا ملكا لدولة شقيقة عضو فى جامعة الدول العربية فهى سابقة خطيرة لا يكفيها أى كلام... تقوم لها الدنيا, أو تقام لها الدنيا!.. الإنجليز... اليهود... والأحزاب...والسراي... وحتى الشيوعيون الذين اعتادوا معاداة الملكية فى كل مكان لا بأس أن يخالفوا مبادئهم هذه المرة بأوامر من موسكو.. وباختصار: الدنيا جميعا وجدت فى مأتم يحيى حميد الدين مناحة مناسبة, وقميصا جديدا لعثمان! وتلقى الإخوان الهجوم أشكالا وألوانا من هؤلاء جميعا كل بأسلوبه وبإمكانياته. فهذه – وفق تصويرهم – دولة بأكملها تسقط فى يد الإخوان.. لقد كان الظن بهم أنهم يخططون لقلب نظام الحكم فى مصر, ولكن جاءت ضربتهم حيث لم يتوقع أحد...الخ هكذا بدأ الموقف!


هذا فى مصر.. فماذا فى اليمن؟

قتل يحيى فى صنعاء ولم يكن ولى عهده أحمد بها وإنما تصادق وجوده تعز فاعتصم فى حجة وهى قلعة منيعة أقيمت على جبل يشق ارتقاؤه. ولم يخطط له الثوار شيئا. اكتفوا بالانتفاض من صنعاء على أن يديروا حكم اليمن.! كان يحيى فى الجو المتوتر قبل اغتياله قد ابرق إلى أحمد يستدعيه ولكنه اغتيل قبل أن يصل أحمد. وأسقط فى يد أحمد بادىء الأمر, فبعث برقياته إلى ملوك العرب يستغيثهم وكانت برقياته بلغته وأسلوبه" أغيثونا أدركونا آخ آخ آخ" ثم طلب إلى السلطات السعودية السماح له بالالتجاء إلى الأراضى السعودية. واستبطأ سيف الإسلام أحمد ردودهم فاتجه إلى تسليم الأمر بلا مقاومة إلى عبد الله بن الوزير, وأعلن أنه يقبل وساطة الأستاذ حسن البنا ووساطة الفضيل الوتلاني. كان الفضيل من أحرار الجزائر وقد أصدرت السلطات الفرنسية هناك حكما بإعدامه فعاش حياته فى الدول العربية وخاصة مصر ثم عمل باليمن. ولكن الفضيل – ولم يكن داخل اليمن حينذاك –رفض الوساطة اعتقادا منه أ، أحمد لم يعرض قبوله لهذه الوساطة ألا ليستدرجه إلى اليمن حيث يقبض عليه, فقد كان متهما بالاشتراك فى تدبير الانقلاب واغتيال [يحيى حميد الدين]. على كل حال لقد وصلت إلى أحمد برقية فى الوقت المناسب من دولة عربية مجاورة ان دباباتها فى الطريق إليه لنجدته.

وفى صنعاء أدلى عبد الله الوزير – رأس الحركة – بتصريح لمندوب جريدة المصرى جاء فيع".. كانت اليمن قديما فى مقدمة الشعوب رقيا وثقافة وعلما ونبلا وفضلا, ثم عراها ما عرى وتأخرت الأحوال فيها وحل الفقر بالناس وأخذ يفتك بهم". ووصل سيف الحق إبراهيم إلى صنعاء ورأس المجلس العسكرى وألقى فيه خطابا جاء فيه"...لقد سبقناكم بالتضحية بالمناصب فى سبيل الصالح العام ودسنا تحت أقدامنا سلطة الفرد وسلطان الطغيان والجبروت, ورسمنا لكم المثل العليا لجمع كلمة الأمة لتأخذ مكانها الممتاز بين أمم العالم ... إنكم تنظرون بأعينكم وتحسون بأنفسكم الفرق بين العهدين , العهد الذى خلق الله منه الأمة فخرجت إلى نور الحرية والكرامة والعهد الذى انطلقتم فيه إلى المعتقلات والسجون" {جريدة الأهرام 2/3/1948}. وقال بعض اليمنيين الذين كانوا يتلقون العلم فى مصر" لقد كنا نعيش فى سجن كبير أشبه بسجون القرون الوسطى, لا حرية فى القول ولا حرية فى التجارة ولا حرية فى الكتابة. كنا نعيش فى عهد استبدادى إقطاعى... لقد عاشت اليمن فى الظلام دامس وازدادت فقرا وبؤسا بينما ازداد بضعة أشخاص بالذات غنى وبذخا".

وفى صنعاء أعلن ابن الوزير أن عهد من الحرية والسلام قد بدأ, وأطلق سراح جميع الرهائن الذين كان يحتفظ بهم يحيى حميد الدين , وسارع هؤلاء إلى قبائلهم, وقد ذكرت جريدة الأهرام فى 2 مارس 1948 أن حكومة ابن الوزير أفرجت عن 3100 معتقل وهو رقم كبير. وطلب ابن الوزير إلى جميع الحكومات العربية ولا سيما السعودية الاعتراف به وإمداده بالسلاح. فى حين بادرت الأردن تحذره مغبة عمله. وفى مدينة حجة أعلن أحمد أن أباه جمع كنوزا لا حصر لها من شعب اليمن, وأن جميع تلك الكنوز فى صنعاء... وقد اباحها – أحمد – لهم فهى منهم ولهم وهم – شعب اليمن – أصحابها! وهكذا بتلك البساطة استثار احمد قبائل اليمن على صنعاء التى كان يحكمها ابن الوزير, فحدث زحف القبائل على صنعاء تريد نهبها... تريد كنوزها. لقد كانت ضرائب يحيى حميد الدين باهظة دون أن ينفق منها شيئا, وبذلك تراكمت فى خزائنه أموال لا يعلم أحد حقيقتها, وقد قدرها بعضهم بأربعين مليونا من الجنيهات الذهبية من مختلف العملات, وإلى البيجانى فى رسالته إلى يحيى حيث قال"... والعالم أجمع يعلمون أو يظنون أن فى اليمن مالا كثيرا وثروة عظيمة لا يستهان بها, ولكن كيف يكون أمرها ومن الذى سيتولاها وما هو المراد من جمعها وتكديسها فى الخزائن والمغرات والكهوف كما يشيعون ذلك؟ ولأى شىء تدخر سوى إصلاح البلاد وإسعاد بنيها؟ فما أجل أن يحصوها وتضبطوها ضبطا تاما ثم تجعلوها تحت إشراف الجامعة العربية التى يهمها أمر اليمن كما يهمكم. فإن لم تثقفوا بها وتعتمدوا عليها فما أسهل أن تؤلفوا هيئة من رجال العلم الصالحين والموثوق بدينهم وأمانتهم لحفظها وتسليمها إلى من يتولى الأمر من بعدكم من أبنائكم الغر أو من الذين ترضاهم الأمة لدينها ودنياها وبذلك تكونون قد أبرأتم ذمتكم وحفظتم المسلمين فى بيت مالهم وأنتم المعروفون بزهدكم وورعكم وأنكم لم تبددوا ثروة الشعب وأمواله فى سبيل ملذاتكم والمصالح الشخصية.."


انتـــكاس

أمام زحف القبائل اضطر ابن الوزير إلى إغلاق أبواب صنعاء فحاصرتها القبائل. وبعث الأستاذ حسن البنا باثنين من الإخوان إلى صنعاء لبذل كل فى وسعهما لحقن الدماء ووقف الحرب الأهلية باليمن, كانا عبد الحكيم عابدين وأمين إسماعيل رحمهما الله. وبعد أن هبط المندوبان مطار صنعاء بالطائرة وانتقلا منه إلى صنعاء ذاتها, سقط المطار فى أيدى القبائل الزاحفة وبذلك حصرا داخل المدينة. وأصيب الإخوان فى مصر بقلق بالغ على مصيرهما ومصائر جميع شعب صنعاء.

وبعث ابن الوزير إلى الإخوان بمصر مبلغ مائة ألف جنيه استرلينى على دفعتين عن طريق بنك باركليز للدمنيون والمستعمرات وما وراء البحار – بعد أن قبل المبلغ لم يقم بالتحويل مخالفا بذلك القواعد والعرف والأمانة المصرفية. ونال الإخوان من التشنيع الحزبى على قصة هذا المبلغ مانالهم, واتهمت الجماعة بأنها تنهب أموال اليمن! وكان الأستاذ البنا شجاعا فى الرد على ذلك. قال إن المبلغ لم يصل ولو وصل لاستخدم فى الغرض الذى أرسل من أجله وهو شراء سلاح لأحرار اليمن, وطالب الدول العربية بالتدخل لحقن الدماء وإصلاح الأوضاع فى ذلك القطر الشقيق.

كان فى صنعاء مخازن للبنادق من طرازات قديمة فتحها ابن الوزير ووزعها على أهالى صنعاء للدفاع عن مدينتهم وعن ثورتهم التى قامت لتحريرهم, ولكن الطرف الآخر استطاع أن يستميل هؤلاء بالمال والذهب فازداد الموقف تفاقما. وبعث ابن الوزير إلى الدول العربية وإلى الجامعة العربية مستنجدا ومستغيثا باسم النساء والأطفال خشية سقوط صنعاء فى ايدى قبائل جاءت تريد استباحتها فى توحش. وكتبت جريدة أخبار اليوم فى عددها الصادر بتاريخ 27/ 3/ 1948 تقول " إن جلالة الملك عبد العزيز يملك من النفوذ فى اليمن ولا سيما فى الشمال والغرب ما يجعله سيد الوقف فى تلك البقاع. إن ما يغدقه ابن سعود على القبائل لضاربة فى البقاع المتاخمة لمملكته وما يهديه إلى زعمائهم وشيوخهم قد جعل قيادتهم فى يده, يضاف إلى ذلك العلاقات المذهبية التى تربط الشوافع به وهم أكثر من نصف أهل اليمن.

إن بين هؤلاء الشوافع والزيود الذين منهم الإمام والطبقة الحاكمة والذين هم سكان الجبال غالبا جفاء قديم يسكن حينا ويثور حينا. وهم يرون فى الملك السعودى وليا روحيا لهم تربطهم به رابطة المذهب . وقد تضمنت المعاهدة التى عقدها الفريقان على اثر حربهم الأخيرة ما يؤكد هذه الصلة, أو ما يجعل لابن سعود حق حماية الشوافع على حد تعبير أحد وزرائه. إن هؤلاء الشوافع على شدة ما قاسوه قديما من الإمام الراحل وعلى شدة نفورهم من سيف الإسلام أحمد الذى عرفوه حاكما قاسيا لبعض مقاطعاتهم مدة طويلة, إن هؤلاء الذين كان ينتظر منهم أن يروا فى الانقلاب فرصتهم للإنتقام أو لتبديل أوضاعهم على الأقل قد سكنوا سكونا غريبا وأخلدوا للأمن إخلادا عجيبا, مع أنهم كانوا فى موقف يمكنهم من مضايقة أحمد والقضاء على حركته غذ كانوا محيطين به. ولكن إشارة من وراء الحدود جعلتهم إما أن يلتزموا الحياد وإما أن ينصروا أحمد ويمدوه بالرجال والعتاد, ولقد بادر الملك عبد العزيز منذ بد الحركة إلى إرسال قواته إلى الحدود".

هذا هو الذى نشرته أخبار اليوم. ولكن الأنباء جاءتنا أمامها بأن الدبابات السعودية قد عبرت الحدود بالفعل لنصرة أحمد بن يحيى.

واشتدت المعركة بين من قيل عنهم أنصار أحمد من الزاحفين الطامعين فى الكنوز وبين من ثبت من الأحرار يدافعون فى بسالة. وأخيرا سقطت صنعاء وتدقفت عليها القبائل, وقبضت على الرجل الصالح عبد الله بن الوزير فباعوه بالمال إلى أحمد بن يحيى حميد الدين وصار إعدامه فى حكم المقرر بعد أن عاشت حركته أربعين يوما.

وسيق الرجل الصالح عبد الله بن الوزير مكبلا بالأصفاد وقد أركب على حمار ووجهه إلى مؤخره, وطلى هذا الوجه الحر الكريم بالقار. ,استقبل الرجل محنته فى صبر وإيمان فما زالت البسمة شفتيه وأحسبه كان يحمد الله أن أدى واجبه على قدر استطاعته. وتم إعدامه بالسيف رغم محاولات الأستاذ البنا لدى دوائر الجامعة العربية.

وتربع أحمد بن يحيى إماما جديدا على عرش اليمن... السعيد وأعلن أن الشعب بايعه باسم الناصر لدين الله وكتب بذلك إلى الدول العربية. واجتمعت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية وأشارت بقبول الوضع الجديد, وتوالى الاعتراف والتهنئة للملك أحمد من الدول الأعضاء فى الجامعة, وكانت المملكة الاردنية الهاشمية أول دولة تستنكر الانقلاب وتعترف بأحمد, ووقفت العراق موقفا مماثلا, وكانت سوريا ولبنان آخر من اعترف بالإمام أحمد ملكا . وكان من المذهل أن تسمع أصواتا لم يمنعها حياء من الدفاع عن الأوضاع المؤسفة فى اليمن ولو بطريقة أن تصيح على السود بأنه أبيض. فى أعقاب تلك الحركة أصدر الدكتور راشد البراوي كتيبا عن أحداث اليمن قال فيه:

"... ولقد استطاع ملكها {يعنى اليمن} المحافظة على استقلالها إلى أن وقعت الواقعة التى انتهت باغتياله على تلك الصورة التى تنم على الجبن. وكان الملك يحيى يرى أن الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ باستقلال بلاده تنحصر فى إبعادها عن كافة المؤثرات الأجنبية, كما يبدو لنا أن تربيته الدينية الشرقية وكانت تجعله ينظر بعين الشك إلى كل مظاعر الحضارة الغربية ويراها لا تتفق وأحوال الشعب اليمنى!"أ.هـ


الورتلانى والذهـــب

كذلك أفاضت الصحف فى قصة تناسب الهوايات الصحفية, فقد ذكر أن الفضيل الورتلاني قد خرج من اليمن وهو يحمل ثلاثة أكياس من الذهب. ولسنا ندرى شيئا عن حقيقة أكياس الذهب وهل حدثت فعلا أو هى من نسج الخيال, وإذا كانت حدثت فذهب من كان؟.. ولكن الذى لاشك فيه أن الورتلانى أراد اللجوء إلى السعودية فلم يقبل بها, وكان على سفينة يونانية تعمل على خط ملاحى بين جدة وبيروت. وأبحرت السفينة من جدة إلى السويس وأراد الورتلانى أن ينزل فى مصر فمنع من ذلك ووضعت عليه حراسة فوق السفينة تمنعه من النزول حتى اجتازت بع قنال السويس خارجه من بور سعيد إلى بيروت. وفى بيروت رفضت السلطات اللبنانية السماح له بالنزول. وكان على الباخرة بعد ذلك أن تعود إلى جدة, وتكرر فى رحلة العودة ما حدث فى رحلة الذهاب. ثن عادت الباخرة من جدة إلى بيروت وهكذا... ظلت الباخرة شهورا بين جدة وبيروت لا تغير خطها, والفضيل فوقها تحرسه قوات كل دولة تدخل الباخرة مياهها لمنعه من الهبوط فيها وتصوره الصحافة المعادية أنه كان يجلس محتضنا أكياس الذهب!!

وأخيرا... وبطريقة ما نزل الفضيل من الباخرة وأعد له جواز سفر بغير اسمه أقام به فى لبنان.


أسبــاب

لم تنجح ثورة ابن الوزير أن تصل إلى أهدافها ولابد لكل نتيجة من أسباب. لقد كانت ثورة ابن الوزير سابقة لأوانها من الناحيتين التاريخية والاجتماعية. ولم يكن شعب اليمن قد تحرر أفراده من ربق ما ولده أسلوب الحكم فيها. كانت حريته أغلى ما كان يجب عليه أن يتعلق بها ويعض عليها بالنواجذ, ولكن أكثر من جيل آخره نشأ فى ظل يحيى حميد الدين بكل ما فرضه عليهم من استعباد واستبداد فآثرت أغلبية الناس مالوح به أحمد بن يحيى من ذهب على حريته. ولم يكن هذا الشعب فى أغلبيته حتى يوم ذاك قد استعد لذل دمه فى سبيل حريته ولكنه كان مستعدا لبذله فى سبيل جنيهات من الذهب فوضع القيد بيديه فى عنقه ويديه.

ولم تكن الجامعة العربية مستعدة على مستوى دولها لتقبل ذلك, فأكثرها حينذاك كانت ملكية, مهما كانت الحقيقة أنه لم يكن مبيتا التدبير لقتل يحيى فلم يكن لملك عربى أن يقبل أو يستسيغ قتل ملك شقيق, مهما كان حكمه فاسدا فتلك مسألة ينظر إليها على أنها داخلية لا شأن لأحد بها.

أما الشعوب فلم تكن تدرى شيئا خاصة وقد قامت صحافة الأحزاب بشوشرة حادة. ثم كان الانتماء الإسلامى الذى أعلنه عبد الله بن الوزير وصحبه مما لا يرحب به شرق ولا غرب,حتى الشيوعيون الذين كانوا يلعنون ملوك الدنيا قاطبة صاروا يتباكون على الملك يحيى ويقيمون له مأتما وعويلا. ولم يكن قد حدث فى أى دولة عربية انقلاب بعد ولا حتى الجمهوريات التى يتغير رئيسها بطبيعة نظامها فكيف بالنظم الملكية. إلا أن ابن الوزير وإن لم يصل إلى تغيير الحكم فى اليمن فما من شك أن حركته قد هزت أعماق كل يمنى وأشعلت فى قلبه شرارة الحرية ولئن قلنا إنها كانت سابقة لأوانها فقد كانت هى التى أنضجت الأوان لما يجىء بعد فقر وأمراض وظلم فادح ومجاعة ومخافة إمام.


الفصل السابع: الخازندار فى خبر كان

السبـــب

مر بنا حين تناولنا قنابل الكريسماس كيف امتلأ بعض شبابنا بأن القاضى أحمد بك الخازندار رئيس محكمة استئناف القاهرة كان يرى شرعية الوجود الإنجليزي فى مصر بموجب معاهدة 1936 وتطوع بعضنا لتخليص الحركات التحررية منه فإن أمامنا منطلقا كبيرا وجهادا مريرا طويلا, فإذا سمحنا لهذا السيف أن يظل قائما يقتطع من أطرافنا وأعضائنا فأى خسارة سوف تصيبنا وأى تضحيات من ذواتنا سوف نقدمها على مذبح الحرية بدون مبرر. تلك كانت النظرة عند شباب يتعجل تحرير وطنه. وعلمت أنه تم اختيار من يقوم بهذه المهمة. فصرت أول شىء أفعله كل صباح أن أقلب الصحف بحثا عن الخبر... ومرت الأيام دون أن أقرأ الخبر الذى انتظره وعدت أفاتح فى الموضوع وأسأل عن سبب البطء, وجاء الجواب إننا نبحث عن عنوان الرجل ونجد صعوبة فى ذلك فإن اسمه ليس فى دليل التليفونات, وربما كان هذا طبيعيا فقد كان منقولا من الإسكندرية ولعله لم يحصل على تليفون بعد أو حصل عليه ولم يدرج فى الدليل. وأخيرا عرف أنه كان يقيم فى ضاحية حلوان.


إغتيــال

وعادت الأيام تمر بطيئة ونحن نتصبح بالبحث فى صحف الصباح, حتى كان يوم 22/3 / 1948... كنت فى عملى بالبنك الأهلى حين شاهدت أحد الموظفين الأجانب يندفع وسط المكاتب ويصيح" جمدوا حساب أحمد بك الخازندار" فسأله أحدهم "لماذا؟" قال" جاءنا خبر الآن بالتليفون أنه مات... ضربوه بالرصاص". لم يكن الخبر عند موظفى البنك أكثر من أنه "حادثة" وأن حسابه سيجمد حتى يحصر الورثة ويتحدد نصيب كل وارث, ولكنه عندى كان أكثر من ذلك. وما أن انتهى عمل اليوم بالنسبة لى حتى انطلقت أطمئن على ما حدث, ولكن لم تكن الأخبار مطمئنة. لقد اغتاله اثنان من إخواننا فى الصباح ولكن قبض عليهما.


كيف اغتيل الخازندار ?

وقع الإختيار على حسن عبد الحافظ ومحمود سعيد زينهم لاصطياد الرجل. وبعد مراقبة الرجل أياما علم أنه يذهب إلى المحكمة فى باب بالقاهرة ويعود إلى حلوان بالمواصلات العادية, سيرا على الأقدام إلى محطة سكة حديد حلوان ثم قطار حلوان إلى باب اللوق ثم المواصلات المعتادة. كذلك أبانت الدراسة أن قسم بوليس حلوان لا تتبعه سيارات! وعلى ذلك وضعت الخطة أن ينتظر خروج الرجل من بيته... فيغتاله حسن بالمسدس بينما يقف له محمود حارسا وحاميا لانسحابه بالمسدس وبقنابل يدوية صوتية, ثم ينسحبان ويمنعان تتبعهما من الجماهير بإطلاق الرصاص فى الهواء وإلقاء القنابل. ويكون انسحابهما فى غير تتبع من أحد إلى بيت عبد الرحمن. ولقد باتا ليلتهما عنده أيضا فى هذا البيت, بيت عبد الرحمن السندي.

وفى الصباح الباكر وقبل الموعد المعتاد لخروج الخازندار من بيته كان الصائدان يترصدان ذلك الخروج. ثم خرج فى خطوات وئيدة لا يدرى ما هو مبيت له. وكان محمود بعيدا بعض الشىء يرقب الطريق والمارة ويرقب أيضا أخاه فى المهمة, بينما تقدم حسن وأطلق بضع طلقات لعلها كانت ثلاثا لم تصب الهدف. ولم يضع محمود الفرصة فترك مكانه وتقدم نحو الخازندار وقيل إنه أمسك به من ذراعه وأوقعه على الأرض, كان محمود مصارعا ورياضيا وكان مكتمل الجسم مثل الجمل الأورق, وصوب إليه مسدسه فأفرغ فيه ماشاء, ثم تركه وانسحب بزميله وقد خرجت الأرملة تصيح من الشرفة وتقول " ألم أقل لك؟ يا أحمد بك ألم أقل لك؟" {أنا مش قلت لك؟}

كان العجلاتى القريب من البيت يفتح محله حين سمع إطلاق الرصاص وصراخ الزوجة ونظر فوجد الخازندار ممددا على الأرض فى دمائه وانطلق العجلاتى بإحدى دراجاته إلى قسم البوليس فابلغ الأمر. وهنا كانت مفاجأة. القسم الذى كان معلوما خلوه من السيارات تصادف أن جاءته من القاهرة سيارة فى تلك اللحظة لنقل بعض المحجوزين به. وانطلق الكونستابل الذى كان يصاحب السيارة بها فى أثر الفارين. وتغير الموقف فاتجه محمود وحسن صوب الجبل بدلا من اتجاههما إلى بيت بحلوان والذى يعرف جبل المقطم يعلم أنه ليس مجالا مناسبا للفرار فى تلك المنطقة. واجتازا فى انسحابهما هذا بعض أسوار الحدائق والبيوت, وسقط حسن فجزعت قدمه, واضطر محمود أن يحمله أو يسنده بعض الوقت. وتوالت قوات البوليس من القسم نحو الجبل ثم لم يلبث الجبل أن ضرب عليه حصار من العباسية إلى حلوان على مسافة تزيد عن ثلاثين كيلو مترا, وتقدمت تلك القوات إلى داخل الجبل الأجرد فقبضت على محمود وحسن. وأنكرا كل صلة لهما بالحادث. وجرى التحقيق ليلتها فى قسم حلوان بمعرفة النائب العام محمود منصور, ثم نقلا إلى القاهرة. فى اليوم التالى وجدتنى أشهد جنازة الخازندار إلى مسجد شركس وقد سار فيها جمع من رجال القضاء.


الحكـــم

وطال التحقيق وكذلك المحاكمة, وتظاهر حسن بالمرض العصبى وأحيل إلى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية وقدمت البحوث والتقارير والمناقشات حول مرضه ومدى مسئوليته الجنائية فى ظل الحالة التى تنتابه.

وفى قضية مصرع الخازندار عمد الدفاع إلى تأجيل النظر بكافة الحجج, ومن المعلوم عن القضايا "الساخنة" أنها تبرد بمضى الوقت, وكان هذا فى الواقع ما يهدف إليه الدفاع. وكان الأستاذ فتحي رضوان من هيئة الدفاع وقد بنى مرافعته أساسا على براءة المتهمين مما نسب إليهما من قتل القاضى الخازندار ثم لجأ إلى الدفاع الاحتياطي فقال... ومع ذلك نفرض جدلا أنهما قاتلاه, فما الدافع لهما على ذلك؟ وذكر ما شاء تحت هذا العنوان ثم ختم مرافعته بتحذير... إنها نار فحذار أن تطفئوها بالبنزين! وأخيرا صدر الحكم فى 22 نوفمبر 1948 على محمود زينهم وحسن عبد الحافظ بالأشغال الشاقة المؤبدة.


ردود الفعل

كان للحادث ردود فعله السيئة فى كافة المجالات, فلدى القضاء كان الإستياء على أشده, فمن المعلوم أن الأحكام تصدر بأغلبية آراء أعضاء المحكمة وليس برأى رئيسها وحده. ومهما حدث... لم تجر العادة أبدا أن يعتدى على القضاة. ولقد حاولت النيابة بعد ذلك فى بعض قضايانا اتخاذ الحادث كقميص عثمان لاستعداء القضاء علينا. ومع ذلك فقبل أن يغتال أحمد الخازندار نظر النقض المقدم من حسين عبد السميع فى الحكم الصادر بحيسه ثلاث سنوات, ورفض النقض. ثم لقى الخازندار مصرعه, ونظر النقض المقدم من عبد المنعم عبد العال فى الحكم الصادر بسجنه خمس سنوات, وقبل النقض وأعيد نظر القضية إلى دائرة جنايات أخرى فحكمت ببراءته. وربما كان فى القضية الثانية ما يرتكز عليه النقض بخلاف ما يرتكز عليه النقض بخلاف القضية الأولى... ولكن طبائع الشباب لا تحملها دائما على هذا المحمل.

لقد كان اغتيال الخازندار جريمة قتل جزاؤها الإعدام, ولكن عدم الحكم بالإعدام ربما يعكس أن رأى القضاء لم يبتعد عن الاعتبارات التى عرضناها.وكما ترك الحادث أثره فى دوائر القضاء كذلك استغلته الدعاية الحزبية المضادة ولا سيما حزب الوفد أسوأ استغلال لمهاجمة الإخوان فكان موضوعا ثانيا مع موضوع يحيى حميد الدين ومعاصرا له. ورسم كاريكاتير صحافة الأحزاب الأستاذ حسن البنا يلعب بالسكاكين والمسدسات ونال الإخوان من التشهير أكثر مما نال اليهود من حادث قتل لوردموين وما نال اسرائيل من فضيحة لافون!وفى الواقع أنه ولو أن اللذين قتلا أحمد كانا من الإخوان بل من إخوان النظام... ولو أن ذلك القتل تم بناء على تعليمات صدرت من رقم واحد فى النظام... وبالرغم من أن تلك العملية كانت تجاوبا مع ما فى نفوس بعضنا إن لم يكن كثير منا... بالرغم من كل ذلك فقد كانت عملية فردية.

ذلك أن الوحيد الذى ينطق باسم الجماعة ويحدد اتجاهها هو المرشد العام.


ماذا كان موقف المرشد العام؟

لقد كان الرجل رحمه الله أكثر الناس مفاجأة بهذا الحادث, فاللذان قتلا الرجل من جماعته ومع ذلك لم يؤخذ رأيه ولم يخبره أحد مسبقا... وهذه هى الحقيقة. غضب الأستاذ "المرشد" غضبا شديدا وناقش عبد الرحمن الحساب وكان مما قال "أودى وشى فين من حسن بك الهضيبى؟" لم يكن اعتراض الأستاذ البنا مقصورا على تخطيط العملية وإنما انصب اعتراضه فى المقام الأول على شرعيتها. كان من رأيه أن من حق القاضى أن يخطىء وأن اغتياله غير جائز شرعاً.

وهنا وبعد أن عرفنا هذا انتكست أحاسيسنا وارتد حماسنا لهذه العملية وأشفقنا أيما اشفاق على حسن عبد الحافظ ومحمود زينهم. اننا نفعل ما نفعل – كل ما نفعل – جهادا فى سبيل الله ابتغاء رضاه فإذا انتهينا إلى أن العمل غير جائز شرعا فمن شأن هذا أن يضيبنا بصدمة. لست أدرى لماذا لم نحاول أن نعالج المشكلة معالجة شرعية, لم نحاول أن نؤدى الدية إلى ورثة الخازندار وأن نسترضيهم حتى يرضوا... ربما كانوا رضوا وربما كانوا رفضوا... ولكننا لم نحاول.

قد يذهب البعض إلى أنها سيئة للنظام الخاص, باعتبار أن وجوده يحمل فى طياته احتمال مثل تلك الاندفاعات بما لا يمكن تجنبه وبما يعنى أن قيام النظام فى حد ذاته كان خطأ من هذا الوجه. وفى هذا مناقشة للموضوع فى غير إطاره. فإننا إذا أرجعنا الأمور إلى مناخها العام لوجدنا أن النظام قد كبح جماع كثيرين من أن ينطلقوا بدافع الحماس الذى ساد تلك السنوات بكل مبرراته إلى أعمال لا حصر لها من مثل هذه. فكم من أفراد أرادوا تنفيذ أشياء منعها النظام, فإذا أفلتت عملية أو عمليتان ولو من المسئولين فى النظام ففى موازين الإنصاف يمكن القول إن هذه مقابل تلك, ودون زعم أنه قياس بمعناه الشرعى نذكر أن سيف الله خالد بن الوليد قد قتل فى بعض سراياه من أدى شهادة الإسلام باجتهاد خاطىء أنكره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم حدث مثل ذلك مرة أخرى منه أيضا فى حروب الردة بما أنكره عليه ابو يكر وعمر.وسألنى سائل : إذا حكم قاض أفغاني مسلم فى محاكم أفغانستان على المجاهدين الأفغان على أساس أن الوجود الروسى شرعى فى أفغانستان, أيكون قتل ذلك القاضى خطأ؟ لست أقصد بهذا السرد أنى أؤيد العملية وأدافع عنها, ولا يسعنى هذا بعد أن استبانت كافة جوانبها, إنما أردت أن أوضح أبعادها كما حدثت, أما الآن فلا يسعنى إلا أن أقر بخطئها. لئن قلنا انه كان بحسن قصد فإننا نقول ايضا أنه كان أمرا جسيماً, وحين رفضه الأستاذ حسن البنا وأنكره فقد كان يقدره حق قدره.


مشـروع تهريب

ولقد شدت عملية الخازندار أعصابنا شداً عنيفاً, وكان اهتمامنا بمحمود زينهم وحسن عبد الخافظ بالغاً, لست أقصد مجال الدفاع فى القضية وتوكيل أفضل المحامين للدفاع عنهما. ولكننا كنا نعد لعملية أكبر, هى تهريبهما من السجن باقتحامه ليلا وإخراجهما منه.

وتمت دراسة العملية... مبانى السجن من الخارج ومسالكه من الداخل ونظام الحراسة فيه... وأعدت معدات الاقتحام... سلالم من الخشب يمكن طيها وفردها. وسلالم من الحبال ذات عقد وذات عقل من الخشب... واختير مكان الاقتحام من سور السجن الخلفى الجنوبى... ودرس كل ما سوف تقابله مجموعة الاقتحام, وتم اختيار هذه المجموعة ودربت على العمل الموكول إليها وانتخب السلاح المناسب وكان فى جملته من الرشاشات الصغيرة والمسدسات, ولم يكن مع الطرف الآخر من حراس السجن سوى بنادق قديمة الطراز مما يحشى طلقة طلقة يقدموا الأطعمة . وتم استمالة بعض حرس السجن بالمال واعتاد الإخوان المسجونون أن يقدموا الأطعمة للحراس وكان مقررا أن تكون الأطعمة ليلة التنفيذ أطعمة مخدرة وشهية. وصنعت مفاتيح لأبواب السجن وزنازينه وتم تجربتها على أبوابها, وأعدت السيارات اللازمة للإختطاف كما أعد المخبأ الذى يلجأ إليه الهاربان... ودرس نظام الإنارة فى المنطقة لقطع التيار الكهربائى ساعتها. وكان كل شىء يسير فى مساره المرسوم.

ولكن جاء حادث السيارة الجيب ومحنة 1948 وقبض على المخططين للعملية وعلى بعض المرشحين للإشتراك فيها قبل التنفيذ, وحتى مفس المفتاح الذى كان مقررا أن يفتح أبواب السجن سقط مع ما كان بالسيارة الجيب ولم يلتفت أحد من المحققين ولا من البوليس السياسى وفتها إلى أنه مفتاح" السجن"., سجن مصر العمومى رغم تردد أعضاء النيابة على السجن عدة مرات خاصة محمد بك عبد السلام رئيس نيابة الاستئناف الذى كان يتولى التحقيق فى قضية السيارة الجيب والذى لا شك رأى المفتاح الكبير المميز ضمن أحراز القضية كما رأه أمثاله بأيدى جاويشية السجن, ولكنه لم يربط بين الاثنين. فلبث محمود زينهم وحسن عبد الحافظ بالسجن بضع سنين, خمساً أو ستاً, إلى أن قامت الثورة فأصدرت عفوا خاصا عنهما.

وفى جريدة " الأخبار " المصرية بتاريخ 9/4/1986 كتب الوزير المفوض محمد أحمد الخازندار نائب مدير الإدارة الأفريقية بوزارة الخارجية – نجل الفقيد – تعقيباً على مقال للمستشار عبد الحميد يونس – لم نطلع عليه – تعرض فيه لحادث اغتيال والده المستشار أحمد الخازندار, وذكر أن هذا الاغتيال تم بيد اثنين من أعضاء التنظيم الخاص للإخوان المسلمين ..."الفئة المتعصبة الخارجة عن خط الدين الإسلامى الصحيح"... وأن ملف القضية لم يفتح بعد الثورة, وكأنه يدعو إلى فتحه. وقد كتبت تعقيباً إلى جريدة الأخبار لا دفاعاً عن الخازندار ولا هجوماً عليه, إنما وقائع مجردة. ولكن الجريدة لم تنشره.


الفصل الثامن: النقراشي والإخوان (1947 -1948)

النقراشي باشا

كانت وزارة النقراشي الثانية والأخيرة فترة صدام عنيف بل ومسلح بين الإخوان والحكومة. ولقد أعلن النقراشي أنه سوف يطرح قضية مصر على مجلس الأمن, وبالفعل ذهب إلى الولايات المتحدة وألقى بعض الخطب هناك. كان النقراشي مدفوعا فى ذلك بالضغط الداخلى, ولم يكن قادرا – بحجمه الطبيعى – أن يتصرف إزاءه تصرفا كفاحيا جادا. فإن الوصول إلى كراسى الحكم كان هدف كل حزب, ولا يتفق كفاح الإنجليز الرواسى مع البقاء على الكراسى!

وفى يوم 3/2/1948 اصطدم البوليس بالطلاب فى الزقازيق بسبب المطالبة بجلاء جيش الإحتلال الإنجليزى عن مصر, وألقى طلاب مدرسة الزقازيق الثانوية القنابل عليه فأصابت بعض رجاله, واتهم فى ذلك نجيب جويفل وحسن عبد الغني من الإخوان وطلب القبض عليهما ففرا إلى فلسطين حيث انضما إلى قوات الإخوان المسلمين المتطوعين هناك.


قســم الوحــدات

ومع أن النظام الخاص كان هو التشكيل الذى حمل عبء الكفاح المسلح للإخوان, فقد كان هناك جهاز آخر ساهم فى هذا النوع من التعليمات, وهو قسم الوحدات الذى كان يرأسه ضابط البوليس صلاح شادي – صاحب حصاد العمر – كانت المهمة الأساسية لقسم الوحدات نشر الدعوة بين عساكر وضباط البوليس وصف ضباط الجيش. أما ضباط الجيش من الإخوان فكانوا شعبة من النظام الخاص .وفى 20/6 / 1948 فجر قسم الوحدات عربة يد محملة بالمتفجرات فى حارة اليهود بالقاهرة, وأحدثت بها تلفيات كبيرة. وبعد أن ذهبت الظنون أن تلك الحارة قد أخذت نصيبها ولن تنفجر مرة آخرى عاد فى 22/9/ 1948 فجر قسم الوحدات عربة يد محملة بالمتفجرات فى حارة اليهود بالقاهرة . وأحدثت بها تلفيات كبيرة. وبعد أن ذهبت الظنون أن تلك الحارة قد اتخذت نصيبها ولن تنفجر مرة أخرة عاد فى 22/ 9/ 1948 ففجر عربة أخرى بها. ولما عجز البوليس فى الحادث الأول عن الوصول إلى شىء أعلن أن الحادث وليد خلاف طائفى بين اليهود فهم يضربون بعضا وأن اليهود القرائين قد نسفوا محلة اليهود الربانين . فلما وقع الانفجار الثانى استمر البوليس يقول إت الربانيين انتقموا من القرائين بنسف مماثل.

وبين حادثى حارة اليهود فجر قسم الوحدات أيضا ترسكل ممتلئا بالمتفجرات أسفل محل شيكوريل فى 19/ 7 /1948, وكان إحدى ليالى شهر رمضان فأفشى بالمحل الخراب, وراح ضحية الحادث الأخ الذى قام بالعملية, إذ استبطأ الانفجار بعد أن ابتعد فعاد لينظر ماذا جرى, ووقع الانفجار حينذاك.


مصــر الفتاة وآخــرون

كان الرأى العام يدرك أن الإخوان هم أصحاب ذلك النوع من العمليات, وكان كبير الثقة بالإخوان حتى إنه حين تقع حادثة ليست على المستوى كان يدرك أنها ليست من صنع الإخوان. من ذلك أن بعض شباب مصر الفتاة أراد أن يحاكى الإخوان ففرقعوا صندوقا من صناديق الأحذية معبأ بالمتفجرات أمام محل بنزايون بميدان مصطفى كامل ليلا بعد أن أقفل المحل أبوابه. وفى 28 / 7/1948 فعلوا مثل ذلك بمحل داود عدس بشارع عماد الدين على سلم خلفى للمحل وفى 3/ 8/48 ألقى أحدهم قنبلة يدوية على مبنى شركة أراضى الدلتا بالمعادى.

كان البغض متبادلا بين الملك وحزب الوفد, وحاولت السراى قتل النحاس باشا فدفعت بعض عملائها إلى تفجير سيارة مليئة بالمتفجرات أمام منزله. ونجا النحاس من الموت وقد تناثرت السيارة وتعلق رفرفها بناموسية سريره. وحرصت صحف الوفد على تصوير تلك العناية الآلهية, وعنى الأستاذ البنا أن يقابل فؤاد سراج الدين – الرجل الثانى فى حزب الوفد – ليفهمه أن هذا الحادث ليس من عمل الإخوان وكان الوفد حينذاك يخاصم الإخوان ويهاجمهم, فوجده مدركاً لذلك وأجابه سراج الدين بأنهم يدركون تماما أ، الحادث ليس من عمل الإخوان وأنهم يدركون من الذى دبره. 

وإخـــوان أيضـــا

ونشط بعض الإخوان المتحمسين من غير إخوان النظام فى عمليات "خاصة". من ذلك الأخ الترزى ا.ع أحد إخوان مصر الجديدة كانت لديه دراجة ومسدس فكان ينتظر اليهود أمام بيوتهم بمصر الجديدة ثم يطلق عليهم الرصاص وينطلق بدراجته , فقتل بعضهم وأصاب بعضا, فعل ذلك فى 11/8, 17/8, 26/8 / 1948. ولم يقبض عليه. وكان النظام الخاص يحاول أن يحد منه وأن يسيطر عليه بضم من يصلح منهم إلى صفوفه ومحاولة تثبيط الآخرين عن نشاطهم فلم تكن كل حركاتهم مرغولة أو صالحة.


الإخوان وفلسطين

ليست صلة الإخوان بقضية فلسطين بالتى يكفيها فصل فى باب من كتاب, فالموضوع أكبر من هذا بكثير. وقد تناول الأستاذ كامل الشريف جانبا منه فى كتابه "الإخوان المسلمون وحرب فلسطين". كما أعلم أن محمود الصباغ يتناول هذا الموضوع فى كتاب له تحت الطبع.

ولقد بدأـ صلة الإخوان بقضية فلسطين عام 1937 حين اندلعت الثورة العربية بفلسطين فجمع الإخوان التبرعات لها ثم بعثوا غلأيها بالسلاح الذى تسنى جمعه من مصر. واستمر تدفق اليهود على فلسطين تحت الانتداب البريطانى واندلعت المقاومة العربية, ومن حين لآخر كان للإخوان مبعوث هناك... الشيخ عبد المعز عبد الستار.. سعيد رمضان... الشيخ السيد سابق... محمود الصباغ... الخ كان اليهود يقيمون مستعمراتهم فى مواقع استراتيجية حاكمة ويسلحونها وكان العرب يقاومون. وحدثت حركة كبيرة ومتسعة بين الإخوان للتطوع للقتال فى فلسطين حتى شملت القطر كله. ولم يكن بوسع المركز العام أن يوفد كل من تطوع, فإن موراده لم تكن بالتى تسمح بذلك. ومع ذلك فقد تجاوز عدد الإخوان الذين دخلوا الأرض المقدسة للتقال ألفين من مصر من القوات الفدائية التى أذهلت العالم ببطولاتها وجسارتها وحرصها على الشهادة, وكان على رأسهم الأستاذ محمود عبده والشهيد محمد فرغلي. هذه الوقائع شهد بها فى قضية السيارة الجيب بعد ذلك سماحة مفتى فلسطين والشيخ صبري عابدين سكرتير الهيئة العربية العليا, واللواء أحمد علي المواوي أول قائد للجيش المصرى فى حرب فلسطين واللواء أحمد صادق الذى قاد المعركة فى مرحلتها الحاسمة. نشطت كتائب الإخوان هناك, وفى أول معركة خاضوها فى فبراير 1948 ضد مستعمرة دير البلح بالقرب من غزة استشهد منهم أحد عشر من إخوان النظام الخاص, فكانت تلك المعركة ذات أثر فعال فى تفكير الإخوان تجاه القضية.. كانت مقنعة بأن الحرب لا تكسب بالبطولة وحدها وإنما يلزمها أيضا التخطيط والتدريب والإعداد. وفتحت معسكرات التدريب.


السلاح لمتطوعينا

وحصل الإخوان , بتوسط من الجامعة العربية والهيئة العربية العليا لدى وزارة النقراشي, على تصريح بجمع السلاح من صحراء مصر الغربية حيث كانت بقايا معارك الحرب العالمية الثانية ما زالت متناثرة حيث دارت.وكان التصريح لاثنتين من سيارات جريدة الإخوان عليهما اسم الجريدة وشارة الإخوان, غير أن النقراشي مالبث أن سحي التصريح. ولم يكن بوسع الإخوان إذ سحب التصريح أن يمتنعوا عن جمع السلاح بعد أن صار لهم ألفان من المتطوعين لهم وجودهم الفعلى فى الميدان ويفنون فيه أكبر الفناء فى معاونة الجيوش النظامية بل ونجدتها كلما تورطت أو وقعت فى شرك... فكان يلزمهم السلاح والذخيرة... واستمرت حركة الجمع, وكان إخواننا الذين يجويون الصحراء وراء السلاح يشاهدون اليهود يفعلون نفس الشىء من صحرائنا. وفى مصر أنشأنا بعض الترسانات المجهزة بالعدد والأدوات لترميم ذلك السلاح وفحص الذخيرة والمفرقعات وكافة أدوات الحرب التى نحصل عليها بعد أن بقيت بالعراء ما بين ثلاث سنوات إلى سبع. وتعرض إخواننا بسبب ذلك لمخاطر مهلكة, ولنفس السبب وقع انفجار بمبنى كان ملحقا بالمركز العام للإخوان المسلمين فى شارع محمد على بالقاهرة بالقرب من مسجد قيسون بفعل لعض الألغام التى تآكلت أجهزة الآمان بها. وأرادت تقارير البوليس وقتها أن تذهب إلى أن اليهود فعلوها ردا على نسف حارتهم, ولكن الأستاذ البنا أعلنها صريحة, إنها مفرقعاتنا التى نقوم بإعدادها لإخواننا المتطوعين فى حرب فلسطين. ولقد أراد بهذا إعلان أننا ما زلنا نجمع السلاح ونصلحه ونرممه بعد سحب الترخيص حتى لا يهاجمنا بعد ذلك أحد بدعوى أن فى يدنا سلاحا.. ومع ذلك شهدنا تلك البجاحة بعد ذلك حين عرضت قضايانا على القضاء بتهمة جمع السلاح للعمل على قلب نظام الحكم.

يظهر كتبنا هذا بعد سقوط الملك والملكية بأربعة وثلاثين عاما, فلا يضيرنا ابدأ أن نفخر بأن ذلك السلاح كان لقلب نظام حكم فاسد انقلب فعلا, ولكن ذلك يجافى الحقيقة, أنه الاتهام السهل , وقد تكرر ذلك الزعم بعد ذلك أيام جمال عبد الناصر... مزاعم أيضا تجافى الحقيقة لتبرر مذابح للتخلص من الجماعة ثم ليصير جبارا فى الأرض.

كان انسحاب الإنجليز من فلسطين فى 15 مايو 1948 وهو تاريخ إعلان الجيوش العربية الحرب من أجل فلسطين. ولكن الإخوان كانوا هناك من قبل 1948 وكانوا يقاتلون فى أسوأ الظروف, وأى سوء ابلغ من أن تخونهم حكوماتهم وتطعنهم من خلفهم وتبيعهم إلى عدوهم؟


شــركة الإعــلانات الشرقية

كانت إذاعات وصحافة الدول العربية و تهون من شأ، اليهود وتصف إسرائيل بأنها" المزعومة" ولم يكن هذا يغنى شيئا, فقد كانت عصابات هؤلاء تتجول إلى جيوش شبه نظامية, ثم نظامية أشد مراسا من الجيوش العربية, وقامت طائراتهم بغارات على المدن العربية وألفت قنابلها على بعض الأحياء الشعبية بالقاهرة مثل باب الشعرية وعابدين وكانت الجماعات اليهودية ترتكب الفظائع ضد الأهالى المسلمين بفلسطين فكان النشاط الداخلى ضد المنشآت والأماكن اليهودية جانبا من الرد على تلك الغارات... شكيوريل وحارة اليهود, ثم كان أكبر حادث نسف من هذا النوع هو الذى وقع فى شركة الإعلانات الشرقية بشارع جلال قريبا من شارع عماد الدين بالقاهرة فى 12/11/1948,ولقد كانت الشركة مركز لعملاء الصهيونية بمصر ومكانا لاجتماعاتهم وتجميع الأخبار لهم تحت ستار الصحافة والاعلان.

فى كتابه {من قتل حسن البنا} قال محسن محمد: " نفذ الإخوان – كما قال رجال الشرطة – تهديد اتهم ضد أكبر وأخطر المؤسسات اليهودية فى مصر. فى 12 من نوفمبر 1948 أمر السندى بنسف مكاتب ومطابع الشركة الشرقية للإعلان التى يملكها اليهود ويرأسها يهودى... هنرى حاييم"أ.هـ.

تلك الأهداف كانت داخل بلادنا ويعمل فيها عمال مصريون مسلمون ومسيحيون, ومحاولة لتلافى وقوع ضحايا من هؤلاء كنا نحاول اختيار وقت متأخر من الليل والمحل ملق, وكان حادث شركة الإعلانات الشرقية قريبا من الفجر فى وقت انصرفت فيه وردية من العمال ولم يبدأ موعد الوردية التالية فالعمال هناك أقل ما يمكن, هذا فى حين كانت حادثتا حارة اليهود فى منتصف الليل.

وتم حادث شركة الإعلانات بسيارة بيك أب امتلأت بصناديق المتفجرات ساقها رحمه الله أخونا على الخولى حتى حشرها فى بوابة المبنى الكبير للشركة ثم تظاهر بتعطليها, وأجاب بأن بها ورقا للشركة, وانصرف بحجة إحضار مفك وبعض الأدوات اللأزمة لتشغيل السيارة. وبعد انصرافه انفجرت , وخربت الدار, وظلت السماء تمطر حجارة من حطامها لدقائق بعدها. لقد سمعت ذلك الانفجار من منزلى الذى كان يبعد نحوا من سبعة كيلو مترات. ومن المؤسف أن قتل فى الحادث بعض المواطنين فيهم الشرطى المصرى المكلف بالحراسة.


الفصل التاسع: السيارة الجيب

عهــدة المدرسة

المتهمون في قضية الجيب عقب الإفراج عنهم

ذكرنا أن مجموعات النظام الخاص كانت تتلقى دروسا فى بيوت أعضائها مختلف أنواع الأسلحة ولا سيما المسدسات والقنابل اليدوية والمتفجرات والقنابل والتوصيلات الكهربائية لتفجير الشحنات الناسفة. كذلك كانت هناك رسائل ومطبوعات خاصة بتلك الدراسات, هذا فضلا عن التقارير التى كانت يحررها إخوان النظام دراسة لهدف من الأهداف أو عملية من العمليات أو لمجرد التدريب على تلك الدراسات وأوراق الإجابة لامتحانات مراحل النظام, تلك الأوراق التى صدرت أخيرا أوامر عبد الرحمن السندي إلى مسئول النظام عن منطقة القاهرة بإعدامها. هذه الأوراق وعديد من الأسلحة التى ذكرناها كانت فى حاجة إلى مكان لتحفظ فيه. وكنا قد استأجرنا شقة بحى الدمرداش وضعت هذه الحاجيات التى يمكن أن نطلق عليها أدوات أو عهدة المدرسة التى كان يتعلم عليها إخوان النظام بالقاهرة فى إحدى حجراتها بينما شغل اثنان من الإخوان الطلاب حجرتين أخرتين.

ورئى التخلص من هذه الشقة. وكان أحد إخواننا عادل النهرى طالبا بإعدادى الطب ويسكن بالعباسية, كانت له حجرة خاصة ينزل إليها من حديقة منزله بعدة درجات وكانت أرسته تسكن فوق تلك الحجرة. وقد استضاف الأخ عادل تلك العهدة مدة طويلة فى حجرته تلك فكانت تملؤها. وانتهى العام الدراسى وكان من مقتضى دراسته أن يتمها فى كلية الطب بجامعة فاروق الأول بالأسكندرية لضيق الأماكن بالقاهرة. وقد شرح لنا عادل ذلك قبلها بوقت كاف, وأبلغت بدورى المسئول فوقى رحمه الله فوعد بإعادة البحث عن شقة. ومرت الأيام وعاد أخونا ينبهنا إفلى إلى موعد سفره وتكرر الوعد بأخذ وديعتنا من عنده, وظل الأخ يذكرنا حتى اليوم السابق لسفره فأرسلته مباشرة إلى المسئول فوقى ليتفاهم معه. ولم يعد لى فى ذلك اليوم حتى ظننت أن الأمر قد قضى. ولكن فى اليوم التالى وأنا أغادر بيتى صباحا فى طريقى إلى عملى حضر لى طاهر عماد الدين وسلمنى رسالة من المسئول بنقل تلك الحاجات اليوم بأى طريقة, وأنه قد اتفق مع إبراهيم محمود ليأخذها فى مسكنه, وأنه لذلك سيكون فى انتظارنا فى محله " محل ترزى" بالعباسية طوال اليوم. وعرض طاهر على أن يقدم جهده وخدماته. فاتفقت معه على موعد معين فى العباسية. وانصرفت إلى عملى وأنا حائر... كيف أنقل تلك الحمولة؟ وقلت فى نفسى لعل المسئول قد اتفق مع أخينا إبراهيم على شىء فى هذا الشأن . كنت أخرج من عملى الساعة الواحدة لأعود إليه فى الرابعة. كان ذلك يوم الاثنين 15 / 11/ 1948 وكنت صائما.

وغادرت عملى إلى محل إبراهيم محمود فلم أجده وأفادنى شريكة أنه نزل إلى البلد لشراء حاجات للمحل. وقلت فى نفسى لعل إبراهيم يعمى على شريكه ولعله أن يكون منتظرنا فى مسكنه القريب, غير أنى لم أجده به. وانصرفت اضرب أخماسا فى أسداس. وأنا فى تلك الحيرة صادفت مصطفى كمال وكان من إخوان النظام وفى عهدته سيارة جيب مملوكة للنظام كانت مشتراه حديثا من مخلفات الجيش الإنجليزى ولم تكن لها أرقام. وناقشته فى المشكلة فوافق على استخدام السيارة فى النقل وعرض أن يأخذ العهدة فى بيته حتى نجد لها مكانا وهكذا تراءى لى أن المشكلة قد حليت فجأة. ومررنا فى طريقنا بطاهر حيث كان ينتظرنا, ثم إلأى بيت طالب الطب عادل النهرى فحملنا ما كان لديه على العربة وكانت حمولة فوق طاقتها. غير أنه تبين لى أن بطارية العربة ضعيفة وأنها تتوقف أثناء دورانها, ورغم أنى أوجست من ذلك خيفة إلا أنه لم يكن أمامى حل آخر. وفى عودتنا إلى بيت مصطفى قابلنا إبراهيم مصادفة فانصرفنا جميعا إلى بيته حيث أفرغنا حمولتنا


سقــوط السيــارة

كان إبراهيم يسكن فى بيت رجل يريد أن يحمله على إخلاء مسكنه لتشغله ابنته التى على وشك الزواج من مخبر فى البوليس السياسى! ولم نكن نعرف ذلك, وحضر ذلك المخبر حال تفريغنا الحمولة ورآها, فارتاب فى محتوياتها.ولم يخف علينا جميعا ما وراء ذلك, فانتهزت فرصة اختفاء الرجل عن أعيننا – واستنجت أنه ذهب لإبلاغ رؤسائه بما رأى –وأعدت كل الحمولة إلى العربة لننطلق بها, وقد تم لنا ذلك عاد الرجل, ووجدنا صعوبة فى إدارة محرك السيارة الجيب بسبب ضعف البطارية ولم يدر المحرك, وبدا الموقف حرجا لغاية... وراح المخبر يصرخ, وبذلك صار الموقف ميئوسا منه فتركنا كل شىء وانطلقنا نبتعد والمخبر والناس من خلفنا, حتى قبض على طاهر وعلىّ, أما مصطفى فقد استطاع الفرار, وعاد إبراهيم إلى محله حتى قبض عليه ليلا.


سوء حـــظ

كنت ومصطفى وطاهر وإبراهيم نرتدى – بدون أى اتفاق – بنطلونا من الفانلة الرصاصى وبلوفر... مصادفة عجيبة. فلما فر مصطفى تناقل الناس أن شخصا يرتدى بنطلونا فانلة وبلوفر قد فر... وهنا مر من المنطقة مصطفى مشهور أحد المسئولين الخمسة عن النظام يحمل حقيبة جلدية بها مجموعة خطيرة من أوراق النظام.. كان يرتدى بنطلونا فانلة وبلوفر , وتصايح به الناس أنه هو الهارب المطلوب... وقبضوا عليه... وشهد الشهود الذين استحضرهم البوليس أنه كان معنا فى السيارة!! وأنكرنا جميعنا أننا كنا بها, كما أنكر كل منا معرفته بالأخرين. وقد أدهشنى وجود مصطفى مشهور مقبوضا عليه معنا.


قضـــاء وقـــدر

وكان من المقرر عقد اجتماع للمجلس الأعلى للنظام فى بيت مصطفى مشهور فى تلك الليلة. فلما أراد الخروج أوصى أهله أنه إذا جاء أحد من إخوانه قبل أن يعود فلينتظره فى حجرة الضيوف... وجاءوا, أحمد حسنين وأحمد زكي, ومحمود الصباغ. وذهب البوليس يفتش بيت مشهور, فوجد هؤلاء هناك فاصطحبهم إلى قسم بوليس الوايلى. فقط عبد الرحمن السندي تأخر عن موعد الاجتماع فلما ذهب ووجد البوليس يحيط بالمنزل لم يدخل. وهكذا سقطت هذه المجموعة الثمينة من إخوان النظام فى يوم واحد


التحقيق

أخذنا جميعا إلى قسم الوايلى بالعباسية وحجز كل منا فى غرفة بمفرده, وامتلأ القسم بكل من هب ودب.. رجال البوليس السياسي عن بكرة أبيهم, اللواء سليم زكى حكمدار بوليس القاهرة, ورجال النيابة.. نيابة شرق القاهرة ونيابة الإستئناف, رئيس هذه ورئيس تلك ووكلاء النيابة ومعاونوهم... النقراشى باشا رئيس الوزراء بشخصه جاء ينظر إلينا.

وكان من الواضح من اللحظات الأولى أن البوليس السياسى بدأ يلعب فى القضية. فقد رأينا شهود السيارة جميعا وعددهم ثلاثة عشر يشهدون أنهم رأو مصطفى مشهور معنا فى السيارة... وإذ فر سائق السيارة, شهد الثلاثة عشر بأن طاهر عماد الدين هو الذى كان يقودها... وقد استطاع طاهر أن يثبت أنه لا يعرف قيادة السيارات, إذ كان قد انفق مع سائق قبلها بيوم واحد أو يومين أن يعلمه القيادة لقاء أجر معين, فاستشهد به وشهد له السائق, حينئذ عاد جميع الشهود يعدلون عن زورهم. ولقد ثبت بعد ذلك فى المحكمة أن عشرة من أولئك الشهود كانوا من رجال البوليس, وكل منهم ادعى وجوده مصادفة فى مكان الحادث وأنه رأى ما جاء يشهد به, كما كانوا ينكرون صلتهم بالبوليس حتى أن أحدهم – وقد ضيق عليه الدفاع الخناق فى المحكمة – اضطر إلى الإعتراف بأنه بوليس ملكى يوم شهادته بالمحكمة ولكنه لم يكن كذلك يوم ضبط السيارة!

واستمر التحقيق وقد ضربت عليه النيابة ستار السرية, وفرضت على المتهمين الحبس الإنفرادى حتى لا نلتقى, وكنا فى وقت من الأوقات موزعين على ثلاثة سجون بالقاهرة, سجن الأجانب بشارع الملكة نازلى { رمسيس} – مكانه الآن محطة بنزين التعاون بجوار مستشفى الهلال الأحمر – جارى هدمها – وسجن مصر العمومى بالقلعة وسجن الاستئناف بباب الخلق. واستمرت تلك القيود علينا رقما قياسيا لم يحدث فى أى قضية أخرى إذ امتدت 350 يوما. واستجوبت النيابة أكثر من أربعمائة شخص وزاد ملف التحقيق على أربعة آلاف ورقة مكتوبة على الآلة الكاتبة وأكثرها بخط صغير, وقد حفل بأكثر من ثمانمائة محضر ما بين استجواب ومعاينة وتفتيش, وقد اشترك فى تحقيق القضية خمسة عشر محققا تقلد بعضهم بعد ذلك منصب نائب عام أو وزير أو محافظا, وقد تولى مسئولية التحقيق مصطفى بك حسن رئيس نيابة الاستئناف وكان رجلا نزيها, غير أنه بعد فترة أحس بتدخل رجال البوليس السياسى مثل الصاغ محمد الجزار والصاغ توفيق السعيد وأحمد طلعت ومحمود طلعت فرفض أن يستمر فى تحقيق القضية وتخلى عن ذلك فتولاها محمد بك عبد السلام. وبلغ عدد جلسات التحقيق من لم يحقق معه سوى مرة واحدة ومنهم من حقق معه ثلاثين مرة مثل أحمد حسنين وطاهر عماد الدين وكاتب هذه السطور. وكانت النيابة تستدعينا من السجن للتحقيق معنا فى سراى النيابة بمبنى محكمة مصر بباب الخلق, فكان الواحد منا يصحبه ضابط مسلح بالطبنجة واثنان من عساكر الشرطة المسلحين بالبنادق فى سيارة أجرة, وأنفقت الدولة نحو ستة ألاف من الجنيهات مصارف انتقال لنا ما بين السجن والنيابة وهو رقم كبير جدا بتقديرات وقتها.

حين وصلنا إلى قسم بوليس الوايلى تلقانا ضابط برتبة بكباشى – مقدم – فسألنا عن أسمائنا, ثم أمر بتفتيشنا وأخذ ما فى جيوبنا. وحمدت اله ألاف حمد أن يد الضابط الذى فتشنى لم تمتد إلى جيب البلوفر الذى كنت أرتديه, ففيه كانت رسالة رئاستى التى تكلفنى فيها بنقل ما كان بالسيارة الجيب, وقد تخلصت منها بعد ذلك. ثم راح ذلك البكباشى يدير قرص التليفون ليبلغ رجال البوليس السياسى والنيابة والأمن العام. وبالرغم من سوء الموقف الذى كنا فيه والإجهاد الذى كنت أحسه والجراح التى أصبنا بها من جراء اعتداء الناس علينا ظنا منهم بأننا يهود جئنا ننسف حيهم... بالرغم من ذلك كله فقد كنت أشعر بشىء من الصفاء وضبط النفس. لقد وقفت طويلا فى التحقيق وبينما كان يجرى استجواب مصطفى مشهور شعرت بتعب وطلبت مقعدا من أحد الضباط الواقفين فقال لى" اقعد على الأرض" ودون أن أجيبه اتجهت إلى مقعد خال وسحبته.

لأقعد عليه,وصاح الرجل بى أن أتركه فإنه مقعد " أحمد طلعت بك وكيل الحكمدار!" وأذكر أنى فى هدوء شديد قعدت على المقعد وأنا اقول " يستطيع طلعت بك أن يجد مقعدا" ثم اضطر الرجل أن يسكت حيث لاحظ أنه بصياحه قد شغب على المحقق.

استمر التحقيق الليل كله, ومع فجر اليوم التالى وزعونا على أقسام بوليس القاهرة, فأودعت قسم روض الفرج ليلتين حدثت فى كل منهما غارة جوية ثم نقلت إلى سجن الأجانب.

كان سجن الأجانب يحتوى على ثمان وعشرين حجرة مقسمة على دورين, وكان نظيفا للغاية فقد كان مخصصا لحبس الأجانب, أما المصريون فلهم سجون قذرة . نزلت غرفة رقم 7 فى مواجهة مستشفى الهلال الأحمر وكانت جدارنها مطلية بالزيت وبها سرير ومنضدة وكرسى وزر جرس كهربائى اضغط عليه عند الحاجة فيحضر خدم السجن من مخبرى البوليس السياسى! وبالغرفة نافذة كبيرة تسمح بالجلوس عليها ولكن كان عليها قضبان الحديد وشبك من السلك. كان يحيط بالسجن حديقة وبداخله فناء. وكان الغذاء المقدم جيدا من حيث النوع وفيرا من حيث الكم. وكان ببعض غرف السجن نزلاء من الأجانب ولكن أكثر غرفه مغلقة علينا البواب.

وكان مأمور السجن يمر علينا يوميا ومعه أحد ضباط البوليس السياسى, كما كانوا يحضرون حلاقا لحلاقة ذقوننا. وقد طلبت إلى المأمور مصحفا فاعتذر بأن الأمر يحتاج إلى تصريح من النيابة. ووصلنى خطاب من البنك الأهلى الذى أعمل فيه بإيقافى عن العمل. ونحن فى ذلك السجن أيضا أصدر النقراشى بصفته حاكما عسكريا أمرا بحل جماعة الإخوان المسلمين فى 8/12 / 1948. وفى 28 من نفس الشهر اغتاله عبد المجيد حسن فى بهو وزارة الداخلية. وخلفه فى رئاسة الوزارة والحزب إبراهيم عبد الهادي باشا.

سجن الأجانب الدور الأرضى {وكان فوقه دور ثان على نفس النسق}, الجزء الخارجى منه مخصص للإدارة , أما الخاص بالمحتجزين فيبدأ من الحاجز الحديدى الذى يتوسطه باب من القضبان الحديدية أيضا. الزنانين تحيط بفناء كان مزروعا ببعض الزهور, وتحيط به أعمدة من الحجر الجيرى وتحمل الدور الثانى. وكانت الحجرات)6,7,8) تطل على مستشفى الهلال الأحمر أما (9-14) فكانت تطل على شارع الملكة نازلى {رمسيس} وكانت تحيط بالسجن من الخارج حديقة ذات أشجار ونخيل, يحوطها سور الأسلاك الشائكة مكسوا بالحصير.


سـجن مصـر العمـومى

وبقينا بسجن الأجانب حى 13/ 1/1949, فى صباح ذلك اليوم حاول أخونا شفيق أنس وضع حقيبة متفجرات حارقة فى حجرة التحقيق التى يحفظ فيها ملف القضية وأحرازها, وقد سمعنا الانفجار صباحا وفى مساء نفس اليوم تم نقلنا واحدا واحدا إلى سجن مصر العمومى بحى الخليفة. هناك فى هذا السجن كان حسين عبد السميع مازال يقضى السنوات الثلاث التى حكم عليه بها أحمد الخازندار, وكان معه فى دور 6 المحكوم عليهو فى قضيى اغتيال أمين عثمان التى كان متهما فيها أنور السادات. كان سجن مصر يختلف تماما عن سجن الأجانب فليس فيه أثر للنظافة, وكانت زنازينه مظلمة لا تدخلها الإنارة وكان النوم على "برش" نسج من حبل من مسد خشن جدا والغطاء قطعة من بطانية غاية فى القذارة. ولم يكن لنوافذ الزنازنين ما يقفلها فيحول دون الرياح الباردة التى تجتاحها ولا ماء المطر الذى يكاد يغرق أرضها. وكانت جدرانه مليئة بالبق الذى يقض المضاجع. كما كان الطعام فيه رديئا وعلى نفقتنا وهو غالى الكلفة, ومن أراد أن يأكل طعام السجن الذى يقدمه فعليه مع هذا أن يرتدى بردائه . وبئس الرداء كان.

إلا أنه هنا فى هذا السجن ورغم فرض قيود الحبس الإنفرادى وصدور التعليمات المشددة بالا يتصل متهم بالآخرين, رغم هذا فقد كان الاتصال سهلا وميسورا, فقد كان فوق باب كل زنزانة شراعة مفتوحة إلا من قبضان الحديد وبذلك تسنى لكل منا مخاطبة الآخرين من تلك الشراعات, أما العساكر الذين وكل إليهم منع اتصالنا فلم يكن احدهم يجرؤ القول بأننا نتصل, كما كانت برتقالة أو قطعة من الحلوى كفيلة بجعلهم لا يسمعون صياحنا ونحن نتخاطب. وقد أفادنا هذا كثيرا فى ترتيب أقوالنا فى التحقيقات.

كان سجن مصر العمومى ثلاثة عنابر أ.ب.ج , كل عنبر من أربعة أدوار فكان الدور الثانى من عنبر ب{دورا} مخصصا للقضايا السياسية. وكان شاويش الدور يحب ثمار المنجة كثيرا, فكان يمر أمام الزنازين يسأل ويقول من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها, فنعطيه منها. وكان دور 5 تحتنا للمحبوسين احتياطيا لقضايا لم يتم الفصل فيها كما كان دور 7 فوقنا للمحكوم عليهم لأول مرة أما دور 8 فكان للسوابق الذين تكرر حبسهم.

وبالخارج نظم الإخوان إمدادنا بالطعام المناسب لسوء طعام السجن, كما كان أكثرنا ممن تنقطع موارده بحبسه موظفا كان أو صاحب عمل, فنظموا جمع التبرعات من الإخوان والمعونات لاستمرار الإنفاق على العائلات.

وكانت السجون من أسوأ ما يتصور إنسان قذارة وسوء معاملة, يدخلها المجرم فيخرج أكثر إجراما, ويتعارف أبناء الجريمة الواحدة فيدخلون أفراد ويخرجون عصابات, كما كانت الجرائم تمارس داخل السجن ولا سيما المخدرات والجنس. ولقد حاول الإخوان جهدهم لاصلاح السجون سواء من داخل السجن أو من خارجه.


الإتهـــام

وقد وجهت النيابة الاتهام إلى اثنين متهما وبطبيعة الحال كان المتهم الأول عبد الرحمن السندي. وكان الاتهام الموجه إلينا يبدأ بتهمة الاتفاق الجنائى على قلب وتغيير دستور الدولة وشكل الحكومة بالقوة وإتلاف سيارات وأسلحة الجيش وتخريب المنشآت وقتل عدد كبير من المصريين والأجانب وتعريض حياة الناس وأموالهم عمدا للخطر وتعطيل وسائل النقل العامة وإتلاف الخطوط التلغرافية والتليفونية الحكومية وإقامة واستعمال محطات سرية للإذاعة اللاسكية...الخ

وبأننا حزنا مقادير كبيرة من القنابل اليدوية والفسفورية والجلجنايت والمفرقعات والأسلحة النارية والأسلحة البيضاء... الخ وقد اعتبرت النيابة العامة جميع أوراق الدراسة التى كتبت أصلا للتدريب على أ،ها كانت مشروعات للتنفيذ.

ثم بدأت المحاكمة أمام محكمة جنايات عسكرية فى 10/12/ 1949 مكونة من ثلاثة مستشارين واثنين من كبار الضباط. ولكن التحقيقات فى قضية مصرع النقراشى باشا أدت إلى إعادة فتح التحقيق فى قضية السيارة الجيب بمعرفة النيابة بهدف إثبات مزيد من الترابط بين القضيتين وتجميع مزيد من الأدلة على المتهمين فى كلتيهما. بل لقد ضمت القضيتان فى بعض تلك المراحل واتجهت النية إلى تقديمها إلى محكمة واحدة برئاسة المستشار محمد مختار عبد الله, وكان مستشارا متجهما كما وصفه الدفاع من طراز أحمد بك الخازندار. وجلسنا فى قفص الاتهام أمام المحكمة العسكرية ثلاث جلسات كان آخرها فى 28/ 3/ 1950 وطلب الدفاع التأجيل بسبب أن الأحكام العرفية كانت بسبيلها إلى الإلغاء. وبالتالى كان تشكيل المحكمة فى مهب الريح. ثم استقر نظر القضية أمام محكمة جنايات عادية, يرأسها المستشار " أحمد بك كامل" وكان المستشار محمود عبد اللطيف" عضو اليمين بها, كما كان المستشار" زكى شرف" هو عضو اليسار.

وفى 11/ 6/ 1950 قررت المحكمة الإفراج عن ثمانية من المتهمين منهم المتهم الأول عبد الرحمن السندي لاصابته بروماتيزم القلب, كانت باردة طيبة جدا من المحكمة. وبدأ النظر الفعلى للقضية فى 12 ديسمبر 1950 فعقدت إحدى وأربعين جلسة, ثم كانت الثانية والأربعين فى 17/3/1951 للنطق بالحكم, بمعدل أربع جلسات فى الأسبوع, واستمر نظر القضية ثلاثة أشهر ونصفا. وقد طلبت النيابة فى الجلسة الأولى تعديل بعض مواد الاتهام إلى مواد أشد عقوبة وطالبت برءوسنا وإعدامنا.

واستغرق سماع ومناقشة شهود الاثبات ثلاث جلسات, ثم نوقش شهود النفى فى ثلاث جلسات أخرى. وكان ممثل الاتهام هو محمد بك عبد السلام رئيس نيابة الاستئناف الذى تولى تحقيق أكثر القضية, وقد خصص ثلث مرافعته عن جماعة الإخوان, وأراد أن يحط من شأنها فجاءت مرافعته صورة من مذكرة عبد الرحمن عمار مدير الأمن العام عن حل جماعة الإخوان المسلمين. ثم انتقل إلى الكلام عن المتهمين فألقى عليهم جميعا قائمة كبيرة من الاتهامات وطلب إلى المحكمة استعمال القسوة وقد قدم إلى المحاكمة ثلاثة وثلاثين متهما.

ثم استغرق الدفاع (34) ثلاثين جلسة بدأها عبد المجيد نافع الذى كان يترافع عنى. وتلاه شمس الدين الشناوي وكان يترافع عنى أيضا, وازدحمت الأسماء المعروفة فى هيئة الدفاع فكان منهم محمد هاشم باشا وزير الدولة فى وزارة حسين سري, وقد كان زوجا لابنته, وأحمد رشدي وعبد المجيد عبد الحق ومحمد مندور وأحمد حسين وعلي منصور وهنرى فارس وزكى عريي (وكان يهوديا وقتها وقد أعلن إسلامه هو وابنته قبل أن يموت بسنوات) وفتحى رضوان وغيرهم كثير, ومن محامى الإخوان شمس الشناوي ومحمد المسماري وعلي طمان وفهمي أبو غدير وإبراهيم الطيب وطاهر خشاب العشماوي ومختار عبد العليم وفريد شريف قنصورة وعمر التلمساني. وكان ملف القضية 30 جزاء فى كل جزاء 150 صفحة وكان دخول القاعة بتصريح من النيابة, وقد واظب أهلونا على الحضور ولقد كان شهود النفى من الناحية التاريخية على القل على قدر كبير من الأهمية. وكان من أبرز هؤلاء سماحة الحاج محمد أمين الحسينى مفتى فلسطين. قالت مجلة المصور " حينما دعته المحكمة للشهادة لم يناده الحاجب بصوته الجهورى بل ذهب إليه بعض رجال البوليس, وجئ له بكرسى فجلس فى حرم المحكمة, وكان يتكلم بصوت خافت وبهدوء شديد" وقد شهد بأن الإخوان كانت لهم مشاركتهم فى حرب فلسطين منذ عام 1936 فجمعوا السلاح والذخيرة وقاتلوا هناك بأنفسهم حتى النهاية. وقال إن الأستاذ حسن البنا أخبره بأنه قلق مما ظهر من تخاذل بعض الجيوش العربية ومما لمسه من الدسائس التى ترمى إلى تسليم فلسطين لليهود, وأنه لذلك يفكر فى إرسال عشرة آلاف متطوع من الإخوان إلى فلسطين وأنه سيعرض الأمر على المختصين والحكومة المصرية لتموينهم بالسلاح, فإذا تعذر ذلك فسيطلب ذلك من شعب الإخوان وأنه كان مصمما على هذه الفكرة وأ، هذا الحديث جرى بعد الهدنة الأولى فى 11/6/1948. وذكر فى شهادته أيضا أن حكومة النقراشى باشا صادرت أسلحة الهيئة العربية ووعدت بإعادة تسليمها لهم, ولكن ذلك لم يتم. وعند انصراف المفتى وقفنا فى قفص الاتهام تحية له وهتفنا: دماؤنا فداء فلسطين. فلسطين عربية وستعود عربية.

وشهد اللواء أحمد فؤاد صادق باشا قائد عام حملة فلسطين فقال إن الإخوان كانوا جنودا أبطالا أدوا واجبهم على أحسن ما يكون, وأن اليهود كانوا يبحثون عن مواقع الإخوان ليتجنبوها فى هجومهم وأنه أرسل عددا منهم إلى جنوب دير البلح بنحو 100 كيلو لملاقاة الهجوم الإسرائيلي على العريش من 26 إلى 30/ 12/48 بعد صدورقرار حل جماعة الإخوان, فاستبسلوا وأدوا واجبهم تماما, وأنه فى كل مرة كان يكلفهم بواجب كانوا يقومون بأعمالهم ببطولة ولم يؤثر قرار حلجماعة الإخوان المسلمين على روحهم المعنوية أبدا, حتى كتب إلى الرياسة فى مصر يطلب منحهم نياشين. وقال إنه رفض أمر الحكومة باعتقالهم ولكنه وضعهم تحت حراسته الخاصة وأنه عاملهم معاملة كريمة لأنه اعتبرهم زملاء ميدان. ولكن الحكومة قامت باعتقالهم وإعادتهم من الميدان إلى المعتقلات.

كما شهد اللواء أحمد علي المواوي أول قائد عام لحملة فلسطين فقال إن الإخوان سبقوا الجيوش النظامية فى الدخول إلى معركة فلسطين وإن القوات المسلحة اعتمدت على الإخوان كقوة حقيقية تعمل على جانبها الأيمن, وإن روحهم المعنوية كانت قوية للغاية, وذكر بعض العمليات البطولية الهامة التى قاموا بها.

ومن أهم الشهادات التى جرت فى المحكمة شهادة إبراهيم عبد الهادي باشا خليفة النقراشي فى الوزارة والحزب. كتبت مجلة " المصور" كان المتهمون يرمونه بنظرات قاسية, وكان أقرباؤهم الجالسون فى المقاعد يتهامسون بالتعقيب على أجوبته . ثم ودع فى النهاية بالهتاف بسقوط الظلم والطغيان والهتاف لذكرى الشهيد الأعزل. وكان أشد الحاضرين هتافا فتاة ترتدى الملابس البيضاء وتغطى وجهها بنقاب"أ.هـ, وقد طلبه الدفاع كشاهد نفى لسؤاله عن مقابلته لعبد الرحمن عثمان أحد المتهمين فى القضية للتأثير فى أقواله وكذا سؤاله عن التعذيب.

الذى وقع على المتهمين فى حضوره أو فى عهده, وقد أنكر معرفته بحدوث أى تعذيب. وكانت موافقة المحكمة على استدعاء إبراهيم عبد الهادي للشهادة بعد اتفاق ودى مع الدفاع على ألا يوجه المحامون ولا المتهمون إليه أى إهانة, وقد كان.


حادث دبلوماسى مثير

وقد وقع أثناء نظر القضية حادث دبلوماسى خطير نكتفى فى عرضه هنا بمقتطفات مما نشرته عنه الصحف فى حينه. نشرت صحيفة المصرى فى عددها الصادر فى 2/2/1951 ما يأتى:

حـادث دبلوماسى بين مصــر وبريطـانيـا تثيــره قضية سيارة الجيب

بريطانيا تطعن بالتزوير فى وثيقة قدمها الدفاع وتطلب أن تمثل فى المحكمة لتبدى وجهة نظرها ،وزارة الخارجية المصرية تدفع بعدم الاختصاص والسفارة لوزارة العدل.

قابل مستر "تشابمان أندروز" الوزير المفوض بالسفارة البريطانية سعادة عبد الرحمن حقي باشا وكيل وزارة الخارجية منذ يومين وابلغه أن السفارة البريطانية فى القاهرة علمت أخيرا أن أحد حضرات ممثلى الدفاع عن المتهمين فى قضية السيارة الجيب, قدم إلى هيئة المحكمة وثيقة جاء فيها أن الكولونيل " ماك درموث" الضابط بالقيادة رسميا بأن سفارة حضرة صاحب الجلالة البريطانية بالقاهرة, ستتخذ خطوات دبلوماسية, لإقناع السلطات المصرية بحل الإخوان المسلمين فى أسرع وقت مستطاع".


بريطـانيـا تمثـل فى المحكمـة

وعلم مندوب المصرى أن مستر تشابمان أندروز طلب إلى سعادة وكيل الخارجية إتاحة الفرصة أمام السفارة البريطانية بأن تمثل فى المحكمة لتدفع بالتزوير فى هذه الوثيقة التى تدعى أن السلطات البريطانية كان لها شأن فى أمر حل جماعة الإخوان المسلمين.


الخـارجيـة ليسـت جهـة اختصـاص

والمفهوم أن سعادة حقي باشا ابلغ أندروز أن وزارة الخارجية ليست جهة الاختصاص فى هذا الشأن, وأن الرأى فى هذا متروك لوزارة العدل تتخذ فيه ما تراه.


الدفــاع حــر أمـام المحكمــة

وقد رجع مندوب المصرى إلى معالى وزير الخارجية يسأله عن رأيه فى هذه المسألة, فقال إنه لم يعلم بها إلا من المندوب وأضاف قائلا" وعلى كل حال فالدفاع حر يقول أمام المحكمة ما يشاء".


فـى وزارة العــدل

وعلى أثر ذلك توجه مستر جراهام المستشار القانونى للسفارة البريطانية إلى وزارة العدل حيث قدم مذكرة للسفارة أشار فيها إلى رغبتها فى تسوية هذه المسألة بطريقة ودية.


طعــن بالتــزويـر

وقد نفت المذكرة حدوث تدخل من جانب بريطانيا فى صدد حل الإخوان المسلمين, وطعنت ثانيا بأن الوثيقة إلى المحكمة مزورة.


طلـب التمثيل فى المحكمة

وطلبت المذكرة بعد ذلك أن يسمع صوت السفارة البريطانية فى مصر أمام المحكمة مادام الاتهام قد وجه إلى بريطانيا فى هذا الشأن, وأيدت المذكرة رأى السفارة بحجج قانونية


وزارة العـدل تدرس المسـألة

وعلم مندوب المصرى فى وزارة العدل أ، الوزارة تدرس هذه المذكرة طبقا للإجراءات القانونية الواجب إتباعها فى مثل هذه الأحوال, حتى يتسنى للسفارة البريطانية أن تبلغ رأيها إلى هيئة المحكمة, سواء أكان بحضور مندوب من السفارة البريطانية أمام هيئة المحكمة أم بإيداع مذكرة فى هذا الشأن بدوسيه القضية


السفارة لا تستطيع مخاطبة المحكمة

واستطلع مندوب المصرى رأى مصدر قضائى كبير فى هذه المسألة فقال إن السفارة لا تملك فى مثل هذه الأحوال حق مخاطبة المحكمة رأسا, بل ولا أن ترسل إلى المحكمة من يمثلها, لأن المحكمة لا تقبل فى دعوى معروضة أمامها شيئا يأتيها عن طريق الخصوم. ولذلك فإن الإجراء الطبيعى هو أن تخاطب السفارة وزارة العدل وهذه تبلغ سعادة النائب العام الذى يرسل إلى ممثل النيابة فى القضية وهو الأستاذ محمد عبد السلام بك كناب بما تقرره السفارة فى شأن هذه الوثيقة, ويقوم حضرته بعد ذلك بعرض هذا الخطاب على هيئة المحكمة التى يرأسها سعادة أحمد بك كامل وعندئذ تنظر المحكمة فى أمر الوثيقة والخطاب.


لا مسئولية على الدفاع

وأضاف المصدر إلى ذلك قوله إنه من المفهوم أنه لا مسئولية على المحامى الذى يقدم وثيقة من هذا النوع حتى لو رأت المحكمة أنها غير صحيحة, لأن المحامى قد يكون حسن النية عند تقديمها وهو يتكلم بلسان موكله, وحق الدفاع مقدس.أ.هـ

وعلى اثر ما نشرته الصحف حول هذا الموضوع وقف الأستاذ شمس الدين الشناوي فى المحكمة واحتج على ذلك وقال إنه يخشى أن يكون لما تنشره الصحف تأثيره على وجدان المحكمة, وإن الوثيقة التى قدمها صحيحة. وقد أجبا رئيس المحكمة بأن المحكمة لا تتأثر بما تنشره الصحف, وأنها ستعتبر هذه الوثيقة صحيحة حتى يصلها من الجهات الرسمية ما يثبت تزويرها. هذا وقد توجه تشابمان أندروز فى زيارة إلى إبراهيم عبد الهادي للتداول معه فى شأن الوثيقة ونشرت الصحف أنه طلب إلى عبد الهادى تكذيبها, ولكن هذا الأخير أجابه بأن الوثيقة منسوبة إلى السلطات البريطانية ولذلك فيجب أن تصدر ذلك التكذيب من تلك السلطات


نــص خطــاب السفــارة

"عزيزى وحيد رأفت بك"

طلب إلى سفير حضرة صاحب الجلالة بأن أقرر أن نظرة قد استرعى أخيرا إلى خبر نشر فى الصحف بشأن محاكمة قائمة أمام المحاكم جاء فيها أن محاميا يدعى الأستاذ شمس الدين الشناوي حاضرا عن المتهم أحمد عادل كمال صرح بأن الحكومة البريطانية أوعزت إلى الحكومة المصرية فى سنة 1948 بإلغاء وحل الإخوان المسلمين. وأن الأستاذ الشناوى دلل على ذلك بصورة كتاب مؤرخ فى 30 نوفمبر 1948 زعم أنه موقع عليه بمعرفة الكولونيل . أ.م ماك درموث نيابة عن السلطات العسكرية البريطانية .

وأرى من واجبى إخباركم أن هذه الوثيقة إن وجدت تكون مصطنعة فضلا عن أن أمر حل الإخوان أو مشابه ذلك, كما زعم الأستاذ الشناوي لم يثر ولم يكن محل حديث بين هذه السفارة والحكومة المصرية.

ولعلكم ترون من الضرورى لمصلحة العدالة إحاطة المحكمة علما بما تقدم.

التوقيع

مورى جراهام

ويلاحظ أن الخطاب مرسل بالإنجليزية من مستر جراهام المستشار القانوني للسفارة بتاريخ 25 يناير 1951 إلى سعادة وحيد رأفت بك بصفته مستشار الرأى لوزارتي الخارجية والعدل, وقد بلغه سعادته إلى سعادة محمد رشدي بك النائب العام فأحاله سعادته إلى الأستاذ محمد عبد السلام بك ممثل الاتهام فى القضية أ. هـ

وقد سايرت بعض الصحف السفارة, وكان هو ذاته اتجاه الحزب السعدى, وإمعانا فى التضليل نشرت أن هناك جماعة لتزوير الوثائق وأخرجت بالفعل بعض الوثائق المزورة للتدليل على ذلك وليسحب ذلك الشك على وثيقتنا هذه. ولكن امتد بنا العمر حتى انقضت فترة السرية {ثلاثين عاما} التى تفرض على بعض الوثائق فى انجلترا وصار مباحا نشرها. وقد قام الصحفى المصرى محسن محمد جزاه الله خيرا بنشرها فى مجلة " المسلمون" واستبانت الحقيقة الآن من وثائق الدبلومسية البريطانية بما لا يدع مجالا للشك فى تدخل الإنجليز وطلبهم حل جماعة الإخوان المسلمين فى مصر عام 1948


الوثيــقة

والواقع أن الذى قدمه الدفاع فى القضية كان وثيقتين وليس وثيقة واحدة نورد نصها هنا, وقد نشرتها مجلة الدعوة فى عددها الأول الذى صدر فى (30 يناير 1951) أثناء نظر القضية, ففى الوثيقة الأولى وتاريخها 13 نوفمبر 1948 أرسل ماجور ج.و. أوبريان السكرتير السياسى للقائد العام للقوات البرية البريطانية فى الشرق الأوسط وكان مقره فى فايد, أرسل الآتى:

الموضوع: اجتماع سفراء صاحب الجلالة البريطانية وأمريكا وفرنسا فى فايد فى (10 نوفمبر 1948)

رقم القيد: ( 1843 / أى /48)

التاريخ: 13/11/1948

إلى رئيس إدارة المخابرات رقم(13)

فيما يختص بالاجتماع الذى فى فايد فى (10) الجارى بحضور سفراء صاحب الجلالة البريطانية وأمريكا وفرنسا, أحظركم أنه ستتخذ الإجراءات اللازمة بواسطة السفارة البريطانية فى القاهرة, لحل جمعية الإخوان المسلمين التى فهم أن حوادث الانفجارات الأخيرة فى القاهرة قام بها أعضاؤها.

إمضاء

ج.و . أوبريان ماجور

وفى (20 نوفمبر 1948 ) أرسل رئيس إدارة المخابرات (أ) فى قيادة القوات البرية البريطانية فى الشرق الأوسط الكولونيل أ.م. ماك درموث إلى إدارة المخابرات { ج.س3 فى القيادة العليا للقوات البريطانية فى مصر, يقول ما ترجمته}

الموضوع: الإخوان المسلمون

رقم القيد: ( 1670/ أ ن ت / 48)

إلى إدارة: ج.س.3

التاريخ: 20 نوفمبر 1948

القيادة العليا للقوات البريطانية فى مصر.

1-إلحاقا بمذكرتكم رقم (734 / أ ن ت / ب/ 48) المؤرخ نوفمبر (1948) رسميا من سفارة صاحب الجلالة.

2- لقد أخطرت هذه القيادة البريطانية فى القاهرة أن خطوات دبلوماسية ستتخذ لأقناع السلطات المصرية بحل جمعية "الإخوان المسلمين" فى أقرب وقت مستطاع.

فيما يختص بالتقارير التى كانت قد رفعت من الرعايا الأجانب المقيمين فى مصر, فقد أرسلت إلى وزارة الخارجية للعلم.

عن الدعوة عدد 1

رئيس إدارة حرف (أ)

30/1/ 1951

قيادة القوات البرية البريطانية فى الشرق الوسط

امضاء

كولونيل أ.م. ماك درموت.


الحكــم

وأخيرا صدر الحكم فى القضية يوم 17 / 3/ 1951 وكان كالآتى:

أولا: معاقبة كل من مصطفى مشهور مشهور ومحمود الصباغ وأحمد حسنين وأحمد قدري الحارثي والسيد فايز عبد المطلب بالسجن ثلاث سنوات.

ثانيا: بمعاقبة كل من عبد الرحمن السندى وأحمد زكى حسن وأحمد عادل كمال وطاهر عماد الدين ومحمود حلمى فرغل ومحمد أحمد على وعبد الرحمن عثمان وجلال الدين يس ومحمد سعد الدين السنانيرى وعلى حسنين الحريرى وصلاح الدين محمد عبد المتعال بالحبس مع الشغل لمدة سنتين

ثالثا: معاقبة محمد إبراهيم سويلم بالحبس مع الشغل لمدة سنة واحدة.

رابعا: مصادرة السيارة المضبوطة وجميع الأسلحة والذخائر والمفرقعات المضبوطة.

خامسا: براءة المتهمين جميعا من التهمة الرابعة الخاصة بحيازة أجهزة وأدوات لمحطة إذاعة لا سلكية.

سادسا: براءة كل من محمد فرغلي النخيلى ومحمد حسني عبد الباقي وأحمد متولي حجازي وإبراهيم محمود علي والدكتور أحمد الملط وجمال الدين فوزي والسيد إسماعيل شلبي وأسعد السيد أحمد ومحمد بكر سليمان ومحمد الطاهري حجازي وعبد العزيز البقلي وكمال القزاز ومحمد محمد فرغلي وسليمان مصطفي عيسي.

ونصت المحكمة فى حيثياتها على الآتى: وحيث إنه من هذا يتبين للمحكمة أن أفراد هذه الفئة الإرهابية لم يحترفوا الجريمة وإنما انحرفوا عن الطريق السوى فحق على هذه المحكمة أن تلقنهم درسا حتى تستقيم أمورهم ويعتدل ميزانهم... على أن المحكمة تراعى فى هذا الدرس جانب الرفق فتأخذهم بالرأفة تطبيقا للمادة 17 عقوبات نظرا لأنهم كانوا من ذوى الأغراض السامية التى ترمى أول ما ترمى إلى تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب المغلوب على أمره&!


حل الإخوان

عبد الرحمن عمار صاحب مذكرة حل الإخوان عام 1948م

فى 8/ 12/ 1948 أصدرت حكومة النقراشي أمرا عسكريا بحل هيئة "الإخوان المسلمين" وصادرت حرياتهم وأموالهم وفتحت لهم السجون والمعتقلات. وبالرغم من أن الدولة قد أعدت لهذا الأمر سرا إلا أن الأستاذ البنا كان يعلم بذلك العزم قبلها بأيام, وفى صباح ذلك اليوم كان يعلم أن القرار الخطير سيذاع ليلتها وتأكد له ذلك حوالى الساعة الثالثة ظهرا. كانت هناك مقدمات... فقد حلت الحكومة شعبة الإسماعيلية وشعبة بور سعيد ثم انتظرت... وبعد أيام أوقفت جريدة الإخوان المسلمين. وراحت الصحف المأجورة والعميلة مثل جريدة الأساس لسان الحزب السعدى تمهد للحل بنشر هجوم على الإخوان وكانت عملية القبض على الإخوان تسير فى طريقها.

واجتمع سفراء دول الإستعمار فى فايد وعلم الإخوان أن هؤلاء السفراء قد طلبوا حل الإخوان من حكومة النقراشي فقد بدأ الجميع.. الأحزاب والحكومة والسراى والإنجليز بدءوا يشعرون بالقلق بعدما ظهر من ضروب البسالة التى ظهرت من الإخوان فى فلسطين وتصورا أن جيش الإخوان سوف يعود من فلسطين ليقوم بانقلاب فى مصر. وبعد يومين من اجتماع السفراء ذكر صديق للأستاذ البنا أن قرار الحل فى مكتب وكيل الداخلية عبد الرحمن عمار بك وأنه سيذاع الليلة وامتلأت شوارع الحلمية الجديدة – حيث دار المركز العام للإخوان – امتلأت بمخبرى البوليس السياسى.

وطلب الأستاذ البنا تليفونيا إبراهيم عبد الهادي فى مكتبه وكان مازال رئيسا للديوان الملكى, ولكن هذا طلب منه فى عجرفة أ،ن يقابل عبد الرحمن عمار أولا. وذهب الأستاذ إلى عمار ثم عاد إلى المركز ولم يحاول مقابلة إبراهيم عبد الهادي. وكان مع حسن البنا حين ذهب إلى عمار فى وزارة الداخلية عبده قاسم وسعد الوليلي, ولكنه قابله منفردا ودارت بينهما مناقشة حادة. قال عمار إن الإخوان قد صاروا خطرا على الأمن وعلى الدولة وأن فى البلد أجانب وقد هدد الإنجليز بالعودة إلى احتلال القاهرة. وكان أول ما قاله الأستاذ حسن البنا حين عاد إلى المركز العام بصوت مرتفع " خلاص حلونا"وكررها. وذكر الأستاذ البنا أن عمارا قال له: لقد علمنا أننا إذا نفذنا قرار الحل فإنكم ستنقلبون إلى جمعية سرية. فقال الأستاذ البنا: هذا طبيعى, ستضيقون علينا وتحرمون علينا الاجتماع وتسلوبنا حريتنا, فلقد اعتاد الإخوان أن يجتمعوا ويلتقوا ويتزاوروا لأنهم إخوة, وهذا عندهم جزء من العقيدة التى يقدوسونها ويتقربون إلى الله, فإذا حلتم بينهم وبين أداء هذه الشعيرة فلابد أنهم يجتهدون فى الحصول على ذلك وتحقيقه بصفة سرية.

وبعد الساعة العشرة مساءأذاع راديو القاهرة قرار حل الإخوان فى حين كان رجال البوليس يحتلون المركز ويعتقلون من فيه, وقد تعالت هتفات الإخوان. كان هذا الحل فى وقته حدثا تاريخيا خطيرا لا مثيل له. وكان صدوره بناء على مذكرة تفسيرية وضعها عبد الرحمن عمار. وقد كتب الأستاذ البنا ردا مطولا فند فيه ما جاء بها وحالت الرقابة دون نشرها فطبعها الإخوان على شكل منشور وزعوه على السفارات والقنصليات والهيئات ودور الصحف الحرة. والمذكرة تبدأ بمقدمة يتلوها الفصل الأول فى نماذج من المظالم الواقعة على الإخوان, ثم الفصل الثانى فى تفنيد اتهام الحكومة للإخوان والتدليل على بطلانه, وكان الفصل الثالث فى بيان السبب الحقيقى وراء ذلك القرار, والفصل الرابع فى بيان ماقدم الإخوان لوادى النيل والوطن العربى والإسلامى, ثم الفصل الخامس فى بيان خطوات التفاهم قبل الحل وبعده والفصل السادس فى معنى موقف الحكومة ونتائجه ثم ختمها بخاتمة

ونشرت مجلة آخر ساعة المتعاطفة مع الحكومة فى ذلك الوقت فى عددها الصادر فى 15 ديسمبر 1948 تقول " لقد تخلصت (الحكومة) من جماعة يمكن اعتبارها أقوى خصومها. وهذه الجماعة لم تكن مجرد حزب بل كانت تشبه بالأحرى دولة كاملة بأسلحتها ومستشفياتها ومداسها ومصانعها وشركاتها".

وراتج العالم الإسلامي لهذا القرار وانهالت الاحتجاجات من كل مكان وشعرت الهيئات الإسلامية فى كل مكان بالفراغ الذى أحدثه حل الإخوان من خائن أحمق مثل النقراشي, فقد بدأت محنة الإخوان وشغل الإخوان بقضيتهم عن قضايا الوطن الإسلامى.. عن قضية مصر وعن قضية فلسطين وعن سواهما من قضايا المصير وكان ذلك فى حد ذاته هو الهدف المستهدف من حل الجماعة.


حديث مــع الأستـاذ حسن البنا

والتقى مندوب جريدة المصرى بالأستاذ حسن البنا وأجرى معه حديثا لم تستطع الجريدة نشره فى حينها فاحتفظت به حتى نشرته فى أكتوبر 1949 بعد زوال العهد السعدى. قال المراسل: كان لما حدث للإخوان المسلمين أخيرا صداه فى مختلف الدوائر السياسية التى كانت ترقب بإهتمام حركات الجماعة وآثارها فى مختلف الشئون الإسلامية والعالمية. لذلك رأينا أن نستوضح فضيلتكم فى الأسباب التى دفعت بالمسئولين فى مصر إلى اتخاذ تلك الإجراءات فأجاب" لايمكن بالتحديد أن أخصر الأسباب التى دعت الذين أصدروا هذا القرار إلى إصداره, ولكن يقال إن هذه الأسباب.. التحول الذى طرأ – أو فى النية أن يطرأ – على اجاهات السياسية البريطانية فى الشرق.

ومن المعلوم أن بريطانيا تعتبر الإخوان المسلمين قوة وطنية متطرفة, وتغزو إلى دعايتهم تعطيل مشروعات الاتفاق بينها وبين مصر.كما يقال إن من هذه الأسباب العوامل الحزبية التى تصاحب قرب موعد الانتخابات النيابية..إذ إنه من المعروف أن الحزب السعدى يريد أن يظفر بأغلبية برلمانية تمكنه من الاستقرار فى الحكم, ومن المعروف أن الإخوان المسلمين قوة شعبية ينتظر منها الصمود فى هذا الموقف.. فمن " التكتيك الحزبى" أن يشوه موقفهم بمثل هذا العمل قبل حلول موعد الانتخابات الذى سيكون فى اكتوبر 1949 مالم تطرأ عوامل أخرى على الموقف.

ويقال كذلك إن رغبة الحكومات العربية فى إنهاء قضية فلسطين – ولو على ما تريد الشعوب – كان من العوامل التى أوحت إلى الحكومة المصرية بهذا الموقف.

ويقال أيضا إن هناك من الضغوط الأجنبية ما لم تستطع معه الحكومة المصرية إلا أن تتخذ هذا الإجراء.

وعلى كل حال فهو موقف مؤسف له, وقد أدى على عكس المقصود منه, وما لم يعدل فى وقت قريب فإن الأمور فى الداخل والخارج لا يمكن أن تستقر على هذا الأساس من الضغط والظلم والتحدى والإرهاق".


نحن ومـن حـولنـا

لم نكن وحدنا الذين صلينا آلام تلك المحنة بل تجاوزتنا إلى أسرنا وأهلينا. كثير منا اعتقل إخوتهم لأنهم إخوتهم, أنيس أنس اعتقل لأنه شقيق شفيق أنس, محمد نبيل كمال – رحمه الله لأنه شقيق أحمد عادل كمال , محمد علي زهدي اعتقل, لأنه شقيق محمود فؤاد زهدي.. وهكذا .. إلى معتقل هايكستيب ثم إلى معتقل الطور. ومن لم يعتقل من الإخوة والآباء لم ينقطع طرق أبوابهم من البوليس السياسىوقام الإخوان بتنظيم رعاية أسر المسجونين والمعتقلين بالنفقة المناسبة قدر الإمكان, وكانت المبالغ تأتى من جيبوب الإخوان القدرين فى مصر وفى الخارج, وتمت دراسة أحوال الأسر واحياجاتها.كما نظم الإخوان أمور الدفاع فى القضايا والمحامين عن إخواتهم.

وطلبنا ونحن بالسجن نسخة من ملف القضية وقد بلغت صفحاته أكثر من أربعة آلاف فقرأناه ودرسناه وكتبانا ملاحظاتنا لمحامينا الذين يتولون الدفاع عنا ونحن فى سجن مصر العمومى. واتخذ الإخوان مكتبا لتنسيق الدفاع ودراسة القضايا انقطع للعمل فيه إبراهيم الطيب – رحمه الله – فكان يجهز لكل محام دفاعا أوليا ويستخرج له من أوراق التحقيقات الكثيرة جدا ما يتعلق بالمتهم الذى يدافع عنه.

ومع ذلك فقد كان من الطبيعى أن تكد الأسر وراء أبنائها فى سجونهم. وصار لا يخلو يوم من الزيارات, وتعارف أهلونا من كثرة اللقاء, فى النيابة, وفى السجن, وفى المحكم’, وبمكاتب المحامين. وتوجه والدى فى يوم مطير إلى أحد المحامين الذين نولوا الدفاع عنى فزلت قدمه فسقط من المترو وهو منطلق, وتعلق معطفه به فسحبه معه مسافة كانت كافية – مع كبر سنه – كسر عظم الحوض وبعض عظامه,كما أصابته بارتجاج فى المخ.

وانقطع عن حضور جلسات المحاكمة إلى نهايتها, يوم أفرج عنى كان مازال طريح الفراش. وكثير فقدوا آباءهم أو أمهاتهم أو الأقربين إليهم فى غيبتهم.

وحين فتشوا منزلى عثروا على خطاب وصلنى من صديقى محمد الغندور ( زميل لى بالبنك الأهلى المصرى) وكان قد نقل إلى فرع المنصورة – صار بعد ذلك نائبا لمحافظ البنك المركزى المصرى – وقد ذكر بالخطاب عنوانه لأكتب إليه, ولم يكن من الإخوان, ودون أن يسألونى عنه ذهبوا إلى عنوانه فى بلقاس واعتقلوه وفتشوا بيته فعثروا على صورة له مع أربعة من أصدقائه, فاعتقلوهم وأرسل الجميع إلى طور سيناء, وبعضهم استقبل ذلك بصدر رحب رغم عدم علاقته بالإخوان


البوليس السياسى مرة آخرى

صدر الحكم فى قضية السيارة الجيب يوم ( 17 مارس 1951)وأفرج عنى فى ذات اليوم مع بعض الإخوان الذين كانوا قد استوفوا مدة الحكم مثلى . وجاء صبرى أبو المجد وكان صحفيا ناشئا فى دار الهلال فسجل لمجلة المصور تحقيقا مصورا لرجوعنا إلى بيوتنا.

ومضت الأيام حتى آخر مارس قبل أن اشعر أن هناك من يتعقبني. وأجريت اختبارات أكدت لى ذلك, كنت أسير وأعود إلى حيث كنت فأجد خلفى ذات الشخصين اللذين بدءا معى من أول الرحلة كانا مخبرين من البوليس السياسى وكانا دائما يغيران مواقعهما خلفى فيسير أحدهما ورائى بمسافة تقصر أو تزيد ويسير الثانى خلفه بمسافة أخرى ثم يتبادلان الموقع وأحيانا ينتقل أحدهما إلى الرصيف الآخر. فإذا ذهبت إلى مكان كانا ورائى وإذا دخلت أى مبنى انتظرانى أمامه وإذا سرت سارا وإذا ركبت ركبا وإذا نزلت نزلا. وبطبيعة الحال كان كل ذلك يرصد ويدون فى تقارير تستقر بملفى لدى البوليس, وقثد أزعجنى ذلك وسبب لى ضيقا شديدا. ومن جانبى اجتهدت ألا يشعرا باكتشافي لهما, فكنت أراقبهما فى الواجهات الزجاجية للمحال وفى زجاج نظارة الشمس وأقتصد فى الالتفات إلى الوراء إلا بصورة طبيعية, فكانا يرتبكان كلما فعلت ذلك.

وكانت بناية بشارع الملك {شارع مصر والسودان الآن} ذات بابين, باب على شارع الملك وباب آخر يفتح على شارع خلفى, وبين البابين ممر يدور حول سلم النباية ولا يظهر من خارجها, فكنت أخرج من بيتى إلى تلك البناية فأدخل من باب وأخرج من الآخر, تاركا المخبرين واقفين تجاه الباب الأمامى فيسيران خلفى حتى بيتى. وربما وصلت تقارير إلى البوليس السياسى برؤيتى فى جهات أخرى فى الوقت الذى كان المخبران يقفان أمام العمارة بشارع الملك أو لعلهم تحروا على سكان العمارة فلم يجدوا لى علاقة بأى منهم, فقد اكتشف أمر الباب الثانى ويطل مفعول الحيلة بعد فترة وتخيرت يوما شديد الحرارة ومشيت على قدمى مباشرة ودون أى توقف من بيتى فى حدائق القبة إلى أهرام الجيزة, مسافة لعلها تبلغ عشرين كيلوا مترا وارتقيت هضبة الأهرام ودرت حولها, ودون أن أستريح رجعت عودا على بدء نحو بيتى والمخبران ورائى فى أسوأ حالة. وفى اليوم التالى اختفيا, ولبضعة أيام جاء غيرهما ثم عاد الأولان مرة أخرى, فعرفت أن الغرض من ذلك التعقب لم يكن مجرد معرفة أين أذهب وماذا أفعل وإنما كان أبعد من ذلك, كان الغرض شل حركتى ومنعى من أى نشاط.

إذ ذاك اعتزمت أمرا, فذهبت إلى الأخ إبراهيم الطيب المحامى رحمه الله وفاتحته فيه فلم يوافق عليه, قلا: أنى سوف أنفذ ما انتويت... سوف أضربهما ضربا يمنعهما من معاودة تعقبى. قال هذا مخالف للقانون ولكن علىّ أن أشهد عليهما شهودا ثم أحرر بلاغا فى قسم الشرطة لإثبات الواقعة ثم أرفع قضية باعتبار أنه ليس علىّ حكم بالمراقبة.. وظل يذكر لى إجراءات لم تقنعنى قلت: لا, إنما أخبرك لتستعد لقضية ضرب. ودبرت أمرى.

خرجت من بيتى فى الصباح وسرت نحو بعض الشوارع التى يخف فيها مرور الناس, وكان هناك كمين من بعض الإخوان يقودهم عبد العزيز على من مدر بى النظام الخاص فى المصارعة اليابانية وفى غيرها. ومشيت فى طريقى لا ألوى على شىء, وأطبق الإخوان فجأة على المخبرين من كل جانب وأوقعوهما على الأرض وأوسعوهما ضربا فصارا يصرخان بأنهما لن يعودا مرة أخرى إلى هذه " المهمة التى مثل الزفت".

كان الذين نفذوا العملية من غير إخوان المنطقة حتى لا يتعرف عليهم أحد فى حراسة إخوان من المنطقة. وخرج الناس من بيوتهم يسألون عن الخبر فأجابهم أحد الإخوان عن المخبرين أنهما من اليهود جاءا يتجسسان على المنطقة وبكل ثقة ودون أى تحقق راح الناس يضربونهما.

وكان هناك إخوان آخرون تعقبوا المخبرين بعد ضربهما فوجدوهما اتصلا تليفونيا بالصاغ محمد الجزار ضابط البوليس السياسى وأخبراه بما جرى لهما فجاء إليهما وعاين معهما المكان الذى ضربا ثم ذهبا بتعليمات منه إلى قسم بوليس الوايلى, وإذ كانا لا يعرفان أحدا ممن ضربهما فقد حررا بلاغا ضدى وضد أخى نبيل رحمه الله بأننا اعتدينا عليهما بالضرب أثناء تأدية وظيفتهما فى مهمة خاصة بالمنطقة, ثم انصرفا مثخنين بما أصابهما إلى بيتهما أحدهما فى بلاق والثانى فى الزيتون.

وصارت قضية جنحة. وكنا حصلنا على شهادة من شركة الأسمدة بالمصنع وقت الخادث, ولم يحضر المخبران المحاكمة وترافع عنا إبراهيم الطيب رحمه الله واقتنعت المحكمة بكذب المخبرين فحكمت ببراءتنا,كما حكمت عليهما بغرامة مالية.

بعد ذلك انقطعت تلك المراقبة وازداد اعتباري خطرا عند البوليس السياسى, كانت هناك مراقبات أخرى من هذا النوع لإخوان آخرين من إخوان القضية فخاطب الأستاذ حسنين مراقبيه مباشرة أن يكفوا خيرا لهم وأصابهم الخوف فاختفت جميع تلك المراقبات عن جميع إخوان القضية.


الفصل العاشر: إغتيال النقراشي وحادثة المحكمة

الأسباب

كان سقوط السيارة الجيب فى 15/11/ 1948. وترائى للنقراشي بها أنه قد استمكن من الإخوان. كان النقراشي رئيسا للوزارة وحاكما عسكريا عاما ورئيسا للحزب السعدى أكثر الأحزاب المصرية هزالا وضعفا حينذاك,كما كان فى نفس الوقت وزيرا للداخلية ووزيرا للمالية فى وزارته. وفى 8/12/ 1948 أصدر النقراشى أمره العسكرى بحل جماعة الإخوان المسلمين ولم تنفض ثلاثة أسابيع حتى سقط النقراشي قتيلا فى عرينه بوزارة الداخلية برصاص الإخوان. وكان لذلك الاغتيال أسباب ثلاثة هى كما أفصح عنها عبد المجيد أحمد حسن الذى اغتاله , تهاونه فى شأن قضية وحدة مصر والسودان, وخيانته لقضية فلسطين واعتداؤه على الإسلام بحل الإخوان المسلمين كبرى الحركات الإسلامية فى عصرها.


الحادث

النقراشي باشا

منذ وقع النقراشي قرار حل الجماعة وهو يدرك أنه ارتكب حماقة وتهورا يعرضه لما أصابه, فأعد لنفسه حراسة مشددة وبروجا مشيدة. وكان يذهب أياما إلى رئاسة مجلس الوزراء وأحيانا إلى وزارة الداخلية وأحيانا أخرى إلى وزارة المالية. وقد استدعى الأمر قيام الإخوان بعملية رصد متوال لمعرفة جدوله فى توزيع أيامه على وزاراته.كذلك كان يغير طريقه من منزله بمصر الجديدة إلى أى من تلك الوزارات بوسط المدينة. ولذلك استبعدت فكرة اصطياده فى الطريق.

وفى صباح يوم الثلاثاء 28/12/ 1948 ذهبت قوة الحراسة المكونة من الصاغ عبد الحميد خيرت والضابط حباطى على حباطى والكونستابل أحمد عبد الله شكرى إلى منزل النقراشي لاصطحابه, وانتظروا الباشا حتى نزل إليهم قبل العاشرة صباحا بعشرين دقيقة, وركب الأول معه فى سيارته بينما استقل الآخرون سيارة أخرى تتبع السيارة الأولى, ووصل الركب وزارة الداخلية واتجه نحو الساعة العاشرة ونزل الباشا من سيارته أمام الباب الداخلى لسراى الوزارة واتجه إلى المصعد مجتازا بهو السراى وإلى يساره الصاغ عبد الحميد خيرت وخلفه الحارسان الآخران هذا بالإضافة إلى حراسة أخرى تنتظر بالبهو مكونة من كونستابل وصول وأونباشى بوليس.

وكان هناك أمام الوزارة الداخلية " مقهى الأعلام" تم اختياره مسبقا ليجلس به عبد المجيد أحمد حسن – 21 سنة- وقد تسمى باسم حسنى فى انتظار مكالمة تليفونية لتلقى إشارة بأن الموكب قد غادر بيت الرئيس فى طريقه إلى الوزارة وتمت تلك التجربة مرات قبلها. وفى يوم الحادث تلقى " الضباط حسنى "إشارة تليفونية بأن الموكب قد تحرك, فغادر المقهى إلى البهو الداخلى لوزارة الداخلية وهناك كانوا يخلون البهو من الغرباء فى انتظار وصول الرئيس ولكن عبد المجيد وقد تزيا بزى ضابط بوليس لم يطلب إليه أحد الإنصراف فهو من " أهل البيت" إذا. وحين غادر عبد المجيد مقهى الأعلام كانت هناك عيون على مقهى آخر ترقبه.. شفيق أنس فى زى كونستابل ومحمود كامل السيد فى زى سائق سيارة بوليس, فتبعاه إلى داخل الوزارة.

اجتاز عبد المجيد الباب الخارجى ثم الداخلى وانتظر فى البهو. وجاء النقراشي بين حرسه متجها نحو المصعد حتى إذا صار على وشك ولوجه فاجأه عبد المجيد بإطلاق ثلاث رصاصات من مسدس بارتا إيطالى الصنع كان معه, وقد تم ذلك بسرعة خاطفة وأصابت الرصاصات الهدف فسقط النقراشي على الأرض جسدا له شخير وخوار.كانت الساعة العاشرة وخمس دقائق صباحا. وأخذ رجال الحرس بما حدث فلم يستطع أحد منهم عمل شىء قبل إطلاق المقذوفات الثلاثة والتفت الصاغ عبد الحميد خيرت إلى الخلف فاصطدم – بالمصادفة على ما يبدو – بعبد المجيد فوقعا على الأرض وهجم الحراس على عبد المجيد وفى تماسكهم به انطلقت رصاصة رابعة ومات النقراشي بعد قليل. وقد ذكر بعض الشهود أنه بعد القبض على عبد المجيد وأثناء الذهاب به إلى غرفة وكيل الأمن العام بالبهو انطلق نحوهم عيار آخر أصاب الحائط, مما أوحى بوجود شركاء آخرين, ولكننا نستبعد ذلك, فتلك شهادة لم تذكر أمام النيابة فى الحقيق وإنما ذكرت أمام المحكمة بعد أن عرف أن شفيق ومحمود كامل كانا هناك. وهى رواية ابتدعها البوليس للتأثير على عبد المجيد بإيهامه بأن الإخوان أرادوا قتله بعد الحادث.كما ظن البعض هذه الحكاية أنه كان هناك تدبير لتهريب عبد المجيد. ولكن الذى نعلمه أنه لم يكن هناك أى تخطيط للفرار بعبد المجيد وإنما كان الهدف من وجود شفيق ومحمود هو اغتيال إبراهيم عبد الهادي وعبد الرحمن عمار حين يحضران على أثر مصرع النقراشي . غير أنه صدرت الأوامر بإغلاق كل الأبواب وتفتيش المكان, فبادر محمود بالإنصراف متخطيا سور الوزارة كما خرج شفيق من الباب وكان عليه حرس من عساكر البوليس فقال له أحدهم إن الأوامر تمنع خروج أى إنسان فأجابه على الفور " نعم"... لا تسمح لأى إنسان كان بالخروج" وخرج!

,ابلغ صابر طنطاوى بك مدير الأمن العام الحادث تليفونيا إلى النائب العام محمود منصور باشا فانتقل إلى مكان الحادث وباشر التحقيق.

وقد جاء بتقارير الطبيب الشرعى أن جثمان المجنى عليه به ثلاث إصابات نشأت عن مقذوفات نارية, الأول أصاب الجهة اليسرى من الظهر مقابل المسافة الضلعية التاسعة وقد نفذ العيار للتجويف الصدرى ثم لتجويف البطن فى اتجاه من الخلف واليسار للأمام واليمين بميل قليل لأسفل, وقد وجد المقذوف مستقرا بجدار البطن الأمامى واستخرجه الطبيب من تخت الجلد. أما الثانى فقد أصاب أعلى خلف القطن الأيسر أسفل الضلع الأخير نشأ عنه جرح نافذ حيوى إلى تجويف البطن من الخلف واليسار للأمام واليمين, وقد استقر المقذوف أيضا بجدار البطن الأمامى واستخرجه الطبيب الشرعى. وقد أصاب الثالث مقدم الكتف الكتف اليسرى وطية الإبط وامتد على جدار الصدر الأمامى وانتهى بجرح هو فتحة الخروج. واستنتج الطبيب الشرعى أن " الجانى" كان خلف " المجنى عليه" وإلى يساره وعلى مسافة تزيد على النصف متر وكان مصوبا سلاحه بميل قليل إلى أسفل وأن الوفاة قد نشأت عن عيارى الظهر وما أحدثاه من إصابات بالرئة اليسر والكبد والأوعية الدموية والأمعاء, وما ترتب على ذلك من نزف دموى وصدمة عصبية, أما عيار الكتف اليسرى فلا دخل له فى الوفاة.

راجعت تلك الذكريات بعد زمنها بأربعين عاما مع شاهد العيان شفيق إبراهيم أنس – صاحب التأبيدتين قال: إن فريق الاغتيال تكون فى بادىء الأمر من عبد المجيد أحمد حسن وشفيق إبراهيم أنس وجلال الدين يس ولكن شفيقا لم يطمئن إلى أعصاب جلال وأفضى بذلك رئاسته فتم اختيار محمود كامل السيد بدلا منه وبدأ عبد المجيد فى هذه العملية برتبة ملازم ثان, ثم رئى من الأنسب أ، يكون ملازما أول.

كما ذكر أن موكب النقراشي باشا كان يجىء من بيته بمصر الجديدة مارا بشارع الملكة نازلى {رمسيس} إلى وسط المدينة, وكان بيت سعد شهبندر بشارع الملكة نازلى بالعباسية, فكان هو المكلف بترقب الموكب من شرفة بيته حتى إذا مر من أمامه يطلب رقما معينا للتليفون {هو تليفون قهوة الأعلام أمام وزارة الدخلية} ثم يطلب الضابط حسنى, وكان عبد المجيد يذكر لصاحب المقهى إنه ينتظر مكالمة تليفونية وأن اسمه حسنى, فإذا أجاب عبد المجيد يقول له سعد:" لقد مر الآن".

لم يكن سعد ولا عبد المجيد يعرف أحدهما من يخاطب. وأجريت ثلاث تجارب أثبتت أن الموكب يصل يعد 14 دقيقة من المكالمة.

كان عبدالمجيد يتحه بعد المكالمة إلى بهو وزارة الداخلية من الباب الرئيسى وبعد دقيقة يتبعه شفيق من ذات الباب, وبعد دقيقة أخرى محمود كامل ليدخل من باب جانبى ثم يسلك إلى البهو من باب صغير يوصل إليه. وترصدت المجموعة صيدها ثلاثة ايام, كانت التعليمات أن ينتظروا ثلاث دقائق فإذا لم يصل النقراشى فعليهم بالانصراف حتى لا يثير بقاؤهم انتباه الحراس. وفى اليوم الأول انتظروا خمس دقائق بدافع الحماس والحرص على التنفيذ, ثم انصرفوا, وعملوا بعد ذلك من الصحف أنه ذهب إلى جامعة الدول العربية بدلا من وزارة الداخلية. وفى اليوم التالى كان مقررا أن يذهب إلى وزارة المالية – حيث كان وزيرا للمالية أيضا- ولكنه خالف وذهب إلى وزارة الداخلية ربما لعدم ذهابه فى اليوم السابق, ولم يكونوا فى انتظاره. وفى اليوم الثالث جاء الباشا بعد دخول عبد المجيد وشفيق إلى البهو مباشرة وكان ذلك مفجأة لهما, ودخل محمود كامل من الباب الجانبى ولكن الأحداث جرت أسرع منه حيث أطلق عبد المجيد النار على النقراشى دون انتظار محمود فأغلقت جميع البواب فورا واحنجزوا محمود بالخارج.

كما ذكر شفيق أنه فى مناقشة العملية دارت مناقشة حول ما إذا كان عبد المجيد يطلق النار على النقراشى فى مواجته أو من خلفه وذلك لأفضلية ألا يقال بعد ذلك أنه ضربه من الخلف, ولكن الحرس كان يحيط به إحاطة السوار بالمعصم فصار متعذرا على عبد المجيد أن يضربه مواجهة, حتى إذا مر من أمامه تقدم فأزاح أحد الحراس من خلفه وأطلق النار بسرعة فسقط النقراشى على الأرض وله شخير وحشرجة مسموعة رغم الضجة, وتكالب الحراس على عبد المجيد فوقعوا به أرضا, وأقفلت الأبواب على الفور, ولما كان الذى أطلق الرصاص فى زى ضابط شرطة فقد بدأ ضابط بالملابس الملكية يطلب من جميع من بالبهو – وكانوا نحوا من سبعة أشخاص خلاف ثمانية من الحراس – طلب إبراز بطاقاتهم الشخصية – وبادر شفيق إلى الباب الرئيس وكان قد أغلق وحارسه يقف بالخارج فطرق شفيق الباب وطلب الحارس منه بطاقته وهو يجتاز الباب أن يؤكد الأوامر على حارسه ألا يسمح لأحد بالخروج.

يقول شفيق: إن الأمور بالخارج كانت عادية تماما ولم يدر أحد خارج باب البهو بما حدث وراءه, فذهب إلى إدارة تحقيق الشخصية ومر خلالها خارجا إلى شارع سكة حديد حلوان فاستقل تاكسى وابتعد به. كما أكد أنه لم يكن هناك أى تخطيط للخروج فقد كانت عملية ذهاب بلا عودة


الرأى العام فى انجلترا وفى مصر

وعلقت جريدة " المانشستر جارديان" البريطانية على الحادث فقالت: " إن مقتل النقراشي باشا رئيس الوزراء المصرى لهو عمل سوء. وقد حدث بعد سلسة من الاعتداءات كانت أيدى جماعة الإخوان المسلمين واضحة فيها, فمنذ ثلاثة أسابيع قتل حكمدار بوليس القاهرة فى أحد الشوارع .( تقصد سليم زكى ) وفى 21 نوفمبر دمرت الدار التى تحوى مكاتب أكبر جريدتين فرنسية وانجليزية فى مصر ( تقصد شركة الإعلانات المصرية) وفى الشهر نفسه رفع حادث الاعتداء الرابع فى مدى عامين على النحاس باشا ( كان من تدبير السراى ولا شأن للإخوان به). وفى أول العام قتل أحد القضاة ممن حكموا على أفراد تلك الجماعة ( تقصد الحكمدار)..

" ولقد لقى النقراشي باشا حتفه عقب قراره الذى تأخر كثيرا بحل جماعة الإخوان على أساس أن وجودها يهدد الأمن والنظام.. وكان ذلك هو جواب الإخوان عليه".

وقالت اليلى تلجراف:

" وهذه الجريمة لن تحقق غرضا وستقابل بالسخط والاستنكار فى جميع أنحاء العالم, وقد محت من سجل الوجود رجلا برهن خلال حياته السياسية الطويلة على أنه أقوى رجل سياسى فى مصر!"

ذلك كان رأى صحافة الإنجليز فى الباشا النقراشي وفى حادث مصرعه.. أما فى مصر فقد عمت الفرحة الناس بقتل النقراشى ورقص بعضهم فاعتقل. وتقلد مقاليد السلطة من بعده إبراهيم عبد الهادي باشا.وإذا كان النقراشي قد بدأ فتح المعتقلات فقد كان على إبراهيم عبد الهادى أن يملأها, وإذا كان النقراشى قد بدأ سياسة البطش والتنكيل فقد فاقه إبراهيم عبد الهادي فى ذلك. كما كان تكليف عبد الهادي بتأليف الوزارة من بعد النقراشي يعنى – على الأقل – موافقة الملك على تلك السياسة.


عود إلى القضية

وفى 22/ 3/ 1949 توصل التحقيق إلى من وصفه رئيس المحكمة بأنه "مهندس الجريمة" وهو ضابط البوليس أحمد فؤاد عبد الوهاب وكان قد نقل أثناء التحقيق إلى مدينة بنها, وذهب البوليس بصحبة النيابة للقبض عليه وتفتيش منزله, وتذكر التحقيقات أنه تمكن من التغرير بأحد زملائه الضباط وركب سيارة البوليس وانطلق هاربا وتبعته قوات البوليس لمطاردته فى حقل على مقربة من الطريق الزراعى إلى القاهرة, وحاول فؤاد الهرب عندما شاهد رجال البوليس يقتربون من مكانه الحقل وعبر بملابسه إحدى الترع فأطلق عليه البوليس النار فاستشهد على الأثر.

كذلك تناول عبد المجيد بأقواله فى 22 مارس 1949 محمد مالك, فانتظره البوليس الملكى فى مسكن اثنين من أقربائه, وحضر ملك إلى المسكن فظنه رجل البوليس زميلا له – كذلك كان مستوى الذكاء - وسأله عن اسمه فتسمى مالك باسم عبد المنعم إبراهيم, وأخبره رجل البوليس بأنه مكلف بأن يحضر إلى قسم البوليس أى شخص يجىء على المسكن, فغاقه مالك وعاجله بضربه بكرسى على رأسه وبادر بالفرار, ولم يتمكن رجل البوليس المضروب على رأسه من اللحاق به

وظل محمد مالك مختفيا رغم المجهودات المكثفة التى بذلها البوليس للقبض عليه والإعلانات المتكررة التى ملأت الصحف والجدران وكل مكان تحمل صورته ووعدا بمكافأة قدرها ألف جنيه لمن يرشد عنه. وأرشد كثيرون عن أشخاص تبين أن ليس منهم محمد مالك, ولكن تشابه فى الصورة, حتى قبض عليه بالإسكندرية فى 14 مايو 1949, ونشأت عن ذلك قضية أخرى عرفت بإسم قضية "إخفاء مالك"

اتهم فيها محمود يونس الشربيني محام تحت التمرين وملازم أول طبيب جراح السيد بهجت الجيار والسيد محمد شامة وسعد محمد جبر وأحمد البساطي وآخرون. وقبض على مالك بعد تبادل إطلاق النار ولم تكن جدوى من المقاومة فقد كان البيت محاصرا ونفذت ذخيرته.

تولى تحقيق قضية اغتيال النقراشي النائب العام محمود منصور باشا بنفسه وهو الذى كان رئيسا للمحكمة العسكرية التى حاكمت محمود عيسوي رحمه الله الذى قتل أحمد ماهر فى فبراير 1945 وحكمت عليه بالإعدام. ومحمود منصور هذا هو الذى أراد ضم قضية السيارة الجيب وقضية مقتل النقراشي فى قضية واحدة.

ولقد حقق معى هذا الرجل عدة مرات فكان يعتمد اعتمادا أساسيا على جهاز البوليس السياسى بضغطه على المتهمين واصطناع الشهود وشرائهم, وإلى جوار ذلك كان رأى الذين حقق معهم أنه غبى شديد الغباء وجبان أيضا. ولقد أفدنا نحن المتهمين الذين حقق معهم كثيرا من ذلك وكان ذلك دائما مادة للفكاهة والتندر فيما بيننا بالسجن وفى يوم رفض أن يثبت لى أقوالا عن تدخل رجال البوليس السياسى لأدلى بأقوال غير صحيحة بدعوى أنها أقوال خارج الموضوع وأن المحكمة لن تصدقنى, فلما هددته ارتعب حتى صار يرتعش وتصطك أسنانه وصرت أكبح ضحكى, حتى إذا تمالك نفسه بعد دقائق راح يعاتبنى ويثبت فى التحقيق ما اردت إثباته.

ولقد كانت حيثيات الحكم فى قضية اغتيال النقراشي على القبض من حيثيات الحكم فى قضية السيارة الجيب. فى قضية النقراشي كان رئيس المحكمة محمد محتار عبد الله متحاملا على المتهمين وعلى جماعة الإخوان المسلمين بشكل ظاهر, فى حين كان رئيس المحكمة فى قضية السيارة الجيب أحمد كامل بك متفهما للدعوة وأهداف الجماعة متجاوبا ومقتنعا بمواقفنا وأكثر من ذلك كان معجبا بنا, فوصفنا الأول بأننا جماعة إجرامية إرهابية ووصفنا الثانى بأننا شباب وطنى يهدف إلى تحرير بلاده


القضاء فى مصر

مصر تعتز بقضائها. ولا يعنى هذا أن جميع أسرة القضاء بكاملها كانت دائما وفى جميع العصور على المستوى الذى تعتز به مصر. ولسنا نذهب إلى حد اتهام قاض بأنه عميل أو مرتش بغير دليل, ولكن مهمة القاضى أن يطبق القانون فيما أمامه من أقضية. فإذا كان وجود [الإنجليز] فى مصر – مثلا – يستند إلى معاهدة وقعها رئيس الحكومة واعتمدها برلمان البلاد فإنه من وجهة نظر القانون هو وضع شرعى! وهنا يكون للقاضى أن يحكم بمقتضى هذا فيعتبر من اعتدى على جنوهم اعتداء على شىء شرعى, ولكن هناك نوعا من القضاة يضع فى اعتباره أنهم جنود احتلال بغيض فيجهد نفسه ليجد لبنى وطنه الذين يحاولون تحريرها مخارج مما وقعوا فيه, فتكون فى أحكامهم جرأة وشجاعة وهذا هو الذى يعتز به بلدة ويخلد اسمه

ولقد زخر سجل القضاء بأسماء من هذا النوع الثانى مثل أحمد كامل ومحمود عبد اللطيف وزكي شرف وعبد القادر عودة وعبد الغفار محمد رحمهم الله. ولكن كان هناك أيضا بطرس غالي قاضى دنشواى ومحمود منصور ومحمد مختار عبدالله وأحمد الخازندار... ويكفى هذا قبل أن أقول وجمال سالم وأنور السادات والدجوي .. الخ ممن تطفل على منصة القضاء فتسلقها فى عصور الظلام كما تتسلق الأبراص والسحالى. فى محكمة الشعب – وهى محكمة شاذة – قال رئيس المحكمة وعضو مجلس قيادة الثورة جمال سالم مخاطبا إبراهيم الطيب المحامى والمتهم رحمه الله قبل أن يحكم بإعدامه, قال:" أنا مش عارف أنت إيه اللى عملك محامى؟!" فأجابه:" اللى عملنى محامى دراستى ومؤهلاتى, لكن أنت إيه لكن أنت إيه اللى عملك قاضى؟!!"

حين تتدهور الأمور وتصل فى مصر إلى مرحلة اضمحلال يظل فى مصر قضاء ولولا هذا ما حدثت مذبحة القضاء المشهورة فى العهد الأسود لجمال عبد الناصر . وقد تستطيع السلطة الباطشة استقطاب هذا أو ذاك. ولكن يكون هناك دائما من يقول كلمة الحق ويرفعها عالية وأجره على الله.


الحــكــم

وفى الخميس 13/10/1949 صدر الحكم فى القضية كالآتي:

أولا: معاقبة عبد المجيد أحمد حسن بالإعدام.

ثانيا: معاقبة كل من محمد مالك والدكتور عاطف عطية وشفيق إبراهيم أنس ومحمود كامل السيد يالأشغال الشاقة المؤبدة.

ثالثا: براءة كل من كمال سيد القزاز وعبد العزيز البقلي والشيخ السيد سابق والسيد فايز عبد المطلب ومحمد صلاح الدين عبد المعطي وعبد الحليم محمد أحمد ومحمود حلمى فرغلي ومحمد أحمد علي وجلال الدين يس ومحمد نايل إبراهيم مما أسند إليهم.

وكان المستشار محمد مختار عبد الله وهو ينطق بالحكم يملؤه الغيظ والتشفى ومما قال: "ومما يؤسف له أن مهندس الجريمة – يقصد الأخ " أحمد فؤاد عبد الوهاب – رحمه الله – ليس حاضرا, وأنه فضل رصاصات البوليس على حكم الإعدام الذى كان مؤكدا أن هذه المحكمة ستصدره عليه"! وكان يتهدد أصحاب البراءة بأن موعده معهم سيكون فى قضية السيارة الجيب, ذلك أنه كان من المقرر حتى حينذاك أن ينظر قضية الجيب أيضا, ولكن مختار عبد الله قدر فقتل كيف قدر, وقدر الله وما شاء فعل.

وتم تنفيذ حكم الإعدام فى عبد المجيد أحمد حسن رحمه الله يوم 25 أبريل 1950 فى عهد وزارة الوفد بعد أن رفض التماس أسرته بالعفو عنه.


استمرار المقاومة

كان حل الإخوان المسلمين فى 8/12/ 1948 إيذانا بمقاومة عنيفة قد بدأت قبل صدور قرار الحل ذاته وتصاعدت بعده, فقد اتجهت حكومة النقراشى إلى بيع قضية فلسطين والتراخى فى قضية مصر والسودان, وقامت مظاهرات واضطرابات كان الإخوان هم مثيروها فى محاولة لحمل الحكومة على عدم التفريط فى حقوق الأمة واتجاهها. وحاصرت قوات البوليس كلية الطب, حيث اجتمع الطلبة المضربون, وجاء اللواء سليم زكي حكمدار بوليس القاهرة يجلس على سيارة بوليسية مصفحة يركبها من خارجها وقد أمسك فى يده رشاشا صغيرا يتقدم قوات البوليس لاقتحام الكلية, وألقى أحدهم قنبلة يدوية من فوق سطح الكلية, كانت القنبلة من النوع الإيطالى الصوتى الذى لا يصيب عادة ولكن شظية من غلافها الصفيح انطلقت فذبحته من قفاه, وقيل بل أصابته فى خصيتيه. ومال الرجل على جنبه ميتا.. وعادت بهم صفحته التى تسمت باسمه"سليم" ولم يعرف البوليس الفاعل فلم تكن قضية. وقيدت ضد مجهول.

واستمرت الإضرابات فى الجامعات والمدارس واصطدام البوليس يوم 6/12/1948 بطلاب المدرسة الخديوية وألقيت عليه القنابل وقبض على الأخوين السيد بدر ولطفى فتح الله فيما عرف بقضية قنابل الخديوية وحكم عليهم بالسجن عشر سنوات. زفى 14/ 12/1948 ضبط البوليس دكانا يستأجره الأخ سعد السنانيرى مليئا بالقنابل والمفرقعات. وراحت الحكومة تعتقل الإخوان وتفتح لهم معتقل الهايكستب ثم معتقل الطور.

وعمد الإخوان إلى استئجار منزل للإيواء إليها وقد هجروا بيوتهم حتى لا يقعوا فى أيدى البوليس, وسقطت بعض تلك البيوت وأطلق عليها أعداء الإخوان اسم الأوكار, وشاع الاسم حتى استعمله الإخوان أنفسهم, بعض تلك البيوت عثر فيها على أسلحة, وكانت " قضية الأوكار". وقد استشهد الأخ أحمد خليل شرف الدين عندما هاجمت الشرطة أحد تلك المنازل بحى روض الفرج.

وفر يوسف علي يوسف من البوليس الذى كان يطلبه ثم قبض عليه بمدينة الإسكندرية فكانت قضية اسمها "قضية يوسف علي يوسف" اتهم فيها إبراهيم عمار وحسن أبو العينين ومحمد نبيل دكروري وعبد الحليم محمد حسين ومحمود محمد يونس ومحمد علي خليفة وسعيد سلام وخطاب السيد خطاب وحسن الحندويل.


حامد جودة

ثم وقع حادث خطير من أحد تلك " الأوكار " ففى 5 مايو 1949 أطلقت النار بكثافة من بيت بجهة فم الخليج على موكب حامد جودة رئيس مجلس النواب السعدى فى عهد وزارة إبراهيم عبد الهادي. وكان الهدف فى واقع الأمر هو موكب إبراهيم عبد الهادي نفسه. الذى كان يسلك طريقه من مجلس النواب إلى بيته فى المعادى . ولكن مر حامد جودة قبله من نفس الطريق حيث كان يسكن المعادى أيضا وفى موكب كموكبه, فحسبه الإخوان المتربصون الموكب المطلوب وفتحوا عليه النيران أسلحتهم من التومى جن والبرن والقنابل اليدوية. أصابت النيران بعض المارة ولم تصب حامد جودة, ولكن كان للحادث أثره فى تحول السياسة الداخلية, إذ بدأ الملك فاروق يقلق من استمرار حوادث المقاومة ولعله أن يكون قد خشى على نفسه. ولقد كان هناك تفكير بالفعل عند بعض الإخوان لتوجيه ضربتهم إليه, وعلى اثر هذا الحدث سقطت وزارة إبراهيم عبد الهادي وولى الوزارة حسين سري باشا, فأجرى انتخابات جديدة فاز فيها حزب الوفد. وكانت عدته فى ذلك الفوز إساءة السعديين إلى الأمة, واعتقال أبنائها والحكم بالإرهاب.


حــادث المحكمة

وقبل أن نمضى مع العهد الوفدى الجديد نعرض لحادث هام وقع فى 13 /1/1949, فى وزارة إبراهيم عبد الهادي. ففى هذا اليوم حاول شفيق إبراهيم أنس إحراق غرفة التحقيق لقضية السيارة الجيب وفيها ملف القضية وكل أحرازها. وقد سبق ذلك أن التحق الأخ جمال الدين عطية بوظيفة كاتب تحقيق بنيابة الإستئناف وشهد بعض تحقيقات قضايا الإخوان قبل أن يقبض عليه هو نفسه متهما فى قضية الأوكار. ذهب شفيق يحمل حقيبة مليئة بالمتفجرات متظاهرا بأنه من وكلاء النيابة فى الأقاليم جاء ببعض التحقيقات الهامة لعرضها علي النائب العام. كان وصوله فو وقت مبكر قبل موعد حضور المحققين والقضاة والمتقاضين, وسأل عن النائب العام فقيل له إنه لم يحضر بعد, فقال إنه سيترك الحقيبة حتى يتناول إفطاره ويعود, وترك طربوشه مع الحقيبة وانصرف.

ولكنه ما كاد يفعل حتى اشتبه سعاة النيابة العامة فى أمر الحقيبة فقد كانت حوادث الانفجارات تقع من حين لآخر, فحملوا الحقيبة إلى خارج المبنى ووضعوها أمامه فى ميدان باب الخلق حيث انفجرت وسمعنا دويها من سجن الآجانب, وانطلقوا فى أثر شفيق حتى قبضوا عليه. ونفى شفيق أن يكون قد حضر إلى النيابة أو ترك الحقيبة ولكن الطربوش كان مقاسه واستعان المحقق بكلب بوليس فشم الطربوش ثم تعرف على شفيق. وعلل شفيق ذلك فى التحقيق بأن المحقق قد وضع الطربوش على رأسه قبل أن يشمه الكلب, وأراد المحقق أن يدحض حجة شفيق فألبس الطربوش أحد موظفى النيابة ثم عرضه على الكلب فلم يتعرف عليه. وهنا قال الدفاع ممثلا فى زهير جرانة المحامى إنه كلب لا يمكن أن يوثق به بتجربة النيابة ذاتها, فقد وضعت الطربوش على رأس موظفها ومع ذلك عجز الكلب عن التعرف عليه. ومع ذلك فقد حكم على شفيق بالأشغال الشاقة المؤيدة, وكان ذلك قبل أن يرد ذكره فى قضية النقراشي, فكان يحضر تحقيقات هذه القضية الأخيرة ومحاكمتها بملابس الليمان.

كان يمكن أن نمضى مع هذا الحادث عند هذا الحد. ولكن حصاد العمر يخرجنا عن خطنا مرة أخرى فقد جاء فى صفحة 94 ما يأتى: " ويفسر لنا هذا الحادث الذى نفذ فى هذا الوقت مدى فقد الشعور بالمسئولية التى كان عبد الرحمن السندي ينظر من خلالها إلى الأحداث..

ويجد ربى أن أشير هنا إلى أنه قبل هذا الحادث بأشهر قليلة عرفنى المرشد بالأخ فايز لإعتباره المسئول عن النظام الخاص وكان عبد الرحمن السندى فى هذا الحين محبوسا احتياطيا بسبب اتهامه فى قضية السيارة الجيب ورأيت فى سيد فايز صنفا من الرجال يحدوه الحرص على الالتزام بكل ما يأمر به المرشد.. وفى نفس الوقت كان يفكر فى الأحداث بعقل مستنير يستلهم به الحفاظ على كيان الجماعة, يخدمها بجهده وعزمه ولا يستخدمها لهواه,وكان سيد فايز يشارك حسن البنا إدراكه خلل روابط السندى بالقيادة, ويعلم أن حسن البنا كانت تشغله قضية الإصلاح, وأن الظروف ربما أتاحت هذه الفرصة بواسطته,حيث إنه أصبح مسئولا عن إدارة النظام تحت إشراف من موافقة فى الفكر والرغبة فى الإصلاح . ولذلك فقد حدثنى عن كيفية ذلك وعن الصعاب التى يواجهها فى نقل الاختصاصات إليه حتى انتهى الأمر إلى الفشل, وكان تخطيطه لهذا الإصلاح سببا فى إيغار صدر السندى عليه. "ووصل إلى علم المرشد عزم السندى على القيام بحادث إحراق المستندات التى كانت فى دولاب محكمة الاستئناف بميدان باب الخلق فكلفنى بإبلاغ سيد فايز برفض هذه العملية والتأكيد على ذلك, بل والإلتزام بالهدوء الكامل, خاصة والجماعة ما زالت تعانى من آثار قتل الخازندار والنقراشى".

وأكدت على السيد فايز هذا المفهوم الذى أبلغني أنه أكده بدوره على إخوان النظام !!{ علامات التعجب من كتاب حصاد العمر}

" ولكن السندي كان قد أبرم أمره وهو فى السجن بضرورة تنفيذ العملية! من وراء ظهر السيد فايز ومن وراء مرشد الجماعة, ظنا منه أن إحراق أوراق التحقيق لقضية الجيب فيه إعدام الدليل على التهمة التى تلحق بالأشخاص المدونة أسماؤهم فى أوراق التحقيق".

ويمضىحصاد العمر على هذا المنوال يبين ويدلل على عدم صلاحية السندي وانحرافاته واتجاه الأستاذ البنا إلى إبعاده ثم لا يعفى قيادة الإخوان – يعنى الأستاذ البنا – من مسئولية عدم مبادرتها إلى مساءلته.. الخ. لا داعى لنقلها مرة أخرى وإنما يحرجنى لأقول ما أعلم اضطرار وباختصار شديد.

حادث المحكمة نفذه شفيق إبراهيم أنس بأمر من السيد فايز رحمه الله شخصيا. وفوجىء عبد الرحمن السندي بالحادث ولم يكن له به علم مسبق. شفيق أنس لم أره منذ عشر سنوات على الأقل أطال الله بقاءه حى يرزق يسأله من يشاء دون أن أستاذنه فى ذلك. ثم لا تعليق أكثر.

حادث الخازندار أنفذه عبد الرحمن السندي دون استئذان المرشد, وحادث المحكمة أنفذه " السيد فايز" بعد رفض المرشد . يرحم الله الجميع , حسن البنا وعبد الرحمن السندي, والسيد فايز, وصلاح شادي ويرحمنا جميعا.

وفى الطبعة الثالثة من حصاد العمر, جاء مرة آخرى{ص138} ما نقلنا عنه سابقا وأضاف فى الهوامش.

"أبلغنى الأخ عبد الحليم محمد أحمد أنه كان ضمن الأشخاص المكلفين بهذه العملية. وأكد أن المرحوم السيد فايز هو الذى أبلغهم بنفسه تنفيذها وأنه متأكد نماما أنه لم يتلق أى أوامر من المرحوم عبد الرحمن السندي بشأن التنفيذ كما أنه متأكد تماما من أن هذا الحادث قد جرى بغير موافقة الأستاذ حسن البنا.

" كما أنى من جهتى, أثق تماما فى عمق احترام السيد فايز لأوامر المرشد العام كما أثق نماما فى صحة أقوال الأخ عبد الحليم محمد أحمد التى أكدها أيضا الأخ شفيق أنس للأستاذ عبد الحفيظ الصيفي.

والأمر بهذه الصورة يدعونا إلى نفى اتهام المرحوم السندي بتكليف الإخوة المنفذين لهذه العملية بالقيام بها فى أثناء وجوده خلف القضبان بشهادة مسلمين عدلين هما الأخوان شفيق أنس وعبد الحليم محمد أحمد.

"ولكن.. الأمر بعد ذلك يثير العجب, فربما يكون أمر التنفيذ قد صدر من المرحوم السيد فايز بالإعداد لهذه العملية فقط, فظن القائمون على التنفيذ أنه أمر بالتنفيذ, فلما لاحقهم أمر المرشد العام بالرفض لم يسعف الوقت المرحوم السيد فايز إبلاغه لهم.. فتم التنفيذ قبل إبلاغهم بالرفض.. وربما كان هذا التصور أقرب إلى الواقع الذى ننشد جلاء غوامضه , خاصة وسرعة الاتصال لم تكن ميسرة فى هذا الوقت.."أ.هـ

أعتقد أن الأمور قد وضحت بلا غموض, ولامجال لربما من بعدها ربما. وكإخوان مسلمين أقترح أن يكون نهجنا أنه كلما استابنت الأمور أن نصحح المفاهيم فتتقارب القلوب بل بعد موت بعضنا, بدلا من استمرار تنابزنا بالألقاب لغير أسباب.


الفصل الحادي عشر: إستشهاد الإمام (12 فبراير 1949)

تريدون قتلى

آخر صلاة للإمام البنا في جمعية الشبان المسلمين قبل إستشهاده

حين اقتحمت قوات الشرطة دار المركز العام للإخوان المسلمين على أثر إعلان قرار حل الجماعة مساء يوم 8 ديسمبر 1948, وراحت تعتقل كل من كان هناك إلا الرجل ذاته. وراح يركب مع إخوانه لوريات الشرطة التى جاءت لتحملهم إلى المعتقل, ولكنهم منعوه.. قالوا إن الأوامر لديهم بإعتقال الإخوان, أما رئيس الإخوان فلا! وسمعه الإخوان يقول لهم "إذا تريدون قتلى". نعم.. إذا لم يكن لدى هؤلاء الناس هذه النية فإن المنطق كان يقضى بأن يكون حسن البنا هو المعتقل رقم واحد. أما وقد تركوه .. بل رفضوه معتقلاً فقد بات الأمر واضحا.

لقد كان محمود فهمى النقراشي من أكبر الطغاة فى عصره طغيانا وكذلك خلفه إبراهيم عبد الهادي باشا.هذا باشا وذاك باشا. وإذا نحن ذهبنا نقارن ونوازن بينهما وبين جمال عبد الناصر لنقرر أى العهدين كان أظلم وأطغى, لما كان هناك جدال فى أن عهد عبد الناصر كان أسود العهدين من حيث كمية اجترائه على حرمات العباد والغلو فى شأن استذلالهم.. كما ونوعا. لقد كان من طراز فرعون موسى إذ قال لشعبه {أنا ربكم الأعلى} و {ما علمت لكم من إله غيرى}

كما قال عبد الناصر فى خطابه يوم المنشية ممتنا على شعبه "أنا خلقت فيكم العزة! أنا خلقت فيكم الكرامة!!". غير أن عهد السعيد قد أخذ راية السبق.. لقد فتح النقراشي وإبراهيم عبد الهادي الباب لهذا الاجتراء.. واجتازاه على شىء من الاستحياء أو التخفي. فإذا أراد عبد الهادى قتل الرجل تآمر لذلك فى الظلام وإذا أباح تعذيب الإخوان لتقديمهم إلى قضايا ومحاكمات أخذ من وقع عليه الاختيار خارج السجون العمومية إلى حيث يعذبونه بمبنى المحافظة حيث البوليس السياسى. أما عبد الناصر – وقد مهد له إبراهيم عبد الهادي – فقد جاء أكثر تعريا وأقل حياء, فعم التعذيب فى عهده عشرات الألوف فى سجونهم, وإذا أراد أو أراد زبانيته قتل رجل قتلوه عيانا بيانا داخل السجن بشج رأسه فى جدار الفسقية بالسجن الحربى أو بالضرب بالكرباج حتى الموت, أو بغير ذلك من الأساليب المفضية إلى إزهاق الروح, أو بافتعال محكمة من بعض ضباطه نحكم على الشهيد بالإعدام شنقا.

" إذا تريدون قتلى".. قالها الرجل يكشف النقاب عما يبيتون من نية. وأراد الأستاذ بعدها أن يقيم لدى الحاج عبد الله النبراوي رئيس الإخوان فى بنها.. فرفضت الحكومة!.


الإعداد للجريمة

وشأن جميع الزعماء كان لدى الأستاذ مسدس مرخص, فسحبت الحكومة الترخيص وصودر السلاح .كذلك سحب التليفون من منزله وفرضت على الرجل الرقابة فلم يكن يروح ولا يجىء إلا ورجال البوليس يتابعونه ويحاصرونه. وكان شقيقه عبد الباسط البنا ضابطا بالبوليس فاستقال من الخدمة حتى يتفرغ لحراسة شقيقه بعد أن استشعر الخطر على حياته , فصدر الأمر باعتقال عبد الباسط.

وبدأت مرحلة من الاتصالات بين الأستاذ المرشد وبين الحكومة عن طريق وسطاء, ولكنها لم تكن أكثر من مماطلة من الحكومة حتى تنفذ قتل الرجل. وكان أول وسيط هو المحامى (الوزير) مصطفى مرعي فى لجنة ضمت صالح حرب باشا وزكى علي باشا ومصطفى أمين, ولكن مصطفى مرعي رفض الاستمرار فى الوساطة على أثر حادث المحكمة.. ذلك الحادث الذى استؤذن الأستاذ البنا فى تنفيذ فرفضه ولم يأذن به.. ولكنه نفذ فوضع الرجل فى أشد حالات الحرج. لست أدرى ماذا قال فى حينها, ولكنه لو قال إن هذا العمل تم دون أمره لصدق الصدق كله.

ولم يكلّ الأستاذ فعاود الاتصال عن طريق رجل آخر اسمه محمد الناغي, كان يمت إلى إبراهيم عبد الهادي بصلة القرابة. وكان لقاؤهما يتم فى دار جمعية الشبان المسلمين بشارع الملكة نازلى { حاليا شارع رمسيس – القاهرة) ولقد كان عيد ميلاد الملك فاروق فى 11 فبراير, ولابد أن التنفيذ كان مدبرا أن يتم فى ذلك اليوم أو تلك الليلة, ولكنه تم بالفعل فى مساء اليوم التالى 12 فبراير 1949. ولابد أنه كانت هناك أسباب – لا ندريها – عاقتهم عن قتل الرجل لمدة يوم.

وكان للبوليس السياسى مرشدون فى كل مكان, وكان مرشدهم فى جمعية الشبان المسلمين هو محمد الليثي أو لعله كان أحد مرشديهم لدى الجمعية. وقد اتصل به الصاغ (الرائد) محمد الجزار أحد الضباط المبرزين بالبوليس السياسى ومن أكثرهم ولاء للإنجليز, وكلفه بإبلاغه تليفونيا حين يقترب الأستاذ البنا من الخروج من دار الجمعية. ولعل الليثي كان يظن أن الغرض من ذلك هو الغرض الروتينى لمراقبة الرجل وتعقبه فنفذ ما كلف به.


الحكومة القاتلة

صورة توضيحية لحادثة الإغتيال

وخرج الأستاذ من دار الجمعية وبصحبته صهره (زوج شقيقته) الأستاذ عبد الكريم منصور المحامى فكان المرور مقطوعا بهذا الجزء من الشارع الذى هو أكبر وأطول شوارع القاهرة, كذلك كانت الإضاءة مقطوعة والظلام يخيم على المكان. كانوا قد استدعوا سيارة أجرة ركبها الأستاذ البنا والأستاذ عبد الكريم, وقبل أن تتحرك تقدم منها شخصان مسلحان بالمسدسات وراح أحدهما يطلق النار على الأستاذ داخل السيارة فأصابه برصاصات. وفتح الأستاذ البنا باب السيارة ونزل منها وأمسك ذلك المجرم بيده, فتقدم زميله المجرم الثانى لنجدته وأطلق على الأستاذ وانسحب بزميله فعبرا الشارع إلى الجانب الآخر حيث ركبا سيارة كانت تنتظرهما وبها سائقها فانطلقت بهما.

يبدو أن محمد الليثي كان قد خرج لتوديع الأستاذ عند انصرافه من دار الجمعية, أو أنه خرج على صوت إطلاق الرصاص واستطاع أن يلتقط رقم السيارة, فتكلم به وذكره. لقد كان الشارع حينذاك تخترقه خطوط الترام ذهابا وإيابا فى شطر الشارع جهة دار الجمعية وكان له رصيف عريض, أما السيارات فكان مخصصا لها الشطر الآخر, فكان عرض الشارع للسيارات ذهابا وإيابا على النصف مما هو عليه اليوم أو أقل, ولذلك أمكن محمد الليثي وقد اجتاز شطر الشارع المخصص للترام أن يرى السيارة وأن يلتقط رقمها. واستطاع مراسل جريدة المصرى أن يحصل على هذا الرقم من فم الليثى وسارع به إلى جريدته التى بادرت بنشره صباح اليوم التالى, وصودرت الجريدة وأحرقت جميع نسخها فقد كان الرقم هو رقم سيارة الأميرالاى (عميد) محمود عبد المجيد الذى كان مديرا لأمن سوهاج وكان مشهورا هناك - وهو مدير الأمن – أنه سفاح متعطش للدماء..

وسارع الصاغ محمد الجزار يتصل بمرشدهم محمد الليثي ليطلب إليه عدم ذكر رقم السيارة ويلح فى الطلب ويرهفه بالضغط والالحاح. ولجأ الليثى إلى رئيس الجمعية اللواء صالح حرب باشا وكان من أصدقاءاالإمام الشهيد وإلى السيدة زوجة اللواء يقص ما رأى وتدخل الصاغ الجزار لتزييف شهادته. ولنترك الآن أمر الليثى والجزار لننظر ما كان من أمر الأستاذ البنا.


إتمام الجريمة

هرب الجناة يعد أن أصابوه برصاصهم كما أصابوا الأستاذ عبد الكريم منصور إصابة غير قاتلة. واتجه الأستاذ البنا والأستاذ عبد الكريم إلى المركز الرئيسى لجمعية الإسعاف وهو لا يبعد كثيرا عن جمعية الشبان المسلمين, ولكنها مسافة طويلة على رجل مصاب برصاصات تدل على قوة بنيته إذ قطعها سيرا على الأقدام – ومازال الاسعاف وجمعية الشبان فى مكانهما حتى يومنا هذا. ومن هناك نقلا إلى مستشفى القصر العينى لإجراء الاسعفات اللازمة, فلم تكن جمعية الإسعاف طرفا فى المؤامرة.

ولاشك أن الرجل كان تحت أعين البوليس السياسى ورقابته طوال هذه الرحلة غير إنه قبل أن يصل إلى مستشفى القصر العينى كان محمد الجزار ورجاله هناك وضربوا حصارا حول الرجل الصالح. كان الدكتور محمد سليمان من الإخوان وكان من أطباء المستشفى ومن هيئة التدريس بكلية طب قصر العينى, وطلبه الأستاذ البنا بإسمه فوعدوه خيرا, ولكن أحدا لم يبلغ الدكتور محمد سليمان شيئا, واستمر الحصار حول الرجل يمنع إسعافه والد