غروب يوليو
بقلم: أحمد حمروش
مقدمة
كنت أنوى أن تكون آخر كلمة فى قصة ثورة يوليو , مقترنة بآخر نبضة فى قلب زعيمها جمال عبد الناصر .
وصدرت الأجزاء الخمسة الأولى مهتدية بهذه الفكرة , معبرة عن هذه المرحلة .
ولكنى وجدت أن قصة ثورة يوليو لم تصل إلى النهاية رغم وفاة جمال عبد الناصر .. وأنا أكتب هذه الكلمات بعد مرور سبع سنوات على وفاته وربع قرن على انتصار الثورة التى ما زالت أعلامها مرفوعة , ومصر تحتفل رسميا بعيدها كل عام .
أمور كثيرة جدت على حياة الثورة , وغيرت من معالمها , وجمحت مسيرتها ... حتى يكاد الانسان يشعر أنه غريب عنها , أو أنها غريبة عليه .
أتلفت حولى وأتساءل :
أين قادة الثورة وضباطها الأحرار ؟
أى فارق بين الصورة التى عاشها الناس قبل سنوات والصورة التى نشاهدها اليوم ؟
ماذا حدث ؟
وأعود إلى القلم من جديد , محاولا أن أمضى مع القصة بكل الصدق والموضوعية , متحاشيا الإنجذاب إلى العواطف والانفعالات , متشبثا بما اهتديت به منذ البداية , من أن ما نكتبه ليس ملكا لنا ... وإنما هو لأبناء مصر والأمة العربية وأجيالها القادمة .
واكتب هذا الكتاب مكملا " قصة [[ثورة 23 يوليو ]] " ولكنى لا أدفع به إلى النشر إلى دار النشر , فالموقف لم يكن يحتمل عام 1977 .
وأختار للكتاب اسم ( غروب يوليو ) رغم أن أحد أبنائها ( أنور السادات ) كان ما زال وقتها رئيسا للجمهورية .
وأتساءل بعد مراجعة هذا الكتاب فى نهاية عام 1981 عما إذا كان صحيحا هذا الاسم الذى اخترته ( غروب ثورة يوليو ) أم أن الثورة التى غربت قد تشرق من جديد على غد ليس فيه سحب ولا ضباب ... غد منزه من الأخطاء . هذه قضية أخرى وأنتهز هذه الفرصة لكى أشكر من الأعماق هؤلاء الذين تفضلوا بمنحى بعضا من وقتهم لرواية الدور الذى قاموا به فى قصة الثورة بعد وفاة زعيمها فساعدوا بذلك على كشف أسرار هذه المرحلة الهامة والحاسمة فى تاريخ مصر والأمة العربية .
الباب الأول : التركة ... والميراث
(إذا مات الأسد جلس الثعلب على العرش ) ... مثل بريطانى
كان يقف إلى جوار جمال عبد الناصر فى لحظات حياته الأخيرة الأطباء فقط .. أما الزملاء والرفاق فقد توالى وصولهم بعد أن كانت الحياة قد فارقت الزعيم وفقد القدرة على الكلام ... ولكن دون أن يتصور أحد من الواقفين حول فراشه أنه قد مات .
لحق به قبل أن يودع الحياة فى صمت محمد أحمد وسامي شرف ثم حضر بعد النهاية شعراوي جمعة ومحمد حسنين هيكل والفريق أول محمد فوزي وعلي صبري وحسين الشافعي ثم أنور السادات .
ولم يستوعب هؤلاء حقيقة الموت إلا بعد أن انهارأحد الأطباء وانفجر بالبكاء .. وساد الغرفة جو من العويل والنحيب ... واقترب الحاضرون من الفراش ... قبل البعض جبهة الزعيم , والبعض قبل يده ... وانتحى حسين الشافعي جانبا من الغرفة يصلى ركعتين لله ... وغطت الملاءة وجه الفقيد .
خرج الجميع إلى غرفة الاستقبال , لتدخل أسرة عبد الناصر تواجه المأساة المفاجئة ... فلم يكن أحد يتوقع الموت لجمال عبد الناصر رغم ما كان يعانيه من أمراض وآلام جسمية ونفسية .
وواجه المجتمعون موقفا جديدا .
كانت ثورة يوليو قد وضعت حدا للنظام الملكى ووراثة العرش .. ولم تعد هناك ولاية للعهد ... لم يكن لهذا الموقف فى حكم مصر سابقة منذ آلاف السنين .. فرعون يخلفه ابنه أو فرعون آخر من أسرته .. والوالى يسمى خليفته ... والسلطان العثمانى يعين حاكم مصر ... والمملوك يتولى الحكم بحد السيف .
كان جمال عبد الناصر أول رئيس لجمهورية مصر تلحقه الوفاة وهو فى قمة جهاز الحكم ... ولذا وجد المجتمعون أنفسهم فى حيرة لا يعرفون الأسلوب الصحيح للتصرف فى مواجهة هذا الموقف الكبير ... ولم تمض الأمور فى يسر كما حدث عام 1936 عندما توفى الملك فؤاد , فارتفعت الصيحة التقليدية ( مات الملك .. عاش الملك ) وأصبح فاروق ابن السادسة ملكا على مصر .
ولكن الأمر يختلف الآن .. هؤلاء المجتمعون كانوا مرتبطين أوثق ارتباط بالزعيم صاحب الشخصية القوية الذى كان يحرك الأمور والمصير أيضا ... وهو الآن فى غرفة واحدة يحمل كلا منهم أفكاره فى صدره تغلفها مشاعر الحزن والصدمة .
لم يكن المجتمعون هم أيضا أعضاء اللجنة التنفيذية العليا ... المستوى القيادى الأعلى للإتحاد الإشتراكى ,ولكنهم كانوا المجموعة القريبة المنتقاه من الزعيم ... وكلهم من العسكريين عدا مدنى واحد .
وتقرر فى هذا الاجتماع الذى حدد القدر موعده أن يعقد اجتماع مشترك فى نفس الليلة يحضره أعضاء اللجنة التنفيذية العليا والوزراء فى قصر القبة , حيث نقل أيضا جثمان عبد الناصر ليحتفظ به فى ثلاجة طبية .
حضر بعض الوزراء بملابس الجنود الكاكى , فقد كانوا فى زيارة اللجنة .
كان هذا أول اجتماع لمثل هذا المؤتمر , لا يشارك فيه عبد الناصر , وإنما يقبع قريبا منه فى صمت النهاية .. الجميع يتحدثون عنه ... هو النقطة الوحيدة فى جدول الأعمال , بعد أن كان هوالذى يحدد الجدول ويدير المناقشة .
واستقر الرأى على أن تكون الجنازة يوم الخميس أول أكتوبر حتى تتاح فرصة لوصول وفود الدول المختلفة .. وأن يكون الدفن فى المسجد الذى أقيم فى كوبرى القبة مجاورا للقيادة العامة للقوات المسلحة التى سقطت فى يد الضباط الأحرار ليلة 23 يوليو .
وكان الشعب قد بدأ يشعر أن شيئا جسيما قد حدث عندما أصدر محمد حسنين هيكل بصفته وزيرا للإعلام قرارا بوقف كافة البرامج وإذاعة القرآن الكريم ... ولكن أحدا لم يتوقع هذه المفاجئة إلى أن ظهر على شاشة التليفزيون أنور السادات نائب رئيس الجمهورية يقرأ بيانا قصيرا للشعب هو وفاة جمال عبد الناصر جاء فيه :
( فقدت الجمهورية العربية المتحدة , وفقدت الأمة العربية , وفقدت الانسانية كلها رجلا من أغلى الرجال وأخلص الرجال وهو الرئيس جمال عبد الناصر الذى جاد بأنفاسه الأخيرة الساعة السادسة والربع من مساء اليوم 27 رجب 1390 الموافق 28 سبتمبر 1970 بينما هو واقف فى ساحة النضال يكافح من أجل وحدة الأمة العربية , ومن أجل يوم انتصارها ) .
وتابع أنور السادات القراءة بين الذهول وانفجار الصيحات وانهمار الدموع .. حتى لم يستطع الناس متابعة كلمات البيان .
وهكذا شاء القدر أن يقرأ أنور السادات البيان الأول لحركة الجيش صباح 23 يوليو , وأن يقرأ أيضا بيان نعى زعيم ثورة يوليو .
خرجت جموع الشعب إلى الشوارع , وكأنما تستنجد المجهول , وتبحث عن حقيقة الخبر ... تسير مذهولة وتغنى أغنيات حزينة تقول ( الوداع يا جمال يا حبيب الملايين ) , وتتبادل كلمات الضياع والفجيعة ...
ثلاثة أيام , والوفود تتدقف على القاهرة , والشوارع لا تخلو فى الليل أو النهار . الملايين سدت الطرق ,وتسلقت الأشجار , وازدحمت الشرفات تنتظر لحظة وداع الرجل الذى ملك قلوبهم ... مشهد حزين ربما لم تعرفه مصر فى تاريخها الطويل العريق .
ولم يكن الحزن فى مصر فقط , ولكنه كان فى كل البلاد التى قدرت الدور التاريخى الهائل للزعيم الراحل ... قاد نيريرى رئيس جمهورية تنزانيا مسيرة شعبية فى دار السلام .. وأعلن راديوجبهة تحرير فيتنام أن الثوار نكسوا أعلام الجبهة فى الغابات والأدغال حدادا , وبكى شعب الجزائر بعد أن كان يهاجم عبد الناصر لقبوله قرار مجلس الأمن ووقف اطلاق النار ... وخرجت من ميدان الأوبرا مسيرة لأبناء السودان سار فيها لفترة جعفر نميري ومضر من بعده حتى نهايتها بابكر النور وهاشم الغطا وخالد حسن عباس وفاروق أبو عيسى وأبو القاسم هاشم ... أعضاء مجلس الثورة ومجلس الوزراء فى ذلك الوقت .
ويقول محمد حسنين هيكل أن أنور السادات قد اتصل به طالبا مناقشة اقتراح بإلغاء ترتيبات الجنازة خشية انفلات الأمور وتعرض العاصمة للخطر .. ولكنه تراجع عن ذلك عندما قال له هيكل أن مثل هذا الاقتراح يمكن أن يسفر عن كارثة لآن الناس سوف تستقبله استقبالا خاطئا .
واستعدى الفريق أول محمد فوزي قوات من الجيش للمساعدة فى حفظ الأمن . كان قد تقرر أن ينقل الجثمان بطائرة هليوكبتر من قصر القبة على نادى الجزيرة بعد تعذر مسيرة فى الشوارع لتبدأ الجنازة من مجلس قيادة الثورة .
فى هذه الأيام المشحونة بالقلق والتوتر طلب أنور السادات بناء على اقتراح محمود رياض وزير الخارجية تشكيل لجنة لدراسة موضوع وقف اطلاق النار الذى فرضته مبادرة روجرز اعتبارا من 8 أغسطس , والذى كان مفروضا أن ينتهى يوم 7 نوفمبر, وذلك لأن عددا كبيرا من الشخصيات الأجنبية الذين سيحضرون للعزاء مثل اليكسى كوسيجن رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى , ويوثانت سكرتير الأمم المتحدة وشابان دالماس وزراء فرنسا , وسيراليك دوجلاس هيوم رئيس وزراء بريطانيا , والبرت رتشارد سون وزير الصحة الأمريكى وغيرهم من الملوك والرؤساء من المحتمل أن يسألوا بعد الجنازة عن موقف مصر بعد انتهاء الفترة الأولى لوقف اطلاق النار . شكلت اللجنة واجتمعت ليلة تشييع الجنازة مساء يوم 30 سبتمبر فى مكتب الفريق أو لمحمد فوزي وحضرها محمود رياض وزير الخارجية , و شعراوي جمعة وزير الداخلية , وأمين هويدي وزير الدولة , ومحمد حسنين هيكل وزير الأعلام , وسامي شرف وزير الدولة , وحافظ إسماعيل مدير هيئة المخابرات العامة .
وخلال هذا الاجتماع الذى عقد فى جونفسى غير ملائم ودون تمهيد كاف لدراسة مثل هذا الموضوع الخطير , الذى سبق بحثه فى نطاق ضيق أثناء حياة عبد الناصر وكان الاتجاه وقتها إلى مد وقف إطلاق النار فترة أخرى إظهارا للحرص على السلام , وتكملة للاستعدادات الحربية بعد وصول الامدادات السوفيتية .
خلال هذا الاجتماع انقسمت الآراء بين محبذ لمد فترة إطلاق النار وبين معترض على ذلك ... ولكن حسم الأمر أن الفريق فوزى قال أن مدة أخرى تقوى قدرته القتالية , وأن وفاة عبد الناصر تعتبر عذرا قهريا يبرر وقف اطلاق النار.
يقول محمد حسنين هيكل أنه بعد انهاء الاجتماع طلب شعراوي جمعة منه أن يصحبه إلى عربته وركب فيها أيضا أمين هويدي وسامي شرف , وتوقفت العربة عند معهد الشرطة قريبا من مدينة نصر وقال شعراوى أنهم يريدون أن ينسقوا سياستهم معا باعتبارهم أكثر المسئولين قربا من عبد الناصر ... ولكن هيكل كان حذرا فلم يقبل – على حد قوله – الظهور فى مظهر ورثة عبد الناصر لما يمكن أن يحدثه ذلك من ردود فعل عنيفة حول السعى من أجل السلطة .
وانفعل سامي شرف محتجا على رغبة هيكل فى الاستقالة قائلا ( أما أن نبقى جميعا أو نخرج جميعا ) .
أما أمين هويدي فقد ظل صامتا لأنه فوجىء أولا بدعوته للركوب وثانيا لأنه كان قد بدأ يفكر فى الابتعاد عن مراكز المسئولية .. ويعلق على هذه الواقعة بقوله , أنه يتذكر أن هيكل قد اقترح ضمن الحديث التفكير فى زكريا محيي الدين ولكن الاقتراح قوبل بالرفض المنفعل .
بينما يفسر شعراوي جمعة الموقف تفسيرا آخر فيقول أنه قد فتح هذا الحديث حرصا منه على تماسك الذين اعتمد عليهم جمال عبد الناصر فى حياته , وأن حديثه لم يكن موجها ضد شخص أو ضد اتجاه ... فلم تكن الأمور قد اسفرت بعد فى هذا الوقت الضيق عن شىء يستحق موقف الحذر أو العداء ... و الشعور فى هذه الأيام التى سبقت الجنازة كانت مزيجا من الحزن والقلق والضياع مع الحرص على سلامة الوطن وتحرير أرضه .
على أية حال ... كان واضحا أن أفكارا جديدة قد بدأت تستولى على عقول الذين أحاطوا بعبد الناصر فى حياته ... وهم الذين اعتادوا أن يتركوا له التفكير غالبا , ويكتفوا بالتنفيذ دائما .
والوقت فى الجنازة ضيق ومشحون بالمسئوليات الإدارية لواجهة هذا الحشد المرابط فى الشوارع ليل نهار .
وكان يوم الجنازة مشهودا فى تاريخ مصر ... يوم لن يضيع من ذاكرة الذين عاشوا هذه الفترة ... ولن يهمله التاريخ لأنه أسمى تعبير عن وفاء شعب .
شعر المشيعون الأجانب بنوع من الذهول والدهشة ... فلم يتوقعوا أن تكون الجنازة بهذه الصورة الشعبية الرهيبة التى عجزت كل قوات الأمن وبعض وحدات الجيش عن تنظيمها ... فقد كان الناس يندفعون نحو الجثمان يريدون أن ينطلقوا به فوق عربة المدفع لولا قوات الأمن التى بذلت جهدا خارقا لحماية النظام .
استغرقت الرحلة الأخيرة للجثمان فى شوارع القاهرة خمس ساعات ولم ينتظم سير المسئولين ولا المشيعين الأجانب فيها , وأثر الانفعال والزحام فى حالة أنور السادات وعلي صبري الصحية فلم يشتركا بالسير فيها ... وكان الأول قد أصيب بذبحة صدرية عقب زيارته لفيينا عام 1960 عاودته مرة ثانية , كما أن الثانى كان يتعرض لأزمة حادة أثناء عودته من زيارة قناطر نجع حمادى عقب هجوم إسرائيلى جوى عليها عام 1969 .
انتقل أنور السادات وعلي صبري إلى سراى القبة بعد الجنازة بطائرة هليوكبتر حيث لحق بهما حسين الشافعي وأمضى الثلاثة ليلتهم هناك .
ويقول عبد اللطيف البغدادي أنه ذهب بعد الجنازة إلى قصر القبة للسوؤال عن صحة أنور السادات فوجده مستريحا على سرير فهمس له أن هناك تيارات وانه يطلب مقابلته فحدد له موعدا يوم الثلاثاء .
كان أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين الذين وصلوا إلى منصب نائب رئيس الجمهورية ثم استقالوا , يعتبرون أنهم مشاركون فى مسار ثورة يوليو ومسئولون عن مصيرها ... ولذا أرادوا أن يكون لهم رأى بعد وفاة الزعيم .
وكانت صلتهم محدودة ومقطوعة بمجموعة الصف الثانى التى تتولى مراكز المسئولية فعلا , ولذا اعتبر البغدادى أن السادات اقرب إليهم من الآخرين .
ويقول البغدادى أيضا أن زكريا محيي الدين قد حضر إليه ليلة الوفاة فى منتصف الليل , ومكث عنده حتى الساعة الثانية صباحا , حيث كان كمال الدين حسين فى الإسكندرية ... واتفق الاثنان على ألا يتجاوز دورهم السير فى الجنازة فقط .
ولكن البغدادى فوجىء بتأبين خاص لجمال عبد الناصر يظهر فى اليوم التالى بصحيفة الأهرام حاملا توقيع زكريا محيي الدين .
وكان هذا التأبين ضمن ظواهر تستلفت النظر ... محاولة هيكل الإشارة إلى زكريا محيي الدين – أن صحن – أثناء حواره مع شعراوى وسامى وهويدى وتركيز عدسات التليفزيون على زكريا أثناء سير الجنازة حتى مواراة الجثمان فى المقبرة واتصال أمين شاكر وزير السياحة السابق ومدير مكتب جمال عبد الناصر خلال فترة ما , بالرئيس ؤ طالبا منه زيارة زكريا محيي الدين وإبلاغ نميرى ذلك لشعراوى وسامى وعدم إتمام الزيارة .
كل هذه الظواهر أثارت قلقا فى نفوس الذين وقفوا إلى جوار جمال عبد الناصر حتى النبضة الأخيرة فى حياته ... وكانت لها ردود فعل متباينة .
استدعى هيكل إلى اجتماع اللجنة التنفيذية العلي للاتحاد الاشتراكى للاستفسار منه عما وراء هذه الظواهر ... فأنكر أن يكون له قصد أو علم ... وقال لى أنه لم ينظر إلى موضوع خلال هذا المنظار , وأنه كان حريصا على الالتزام بما يفرضه الدستور ... كما أنه لم تكن هناك دوافع معينة تدعوه إلى ترجيح زكريا ... وقال أيضا أنه عندما كثر اللغط حول تركيز عدسات التليفزيون على زكريا , أمر بصفته وزيرا للإعلام إجراء تحقيق تبين منه أن العدسات كانت مسلطة على خالد عبد الناصر الذى كان يستند إلى ذراع زكريا .
أما الإشاعة التى سرت حول ترشيح عبد الناصر لزكريا , والتى نبتت بما كتبه هيكل من أن عبد الناصر طلب قبل وفاته سماع نشرة أخبار الخامسة , الأمر الذى جعل منه مروجو الإشاعة وحيا بأن عبد الناصر كان ينتظر سماع هذا القرار الأخير الذى أصدره ...
لم تكن الاشاعة صحيحة , فقد قال لى محمد أحمد الوحيد الذى وقف مع الأطباء إلى جوار جمال عبد الناصر قبل موته , أنه طلب سماع الأخبار لأنه كان يتابعها دائما , ولم يكن يتصور طبعا أن الموت يقترب منه ... ولذا فقد فارق الحياة فى صمت دون كلمة واحدة .
وعندما فوجىء البغدادى بقراءة التأبين الخاص الموقع باسم زكريا محيي الدين بعد اتفاقهما على دورهم المحدود , والمقتصر على المشاركة فى تشييع الجنازة .. طلب من زكريا الذهاب معه إلى منزله بعد مقابلته فى منزل جمال عبد الناصر مساء نفس اليوم .
اجتمع الاثنان ومعهما كمال الدين حسين لتدارس الموقف الذى انتهى بصدور بيان وقع عليه الثلاثة .
وكما كانت القوى الداخلية تحاول معرفة خطوات المستقبل والتفاعل معها كانت القوى الخارجية تتطلع إلى ذلك خلال المقابلات التى رتبت بين المسئولين المصريين وعدد من كبار الضيوف الأجانب .
قابل أنور السادات وزير الصحة الأمريكى البرت ريتشارد سون مندوب نيسكون الذى كان يقوم بزيارة يوغسلافيا وإيطاليا فى ذلك الوقت .
استمرت المقابلة يوم الجمعة 2 أكتوبر 45 دقيقة اتجه الوفد الأمريكى بعدها إلى الطائرة مباشرة ... وتطرق الحديث إلى موضوع سحب الصواريخ التى دفعت للأمام بعد قبول مبادرة روجرز ووقف إطلاق النيران ... ولكن محمود رياض أعلن رفض مناقشة هذا الموضوع معلنا أيضا أن مصر لن تقبل تحويل وقف إطلاق النار المؤقت على هدنة دائمة .
وقال السادات لريتشارد سون ( أرجو أن تجربوا التعامل معى ) ... ولكن الانطباع لدى الوزير الأمريكى لم يكن ايجابيا بالنسبة لأنور السادات , فقد كتب تقريرا إلى حكومته اشار إليه أنور السادات فى كتبا ( البحث عن الذات ) بقوله ( أن ريتشارد سون عندما عاد إلى بلاده كتب تقريرا بأن السادات لن يبقى فى الحكم لأكثر من أربعة أسابيع إلى ستة اسابيع ) .
كما أن كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى طلب من السادات مقابلة المسئولين المصريين , وعقدت ثلاثة اجتماعات فعلا كان أولها فى اليوم التالى للجنازة 2 أكتوبر وحضره من الجانب المصرى أنور السادات وحسين الشافعي وعلي صبري , والفريق أول محمد فوزي ومن الجانب السوفيتى كوسيجين والماريشال وخاروف رئيس الأركان السوفيتى الذى أسهم فى إعادة بناء القوات المسلحة المصرية عقب هزيمة يونيو 1967 , ولاتشنكوف الرئيس السابق لبعثة الخبراء السوفيت والجنرال كاتشكين الرئيس الذى خلفه , وفلاديمير فينوجرادوف الذى عين بعد ذلك سفيرا للاتحاد السوفيتى فى القاهرة . اقتصر هذا الاجتماع على مناقشة الشئون العسكرية مع الوعد بزيادة معدل تدفق الأسلحة .
وفى هذا الاجتماع أشار زخاروف إلى ضرورة بذل كل الجهد الممكن لإحلال المصريين بدلا من السوفييت قبل بدء المعركة حتى لا يؤدى ذلك إلى تصعيد الموقف مع الولايات المتحدة , ويبرر اشتراكها العسكرى فى المعركة , وهو ما كان قد تم الاتفاق عليه بين بريجنيف وجمال عبد الناصر أثناء لقائهما فى موسكو .
وعقد اجتماعان آخران بين القادة السوفييت والمصريين صباح ومساء 3 أكتوبر حضرهما من الجانب المصرى كل من أنور السادات وحسين الشافعي وعلي صبري ومحمود رياض ومحمد فايق والفريق أول محمد فوزي وشعرواي جمعة وسامي شرف ومحمد حسنين هيكل وحسن التهامي .
كما التقى فوزى وشعراوي جمعة وسامي شرف ومحمد حسنين هيكل وحسن التهامي.
كما التقى كوسيجين مع القذافى والسادات ونميرى وعرفات . كان حرص كوسيجين شديدا على عودة الهدوء والتوازن للمسئولين المصريين الذين حملوا المسئولية بعد عبد الناصر حتى لا يحدث فراغ سياسى يمكن أن يستغله الاستعماريون المتربصون , كما أشار صراحة إلى ضرورة التمسك بالوحدة بين الجميع , وطلب أن تكون العلاقة بين الدولتين قائمة على المصارحة الكاملة دون محاولة إخفاء أى أمر من الأمور , ودون اللجوء إلى الكذب والخداع لأن حبلهما قصير , كما تحدث عن العلاقة الطيبة التى كانت تربطهم بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر .
وغادر كوسيجين القاهرة بعد أن قام بزيارة ضريح جمال عبد الناصر فى مسجد كوبرى القبة وهى الزيارة التى تحاشاها الوفد الأمريكى .
وبدأت الحياة تمضى بلا عبد الناصر .
وأصبح غياب عبد الناصر حقيقة لابد من مواجهتها ..
من الوريث ؟
كان الدستور يسمح بأن يبقى أنور السادات رئيسا للجمهورية العربية المتحدة بالنيابة حتى انتهاء مدة جمال عبد الناصر , وهو ما كات تتجه إليه الأمور عقب الوفاة .
ولكن الظروف لم تجعل هذا الرأى هو أفضل الحلول ... لأن الدولة كانت فى مواجهة معركة تحرير تقترب يوما بعد يوم آخر ... مما يفرض أن يكون هناك رئيس منتخب يشغل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة, التى أصبحت له تبعا للقانون صلاحيات واضحة ومسئوليات محددة بعد استقالة المشير عامر وتعيين الفريق أول محمد فوزي .
ولم يكن منصب نائب رئيس الجمهورية هو المؤهل الوحيد لترشيح لمنصب الرئيس فليس فى الدستور ماينص على ذلك ... وفى أوقات كثيرة كان للرئيس عبد الناصر أكثر من نائب .
ولذا أصبح الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية موضع بحث ومناقشة فى كواليس السياسة العليا .
والمفروض أن يتم الترشيح عن طريق اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى ثم يوافق مجلس الشعب على هذا الترشيح بأغلبية ثلثى الأعضاء , ويتم الاستفتاء بعد ذلك على اسم المرشح .
ولم يكن أعضاء اللجنة التنفيذية العليا قد اجتمعوا على اسم مرشح واحد , فقد كان الطموح يداعب خيال بعضهم , خاصة وأن الدستور لا يحدد مرشحا بحكم منصبه . ولم يكن علي صبري واحدا من هؤلاء , فقد أعلن أن الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية لم يكن واردا فى ذهنه لأنه – على حد قوله لشعراوي جمعة – لا يريد أن يقسم البلد نصفين فى هذه الظروف التاريخية الحساسة .
أما حسين الشافعي فلم يكن الأمر بعيدا عن ذهنه , ولكنه لم يكن يملك العناصر الإيجابية التى تجعله يفرض نفسه مرشحا لرئاسة الجمهورية .وخلال الأيام التى تلت الوفاة , ظهر تناقض جديد بين الموجودين فى السلطة بحكم مناصبهم , وبين عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين أرادوا أن يكون لهم رأى أمام الشعب بعد وفاة عبد الناصر .
يقول عبد اللطيف البغدادي أنه بعد اجتمعاعه فى منزله مع زكريا محيي الدين وكمال الدين حسين – وهو الاجتماع الذى أشرت إليه – تم الاتفاق على كتابة مذكرة إلى أنور السادات , رفض حسن إبراهيم التوقيع عليها مصارحا زملاءه بأنه قطع علاقته بالسياسة ليتفرغ إلى الأعمال الاقتصادية , كما لم يوقع عليها بقية أعضاء مجلس القيادة السابقين , حيث كانت الصلة بينهم مقطوعة , وليس لهم انتماء فكرى مشترك .
جاء فى هذا البيان بعد مقدمة طويلة عن ضرورة ملء الفراغ الذى خلفه عبد الناصر ما يلى : ( أننا على يقين من أن تحرير الضمير والفكر والحرية وحرية الكلمة والشعور بالأمن فى ظل سيادة القانون العادل وتحمل مسئولية الرأى والعمل السياسى لكل مواطن عن طريق مجلس أو مجالس منتخبة انتخابا حرا ومؤسسات دستورية حرة تمثل صادقا وحقيقيا إرادة الشعب , نحن على يقين من أن كل ذلك هو سلاح الشعب فى معركة الحياة التى يخوضها وفى كل معركة , وهو سلاحه ضد جميع القوى والتيارات التى تتربص بأمتنا الدوائر ويسعدها شل إرادة الشعب ) .
ويخلص البيان من ذلك إلى المطالبة بما يلى :
( لذلك نرى أن نضرب مثلا لشعبنا بأن تتوحد كلمتنا وأن تتكاتف جهودنا فى تحمل مسئولية قيادة جماعية تقود الخطوات الأولى لخلاص أمتنا من المحنة التى تجتازها وهذه المسئولية تعلمون , ويعلم المواطنون جميعا أنها لا تغرى أبدا إلا بالتضحية .
وتكون الوظيفة الأولى لهذه القيادة أن تهىء الفرصة للمواطن لكى يتحمل مسئولية معركة حياته , وأن ينتخب انتخابا حرا جمعية وطنية تمثل سيادة الشعب بسلطاته الدستورية والتشريعية المختلفة , وأن تقوم هذه الجمعية الوطنية بعمل الدستور الدائم لجمهورية العربية المتحدة الذى طال انتظار الشعب له , وأن تقيم المؤسسات الدستورية اللازمة لحياة دستورية وديمقراطية سليمة ومستقرة وتضمن كفالة الحرية للفرد وللمجتمع , على أن يكون نصف أعضاء هذه الجمعية من الفلاحين والعمال , وأن يشرف على انتخابها جهاز قضائى مستقل الإدارة , وأن يتم تشكيل هذه الجمعية الوطنية فى ظرف ستة أشهر على الأكثر .. وأن تكون سلطة السيادة فى هذه الفترة للقيادة الجماعية والتى يرأس جلساتها الرئيس المؤقت للجمهورية , وتكون قراراتها بأغلبية أعضائها , ولا يصدر قرار من قرارات سلطة السيادة إلا منها .
وخلال هذه الفترة يكون واجب هذه القيادة أن تقود معركة الشعب لتحرير أرض الوطن .. وبمجرد اجتماع الجمعية الوطنية تطرح هذه القيادة الثقة عليها , وتنتهى مهمة هذه القيادة بمجرد إنشاء القيادة الدستورية حسب الدستور الدائم ) كمال الدسين حسين – زكريا محيي الدين – عبد اللطيف البغدادي . وهكذا أسفر المستقيلون من أعضاء مجلس قيادة الثورة عن موقف جديد يبدو التناقض فيه أكثر التناقض فيه أكثر عمقا مما هو موجود بين المجتمعين فى إطار قيادة الإتحاد الإشتراكى ... مضمون هذا البيان رغبة فى رفض قيادة جديدة تكون امتدادا للمجلس السابق للثورة ... وإلغاء لما هو قائم من تنظيمات متمثلة فى الإتحاد الإشتراكى .
ويقول عبد اللطيف البغدادي أن أنور السادات قد حدد له يوم الثلاثاء 6 أكتوبر موعدا ولكنه آثر أن يرسل له المذكرة مبكرا يوم الأحد حتى يكون رأيهم معروفا فى وقت تتصارع فيه الآراء .
وكان هذا التبكير فى إرسال المذكرة سببا فى تسريبها وظهور ردود فعل سريعة لها , فكتب الدكتور عزيز صدقى وزير الصناعة بيانا وزعه على الصحف , ونشر فى صبيحة يوم الثلاثاء المحدد للمقابلة , وفيه يهاجم أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين . ويقول الدكتور عزيز صدقى أنه اتخذ هذا الموقف اقتناعا منه بأن تعيين جمال عبد الناصر لأنور السادات نائبا له , هو أمر لابد وأنه نبع من ثقة يجب أن تكون موضع تقدير واحترام ..
وقد عارض الدكتور عزيز تحرك الأعضاء السابقين لمجلس الثورة حرصا منه على التزام الشرعية وتحاشيا لمواقفهم المضادة لتطورالصناعة التى يعتبرها أساسا للتحول نحو الإشتراكية .
يقول أن سيد مرعي قد زاره فى مكتبه واقترح عليه زيارته هو ومحمد حسنين هيكل لمنقشة موضوع عودة مجلس قيادة الثورة ضمانا – حسب قوله – لاستمرار ثورة يوليو , ولكن الدكتور عزيز لم يتردد فى اظهار معارضة لهذه الاتجاه ... ويقول أن شعراوي جمعة قد زاره فى مكتبه أيضا مستفسرا عن موقفه فلم يتردد فى مصارحته برفضه لاتجاه عودة أعضاء المجلس السابقين , والتزامه بالشرعية ومواد الدستور المؤقت ...
ويقول عبد اللطيف البغدادي إنه كان غاضبا من مقال الدكتور عزيز صدقى الذى تهجم فيه عليهم .
ولكن أنور السادات الذى كان من مصلحته فى ذلك الوقت تجسيم التناقض بين زملائه القدامى فى مجلس قيادة الثورة , وبين رجال الصف الثانى الموجودين فى مقاعد الحكم , قال له هذه المذكرة تعنى ( إنهاء أسلوب عبد الناصر تماما ) .
وقال البغدادى _ ولكن .. يجب أن نعطى المسئولية للشعب بعد وفاة عبد الناصر ) .
لم يصل الزميلان القديمان إلى اتفاق بعد أن تعارضت بينهما المصالح .
وكان صدور هذا البيان بمثابة الضوء الأحمر الذى يمثل خطرا على جميع الذين أحاطوا بجمال عبد الناصر فى أيام حياته الأخيرة وكان ذلك دافعا أيضا إلى ضرورة ترشيح رئيس الجمهورية , بعيدا عن هؤلاء الذين طالبوا بإلغاء الإتحاد الإشتراكى العربى ركيزة الحكم الرئيسية , وعدم الاستكانة إلى ما يسمح به الدستور من استمرار نائب رئيس الجمهورية رئيسا بالنيابة حتى انتهاء المدة القانونية , وذلك للوضع الشرعى , وتحاشيا لأى نوع من أنواع القلق .
وتشاور هؤلاء الذين يملكون السلطة الفعلية , واستقر قرارهم على ترشيح أنور السادات .
وتوجه إليه شعراوي جمعة وأمين هويدي وسامي شرف لإبلاغه ذلك فى الثانية بعد منتصف الليل حيث كان يقيم بقصر القبة .
هكذا تحددت الأمور , رغم أن البعض كان معترضا على ترشيحه فى البداية أشد الاعتراض .
والمثير أن أنور السادات قال لهم فى هذا اللقاء أنه مريض ولا يضمن عمره , ولذا فهو يريد أن يوصيهم بأمر هام ... هو أى يرشحوا من بعده إذا لحقه القدر أيا من حسين الشافعي أو علي صبري .
كانت الكلمات عند بعضهم بمثابة الصدمة ... ولكنها عند البعض الآخر مضت فى صورة طبيعية تظهر التناقض والتنافس بين الشخصيات الثلاث التى تولت منصب نائب رئيس الجمهورية فى مرحلة من المراحل .
ولكن هذه الكلمات كانت فى حقيقتها تعبيرا عن إدراك مبكر من جانب أنور السادات لفقدان التناسق بين هذه المجموعة من جانب , وبين علي صبري وحسين الشافعي من جانب آخر ... وهو إدراك أثبتت الأيام صحته فيما بعد .
وعندما عرض الأمر على اللجنة التنفيذية أيد علي صبري ترشيح أنور السادات بينما طلب حسين الشافعي تأجيل موعد الاستفتاء .
ويروى أنور السادات فى كتابه ( البحث عن الذات ) قصة اعتراض حسين الشافعي على ترشيحه فيقول :
( احدهم مثلا وكان العضو الباقى معى من أعضاء مجلس قيادة الثورة طلب أن يظل الوضع كما هو وقال لى " أنا اخشى لو قدمنا اسمك أن تكون محرجا فالبلد ترفضك , وإذا حدث هذا فسيكون معناه أن البلد بترفض ثورة 23 يوليو " .
لم يكن أنور السادات – فى رأى حسين الشافعي – رجلا حسن السمعة , ولذا أثار فى اعتراضه موضوع فيللا العميد صلاح الموجى فى الهرم التى حاول السادات الحصول عليها , وعندما رفض صاحبها أصدر أمرا بوضعه تحت الحراسة أثناء وجود جمال عبد الناصر فى الاتحاد السوفيتى , وهو ما كان حديث المجالس فى كل مكان .
ولكن المجموعة الأخرى التى تبنت ترشيحه وقفت معه بلا تردد ... لأنها وجدت فيه الاختيار الأفضل بالنسبة لهم .
وكان حسين الشافعي قد سبق له أن تحدث مع سامي شرف فى حياة عبد الناصر عن خلو منصب رئيس الجمهورية وضرورة شغله , الأمر الذى كان – فيما يبدو – عاملا من العوامل التى دفعت عبد الناصر إلى اختيار السادات نائبا له .
ولم يحضر حسين الشافعي جلسة مجلس الأمة التى أقرت الترشيح , وإن كان قد ذهب بعد ذلك إلى أنور السادات وقام بتصفية الجو معه .
وهكذا أقرت اللجنة التنفيذية العليا قرار ترشيح أنور السادات رئيسا للجمهورية وعرض الترشيح بعد ذلك على اللجنة المركزية فوافقت عليه .
وتحقق ما قاله أنور السادات لعبد اللطيف البغدادي فى لقائه معه يوم 6 أكتوبر من أن المذكرة التى وقع عليها الثلاثة , قد دفعت إلى اختصار إجراءات كان مفروضا أن تتم خلال 60 يوما لتتم فى أسبوع واحد .
أصبح أنور السادات هو المرشح الوحيد لمنصب رئيس الجمهورية وتوجه على مجلس الأمة فى اليوم السابع لجنازة عبد الناصر حيث عقدت جلسة استثنائية ليلقى بيانا أمام المجلس نسجل بعض ما ورد فيه : ( لقد جئت غليكم على طريق جمال عبد الناصر , وأعتقد أن ترشيحكم لى بتولى رئاسة الجمهورية , هو توجيه بالسير على طريق جمال عبد الناصر , وإذا أيدت جماهير شعبنا الاستفتاء الاعم ( بنعم ) فإنى سوف أعتبر ذلك أمرا بالسير على طريق جمال عبد الناصر , الذى أعلن أمامكم بشرف أننى سأواصل السير فيه على أية حال ) .
وقال أنور السادات فى بيانه أيضا :
( أننى جئت إلى هذا المجلس بوثيقة واحدة أودعها فيه وأمشى , قائلا لكم هذا برنامجه وهو برنامجى ايضا لأنه إرادة الشعب , إنى أودع فى هذا المجلس بيان 30 مارس فذلك آخر برنامج متكامل قدمه جمال عبد الناصر ) .
قال ذلك وهو يرفع بيده بيان 30 مارس أمام الأعضاء وينهى خطابه بالحديث عن توزيع المسئوليات فيقول :
( وأصارحكم القول أنه ليس بمقدورى ولا مقدور أى شخص أن يتحمل ما كان يتحمله جمال عبد الناصر , ولذلك فإنه من الضرورى إعادة توزيع المسئوليات , ضمانا لأداء الأمانة كما يجب أن تؤدى الأمانة وفاء لحق الشعب وتكريما لذكرى قائده ) .
وبعد أن انتهى أنور السادات من القاء بيانه أمام تمثال نصفى لجمال عبد الناصر قريبا من باب الخروج , وانحنى أمامه فى مشهد سجلته عدسات التليفزيون وأثار عند الناس تساؤلا عن هذا الانحناء الذى أخذ شكلا وثنيا ... وهو الأمر الذى دفع إلى إلغاء هذا المشهد عند إذاعة البيان مرة أخرى .
أيد 353 عضوا من أعضاء الأمة ترشيح السادات وهم جميع من حضر الجلسة . الوريث يعلن صراحة أنه سيمضى على طريق الزعيم الراحل ... وكلمات البيان لا تحتمل الشك والتأويل ... والشعب حريص على منح ثقته للمرشح الجديد تعبيرا عن إرادته فى أن يمضى الرئيس الجديد حاملا أعلام ثورة يوليو , منفذا أهدافها ومواثيقها , مجددا ذكرى الراحل ذكرى الراحل العظيم .
ويتم الاستفتاء ... وظهرت النتيجة على أنها 90 بالمائة و4 من مائة بالمائة ستة ملايين قالوا نعم و711 و252 من ألف قالوا لا .
أصبح أنور السادات رئيسا للجمهورية العربية المتحدة منذ يوم 18 أكتوبر 70 بعد عشرة أيام استقبل فيها مختلف الطوائف , وفى مقابلات بلغت ثمانية فى اليوم الواحد , وسلطت على هذا المقابلات عدسات التليفزيون , كما لم يحدث من قبل , وظهر أنور السادات على الشاشة الصغيرة كما لم يظهر من قبل أيضا , وهو يتحدث للجميع أحاديث معطرة بالوعود , عامرة بذكرى الزعيم الراحل .
كانت مسئولية شاقة على أى شخص أن يحتل مكان جمال عبد الناصر الذى بنى تاريخه خلال نضال طويل , اكتسب فيه ثقة الناس رغم الهزيمة , ونال احترام الأصدقاء والأعداء معا , وأصبحت كلمة ( الرئيس ) معروفة عند الأجانب أيضا تستخدم فى صحفهم وكتبهم , وإذا ذكرت كان المقصود هو جمال عبد الناصر هل يمكن أن يكون هناك ( رئيس ) آخر ؟
ذلك ما وصل إليه [[أنو ر السادات ]] رسميا وشعبيا فى الاستفتاء ... ولكن ما زال – الناس يقرنون تلقائيا بين اسم جمال عبد الناصر ولقب ( الريس ) .
وهى قضية نفسية شاقة ... ولكن أنور السادات لم يحاول استعجال الأمور , فقد حرص على إثبات وجوده بالخطب والبيانات والاجتماعات مع ممثلى رجال الإعلام والجامعة والقضاء والدين وغيرهم , والتى بدأت خلال فترة ترشيحه , ثم اتصلت بعد ذلك ليبلغ عددها 26 لقاء خلال سبعة شهور , أى بمعدل مرة كل اسبوع تقريبا ... عدا الاجتماعات المتكررة مع رجال القوات المسلحة .
ردد أنور السادات كثيرا كلمات الديمقراطية والحرية وسيادة القانون ... وهى كلمات شديدة الجاذبية للجماهير التى تعتبرها واقيا لها من شطحات الحكام الفرديين .. وأثار قضية الحراسة ورفعها عن المظلومين , وتحديد فرضها بقانون .. والحراسة كانت تعلن بقرارات تحتمل الخطأ والصواب . وليس بناء على قانون ...
ولا شك أن أنور السادات كان يجتذب الأحاديث بهذه كل القوى والطبقات ٍالتى عانت من التطبيقات الإدارية فى بعض المجالات .. فكان الاعتقال على سبيل المثال ظاهرة مقترنة بإرادة الحاكم تنفذ بلا قيد أو حساب ... وربما كانت فى محصلتها النهائية ذات ثمرة نافعة للجماهير وحركة الثورة , ولكنها فى حقيقتها كانت تبعث ذعرا وخوفا يسكن القلوب , ويطفىء جذوة الحماس عند الناس , ويذيل الطاقة الخلافة عند الجماهير .
ويؤكد شعراوي جمعة أنه أيضا كان متجها إلى تسريح المعتقلين وتقنين الحراسة وسيادة القانون ... ولكنه ظل مع ذلك فى صورة وزير الداخلية تحيط به شبهات الرجل المسئول عن الأخطاء المرتكبة ضد الحرية , رغم تأكيده بأن عدد المعتقلين يوم تعيينه فى الوزارة كان 6600 معتقل وصل فى نهاية عام 1970 إلى 400 فقط كانت الاجراءات تتخذ فى سبيل إخلاء سراحهم .
وحرص أنور السادات على إثبات وجوده أيضا باختيار مرشح يرتضيه لمنصب رئيس الوزراء بعد أن وعد بتوزيع المسئوليات .
والتقت الترشيحات عند الدكتور محمود فوزي عضو اللجنة التنفيذية العليا ووزير الخارجية السابق .
يقول هيكل أنه رشحه عندما استشاره أنور السادات وروى له مطالبة حسين الشافعي وعلي صبري بالمنصب وعدم مواقفة السادات على ذلك .
وأبدى السادات دهشته من هذا الترشيح لأن الدكتور فوزى كان قد قدم استقالته من اللجنة التنفيذية العليا يوم 3 أكتوبر بدعوى كبر السن ولكن اللجنة رفضتها بالإجماع وأقنعته بالاستمرار فى موقعه وتمكن هيكل من اقناع الدكتور فوزى بالموافقة على قبول المنصب ... وتوجه معه إلى قصر الطاهرة حيث التقى بهما أنور السادات فور عودته من إلقاء بيانه أمام مجلس الشعب .
يقول هيكل أنه رشح الدكتور محمود فوزي لما يمثله من أبوة تريح الجماهير وما يتوفر له من شخصية ديبلوماسية معروفة فى العالم الخارجى .
ويقول شعراوي جمعة أنه واقف على ترشيحه تجنبا لحساسيات وتناقضات قائمة حاول أمين هويدي تفاديها ايضا بترشيحه أنور السادات للمنصبين رئيسا للجمهورية ورئيسا للوزراء .
ولكن الأمر يتعدى هذه الأسباب بلا شك ولا يؤخذ بهذه البساطة ... فالدكتور فوزى شخصية مدنية ليس لها طموح العسكريين المنافسين ...ولا تتوفر فيه القدرة على المعرضة أو المقاومة ... بل ويحذر أحيانا المصارحة ... وترشيح هيكل له يتيح من خلال علاقتهما الوثيقة فرصة التعرف على الأمور وتوجيهها ... وترشيح شعراوى ينبع من أنه كان يراه شخصية هادئة لا تؤثر فى تغير الموقف ... وموافقة حسين الشافعي وعلي صبري تنبع من نظرتهما إلى أنه رجل لا يصلح لأداء دور البطولة .
وهكذا تم إبعاد العسكريين لأول مرة منذ ثورة يوليو عن موقع رئيس الوزراء .. بعد تعيين اللواء محمد نجيب فى 9 سبتمبر 1952 , والتقى فى ذلك هيكل الذى لا يضمن حسن علاقته بهم ...وشعراوى الذى كان يشعر بتطلع من العسكريين للمنصب .
وجد هذا الترشيح قبولا من السادات , لأنه وجد فيه تفضيلا عن اختيار أحد من مجموعة العسكريين السابقين الذى لا يضمن ولاءهم ولا يثق بطواعية حركتهم .
ارتضى الجميع الدكتور محمود فوزي رغم معرفتهم أنه ليس المعبرعن أهداف وأفكار ثورة يوليو وأنه لا يمكن أن يكون الشخصية التى تمثلها فى المحافل الدولية , فهو ديبلوماسى لا يتجاوز حدود مهنته إلى عالم السياسة المضطرب , ولم يعرف عنه يوما أنه كان متحمسا لاجراءات ثورة يوليو السياسية أو الاجتماعية ويجدر بنا الاشارة إلى أن الدكتور فوزى كانت تربطه علاقة شخصية وثيقة بمحمد حسنين هيكل , والاثنان يمتلكان عزبة مريحة فى ضواحى القاهرة بمنطقه الأهرام. قدم هيكل الدكتور محمود فوزي بحديث فى الهرام يوم أول نوفمبر 1970 , استغرق 4 صفحات كاملة , وهو ما لم يقم به مع أى رئيس وزراء سابق .
وفى الجانب الآخر لم تكن هناك علاقة وثيقة تربط الدكتور محمود فوزي مع العسكريين ... كما أنه لم تكن تتوفر لدى العسكريين مثل هذه العزب ولم تتوفر لهم أيضا حياة الصالونات الاجتماعية بل إن بعضهم كان ينفر من ذلك نفورا واضحا ويعيش حياة انطوائية لا تخلق صداقات اجتماعية مؤثرة, وهم فى ذلك متأثرون بالأسلوب الذى ارتضاه جمال عبد الناصر لنفسه فى حياته ... صداقات محدودة وشبه عزلة عن حياة الصالونات الاجتماعية . ٍ
تجمع المدنيين الأكثر ثراء يمكن أن يعطى مدلولا طبقيا ولونا معينا من ألوان الحياة الاجتماعية ذات تأثير خاص على أنور السادات الذى كان كثيرا ما يزور عزب هيكل وسيد مرعي فى الهرم حيث كان يقيم هو الآخر .
وتفاديا لأية تعقيدات أصدر أنور السادات قرارا بتعيين كل من حسين الشافعي وعلي صبري فى منصب نائب رئيس الجمهورية فى 31 أكتوبر 1971 , كما صدر قرار بتعيين عبد المحسن أبو النور أمينا عاما للاتحاد الاشتراكى فى 21 أكتوبر .
الوزارة الجديدة :
شكل الدكتور محمود فوزي وزارة لا تضم نوابا لرئيس الوزراء .
ضمت الوزراة 13 عسكريا , 19 مدنيا هم أعضاء الوزراة التى كان يرأسها جمال عبد الناصر ... كان الرأى قد استقر على أن تبقى وزارة عبد الناصر بتشكيلها حتى تمضى أربعون يوما على وفاته.
الوحيد الذى طلب الخروج من الوزارة وأجيب إلى طلبه كان محمد حسنين هيكل الذى اكتفى برئاسة مؤسسة الأهرام وعين بدلا منه محمد فايق الذى عاد إلى منصبه القديم , بعد أن كان قد عين وزير دولة للشئون الخارجية .
كانت وزارة الدكتور فوزى تضم شخصيات غير منسجمة فى اتجاه سياسى واحد ... ولكنها كانت مرتبطة بجمال عبد الناصر وحده , مثل المهندس صدقى سليمان ( وزير الكهرباء والسد العالى ) والذى كان رئيسا سابقا للوزراء عام 1966 ولكن لم يرشحه أحد , وكمال رفعت ( وزير العمل ) والدكتور عزيز صدقى ( وزير الصناعة والبترول والثروة المعدنية ) والدكتو ثروت عكاشة ( وزير الثقافة ) والمهندس سيد مرعي ( وزير الزراعة والاصلاح الزراعى ) وحسن عباس زكي ( وزير الاقتصاد ) وشعراوي جمعة ( وزير الداخلية ) وأمين هويدي وحسن التهامي وسامي شرف ( وزراء دولة ) .
كان واضحا منذ البداية أنها وزارة انتقال وملء فراغ , ولم يتحمل أحد أن هذه الوزراة التى ضمت كل الشخصيات التى عملت مع عبد الناصر دون تغيير يمكن أن تستمر وأن تخمد فى اعضائها روح المنافسة .
ولم يكن متوقعا من الدكتور محمود فوزي أن يقود بنجاح وزارة عبد الناصر بمن فيها من شخصيات بعضها مارس العمل السياسى سنوات طويلة وأصبح له رصيد حافل ... ولذا بدأت تظهر بعض التناقضات ويوجه النقد لرئيس الوزراء الذى عرف عنه خلال تاريخه فى الوزارة أو العمل الديبلوماسى أنه يتحاشى الصدام ويتجنبه ولا يطيقه وأن له وسائل تقليدية فى معالجة الأمور .
كانت شخصية الدكتور محمود فوزي بعيدة تماما عما كان يتمتع به جمال عبد الناصر ... كان حالما وهادئا ...
ولم يطل عمر هذه الوزارة كثيرا , فقد أدت دورها كوزارة انتقالية ... وتشكلت وزارة جديدة برئاسة الدكتور محمود فوزي فى 18 نوفمبر بعد مرور الأربعين .
كان التعديل بعيدا عن إرادة رئيس الوزراء ... وكان معبرا عن قوة ونفوذ المجموعة التى أحاطت بعبد الناصر ... ولكنه لم يجعل منها القوة المطلقة الوحيدة فى الوزارة .
لعب سامي شرف وشعراوي جمعة الدور الرئيس فى إجراء التعديلات , وإن كان الأول قد انفرد بتعديلات خاصة مثل ترشيح محمد أحمد وزيرا للادارة المحلية ليتخلص منه وهو فى درجة وزير من العمل برئاسة الجمهورية حيث كان سكرتيرا خاصا لعبد الناصر دون إبلاغ شعراوى بذلك مقدما . ولم يقترح الدكتور فوزى سوى اسم الدكتور عصمت عبد المجيد السفير بوزارة الخارجية ليكون وزيرا للدولة .
وواضح أن أنور السادات قد استجاب ووافق على هذه التعديلات , متحملا مسئولية مواجهة بعض الخارجين , مدركا أنه يتمتع بالمنصب الشرعى , ولكن خيوط القوة والنفوذ لم تتجمع بعد فى يديه .
خرج من العسكريين صدقى سليمان الذى عين مستشارا لرئيس الجمهورية ثم رئيسا لجهاز المحاسبات , وكمال رفعت سفيرا فى لندن , وثروت عكاشة مساعدا لرئيس الجمهورية , وأمين هويدي الذى آثر الابتعاد عن الحكم رغم ترشيحه وزيرا للإدارة المحلية ,وحسن التهامي الذى عين مستشارا لرئيس الجمهورية أيضا .
كان مفهوما أن يخرج كل هؤلاء العسكريين للتناقض القائم بينهم وبين مجموعة عبد الناصر, ولكنه لم يكن مفهوما أن يخرج أمين هويدي أيضا , وهو احد أفراد هذه المجموعة التى لم يتصور أحد أن التناقض قد وصل إليها أيضا .
أذكر أنى ذهبت إلى أمين هويدي وقتها متسائلا عن سبب رفضه دخول الوزراة فقال لى أنه لا يريد أن يعمل مع رئيس للوزارة بعبد الناصر ...ولم يشأ أن يفصح وقتها عما كان يختزنه فى صدره وأذكر أن شعراوي جمعة كان حريصا على وجود أمين هويدي فى الوزارة , فقد طلب منى عندما سألته عن سبب رفضه أن أحاول اقناعه .
ولكن ترشيح هويدى لوزارة الإدارة المحلية كان يعنى رغبة فى تعيينه وزيرا لوزارة خدمات لا سلطة لها ... بعد أن كان وزير دولة لشئون رئاسة الوزارة , ومديرا سابقا للمخابرات العامة ...
لحق هويدى بمحمد حسنين هيكل , وابتعد اثنان من المجموعة التى اختارها جمال عبد الناصر أثناء مرضه فى سبتمبر 1969 لمباشرة السلطة والاشراف على شئون الدولة والتى كانت مشكلة من أنور السادات وشعراوي جمعة وأمين هويدي ومحمد حسنين هيكل والفريق أول محمد فوزي وسامي شرف .
ودخل الوزارة من العسكريين المهندس حلمى السعيد للكهرباء وتربطه صلة نسب بشعراوي جمعة ومحمد حافظ إسماعيل مدير المخابرات الذى كان جمال عبد الناصر قد عينه فيها تمهيدا لتعيينه رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة , ومحمد أحمد .
وعين أحمد كامل مديرا للمخابرات العامة بترشيح من سامي شرف ...وخرج من المدنيين حسن عباس زكي بعد ذلك مستشارا لإمارة أبو ظبى وأصبح هناك أربعة نواب لرئيس الوزراء هم الدكتور عزيز صدقى للإنتاج والتجارة ووزيرا للصناعة , وسيد مرعي للزراعة ,ومحمود رياض للخارجية , وشعراوي جمعة للخدمات ووزيرا للداخلية .
ضمت الوزارة 12 عسكريا , 20 مدنيا .
ورغم هذا التغيير الذى ثبت قبضة مجموعة عبد الناصر على الوزارة , إلا أنه كان واضحا أنها لا يمكن أن تكون وزارة دوام واستقرار لعدم وجود عنصر الاقتناع برئيس الوزارء , ووجود طموح عند بعض الوزراء للوثوب إلى المنصب .
وتشكل مع الوزارة الجديدة مجلس الدفاع الوطنى يوم 19 نوفمبر برئاسة أنور السادات وعضوية حسين الشافعي وعلي صبري والدكتور محمود فوزي وعبد المحسن أبوالنور ومحمود رياض وشعراوي جمعة والفريق أول محمد فوزي وسامي شرف وأحمد كامل والفريق محمد أحمد صادق .
بلورة الجبهات :
كان جميع المشتركين فى جهاز الحكم الجديد يتعلقون بعبد الناصر , ويتشبثون بصلتهم به .
أنور السادات اتصل بجريدة الأخبار حسب رواية موسى صبري رئيس تحرير الأخبار فى كتابه ( وثائق 15 مايو ) وطلب أن يوضع رسم ثابت لجمال عبد الناصر فى صدر الصحيفة , وأن يكتب تحته - مؤسس مصر الحديثة ) وقد استمر نشر هذا الرسم سنة كاملة حتى الذكرى الأولى لجمال عبد الناصر ... وكل خطب السادات تؤكد أنه يمضى على طريق عبد الناصر .
سامي شرف كان يزور قبر عبد الناصر كل يوم قبل أن يتوجه إلى مكتبه وكذلك كان يفعل الآخرون فى أحيان كثيرة ... وانفرد هيكل بالحديث عن عبد الناصر فى مقالاته .
كان عبد الناصر رغم موته ما زال مصدر الإلهام للبعض , وقناعا مناسبا للبعض الآخر .
ولكن الواقع كان يفرض حقيقة هامة , وهى أنه لا يمكن الحكم بأسلوب عبد الناصر فى غيبته وبعد موته .
وكان توزيع المسئوليات ... السادات لرئاسة الجمهورية , ومحمود فوزي لرئاسة الوزراء , وعبد المحسن أبو النور لأمانة الإتحاد الإشتراكى , مظهرا من مظاهر التغيير ... ولكنه كان تغييرا سطحيا , فقد استمر مركز الحكم يتركز فى أجهزة ورئاسة الجمهورية التى كان يديرها سامي شرف , والتى كانت تتصرف كما لو كان عبد الناصر حيا .
وكان أنور السادات يرقب الموقف فى هدوء , يتلمس طريق المستقبل بين هؤلاء الذين لا تجمعهم وحدة , ولا يضمن إخلاصهم له ... والذين يملكون فى نفس الوقت السيطرة على كل أجهزة القوة والسلطة .
كان أنور السادات يعرف ماذا يريد , وما يمكن تلخيصه فى أنه يريد ان يحكم دون أن يكون مقيدا بالخيوط التى تحيطه بها الآخرون ... وكان الآخرون لا يعرفون ما يريدون ... فهم يمارسون السلطة دون نقصان عن عهد عبد الناصر بل زاد انفرادهم بالعمل , ولم يكن السادات يمثل لهم عائقا أو قيدا حتى هذه اللحظة . ولذا كانت حركة السادات مرسومة .
فى اجتماع المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى الذى عقد فى 11 نوفمبر 1970 تم انتخاب السادات رئيسا للاتحاد .
وبدأ السادات عملية اقتراب للقوات المسلحة فعقد سلسلة من الاجتماعات بدأت يوم 20 أكتوبر باجتماع مع القادة أعلن فيه أنه ( لن يقبل تجميد وقف اطلاق النار , كما لن يقبل مد فترة الوقف إلا مرة واحدة بشروط ) ... ثم زار الجبهة يوم 28 أكتوبر حيث تحدث 4 مرات إلى الضابط والجنود وتبع ذلك بزيارة يوم أول ديسمبر امتدت تسع ساعات .
كان أنور السادات يهدف من ذلك إلى ممارسة سلطات رئي رئيس الجمهورية فى المجال السياسى رئيس للاتحاد الاشتراكى , وهو الذى كان بعيدا عن كافة تنظيماته خلال عهد عبد الناصر سوى عضوية اللجنة التنفيذية العليا , وفى المجال العسكرى باعتباره قائدا أعلى للقوات المسلحة وهو الذى عاش معظم حياته قبل الثورة ضابطا مفصولا من الجيش إذ عمل 4 سنوات , وأبعد عن الجيش 8 سنوات .. ونجح فى امتحان الترقى فى بمساعدة جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ... وعاش حياته بعد الثورة فى أعمال لا تتصل بالقوات المسلحة من قريب او بعيد ...
ولم تقتصر خطوات السادات على هذين الاتجاهين فقط ... ولكنه واصل الاجتماعات مع أفراد الهيئات المختلفة التى بدأ فى عقدها قبل انتخابه رئيسا للجمهورية فالتقى خلال شهر يناير مثلا مع رجال الإعلام وهيئات التدريس بالجامعة والقيادات السياسية فى أسيوط , ورجال الهيئات القضائية الذين اجتمع بهم فى قاعة محكمة القاهرة التى حوكم فيها أثناء اتهامه بالإشتراك فى اغتيال أمين عثمان , وكان بذلك يحاول تطهير نفسه من تبعة الاشتراك والمسئولية عن فصل عدد كبير من القضاه والمستشارين كما أوضحنا فى الجزء الخامس ( خريف عبد الناصر ) ثم عاد ورأس فى نفس الشهر يوم 28 يناير اجتماعا للمجلس الأعلى للهيئات القضائية تسلم فيه وساما من رجال القضاء .
وكان أنور السادات يحاول أن يكتسب شخصية جديدة تتحدث عن الحرية والديموقراطية وسيادة القانون وكان يستقطب بذلك اتجاهات كانت تتطلع إلى هذه الفضائل خلال حكم عبد الناصر .
وكتب محمد حسنين هيكل مقالا فى الاهرام يوم 6 نوفمبر فى ذكرى الأربعين تحت عنوان ( عبد الناصر ليس اسطورة ) تضمن تحليلا سليما حول دور الزعيم بعد وفاته , ولو أن بعض فقرات جاءت فيه كانت تشكل طعنة معنوية لهؤلاء الذين اعتبروا أنفسهم أكثر الناس إخلاصا لعبد الناصر وتشربا للناصرية .
( إن جمال عبد الناصر ليس له خلفاء ولا صحابة يتقدمون باسمه أو يفسرون نيابة عنه ... لقد كان له زملاء واصدقاء , وقيمة ما تعلموه منه , مرهونة بما يظهر من تصرفاتهم على أن تكون محسوبة عليهم دون أن يرتد حسابها عليه .. إن خلفاء عبد الناصر هم كل الشعب وليسوا الأفراد )
ويستطرد هيكل قائلا :
( وأكاد أقول إن تأثير جمال عبد الناصر فيمن لا يعرفهم شخصيا أعمق منه فيمن عرفهم شخصيا ذلك لأن الذين لم يعرفهم كان استيعابهم لفكره خالصا , وأما الذين عرفهم فإن استيعابهم لفكره ربما كان مشوبا فى بعض الأوقات وفى بعض الظروف بمطامحهم الذاتية ) .
واضح من هذا الحديث أن المقصود بهؤلاء هم المجموعة التى ارتبطت بعبد الناصر من رجال الصف الثانى , وليس السادات .
أذكر أنى كنت فى زيارة لشعراوي جمعة بمكتبه فى وزارة الداخلية وكان عنده سامي شرف الذى فتح موضوع المقال , وتحدث ثائرا ضد هيكل , معبرا أن كلماته اعتداء على عبد الناصر , وتسميما للآبار أمامهم ... وختم حديثه منفعلا - نعم .. عبد الناصر اسطورة ) . وكان شعراوي جمعة هادئا وغير منفعل , وعندما طلب رأيى قلت له أن الرد على مقال لا يكون إلا بمقال مثله , والرأى لا يهزمه إلا الرأى .
ووضح لى أن هيكل قد اختار بمقاله الابتعاد عن هذه المجموعة , والاقتراب من أنور السادات .
وقد أثار الدكتور لبيب شقير رئيس مجلس الأمة موضوع هذا المقال أمام اللجنة التنفيذية العليا , مهاجما لهيكل بحيثيات معدة ومرتبة , وطلب السادات تأجيل الموضوع إلى اجتماع آخر بعد أن طلب شقير النظر فى اتخاذ اجراء ضد هيكل .
فاتح هيكل فى الموضوع فزاده بعدا عن الآخرين ... ورتب له مواجهة مع أعضاء اللجنة التنفيذية العليا , ليبقى بعيدا فى مركز الحكم .
وفى الاجتماع الثانى فوجىء الاعضاء باستدعاء السادات لمحمد حسنين هيكل ومواجهته لمنتقديه الذين أخذتهم المفاجأة . فلم يجد الدكتور لبيب شقير التعبير عن نفسه كما فعل فى الجلسة السابقة , وبعد تفسير هيكل لمقاله انتهى الموضوع كبالون كبير تسرب منه الهواء , ونساءل ضياء الدين داود عما إذا كان هذا الإجراء سوف يتبع مع كل صحفى يوجه له اتهام .
ولكن هيكل لم يكن فى عهد عبد الناصر مثل بقية الصحفيين , والاتهام الموجه له كان يحمل معنى الخيانة للزعيم .
أدى هذا الموقف إلى بلورة للجبهات فقد انحاز هيكل إلى جانب السادات الذى ظهر وكأنه يبسط حمايته عليه , ولم يكن هيكل قد تعرض لهذا الموقف من قبل خلال حياته الصحفية .. الأمر الذى أشعره بأن التناقضات بينه وبين هذه المجموعة المركزة أساس فى الإتحاد الإشتراكى يمكن أن تهدد أمنه الشخصى وتعرضه لمتاعب شديدة .
لم يشترك علي صبري فى هذه الموقعة لأنه فوجىء ايضا بما أثاره لبيب شقير ولم يكن علي صبري قائدا لهذه الجبهة أو مسيطرا عليها رغم أنه كان مؤهلا لذلك ... ولم يكن تاريخ شعراوي جمعة يسمح له بأن يكون قائدا لهه المجموعة بلا منافسة .
كان أفراد هذه المجموعة تربطهم علاقة الانتماء إلى طليعة الاشتراكيين الجهاز السياسى للاتحاد الاشتراكى .. وهى علاقة قد توفر أيدلوجية متقاربة وصلات تنظيمية , ولكنها لم تكن توفر انضباطا حزبيا بمعناه الأصيل .
لم يكن علي صبري إذن هو الشخصية المواجهة لأنور السادات او المناطحة له حيث أن هذه المجموعة لم تكن تشكل فريقا منسجما , أو ( شلة) مترابطة .
كما أن أنور السادات كان قد أصبح مطلعا ومسئولا عن طليعة الاشتراكيين بعد أن قررت أمانتها رفع الأمر إليه للتصديق على وجودها وأسماء أفرادها فصدق على ذلك وبدات نشراتها وتقاريرها ترفع إليه , بعد أن كانت صلته بها فى الماضة لا تتجاوز وصول نشراتها إليه هو وزكريا محيي الدين وحسين الشافعي دون التعرف على تنظيماتها أو حركتها السياسية .
ومع الارتباط السياسى الجديد لأنور السادات فإن ذلك لم يمنعه من أن يتخذ له مكتبا فى قصر عابدين لأول مرة يوم 6 ديبسمبر وهو ما لم يحدث فى تاريخ الثورة منذ عزل محمد نجيب ... وأقام حفل عشاء للسفراء وزوجاتهم يوم 16 ديسمبر فى نفس القصر وهو ما لم تجر عليه تقاليد الثورة أيضا .
كانت الاتجاهات السياسية والاجتماعية والشخصية تتبلور .
وخلال نفس الشهر تحرك عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا فى رحلات للخرج لدراسة احتمالات الموقف بعد انتهاء الفترة الثانية لوقف اطلاق النار ... فسافر إلى موسكو علي صبري على رأس وفد من دكتور عزيز صدقى ومحمود رياض والفريق محمد فوزي وتوجه حسين الشافعي لمقابلة تيتو ... بينما سافر محمود رياض بعد ذلك لدول غرب أوروبا ومحمد فايق للدول الأفريقية ولبيب شقير للدول الآسيوسة .
بيان 4 فبراير 1971 :
كانت أهم القضايا التى تواجه المجموعة الحاكمة الجديدة رغم بداية تبلور جبهاتها هى قضية وقف إطلاق النار بعد أن تقرر امتداده ثلاثة شهور كان مفروضا أن تنتهى فى 7 فبراير... وواضح من اجتماع اللجنة التى شكلت وانعقدت قبل جنازة عبد الناصر أن الآراء لم تكن موحدة رغم اتفاقها على مد وقف اطلاق النار ثلاثة شهور أخرى .
وأصبحت الآراء بعد ذلك أكثر وضوحا فى مواجهة هذه القضية الحساسة .
كان هناك اتجاه شديد للعودة إلى القتال وتنفيذ الخطة الدفاعية 200 يمثله الفريق أول محمد فوزي ويؤيده فى ذلك شعراوي جمعة وسامي شرف وعدد من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا .
ولكن أنور السادات كان يفكر تفكيرا آخر ... حرص على إعلانه أحد من أعوانه إلا قبل قراءته بوقت قصير .
تضمن البيان اقتراحا بمد وقف إطلاق النار لمدة شهر , وأن يتم انسحاب إسرائيلى محدود تفتح خلاله قناة السويس على أن يتم ذلك فى نطاق جدول زمنى لانسحاب كامل من الأرض المحتلة بناء على قرار مجلس الأمن 242 .
ويتطابق الاقتراح مع عرض سبق أن تقدم به موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى فى حياة عبد الناصر , ورفض لأنه يمثل حلا جزئيا لا يعيد السلام إلى المنطقة ولأنه كان يستهدف وقف العمل العسكرى وحرب الاستنزاف والدخول فى اتصالات ومفاوضات مباشرة تستهلك الطاقة وتبدد الأمن دون أن يكون هناك أساس واضح لحل نهائى .
ولا شك أن أنور السادات قد اعتقد أنه إذا اقترح ما سبق لديان بأن اقتراحه وربط ذلك بالمطالبة بجدول زمنى للانسحاب الكامل بناء على قرار مجلس الأمن , فإن ذلك لابد وأن يجد ترحيبا وقبولا من أمريكا وإسرائيل .
ويقول هيكل فى كتابه ( الطريق إلى رمضان ) أن أنور السادات قد حرص على إبلاغ الأمريكيين بأن هذا الاقتراح هو مبادرة خاصة منه بعيدة تماما عن أى تدخل سوفييتى ... واستقبل من أجل ذلك دونالد بيرجس المشرف على رعاية مصالح الأمريكيين فى مصر ... وكان الوسيط فى هذه المقابلة عبد المنعم أمين عضو مجلس القيادة السابق والذى جمع على مائدته لأول مرة السفيرالأمريكى جيفرسون كافرى مع محمد نجيب وجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وزكريا محيي الدين وصلاح سالم وعبد اللطيف البغدادي فى أول لقاء يتم بين مجموعة من قيادة الضباط الأحرار , ورجال السفارة الأمريكية فى مصر .
عاد عبد المنعم أمين يؤدى دور الوسيط مع رئيس الجمهورية بعد 18 عاما من حركة الجيش وبعد أن انتهى دوره القديم وأبعد عن مجلس القيادة ليعمل فترة سفيرا فى بون قبل أن يحال إلى المعاش .
وكان اتجاه أنور السادات عسير الهضم على المجموعة التى تشربت أفكار عبد الناصر واقتنعت بأسلوبه فى حل المشكلة عن طريق القتال بالتعاون الصادق مع السوفييت , ورفض النصيحة الأمريكية التى كانت تطالب بمد وقف إطلاق النار مع محاولة الوصول إلى ( اتفاق مؤقت ) .
كانت هذه المجموعة تدرك أن جمال عبد الناصر قد قبل مبادرة روجرز لا لتكون بداية لوقف إطلاق النار نهائى , وإنما لتكون فرصة لتحريك الصواريخ إلى شاطىء القناة الغربى , استعدادا لعملية العبور وتحرير الأرض , فى توقيت كان محددا له ربيع عام 1971 فى يوم تحدده الطبيعة خلال فترة رياح الخماسين .
ولذا كان غريبا أن يغير أنور السادات هذا الاتجاه بقرار فردى يحرص على عدم مناقشته ويعلنه يوم 4 فبراير قبل موعد انتهاء وقف اطلاق النار بيوم واحد .
ويقول علي صبري فى محضر التحقيق معه أن السادات قد عرض فكرة البيان على مجلس الدفاع الأعلى وإن كان لم يذكر تفاصيلها قائلا إنها ستكسبنا الرأى العام فى أوربا , وأنه – أى علي صبري – قد قال له : ( لا مانع من أن تذكر فى هذه المبادرة موضوع قناة السويس على أن تذكر اننا سنبدأ فى تطهيرها عند إتمام المرحلة الأولى من الانسحاب بدلا من ذكر فتح قناة السويس , ولم يعترض السيد أنور على هذا الرأى آنذاك ولكنى فوجئت فى خطابه – بخلاف ما اتفق عليه فى مجلس الدفاع من إحالة موضوع المبادرة إلى لجنة فرعية .
وصرح علي صبري فى التحقيق إيضا بأنه كان ضد الفكرة و وإنه أبلغ السادات بعد ذلك بأنه غير موافق على طريقة المبادرة وأن السادات قال له ( أنا عارف أنت ومحمود رياض معارضين لكن رأيى أنها مفيدة ) .
ويضيف علي صبري قائلا ( كان رايى أنه لا موجب للمبادرة وكان يجب الاكتفاء بمبادرة يارنج التى طالب فيها بالانسحاب الكامل , ولقد أبديت رأيى بأن المبادرة المصرية لا تحقق أى كسب لأن دول أوروبا يهمها فتح القناة ولا يهمها أرض مصر .
وكما فوجىء علي صبري بالبيان يلقى فى مجلس الشعب , فوجىء به أيضا أعضاء اللجنة التنفيذية العليا ... ولكن الفرصة كانت قد أتيحت لشعرراوى جمعة ومحمود رياض وسامي شرف لقراءة البيان قبل إلقائه بوقت قصير ... وصدمهم ما ورد فيه من هجوم شديد على العرب ومن اقتراح بفتح قناة السويس .
ويقول شعراوي جمعة أنهم أرادوا معه مناقشة صريحة فى صالون انتظار مجلس الأمة حول مضمون البيان قبل إلقائه ... وأنه قبل أن تحذف فقرة الهجوم على العرب , بينما تشبث بفكرة فتح قناة السويس ... ويؤكد علي صبري هذه الواقعة بقوله فى التحقيق أن المناقشة كانت بعيدة عنه , وتدور بين السادات وشعراوى ومحمود رياض وسامي شرف , كما يقول أنع عندما استفسر من شعراوي جمعة عن موضوع المناقشة قال له أنهم عارضوا السادات فى اقتراحه ولكنه على رأيه .
ظهر تماما أن أنور السادات قد تأثر بالآراء التى تدعو إلى التهدئة وعدم العودة إلى حرب الاستنزاف ومحاولة الإقتراب من أمريكا فى وقت كان محمد حسنين هيكل يطلب فيه محاولة تحييدها فى الصراع بين مصر وإسرائيل , وهى دعوة جوبهت بمعرضة شديدة لبعدها عن الواقعية , حيث ترتبط أمريكا وإسرائيل برباط مصالح استراتيجية لا تسمح لها بالوقوف موقف الحياد بين دولة تقدمية متحررة مثل الجمهورية العربية المتحدة والدول العربية المرتبطة بها من جهة ... وبين إسرائيل التى تقوم بدور الشرطى الأمريكى فى المنطقة من جهة أخرى .
كان محمد حسنين هيكل مندفعا فى هذا الاتجاه معتقدا أنه لا يمكن حل مشكلة الشرق الأوسط بعيدا عن الدولتين العظميين , وراغبا فى نفس الوقت بعد التورط فى صراعيهما .
وفى غمرة هذا الاندفاع اقترح على أنور السادات فى أحد الاجتماعات – حسب رواية شعراوي جمعة – بأنه كان فى موقعه لطلب السفر إلى أمريكا ليظهر لهم رغبة القاهرة الصادقة فى إقرار السلام .
وغذا كانت الدعوة إلى تحييد أمريكا تعتبر أمرا مقبولا فى عهد عبد الناصر الذى لا تشوب وطنيته أو قوميته أية شائبة ... والذى لم يتردد فى إجراء اية اتصالات تدفع أخطارا تدبرها الإمبريالية الأمريكية لضرب نظامه مع المحافظة الكاملة على الإستقلال الوطنى .
أقول إذا كانت الدعوة مقبولة فى عهد قائد وطنى له رصيد وتاريخ .. فإن استمرار الدعوة لها بعد موت الزعيم وانتخاب رئيس جديد لم يختبر بعد فى معارك وطنية أو قومية , هو أمر يقترب من المخاطرة أو المغامرة , لأنه قد يجذب القائد الجديد أمام الوعود المعسولة الخادعة إلى الهدوء , وتفريغ شحنة النضال , والتصور بأن السلام وتحرير الأرض يمكن أن يتحقق بعيداعن التضحيات والعمل العسكرى .
ولم يكن جمال عبد الناصر راغبا – دون سبب – فى إشعال روح العداء مع أمريكا , بل أنه كان حريصا على تحسين العلاقات معها وإعطائها فرصة المشاركة فى إقرارسلام عادل ... وكان قبوله لمبادرة روجرز دليلا على ذلك ... ولكنه كان حريصا فى نفس الوقت على عدم الإنزلاق فى تيار السياسة الأمريكية , والتنكر لموقف الصدمة السوفيتية الذى يدعم قوته القتالية , ويتيح له تشكيل قوة ضغط على إسرائيل تعتبر دعامة هامة من دعائم إقامة السلام .
وكذلك لم يكن الإتحاد السوفيتى راغبا فى تعميق الجفاء أو إشعال روح العداء بين مصر وأمريكا فكثيرا ما كان القادة السوفييت ينصحون عبد الناصر بأن يهدىء من عنف حملاته على السياسة الأمريكية لما لها من تأثير على الحكومة الإسرائيلية وفائدة ذلك فى إقرار السلام بالمنطقة .
ولذا يعتبر بيان 4 فبراير بداية ظهور اتجاه جديد يميل نحو تسكين الوضع وتجميده والإعتماد على الحركة السياسية وحدها مع التقرب من أمريكا دون العودة إلى القتال وحرب الاستنزاف ... وكان ذلك تعبيرا عن أن تغييرا جديدا قد بدأ يطرأ على أسلوب السياسة الخارجية .
كان البيان نقطة تحول خطيرة , انفرد السادات فيها بإعلان رأيه دون الاهتمام بآراء الآخرين أو احترام أصول القيادة الجماعية.
واختلفت الآراء فى استقبال البيان ... الأغلبية المشتغلة بالسياسة والممثلة أساسا فى أجهزة الإتحاد الإشتراكى وجدت أنه لا يعبر عن الرغبة الوطنية الجارفة فى تحرير الأرض , وأنه يحرف موقفنا إلى نوع من التهدئة التى تسلب الشعب روحه المعنوية وقوته النضالية .
وعقدت اللجنة المركزية اجتماعا لمناقشة بيان 4 فبراير وكان رأى الأغلبية مختلفا مع روح البيان وأهدافه ... الأمر الذى أشعر السادات بأن قراراته الفردية يمكن أن تصطدم بمعارضة فى الاجتماعات التنظيمية .
وكانت هناك أقلية لا تجد فرصة التعبير , تتطلع إلى وقف القتال والجنوح إلى المحادثات مع مداعبة أمريكا ومحاولة تحسين العلاقات معها ... وقد وجدت فى هذا البيان بعض ما يبعث الأمل فى صدورها .
المعرضة للبيان أو عدم الحماسة له كانت أكثر شمولا ونفاذا , ولكنها لم تصل على حد العلانية أو الظهور فوق صفحات الجرائد ولم يكن منتظرا أن تكون هناك استجابة فورية للمبادرة , ولم يكن متوقعا أن تتغير مواقع القوى السياسة ومعالمها فور صدور البيان .
لم يأخذه البعض على أنه أكثر من محاولة لجس النبض والتعرف على إمكانيات تحريك غير دموى للقضية .
ووصل إلى أنور السادات رسالة من نيكسون بتاريخ 4 مارس 1971 يرفض فيها أسلوب تحيد موعد لإطلاق النار كنوع من الضغط على الولايات المتحدة , ويطلب مزيدا من الوقت حتى تستطيع الحكومة الإسرائيلية أن تقنع شعبها بقبول أى تنازلات ... وأشار نيكسون فى رسالته إلى إقتناعه بأنه لابد من الوصول إلى حل لمشكلة الشرق الأوسط , ولكن الأمر يتطلب فسحة أطول من الوقت .
كان الشىء الإيجابى الوحيد فى رسالة نيكسن إشارته على انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل عدوان يونيو 1967 .
ولذا فقد جمع أنور السادات اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الدفاع الوطنى يوم 6 مارس فى اجتماع مشترك باستراحة القناطر الخيرية لدراسة الموقف بعد ان تبين له أن بيان 4 فبراير الذى انفرد به كان بالونة اختبارغير ناجحة , وردود فعلها لم تكن بادية .. ولم يبق سوى يومين على انقضاء الشهر الذى حدده البيان .
وأسفر هذا الاجتماع عن تغلب فكرة العودة للقتال , وتحدد يوم 26 إبريل ليكون بمثابة الضوء الأخضر الذى يمكن أن تبدأ بعده المعركة فى أية لحظة , حيث تكون القوات المسلحة قد استكملت كل تجهيزاتها على امتداد الجمهورية .
وشكلت مجموعة عمل من عبد المحسن أبو النور وشعراوي جمعة ومحمد فائق والفريق أول محمد فوزي وسامي شرف وحافظ إسماعيل وأحمد كامل كانت تجتمع يوميا فى قصر الطاهرة الذى أعد بالاتصالات السلكية واللاسلكية ليكون مقرا للقيادة العليا للقوات المسلحة .
وظلت هذه المجموعة تجتمع يوميا وتناقش استعدادات العودة للمعركة .
واتخذ أنور السادات موقفا جديدا للأمة فى بيانه يوم 7 مارس تاريخ انتهاء الشهر الذى تحدد بأنه امتداد لوقف اطلاق النار ... لم يثر وضع المبادرة من جديد ... بل قال إن فرصة الشهرالذى مضى وفكرة المبادرة ذاتها ( لم يكن ذلك من وجهة نظرنا حلا للأزمة ولكنه كان تحريكا عمليا لبدء الحل واختبارا للنوايا , ولكن ما قلناه وما توقعناه لم يلق إلا آذانا صماء ) . وكانت إسرائيل قد خاطبت سكرتير الأمم المتحدة قائلة إنها لن تعود إلى خطوط 4 يونيو 1967 . لم يكرر أنور السادات الحديث عن المبادرة ولكنه قال ( أعلن لكم وللعالم قرارانا أننا لا نعتبر أنفسنا مقيدين بوقف إطلاق النار ولكن البيان لم يكن يعنى العودة المباشرة للقتال , فقد جاء فى نفس البيان ما يأتى : ( ليس معنى ذلن أن العمل السياسى سيتوقف وأن المدافع وحدها سوف تنطلق ولكن معناه أننا سوف نراقب وسوف نتابع وسوف نقرر لأنفسنا ما نعتقده أنه واجبنا فى زمانه وفى مكانه ) .
يمكن القول أن بيان 4 فبراير كان بداية ظهور خلافات علنية فى وجهات النظر كما أنه كان بداية وضوح اتجاه جديد يمثله أنور السادات ويختلف فيه عن اتجاه عبد الناصر , فلم يكن معقولا أن يمد جمال عبد الناصر فترة وقف اطلاق النار مرة ومرتين ثم ينهى ذلك ببيان غير محدد , وهو الذى كان يحشد كل قدرات القوات المسلحة للقتال , بل ويندفع فى سبيل ذلك بأكثر مما كانت تسمح به الظروف .
ويمكن القول أيضا بأنه اصبح صعبا تحديد ( طريق عبد الناصر ) فى غيبة الرجل نفسه ... فكل رأى أو اتجاه يمكن أن يدعى أنه يسلك هذا الطريق ... والحقيقة أن جمال طريق عبد الناصرقد انتهى فى لحظة وفاته ... وأن الحركة الساسية بعد موته تمضى فى طريق يختاره الأحياء من خلفائه ... وأن غاية ما يمكن التعليق به هو تطبيق ثورة يوليو وتطويرها تبعا للظروف المتغيرة ... وهنا تصبح المسيرة أقرب ما تكون إلى طريق عبد الناصر .
والظاهرة التى تجعل من هذا البيان نقطة تحول وعلامة من علامات تحرك أنور السادات نحو إثبات وجوده رئيسا للجمهورية ... هى اصراره على إعلان المبادرة رغم معارضة الآخرين لها .
وكان أنور السادات قبل ذلك قد اختار أسلوب الصمت والحذر والبعد عن الأصدقاء القدامى , مثل محمد عبد السلام الزيات سكرتير مجلس الأمة الذى لم يتصل به منذ تولى الرئاسة لمدة أربعة أشهر كاملة ... ثم بدا يعود الإتصال به فى فبراير , وهو توقيت يقترن باعلان البيان أو المبادرة .
أمريكا ... والحكام الجدد :
كانت فرص أمريكا لاستعادة نفوذها فى المنطقة خلال حكم عبد الناصر ورغم هزيمة يونيو 1967 محدودة جدا , فقد كانت خبرته فى التعامل معها قد أثبتت له بالحقائق والمواقف , أنها تريد فى المنطقة دولا تفتح الأبواب لنفوذها وتدور فى فلكها .
ولذا كانت وفاة جمال عبد الناصر فرصة لأمريكا لا تهدر .. وبدأت أمريكا تبحث عن أبواب يمكن أن تتسرب منها إلى مصر لتقضى على الوجود السوفيتى وتستعيد بعض أو كل نفوذها .
فتح البرت ريتشاردسون وزير الصحة الأمريكى ومندوب نيكسون فى جنازة عبد الناصر موضوع الصواريخ ووقف إطلاق النار أثناء اجتماعه بالسادات الذى قال له أنه يرجو أن يغير الأمريكيون نظرتهم إلى مصر , وانه يتطلع إلى أن يجربوا التعاون معه .
ويبدو أن انطباع الوزير الأمريكى كان سلبيا – كما ذكرنا – فقد كتب تقريرا إلى حكومته وذلك بناء على ما ورد فى كتاب السادات ( البحث عن الذات – الفصل الثامن ) قال فيه : ( إن السادات لن يبقى فى الحكم لأكثر من أربعة أو ستة أسابيع ) .
وعندما اختار السادات الدكتور محمود فوزي رئيسا للوزراء أرسل له ريتشارد نيكسون برقية تهنئة , رغم أن العلاقات الديبلوماسية بين الدولتين كانت مقطوعة .
وكان أول حديث صحفى للسادات مع سولز برجر مسئول تحرير نيويورك تايمز فى أوربا ونشر يوم 22 أكتوبر 1970 , وقال فيه أنه لا يوجد تناقض بين مصر وأمريكا سوى إسرائيل ... وقال أيضا أنه فوض يحيى خان رئيس الباكستان فى مخاطبة نيكسون .
وكان يحيى خان فى زيارة للقاهرة قبل الحديث بعدة أيام .. ودخل الأمريكيون من باب جديد أيضا , فقد زار القاهرة فى بداية نوفمبر 1970 كمال أدهم مستشار الملك فيصل وشقيق زوجته والمسئول عن المخابرات السعودية والوثيق الصلة بالمخابرات المركزية الأمريكية .
تحدث كمال أدهم إلى السادات وتربطهما صلة قديمة عن الوجود السوفيتى فى مصر وما يسببه للأمريكيين من هلع , وما يحاوله السعوديون من جذب الاهتمام الأمريكى لحل مشكلة الشرق الأوسط .
تجاوب هذا الحديث مع أفكار السادات وانعكس أثره فى بيان 4 فبراير الذى اقترح انسحابا جزئيا لإسرائيل مقترنا بفتح قناة السويس .
ويروى محمد حسنين هيكل المقرب إلى السادات فى ذلك الوقت فى كتابه ( الطريق إلى رمضان ) أن السادات قد أعطى وعدا لكمال أدهم بإنهاء الوجود السوفيتى إذا نفذ الإسرائيليون المرحلة الأولى من الانسحاب .
وعندما ساله كمال أدهم إذا كان يمكنه تمرير هذه المعلومات إلى الأمريكيين وافق على ذلك ... ويقول هيكل أن السناتور الأمريكى جاكسون قد تعمد تسريب هذه المعلومات للوقيعة بين مصر والاتحاد السوفيتى لصالح إسرائيل .
وطلب الملك حسين الوثيق الصلة بالأمريكيين فى ذلك الوقت , والذى تواترت الأنباء بأنه قد قابل إيجال آلون رئيس الوزراء الإسرائيلى ... طلب زيارة مصر ... ولكن أنور السادات فضل – بنصيحة من هيكل – أن يقوم الفريق محمد أحمد صادق رئيس أركان حرب القوات المسلحة بزيارة عمان للتعرف على حقيقة هذه لزيارة , حتى لا يحضر الملك إلى القاهرة بعد مذابح سبتمبر وهو على اتصال سرى بالإسرائيليين .
عاد الفريق محمد أحمد صادق وعنده انطباع بأن لقاء سريا قد تم بين الملك حسين وايجال الون دون أن يصرح الملك .
وتأجلت الزيارة ... ولكن لتتم بعد ذلك فى اول ديسمبر حيث عقد اجتماع خاص بين السادات والملك حسين لم يتسرب شىء عما دار فيه .
الاتصالات مع الأمريكييم تتعدد وتتم خلال طرق مختلفة ... وبيان 4 فبراير أصبح أساسا ومنطقا لهذه الاتصالات .
وكتب السادات خطابا إلى نيكسون أشارإليه فى بيانه يوم 4 فبراير 1971 عندما قال : ( أقول أمامكم أننى رغبة فى تحريك الأمور وتقديرا للمسئوليات التاريخية للفترة التى نعيشها بعثت برسالة على الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون وتلقيت منه ردا على رسالتى , ويؤسفنى أن أقرر أمام حضراتكم أن الموقف على ما هو عليه من انحياز كامل لإسرائيل ) .
ووصل عمر السقاف وزير الخارجية السعودية إلى مصر يوم 5 مارس حاملا رسالة من الملك فيصل على أنور السادات ... يفسر الموقف السعودى .
كما اجتمع السادات مع عدد ملحوظ من أعضاء الكونجرس , وكان أبرزهم اجتماعه مع مستر دافيد روكلفر رئيس مجلس إدارة بنك تشيرمانهاتن الذى التقى به فى اجتماع طويل يوم 6 مارس ... ونشرت ( الأهرام ) صورة جمعت بين السادات وعقليته وبين دافيد روكلفر وعقليته فى اجتماع بدار الرئيس ... وكانت هذه هى أول مرة تنشر فيها صورة حرم الرئيس فى مناسبة اعتبرت جديدة على الحية السياسية المصرية , حيث كانت العلاقات الديبلوماسية مقطوعة بين الدولتين , وكانت القاعدة والتقاليد تقضى بألا تظهر حرم الرئيس فى صورة ترتبط بنشاط سياسى خارج عن قواعد البروتوكول التى تفرض على زوجة الرئيس مقابلة زوجات الرؤساء .
ولعب رئيس مجلس إدارة شركة ( بيبسى كولا ) دورا نشطا فى اتصالات سرية عقدها مع السادات ودكتور محمود فوزي ومحمد حسنين هيكل ... وحاول أيضا الاتصال بشعرواي جمعة الذى اعتذر عن عدم المقابلة .
تعددت وتضاعفت مقابلات السادات مع الأمريكيين أو مندوبيهم ... بينما كان الآخرون يعتذرون عن مثل هذه المقابلات .
وكان عنوان الأهرام الرئيسى فى صدر صفحتها الأولى يوم 11 مارس 1971 هو ( الدبلوماسية السرية على أشدها ) , وذلك بعد تصريح لنيكسون نشر يوم 9 مارس يقول ( إن أمريكا سوف تستمر فى جهودها للخروج من الموقف الذى وصلت إليه الأزمة ) .
ويقول أحمد كامل مدير المخابرات العامة فى ذلك الوقت أن مسئول المخابرات المركزية فى مصر قد طلب منه رسميا معرفة قرارات الاجتماع المشترك للجنة التنفيذية العليا ومجلس الدفاع الوطنى , وأن أحمد كامل قد أجل موعده معه حتى يستأذن فى ذلك رئيس الجمهورية الذى أذن له ووافق على إبلاغ مسئول المخابرات المركزية بالنتائج التى توصل إليها الاجتماع وقد تثير عملية وجود مسئول معروف للمخابرات الأمريكية فى مصر علامات استفهام ... ولكن أمين هويدي يقول إن هذا المندوب كان موجودا ومعتمدا من عهد جمال عبد الناصر الذى كان حريصا دائما على وجود صلات وقنوات مفتوحة مع كافة القوى السياسية ... وليس هذا التواجد بدعة ولكنه كما يقول مدير المخابرات أمر معروف بين مخابرات الدول .
وحاول وليم روجرز وزير الخارجية الأمريكى وصاحب المبادرة التى عرفت باسمه , أن يدعو الدكتور محمود فوزي أو وزير مصرى مسئول للحضور على واشنطن لعقد محادثات معه , ولكن ذلك كان أمرا صعبا يستحيل الموافقة عليه .
ولذا تطلع روجرز لزيارة مصر منذ شهر يناير كما نشرت مجلة روز اليوسف فى عددها بتاريخ 4 يناير 1971 والذى قالت فيه إن مصر تعلق الزيارة على استئناف مهمة يارنج التى توقفت نتيجة رفض إسرائيل ... وكان روجرز يربط بين استئناف اتصالات يارنج وبين تجديد مصر او تثبيتها لوقف إطلاق النار .
كانت رغبة روجرز فى الاتصال بمسئول مصرى فى واشنطن , أو الحضور إلى مصر , تعبيرا عن السعى للعودة إلى المنطقة بكل وسيلة ممكنة ... وكان حرص أنور السادات على معرفة مدى تغير الموقف الأمريكى يستولى على فكرة أكثر من أى شىء آخر .
ونضجت الظروف لاستقبال روجرز فى مصر بعد أن ساد الجو السياسى نوع من الهدوء تجاه أمريكا رغم مساعداتها التى لم تتوقف لإسرائيل والتى كان آخرها ما أعلنته رسميا فى 21 أكتوبر 1970 من عقد صفقة أسلحة مع إسرائيل بمبلغ 500 مليون دولار تزيد إلى مليار دولار وتسليمها 200 دبابة , 18 طائرة فانتوم ضمن هذه الصفقة .
وتقررت زيارة روجرز للقاهرة يوم 4 مايو 1971 أى بعد يوم 26 إبريل وهو التاريخ الذى اتفق عليه فى الاجتماع المشترك للجنة التنفيذية العليا ومجلس الدفاع الوطنى ليكون بمثابة الضور الأحمر لبدء القتال فى أية لحظة مناسبة , وهو التاريخ الذى تسرب إلى المخاربرات المركزية الأمريكية كما أوضحنا .
وكان طبيعيا أن تتراجع فكرة عودة القتال إلى ما بعد حضور روجرز والتعرف عما إذا كانت هناك اقتراحات أو مشروعات أمريكية جديدة .
ويقول شعراوي جمعة عندما سألته عما إذا كان تحديد موعد الزيارة قد تم صدفة وعن درجة اقترانه بالتاريخ الذى تحدد لامكانية عودة القتال ... فقال إنهم لم يقفوا عند الربط بين الاثنين لأن التاريخ المقترح لم يكن تحديدا لموعد بدء المعركة , وإنما يرتهن الأمر برأى القائد العام للقوات المسلحة ودرجة استعدادها .
وكانت زيارة روجرز فى ذاتها عاملا هاما فى زيادة الفرقة والانقسام بين الرافضين لاتجاه الانزلاق نحو أمريكا , وبين المنادين بتحييدها أو التعاون معها باعتبارها القوة الرئيسية المؤثرة على حكومة إسرائيل , والذين جذبتهم تصريحات روجرز التى أدلى بها يوم 23 إبريل قبل حضوره للقاهرة وقال فيها :
( إن دور الولايات المتحدة لا يقتصر فيما يتعلق بإعادة فتح قناة السويس على نقل الاقتراحات والاقتراحات المضادة بين إسرائيل والجمهورية العربية المتحدة ... إن الولايات المتحدة مستعدة الآن لتلعب دورا فى حفظ السلام فى الشرق الأوسط إذا ما أرادت مصر وغيرها من الدول المعنية مثل هذه المشاركةالأمريكية) .
أمريكا تتقدم إذن بالحديث خطوة كبيرة إلى الأمام تتجاوز مهمة يارنج ومهمة الوسيط ... وفى ههذ الدعوة إغراء لكل العناصر التى تثق فى أمريكا أو تتطلع معها فى أن تتحرك كوسيلة للضغط من أجل تغيير موازين القوى أو تعديلها .
وكان جاكوب ماليك مندوب الاتحاد السوفيتى فى هيئة الأمم المتحدة قد انتقد الدور الأمريكى المقترح قائلا ( إن قيام الولايات المتحدة بدور الوسيط فى المفاوضات الدائرة بشأن اعادة فتح قناة السويس إنما تغتصب لنفسها مهمة عهد بها السكرتير العام للأمم المتحدة للسفير يارنج ) .
ورد عليه تشارلز براى المتحدث الرسمى باسم الخارجية الأمريكية قائلا ( إنا نعتقد أن مبادرتنا تتعارض بأى شكل من الأشكال مع مهمة السفير جونار يارنج الذى يحاط علما بكل ما يجرى ) .
وأخيرا ... كانت زيارة وليم روجرز للقاهرة يوم 1971 التى مفاجأة فى العلاقات المصرية الأمريكية ... فلم يسبق لوزير خارجية أمريكى أن زار مصر بعد جون فوستر دالاس عام 1953 من الدول إلى أحلافها العسكرية , وتتهم فيه الذين يتحدثون عن الحياد الإيجابى بأنهم يسلكون سلوكا غير أخلاقى .
ولكت زيارة روجرز تتم والعلاقات بين الدولتين مقطوعة منذ عدوان يونيو 1967 , ومساندة أمريكا لإسرائيل فى المجال العسكرى يتردد صداها فى كافة أرجاء الوطن العربى ... وأنور السادات شخصيا كان قد جمع موسكو , وعندما قبل عبد الناصر المبادرة آثر السادات أن يعتكف فى قريته .
يبدو أن أنور السادات كان ميالا لعودة العلاقات الديبلوماسية مع أمريكا فهو يقول فى كتابه البحث عن الذات أن بيان 4 فبريار كان فيه وعد بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع أمريكا ... وهو أمر لا يشير إليه البيان الذى لم يتضمن كلمة واحدة عن عودة العلاقات بين الدولتين .
بل إن أنور السادات كثيرا ما هاجم الموقف الأمريكى فى خطبه ... قال فى أسوان مثلا يوم 15 يناير أثناء الاحتفال بانتهاء بناء السد العالى فى حضور بودجورنى رئيس اتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية .
( إن الوعود الأمريكية المكسورة والمنقوضة فى كل ناحية لم يكتف أصحابها بكسرها ونقضها فقط ولكنهم تمادوا فيما هو أكثر من ذلك ووقفوا بالعمل موقفا معاديا لكل ما حاولوا تزيينه بالقول .
سنة 1953 كان وعد منهم بالسلاح ... كسروه ونقضوه ... وأعطوا السلاح لإسرائيل .
سنة 1956 كان وعد بالمساعدة فى بناء السد العالى ..وما حدث تعرفونه جميعا .
سنة 1957 كان منهم وعد ترك التطور السياسى والاجتماعى يأخذ طريقه الحر فى المنطقة بحيث لا يفرض عليها وهو مضاد لإراداتها .
فى نفس السنة كان منهم مؤامرة محاولة غزو سوريا ..
ومع ذلك مالنا .. والتاريخ البعيد .
سنة 1967 كان منهم وعد التعهد بالمحافظة على السلامة الإقليمية لدول المنطقة ... فى نفس الوقت كان عملهم كله تأييدا للعدوان الإسرائيلى ومباركة مخططاته .
سنة 1968 كان وعدهم بالمساعدة فى تنفيذ قرار مجلس الأمن ... وفى نفس السنة أعطوا لإسرائيل طائرات فانتوم .
سنة 1969 كان وعدهم بضرورة حل الأزمة ... وفى نفس السنة كان انحيازهم كاملا لإسرائيل .
سنة 1970 كان وعدهم الذى تمثله مقترحات روجرز ... وفى نفس السنة أعطوا لإسرائيل 500 مليون دولار لكى تزداد صلابة وكبرياء فى رفض كل محاولة للسلام القائم على العدل ... بل فى هذه الأيام من سنة 1971 نسمع رغبتهم فى السلام ... وفى نفس الوقت نجد دعمهم للعدوان ولاستمرار الاحتلال ضد أراضينا والإهدارالكامل لحقق شعب فلسطين .
الأقوال المعلنة والخطب الصاخبة لم تكن تنبىء – فيما يبدو – عن النوايا الخاصة والأعمال المستترة .
حضر روجرز إلى القاهرة ومعه جوزيف سيسكو دون أن يحمل مقترحات جديدة وإنما ركز أحاديثه على الحل الجزئى القديم مع المطالبة بمد وقف إطلاق النار إلى أجل غير مسمى وفتح قناة السويس مع انسحاب إسرائيلى محدود .
استقبل أنور السادات وليم روجرز فى منزله مرتين , وعقد معه اجتماعات خاصة مغلقة إلى جانب معنى من معانى التقدير لدور قام به هيكل فى تقريب العلاقات بين مصر وأمريكا , وهو ما كان مقتنعا به , ومعبرا عنه فى مقالاته .
أصبحت لعبة التقارب إذا تتم – على المكشوف – ولا تقتصر على الاجتماعات والتدبيرات والهمسات السرية .
وكان الموقف المصرى حتى ذلك الوقت كما عبر وزير الخارجية محمود رياض هو انسحاب إسرائيل إلى خط العريش رأس كمرحلة أولى حتى يمكن فتح قناة السويس وعبور القوات المصرية إلى شرق القناة , ثم تكتمل المرحلة الثانية بانسحاب إسرائيل من سيناء وقطاع غزة تحت إشراف قوات الأمم المتحدة التى يمكن لها أن تعسكر فى شرم الشيخ وقطاع غزة ... وبعد أن تنتهى المرحلتان يمكن البحث فى نزع السلاح بهض المناطق , ومد وقف اطلاق النار لمدة 6 شهور .
ولكن روجرز ربط ذلك بضرورة وضع ضمانات لأمن إسرائيل وسلامها , وعندما أشار محمود رياض إلى اقتراحات يارنج الأخيرة الخاصة بردود مكتوبة عن تصور السلام من جانب مصر والانسحاب من جانب إسرائيل بناء على قرار مجلس الأمن رقم 242 وقبول مصر لذلك ورفض إسرائيل واستمرار أمريكا مع ذلك فى إمدادها بالسلاح .
عندما أشار محمود رياض إلى ذلك قال روجرز أن حكومته تطلب السلام ولكنها لا تستطيع الضغط على إسرائيل .
وهنا قال محمود رياض إلى ذلك قال روجرز أن حكومته تطلب السلام ولكنها لا تستطيع الضغط على إسرائيل .
وهنا قال محمود رياض غاضبا ( ألا يوجد فرق بين الولايات المتحدة وقولنا العليا أو الجابون أن إسرائيل ترفض وتتحدى فكيف تفسرون ذلك ؟ ) واقترح محمود رياض لأول مرة أن تفرض أمريكا حظرا على تصدير الأسلحة لإسرائيل فهذا هو الضغط الوحيد المؤثر .
ومحمود رياض وزير الخارجية كان من أكثر الوزراء خبرة بالقضية الوطنية فقد عاصر المشكلة الفلسطينية منذ كان ضابطا فى الجيش حضر توقيع اتفاقية الهدنة فى رودس عام 1949 , وتولى المسئولية السياسية عن قطاع غزة إلى أن ارتبط بالعمل فى وزارة الخارجية سفيرا فى دمشق ثم وزيرا .
ولذا كان على فهم تام بالأسلوب الأمريكى ... وكان له فى ذلك رأى واضح معلن ... وهو أن حكومة الولايات المتحدة لم تغير سياستها فى مساندة إسرائيل مطلقا , وأنها لم تظهر أية نوايا طيبة تجاه الحق العربى .
واقترح روجرز على أنور السادات وصول خبراء أمريكيين إلى مصر لدراسة خطة قواتنا المسلحة فى سيناء تدليلا على حسن النية والرغبة فى تنفيذ المبادرة ... وذلك فى وقت كانت العلاقات الدبلوماسية ما زالت مقطوعة , والامدادات العسكرية تتدفق على إسرائيل .
وقد اعترض محمود رياض على ذلك اعتراضا حادا وصريحا عندما عرض أنور السادا ت فكرة هذا الاقتراح , وأيده فى اعتراضه الفريق أول محمد فوزي .
سافر روجرز عائدا إلى واشنطن , وعاد سيسكو للقاهرة بعد زيارة إسرائيل حاملا معه مقترحات إسرائيلية تقضى بالموافقة على الانسحاب لمسافة من 5 إلى 10 كيلو شرق القناة مع المحافظة على خط بارليف بكل تحصيناته والاشراف عليه بقوات مدنية ترعاها الأمم المتحدة ... تماما كما كانت اتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا عام 1954 تنص على انسحاب القوات البريطانية من قاعدة قناة السويس والاشراف عليها بخبراء بريطانيين فى ملابس مدنية .
وكانت إسرائيل قد دعمت تحصينات خط بارليف بعد وقف إطلاق النار كما دفعت مصر صواريخها إلى الشاطىء الغربى للقناة .
كان واضحا أن زيارة روجرز لم تحمل جديدا لمصر , ولم تسهم فى دفع السلام خطوة واحدة إلى الأمام ... وإنما استهدفت أن تقر وضعا جديدا فى المنطقة تؤدى به أمريكا دورا مؤثرا .
انتقلت الصلة بين مصر وأمريكا بعد هذه الزيارة رغم وضوح نتائجها الفورية إلى مرحلة جديدة لأول مرة منذ عدوان 1967 ... وأصبحت عوامل الإغراء بالتدخل الأمريكى من أجل السلام قوة جذب فعالة للعناصر التى ضاقت بعملية التحول الاجتماعى التى تبنتها ثورة يوليو , والتى نفذ صبرها من ضغط القتال , واعتقدت أن قوة أمريكا يمنك أن تؤثر على مصر مزيدا من الدمار والتضحيات .
ووصلت نتائج اللقاء المباشر بعد الاتصالات السرية إلى الحد الذى أبلغ فيه السادات سيسكو – كما ثبت من التسجيلات التى قامت بها المخابرات المصرية فى السفارة الأمريكية خلال حديث بين سيسكو وبيرجس – بأنه سوف يغير كمرحلة أولى محمود رياض وزير الخارجية الذى كان يأخذ موقفا صلبا ضد السياسة الأمريكية , والفريق أول محمد فوزي الذى كان يلح عليه دائما فى ضرورة العودة إلى القتال , وهو الأمر الذى يتعارض مع الرغبة فى الانجراف إلى تسوية سلمية بجهود أمريكية .
وأظهرت التسجيلات أيضا أنه عندما علم أن سيسكو فى طريقه إلى القدس حمله تحياته إلى موشى ديان وإبلاغه تطلع السادات لأن يكون رئيسا للوزراء حتى يمكن تحقيق السلام ... وموشى ديان هو صاحب اقتراح الانسحاب المحدود كأساس لحل جزئى فى عهد عبد الناصر وهو ما تبناه السادات تقريبا كما سبق أن أشرنا فى بيان 4 فبراير .
انتهت زيارة روجرز التى اعتبرت قمة فى طريق الصعود إلى تسوية للعلاقات بين مصر وأمريكا .
انتهت نتائج عملية معلنة , ولكنها أذابت حساسيات كثيرة فى العلاقات بين مصر وأمريكا وبين بعض الحكام الجدد ...فلم تكن لروجرز أو سيكسو جلسات خاصة مغلقة إلا مع السادات ومحمود رياض وهيكل ... ولم يحدث أى لقاء خاص بينه وبين أعضاء اللجنة التنفيذية العليا أو شعراوي جمعة وسامي شرف ... أما علي صبري فكان قد صدر قرار بإقالته يوم 2 مايو قبل الزيارة بيومين كما سيأتى تفصيلا فيما بعد .
ويمكن القول بأن موقف أمريكا قد تحول من الدفاع السلبى إلى الهجوم الإيجابى بعد مرحلة استطلاع كاملة خلال الشهور السابقة .
السوفييت ... والحكام الجدد :
مات جمال عبد الناصر بعد أن أقام علاقة فريدة بين دولة من دول التحرير وبين الدول الإشتراكية وفى طليعتها الاتحاد السوفييتى .
وصلت الأمور خلال تعاون مشترك إلى حد إقامة صناعة متميزة لم تتوفر لدولة من دول العالم الثالث , ودخول مصر عصر الكهرباء ببناء السد العالى , وإمداد القوات المسلحة بالأسلحة السوفيتية المتطورة , وتعويض الخسائر الفادحة التى منيت بها بعد عدوان 1967 دون مقابل ثم المساهمة بالخبرة والتدريب فى إعادة بناء القوات المسلحة حتى وصلت إلى حد مصادمة العدو ومجابهته فى حرب الاستنزاف .
ولم يقف التعاون عند هذه الحدود , بل إن العلاقة قد وصلت إلى ما لم تصله بين دولة اشتراكية ودولة من دول التحرير الوطنى قبل ذلك , فقد تحركت قوات سوفيتية مسلحة للدفاع عن أعماق مصر بناء على طلب ملح من جمال عبد الناصر بعد أن ازدادت شراسة الهجمات الإسرائيلية على الجبهة الداخلية , الأمر الذى كاد يعرض النظام لخطر الانهيار أكثر مما حدث بعد الهزيمة العسكرية المفاجئة فى يونيو ... وتوقفت الغارات الإسرائيلية على داخل مصر اعتبارا من 18 إبريل 1970 عقب تصريح دايان الذى قال فيه إن إسرائيل لن تحارب السوفييت .
وصلت الأمور إلى هذا الحد من الثقة والتضامن , وتفرعت القوات المسلحة المصرية لإعداد الخطة الدفاعية 200 , والتى كان قبول روجرز عاملا لتأكيد نجاحها وذلك بدفع الصواريخ المصرية خلال فترة وقف اطلاق النار إلى شاطىء القناة لحماية القوات المهاجمة عند عبورها قناة السويس .
وشاء القدر أن يختطف عبد الناصر فى مرحلة وقف إطلاق النار الأولى وقوات مصر المسلحة على أهبة الاستعداد لعودة القتال .
ولم يكن فى مصر من ينكر الدور السوفيتى فى دعم الدفاع المصرى وفى مساندة الهجوم المنتظر , والذى كان مفروضا أن ينفذ بقوات مصرية بعد أن اتفق القادة السوفييت مع عبد الناصر على أن ينسحب الخبراء والمستشارون السوفييت من أرض المعركة قبل بدء القتال والعبور حتى لا يتصاعد الموقف ويصل إلى حد المجابهة بين جنود سوفييت وأمريكيين تجلبهم إسرائيل أيضا للدفاع عنها .
كان الجميع يطلقون على السوفييت لقب ( الأصدقاء ) ... وكانت العلاقات بينهم وبين القيادات السياسية والعسكرية العليا متميزة بالصدق والوفاء .
ولكن اختفاء جمال عبد الناصر منشىء هذه العلاقات ومؤسسها والذى حصل منهم على أكبر قدر من العون دون أى تدخل من جانبهم , والذى عبر عنه مرة بقوله : كان اختفاء جمال عبد الناصر صدمة شديدة لهم وباعثا على الحذر من احتمال تأثر العلاقات المصرية السوفيتية , وذلك لعدم وجود حزب مختبر ومكتمل التنظيم يتبنى استراتيجية واضحة للسياسة المصرية .
لم يكن الإتحاد الإشتراكى بجهازه الطبيعى تنظيما يمكن الاعتماد عليه فإنه رغم إخلاص وصدق نوايا بعض قياداته إلا أنه كان بعيدا عن التنظيم الحزبى النضالى والعلمى , فهو لم يكن يعبر عن مصالح الطبقة العاملة , ولم يكن قد وصل إلى بلورة مفهوم ( تحالف قوى الشعب العاملة ) , كما أن مبادىء الديمقراطية المركزية لم تكن قد تأكدت بعد فى صفوفه .
ويجدر بنا القول بأن العلاقات بين الدولتين على الصعيدين الرسمى والحكومى كانت قد وصلت إلى مستوى متميز بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة ولكنها على الصعيد الشعبى الجماهيرى كانت تعانى نواقص كثيرة .
التحذير من أخطار الشيوعية كانت هى الرسالة والوصية الأخيرة التى يحملها من مصر المبعوثون إلى الاتحاد السوفيتى ... ومراقبة الخبراء والمستشارين السوفييت فى المصانع والسد العالى والقوات المسلحة كانت قاعدة دفعت بهم إلى التقوقع والانعزال عن المجتمع خوفا من أن يتهموا بأنهم يروجون دعاية للشيوعية , وهو ما لم يظهر حقيقة الطبيعة الانسانية لهؤلاء القادمين من الشمال .
وفى القوات المسلحة لم يفسر الفرق بين وجود ضباط أجانب فرضوا أنفسهم على الجيش المصرى بقوة الاحتلال كما كان أمر البعثة العسكرية البريطانية قبل الثورة ... وبين ضباط أصدقاء طلبتهم مصر بإرادتها الحرة لإرشاد وتدريب الجنود والضباط على الأسلحة والتكنولوجيا المتطورة .
لم تبذل القيادة السياسية جهدا ملحوظا – رغم علاقتها الجيدة مع المسئولين فى الاتحاد السوفيتى – لدعم العلاقة بين الشعبين ... حذرا من اندفاع الجماهير إلى خطوط لا يريد النظام لها أن تتعداها .
ولذا شعر السوفييت منذ اللحظة الأولى لغياب عبد الناصر نوعا من القلق عبر عنه كوسيجين رئيس الوزراء السوفييتى أثناء لقائه بالمسئولين الجدد أيام الجنازة عندما أوضح لهم أن تماسكهم وترابطهم وتأكيد دور الإتحاد الإشتراكى هو الكفيل الوحيد بعدم خلق فراغ بعد غياب عبد الناصر لابد وأن تحاول القوى المضادة والرجعية الوثوب إليه .
وقال أيضا أن العلاقات بين الدولتين يجب أن تقوم على الصدق والمصارحة لأن حبل الكذب قصير , والموقف فى جملته خطير .
ولكن القضية فى عمومها كانت قضية داخلية يصعب على السوفييت التدخل فيها خاصة وأن علاقتهم كانت طيبة بمعظم الحكام الجدد .
كان أنور السادات يلتقى أسبوعيا بالسفير السوفيتى الراحل فينوجرادوف بتعليمات من جمال عبد الناصر لتبادل المعلومات وتنسيق الأفكار ... وكانت أسرة أنور السادات تمضى جانبا من أجازتهم السنوية فى الاتحاد السوفييتى .. وأذكر أنه كان أول من تحدث علنا عن الجسر الجوى السوفييتى الذى قام بتعويض خسائر قواتنا المسلحة هزيمة 1967 فى حديثه مع طلبة الجامعة فى مجلس الأمة أثناء مظاهرات فبراير 1968 وقال لهم أن طائرة سوفيتية محملة بالأسلحة كانت تهبط كل دقيقتين على مطارات مصر ..
وكان علي صبري على صلة طيبة بهم أيضا , فقد حضر معظم المفاوضات مع جمال عبد الناصر , وقام بزيارة موسكو ومقابلة بريجنيف على رأسي وفد مصرى فى يوليو 1969 قبل خلاف عبد الناصر معه والذى ظهر فى حادث الحقائب والجمرك المعروف , ثم زار موسكو مع عبد الناصر فى رحلته الأخيرة 29 يونيو 1970 بعد أن كان قد عين فريقا فخريا فى القوات الجوية .
وكذلك كانت علاقة شعراوي جمعة طيبة أيضا بالقادة السوفييت و فقد قابل بريجينيف أثناء زيارته للاتحاد السوفيتى فى يوليو 1968 , وكانت تربطه علاقات وثيقة بقيادة المانيا الشرقية .
وينطبق هذا القول على الآخرين جميعا ... فلم يشتهر عن أحد منهم اتخاذ موقف العداء أوالجمود مع السوفييت .
ولذا اتخذ السوفييت منذ البداية موقف الترقب والانتظار لما تأتى به الأحداث .. وإن كاوا وبلا شك , قد عرفوا أن هناك تناقضات تتصارع فى القمة بين الحكام الجدد .
وسرعان ما استشعروا نوعا من القلق – الصامت – عندما وصلتهم معلومات عن مضمون مقابلة أنور السادات لكمال ادهم التى سربها السناتور الأمريكى جاكسون وفيها وعد بإنهاء الوجود السوفيتى إذا حقق الإسرائيليون مرحلة الانسحاب .
وأراد السوفييت أن يكذبوا ظنونهم بمزيد من التحرك فقام وفد سوفيتى برئاسة بونامارييف العضو المرشح للمكتب السياسى بزيارة مصر على رأس وفد يوم 10 ديسمبر استمرت عدة أيام تمهيدا لزيارة بودجورنى رئيس اتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية التى بدأت يوم 12 يناير أثناء الاحتفال بانتهاء بناء السد العالى .
ٍاستقبل بورجورنى استقبالا حافلا , وحرص على زيارة أسرة عبد الناصر وقبره وزار بعد زيارة السد العالى الترسانة البحرية التى أقيمت بمساعدة السوفييت فى الإسكندرية ... وكانت خطب أنور السادات خلال الزيارة شديدة الوضوح فى الإشادة بموقف السوفييت ... وكانت هذه هى النغمة التى يتحدث بها , فقد قال – على سبيل المثال – فى المؤتمر الشعبى بطنطا يوم 4 يناير : ( فى القرية عندنا لما حد يموت كل واحد بيجيب صينية لأهل الميت , والاتحاد السوفييتى فى ميتم جمال عبد الناصر جاب الصينية وجه ... كانت هناك تعاقدات لن تنفذ إلا فى عام 1971 جابها على الصينية عام 1970 علشان يقول أنا وياكم ) .
وكرر هذا المعنى فى خطبته يوم عيد العمال أول مايو 1971 عندما قال : ( جه الاتحاد السوفييتى وجاب صينيته معاه فى ميتم جمال ... صفقات كانت مفروض متأخرة جابها وجه ... ده عسكريا وسياسيا واقتصاديا ويكفى أذكر لكم شىء واحد فى الشهر الماضى ... الدكتور عزيز صدقى وقع اتفاقية ب 460 مليون دولار مع الاتحاد السوفييتى تنفذ على خمس سنوات ) . التصريحات المعلنة والخطب المذاعة لا تنبىء عن جديد فى العلاقات السوفيتية ولكن إعلان أنور السادات لمبادرة 4 فبراير دون تشاور مع السوفييت ... يختلف عن أسلوب عبد الناصر الذى ناقش مع القادة السوفييت قبوله لمبادرة روجرز قبل إعلان ذلك . ٍ
السوفييت يشعرون أنهم قد بدأوا يتخذون موقف الدفاع فى وقت كان الأمريكيون قد بدأوا فيه الهجوم .
ولكن تحول الأمور لم يكن حتى هذه اللحظة ممكنا فى يسر ... فالأمور كانت أعقد من أن تتحول مصر من جانب إلى جانب كما نطفىء النور بزر الكهرباء .
عقب بيان 4 فبراير وعدم حدوث صدى إيجابى له , أرسل السادات شعراوي جمعة فى مهمة سرية إلى موسكو للمطالبة بالطائرات الصاروخية ( تى يو 16 ) بعيدة المدى .
وكان الاتفاق قد تم بين عبد الناصر والمسئولين من القادة السوفييت على أن يكون لهذه الطائرات الصاروخية البعيدة المدى دور فى تنفيذ الخطة الدفاعية 200 دون أن تتواجد فى المطارات المصرية حيث قال بريجنيف أن وجود مثل هذا اللواء الجوى الصاروخى فى مصر – عشر طائرات – سوف يدفع الولايات المتحدة إلى إمداد إسرائيل بصواريخ لانسى أرض أرض بعيدة المدى , واقتنع جمال عبد الناصر بذلك .
واختير مطار وادى سيدنا فى السودان حيث يبعد عن مدى طائرات الفانتوم الإسرائيلية وكذلك مطار أسوان الذى اعتبر قاعدة امداد لاستقبال هذا اللواء الصاروخى عند بدء العمليات .
يقول الفريق أول محمد فوزي أن مليونا ونصف مليون من الجنيهات قد صرف على إعداد هذين المطارين بإنشاء تجهيزات أرضية وفنية ومخابىء تحت الأرض تتحرك بينها السكة الحديد ... وكان هذا ضمن الاتفاق الذى وافق عليه القاهرة وموسكو بناء على اقتراح وزارة الدفاع السوفيتية والذى يقضى بتجهيز كافة المعدات الإدارية والفنية وإعداد مسرح العمليات لتكون جاهزة لاستقبال اللواء الصاروخى عندوصوله من موسكو فى زمن حددته الخطة بست ساعات فقط .
كانت المطالبة بإحضار طائرات ( تى يو 16 ) إلى مصر مخالفا للخطة الموضوعة فى عهد عبد الناصر , وإثارة لقضية لم تعد خلافية بعد أن تم الاتفاق على أدق تفاصيلها مع جمال عبد الناصر .
استقبل شعراوي جمعة فى زيارته السرية كلا من بريجينيف وجريتشكو وبونامارييف ... ولكن القادة السوفييت لم يوافقوا على إرسال اللواء الصاروخى لمصر حتى لا يكون ذلك دافعا للتعجيل فى استخدامه قبل الاستعداد للمعركة , أو لإمداد أمريكا لإسرائيل بصواريخ لانسى بعيدة المدى .
وبعد عودة شعراوى قرر السادات السفر فى زيارة سرية إلى موسكو أيضا لإثارة الموضوع مرة أخرى , وتوجه إلى هناك يوم أول مارس 1971 على رأس وفد يضم شعراوي جمعة والفريق أول محمد فوزي والسفير السوفييتى الجديد فلاديمير فينوجرادوف دون أن يصحب معه علي صبري الفريق الفخرى بالقوات الجوية .
وخلال هذا اللقاء وتحت إلحاح أنور السادات وافق بريجنيف على إعطاء مصر هذه الطائرات الصاروخية بعيدة المدى , على أن تصدر الأوامر لها بالتحرك والضرب من القادة السوفييت بعد التشاور مع المصريين ... ولكن أنور السادات رفض ذلك وطلب أن تكون تحت القيادة المصرية المباشرة معتبرا أن ذلك انتقاصا من السيادة المصرية , وهو ما لا ينسجم مع الحقيقة القائمة من أن القوات السوفيتية كانت تدافع فعلا منذ 18 إبريل عن الأرض المصرية دون إعتداء على السيادة ... بل كان ذلك بتفاهم كامل مع القيادة المصرية فى عهد عبد الناصر .
ويقول هيكل فى كتابه ( الطريق إلى رمضان ) أن السادات قد أبلغه أنه قام بمشهد تمثيلى غاضب , ولكنه حصل فى النهاية على ما يريد .
وصرح السادات فى بيانه للأمة يوم 7 مارس بعد عودته بقوله بعد أن أعلن عن رحلته السرية ( عدت إلى القاهرة راضيا تماما عما تم إنجازه واثقا من أن الاتحاد السوفيتى يؤيد حقنا العادل تأييدا مطلقا وإيجابيا ) .
قد شعر شعراوي جمعة بنوع من العتاب لأنهم لم يوافقوا له خلال رحلته على إرسال الطائرات , الأمر الذى كان يمكن أن يتحاشى الصدام المفتعل الذى حدث بين أنور السادات والقادة السوفييت ... ولكن هذا العتاب مردود لأن الاتفاق فى مثل هذه الأمور شديدة الحساسية لا يكون إلا بين رؤساء الدول ... كما أنه كان واضحا أن أنور السادات قد افتعل الخلاف حول جهة إصدار الأوامر بعد قبول القادة السوفييت إرسالها لمصر , وهو ما يتجاوز الحدود المتفق عليها سابقا والتى تحفظ للاتحاد السوفيتى أمنه القومى , ويؤكد عدم الاستهانة باستخدام هذا السلاح الخطير ... دون أن يكون فى ذلك مساس بسيادة مصر مطلقا .
وما كان الفريق أول محمد فوزي ليتحمل تبعة المسئولية عن المعركة لو أنه استشعر أن تواجد هذا اللواء الصاروخى بعيدا عن المطارات المصرية يمكن أن يعطل الخطة أو يضعف فعاليتها .
ولذا فإنه رغم موافقة القادة السوفييت على تواجد اللواء الصاروخى فى مطارى وادى سيدنا وأسوان إلا أنهم اعتبروا السادات على رأيه هو تجاوز للمدى الذى يحتمله أمنهم القومى وتفرضه الثقة المتبادلة .
ويقول الفريق أول محمد فوزي أنهم اعتبروا هذه الزيارة ( زيارة فقدان الثقة ) ... فقد شرخت الثقة فعلا .. ويؤكد ذلك ما ذكر من أن الموقف كان مفتعلا دون تقدير – أو بتقدير مسبق – لما يمكن أن يبذره من خلاف أو فقدان ثقة .
وموضوع الإمداد بالسلاح كان دائما من أهم المواضيع الحساسة التى لم تحسم بصراحة ولم يتوصل الطرفان فيها إلى نظرة مشتركة .
من الجانب المصرى .. كان القادة يطلبون السلاح وعيونهم على الإمدادات الأمريكية المتطورة التى تتدفق على إسرائيل ... وهدفهم هو القتال فى أقرب فرصة من أجل تحرير الأرض .
ومن الجانب السوفيتى ... كان الموقف يتلخص فى إمداد القوات المسلحة المصرية باحتياجاتها الضرورية للدفاع عن مصر بتحرير أرضها المحتلة , دون التورط فى قتال مبكر يتيح لإسرائيل فرصى رد الفعل المتصاعد العنيف الذى قد يربك الخطة الأساسية للتحرير , أو إتاحة المبرر لها للحصول على أسلحة أمريكية أكثر تطورا ... الأمر الذى يصعد ويلهب سباق التسلح فى المنطقة ويعرضها لأخطار أكثر جسامة وبشاعة .
ورغبة القادة المصريين مشروعة ... ورؤية القادة السوفييت سليمة ... ولكن التزاوج بينهما لم يتحقق تماما ... لأن العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتى لم تكن أبدا مثل علاقة إسرائيل بأمريكا .
النظم الاجتماعية مختلفة بين مصر والاتحاد السوفيتى ... بل إن الحساسية من الشيوعية ظلت قضية غير محسومة ... وقوانين العقوبات فى العهد الملكى ظلت سارية رغم تبنى الدولة للاشتراكية بمفهومها العلمى كما هو واضح فى مواثيق ثورة يوليو وبياناتها .
هذا بينما إسرائيل تؤدى دورا واضحا نشطا فى خدمة الإمبريالية الأمريكية حيث يتوفر انسجام كامل فى النظم الاجتماعية وتطابق واضح فى المصالح المشتركة .
ولذا ظلت العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتى رغم تطورها مشوبة بالحذر ... وأصبح صوت الجنود فعلا ... ولم تبذل القيادات العسكرية جهدا فى سبيل تعميق النظرة السياسية للضباط والجنود وتوضيح أن كل من يتعاون معنا فى معركة التحرير , وكل من يقدم لنا السلاح هو صديق بالفعل وليس بالكلام وحده .
وكما خشيت الثورة على مدار سنواتها من التفاعل الحى مع الطبقات الكادحة وإطلاق طاقاتها والعمل معها وبها – وليس لها – فإن الموقف فى القوات المسلحة كان أكثر تعقيدا .
كانت هناك – ولا شك – أسلحة سوفيتية متطورة يمكن أن تساعد على دخول المعركة بصورة أفضل ... ولكن الأمن القومى السوفييتى كان يفرض أيضا – وبلا شك – حسابات أخرى على أسلوب الإمداد بالسلاح , وخاصة للدول غير الإشتراكية أوغير المرتبطة بحلف وارسو .
وكانت مأساة هروب الطيار العراقى منير روفا إلى إسرائيل بطائرة ميج 21 ما زالت عالقة فى الأذهان وتفرض نفسها – دون أن تذكر – على كل حوار ... فإن وصول أسرار هذه الطائرة إلى الولايات المتحدة عن طريق إسرائيل قد فرض على السوفييت متاعب شديدة فى فيتنام لمدة سنتين بعد أن عرف الأمريكيون الخواص الدقيقة لهذه الطائرة .
ولذا أصبح قلق السوفييت وحذرهم مشروعا من ناحية مدى الإمداد بالسلاح وخاصة فى ظروف يشعرون فيها أن توثيق العلاقات على أساس فكرى وطبيعى هو أمر غير متوفر .
كما أن أسلحة الردع أو الضرب فى الأعماق كانت تمثل خطرا خاصا لأنها تتجاوز حدود الدفاع عن مصر , وهو الحد الذى التزم به الاتحاد السوفييتى وقناعته ببقاء إسرائيل دولة فى المنطقة ... كما أنها اسلحة من النوع الذى لا يجوز التفريط فى وضعه ضمن إطار خطة محكمة ومسيطر عليها من القيادات السوفيتية المسئولة حتى لا يتعرض استخدامه لأوامر انفعالية قد تهدد الانفراج الدولى والسلام العالمى .
وكانت القضية محسومة وواضحة فى عهد جمال عبد الناصر ... ووصل الطرفان فيها إلى موقف موحد بعد مواجهة طويلة ومناقشات صريحة ... ولكن مسألة المطالبة بأسلحة جديدة متطورة أصبحت بعد وفاته تشكل صداعا للقادة السوفييت , كما أنها أصبحت من جانب أنور السادات ,مبررا أيضا لاتخاذ مواقف جديدة .
وضخمت أحيانا بعض الخلا فات الفردية بين الضباط المصريين وبعض المستشارين والخبراء , دون أن تحسم ويتم تصفيتها بإجراءات سياسية ومعنوية وليست إدارية .
ولم تصل قواتنا المسلحة إلى حد التقدير الحقيقى لكل من يقدم لها قطعة سلاح ... ولم تعمق فى فى النفوس مشاعر التقدير لمصرع 30 خبيرا سوفيتيا اختلط دماؤهم بدماء المصريين أثناء حرب الاستنزاف ... ولم تفسر للجميع أسباب سقوط أربع طائرات يقودها سوفييت أثناء الاشتباكات نتيجة توجيه سىء من غرفة الكنترول فى بنى سويف كما قال لى الفريق أول محمد فوزي ... وليس نتيجة لسوء تصميم الطائرات أو عدم كفاية الطيارين السوفييت كما حاول إشاعة ذلك بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة .
وأثناء اجتماع عقده أنور السادات فى مبنى وزارة الحربية بعد عودته من موسكو يوم 25 مارس وحضره الفريق أول محمد فوزي , والجنرال فاسيلى أوكينوف مستشاره والذى كان عضوا احتياطيا للجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفييتى ثم أصبح عضوا بها ... وذلك عقب مقال نشره محمد حسنين هيكل فى الأهرام يوم 12 مارس تحت عنوان ( تحية للرجال ) وأثار عاصفة من النقد سنناقشها فيما بعد .
أثناء هذا الاجتماع أثار بعض القادة تساؤلات عن التسليح وقدرة الأسلحة السوفيتية وانبرى الجنرال أوكينوف للاجابة ... ورغم ن الاجتماع قد مضى فى هدوء إلا أن شيئا ما قد رسب فى نفوس السوفييت لأن أنور السادات لم يوضح الأمور كما كان يفعل عبد الناصر . وفى أوائل شهر إبريل طلب سامي شرف السفر إلى موسكو لحضور مؤتمر الحزب الشيوعى السوفييتى ضمن وفد رأسه عبد المحسن أبو النور , وهناك طلب مقابلة خاصة مع بريجنيف بدعوى أنه كان مسئولا فى عهد عبد الناصر عن تقوية علاقات الصداقة بين الدولتين .
وكان أنور السادات قد صرح له بمحاولة تهدئة الجو وتصفيته بينه وبين القادة السوفييت , ولذا تحدث معهم عن الرغبة فى عقد معاهدة صداقة , وكذلك مناقشة موضوع إقامة قاعدة بحرية فى مرسى مطروح , وهو ما كان السادات قد فوضه للتحدث فيه .
واستقر الرأى على أن يحضر فى المستقبل مسئول سوفيتى كبير إلى مصر لمناقشة الموضوعين .
كان أنور السادات حريصا على عدم خلق جفوة بينه وبين السوفييت تضاعف من تنافر الثقة عقب زيارة مارس السرية ... وحاول إشعارهم بسلامة علاقته بهم ... ولذلك فإنه عندما قرر عزل علي صبري بعد اجتماع اللجنة التنفيذية العليا يوم 21 إبريل 1971 – كما سيأتى تفصيلا فيما بعد – استدعى السفير السوفييتى وأبلغه عن نيته منبها إلى أن هذا الإجراء لا يمثل أى هجوم على الاتحاد السوفيتى كما قد تحاول بعض الجهات المعادية أن تثيره .
تلقى السفير السوفيتى الخبر فى دهشة لأنه تساءل عن السر فى هذا الإبلاغ وفيما يمكن أن يتبع ذلك من أحداث , لأنه اكتشف أن التناقضات بين الحكام الجدد قد وصلت إلى نقطة الانفجار . ولكن السفير السوفيتى احتفظ بالأمر سرا فأبلغه إلى القادة السوفييت فى موسكو دوا أن يسرب الأمر إلى علي صبري أو أى فرد آخر ... وهو ما يؤكد أن علي صبري لم يكن رجل موسكو كما حاولت الدعاية المضادة دائما أن تصفه .
ويقول علي صبري فى التحقيق معه أن عبد المحسن أبو النور وشعراوي جمعةقد أبلغاه أن أنور السادات قد استدعى السفير السوفيتى وطلب منه ابلاغ موسكو أنه سيعزله ... ولكنه – أى علي صبري – لم يعط لذلك اهتماما كبيرا لأنه عندما سأل عن مصدر المعلومات قال له شعراوى أنه سمع من سامي شرف , وأنه لما اتصل بسامى قال إن مصدر المعلومات هو محمد حسنين هيكل .
واعتبر علي صبري أن الخبر غير صحيح من أساسه ( لأنه من غير المعقول أن يقول هيكل لسامي شرف كلاما فى موضوع خاص بى لكى يبلغنى ) .
وكان شعراوى قد وعد بأن يستبين صحة الخبر من السفير السوفيتى , ويقول علي صبري أن شعراوى قد أبلغه أن السفير قد أكد له أن الموضوع غير صحيح ... وهو ما ذكره لى شعراوى أيضا .
الأمر الذى يثبت بعد ذلك هو صحة الخبر كما ذكر أنور السادات فى كتابه البحث عن الذات من أنه قد أبلغ السفير فعلا يوم 22 إبريل قائلا له أنه يبلغه حتى لا يتأثرالاتحاد السوفيتى بما قد تذيعه إذاعات الغرب من أن هذا الاجراء قد يكون موجها للاتحاد السوفيتى وطلب من السفير – حسب قوله – أن يبلغ القادة السوفييت أنه يسره توثيق العلاقات معهم .
وحرص السفير على الاحتفاظ بالخبر كسر من الأسرار التى لا يجوز إذاعتها حتى لا يتورط ويصبح طرفا فى نزاعات داخلية .
ويروى هيكل أن سامي شرف بعد عودته من موسكو وعقب الاجتماع العاصف للجنة التنفيذية العليا يوم 21 إبريل طلب من السفير السوفيتى أيضا عدم إقامة علاقات مباشرة مع أنور السادات ... ولم يتورط السفير فى إعطاء أية وعود كما لم يتورط فى ترديد هذا الحديث .
هذا يثبت ... أن الحكام الجدد كانوا عند السوفييت سواء ... يسمع منهم ولا يتورط فى مشاكلهم الداخلية ... وأن علي صبري لم يكن ( رجل السوفييت ) كما لاحقته الدعايات .
وإلا كان السفير قد بادر إلى إبلاغه حتى يتدبر الأمر ويتفاداه ... وأن هذه الأحداث مضافة إلى اتصالات السادات السرية مع الأمريكيين التى كانت تتسرب أخبارها إليهم لم تؤثر فى موقفهم من ناحية تأييد مصر فى معركتها العادلة لتحرير الأرض ... مكتفين بما كان يرد فى التصريحات والخطب الرسمية .
وهكذا مضت الأمور بين الدولتين كل شىء هادىء على السطح .. وفى الجوف تبعث الخلافات بين ورثة عبد الناصر , والاتصالات مع الأمريكيين دون التشاور معهم , ... تبعث الضيق والقلق ... مع الترقب والحذر ... والانتظار .
أضواء على الورثة :
لم يكن ما حاولت الصفحات السابقة أن تكشف عنه الستار إلا بوادر الخلاف بين الورثة ولم يكن حدوث الخلافات مفاجأة أو أمرا غير منتظر .
كان هذا هو المصير المنتظر المتوقع بعد رحيل جمال عبد الناصر الذى عاش فترة حكمه يقبض كافة الخيوط فى يديه ... وكان فى ذلك مصدر قوته فى حياته ومكمن الضعف بعد مماته .
عندما تهاوت القبضة بعد أن توقف القلب ... انفرطت الخيوط واستبدت الحيرة بهؤلاء الذين عاشوا ينفذون كلمته ويحققون إرادته ... خصوصا وأن نظرتهم جميعا لم تكن لتضع الرئيس الجديد مباشرة فى موضع التقدير والاحترام كما كان الرئيس القديم .
الإتحاد الإشتراكى تنظيم جماهيرى لا يعرف الالتزام ..
وطليعة الاشتراكيين تنظيم سرى لا يعرف الرقابة الشعبية ..
والتنظيمان يتحركان بإرادة علوية , وليس فى صفوفهما نوع من الديموقراطية الحقيقية وليس لها عند الشعب دور تاريخى يبعث على الثقة .
وهكذا طبيعة الحكم الذى لا يعتمد على تنظيمات سياسية راسخة ويبتعد فى ممارساته عن الحريات الديمقراطية الأصلية .
ومنذ الأيام الأولى للوفاة تبين أن مواجهة الموقف لا تقوم على أساس القيادة الجماعية رغم الكلمات البراقة عن توزيع المسئولية ... وتبين أن كل فرد يحاول أن يتصرف بحسابات فردية وليست جماعية .
وأسلوب عبد الناصر فىالحكم ترك طابعه وبصماته على تصرفات خلفائه ... فأنور السادات كان يريد أن يصبح حاكما له صلاحيات عبد الناصر ولكن بأسلوبه الخاص . والمجموعة الباقية كان يتطلع كل فرد فيها إلى أن يكون له دور رئيسى علنى ... بدعوة أنه ليست هناك ميزة لأحد على الآخر بعد موت عبد الناصر .
ولذا نخطىء إذا اعتمدنا فى تحليل الموقف على أساس أنه كان هناك مجموعة منظمة تواجه مجموعة منظمة أخرى ... ونقترب من الصواب إذا تعرفنا على المواقف الخاصة لهؤلاء الأفراد .
كانت استقالة محمد حسنين هيكل المبكرة من وزارة الإعلام دليلا على مكابدته لهذا الوضع فى عهد عبد الناصر , وحذرا من تورطه فى مسئوليات السلطة وما قد تجلبه من صراع .
وكانت استقالة الدكتور محمود فوزي المبكرة من اللجنة التنفيذية العليا دليلا على شعوره أن الأمور بعد غيبة عبد الناصر سوف تدخل فى متاعب لا يتحملها الرجل الديبلوماسى العجوز ... ولولا الضغوط والاغراءات التى أحاطت به لما قبل منصب رئيس الوزراء ليقوم بدور شرفى أكثر منه دور تنفيذى وكانت استقالة أمين هويدي ورفض اشتراكه فى الوزارة وزيرا للحكم المحلى دليلا على أنه لم يكن مرتبطا تنظيميا مع الآخرين رغم أنه كان أحد الجماعة التى اختارها عبد الناصر لتصريف شئون الدولة عندما هاجمه المرض فى سبتمبر 1969 .
وكان إخراج مجموعة الضباط من وزارة الدكتور محمد فوزي الثانية ... المهندس صدقى سليمان والدكتور ثروت عكاشة وكمال رفعت وحسن التهامي دليلا على أنهم كانوا بعيدين عن الصلة بالمجموعة التى اختارها جمال عبد الناصر , رغم قربهم النسبى منه خلال حياته .
ومن الأخطاء الشائعة أن علي صبري كان ذا تأثير ونفوذ على هذه المجموعة ... والحقيقة أنه لم يكن كذلك ... فقد تدهورت العلاقات معه عندما اتخذ منه عبد الناصر موقفا جادا فى قضية الجمارك .
ولذا آثر منذ البداية أن يبعد نفسه عن قضية الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية رغم حصوله على أعلى عدد من الأصوات فى انتخابات اللجنة التنفيذية العليا , ورغم سهولة حصوله على أغلبية أصوات مجلس الأمة اللازمة للترشيح ...وأمر الاستفتاء بعد ذلك سهل فى يد السلطة الإدارية .
آثر علي صبري الابتعاد مدركا أنه لا يملك سلطة على هذه المجموعة ... وتبين صدق ذلك حسب روايته فى التحقيق عندما قال أنه استدعى سامي شرف إلى منزله رحلة أنور السادات السرية إلى الاتحاد السوفييتى فى مارس وسأله عن الرئيس فقال أنه فى الجبهة ... ورد علي صبري قائلا أنه يستنتج أن الرئيس فى الاتحاد السوفيتى , لأنه لو كان فى الجبهة لعرف علي صبري بحكم مركزه كفريق شرف فى القوات الجوية ... ولما سأله عن شعراوي جمعة سمع منه نفس الجواب ... وكان شعراوى ضمن الوفد الذى صحب أنور السادات .
ويقول علي صبري ( عرفت أنه يخفى عنى الحقيقة وبالتالى لم أعد أتناقش معه فى مسائل سياسية متعلقة بالحكم ) .
وعلي صبري من الشخصيات التى لعبت دورا هاما فى السياسة المصرية رغم أنه لم يكن عضوا فى مجلس قيادة الثورة فقد عين مديرا لمكتب جمال عبد الناصر ثم وزير دولة لشئون الجمهورية ومسئولا عن المخابرات العامة , ثم رئيسا للمجلس التنفيذى ورئيسا للوزراء فى 29 سبتمبر 1962 بعد الانفصال وتشكيل مجلس الرئاسة ثم أمينا عاما للاتحاد الاشتراكى فى أول أكتوبر 1965 ومسئولا عن أمانة القاهرة لطليعة الاشتراكيين إلى اللحظة الأخيرة ... وفى جميع هذه المناصب اشتهر عنه الإقبال الشديد على العمل والانطوائية التى لا تطهر على وجهه أية عواطف أو انفعالات , وكأنه يملك (وجه لاعب بوكر ) .
وكان عبد الناصر يردد فى أحاديثه الخاصة أنه استطاع أن يغير أفكار اثنين من معاونيه إلى الإشتراكية هما علي صبري ٍالذى تخرج فى مدارس الفرير وعمل فى القوات الجوية ضابطا للمخابرات قبل الثورة ومحمد حسنين هيكل الذى بدأ حياته الصحفية بعيدا تماما عن الأفكار الإشتراكية , ونما فى مؤسسة أخبار اليوم حتى اصبح رئيسا لتحرير مجلة آخر ساعة قبل الثورة . ٍولكن عبد الناصر لم يستطع أن يوحد بين الشخصيتين فقد كان بينهما تناقض متجدد , يتضح من مواقف هيكل من الالتزام التنظيمى فى الإتحاد الإشتراكى , وثقته بقدرة الزعيم على تحريك الجماهير خلال أجهزة الإعلام والتليفزيون والصحافة وحدها .. يقابله من الجانب الآخر نقد عنيف لبعض مقالات هيكل يستشرى فى تنظيمات الإتحاد الإشتراكى وترفع عنه التقارير إلى عبد الناصر .
عندما نقل إلى جمال عبد الناصر بعد انتخابات الاتحاد الاشتاركى من القاعدة إلى القمة قول هيكل ( سقط بيان 30 مارس ونجح علي صبري ) واجه هيكل مواجهة حازمة طالبا منه ألا يلجأ إلى مثل هذا الأسلوب فى النقد .
ولكن علي صبري تعرض بعد ذلك للموقف المؤسف الذى صاحب عودته من موسكو فيما عرف باسم ( حادث الجمارك ) والذى اتخذ ذريعة لإبعاده فى سبتمبر 1969 عن لجنة التنظيم بالإتحاد الإشتراكى , واهتزاز نفوذه أمام رجال الصف الثانى , وإبعاد بعض الذين ارتبطوا به مثل عبد المجيد فريد سكرتير رئاسة الجمهورية الذى استبدل بحسن التهامي , ومحمود أمين العالم رئيس مجلس ادارة أخبار اليوم الذى عين إحسان عبد القدوس خلفا له .
ولكن علي صبري لم يبتعد طويلا عن الحياة العامة , فقد احتفظ رغم هذا الموقف منه بعضوية اللجنة التنفيذية العليا وعاد ليرأس وفدا مصريا إلى موسكو فى الذكرى المئوية لميلاد لينين فى 17 إبريل 1970 , ثم عين بعد ذلك فريقا فخريا فى القوات الجوية فى شهر يونيو 1970 .
وأجاب عبد الناصر على سؤال فى المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى 23 يوليو 1970 بأن علي صبري سيسافر مرة كل ثلاثة شهور للاجتماع بالقيادة السوفييت .
كان علي صبري قد أصبح مقتنعا بالمبادىء الإشتراكية فيما عبر بمقالاته التى نشرها فى جريدة الجمهورية والتى وصفها هيكل بأنها نواة لاشعال حرب أهلية .
ولكن القول بأنه كان رجل موسكو فهو تحميل للأمور فوق ما تحتمل ومحاولة للتشهير بالرجل وتشويه شخصية معبرة عن الجانب التقدمى فى فكر عبد الناصر .
وقد احتفظ علي صبري دائما بخط فاصل بين أفكاره الإشتراكية الخاصة , وبين الانفتاح على الماركسية ... وإن كان قد حاول هو ومحمد حسنين هيكل أن يدعما موقفهما من الإشتراكية بالتعاون مع عدد من الماركسيين سواء فى مجلة الطليعة أو بعض تنظيمات الإتحاد الإشتراكى .
ومع ذلك لا يمكن القول بأن الحساسية من الماركسية قد انحسرت من فكر هيكل أو علي صبري ...
آخر زيارة قام بها علي صبري خارج مصر كانت إلى الاتحاد السوفيتى يوم 20 ديسمبر 1970 فى نطاق الجولات التى زار فيها بعض أعضاء اللجنة التنفيذية العليا عددا من الدول ... وهناك استقبله القادة السوفييت الثلاثة فى اجتماع استمر أكثر من ثلاث ساعات .
والموقف الذى اختاره علي صبري بعد وفاة عبد الناصر بابتعاده عن محاولة الترشيح لرئاسة الجمهورية دليل على وعيه بحقيقة موقعه بين زملائه ٍٍٍويؤكد أمين هويدي ذلك بحديث علي صبري معه بعد إقالته – كما سيأتى تفصلا فيما بعد – وقوله من أنه سوف يبتعد تماما عن السياسة , ويتفرغ للعب الجولف فى نادى الشمس وأنه سيتحاشى مقابلى أحد من زملائه السابقين غضبا وعتابا .
أما سامي شرف أحد الورثة الذين وثبوا من الصفوف الخلفية , فقد بدأ حياته فى الجيش عام 1949 ضابطا بالأنوار الكاشفة فى المدفعية , ثم اعتقل فى يناير 1953 مع عدد من ضباط المدفعية , وخرج دون محاكمة ليعمل مع زكريا محيي الدين الذى كان مسئولا عن الداخلية والمخابرات , والذى رشحه للعمل فى مكتب عبد الناصر أثناء إدارة علي صبري له حتى وصل إلى مركز سكرتير الرئيس للمعلومات , وهنا أصبح شخصية شبه أسطورية يتحدث الناس عنه وعن نفوذه وهم لا يكادون يعرفون صورته أو يقرأون اسمه .
كان سامي شرف مخلصا لجمال عبد الناصر أشد الإخلاص إلى الحد الذى أبلغ فيه عن شقيقه طارق الضابط فى الجيش بدعوى أنه مشترك فى إحدى المؤامرات .
ومن ممارسة الاخلاص المستمر ... ومن اختبار عبد الناصر لذلك ... ومن موقعه الجغرافى القريب – إن صح التعبير – حيث كان يظل ساهرا فى مكتبه حتى يرقب انطفاء النور فى غرفة نوم عبد الناصر .
من كل ذلك أصبح سامي شرف شخصية قوية يتعامل مع كافة المسئولين باسم الرئيس ... وأصبح له جهازمعلومات خاص لرئاسة الجمهورية إلى جانب المخابرات والمباحث العامة .
ولم يعرف الناس اسم سامي شرف إلا بعد أن دفع به جمال عبد الناصر إلى دائرة الضوء حين عينه وزيرا للدولة فى 26 إبريل 1970 .
لم يتخيل سامي شرف أن عبد الناصر يمكن أن يموت ... ولم يتصور أن نفوذه المستتر القوى يمكن أن يتبدد . وأراد سامي شرف أن يواصل العمل خلال رئاسة السادات بأسلوبه القديم ولكن من بزوغ طموح شديد ورغبة فى أن يلعب دورا رئيسيا .
لم تكن تتملكه حالة الرغبة فى الانسحاب من العمل السياسى التى راودت علي صبري . كانت علاقة سامي شرف طيبة معشعراوي جمعة أحد كبار الورثة لأن الأخير كان يبلغه كل شىء يتحدث فيه مع عبد الناصر مدركا أن مع عبد الناصرلابد وأن يبلغه له بصفته سكرتيرا خاصا لحفظه فى الملفات او لتذكيره به فى المستقبل . ولذا لم تبت بينهما تناقضات ملحوظة مثل تلك التى كانت تظهر بينه وبين أمين هويدي الذى كان يحجب عنه معلومات يبلغها فقط لعبد الناصر .
وظهر نفوذ سامي شرف مبكرا فى الدور الذى لعبه فى تشكيل وزارة الدكتور محمود فوزي الثانية ... فهو الذى رشح الوزراء الجدد بالتعاون مع شعراوي جمعة , وانفرد بترشيح محمد أحمد وزيرا للحكم المحلى ورشح أحمد كامل مديرا للمخابرات العامة ... وهو الذى أسهم بدور رئيسى فى غبعاد مجموعة الضباط الذين خرجوا من الوزارة لتنافر علاقته بهم ... وهو الذى دفع أمين هويدي لرفض التعاون معهم بعرضه منصبا وزاريا هامشيا عليه .
أصبح سامي شرف بعد ذلك قادرا على التأثير والتوجيه فى المخابرات العامة ومعرفة تحركات القوات المسلحة مع إمكانية التأثير فيها أيضا بحكم صلة القرابة بالفريق أول محمد فوزي ... والذى ساند موقفه مرة بإبلاغه ما يدور فىخلد عبد الناصر عن تصرفات خاصة له ... وذلك ليكون مستعدا للنقاش قبل المقابلة ... وهو أمر ما كان يجرؤ سامي شرف على الإقدام عليه لولا صلته الخاصة بفوزى ومحاولة اكتساب ثقته والاحتفاظ به فى موقعه الهام .
هذا إلى جانب ما كان يسيطر عليه فعلا من أجهزة أمن الرئاسة والحرس الجمهورى ... وما يربطه من صلة وثيقة بالمباحث العامة ووزير الداخلية شعراوي جمعة .
وكان شعراوي جمعة أيضا أحد البارزين وأصحاب النفوذ من الورثة الذين قربهم عبد الناصر منه , بعد أن جعل منه أمينا للجنة التنظيم بالإتحاد الإشتراكى وله حق حضور اللجنة التنفيذية العليا دون تصويت , وأمينا لطليعة الاشتراكيين ووزيرا للداخلية .
وشعراوي جمعة كان ضابطا فى المخابرات العامة ثم عين محافظا للسويس وهناك أمضى فترة لامعة حيث أقام معهدا للدراسات الإشتراكية حاضر فيه عدد من المثقفين الذين كانوا يحضرون من القاهرة , وخلق صلات بين المحافظة وخريجى المعهد , كمااهتم بمشاكل الجماهير اهتماما كبيرا وصل إلى مجال الثقافة حيث استعان بمؤسسة المسرح والموسيقى التى كنت مديرا لها فى ذلك الوقت لانشاء فرقة مسرحية ودعم قصر الثقافة يساعده فى ذلك مهندس البترول يوسف غزولي الماركسى السابق , ومحمد عروق الإذاعى الذى خلف أحمد سعيد فى إدارة صوت العرب ... وقد أصبح الاثنان فيما بعد عضوين فى أمانة طليعة الاشتراكيين .
وكان تكليف شعراوى جمعو بأن يكون أمينا لطليعة الاشتراكيين عام 1965 هو بداية تركيز عبد الناصر عليه ليكون شخصية سياسية جماهيرية ... ولكن جمعه بين وزارة الداخلية والعمل السياسى عام 1966 قيد حركته وجعلها أكثر اقترابا من الحركة الإدارية .
هؤلاء الذين كانوا عند الوفاة فى مركز السلطة والنفوذ .
ولم يكن هؤلاء هم كل الورثة ..
كان هناك حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة السابق والذى تولى الوزارة مبكرا عام 1956 وبقى فى أجهزة الحكم يؤدى دوره بعيدا عن الصداقات ... وتولى أمانة الإتحاد الإشتراكى فترة ما خلال أعوام 1963 , 1964 , ولكنه لم يبعث فى التنظيم الفعالية اللازمة , وعاد إلى المناصب الوزارية من جديد .
وحسين الشافعي كان بعيدا دوما عن المناصب صاحبة النفوذ والسلطة المؤثرة حيث السلاح أو أجهزة الأمن ... وكان مشهورا باتجاهاته الدينية الخالصة التى جعلته متميزا بنوع من التفكير البعيد عن حيوية التطور ورؤية المستقبل خلال مواثيق ثورة يوليو .
وهو لم يكن يستند إلى شىء أكثر من تاريخه كعضو سابق فى مجلس الثورة ونائب سابق لرئيس الجمهورية ... له فى نفسه حق المنافسة والوثوب إلى مقعد الرئيس الراحل .
وهناك ورثة آخرون لا يملكون الوسائل التى تجعلهم يفرضون رأيهم , والبعض منهم لم يكن يدفعه الطموح إلى القفز فى الهواء مثل عبد المحسن أبو النور , ولبيب شقير وضياء داود .
وكان أمرا طبيعيا أن تتناقض مصالح هؤلاء فيما بينهم ... كما تتناقض مصالحهم مع أنور السادات .
غاب الأب الذى كان يجمع الأسرة حوله ... وبدأت الخلافات والتناقضات تفرض نفسها على الموقف ... خلافات شخصية فيما بينهم ... ولكنها مع أنور السادات كانت قد وصلت إلى مستوى الخلافات السياسية .
الباب الثانى : اختلاف الورثة
انتظر على حافة النهر تصل جثة عدوك إليك " مثل صينى "
لم يتأخر ظهور الخلاف بين الورثة على المسرح طويلا ... لم تنجح محاولات تغليفه بالسرية وكتمان صوته فى الدائرة العليا للحكام الجدد .
كان الخلاف فى وجهات النظر والاعتراض على بعض القرارات والاجراءات لا يتجاوز حدود الهمس ...
ولكن الأمور كانت تندفع إلى تفجير الموقف , والخروج به عن حدود السرية وعن إطار كبار الورثة .
والأسلوب الذى حكم به عبد الناصر لم يكن صالحا للتطبيق بعد موته ... فإن شخصيته وزعامته التى نمت وصقلت خلال مواقف ومعارك وطنية وقومية واجتماعية وفرت له خبرة ورصيدا يتيح له أن يحكم دون معارضة من المشاركين له فى جهاز الحكم والسلطة .
ولذا كان انفراد رئيس الجمهورية الجديد باتخاذ القرارات الفردية رغم الاعتراض عليها فى الاجتماعات الرسمية أمرا مثيرا للزملاء المتعاونين معه الذين لا يحملون فى صدورهم من التقدير له مثلما كانوا يحملون لعبد الناصر .
قال علي صبري فى التحقيق معه إنه فوجىء بأنور السادات يقول لبونامارييف سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفييتى والعضو المرشح للمكتب السياسى أثناء زيارته لمصر فى ديسمبر 1970 " أود إبلاغك لكى تكونوا على بينة أنه يوم 15 يناير فى احتفالات انتهاء العمل فى السد العالى سنعلن عن قيام دولة اتحاد بين مصر وسوريا وليبيا والسودان "
ويقول علي صبري ( لقد فوجئت بكلام السيد أور لأننى لم أكن أعرف شيئا عن الأمر واستغربت كيف أن أجنبيا يعرف بالتاريخ والقرار قبل أن أعرف به بصفتى عضو اللجنة التنفيذية العليا ونائب رئيس الجمهورية .
ويقول علي صبري إنه لم يعلق بشىء ولكنه التقى بالسادات فى منزله قبل سفره المقرر إلى موسكو فى نفس الشهر وناقش موضوع الاتحاد معه , فاقتنع وقال إنه قد صرف النظر عنه , وطلب منه إبلاغ أعضاء المكتب السياسى للحزب الشيوعى السوفيتى بذلك .
ولكن ... لم تكد تمضى عدة أسابيع حتى انفرد أنور السادات بقرار آخر خطير هو اقتراح بفتح قناة السويس فى بيان 4 فبراير 1971 رغم عدم موافقة مجلس الدفاع الوطنى وقراره بإحالة الاقتراح إلى لجنة فرعية لدراسته .
كان الانفراد بالرأى مفاجأة للجميع كما ذكرنا ... وكان إصرار السادات على إعلان اقتراحه رغم معارضة الجميع له دليلا على تشبثه بهذا الأسلوب فى الحكم .
مثل هذه المواقف التىتجاوزت حدود الخلافات الشخصية والمطامع الذاتية أنبتت فى صدور المشاركين فى الحكم قلقا مشروعا من ناحية تحملهم المسئولية التاريخية لقرارات لا يوافقون عليها أو لا يشتركون فى مناقشتها.
ولم تلبث الأحداث أن تلاحقت ... وانفجر الصراع علنا حول موضوع الاتحاد أو الوحدة بين الدول العربية .
والموقف فى الدول العربية كان قد تغير بعد وفاة عبد الناصر .
قام الفريق حافظ الأسد وزيرالدفاع السورى بانقلاب عسكرى فى إطار حزب البعث عزل به نور الدين الأتاسي رئيس الجمهورية ووضعه هو وصلاح جديد ويوسف زعين فى السجن وتولى رئاسة الحكومة فى 15 نوفمبر 1970 .
واعتبر أن هذا الانقلاب اعتداء على التقاليد الحزبية وإضعافا للحركة التنظيمية لحزب البعث , وعودة لحكم العسكريين الذين يرتدون ثيابا مدنية حزبية .
ولم يكد يمضى يومان على هذا التغيير حتى أعلنت سوريا أنها سوف تنضم للاتحاد الثلاثى الذى كان يبنى على أساس ميثاق طرابلس الذى وقع فى عهد عبد الناصر بين مصر والسودان وليبيا .
والمدهش أنه فى نفس اليوم 17 نوفمبر حدث شىء مثير فى السودان أيضا صدرت الصحف السودانية وفيها قرار بإعفاء بابكر النور وفاروق عثمان وهاشم العطا من مجلس قيادة الثورة السودانى بدعوى عقد صلات مع عناصر مخربة .
ولا يملك الواحد نفسه من الربط بين ضرب حكام سوريا الذين اشتهروا باتجاهاتهم التقدمية وبين عزل أكثر أعضاء مجلس قيادة الثورة السودانى تقدما وتفتحا وارتباطا بالحزب الشيوعي السوداني وقفز معمر القذافي فوق سطح الحداث ... حضر إلى القاهرة مرتين خلال 24 ساعة زار خلالها دمشق للاتصال بقادة النظام الجديد .
والقذافى فى ذلك الوقت كان يحمل لواء المعاداة للشيوعية والهجوم على الاتحاد السوفيتى وربط ذلك دون مبرر بدعوة دينية إسلامية ... الأمر الذى كثيرا ما حاول جمال عبد الناصر أن يثنيه عنه بتفسيره لقضايا التحريرالوطنى وعلاقة ذلك بالنضال ضد الامبريالية وليس ضد الشيوعية .
وأسرع حافظ الأسد بعد نجاح انقلابه إلى القاهرة حيث زارها يو 27 نوفمبر ليعطى نظامه الجديد دفعة ثقة , وليعلن انضمامه لدول الاتحاد ... ثم قام بزيارة طرابلس والخرطوم عاد بعدها إلى القاهرة مرة أخرى .
واجه بعض الدول العربية تغير ... واختلفت الحركة السياسية فيها عما كانت عليه فى عهد عبد الناصر .
وأصبح من الواجب أن يكون هذا التغير حافزا على التريث فى عمليات الاندفاع نحو الوحدة أو الاتحاد ... فقد كانت هناك شبهات – ولا شك – فى هذه الحركات المضادة فى الدول المحيطة بمصر ومدى تأثيرها على النظام المصرى فى غيبة عبد الناصر .
صحيح أن مصر عضو رئيسى مؤثر وكبير فى الساحة العربية ولكن الحذر من الانزلاق إلى تجارب وحدوية جديدة هو أمر فطن جمال عبد الناصر إليه , فوقف فى حسم ضد بعض الاجراءات التى حاول البعض تضمينها فى ميثاق طرابلس الذى أعلن فى 27 ديسمبر 1969 استعجالا للوحدة .
قال لى فاروق أبو عيسى وزير الخارجية السودانية فى ذلك الوقت ... والعضو السابق فى اللجنة المركزية الشيوعى السودانى أن عبد الناصر قد ثار ثورة عارمة عندما علم أن بعض معاونيه الليبيين قد حاولوا فرض قرارات وحدوية شكلية .
وكان جمال عبد الناصر قد تراجع فى اللحظة الأخيرة عن السفر فى شهر يوليو 1970 من بنغازى إلى دمشق لمناقشة الموضوع هناك .
تراجع جمال عبد الناصر فى اللحظة الأخيرة ولم يقدم على تجربة جديدة للوحدة لم تنضج أسسها بعد ... وقاللى شعراوي جمعة إن عبد الناصر أبلغ علي صبري بعد ذلك أثناء وجوده فى الاتحاد السوفيتى أن الاندفاع إلى الاتحاد قبل المعركة كان سيعتبر خطأ سياسيا .
ولكن ما حدث كان شيئا آخر .. مضت الاتصالات نشطة لتحويل ميثاق طرابلس إلى مشروع اتحاد وسافر السادات إلى الخرطوم يوم 27 مارس وتعددت اجتماعات رؤساء الدول الأربع فى نوفمبر 1970 , يناير 1971 , وكان يحضر معهم أحيانا ياسر عرفات رئيس منظمة تحرير فلسطين ... وسافر شرف إلى سوريا وليبيا أكثر من مرة تأكيدا لدوره كمسئول يقوم بدور سياسى علنى , وليس كسكرتير معلومات يقوم بدوره بعيدا عن الأضواء .
وأسرعت الخطوات نحو الاتحاد عن الخطوات نحو المعركة .. ولم تكن هناك اجتماعات دورية للجنة التنفيذية العليا يمكن فيها مناقشة هذ الموضوع الكبير الذى يعتبر نقطة تحول فى الكيان الدستورى للدولة ... فإن اللجنة لم تجتمع منذ انعقادها فى اجتماع مشترك مع مجلس الدفاع الوطنى لمناقشة قرار وقف إطلاق النار الذى أعلن يوم 6 مارس إلا يوم 21 إبريل 1970 لمناقشة مشروع الاتحاد بعد أن تم التوقيع عليه بين السادات والقذافى والأسد فقط .
وسبق ذلك إجراءات وتحركات هامة بدأت يوم 12 إبريل باجتماع فى القاهرة جمع الرؤساء الأربعة .
ولكن السودان لم تمض مع الدول الثلاث فى الطريق , وسافر نميرى إلى موسكو بينما تحرك السادات والقذافى والأسد إلى بنغازى .
كان ابتعاد السودان عن الدخول فى مشروع الاتحاد ناتجا من موقف الرأى العام الداخل الذى كان يتحاشى التورط فى اتحاد مع ليبيا أو سوريا , وكان مفروضا أن يكون ابتعاد السودان عنصرا من العناصر الهامة التى تؤثر على موقف مصر فإن الدولتين هما الأقرب لبعضهما ووحدة وادى النيل شعار كان مرفوعا لسنوات طويلة ولكن اندفاع السادات للاتحاد لم يتأثر بموقف السودان .
وقادة ليبيا كانوا أيضا على تردد فى هذا الاندفاع المتسرع ... فلم يكن الموقف صافيا بين ليبيا وسوريا , والقذافى يذكر كلمات قالها عبد الناصر زعيمهم الروحى من أنه لا توجد بوصة فى جسمه إلا وفيها طعنة من حزب البعث .
وحافظ الأسد يعلن صراحة أنه لن يسمح لنشاط سياسى أن يقوم فى سوريا إلا من خلال قيادة حزب البعث .
صارح القذافى علي صبري كما قال فى التحقيق معه عما إذا كانت مصر تتعرض لمتاعب داخلية فلما أجابه بالنفى تساءل ( إذن لماذا هددنى السادات بأنه يجب أن نتحد مع سوريا وإلا يعتبر ذلك خروجا على ميثاق طرابلس ) وعلق علي صبري بأن القذافى قد وافق إرضاء لمصر .
وقال شعراوي جمعة إن القذافى حاول أن يفلت من سفر الرؤساء الثلاثة معه إلى بنغازى حتى اللحظة الأخيرة , وأنه طلب منه فى المطار أن يرجو السادات فى أن يعتبر حضوره للمطار توديعا له فقط ... ولكن شعراوى أقنعه بأن الموقف لا يسمح بالتغيير وأنه يمكن مناقشة كل الأمور فى بنغازى ... وأبلغ السادات بذلك .
ولم يكن الارتجال مقصورا على هذا الحد , فقد استدعى حسين الشافعي , وعلي صبري للسفر دون أى اتصال أو مناقشة سابقة ... وفوجىء الاثنان بأن أحدا لم يناقش معهما مث هذه القضية الوطنية الكبرى ... واتفق الاثنان على ان تتم الخطوة التى سيتم التوصل إليها خلال ثلاث سنوات .
ولكن مفاجأة أخرى كانت تنتظرهما فى بنغازى .. اجتماعات القمة مغلقة كما كان الحال فى فندق شيراتون بالقاهرة .
وعندما قال علي صبري للسادات إنه معترض على خطوة الاتحاد وأنه يجب عرض الأمر على الإتحاد الإشتراكى قال له السادات ( أنا لازم ارجع بورقة) ولما سأله ( أى ورقة ؟ ) قال ( ورقة الوحدة ) .
السادات يضغط بسرعة تلاحقها علامات الاستفهام لإنهاء مشروع الاتحاد وفورا رغم معارضة زملائى التى تتلخص فى أنه طالما أن نيران المعركة ينتظر أن تنطلق بين يوم وآخر فإنه لا مبرر لاستنفاد الجهد فى إتمام الاتحاد ... ويحسن أن يتحقق ذلك بعد المعركة ... كما أن التجارب مع حزب البعث كانت تدعو إلى التريث فى الاتحاد مع سوريا , لأن فى إتمامه إضعاف القوى الناصرية والقومية الأخرى فى سوريا ... كما أن قادة ليبيا كانوا يمثلون اندفاع الشباب غير المحسوب ,بالاضافة إلى موقفهم غير المبرر والمعادى للشيوعية والاتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت .
وجهات النظر كان يمكن أن يتبادلها الورثة فى اجتماعاتهم التنظيمية بروح وطنية هادفة ... ولكن الانفراد بالرأى والإصرار على الارتباط بدول كانت تعتبر فى ذلك الوقت رجعية كان أمرا مثيرا للتساؤل والدهشة .
تم توقيع لرؤساء الثلاثة السادات والأسد والقذافى على إعلان ( اتحاد الجمهوريات العربية ) فى الثانية وعشر دقائق فجر السبت 17 إبريل بعد أن كانت وكالة أنباء الشرق الأوسط قد وزعت بيانا فى اليوم السابق 16 إبريل لا يعلن قيام الاتحاد وإنما يتضمن أن المحادثات قد تناولت عرضا كاملا للموقف السياسى والعسكرى وتقييما له مع القول بأنه تم الاتفاق على الخطوات المقبلة لزيادة التفاعل بين دول ميثاق طرابلس ... ثم عادت الوكالة وسحبت البيان حيث استمر الاجتماعات إلى أن صدر الاعلان فى هذا الوقت المتأخر .
عاد السادات إلى القاهرة يوم السبت 17 إبريل حيث توجه من الطائرة إلى ضريح جمال عبد الناصر ومعه سامي شرف لقراءة الفاتحة .
لم يكن إعلان البيان وحده كافيا لتنفيذه ... كان لابد من موافقة الأجهزة والمؤسسات الدستورية . وعرض الأمر على اللجنة التنفيذية العليا ٍيوم 21 إبريل ... ولم تكن اللجنة قد اجتمعت منذ وفاة عبد الناصر إلا مرتين فقط ... الاولى عندما رشحت السادات رئيسا للجمهورية, والثانية قبل أكثر منشهر فى اجتماعها المشترك – الذى أشرنا إليه – مع مجلس الدفاع الوطنى .
كان أعضاء اللجنة يشعرون بحيرة بالغة فى مواجهة هذا الموقف ... يغلبهم الأسى عندما يطالعون فى الصحف أو يسمعون مصادفة أهم الأنباء ... وتتمزق نفسيتهم عندما يفاجأون ببيان لا يؤمون باتجاهاته السياسية .. ويبعدهم الخجل عن الاتصال المباشر بالجماهير والتعرض لأسئلة لا يعرفون لها جوابا .
وبعد أن كانت اللجنة فى عهد عبد الناصر تجتمع مرة واحدة كل أسبوع أو أسبوعين , وتناقش جدول أعمال محدد أصبحت فى عهد السادات أقل مستويات الإتحاد الإشتراكى انتظاما فى الاجتماعات .
ويقول عبد المحسن أبو النور أمين عام الإتحاد الإشتراكى إنه فعل الكثير من أجل إقناع السادات بالمواظبة على عقد الاجتماعات , ولكنه كان يمهله أحيانا , ويمهله أحيانا أخرى .
وردا على سؤال قال لى ضياء الدين داود إنه أرسل خطابا إلى السادات بعد بيان 4 فبراير يطلب فيه عقد اللجنة التنفيذية العليا لمناقشة كثير من المواضيع الهامة التى تطويها الصدور .
واتصل به أنور السادات فى اليوم التالى وعقد معه اجتماعا فى القناطر الخيرية امتد خمس ساعات , قال له فيه أنه لا يثق فى حسين الشافعي أو علي صبري ولا يريد أن يبدد وقته فى مناقشات عقيمة معهما ... كما قال له إنه لا يضيع وقته فى الانكباب على التقارير والأوراق , وإنما هو يحلق بخياله وأفكاره ليركز على القضايا الهامة ويجد الحلول المناسبة لها , ولذا فإنه يفكر فى حل حذرى تستقيم معه الأمور عن طريق حل تنظيمات الإتحاد الإشتراكى وإجراء انتخابات جديدة يشرف عليها عبد المحسن أبو النور .
وعندما صارح ضياء الدين داود شعراوي جمعة بمخاوفه , توجه ٍشعراوى لمقابلة السادات وقال له إن قوانين الاتحاد لا تسمح بهذا الاجراء ... وقال له السادات أنه قد صرف النظر عن الموضوع .
لم يستطع أنور السادات أن ينسى نتيجة انتخابات اللجنة التنفيذية العليا التى حصل فيها علي صبري على المركز الأول وجاء ترتيبه هو الرابع ... ولذا جمد اجتماعات اللجنة وجعل مختلف القضايا تحل بينه وبين الآخرين فى اجتماعت خاصة , يتعرف فيها على مواقعهم الفكرية , ويقدم لهم ما يرضيهم , ويحتفظ لنفسه بما يرضيه .
وواضح من هذه الاجتماعات الخاصة أنه كان عالما بالتناقضات الموجودة بين الآخرين ... ولذا يشهرأمامهم بحسين الشافعي وعلي صبري دون خشية لموقف موحد بينهم .. ويتراجع عن هدفه فى حل الإتحاد الإشتراكى مؤقتا منتظرا الفرصة المناسبة .
ولا شك أن عدم انتظام اجتماعت اللجان التنظيمية على مختلف المستويات هو أمر يضعف الوحدة التنظيمية , ويخلق التناقضات ويجسدها , ويعطى فرصة سانحة لاتخاذ قرارات دون مناقشة موضوعية , الأمر الذى يهيىء ظروفا مواتية للحكم فى أن يصبح فرديا وديكتاتوريا .
كان اجتماع اللجنة التنفيذية العليا بمثابة انفجار حدث فى قمة السلطة فقد وصلت الأمور إلى حد لم يعد فيه من سبيل إلا المصارحة الجاد والحادة أيضا .
كان يعيش فى صدور بعض الأعضاء – إن نقل كلهم – نوع من الاحتجاج على تجاهل دورهم ومسئولياتهم والانفراد باتخاذ القرارات الكبيرة والخطيرة.
ٍ
وبدأت الجلسة بإعلان علي صبري عدم موافقته على اشتراك مصر فى اتحاد الجمهوريات العربية واعتراضه على أسلوب السادات فى الموافقة على اشتراك مصر دون أن يستشير أحدا .
وأراد السادات أن يحسم الاجتماع العاصف الذى امتد سبع ساعات بالتعرف على رأى الأعضاء بالتصويت , معتقدا أنه سيحرز الأغلبية إلى جانبه .
ونظرا لغيبة كمال رمزى استينو فى بلغاريا فقد طلب السادات من شعراوي جمعة أن يدلى برأيه .
وحاول شعراوي جمعةأن يفلت من هذه المجابهة فقال عنه ليس عضوا فى اللجنة التنفيذية العليا وأنه يحضرها بصفته أمينا للتنظيم دون أن يكون له حق التصويت ولكن السادات ألح عليه فى ضرورة إبداء الرأى .
ورد شعراوي جمعة أنه متفق مع وجهة نظر علي صبري .. وهكذا وقف السادات فى الأقلية مع حسين الشافعي والدكتور محمود فوزي , بينما عارضه إلى جانب علي صبري كل من ضياء الدين داود ودكتور لبيب شقير وعبد المحسن أبو النور .
لم يعتبر السادات أن هذه هى نهاية الموقف ... ولم يقبل الاستسلام لرأى الأغلبية , بل أعلن أنه سوف ينقل القضية إلى اللجنة المركزية .
كان الصراع قد انفجر داخل قاعة الاجتماع المغلقة ... ولكن الصحف لم تنشر سوى أربعة سطور فقط عن هذا الاجتماع الخطير . ٍوتقرر اجتماع اللجنة المركزية بعد أربعة أيام يوم 25 إبريل .
ويبدو أن أنور السادات لم يكن يتوقع هذا الخذلان , ولم يتصور أن أغلبية اللجنة يمكن أن تقف فى موقف المعارضة له .
يقول شعراوي جمعة إن أنور السادات قد اتصل به تليفونيا بعد انتهاء الاجتماع معاتبا على موقفه ومتسائلا ( إنت عملت إيه ؟)
وضرب له مثلا بنفسه ( لقد كنت دائما أوافق على رأى جمال عبد الناصر فى النهاية ولم يحدث أن أخذت رأيا مخالفا لرأيه ) .
وحاول شعراوي جمعة بعد هذا الحديث تهدئة الموقف وعدم جمع اللجنة المركزية والسعى للتوفيق بين السادات وعلي صبري وتصفية الجو بينهما , معتقدا أنه لو تأجل نظر المشروع عدة أسابيع فإن العمليات العسكرية لابد وأن تكون قد ابتدأت ... ولكنها كانت محاولة توحى بتفاؤل شعراوي جمعة أكثر مما ينبغى , كما أنها كانت دليلا على أن العلاقات بين السادات وشعراوى ما زالت طيبة وتحتمل المصارحة .
ولكن أنور السادات أصر على جمع اللجنة المركزية والخروج بالموضوع عن دائرة النوايا الحسنة .
وانتقل الصراع من القاعة المغلقة التى تضم سبعة أعضاء إلى القاعة الواسعة التى تضم سبعة أعضاء إلى القاعة الواسعة التى تضم أكثر من 150 عضوا .
عرض السادات الموضوع , وروى الأسباب والظروف التى جعلته يوافق على انضمام مصر إلى اتحاد الجمهوريات العربية وقال أيضا إن هناك معركة قبل سبتمبر 1971 وأن الجنة التنفيذية العليا قد درست موضوع الاتحاد ولكنها لم تصل إلى نتيجة ولذا فهو يوفع الأمر الى اللجنة المركزية . وقرأ عبد المحسن أبو النور وثائق الاتحاد ثم طلب علي صبري الكلمة , وبدأ يشرح الملابسات التى سبقت إعلان الاتحاد .
وطلب السادات منه أن أن يقصر حديثه على الموضوع الأساسى وهو الاتحاد واشتراك مصر فيه ولكن الأعضاء طالبوا بإتاحة الفرصة كاملة لحديث علي صبري .
ولعل هذه هى أول مرة يشعر فيها أعضاء جهاز قيادة بأن أمور الدولة وخلافات الرأى فيها تعرض عليهم صراحة ... ولذا حرص الأعضاء على سماع كل شىء .
وعندما تطرق علي صبري على الأحاديث التى دارت بينه وبين القذافى والتى أبدى القذافى فيها دهشته من رغبة مصر فى الاتحاد مع حزب البعث قاطعه السادات قائلا إن هذا حديث جرى بين رؤساء دول لا يجوز الكشف عنه .
ومرة أخرى ارتفع صوت الأعضاء مطالبا باستمرار علي صبري فى الحديث .. رغبة منهم ألا يكون هناك حاجز يحول دون معرفتهم لكل ما يدور فى الخفاء حتى ولو كان بين رؤساء الدول .
ورضخ السادات ووافق على أن يواصل علي صبري الحديث .
وطال حديث علي صبري واستمر ما يقرب من ساعتين وقف خلالهما الدكتور أحمد سيد درويش الأستاذ بكلية طب الإسكندرية معلنا ( نقطة نظام ) ومطالبا بمنع علي صبري من الحديث لخروجه عن الموضوع .
والتقط السادات هذه الرغبة , وعرض اقتراحا على اللجنة المركزية بوقف علي صبري عن الحديث ... وكانت النتيجة مفاجأة له إذ صوت 146 مؤيدين استمرار علي صبري بينما صوت أربعة فقط على منعه عن الحديث وهم محمد حسنين هيكل وسيد مرعي ومحمد الدكرورى وأحمد السيد درويش .
وأظهرت نتيجة التصويت أن القلة التى وقفت مع السادات تربطه بها علاقات شخصية أكثر منها سياسية ... وأن محمد حسنين هيكل قد اختار أن يقف إلى جانبه علانية ضد الآخرين ... وهو ما يؤكد بلورة الجبهات واختلاف الورثة .
وواصل علي صبري حديثه الذى يمكن إيجازه فى النقط التالية :
1 -ضرورة الحذر من التعامل مع حزب البعث السورى نتيجة لتجارب ثورة يوليو معه , ولاعتماد حافظ الأسد على الأسلوب الانقلابى داخل الحزب .
2- تساءل عن موقف مصر من العناصر الناصرية والوحدوية فى سوريا إذا قويت وأصبحت قادرة على تسلم السلطة ... وهل تتحرك القوات المصريى لمساندة البعث , وخاصة بعد إعلان الأسد للقذافى أن القوة السياسية فى سوريا هى البعث ولن يسمح بنشوء قوة أخرى , وأن الجبهة الوطنية ستكون فرصة لانضمام عناصر وطنية وتقدمية , وغذا رفضت أرسلت للخارج أو اعتقلت ... وأن عنده فى الجيش عشرة من ألف بعث وأكد الأسد أنه يقول ذلك صراحة حتى لا يقال إن الأسد قد خرب الاتحاد .
3- الاعتراض على تساوى عدد أعضاء مجلس الأمة الاتحادى ( هشرون لكل دولة ) رغم التفاوت النسبى لعدد السكان .
4- الاعتراض على الفقرة التى تنص على أن تكون القرارات بالأغلبية والمطالبة بأن تكون بالاجماع .
5- الإشارة إلى أن قادة ليبيا لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضج السياسى المطلوب .
6- الاعتراض على أسلوب وضع أعضاء اللجنة التنفيذية العليا أمام الأمر الواقع دون مناقشة مسبقة .
7- لا داعى للاسراع فى إتمام الاتحاد ما دامت هناك معركة للتحرير ستبدأ قبل سبتمبر كما أعلن السادات .
استطاع علي صبري أن يكون نجم الجلسة فقد جذب اهتمام وتأييد أعضاء اللجنة بحديثه المنطقى الهادىء الذى حرص على أن يكون بسيطا وموضوعيا .
وعندما انتهى علي صبري حاول أمين الإتحاد الإشتراكى بالجيزة فريد عبد الكريم المحامى الحديث فمنعه شعراوي جمعة وتربطهما صلة قوية , ولكنه صرح قائلا ( يجب أن نرضخ لإرادة الشعب ) .
وطلب حسين الشافعي الكلمة فقال مؤيدا الاتحاد ( أشعر أننا أخطأنا فى حق حزب البعث ففى الحزب عناصر جيدة وعملية نشر محاضر محادثات الوحدة لم تكن مناسبة ) ... وهنا تصدى له ضياء الدين داود قائلا إن هذا كلام يخلف رأى الزعيم الخالد جما لعبد الناصر , و استشهد ضياء ببعض أقوال عبد الناصر .
وكان أنور السادات قد حاول منع ضياء الدين من الكلام , ولكنه رد عليه بلهجة عنيفة ( من حقى أن أتكلم ويجب أن تسمح لى بالكلام ... ) وكشف ضياء الدين داود أن اللجنة التنفيذية العليا قد رفضت الاتحاد بأربعة أصوات ثلاثة وليس كما قال السادات من أنها لم تصل إلى نتيجة ) . أعضاء اللجنة التنفيذية العليا يتصارعون أما أعضاء اللجنة المركزية الذين أخذتهم الدهشة لهذا الموقف المثير الذى لم يحدث فى تاريخ الحياة السياسية لثورة يوليو من قبل .
تبلورت الاتجاهات , وتبين أن أنور السادات لا يقف معه إلا أقلية ضئيلة .. ولكنه لم يرضخ . قال لأعضاء اللجنة المركزية بعد أن أقفل باب المناقشة :
( لقد عقدت اتفاقا يقضى بانضمام مصر إلى اتحاد الجمهوريات العربية ومن حق رئيس الجمهورية أن يبرم المعاهدات ... وأنتم عليكم أن تصادقوا أو لا تصادقوا ... وفى الحالة الثانية إما أن أستقيل أو تستقيلوا ... ولقد قلت هذا الكلام فى اجتماع اللجنة التنفيذية العليا , ويبدو أن أحدا منكم لن يستقيل وأنا لا أريد أن أستقيل ... إنما عليكم أن تتأكدوا إننى هنا باسم الشعب , وسأحول الأمر إلى المؤتمر القومى وإلى مجلس الأمة حتى إلى الاستفتاء ... إن الشعب الذى له الحق فى أن يقرر ويحكم ... وأننى أعرف تماما الظروف التى جاءت بكم أعضاء إلى اللجنة المركزية ).
وصل الأمر إلى حد الصدام بين رؤساء الجمهورية وبين أعضاء اللجنة المركزية الذين بذلوا غايى جهدهم فى تأييدهم له فى الانتخابات للرئاسة .
وأسفر أنور السادات بذلك عن موقف لا تراجع فيه , وعن خطة يريد أن يفرض بها رأيه , متحديا كل الجبهات .
تكهرب الجو ... ورفعت الجلسة للاستراحة وصعد السادات ومعه أعضاء اللجنة التنفيذية العليا وشعراوي جمعة وسامي شرف ومحمود رياض ومحمد حسنين هيكل إلى مكتب الأمين العام للاتحاد الاشتراكى عبد المحسن أبو النور لمحاولة رأبى الصدع الذى يكاد يهدم البناء .
وبعد مناقشات برز فيها موقف شعراوى الذى حاول حصار الموضوع بالتهدئة ... وموقف هيكل الذى قال إن مشروع الاتحاد ما سبق لعبد الناصر أو واقف عليه ووقف السادات الذى لا يريد التراجع ... وموقف علي صبري الذى أرضى ضميره بالمصارحة التاريخية التى قالها ... وصل المجتمعون إلى قرار بالموافقة على مشروع الاتحاد مع إدخال بعض التعديلات عليه , وشكلت لذلك لجنة يرأسها عبد المحسن أبو النور .
وعادت الجلسة للانعقاد وأعلن أنور السادات قرار تشكيل اللجنة وانفضت الجلسة الحاسمة لتصبح أحداثها ووقائعها موضع أحاديث المجتمع وتعليقاته . وعادت اللجنة المركزية للاجتماع يوم 29 إبريل بعد أن تنبه على الأعضاء بأن تمر العاصفة , لقرار التعديلات التى أقرتها اللجنة والتى تتلخص فى :
1 تغيير كلمة ( دولة اتحادية ) لتصبح اتحاد .
2- استبدال كلمة السلطات الاتحادية ) بدلا من كلمة ( الحكومة الاتحادية ) فى الفقرة د من المادة
3 استبدال اتخاذ القرارات ( بالاجماع ) بدلا من ( أغلبية ) .
وهكذا أقرت تعديلات لاترتبط كلها بالجوهر , ولا تؤثر على حقيقة قيام الاتحاد كعمل سياسى .
ووافقت اللجنة المركزية بالاجماع , بعد أن كانت قد اعترضت قبل ذلك بأيام على مشروع الاتحاد بما يشبه الاجماع أيضا ... ولم يتغير شىء من الموقف سوى ادخال تعديلات هى أقرب إلى الشكل منها إلى المضمون وعقد مجلس الأمة أيضا جلسة خاصة أصدر بعدها قرارا جماعيا ( بالتأييد الكامل للرئيس أنور السادات فى سياسته الحكمية , , وفى جميع الخطوات التىاتخذها نحو تحقيق الحرية والإشتراكية والوحدة ) .
وأعلن لبيب شقير أحد أعضاء اللجنة التنفيذية العليا الذين عارضوا المشروع أنه سينقل موافقة مجلس الأمة بنفسه إلى رئيس الجمهورية .
وكان أنور السادات قد كلف كلا من سامي شرف والدكتور غانم وزير التربية والتعليم بالسفر إلى دمشق وطرابلس لابلاغ حافظ الأسد ومعمر القذافي بالتعديلات التى أدخلتها اللجنة المركزية فى مشروع الاتحاد , وذلك قبل نشر بيانها فى الصحف يوم 30 إبريل , والذى جاء مخالفا لما قرأته الجماهير يوم 18 إبريل فور عودة السادات وحسين الشافعي وعلي صبري من بنغازى .
لم تشر الصحف المصرية إلى وجود أى تعديلات .
وهكذا انتهت قصة اتحاد الجمهوريات العربية بعد أن وصلت بالصراعات والخلافات بين الورثة إلى ذروتها ... وفرضت موقفا جديدا على المشتركين فى السلطة , وخاصة بعد أن أعلن السادات أنه سيذهب إلى آخر المدى مستندا إلى الشعب – حسب قوله – دون تفكير فى الاستقالة .
وكان التراجع عن المعارضة العنيفة لمشروع الاتحاد وقبول المساومة بإدخال بعض التعديلات , دليلا على أن المعارضة للاتحاد لم تكن قد بلورت ونوشقت بين كافة المعارضين ... وأن الرغبة فى التهدئة وتمرير العاصفة كانت أقوى من الثبات المبدئى إذا كان الاقتناع به كاملا ... وهو ماقد يشير إلى أن المعارضة لمشروع الاتحاد والمعركة حوله قد أخذت حجم أكبر من حجمها ... وأنها أدت بالتأكيد إلى فقدان ثقة كامل بين الورثة ولا شك أن أنور السادات كان يعرف ما يريد ويخطط له من موقع السلطة الشرعية ... وأن الآخرين فى حيرتهم لا يعرفون ماذا يريدون ولا يحسمون ما فيه يفكرون , ولا يتقدمون خطوة نحو توحيد آرائهم أو تنسيق خططهم .
خلاف حول المعركة :
كان مفروضا أن تكون العودة إلى القتال والمعركة قضية محسومة بعد قبول جمال عبد الناصر لمبادرة روجرز ودفع الصواريخ إلى الشاطىء الغربى للقناة خلال فترة وقف إطلاق النار الأولى التى كان مقررا لها ثلاثة شهور , لتحمى القوات المسلحة أثناء عملية العبور .
ولكن وفاة جمال عبد الناصر بعد 52 يوما من وقف إطلاق النار فى 8 أغسطس 1970 وضعت المسئولين الجدد أمام حيرة كبيرة .
ولا شك أن وفاة القائد الأعلى للقوات المسلحة الذى ركز كل جهده ووقته بعد صدمة الهزيمة على بناء القوات المسلحة والتعرف على قادتها والمشاركة بالتوجيه فى حل مشاكلها , والسعى الدءوب على تطوير تسليحها وإمدادها بالخبراء والمستشارين ذوى الخبرة العالية ... لا شك أن وفته قد أحدثت صدمة كبيرة للقادة الذين اعتادوا أن يناقشوا معه كل المصاعب خلال فترات اللقاء معهم سواء فى الندوات المحدودة أو الاجتماعات الكبيرة ... وكان جمال عبد الناصر قد اعتاد أن يتناول العشاء مرتين كل أسبوع فى القيادة العامة للقوات المسلحة خلال اجتماعاته .
أما القائد الأعلى الجديد فإنه أمضى حياته العسكرية مفصولا من الجيش إذ تخرج عام 1938 وعمل ضابطا فى أحد الأسلحة المساعدة غير المحاربة – سلاح الاشارة – ثم فصل من الجيش بعد ضبطه فى حادث اللاسلكى والجواسيس الألمان بعوامة الراقصة حكمت فهمى عام 1942 , ولم يعد ثانية للقوات المسلحة إلا عام 1950 فى عهد الوفد , ونجح فى امتحان الترقى بمساعدة جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر كما ذكر فى كتابه ( البحث عن الذات ) .. . أى أنه أمضى حوالى 6 سنوات فقط فى خدمة الجيش قبل الثورة , وبعد الثورة انقطعت صلته بالقوات المسلحة نهائيا كما انقطعت صلى الآخرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة بعد تعيين عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة فى 18 يونيو 1953 وترقيته من رتبة رائدا إلى رتبة لواء دفعة واحدة .
ولكن الفريق أول محمد فوزي كان هو الشخصية الرئيسية المسئولة عن المعركة وقد حمل هذه المسئولية فور هزيمة يونيو 1967 بعد أن كان رئيسا لأركان الحرب وأسهم بدور حاسم فى إعادة بناء القوات المسلحة على أساس متين من الانضباط العسكرى والتطور الذى شمل مسئوليات التعليم للمجندين والقدرة على استخدام الأسلحة الحديثة بما فيها الأجهزة الالكترونية .
وقد اشتهر محمد فوزي بجديته فى القوات المسلحة ... تخرج فى كلية أركان الحرب عام 1952 وعمل قائدا للكلية الحربية ثم رئيسا للأركان بلا دور إيجابى ملحوظ فترة قيادة المشير عبد الحكيم عامر إذ كانت تعقيدات الأمور وحساسيتها أقوى منه إلى الحد الذى جعله يقول عن نفسه باستهانة إنه خلال هذه الفترة كان ( طرطورا ) وذلك أثناء استجوابه أما لجنة كتابة التاريخ .
واصل الفريق أول محمد فوزي أسلوب العمل الذى اعتاد عليه فى حياة عبد الناصر , ووصل بالتدريب إلى مستوى مناسب لخوض المعركة بكل الثقة والمقدرة , إلى الحد الذى درب فيه الجنود على عبور الموانع المائية وهم معصوبى العيون والذى تعرف فيه الجنود على مواقع القتال والعبور المحتملة معرفة دقيقة .
وكان الجنود قد وصلوا خلال حر بالاستنزاف إلى قدرة قتالية وروح معنوية عالية رغم التضحيات .
قال لى اللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثانى خلال هذه الفترة والذى حصل على ترقية استثنائية فى حرب اليمن إن جنوده استطاعوا رفع العلم المصرى جنوب البلاح يوم 30 مايو 1970 بعد عبور القناة لمدة خمسة شهور عجز فيها الجنود الإسرائيليون عن نزع العلم لأنه كان محميا بالمدفعية والدوريات المسلحة والقناصة .
واستطاعت القوات المسلحة أيضا أن توقع فى قبضتها بعض الأسرى الإسرائيليين وان تسقط عددا متزايدا من الطائرات بلغ 14 طائرة ( 8 فانتوم , 6 سكاى هوك ) فى الاسبوع السابق لقبول مبادرة روجرز وأن تأسر عددا من الطيارين .
وخلال إحدى العمليات يوم أول يونيو 1970 شرق القناة تكبد العدو خسائر فادحة وأسر بعض رجاله مما جعل الإسرائيليين يطلقون على هذا اليوم اسم ( السبت الحزين ) .
يتطابق هذا مع ما سمعته من بعض الإسرائيليين أنصار السلام العادل الذين كنت أتصل بهم فى باريس إذ كانوا يقولون إن شر خبر يمكن أن تسمعه الأم الإسرائيلية هو إرسال ابنها إلى جبهة القناة لما يتعرض له من خطر الموت وتظهر صحة ذلك فيما نشرته الصحف من أخبار وصور عن الفرحة التى اجتاحت إسرائيل يوم قبول عبد الناصر لمبادرة روجرز ووقف اطلاق النار فقد خرجت النساء يرقصن فى الشوارع .
هكذا كانت الروح المعنوية عالية لم تتأثر بالغارات الإسرائيلية المتصاعدة بل كان العكس هو الصحيح كما أكد لى اللواء عبد المنعم خليل أيضا الذى قال إن جنوده كانوا يتعرضون أحيانا لغارات تستمرطوال النهار ... ولكن خسائرهم كانت تقل يوما بعد يوم لاعتيادهم على المعركة وتشبثهم بمبادىء الأمن والقتال , و كان ذلك يرفع من روحهم المعنوية , ويضاعف من حماستهم للقتال .
كان جمال عبد الناصر قد وافق على الخطة الدفاعية 200 لتحرير الأرض , بعد أن اطمان إلى مستوى الجنود وقدرتهم القتالية ... وكان الموعد المحدد لزحف الجنود إلى سيناء كما قال لى الفريق أول محمد فوزي هو ربيع عام 1971 فى يوم تحدده الطبيعة عندما تهب رياح الخماسين الرملية وعندما عين أنور السادات قائدا أعلى للقوات المسلحة التزم الفريق أول محمد فوزي بتنفيذ كل القواعد التى سار عليها فى عهد عبد الناصر .
وكان فوزى قد جمع القادة فى فترة ترشيح السادات وطلب منهم الوقوف معه لأنه اعتبر أن كل من خالف أو عارض جمال عبد الناصر فى حياته لا يجوز أن يخلفه بعد مماته ... وكان يقصد بذلك موقعى العريضة التى رفعت السادات من أعضاء مجلس قيادة الثورة السابق .
ويدلل محمد فوزي على موقفه هذا خلال التحقيق معه بأن ( نسبة التأييد من أفراد القوات المسلحة وعددها ما يقرب من المليون هو 99 و8 من عشرة )
استغرقت هموم الإعداد للمعركة معظم وقت الفريق أول محمد فوزي , الذى كان يحضر اجتماعا يوميا ضمن مجموعة العمل التى شكلت من عبد المحسن أبو النور وشعراوي جمعة ومحمود رياض ومحمد فايق وأحمد كامل وسامي شرف وحافظ إسماعيل والفريق محمد أحمد صادق وسكرتيرها هو مدير المخابرات الحربية ... وواجبها هوو الاستعداد لعودة القتال .
أول قرار وقعه أنور السادات بصفته قائدا أعلى كان قرار وقف إطلاق النار فى نوفمبر 1970 لمدة ثلاثة شهور ثانية .
كان قانون رقم 4 لسنة 1968 ملزما للقائد الأعلى بأن يوقع أوامر كتابية للقتال والانسحاب ووقف إطلاق النار وغيرها .
وهكذا كان موعد بدء المعركة مرتهنا بكلمة وقارا القائد الأعلى واستعداد القائد العام للقوات المسلحة .
بعد انتخاب السادات رئيسا للجمهورية تجددت صلته بالقوات المسلحة لأول مرة بعد ما يقرب من 18 عاما ... وبدا حريصا على الاقتراب منها فتعددت زياراته لها وتتالت اجتماعاته مع القادة للتعرف على النبض الحقيقى للقوات المسلحة .
ولكن السادات لم يكن راغبا فى عودة القتال كما كان الأمر مع عبد الناصر ... وإن كان لم يصرح بذلك علنا فى خطاباته الرسمية .
وكان هذا الاتجاه مسايرا لموقفه المعلن فى بيان 4 فبراير الذى جنح فيه إلى تقديم مبادرته بفتح قناة السويس , كما كان منسجما مع بيان مارس الذى أعلن فيه ( أننا لا نعتبر أنفسنا مقيدين بوقف إطلاق النار , ولا بالامتناع عن إطلاق النار ) .. والذى قال فيه أيضا ( إن الولايات المتحدة الأمريكية تعهدت لنا مباشرة وخصوصا فى الشهر الأخير بأنها تعارض وسوف تعارض مبدأ الاستيلاء على الأرض بالقوة ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تتهرب من هذا التعهد أو ان تفلت منه ) .
كان مضمون هذا الاتجاه هو تغليب المساعى الديبلوماسية وخاصة مع أمريكا فى محاولة للوصول إلى السلام ... بدلا من الاصرار على القتال فور انتهاء إطلاق النار .
ولم يكن متصورا أن يتم ذلك بطريقة أوتوماتيكية ... بمعنى أنه فى الدقيقة الأولى بعد انتهاء وقف اطلاق النار , يسمع صوت القذيفة الأولى فى المعركة .
ولكن كان مفروضا أن نعود إلى حرب الاستنزاف حتى يتم تحديد ساعة الصفر فى اليوم المحدد للقتال .
وكان الاتجاه إلى تأجيل القتال وعدم وضح إرادة الاصرار على العودة إليه باعثا على تساؤلات كثيرة حول احتمالات المستقبل .
وكان الاجتماع المشترك للجنة التنفيذية العليا ومجلس الدفاع الوطنى قد اتفق على الصيغة المناسبة لبيان 7 مارس , كما اتفق على تحديد يوم 26 إبريل موعدا يضاء فيه النور الأخضر لعودة القتال فى أية لحظة مناسبة .
كانت العودة إلى القتال قد أصبحت تتجسد كمطلب هام بين جانب من الجماهير وخاصة المتصلين بتنظيمات الإتحاد الإشتراكى , وبين القوات المسلحة التى تتأهب فعلا لعودة المعركة . وفوجىء القراء بمقال نشره محمد حسنين هيكل يوم 12 مارس 1970 بعد أن أوقف سلسلة مقالات كان يكتبها تحت عنوان ( تأملات حول الصراع الكبير ) ... نشر المقال تحت عنوان ( تحية للرجال ) ثم عاد يواصل التأملات من جديد .
كان مضمون المقال شرح العقبات التى سوف تخوضها القوات المسلحة وتجسيم مخاطر القتال فى معركة تحرير الأرض والوطن ... وتحدث هيكل كرجل عسكرى أكثر منه كاتب سياسى , وأشار إلى أنه هناك مانعا مائيا وكثبانا رملية يرقد فوقها خط دفاعى ثم رمال مفتوحة , وقال إن الجيش المصرى سوف يواجه المعركة وحده أما الجيش الإسرائيلى بأكمله ... وختم مقاله قائلا ( إنهم هناك على خط النار لا يزايدون لأنهم على خط النار ) . وهكذا اعتبر هيكل أن المطالبة بالعودة للقتال ضربا من المزايدة ... بينما القتال كان دائرا فعلا فى حياة عبد الناصر اثناء حرب الاستنزاف .
كان مضمون المقال وتوقيته غريبا , غذ أنه نشر يوم الجمعة الأول بعد بيان 7 مارس الذى انتهت به مدة الشهر الذى أعلنه السادات فى بيان 4 فبراير كامتداد لوقف إطلاق النار ... وفى وقت كان يتطلع فيه الناس إلى عودة المعركة , ويستعد فيه الجنود للقتال .
كان واضحا أن المقال نشر تعبيرا عن رؤية جديدة للموقف , فهو فى أهدافه محاولة لإقامة السدود أمام عودة المعركة , وهو ما ثبت من أقوال محمد حسنين هيكل فيما بعد أثناء تحقيق المدعى الاشتراكى العام معه عام 1978 عندما قال إنه كان يعبر بهذا المقال عن القيادة السياسية للدولة بما يعنى أنه قد أوحى إليه من السادات بكتابة هذا المقال .
وانبرى عدد من الكتاب يردون على محمد حسنين هيكل فى جريدة الجمهورية ومجلة روز اليوسف مثل الدكتور إبراهيم سعد الدين والدكتور محمد أنيس وفتحى خليل وعبد الهادي ناصف وغيرهم .
لم تكن مثل هذه المعركة الفكرية بين الكتاب جديدة على الصحافة , فقد سبق أن حدث ذلك حتى فى حياة عبد الناصر ... ولكنها فى هذه المرة كانت تمس موضوعا شديد الحساسية .
ولم يتوقف صدى المقال عند حدود الصحافة , وعنما امتد إلى القوات المسلحة حيث أثار الغضب عند بعض قادة القوات المسلحة الذين اعتبروا المقال مثبطا للعزائم , باعثا على اليأس والقنوط .
ويبدو أن محمد حسنين هيكل لم يكن يعرف جدية الخطوات التى اتخذت فى مجال التدريب , ولم يتابع تفصيلا تدفق الأسلحة وأكتمال المساعدة على تنفيذ خطة التحرر , واعتبر أن الدعوة إلى عودة القتال نوع من المغامرة غير المحسوبة , وأنه شعار يرفعه الذين يريدون أن يحرجوا السادات , وأن يجدوا فى المعركة طوق إنقاذ للمشاكل الداخلية .
وأوضح المقال أن هيكل قد اختار جانب السادات , وبدأ يروج لسياسته بأسلوب يدعو للتهدئة , ومحاولة تأجيل المعركة , اعتقادا بأنه يمكن الوصول إلى حل سلمى إذا لعبت أمريكا دورا إيجابيا فى ذلك .
وفى غمرة هذا الاتجاه وانشغالا بما يدور خلف الكواليس ومتابعة للشئون اليومية وضعفا فى قيادة الإتحاد الإشتراكى مضى يوم 30 مارس مثل بقية الأيام .. لم يحدث عنه أحد .
وكتبت فى روز اليوسف تحت عنوان ( ملحوظة سياسية ) :
( ما هكذا تمنيت ليوم مضى فى تاريخنا , جابهنا فيه حركة الثورة المضادة ببيان تاريخى قدمه جمال عبد الناصر ووجد فيه أنور السادات خير أمانة يودعها فى مجلس الأمة يوم انعقد الاجتماع على ترشيحه . أسلحتنا فى المعركة ضد العدوان ليست المدافع والطائرات فقط , ولكنها أيضا الكلمة الثمينة النابعة من إرادة شعبنا ... والتى يجب أن نناضل من أجل تجسيدها كواقع حى يحرك نضال الجماهير ) .
كل الصحف أغفلت الحديث عن الذكرى الثانية لهذا اليوم , حتى جريدة الأهرام رغم أن محمد حسنين هيكل هو الذى صاغ البيان , ورغم أن الجريدة فى مبناها قد طبعت كلمات من بيان 30 مارس على جميع منافض السجائر فى الدار .
كان الاتجاه لدعوة تحييد أمريكا , ومحاولة الإيهام بأن هناك نوعا من الاتفاق بين الدولتين العظميين حول مشكلة الشرق الأوسط , قد بدأ يتردد صداه فى بعض المقالات ... الأمر الذى جعلنى أكتب كلمة قصيرة فى روز اليوسف 12 إبريل 1970 أقول فيها تحت عنوان ( كفاية )
( أعتقد أنه قد أصبح من واجبنا ومسئوليتنا أن نتجاوز هذه المرحلة التى طفحت بمناقشات وآراء مختلفة حول تحديد طبيعة العدو والصديق ... ,ان ذلك لم يعد الحديث المناسب ونحن نتأهب لمواجهة أخطر معركة فى حياتنا ... وليس معقولا أن يكون محور النقاش أمام الرأى العام بعض ما يجب أن يكون محفورا فى القلوب )
أشاع هذا الجو نوعا من الضباب حول احتمالات المعركة ... وفرضت الخلافات التى أشرنا إليها حول قضية اتحاد الجمهوريات العربية نفسها على الموقف ... مما خلق من السبق الزمنى حول قيام الاتحاد وبدء المعركة وقد فرض موضوع الاتحاد نفسه على القوات المسلحة بما عبر عنه أحمد كامل أثناء اجتماعه مع أنور السادات يوم 26 إبريل 1970 بعد اجتماع اللجنة المركزية بقوله حسب ما ورد فى التحقيق معه بصفته مديرا للمخابرات العامة ومعبرا عن تقاريرها:
( الرأى العام فى الجيش يتساءل كيف تتم وحدة بيننا وبين سوريا وفيه ثأر بيننا وبينهم ويقصدوا الانفصال .. والنقطة الثانية تحرك القوات من مصر إلى سوريا المحاربة من يقوم ضد النظام البعثى فى سوريا , ومعنى هذا الأمر قد يتطور بضرب الناصريين إذا تحركوا ضد البعث .. والنقطة الأخيرة كانت أن الرأى العام فى الجيش يتساءل أيضا كيف تتم الوحدة بين ليبيا والليبيين بيعاملوا المصريين معاملة سيئة جدا ) .
وقال أحمد كامل لأنور السادات فى الاجتماع الوحيد الذى عقده معه منذ عين مديرا للمخابرات إنه يرى أن يشرح وجهة نظره فى هذه الأمور للقوات المسلحة ... وأنه يجب تفضيل المعركة وإعطائها الأسبقية مع تصفية الموقف الداخلى بعد ذلك .
الرأى العام فى الجيش كان قد بدأ يتابع الحركة السياسية ويناقشها إلى جانب المعركة التى كان مفروضا أن تستغرق كل وقته وجهده .
وقد عقد الفريق أول محمد فوزي اجتماعا للمجلس الأعلى للقوت المسلحة يوم 29 إبريل 1970 قبل انعقاد الجلسة المتفجرة للجنة التنفيذية العليا وتحدث مع القادة عن المشروع الذى نشرته الصحف يوم 18 إبريل ...
ويقول الفريق أول محمد فوزي فى التحقيق معه إنه كان يؤيد فكرة الاتحاد وأن البعض قد طلب بأن تكون الفقرة الموجودة فى مشروع الاتحاد مشابهة للفقرة الموجودة فى الاتفاقية الثنائية بين مصر وسوريا المنعقدة فى 26 نوفمبر 1969 , وأنه رفع تقريرا بذلك فى حينه إلى السيد رئيس الجمهورية .
وعقد الفريق أول فوزى اجتماعا آخر مع 400 قائد كرر لهم فيه ما سبق قوله كان الفريق فوزى أكثر اهتماما بتنفيذ خطة التحرير عن الدخول فى تفاصيل القضايا السياسية .
ويقول الفريق فوزى أيضا إنه كان قد وضع خطة القتال على أساس أن تبدأ بعد يوم 7 إبريل 1971 وكانت معدة فعلا للتنفيذ ... ولكن تأجيل تنفيذها لمدة أربعة أسابيع نظرا لتوسيع نطاقها .
وفى يوم 28 إبريل 1970 ذهب الفريق أول محمد فوزي إلى أنور السادات لكى يتلقى – على حد تعبيره – التلقين من القائد الأعلى للقوات المسلحة , وهو ما يمكن التعبير عنه بالتوجيهات السياسية والعسكرية لتنفيذ الخطة .
لم ينته التلقين فى هذه الجلسة ... وتحدد موعد آخر هو يوم 9 مايو حيث ذهب الفريق أول فوزى للحصول على الكلمة النهائية فى موضوع عودة القتال .
قطع المقابلة وصول الدكتور محمود فوزي ومحمود رياض وأشرف غربال المشرف فى ذلك الوقت على رعاية المصالح المصرية فى أمريكا ومعهم جوزيف سيسكو وكيل الخارجية الأمريكية الذى كان قادما من إسرائيل بعد زيارة روجرز.
طلب السادات من فوزى أن ينتظر انتهاء الاجتماع فى غرفة قريبة فربما يحتاج إليه ... ثم التقى الاثنان بعد ذلك , وتحدد موعد بدء المعركة يوم 2 يونيو 1971 .
ويقول الفريق أول محمد فوزي إنه توجه إلي مكتبه مباشرة حيث اجتمع مع رئيس أركان حرب الفريق محمد أحمد صادق وأبلغه الاتفاق الذي تم بينه وبين القائد الأعلى علي تحديد تاريخ بدء المعركة .ٍ
واقترح الفريق صادق أن يدون في أمر القتال الأسبوع الأول من يونيو بدلا من 2يونيو ووافق فوزي علي ذلك , واستدعي العميد أمير الناظر حيث كلفه بكتابة أمر القتال من صورة واحدة على الآلة الكاتبة ليحمله فوزي إلي السادات للحصول على توقيعه تنفيذا للقانون رقم 4 عام 1968 .
ولكن الفريق أول محمد فوزي لم يحصل على توقيع أنور السادات مطلقا .
في يوم 11 مايو كان أنور السادات في زيارة للقيادة العامة بمدينة نصر وبعد اجتماعه مع القادة طلب منه فوزي أن يشرب فنجانا من القهوة في مكتبه حتى يقدم له الأمر لتوقيعه ولكنه قال له ( بعدين ... ) ومضى دون أن يوقع .
وفي 12 مايو صحب الفريق أول محمد فوزي أنور السادات في زيارته للقوات المسلحة ببلبيس , ويقول إنه يحمل معه أمر القتال لتوقيعه بعد وصوله معه إلى المنزل , ولكن ما أن هبط السادات من الطائرة حتى نادى سكرتيره الخاص فوزي عبد الحافظ بدلا من الفريق أول محمد فوزي ليصحبه في العربة قائلا لفوزي ( اقعد إنت لمشاكلك ) .
وهكذا لم يوقع السادات أمر القتال , وشعر فوزي أن تغييرا ما قد حدث فيما تم الاتفاق عليه حول الخطة الدفاعية 200 .
وعندما سألت الفريق أول محمد فوزي :
(هل كانت هذه الخطة لتحريك الموقف السياسي أم لتحرير الأرض ؟ )أخذته الدهشة قائلا ( إنها كانت خطة متكاملة لتحرير سيناء حتى حدود عدوان يونيو 1967 على مراحل أطلق على كل مرحلة منها لفظ ( جرانيت 1) , ( جرانيت 2 ) .
وهكذا أصبح القائد العام للقوات المسلحة في وضع حرج...إذ يحفز قادته وجنوده على الإستعداد للقتال ويطالبهم بمضاعفة الجهد و البذل ...بينما يواجه من جانب القائد الأعلى للقوات المسلحة والذي كان يعتبر غريبا عليها إلي ما قبل عدة شهور ...يواجه إعراضا ونفورا وتهربا من توقيع أمر القتال .
وهكذا تجسدت الخلافات حول عودة المعركة في صمت و سرية ...كما تجسدت في مشروع الإتحاد الثلاثي بصفة علنية .
خلافات فردية :
لم يكن معقولا أن تمضي الأمور في هدوء إلي بعد هذه المرحلة .
المواجهة التي تمت في اللجنة التنفيذية العليا و اللجنة المركزية بددت الأمل في التهدئة .
ولم يكن الأمر بعيدا عن توقع أنور السادات , فهو يعلم منذ اللحظة الأولي أنه يتعامل مع ورثه مثله تماما ...كانوا جميعا حول عبد الناصر ,وبعضهم كان أقرب إليه منه ...وليس بينهم أحد يمكن القول بأنه رجل السادات سواءالذين اقتربوا منه مثل الدكتور محمد فوزي و محمد حسنين هيكل ,أوالذين ابتعدوا عنه ونفروا منه .
الوزراء جميعا كانوا نتيجة إختيار لم يتدخل ,ورئيس الوزراء لم يرشح سوي الدكتور عصمت عبد المجيد وزيرا لشئون مجلس الوزراء ... وهم جميعا كانوامن رجال عبد الناصر الذين تعاونوا معه ,وعملوا تحت قيادته ,واستلهموا زعامته .
لم يكن بين الوزراء من يمكن توصيفه إذن بأنه رجل السادات ... حتى هؤلاء الذين كانوا على غير وفاق كامل مع شعراوي جمعة وسامي شرف .
وعندما ضم وزير جديد للوزارة يوم 3 يناير 1971 كان أحمد نوح الضابط الطيار الذي كان مديرا لمكتب الفريق أول محمد فوزي , والذي عين وزيرا للدولة لشئون الطيران المدني . لم يدخل إلى الوزارة وزير يمكن أن يوصف بأنه قريب جدا للسادات سوى محمد عبد السلام الزيات الذي عين وزيرا للدولة لشئون مجلس الأمة في 10 إبريل 71 والذي سبق له أن عمل سنوات طويلة سكرتيرا لمجلس الأمة.
كل أجهزة الأمن , وأجهزة السلطة التنفيذية موجودة في أيدي شخصيات لا يمكن القول بأنها كانت مقتنعة بأنور السادات رئيسا مثل اقتناعها بجمال عبد الناصر ... أو أنها يمكن أن تكون أداة تنفيذ فقط كما كانت في الماضي .
الفريق أول محمد فوزي كان وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة , وشعراوي جمعة أمينا للتنظيم ووزيرا للداخلية , وأحمد كامل مديرا للمخابرات العامة ومحمد فايق وزيرا للإعلام , وسامي شرف مسئولا عن الحرس الجمهوري وأمين الرئاسة وعبد المحسن أبو النور أمينا عاما للاتحاد الاشتراكي .
ويلاحظ أنهم جميعا من العسكريين . وأنه تربطهم صلة تنظيمية في الاتحاد أو طليعة الاشتراكيين .
ولذا كان يبدوعلى السطح أن الصراع غير متوازن , وأن القابضين على أجهزة الأمن والسلطة التنفيذية هم الذين يمكن أن يكونوا مصدر الخطر على الطرف الآخر وأنهم لو تحركوا فإن شيئا لا يمكن أن يقف في طريق ولكن أثبت الأحداث أن التمزق الذي شمل المجموعة الناصرية كان عميقا في النفوس إلى الدرجة التي يصعب معها توحيد حركتهم أو تنسيق أهدافهم وقد عمد أنور السادات إلى استغلال الخلافات بينهم , ودبر خطة للتخلص منهم واحدا بعد الآخر .
وليست هناك مبالغة في كلمة التدبير , فإن القرارات السياسية المنفردة التي كان يتخذها أنور السادات , كانت تدل على عدم قبوله لأن يكون رئيسا شكليا للجمهورية مثل ملك يملك ولا يحكم .
ويبدو ان السادات كان مصمما على أن يضع نفسه في مكان جمال عبد الناصر رغم اختلاف الظروف التاريخية والشخصية ...فإن جمال عبد الناصر قاد حركة سرية في الجيش وصل بها إلى الحكم مع زملاء اقتنعوا برئاسته فانتخبوه مرتين رئيسا لقيادة الضباط الأحرار واستطاع بمواقفه الوطنية والقومية أن يبرز عن بقية زملائه , فارتفع شأنه في الوطن العربي , وأصبح أحد ثلاثة من قادة عدم الانحياز مع نهرو وتيتو .
ولم يتخلص جمال عبد الناصر من محمد نجيب سوى بعد 28 شهرا من قيام الحركة , ولم يصدر قرارا بإقالة أحد من أعضاء مجلس قيادة الثورة , وإنما كان البعض يقدم استقالته مختارا بعد تنافر في المواقف أو الآراء مثل يوسف صديق وجمال سالم وصلاح سالم وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وعبد اللطيف البغدادي .
أما أنور السادات فكان يدير خطة للتخلص من هذه العناصر المناوئة التى ضاق صدره بتصرفاتها بعد شهور قليلة من التعامل معها , ودفعه إلى ذلك أنه لم يكن يستند سوى إلى الشرعية لحماية مقعده , وهى عملة نادرة لا يتداولها أحد فى صراع القوة ... أما عبد الناصر فكان يستند إلى قيادته للضباط الأحرار , وتعيينه لصديقه المخلص عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة , وترقيته من رتبة رائد إلى لواء فى 18 يونيو 1953 .
ويؤكد ذلك محمد حسنين هيكل الذى قال لى إنه يعلم أفكار السادات نحو الآخرين , وانه بدأ منذ مارس يعد خطته للتخلص منهم ... كما يكتب موسى صبري الصحفى المقرب فى كتابه ( وثائق ثورة مايو ) أن السادات ( كان مستعدا دائما لأى تحرك من جانبهم ... كان الرئيس مستعدا بخطة عسكرية كاملة ... تحددت فيها التحركات والتكليفات كاملة , وقد تم ذلك منذ شهرين كاملين ) .
شهر مارس إذن كان بداية التفكير والتخطيط لفرض أنور السادات لنفسه رئيسا فعليا للجمهورية يملك ويحكم كما كان يفعل سلفه عبد الناصر ... وواضح أن ذلك كان نتيجة للمعارضة التى واجهت السادات بعد بيان 4 فبراير , وأظهرت له أن أفكاره وقراراته يمكن ألا تمضى فى سهولة مما يضعف سلطته كحاكم .
وإذا أخذنا بصحة هذا التوقيت الذى يؤكده صحفيان كانا من أقرب المقربين إلى السادات فى ذلك الوقت , لأدركنا أن بداية التفكير فى التخلص من الآخرين قد سبقت وقوع الخلافات حول مشروع الاتحاد الثلاثى , أو حول العودة للمعركة .
وقد وقع الاختيار على علي صبري ليكون الفريسة الأولى بعد أن أصبح التخلص منه ضرورة بعد المواجهة الساخنة فى اللجنة التنفيذية العليا ... وفى وقت لم يكن فيه هناك أى نوع من أنواع التدبير المضاد لرئيس الجمهورية ... فقد كان الآخرون ما زالوا يعتقدون أنهم قادرون على تهدئة الأمور , والتعاون مع السادات بأسلوب يمنحهم مزيدا من السلطة ويحفظه فى موقعه . ولا شك أن بعض التصرفات من جانب السادات لم تكن تبعث فى نفوسهم الرضا , بل وتبذر فيها القلق ... ولكنهم كانوا يفكرون فى تجاوز حدود المصارحة معه , أو المعارضة الهامسة فيما بينهم إلى نطاق آخر يكون فيه تدبير للتخلص من صاحب المنصب الشرعى فى رئاسة الدولة , وهم الذين مهدوا له الطريق .
وعلم سامي شرف بنية السادات فى عزل علي صبري من محمد حسنين هيكل الذى سمع الخبر من السادات نفسه , فأبلغ شعراوي جمعة ... ووصل الخبر إلى علي صبري عن طريق عبد المحسن أبو النور ... وكان ذلك بعد اجتماع اللجنة التنفيذية العليا وقبل اجتماع اللجنة المركزية .
لم يحاول أنور السادات إخفاء الخبر ... فقد أبلغ به السفير السوفييتى كما ذكرنا وسربه إلى هيكل ... واثقا – فيما يبدو – من أنه لن يواجه مقاومة فى تنفيذ القرار .
ويقول شعراوي جمعة أنه حاول القيام بدور المهدىء , فطلب من علي صبري ألا يتكلم فى اجتماع اللجنة المركزية , وأن ينحنى للعاصفة ... ولكنه رفض وأصر على توضيح الأمور كمسئولية تاريخية .
كما قبل السادات محاولا إقناعه بتأجيل اجتماع اللجنة المركزية , ولكنه أصر على عقده للخروج بالخلاف إلى دائرة أوسع .
وعندما حاول إقناعه بتأجيل إقالة علي صبري حتى لا ترتبط بزيارة روجرز التى كان مقررا لها يوم 4 مايو لأنه لو حدثت قبلها فإنها ستعتبر ( عربونا للزيارة ) وإذا تمت بعدها فإنه سيقال إنها كانت ( ثمنا للزيارة )... رفض السادات أيضا فى اجتماعين استغرق أحدهما ساعة , و الاخر ساعة ونصف الساعة .
ولم يتخذ شعراوي جمعة أوأحد من زملائه أى موقف , وآثروا أن يتركوا الأمر للزمن ... لم يعرض الأمر للمناقشة فى أى مستوى من مستويات الإتحاد الإشتراكى أو طليعة الاشتراكيين .
ورغم أن علي صبري قد بلغته نيةأنور السادات بإقالته فإنه لم يأخذ الأمر أولا مأخذ الجد كما سبق أن ذكرنا ... وهو فى كل الحالات كان أعجز من أن يوقف صدور القرار , لأنه لم يكن يستند إلى أية سلطة , ولم يكن يعتمد حتى على هؤلاء الذين صنفوا بأنهم رجاله .
ولم يطل الانتظار ... بعد أيام قليلة من الإعلان عن نيته , حضر السادات احتفال العمال بعيد أول مايو فى حلوان ... وحرص على أن يضمن خطابه فقرة ضد مراكز القوى من كلمات جمال عبد الناصر ... فقرة لم يكتبها محمد حسنين هيكل الذى أعد الخطاب ... ولكن أحضرها له محمد عبد السلام الزيات من منزله فى ساعة متأخرة من الليل .
كان الاحتفال متميزا بالصورة المرفوعة لجمال عبد الناصر , والشعارات والهتفافات التى تتردد باسمه ... ومع ذلك خطب السادات قائلا :
( ليس من حق أى فرد أو جماعة مهما كان هذا الفرد أو تلك الجماعة أن تزعم لنفسها قدرة منفصلة عن قدرة هذا الشعب , أو تدعى لنفسها موقعا تستطيع أن تفرض من خلاله رأيها على جموع الشعب , أو تتستر وراء شعارات أو مناورات تحاول أن تشكل من خلالها مراكز قوة تفرض منها وصايته على الشعب بعد أن أسقط هذا الشعب مع جمال كل مراكز القوة ليبقى الشعب وحده سيد مصيره ) .
السادات يستند إلى موقف عبد الناصر ويستخدم كلماته ... والهجوم على مراكز القوة يظهر أن هناك مراكز قوة أخرى جديدة سوف يطاح بها ... والكلمات تصدم هؤلاء الذين يشاركون فى السلطة .
وفى اليوم التالى مباشرة طلب السادات من سامي شرف أن يعد قرارا جمهوريا بإقالة علي صبري على أن ينشر ببنط صغير ... وتصادف أن كان الفريق أول فوزى وشعراوي جمعة معه فى مكتبه حين أبلغه القرار .
لم يتردد سامى فى التنفيذ ولم يعترض ... فقد فات الأوان ... واستفسر فقط من فوزى عن منصب علي صبري فى القوات المسلحة ليضمنه قرار الاقالة , وكان مساعدا للرئيس لشئون القوات الجوية والدفاع الجوى .
وقد تبين من تحقيقات مايو أن الفريق محمد فوزي قد أبلغ السادات بأن هذا القرار لن يثير رد فعل سلبى فى القوات المسلحة .
وهكذا تهدم مرة أخرى نظرية هذه المجموعة التى ارتبطت بعبد الناصر , ويثبت أن أفرادها كانوا يحملون فى صدورهم عواطف متناقضة ... ويثبت أن علي صبري كان أبعد ما يكون عن أن يعتبر قائد لهذه المجموعة ... ولا يقلل من صحة هذا الحديث أنه كان دفاعا عن النفس أثناء الاعتقال فإن أحدا لم يتحرك أمام هذه الخطوة , وإبلاغ فوزى للسادات بترحيب القوات المسلحة بالاقالة أمر له دلالته .
وربما تصور بعض أفراد المجموعة أن نتيجة علي صبري هى إزاحة لشخصية كان يمكن أن تسد عليهم طريق طموحهم , ولم يدركوا أنها كانت مثل حركة سكين يقترب من أعناقهم .
وكان سامي شرف فيما يبدو هو أكثر أفراد هذه المجموعة طموحا ... والذى يرصد خطواته يدرك أنه كان يريد أن يجسد لنفسه شخصية قوية معتمدة على ماضيه مع عبد الناصر , وما تجمع فى يده من معلومات ومسئوليته عن أجهزة أمن الرئاسة بما فيها الحرس الجمهورى كما ذكرنا .
ولذا طلب من مدير المخابرات العامة أحمد كامل أن يراقب بعض تليفونات الاتصال الداخلى المباشر وعددها محدود جدا وعلى وجه التحديد عند كل من جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسين الشافعي وعلي صبري وسامي شرف وشعراوي جمعة ومحمد حسنين هيكل وأمين هويدي ومحمد فايق ومدير المخابرات العامة والمخابرات الحربية ..
كان أحمد كامل يرسل تفريغا يوميا للمحادثات المراقبة إلى مكتب رئيس الجمهورية أى سامي شرف ... دون أن يعرف ما إذا كانت تافهة وبسيطة إلى رئيس الجمهورية ... ويقول أيضا إنه قابل أنور السادا ت فى أحد الاجتماعات فبادره بقوله إن كل تقاريرك تصل إليه , فبعث هذا فى نفسه الضمان والاطمئنان إلى أن تسجيلات الرقابة قد صدرت بتعليمات منه وأنها تصل إليه أيضا .
ونفذ أحمد كامل الأمر ووضع تليفون علي صبري وأمين هويدي الداخلى تحت المراقبة إلى جانب عدد من التليفونات العادية عند معظم المسئولين متلمسا لنفسه العذر بأنه تصور أن هذا الأمر لابد وأن يكون صادرا من السادات شخصيا ... وهو الذى عجز عن مقابلته رغم إلحاحه فى ذلك , وكانت صلته الوحيدة بالرئيس من خلال سامي شرف .
وفروض أن تكون العلاقة بين هذا العدد المحدود قائمة على الثقة التى لا تحتاج إلى رقابة ... ومفروض أيضا أنهم قد يتناقشون فى أمور بالغة السرية ... ولذا فإن لمراقبة بعض هذه التليفونات يؤكد أن سامي شرف كان يريد التعرف على حركة وأفكار الذين لا يستريح إليهم , أو يريد شيئا ما لهم .
يروى أنور السادات فى كتابه ( البحث عن الذات ) وموسى صبري فى كتابه ( وثائق 15 مايو ) أن سامي شرف وزير رئاسة الجمهورية , قد قام بعرض تسجيل لبعض المكالمات التليفونية على أنور السادات , ولكنه طلب ألا يعرض عليه شيئا منها مستقبلا إلا ما يتصل بأمن الدولة .
ويقول السادات فى كتابه ( وقبل خروجه – أى سامي شرف – كنت قد أصدرت أمرى إليه بإلغاء جميع المراقبات التليفونية , وأن لا تتم أى مراقبات إلا بأمر القضاء وفعلا تم هذا ) . ويقول شعراوي جمعة إنه كان على علم بوجود تسجيلات للمخابرات ولكنه يؤكد أنه لم يكن يعرف أسلوب تنفيذها ... ولم يكن يعرف أسماء الشخصيات الموجهة ضدها هذه المراقبة ... وقد كانت لشعراوى مراقبة خاصة تقوم بها المباحث العامة كإجراء روتينى ضرورى لحماية أمن الدولة دون إذن من النيابة العامة .
وبدأ سامي شرف الخروج إلى دائرة الضوء , فقام بأدوار سياسية هامة فى المجال العربى حيث سافر أكثر من مرة إلى سوريا ولييا , كما حرص على زيارة الاتحاد السوفيتى ضمن الوفد المصرى لحضور مؤتمر الحزب الشيوعى فى شهر إبريل 1970 حيث استطاع مقابلة بريجينيف على انفراد محاولا تأكيد قيمته ودوره عند القادة السوفييت ... وهو أمور لم يكن يمارسها أو يعهد إليه بها فى عهد عبد الناصر .
وبدأت الصحف فى مصر والخارج تنشر له مقالات وأحاديث خاصة يتحدث فيها بلهجة الشخص المسئول . ويبدو أن هذه الحالة قد بعثت مشاعر الثقة الزائدة عن الحد فى نفس سامي شرف أصغر الورثة سنا , فقد عرف سامي شرف أن السادات قد اتصل بقائد الحرس الجمهورى اللواء محمد الليثي ناصف , وطلب منه اعداد خطة الدفاع عن القاهرة التى وضعت فى عهد عبد الناصر لتكون جاهزة للتنفيذ ... ومع ذلك فلم يفعل شيئا , واثقا فيما يبدو – من أن ابلاغ الليثى ناصف له معناه موت المحاولة ... وقد أبلغ سامى هذه الواقعة إلى أحمد كامل , دون اتخاذ أى موقف حيال هذا التهديد المباشر الناتج من اتفاق رئيس الجمهورية مع رئيس الحرس الجمهورى خلف ظهره , لتنفيذ خطة تحركات لجانب من القوات المسلحة .
ولا تفسير لهذا الموقف إلا أن سامي شرف لم يتوقع أن توجه له ضربة من جانب أنور السادات ... بل إن الضربات التى لا يمكن أن يوجهها قد تضعف أو تبعد بعض المنافسين له ... ولذا كانت الثقة المبالغ فيها هى رد على هذا التدبير الذى وصل إلى أذنيه فلم يحرك فيه شيئا .
ولكن إقالة علي صبري ... والطريقة التى تمت بها , كانت بمثابة الصدمة الكهربائية التى أيقظت أفراد هذه المجموعة من خدر الاستكانة إلى سلطة الوظيفة وأنبتت بينهم شعورا بالقلق , غلب على شعور الرضا الذى استقر فى نفوس البعض منهم.
وبدأت الحركة تخرج إلى التفكير فى مواجهة رئيس الجمهورية .
جاء هذا التفكير متأخرا ... وعلى أساس من عدم الثقة .
ودعيت الأمانة العامة لطليعة الاشتراكيين إلى اجتماع خاص صباح يوم 12 مايو فى مكتب شعراوي جمعة بمقر الحكومة المركزية فى هليوبوليس , حاولوا إحاطته بالسرية بإبعاد عرباتهم بعد الحضور . ولم تكن اجتماعات الأمانة تتم بطريقة منتظمة ... تماما كما كانت اجتماعات اللجنة التنفيذية لا تعقد بصفة منتظمة .
لم تجتمع الأمانى منذ وفاة عبد الناصر سوى مرتين ... وكان هذا الاجتماع ثالثهما .
وكانت النقطة الوحيدة فى جدول أعماله هى مواجهة أنور السادات .
حضر هذا الاجتماع شعراوي جمعة وسامي شرف ومحمد فايق وحلمى السعيد وأحمد كامل وأحمد شهيب وسعد زايد ومحمود أمين العالم ويوسف غزولي ومحمد عروق .
وشرح شعراوي جمعة فى بداية الاجتماع حصيلة ما حدث بينه وبين أنور السادات عندما التقى به صباح 2 مايو عندما حاول تصفية الموقف أو تهدئته ... ويلاحظ أن ذلك كان بعد عشرة أيام من المقابلة .
ذكر شعراوى أنه فسر للسادات موقفه فى اللجنة المركزية وعدم اعتراضه على حديث علي صبري – كما يرجو أنور السادات – وذلك حتى لا تحدث فرقعة فى اللجنة تعكس على الجماهير .. كما ردد ما قاله للسادات وما ذكرناه سابقا من أن إقالة علي صبري قبل حضور روجرز سوف تعتبر عربونا للزيارة , وإذا تمت بعدها سوف تعتبر ثمنا لها .. وقال أيضا إنه أبلغه بعدم اعتراضه على الاقالة وإنما على التوقيت .
وقال شعراوى إنه فوجىء رغم هذ الحديث , ووعد السادات له بالتفكير ... بصدور قرر الاقالة فى الخامسة من مساء نفس اليوم .
كما أبلغ شعراوى المجتمعين برغبة السادات فى إعادة تشكيل الإتحاد الإشتراكى حيث يعتبر الموجودين أنصارا لعلي صبري ... ووعد شعراوى له بدراسة الموضوع .
وصارح شعراوى أعضاء اللجنة بأنه يطرح الموضوع للمناقشة لتحديد خطة التحرك السياسى مبديا اعتراضه على فكرة حل الإتحاد الإشتراكى , وإدانته لسياسة التقرب من أمريكا التى لن تؤدى – حسب رأيه – إلى حل للمشكلة أو سلام عادل .
واختلفت المواقف بين آراء أعلنها سعد زايد وأحمد شهيب من ضرورة التخلص من أنور السادات ... وبين آراء تطالب بالنشاط وسط الجماهير كما طلب محمود العالم ... أو النزول للعمل السرى كما طلب يوسف غزولي .
وانتهى الاجتماع دون تحديد خطة للعمل , أو الاتفاق على اتخاذ إجراء معين واكتفى بتشكيل لجنة من أحمدشهيب ويوسف غزولي ومحمد عروق لوضع أسلوب الحركة فى الفترة المقبلة .
إنفض الاجتماع الهام الذى حاولوا إحاطته بالسرية , دون اتخاذ قررارات أو بلورة آراء ... بعد أن قال شعراوي جمعة إنه يستبعد أى إجراء ضده يتخذه أنور السادات .
كانت هذه هى أول مرة تناقش تصرفات رئيس الجمهورية فى اجتماع تنظيمة على هذا المستوى ... حيث كانت الأمانة العامة لطليعة الاشتراكيين تعتبر هى القلب المحرك للاتحاد الاشتراكى وأجهزته المختلفة ... وفيها يجتمع وزير الداخلية ووزير الاعلام .
وكانت إثارة هذا الموضوع بصفة علنية دليلا على أن الكيل قد فاض بهذه المجموعة التى عانت من المواقف الفردية لرئيس الجمهورية ... ثم تلقت ضربته بإقالة علي صبري بعد رفضه كافة محاولات التهدئة .
ومحاولى عقد الاجتماع بصورة سرية يظهر أنه كان خطر من وجود عيون لرئيس الجمهورية قد تبلغه بما يدور ... وهو حذر مشروع .
انفض الاجتماع دون نتيجة أو قرار ... وذلك لأن الأمانة لم تكن قد عقدت أى اجتماع منذ شهر مارس , وبذا لم تكن الأفكار مهيأة لمناقشة هذا الموضوع الخطير أو اتخاذ قرار فورى فيه .
ولوكانت الاجتماعات تعقد بصفة دورية متظمة , ويتوفر لها جدول أعمال واضح , وتناقش فيها كافة المواضيع السياسية بحرية كاملة , ويشعر الأعضاء أنهم مشاركون فى بناء تنظيم ديمقراطى لاختلف الوضع تماما ... حيث كانت الخلافات سوف توضع على المائدة فى وقتها , وتتبلور حولها وجهات النظر , وتخلق وحدة فكرية وإدارة تنظيمية واحدة .
انفض الاجتماع وفى الصدور رغبة مكبوتة فى التخلص من أنور السادات لا يريد أحد التعبير عنها فى اجتماع تنظيمى لا يضمن الثقة الكاملة فى أعضائه .
يظهر ذلك موقف سامي شرف فى هذا الاجتماع عندما اعترض على أصحاب الرأى المنادى بالتخلص من أنور السادات فورا ... ويقول أحمد كامل فى التحقيق معه أن سامى اعترض قائلا ( إذا كان الكلام حيكون كده بلاش نتكلم بقى ) ويعلق بأن سامى لم يكن يقصد معارضة التخلص من السادات , وإنما معرضة الأسلوب الصريح فى الكلام .
وقال أحمد شهيب إنه عندما اقترح التخلص من السادات واستعداده للذهاب لاعتقاله حيث كان معروفا من ضباط الحرس , قال ل شعراوى ( انت تريد أن تتصرف مثل الضباط الأحرار ) .
وهكذا انفض الاجتماع ... وبدأ شعراوي جمعة يتلمس نبضات جديدة للرأى العام .
مساء يوم 12 مايو فوجئت به يطلبنى تليفونيا لمقابلته فى مكتبه بوزارة الداخلية وكانت علاقتى به ما زالت علاقة الأصدقاء رغم إبعاده لى من الأمانة العامة , وتدبيره لاسقاطى فى انتخابات الإتحاد الإشتراكى , وكثيرا ما كنت أتصل به وأناقش معه موضوعات عامة كثيرة .
وفى هذه المقابلة سألت شعراوى عن هذا الضجيج الذى يطغى على كل احاديث المجتمع حول خلافات مع السادات ... وقال شعراوى إنه يبذل جهده لتسوية وتهدئة الأمور ولكن حسين الشافعي يشعلها .
أذكر أننى قلت لشعراوي جمعة إن أحدا لو أبعد عن السلطة , فإن كرسيا لن يتحرك فى مقهى من مقاهى القاهرة ... وفاجأنى رده بالقول إنه حتى حل الإتحاد الإشتراكى فإن أحدا لن يتحرك ضد هذا الاجراء .
وتلقى شعراوي جمعة مكالمة تليفونية أثناء جلوسى معه بأن السادات قد قرر إلغاء زيارته إلى دمنهور والإسكندرية وهى الزيارة التى كان مقررا أن يفتتح فيها محطة طلمبات فى البحيرة , ويزور فيها جامعة الإسكندرية ... والتى دبر له فيها أن يستمع إلى أصوات معارضة رتبها أعضاء الأمانة . وتحدثت معه بحرص الصديق على سلامته طالبا منه أن يكون عل حذر وألا يأخذ الأمور ببساطة ... ولكنه قال إن السادات لا تصله تقارير المباحث العامة وأن كثيرا من الأمور محجوب عنه .
وخلصت من المقابلة أيضا أن شعراوى يريد أن يتعرف على رأى اليسار فى الموقف بأسلوب غير مباشر .
وخرجت من المقابلة وقلبى ثقيل واعتقادى أن شيئا ما يختمر بعيدا عن الجماهير والتنظيم ... هناك فى كواليس السلطة .
ويؤكد رغبة شعراوى فى التعرف على رأى اليسار دعوته للدكتور فؤاد مرسي لمقابلته فى مكتبه بوزارة الداخلية صباح 13 مايو – أى اليوم التالى مباشرة ومناقشته الموقف معه , دون دخول فى تفاصيل تكثف احتمالات صراع قريب .
ويقول الدكتور فؤاد مرسي إن شعراوي جمعة كان هادئا ... لا يتوقع حدوث مفاجأة ... محاولة الاتصال باليسار تأتى متأخرة ... وفى اللحظة الأخيرة .
وكانت القوى اليسارية الشيوعية التى انضوت تحت تنظيم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى والحزب الشيوعى المصرى , والى حلت نفسها عام 1965 بعد العرض الذى قدمه عبد الناصر لانضمامها إلى طليعة الاشتراكيين , ثم تراجعه عن ذلك كما أوضحت فى الجزء الخامس ( خريف عبد الناصر ) .
هذه القوى كانت قد بدأت تتلمس أسلوبا جديدا تشق به طريقها الخاص بعد ما كشفته الهزيمة فى يونيو 1967 , وما أحدثه غياب عبد الناصر بعد ذلك ...
لم يعرف شعراوي جمعة أنه فى ذلك الصباح , وربما أثناء هذه المقابلة كان أنور السادات قد بدأ فى تنفيذ خطته للاحاطة به .
الباب الثالث : مؤامرة مايو
( الأسد الميت يرفصه حتى الحمار ) مثل ألمانى .
الجولة الأخيرة ...
كانت الأمور تتحرك بسرعة نحو الصدام الحتمى ... أفراد المجموعة الناصرية بدأوا التفكير فى طريق للخلاص من أنور السادات دون أن يستقر أمرهم على شىء ... وكان أنور السادات قد بدأ يقتحم الجولة الأخيرة , ومطمئنا إلى أن إقالته لعلي صبري لم تحدث شيئا من ردود الفعل الخطيرة أو المقلقة .
كل ما حدث ... كان غضبا من جانب علي صبري ... وعتابا أو شبه عتاب منه لسامي شرف وشعراوي جمعة لأنهما لا يتحركان ... ومحاولة من جانبهما لتهدئته وإعطائهما الفرصة لتدبير أمر ما ... وكتابا صدر منه يوم 3 مايو إلى عبد المحسن أبو النور بصفته أمينا عاما للاتحاد الاشتراكى قال فيه بعد عرض موجز لما حدث :
( أستخلص من هذا أن كل من يريد أن يبدى رأيه بصراحة تستهدف مصلحة الوطن ويتعارض رأيه مع وجهة نظر رئيس الجمهورية يناله العقاب .
لذلك فإنى أرى - والوضع على ما هو عليه وعلى ما سارت عليه الأمور- أن الأمر يستوجب أن أتقدم باستقالتى من عضوية اللجنة التنفيذية العليا ... أقدمها إلى اللجنة المركزية التى انتخبتنى فى هذا المنصب .
رجاء عرض استقالتى هذه على اللجنة المركزية لتنظر بما تراه , وإنى أرجو أن تعملوا على عقد اللجنة المركزية فورا , كما أرجو أن توزعوا خطابى هذا إليكم على جميع الأعضاء .
توقيع : علي صبري عضو اللجنة التنفيذية العليا )
كان علي صبري يريد أن ترفض اللجنة المركزية استقالته وتعطيه ثقتها فيكون فى ذلك حجب غير مباشر عن الثقة فى السادات .
لم يجمع عبد المحسن أبو النور اللجنة المركزية ... ولم يتحمس لذلك بدعوى الأمل فى التهدئة , بل وعلق على خطاب علي صبري بأنه كلام فارغ ) وذلك فى الاجتماع الذى دعا إليه أنور السادات أعضاء اللجنة التنفيذية العليا لمقابلته فى منزله مستثنيا من الدعوة علي صبري وضياء الدين داود , وداعيا معهم سامي شرف رغم أنه لم يكن عضوا باللجنة العليا .وفى هذا الاجتماع توجه أنور السادات مع الدكتور لبيب شقير إلى مستشفى مجدى لعيادة ابن الدكتور شقير الذى كان قد أجرى جراحة المصران الأعور .
لم يكن شعراوي جمعة يشعر بالقلق أو الخطر يوم اجتماع أمانة طليعة الاشتراكيين يوم 12 مايو , وكان يستبعد أن أن يتخذ السادات أى إجراء ضده .
ولكن الأحداث كانت تتحرك بسرعة .
استمع الرائد طه زكى المسئول عن مراقبة التليفونات بالمباحث العامة بوزارة الداخلية بعض التسجيلات التى كانت تتم بأمر من وزير الداخلية , واستشعر منها هجوما على رئيس الجمهورية ... فقرر أن يبلغه ذلك .
اتصل طه زكى بالعقيد محمد جاد المولى رئيس قسم الضباط بإدارة كاتم الأسرار ... الذى اتصل بدوره بحسن رشوان سليمان مسئول تجميع معلومات الشرق الأوسط فى المخابرات العامة وذلك يوم 8 مايو .
واتفق الثلاثة على أن يكون وسيلتهم للاتصال بالسادات هو زوج شقيقته الرائد أحمد طه الذى دبر لقاء بين فوزى عبد الحافظ سكرتير رئيس الجمهورية وبينه هو وطه زكى يوم 9 مايو .
وفى يوم 11 مايو أحضر طه زكى أشرطة التسجيل حيث حملها معهما فوزى عبد الحافظ إلى مكتبه فى منزل أنور السادات , حيث عرضت عليه لسماعها بعد منتصف الليل , عقب توفير جهاز تسجيل له نفس الذبذبة , وذلك حسب رواية موسى صبري فى كتابه ( وثائق ثورة مايو ) .
لم يطق السادات صبرا بعد سماعه التسجيل الذى التقط حديثا تليفونيا بين فريد عبد الكريم المحامى وأمين الإتحاد الإشتراكى بالجيزة , ومحمود السعدنى رئيس تحرير صباح الخير , والصحفى المقرب فى ذلك الوقت لشعراوي جمعة ... وقرر توجيه ضربة قاضية .
كان الحديث يروى تفاصيل ما دار فى اجتماع اللجنة المركزية , ويتحدث عم محاصرة الإذاعة خلاله , ويوجه سبابا وألفاظا ساخرة ضد رئيس الجمهورية .
وقرر السادات أن يتخلص من شعراوي جمعة ... وكان قد استقر رأيه على ذلك عندما بلغه أنه يعارض فكرته فى حل وإعادة انتخاب تشكيلات الإتحاد الإشتراكى ... ولكنه ظل يتحين الفرصة المناسبة .
وكان مفروضا حسب حديث له مع سيسكو سجلته المخابرات العامة فى السفارة الأمريكية من حديث بين سيسكو ودونالد برجس .. كان مفروضا أن يتخلص أولا من الفريق أول محمد فوزي الذى كان يلح عليه بتحديد موعد المعركة نظرا لاستعداد القوات , وهو ما لم يكن راغبا فيه ... ومحمود رياض وزير الخارجية الذى كان يصرح دائما بأن سياسة الحكومة الأمريكية لا تتغير , وهو ما لم يكن السادات موافقا عليه أو راضيا عنه .
قرر أنور السادات الاسراع فى إقالة شعراوي جمعة حتى يتخلص من رجل يمك أن يسبب له المتاعب لمسئوليته عن وزراة الداخلية وعن الجهاز السياسى للاتحاد الاشتراكى .
وقبل أن يتخذ هذا الاجراء كان قد جذب إليه اللواء محمد الليثي ناصف قائد الحرس الجمهورى حيث قابله فى استراحة القناطر , وأوقع بينه وبين الآخرين بقوله إنهم يرشحونه لمنصب محافظ , ولكنه يفضل الاحتفاظ به قائدا للحرس ... ثم طلب منه الاستعداد لتنفيذ خطة كان قد أعدها جمال عبد الناصر لحماية القاهرة من أى انقلاب مضاد .
وفهم اللواء الليثى ناصف أنه ينوى التخلص من بعض العناصر المعوقة دون تحديد للسماء ... وأنه سوف يعتمد عليه فى حالة حدوث أى حركة مضادة من جانب هذه العناصر .
ولما كان اللواء محمد الليثي ناصف بعيدا عن الحركة السياسية منضبطا فى خدمة السلطة الشرعية , فقد أعلن موافقته على تنفيذ الأوامر التى تصدر إليه ... ولكنه أسرع كما ذكرنا بإبلاغ سامي شرف الذى كان بمثابة رئيسه المباشر فى حياة عبد الناصر وبعد موته , وكانت تربطهما إلى جانب ذلك عاطفة ود مشتركة .
ولم يتحول هذا الخبر عند سامي شرف إلى صدمة محركة . .. فقد اعتقد فى الغالب أن الضربة لن توجه ضده وإنما ضد علي صبري كما حدث فعلا بعد أيام ... لم يستشر أنور السادات أحدا فى إقالة شعراوي جمعة سوى محمد عبد السلام الزيات الذى قال لى أنه عرف بها قبل حدوثها بيومين ... وأن السادات كان يرشح لمنصب وزير الداخلية كلا من صلاح مجاهد محافظ دمياط أو ممدوح سالم محافظ الإسكندرية ... ولكنه رجح الثانى لأن الأول كان يتصل بضياء داود قريب حسن طلعت مدير المباحث العامة .
أرسل أنور السادات يستدعى ممدوح سالم صباح الخميس 13 مايو ليعينه وزيرا للداخلية ... ولم يغب الخبر عن سامي شرف ... وكثرت التوقعات إلى أن طلبه السادات وأبلغه بقرار إقالة شعراوي جمعة وتعييم ممدوح سالم ... وكان قد حلف اليمين القانونية فعلا بعد أن ذهب عضو مجلس الأمة محمود أبو وافية عديل أنور السادات إلى الدكتور محمود فوزي وأحضره من منزله بالهرم ليحضر حلف اليمين .
وكان محمود أبو وافية أحد أعضاء مجلس الأمة النشطين الذين تجمعوا خلال الفترة السابقة حول أنور السادات فى مواجهة المجموعة المسيطرة فعلا على مجلس الأمة , وأجهزة الدولة الرسمية .
واعتمد أنور السادات عليهم فى خلق رأى عام حوله سواء فى مجلس الأمة أو اللجنة المركزية أو يبلغ شعراوى وأن ينشر الخبر على أنه استقالة حفظا لماء الوجه .
انهار سامي شرف وغلبه البكاء ... فقد اكتشف أن أقرب العناصر إليه والذى كان يعتمد عليه إلى حد كبير فى السيطرة على أجهزة الأمن والدولة قد أقيل .. وشعر السادات أنه فى سبيل الانتصار النهائى ... فطلب من سامي شرف أن يتماسك ويقوم بأجازة لراحة أعصابه .
وذهب سامي شرف إلى مكتب الفريق أول محمد فوزي حيث كان شعراوي جمعة قد ذهب أيضا بعد سماعه خبر استدعاء ممدوح سالم للقاهرة , واستدعاء سامى لمقابلة السادات .
وعندما أبلغهم سامى خبر الاقالة , فوجىء شعراوي جمعة – حسب قوله – باقتراح سامي شرف بأن يقوم الجميع بتقديم استقالاتهم احتجاجا على الاقالة ... وأنه أن يتم التعاون بينهم كمجموعة وإما أن ينصرفوا إلى منازلهم كمجموعة أيضا .
انتشر الخبر وتوالى حضور عبد المحسن أبو النور وسعد زايد إلى مكتب الفريق أول محمد فوزي ... وقرر الجميع تقديم استقالاتهم فى تسرع ملحوظ . وكان سامي شرف قد اتصل بالسادات وأبلغه أن شعراوى يقول أنه تحت أمر الرئيس وأنه سوف يلزم داره فى هدوء .
وكان سامي شرف قد اتصل بالسادات وأبلغه أن شعراوى يقول أنه تحت أمر الرئيس وأنه سوف يلزم داره فى هدوء .
فكرة الاستقالة الجماعية نبتت بطريقة شيطانية فى ذهن سامي شرف وأوحى بها للآخرين فنفذوها فى انقياد غريب دون تفكير , إذ يبدو أن هول المفاجأة ( المحتملة ) قد شل فيهم التفكير خاصة وأنهم حتى هذه اللحظة لم يكونوا قد نسقوا أو اتفقوا على أى عمل للمقاومة أو لحماية أنفسهم .
ولم تكن فكرة الاستقالة بعيدة عن ذهن البعض منهم ... فكر فى ذلك ضياء الدين داود عندما دعيت اللجنة التنفيذية العليا للاجتماع بالسادات دون إخطاره ... وفكر فيها الفريق أول محمد فوزي عندما شعر بحرج موقفه نتيجة عدم توقيع السادات لأمر المعركة .
وفى حديث مسجل قال علي صبري لمحمد فايق عندما ابلغه ضياء الدين داود فى الاستقالة ( وبعدين أنا يعنى مش عايز استقالة جماعية , دى تبسطه قوى على الأقل مؤقتا تؤدى له هدفه ) .
وكان ممدوح سالم قد توجه إلى وزارة الداخلية حيث وجد أبوابها مفتوحة له بلا معارضة ... وقوات الحرس الجمهورى فى حالة طوارىء تؤدى دورها المرسوم لمساندة رئيس الجمهورية .
وكان إعلان نبأ استقالة شعراوي جمعة فى نشرة الساعة الثامنة والنصف مفاجأة حتى لبعض المسئولين .
أذكر أنه اجتمع فى منزلى فور سماع هذا النبأ وعلى غير موعد كل من محمد سليمان سفير السودان فى القاهرة , والمرحوم أمين الشبلي سفير السودان فى الجامعة العربية وأحمد فؤاد وكانت تربطنا صداقة طيبة وعلاقة وثيقة . وخلال جلستنا معا ومحاولتنا عبثا الاتصال بشعراوي جمعة أو غيره من المسئولين فوجئنا تماما فى نشرة الحادية عشرة مساء بنبأ استقالة عبد المحسن أبو النور وضياء الدين داود ودكتور لبيب شقير من عضوية اللجنة التنفيذية العليا وكل من الوزراء الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية , ومحمد فايق وزير الاعلام وسعد زايد وزير الاسكان , وسامي شرف وزير الدولة , وحلمى السعيد وزير الكهرباء وعلي زين العابدين وزير المواصلات .
كل هؤلاء كتبوا استقالاتهم وحمل أشرف مروان الاستقالات إلى أنور السادات حيث قابله قبيل الحادية عشرة مساء أى قبل إذاعة الخبر بعدة دقائق .
كان محمد عروق مدير صوت العرب قد غير البرنامج وأخذ يذيع أغانى وأناشيد وطنية قبل إعلان الاستقالات وبعدها .
كان آخر الذين غادروا مكاتبهم من الوزراء المستقيلين محمد فايق وزير الاعلام بعد أن اطمأن إلى إذاعة النبأ .
وكلف أنور السادات محمد عبد السلام الزيات فى العمل وزيرا للاعلام بالنيابة فى مواجهة موقف صعب لا يعرف فيه المؤيد من المعارض , وفى موقع ليست له به خبرة ... وفى ظروف عمل تحتمل كل الاخطار ... ولكنه أدى دوره بمقدرة أعادت للاذاعة طبيعتها .
رفض بعض الوزراء تقديم استقالاتهم مثل عبد اللطيف وزير العمل وحافظ بدوي وزير الشئون الاجتماعية ... وكذلك رفض أحمد كامل مدير المخابرات العامة , الذى فكر فى النزول إلى مكتبه , ولكنه تلقى مكالمة من اللواء أحمد إسماعيل رئيس الأركان السابق الذى أحيل إلى المعاش فى عهد جمال عبد الناصر عقب هجوم الإسرائيليين على شدوان , تلقى منه مكالمة تليفونية يبلغه فيها أنه عين مديرا للمخابرات العامة بدلا منه , وأنه يتحدث إليه من مكتبه ... وكان قد دخل فى حماية قوات من الحرس الجمهورى .
ذهب أحمد كامل إلى إدارة المخابرات لتهنئة أحمد إسماعيل وجمع أوراقه الخاصة فى مساء نفس اليوم .
كانت استقالة هذه المجموعة بلا مقدمات صدمة للمتعاونين معهم , وللمقتنعين بأفكارهم ومبادئهم ... تماما مثلما كانت استقالة مجلس قيادة الثورة فى أزمة مارس 1954 صدمة لضباط الصف الثانى الذين تكتلوا وحاصروا سلاح الفرسان وأجبروا أعضاء المجلس على البقاء فى مواقعهم . ولكن الموقف فى هذه المرة يختلف , لأن رجال الصف الثانى لم يكونوا من ضباط القوات المسلحة ولا يقبضون على السلاح ... وإنما كانوا منتمين إلى تنظيم طليعة الاشتراكيين .
ولذا فكروا فى أن ينزلوا إلى الجماهير فى محاولة لتحريضها على المقاومة والتظاهر ضد هذه القرارات ... ولكن قدرتهم على ذلك كانت محدودة , وموقفهم كان مثل رجل يحمل السلاح ثم يسلمه لعدوه ويبدأ بعد ذلك فى مقاومته ... فقد كانت الشرطة والقوات المسلحة قد انتقلت إلى قيادات جديدة أتيحت لها فرصة فريدة لبناء مستقبلها الخاص , إذ لا تربطها بالمستقيلين إلا روابط العمل الباردة .
كانت ظاهرة تقديم الاستقالات ثم محاولة المقاومة , ظاهرة غريبة وشاذة تدل على الاضطراب وعدم الاستقرار .
وتصادف أن كان اليوم التالى لاقالة شعراوي جمعة واستقالة الآخرين هو يوم الجمعة 14 مايو وفى أيام العطلة تخلو المصانع والمصالح من العمال والموظفين ولا يحتشد الناس إلا فى الجوامع حيث قامت فعلا عدة مظاهرات محدودة بدفع من المسئولين فى تنظيمات الإتحاد الإشتراكى ... ولكنها بدت غريبة على الجماهير التى لم تكن متفاعلة اطلاقا مع ما يدور فى كواليس السلطة من صراع .
لم تدرك الجماهير أن هناك تحولا يمكن أن يحدث فى مسار الثورة مرتبطا بإبعاد عدد من الأشخاص وأثبت الإتحاد الإشتراكى أنه عاجز عن قيادة الجماهير وتحركها , فبدت المظاهرات وكأنها فقاعات هواء تطفو على سطح فنجان ثم تتبدد .
ويقول شعراوي جمعة إنه منذ إقالته لم يطلب من أحد أن يتحرك للمقاومة بعد أن ضاعت الفرصة , وأنه كان فى سبيله للسفر إلى الإسكندرية .
ولكن أنور السادات وقد قدم خصومه اسلحتهم له , لم يتردد فى مواصلة التقدم للتخلص منهم نهائيا ودفعة واحدة ... فأصدر أمرا بتحديد إقامتهم يوم الجمعة ... وألقى بيانا على الناس من شاشة التليفزيون فسر لهم فيه الموقف من وجهة نظره منذ حدث الخلاف حول مشروع الاتحاد الثلاثى إلى اللحظة التى أصدر فيها أمرا بتحديد إقامتهم والتحفظ على بعض أعضاء مجلس الأمة قبل رفع الحصانة البرلمانية عنهم كما يقضى الدستور بذلك .
وتحركت مجموعة النواب المرتبطة بالسادات ونشطت بين الأعضاء ... ولعب محمد عبد السلام الزيات ومصطفى كامل مراد ومحمود أبو وافية وغيرهم دورا هاما فى تأليب النواب على رئيس المجلس ووكيليه .
وعقدت جلسة استثنائية للمجلس يوم 15 مايو تقرر فيها فصل الدكتور لبيب شقير رئيس مجلس الأمة , ووكيلى المجلس كمال الحناوى وعلي السيد وكل من النواب ضياء الدين داود , ومحمد فايق , وصبرى مبدى , وأحمد شهيبق , وعبد الهادي ناصف , وعلام عبد العظيم , وعبد العاطي نافع , وجابر عبد العزيز , ونبيل نجم , ومحمد البديوي فؤاد , وأحمد كمال الحديدي , وحمدي حراز , أحمد إبراهيم موسى , محمد عبد المنعم , ومتولي النمرسي .
لم يكن النصاب قانونيا فى جلسة مجلس الأمة إذ لم يتجاوز عدد الحاضرين 52 عضوا من 360 وفصل العضو يحتاج إلى أغلبية الثلثين .
وانتخب الأعضاء حافظ بدوي وزير الشئون الاجتماعية رئيسا للمجلس , ومعه مصطفى كامل مراد وكيلا للمجلس ... وأعلن عن خلو دوائر المفصولين .
وبادر البعض من الذين كانوا محسوبين على هذه المجموعة إلى إعلان الولاء للسادات , مثل أحمد الخواجة نقيب المحامين الذى طلب مقابلة السادات لتأييده فى موقفه ضد الآخرين ... فتحدد له موعد بعد بيان التليفزيون فى التاسعة مساء ... بينما يعتبر الخواجة ابنا شرعيا لهذه المجموعة .
شجع ذلك السادات على اتخاذ خطوات أخرى .
خرجت فى القاهرة مظاهرات عمالية , لعب الدكتور عزيز صدقى وزير الصناعة دورا بارزا فى إخراجها ... وارتفعت هتافات للسادات لأول مرة فى أنحاء العاصمة .
اتخذ السادات خطوات سريعة متلاحقة بعد قرار إقامة المستقلين وغيرهم ... أعاد تشكيل الحكومة فى نفس اليوم أيضا برئاسة الدكتور محمود فوزي ... ودخلها فى مكان المستقلين عبد القادر حاتم نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للاعلام بدلا من محمد فايق ... وممدوح سالم بدلا من شعراوي جمعة ... والفريق محمد أحمد صادق بدلا من الفريق أول محمد فوزي وزيرا للحربية ... والمهندس أحمد سلطان محافظ المنوفية وزيرا للكهرباء بدلا من حلمى السعيد , والمهندس علي السيد وزيرا للاسكان بدلا من سعد زايد , والمهندس سليمان عبد الحي بدلا من المهندس علي زين العابدين .
وتم استبدال عدد آخر من الوزراء الذين لم يستقيلوا , ولكنهم كانوا مرتبطين بالمستقيلين بعلاقات وثيقة .
وكانت المفاجأة هى تعيين الدكتور اسماعيل صبرى عبد الله نائبا لوزير التخطيط وكان وقتها مديرا لمعهد التخطيط , وفى رحلة بالخارج فى الاتحاد السوفيتى ... فقد كانت هذه هى المرة الأولى فى تاريخ ثورة يوليو التى يدخل فيها ماركسى وعضو قيادى فى تنظيم شيوعى سابق إلى مجلس الوزراء ... وهى خطوة لم تحدث فى عهد جمال عبد الناصر الذى تعاون مع عدد كبير من الماركسيين والشيوعيين , ولكن ليس فى مثل هذه المناصب السياسية البارزة . وصدر بعد أيام أيضا قرار بتعيين الدكتور فؤاد مرسي عضوا فى الأمانة العامة المؤقتة التى شكلت برئاسة الدكتور عزيز صدقى ... ويقول الدكتور فؤاد إن الذى اتصل به كان محمد حسنين هيكل .
وكان محمد عبد السلام الزيات الذى عين وزيرا للدولة متأثرا بعلاقته الخاصة مع صهره الدكتور محمد الخفيف الماركسى والشيوعى السابق ... فكان حريصا على اتخاذ النهج الاشتراكى مثل شقيقته الدكتورة لطيفة الزيات التى كانت عضوا نشطا فى حركة الطالبات الجامعيات عام 1946
أراد أنور السادات بذلك أن يجنب اليسار الماركسى من الدخول معه فى هذه المعركة التى أراد أن تكون مقصورة على ضرب العناصر المناوئة له فى جهاز الحكم والتى اصطلح على تسميتها باسم ( مراكز القوى ) .
عاد الهدوء إلى مصر
هكذا كانت الأمور فعلا بعد مظاهرات 15 مايو
وهكذا قال أنور السادات أيضا للذين هرعوا إلى القاهرة للاستفسار عن الموقف جعفر نميري واللواء خالد عباس قائد القوات المسلحة السودانية ... ونائب رئيس الجمهورية السورية ومعه نائب رئيس الوزراء أيضا ... واثنان من نواب رئيس وزراء ليبيا ومعهما وزير الارشاد .
تغيرت الوجوه فى مواقع المسئولية ومراكز السلطة .
وبقى كل شىء هادئا فى مصر
نقل المستقيلون ومعه علي صبري إلى السجون
وبدأت تتشكل خيوط المؤامرة وتظهر فكرة المحاكمة
ولا شك أن استقالة وزير الحربية مع المستقيلين قد أضفت على العملية نوعا من الرهبة ... لأنها أدخلت القوات المسلحة فى هذه العملية غير المحسوبة .
ويمكن القول بأن أنور السادات قد خرج منتصرا فى هذه الجولة الأخيرة انتصارا يفوق كل التوقعات ... وأن خطته التى دبرها للاطاحة بخصومه قد نجحت نجاحا كاملا .
ولكنه لم يتوقف عند هذه الاجراءات الادارية وحدها ... كان يريد تصفية فكرية أيضا ...
المحاكمة:
بعد أن اطمأن أنور السادات إلى أن معظم العناصر التى استهدفها قد أصبحت خلف القضبان , وأن ممدوح سالم قد أصبح فى مكتب وزير الداخلية , والفريق محمد أحمد صادق وزيرا للحربية , واللواء أحمد إسماعيل الذى كان رئيسا سابقا لأركان حرب القوات قد أصبح مديرا للمخابرات العامة , ومحمد عبد القادر حاتم وزيرا للاعلام , ظهر عندئذ على شاشة التليفزيون مساء 14 مايو يخاطب الجماهير من قصر القبة ... وكان يجلس معه فى نفس الغرفة بعيدا عن عدسة التليفزيون كل من حسين الشافعي ومحمد حسنين هيكل .
وهذا يظهر أن اللقاء جديدا بين الأشخاص بدأ يتم على أساس المصالح المشتركة ... فحسين الشافعي الذى اعترض فى البداية على ترشيح السادات وجد أنه أقرب من المجموعة الأخرى ... وكذلك محمد حسنين هيكل .
ولعل حسين الشافعي كان سببا من الأسباب غير المباشرة لسرعة تعيين جمال عبد الناصر لأنور السادات كنائب لرئيس الجمهورية ... ذلك أن حسين الشافعي كان قد طلب من سامي شرف أن يبلغ جمال عبد الناصر أن حسين يطالب بتعيينه فى المنصب الخالى كنائب لرئيس الجمهورية ثقة منه فى نفسه , واعتبارا منه بأنه أحق بالمنصب من أنور السادات ... وهنا أبلغه سامي شرف أن هذا الأمر لا يستطيع أن يتوسط فيه وأن حسين الشافعي يجب أن يتصل بعبد الناصر شخصيا .
ورغم ذلك ولأن سامي شرف لم يكن يخفى شيئا عن عبد الناصر فإنه بلغه رجاء حسين الشافعي كان له رد فعل معاكس أدى إلى سرعة تعيينه لأنور السادات نائبا لرئيس الجمهورية وتم ذلك صباح سفره إلى الرباط ودون وجود مصور أو أى إجراءات رسمية وفى حضور حسين الشافعي الذى فوجىء بذلك كما ذكرنا سابقا .
قدم أنور السادات خطبة طويلة فى صورة حديث مفتوح استمر اكثر من ساعتين شرح فيه للمستمعين قصة الخلاف من وجهة نظره , منذ بدأت فكرة الاتحاد إلى أن وضع المعتقلين خلف القضبان .
مازال الإتحاد الإشتراكى – على حسب تعبير أنور السادات فى خطبة 14 مايو – هو ( الصيغة اللى يجب أن نتمسك بها جميعا هى تحالف قوى الشعب , لا أحزاب تصلح لنا , ولا طريقة الحزب الواحد تصلح لنا ) .
ومع ذلك فهو يعلن عن ضرورة إعادة الانتخابات فى الإتحاد الإشتراكى .. وينقد أسلوبها القديم غامزا بقوله ( بصراحة مش بالأسلوب اللى تم الدور اللى فات لا وانتو فاهمين ) ... ثم يغازل جماهير الشعب التى خرجت يوم 9 و 10 يونيو قائلا ( أنا عايز انتخاب حر , أنا عايز جماهير 9 و10 يونيو اللى طلعت وما حدش طلعها ) ...ويؤكد ( لن أرحم أحد يحاول يزور فيها أبدا ) .
وهو يصور ما حدث بأنه مؤامرة على الجبهة الداخلية , وهنا استخدم تعبيرا جديدا لم يستخدم من قبل فى الحياة السياسية المصرية سواء قبل أو بعد ثورة يوليو إذ قال :
أنا قلت لأولادى فى إنشاص – يقصد الضباط – إن اللى حيحاول يعمل شىء فى الجبهة وراكم هأفرمه ... اللى حيحاول يعمل شىء فى الجبهة الداخلية ووحدتنا الوطنية اللى صنعها شعب 9 و 10 يونيو مش حفرط فيها , وحافرم كل انسان – إذا اقتضى الأمر – يتعرض لها ) .
كلمة ( الفرم ) كانت جديدة ... وكانت فى ذلك الوقت مجالا للتندر , ودليلا على النية فى استخدام الشدة عند الحاجة .
وتابع السادات أسلوبه الذى تميز به بعد ترشيح مجلش الشعب له لمنصب رئيس الجمهورية من مقابلة مندوبى الطوائف والهيئات والظهور معهم عل شاشة التليفزيون ... فقد استقبل يوم 14 مايو وفدا من رجال القضاء , ووفدا من المحامين , ويوم 16 مايو وفدا من علماء الأزهر , ويوم 17 مايو وفدا من ضباط الشرطة إلى أن وقف على منبر مجلس الشعب يوم 20 مايو 1971 .. حيث أعلن عن نيته بتكليف مجلس الشعب وضع دستور جديد دائم لمصر ... وكان جمال عبد الناصر يؤجل ذلك إلى ما بعد إزالة آثار العدوان .
وفى هذا الخطاب ترددت كلمة ( العيب ) لأول مرة عندما تحدث عن بعض ما حوته الأشرطة من أحاديث تسجيل فضائح شخصية ... وتحدث أيضا عن واقعة سرقة خزانة جمال عبد الناصر التى أبلغتها إليه هدى عبد الناصر ... وأشار إلى طموحه فى أن تكون مصر مثل مجتمع القرية .
ووقع فى هذا الخطاب شىء مثير إذ قال أنور السادات فجأة وهو يكلف مجلس الأمة بوضع دستور جديد هذه الكلمات :
( ومن هنا يجب أن تتأكد سلطة مجلس الشعب – اللى هو مجلس – ما هو اتغير اسمكو ... بقى اسمه مجلس الشعب ) .
هكذا فجأة وبلا مقدمات تحول اسم مجلس الأمة إلى مجلس الشعب .
خلال هذه الخطب المتكررة السريعة تبين أن أسلوب أنور السادات قد بدأ يفرض نفسه ... وأن جمال عبد الناصر لم يعد يحكم بعد أن ضمه القبر , وسجن بعض العاملين معه ممن ارتبطوا به فى حياته , واعتمدواعلى اسمه بعد مماته .
وانعكس ذلك على الاعلانات التى غطت صفحات الصحف فى اليوم التالى وبدأت تنشر اسم أنور السادات وحده بالبنط العريض , وقليلة هى الاعلانات التى أشارت إلى جمال عبد الناصر .
أسلوب أنور السادات بدأ يتضح تماما ... إذ أن هدم البناء التنظيمى للاتحاد الاشتراكى وإعادة الانتخابات فيه من القاعدة إلى القمة دون استفتاء قانونى هو أمر يتعارض تماما مع نص المادة 29 من الدستور ... والتهديد ( بالفرم واستخدام منتهى القسوة ) أعاد إلى الأذهان فترات مرت بالثورة كانت المعتقلات فيها هى أسلوب التعامل مع الأعداء السياسيين من الوفديين إلى الشيوعيين والاخوان المسلمين ... وبدأت مطاردة أعضاء ( الجهاز السياسى ) فى الإتحاد الإشتراكى ( طليعة الاشتراكيين ) باعتبارهم أعضاء فى ( جهاز سرى ) وليسوا أعضاء فى جهاز نص عليه الميثاق .
ثم هذه القرارات المفاجئة التى تحدث صدمة غير متوقعة مثل ضرورة وضع ( دستور دائم ) ثم تغيير اسم مجلس الأمة ليصبح مجلس الشعب , وإصدار قرار بأن يتحول إلى لجنة مركزية ( مؤقتة ) للاتحاد الاشتراكى بعد صدور قرار حله تمهيدا لإعادة انتخابه .
كل هذه القرارات أشعرت الناس أن أنور السادات أصبح هو الذى يحكم ... وليس اسم جمال عبد الناصر .
وخلال هذه الفترة كانت التحقيقات قد بدأت تتم مع المعتقلين , بوساطة النيابة العامة وكان منصب النائب العام هو أحد المناصب الهامة التى لحقها التغيير فقد صدر قرار يوم 14 مايو بتعيين محمد ماهر حسن نائبا عاما بدلا من علي نور الدين ... وكان ذلك ضمن قائمة تعيينات جديدة شملت أشرف مروان ليكون سكرتيرا للرئيس لشئون المعلومات بدلا من سامي شرف , ومحمد دكروري عين أمينا عاما للاتحاد الاشتراكى بالنيابة بدلا من عبد المحسن أبو النور , ويحيى عبد القادر الذى تولى منصب رئيس هيئة الاستعلامات بدلا من منير حافظ وذلك إلى جانب رئاسته لاتحاد الاذاعة والتليفزيون والفريق سعد الشاذلي رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة .
وبدأت النيابة العامة تحقيقاتها ونشرت الصحف يوم أو يونيو أن النائب العام محمد ماهر حسن سوف يلقى بيانا عن (المؤامرة ) أمام المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى أثناء انعقاده فى 23 يوليو ... ولكن ذلك لم يحدث أبدا .
لم يجد النائب العام محمد ماهر حسن فيما قدم له من اتهامات ما يشكل جريمة يعاقب عليها القانون ... فاستقالة الوزير ليست محرمة قانونا , والمعلومات التى حقق فيها لا توفر إطارا صالحا للمؤامرة .
وعندما صارح النائب العام محمد ماهر حسن الرئيس السادات بوجهة نظره تطوع الدكتور مصطفى أبو زيد عضو اللجنة المركزية والاستاذ بكلية حقوق جامعة الإسكندرية بوجهة نظر تفيد بأنه يرى فيما تم , جريمة خيانة عظمى .
وهنا استأذن السادات من النائب العام أن ينقل التحقيق إلى الدكتور مصطفى أبو زيد وصدر قرار بتاريخ 6 يونيو 1971 بتعيين الدكتور مصطفى أبو زيد فهمى الاستاذ بجامعة الإسكندرية الذى وقف مع أنور السادات فى اجتماع اللجنة المركزية فى إبريل 1971 ... فى منصب جديد أنشىء لأول مرة هو منصب المدعى العام الاشتراكى والذى تحدد اختصاصه فى أنه ( سيتولى مهمة الادعاء فى قضايا سلامة الشعب وقضايا إفساد الحياة السياسية أو تعريض الوحدة الوطنية للخطر , كما يتولى الادعاء فى قضايا الحراسة ) .
أول قرار أصدره المدعى الاشتراكى العام كان التحفظ على أموال وممتلكات علي صبري وسامي شرف وأمين هويدي والفريق محمد فوزي , ومحمد فايق , وعبد المحسن أبو النور , ومحمد سعيد ... ثم شعراوي جمعة وضياء الدين داود وفريد عبد الكريم ومحمود السعدنى وحرمه .
وتمسكا بمنصب النائب العام نشرت الصحف يوم 25 يونيو خبرا يقول بأنه سيعلن نتائج التحقيق أمام مجلس الشعب ... ولكن ذلك لم يحدث أيضا , فالتحقيقات كانت قد نقلت من مكتبه فعلا , وأصبح المدعى الاشتراكى عو المسئول عن هذه القضية .
وأخيرا اضطرت الصحف إلى إعلان هذه الحقيقة عندما نشرت بتاريخ 11 يوليو 1971 أن النائب العام قد أحال جميع أوراق التحقيقات إلى المدعى العام الاشتراك لإعداد تقريره عنها فيما يتعلق بحوادث الإفساد السياسى وعقد د . مصطفى أبو زيد فهمى مؤتمرا صحفيا يوم 31 يوليو سلطت فيه عليه عدسات التليفزيون وهو يوجه الاتهامات للمعتقلين .
وتقرر أن تقدم القضية إلى محكمة خاصة اسمها ( محكمة الثورة ) أعلن تشكيلها يوم 22 يوليو 1971 برئاسة حافظ بدوي الذى كان وزيرا للشئون الاجتماعية ثم اصبح رئيسا لمجلس الأمة ( الشعب بعد ذلك ) عقب إبعاد الدكتور لبيب شقير من رئاسة المجلس واعتقاله ضمن المعتقلين , وعضوية بدوى حمودة رئيس المحكمة العليا , والضابط السابق حسن التهامي الذى عينه جمال عبد الناصر سكرتسرا لرئاسة الجمهورية ثم أصبح بعد وفاته مستشارا برئاسة الجمهورية .
تشكيل المحكمة الخاصة كان يبدو غريبا على جو ثورة يوليو فقد انتهت فترة الانتقال التى اتسمت بتشكيل عدم محاكم خاصة حملت أسماء مختلفة مثل محكمة الغدر لمحاكمة بعض المنحرفين , ومحكمة الثورة لمحاكمة المعتقلين من رجال الأحزاب السابقين , ومحكمة الشعب لمحاكمة الاخوان المسلمين .
اختار أنور السادات أن يطلق على المحكمة اسم ( محكمة الثورة ) .
كان يبدو عهد المحاكم الخاصة قد انتهى إلى أن أعيد تشكيل هذه المحكمة التى اختلف تشكيلها عن سائر المحاكم السابقة التى كان أعضاؤها دائما من العسكريين أعضاء مجلس قيادة الثورة .
أما هذه المحكمة فقد شملت عسكريا واحدا كان من الضباط الأحرار هو حسن التهامي الذى اشترك قبل الثورة مع جمال عبد الناصر وحسن إبراهيم وكمال رفعت فى محاولة اغتيال اللواء حسين سري عامر قائد سلاح الحدود يوم 8 يناير 1952 , ثم بعدت صلة حسن التهامي عن مركز الثورة , وعين سفيرا فى النمسا , حيث بدت عليه اهتمامات غيبية كانت موضع ملاحظة الذين يتصلون به , إلى أن سابقة بأنور السادات حيث عمل الاثنان معا فى المؤتمر الاسلامى خلال فترة الخمسينات قبل انتخاب أنور السادات وكيلا ثم رئيسا لمجلس الأمة .
أما حافظ بدوي رئيس المحكمة فقد كان أمينا للاتحاد الاشتراكى فى محافظة كفر الشيخ ثم وزيرا للشئون الاجتماعية , واشتهر عنه اسم حافظ ( الميثاق ) لأنه كان يحفظه تقريبا عن ظهر قلب ... وكان فى موقعه كوزير مطوعا للمسئولين سواء فى الوزارة أو فى الإتحاد الإشتراكى .
عضو اليمين بدوى حمودة كان رئيسا لمجلس الدولة ثم وزيرا للعدل ... ثم رئيسا للمحكمة الدستورية العليا .
هكذا بدأت المحاكمة بعد اعتقالات مفاجئة لعدد من كبار المسئولين , اضطر بعضهم إلى خلع ملابسهم كاملة والوقوف عرايا فور دخولهم إلى زنانين معتقل القلعة من أجل التفتيش ... وهو أمر لم يحدث من قبل مع المعتقلين من أبناء ثورة يوليو .
صحيح أنه كانت هناك تجاوزات قاسية وعمليات تعذيب ارتكبت ضد المعتقلين من الشيوعيين والاخوان المسلمين , ولكن وقفت حدود ذلك عند رجال ثورة يوليو ... ولذا كانت صدمة نفسية شديدة لهم أن يضطروا إلى خلع ملابسهم كاملة لمدة لحظات ... وكانت معاناة نفسية لهم أيضا أن تدور الأيام , ويدخل بعضهم إلى معتقلات وسجون سبق أن أشرفوا عليها , بل وأعدوها ضد خصومه ... إلى الحد الذى قال لى فيه واحد منهم بأنه لو عرف أن الأيام ستدور به وتدفعه إلى هذه الزنزانات المظلمة لهدمها وأقام بدلا منها سجونا صحية تليق بكرامة الانسان .
وخلال فترة التحقيق مع المعتقلين داخل السجون كانت تغييرات متلاحقة تحدث فى المجتمع ... فى مجالات العمل السياسى والحكومى والمهنى .
توالت التغييرات إلى حد ملفت للنظر ... فبعد أن تقرر إعادة الانتخابات فى الإتحاد الإشتراكى كما سبق أن ذكرنا , وتشكلت له أمانة عامة مؤقتة برئاسة الدكتور عزيز صدقى وعضوية الدكتور حافظ غانم ومحمد عبد السلام الزيات ودكتور محمد فتح الله الخطيب ومحمد دكروري ودكتور فؤاد مرسي وصلاح غريب ومحمد عبد الحكيم موسى ودكتور أحمد كمال أبو المجد الذى استدعى من منصبه كمستشار ثقافى فى سفارة بواشنطن .
تحدد أول يوليو موعدا لبدء انتخابات الإتحاد الإشتراكى .
وتقرر إجراء الاتنخابات فى جميع النقابات المهنية ... كانت الرغبة شديدة فى تغيير الشخصيات التى تعاملت مع رجال الحكم السابقين , او التى انتخبت فى عهدهم .
وبدأت الانتخابات فى نقابة الصحفيين يوم يوم 11 يونيو 1971 حيث فاز على حمدى الجمال ( 475 صوتا ) على (موسى صبري 291 صوتا ) ... وتحدد جدول زمنى لبقية النقابات ... يوم 20 يوليو للمهن العلمية , ونقابة المحاسبين , يوم 21 للصيادلة والبيطريين , يوم 22 للأطباء , يوم 24 للمهندسين , يوم 25 للزراعيين , يوم 26 للمحامين , يوم 28 للمعلمين .
لا يقف التغيير عند حدود النقابات المهنية فى هذا الجدول الزمنى السريع ولكنه يتجاوزها أيضا إلى الأندية والاتحادات الرياضية .
وتصل الرغبة فى التغيير إلى النقابات المهنية فى هذا الجدول الزمنى السريع ولكنه يتجاوزها أيضا إلى الأندية والاتحادات الرياضية .
ورغم هذه الموجة المجنونة من إعادة الانتخابات إلا أنه عندما وصل الأمر إلى انتخابات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى تأجل ذلك إلى أجل غير مسمى ... والتبرير هو ( حتى تتاح لأعضاء اللجنة المركزية أن يتعارفوا ) ... وكان جميع المستويات التنظيمية قد تم تعارف أعضائها قبل الانتخابات .
أصبح الإتحاد الإشتراكى هو ما بغير قمة تنظيمية ... وأصبح أنور السادات بذلك مخولا – وحده سلطة اللجنة التنفيذية .
يبدو أن تجربته السابقة مع اللجنة التنفيذية العليا هى التى ألحت عليه فى عدم انتخاب مستوى تنظيمى يكون على مستوى الند وله حق مناقشة السياسة العامة للدولة خارجيا وداخليا .
كان انطلاق السادات فى هذا السبيل ناتجا من عدم ارتفاع أصوات معارضين له فى البداية تحت تأثير ما كان ينادى به من ديمقراطية وحرية , من جهة ... وهو حلم أسعد البعض أن يعيش فيه ... وما كان يسلطه على الآخرين من فزع بتهديده بالفرم وتشكيل محكمة الثورة , وهو شبح بعث الخشية فى النفوس .
واهتمت صحف الغرب منذ اللحظة الأولى بخطوة السادات وحركته لضرب المجموعة التى وضعها فى المعتقلات والسجون ... فنشرت مجلة تايم عددجا خاصا يوم 18 مايو 1971 ظهرت صورة أنور السادات على غلافه , ونشرت الأهرام صورة له ذاكرة أن المجلة تتحدث عن ( لغز الشرق الأوسط وكفاءة أنور السادات فى مواجهة الأزمات ) .
أعلن قرار الاتهام يوم 21 أغسطس وتقرر تقديم 91 متهما أمام محكمة الثورة , وعقد دائرة ثانية منها لمحاكمة الفريق أول متقاعد محمد فوزي وقد تشكلت برئاسة اللواء عبد القادر أحمد حسن نائب وزير الحربية , واللواء محمد عوض الأحول مدير القضاء العسكرى , والعميد بحرى أحمد عبد الرؤوف جمال الدين مدير القضاء بالقوات البحرية .
قدم إلى المحاكمة 91 فقط من مئات كان قد تم اعتقالهم .
نقل المتهمون إلى السجن الحربى تمهيدا لمحاكمتهم فى قاعة خاصة أعدت بمبنى الحكومة الاتحادية بهليوبوليس .
وبدأت المحاكمات فى 25 أغسطس مع 12 متمها رئيسيا هم حسب ورود أسمائهم فى قرار الاتهام شعراوي جمعة وزير الداخلية السابق , وسامي شرف وزير الدولة السابق , وعلي صبري نائب رئيس الجمهورية السابق , وعبد المحسن أبو النور أمين عام الإتحاد الإشتراكى السابق , ولبيب شقير رئيس مجلس الأمة السابق , وضياء الدين داود عضو اللجنة التنفيذية العليا السابق , ومحمد فائق وزير الاعلام السابق , وسعد زايد وزير الاسكان السابق , وحلمى السعيد وزير الكهرباء السابق , وعلي زين العابدين وزير المواصلات السابق , وفريد عبد الكريم أمين الإتحاد الإشتراكى بالجيزة السابق , ووأحمد كامل مدير المخابرات العامة السابق .
ثم تحولت المحاكمة لتصبح سرية يوم 5 سبتمبر 1971 وطالب فيها المدعى العام الاشتراكى بإعدام تسعة والمؤبد لثلاثة هم حلمى السعيد وسعد زايد وعلي زين العابدين .
وخلال فترة المحاكمة وما فرضته من جو ثقيل , أعلن فى الأهرام يوم 5 سبتمبر أن تحقيقات قد بدأت مع بعض العاملين فى مجال الإعلام وهم فتحى غانم وكامل زهيرى ورجاء النقاش وعبد الوهاب قتابة الأمر الذى أبعد عن المراكز المؤثرة عددا كبيرا من الذين ارتبطت أفكارهم بأفكار عبد الناصر , دون أن يرتبطوا بالمجموعة التى أحاطت به .
وشكلت بعد إعلان الدستور وزارة جديدة رأسها أيضا الدكتور محمود فوزي وكان له أربعة نواب ... دكتور عزيز صدقى نائبا ومحمد عبد القادر حاتم وسيد مرعي ومحمود رياض .
وعين الدكتور مراد غالب وزير دولة للشئون الخارجية بعد أن كان سفيرا لمصر فى موسكو لمدة 12 عاما ... والدكتور اسماعيل صبرى عبد الله ما زال نائبا لوزير التخطيط .
وبدأت محاكمة الفريق أول محمد فوزي يوم 25 أكتوبر أمام المحكمة العسكرية الخاصة ... نفس التهمة الخيانة العظمى .
وقبل أن يصدر حكم محكمة الثورة كانت تعقد اجتماعات محدودة بين أنور السادات ومحمد عبد السلام الزيات لمناقشة تحديد الأحكام النهائية التى سوف يصدرها رئيس المحكمة .
وفى ليلة صدور الأحكام اجتمع أنور السادات مع أعضاء محكمة الثورة ... واعترض بدوى حمودة المستشار الوحيد بين أعضاء المحكمة على إصدار حكم الإعدام الذى كانت النية مبيتة على إصداره قائلا إن محاكمات الرأى لا يجوز أن تنتهى إلى إعدام ... وأخيرا وافق أنور السادات على أن يصدر حكم الإعدام مقترنا بقرار تخفيفه على أنه صادر منه , رغم أن المحكمة عمليا لم توافق أو تقرر حكم الاعدام ...
واجتمع أيضا بأعضاء المحكمة العسكرية التى لم تنجرف إلى إصدار قرار بالاعدام على الفريق أول محمد فوزي صاحب الفضل الكبير فى إعادة بناء القوات المسلحة بعد هزيمة 5 يونيو .
الظاهرة الغريبة أن الصحافة لم تنشر كلمة دفاع للمتهمين ولم تقدم للرأى العام حقيقة ما يدور فى قاعة المحكمة , ولم تذكر عدد المعتقلين .
كان الجو المحيط بالمحكمة مشابها للجو المحيط بمحاكمات الثورة السابقة مع اختلاف الظروف , واختلاف طبيعة المتهمين ... وكان هذا الأمر متناقضا فى جوهره مع كلمات الحرية والديمقراطية وسيادة القانون ورفع الحراسات وهو الأهداف التى بشر بها أنور السادات , والتى جذبت كثيرا من أصحاب النوايا الطيبة .
وأعلنت الأحكام يوم 8 ديسمبر .
حكم بالاعدام على أربعة شعراوي جمعة وسامي شرف وعلي صبري وفريد عبد الكريم وتحول الحكم إلى المؤبد .
وفاروق خورشيد واحمد جنين ومحمد رجائى ووجيه الشناوى وسامية عبد العزيز وصبرى يس وجلال السيد وعلاء الديب وسعد لبيب وسيد الغضبان وصلاح زكى وجلال معوض .
وكانت النتيجة المباشرة لهذا الاعلان هى نزع هؤلاء الصحفيين ورجال الاعلام من مناصبهم , وقد لعب فى ذلك محمد عبد القادر حاتم دورا خاصا مؤثرا إذ أنه كان قد عاد نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للاعلام بعد أن كان قد عزل من كافة مناصبه التى تولاها خلال عهد جمال عبد الناصر , وتقلص نفوذه إلى الحد الذى أشرف فيه على مسئولية الاعلام فى اليمن .
ولم يكن محمد عبد القادر حاتم على صلة وثيقة بأنور السادات ولكنه حصل على منصبه نتيجة تزكية من أحد الصحفيين الذين لعبوا دورا إيجابيا فى مؤامرة مايو وكان أول إجراء له هو نزع الذين وقفوا منه موقف التحدى ورفض التبعية خلال فترة عمله السابق كوزير للاعلام .
وخلال المحاكمة قدم 11 إلى محكمة الحراسة وهم علي صبري وسامي شرف وشعراوي جمعة , وضياء داود , ومحمد فائق وأمين هويدي , ومحمود السعدنى ومحمد السعيد وفريد عبد الكريم وعبد المحسن أبو النور وضياء الدين داود .
كما واصل أنور السادات أسلوبه فى التغيير , فأصدر قرارا بحل مجلس الشعب فى 9 سبتمبر ,وحدد موعدا للانتخابات 27 أكتوبر على أن يعقد المجلس فى 11 نوفمبر 1971 .
اقترن هذا التغيير باستفتاء الدستور الجديد الذى أقره مجلس الشعب وتم الاستفتاء عليه فى 11 سبتمبر 1971 ووصل عدد المؤيدين إلى 7 مليون و862 ألف بنسبة 99 و9 من عشرة بالمائة فنسب الاستفتاءات لا تتغير كثيرا .
صدر دستور 1971 يغير اسم الدولة من الجمهورية العربية المتحدة إلى جمهورية مصر العربية ويعلن أنها دولة نظامها ديمقراطى واشتراكى يقوم على تحالف قوى الشعب العاملة والشعب المصرى جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة .
ويفسر أنور السادات هذا التغيير فى خطاب له يوم 23 يوليو قبل إقرار الدستور بقوله ( وقام اتحاد الجمهوريات العربية ليكون أقوى وأقدر على استكمال رسالة الوحدة العربية الشاملة لذلك كان من الطبيعى أن يعود الشعب المصرى إلى حمل اسم مصر العظيمة ) .
والعودة إلى اسم مصر وجدت تجاوبا من الكثيرين ... حتى من أنصار القومية العربية , حيث لم يكن هناك مبرر لاختفاء الاسم التاريخى لمصر ... وأضاف إلى أنور السادات وصيدا يفرق بينه وبين ما كان يتمسك به جمال عبد الناصر من حرص على الاحتفاظ باسم ( الجمهورية العربية المتحدة ) .
لم تعد فى مصر هيئة سياسية أو تشريعية أو ثقافية أو مهنية أو رياضية لم تلحقها يد الحل ... والفريق فوزى مؤبد خفض إلى 15 سنة .
وعبد المحسن أبو النور 15 سنة .
ومحمد فايق 10 سنوات .
وضياء الدين داود 10 سنوات .
وأحمد كامل 7 سنوات خفضت إلى 3 .
وحلمى السعيد وأمين هويدي ولبيب شقير سنة مع إيقاف التنفيذ لمدة 3 سنوات .
وبراءة علي زين العابدين , 13 آخرين .
ومجموع الأحكام يتلخص بعد ذلك فى :
3 لمدة 3 سنوات .
12 لمدة 5 سنوات .
2 لمدة 7 سنوات .
2 لمدة 10 سنوات .
2 لمدة 15 سنة .
4 لمدة 25 سنة .
أعلنت الأحكام وطويت صفحة المحاكمة وبدأ المسئولون السابقون حياة جديدة داخل قضبان السجون .
من هو الرئيس الجديد ؟:
بعد أن أصبح المسئولون السابقون خلف قضبان السجون , ومقاليد الحكم فى يد الرئيس الجديد , سلطت الأضواء عليه وحده , فلم يعد فوق خشبة المسرح منافسون .
من يكون الرئيس الجديد ... ؟
من هو أنور السادات ؟
لم يكن إسما انشق من المجهول , كما كان الأمر مع محمد نجيب , أو جمال عبد الناصر , عندما انتصرت حركة الجيش , وبرزت أسماء جديدة تستلفت النظر , وتستقطب الاهتمام , لأنها أصبحت فى السلطة تحرك الأمور .
كان أنور السادات معروفا قبل الثورة ... له تاريخ طويل .
وكان بعد 23 يوليو 1952 ... عضوا فى مجلس قيادة الثورة .
ومثل معظم الضباط الأحرار نشأ أنور السادات فى أسرة متواضعة من الطبقة الوسطى الفقيرة ... الأصل من قرية صغيرة من قرى المنوفية ( ميت أبو الكوم ) والوالد كان يعمل موظفا بشهادة ( الكفاءة التى كانت تعادل السنة الثالثة الثانوية ) فى وحدة طيبة فى الجيش البريطانى ... ثم انتقل بعدها إلى الخدمات الطبية بالجيش المصرى , وأخيرا أنهى حياته وهو مدير لحسابات مستشفى الدكتور مظهر عاشور .
ولد أنور السادات يوم 25 ديسمبر 1918 , ومضى فى طريق الدراسة رغم الظروف الصعبة التى أحاطت بالأسرة حتى وصل إلى مدرسة فؤاد الأول الثانوية , ثم فصل منها لأسباب نكتفى بما سجله هو عنها فى كتابه ( البحث عن الذات ) :
( كانت تلك نقطة تحول فى حياتى , وقد أدركت أن سقوطى كان علامة على أن الله غير راض عنى , ربما لسبب إهمالى , أو ربما بسبب ثقتى الهائلة فى نفسى , وهكذا فإنى بهذا الشعور بالشك الممتزج بالاحساس بالخطأ حاولت طريق التوبة وقدمت أوراقى إلى مدرسة أخرى) .
وعندما حصل أنور السادات على شهادة البكالوريا , دخل الكلية الحربية فى الفترة التى كانت قد فتحت فيها أبوابها لأبناء الطبقة الوسطى الصغيرة بعد معاهدة 1936 ...
كانت الكلية الحربية قد بدأت تستوعب أعداد كبيرة من الطلبة , تتاح لهم فرصة التخرج بعد فترة دراسية قصيرة كانت تصل أحيانا إلى عدة شهور , ولا تزيد على ثلاث سنين وهى أقصى مدة دراسية والتى طبقت لأول مرة على دفعتنا التى دخلت فى ديسمبر 1939 وتخرجت فى يونيو 1942 .
الدفعة التى تخرج فيها أنور السادات أمضت سبعة شهور فى الكلية فقط وتخرجت فى فبراير 1938 .
وتصادف أن عيد أنور السادات ضابطا فى المشاه , وعمل فى منقاد مع جمال عبد الناصر وقد سجل هذه الفترة فى كتاب له صدر عام 1956 يحمل اسم صفحات مجهولة فيقول :
( كان جمال عبد الناصر بيننا صورة حلوة للاخاء والصداقة والاتزان والهدوء والكرامة , فكان لهذا كله يستأثر باحترامنا جميعا , فكان فى سكونه وطابعه الخاص معنى مجسم حى لكل المعانى , وهكذا , وحول هذا الرجل , التأمت مجموعة من الضباط الصغار الأصدقاء , لك يكن صدفة تمر ويتشتت من بعدها شمل الأصدقاء , وإنما سيكون البدء الحقيقى عنيف ومحن كثيرة وعمل خطير . وكان جمال يقول إنهم الانجليز أصل بلائنا كله ) صحيح أن أنور السادات قد سجل بعد ذلك فى كتابه ( البحث عن الذات ) عن هذه الفترة معنى يخالف ما ورد فى كتابه السابق إذ قال :
( وبالرغم من أننى تعرفت على جمال عبد الناصر حينما كان كلانا فى سن التاسعة عشرة , فإننى لا أستطيع أن أقول أن علاقتنا تجاوزت الثقة والاحترام المتبادل , كان من الصعب أن اسميها صداقة على الاطلاق , إن عبد الناصر لم يكن بالشخص السهل الذى يمكن أن يصادقه أحد بالمعنى الحقيقى للصداقة , وذلك بسبب نزوعه إلى الشك والمرارة , وإلى جانب أعصابه المشدودة باستمرار ) .
الخلاف نشأ من تغير الظروف ... الكتاب الأول صدر فى وقت كانت مصر تجمع فيه على زعامة جمال عبد الناصر ... والكتاب الثانى ظهر بعد أن كان عبد الناصر قد انتقل إلى رحاب الله وأصبح أنور السادات رئيسا لجمهورية مصر ... أكثر من عشرين عاما مضت بين الكتابين مرت فيها ظروف متغيرة على أنور السادات .
ومسيرة أنور السادات بعد منقباد تبدأ بانتقاله إلى سلاح الاشارة , حيث دخل تجربة مثيرة فى حياته , عندما تعرف على جاسوسين المانيين أحدهما كان ابنا لزوجة ألمانية تزوجت من المستشار صالح بك جعفر , الذى احتضن ابن زوجته ورعاه وأعطاه اسمه فأصبح ( حسين جعفر) بدلا من هانز ابلر.
ولكن المخابرات الألمانية جندت حسين جعفر أو ( هانز ابلر ) وأرسلته إلى مصر مع ألمانى آخر متخفين فى ثياب ضباط بريطانيين .. وتعرف عليهما أنور السادات عن طريق عبد المغنى سعيد الذى تعرف بهما عن طريق قريب له متزوج من ألمانية تعرف عائلة ابلر . ارتبط أنور السادات بالجاسوسيين الألمانيين , وأصبح مسئولا عن إصلاح جهازهما اللاسلكى الذى كان موضوعا فى عوامة تعيش فيها الراقصة حكمت فهى صديقة ( حسين جعفر أو هانز ابلر ) الذى كان يعيش قبل سفره إلى برلين قبل تجنيده فى المخابرات الألمانية , حياة عريضة لاهية , وعندما وصل مصر خلال الحرب العالمية الثانية ليؤدى دوره الجديد جاسوسا فى خدمة الرايخ , كان معه أموال طائلة من الجنيهات الاسترلينية التى أجيد تزييفها .
ويروى أنور السادات قصة هذه الفترة فىكتابه ( صفحات مجهولة ) ويشير إلى حياة ( ابلر وساندى ) وهما يحاولان تقليد أساطير شهريار من ناحية البذخ والترف وتغيير النساء , و يقول إن معظمهن كن من اليهوديات .
ولم يستمر هذا التعاون طويلا ... فقد انكشف أمر الجواسيس الألمان و وانتهى الأمر إلى اعتقالهم جميعا فى أغسطس ط 1942 .
ولا شك أن أنور السادات كان يعرف طبيعة الدور الذى يقوم به فى خدمة الألمان , حيث كان يتعاون مع جواسيسهم .
صحيح ..أنه كان هناك شعور وطنى سائد بين عدد من الضباط يدفعهم إلى التعاون مع الألمان باعتبار أن فى ذلك معاداة للاحتلال البريطانى ... ولكن قلة نادرة من الضباط هى التى انجذبت إلى ذلك ... وإذا استثنينا حادث محاولة عزيز المصرى الهرب مع الطيارين عبد المعنم عبد الرؤوف وحسين ذو الفقار صبري بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني فى العراق , فإن أحدا لم يقبض عليه بتهمة التجسس للألمان سوى أنور السادات , وحسن عزت .
قال لى اللواء محمد نجيب أنه عندما كان مساعدا لنائب الأحكام برتبة ( بكباشى أو مقدم ) , وهو من الذين حصلوا على ليسانس الحقوق عام 1928 واعد 2 ماجستير .. قال لى أن اليوزباشى أنور السادات قد اعتقل بتهمة أنه كان يعمل جاسوسا للألمان ... وجاء إليه والده منزعجا للتهمة التى أسندت إلى ابنه , فطمأنه وأعد مذكرة رفعها إلى إبراهيم باشا عطا الله رئيس أركان حرب الجيش أوضح فيها أنه حتى لو ثبتت تهمة التجسس فإنها ليست ضد مصر , بل ضد عدوتنا بريطانيا لصالح الألمان .
ويقول محمد نجيب أنه هدد بتقديم استقالته من وظيفة نائب الأحكام بل من الجيش إذا حوكم أنور السادات ... وكان ابراهيم عطا الله قد رفض وجهة نظر محمد نجيب ... وانتهى الأمر بإحالة أنور السادات إلى الاستيداع ثم طرده من الجيش فى 8 أكتوبر 1942 واعتقاله بعد ذلك فى معتقل ماقوسة بالمنيا .
وفى هذه الفترة كانت السراى تريد التخلص من وزارة الوفد التى راسها مصطفى النحاس فى 4 فبراير 1942 وسط شحنة هائلة من الدعاية للملك فى محاولة لتصوير الأمر بأن الوفد وصل إلى الحكم على رماح الانجليز .
وهو ادعاء روجت له صحف أخباراليوم بشدة , وترك بلا شك تأثيرا فى نفوس بعض الضباط , الذين وجدوا فى ذلك اعتداء على العرش الذى هو رمز لمصر .
وإذا كانت أحداث التاريخ ووثائق الحكومة البريطانية قد أثبتت كذب هذا الادعاء بعد سنوات طويلة ... فالأمر لا شك فيه أن السراى كانت تسعى لخلع الوفد من مقعد الحكم , وسلكت فى سبيل ذلك وسائل متعددة , منها تخريب العلاقة بين مصطفى النحاس ومكرم عبيد سكرتير عام الوفد ... ومنها اللجوء إلى الارهاب ومحاولة تصفية مصطفى النحاس وأعوانه تصفية بدنية .
وهنا حدث اتصال بين السراى وبين أنور السادات الذى لم يحاكم بتهمة التجسس , والذى اعتقل فى عهد حكومة الوفد وانعكس أثر هذا الاتصال فى نقله من معتقل ماقوسه إلى معتقل الزيتون , حيث تيسرت له حياة أفضل , بلغت الحد الذى استطاع فيه أن يخرج من المعتقل ليمضى ليلة فى القاهرة , يذهب إلى سراى عابدين ليسجل اسمه فى دفتر التشريفات متظلما من المعاملة فى معتقل الزيتون .
لم يقف الأمر عند هذا الحد ... بل استطاع أنور السادات أن يهرب من المعتقل , ويعيش حياة سرية , ثم يظهر فجأة فى قضية اغتيال أمين عثمان عام 1946 ,حيث قدم للمحاكمة مع حسين توفيق ومجموعاته وصدر الحكم بتبرئته .
ولا شك أن الصلة السرية التى انعقدت بين السراى ممثلة فى الدكتور يوسف رشاد ياور الملك البحرى وبين أنور السادات وكانا قد خدما معا فى بداية عملهما بالجيش فى مرسى مطروح قد انتهت إلى نوع من التعاون التطوعى المشابه لما قام به أنور السادات مع الجواسيس الألمان .
كان هناك فارق واحد ... أنه كان يساعد الجواسيس الألمان فى أهدافهم و وكان يساعد السراى فى عملياتهم الارهابية التى تمثلت فى اغتيال أمين عثمان .
وخلال هذه الفترة كان قد وقع فى الجيش حادث مثير.
تجمع عدد من الضباط عام 1947عام 1947 وأعدوا منشورات هاجموا فيها إبراهيم باشا عطا الله .
اعتقل 23 ضابطا وصولا ذكرت بعض أسمائهم فى الجزء الأول من قصة 23 يوليو ( مصر ولعسكريون ) فى الباب الثانى( الجيش والحركة السياسية فى مصر قبل الثورة – صفحة 112 )
لم ينته اعتقال هذه المجموعة إلى محاكمة عسكرية كما كان منتظرا ...وإنما انتهى الأمر إلى الافراج عنهم وعودتهم إلى أعماله , وإعفاء غبراهيم باشا عطا الله من منصبه , وتعيين اللواء عثمان المهدى بدلا منه , كما عين محمد حيدر يارو الملك وزيرا للحربية ... وهو ضابط السجون الذى اشتهر بقسوته على ثوار 1919 .
كان تعيين محمد حيدر , خطوة لمزيد من سيطرة السراى على الجيش ... وكان ثمن الافراج هو انضمام هؤلاء الضباط لتنظيم تشكيل فى ذلك الوقت باسم ( الحرس الحديدى ) . كان تنظيما سريا خاصا يرتبط بالسراى عن طريق يوسف رشاد , ونسجت الصلة بينه وبين المجموعات الارهابية التى تبنتها السراى ودفعت بها إلى طريق الاغتنيال فوقفت فى قفص الاتهام فى قضية أمين عثمان .
تطور أسلوب الارهاب والاغتيال بعد انضمام الضباط ... وبدأت محاولات اغتيال مصطفى النحاس التى قام بها الضباط فقط .
ويلاحظ أن هذا -( الحرس الحديدى ) قد تشكل فى فترة من أعظم فترات المد الثورى لشعب مصر , وهى الفترة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية , وتفجرت فيها المطالب الشعبية , التى عبرت عنها الطوائف المختلفة بالاضراب والتظاهر حتى وصل الأمر إلى حد اضراب البوليس
واتجه إرهاب ( الحرس الحديدى ) إلى الزعامة الشعبية ممثلة فى مصطفى النحاس رئيس الوفد حيث تمت محاولتان لاغتياله فى شهر واحد , هو نفس الشهر الذى وصل فيه المد الثورى إلى ذروته ...
يوم 5 إبريل 1948 كانت المحاولة الأولى عندما أطلق اليوزباشى عبد الرؤوف نور الدين الرصاص على النحاس باشا ومعه فى العربة التى كان يقودها اليوزباشى حسن فهمى عبد المجيد والتى أحضرها من عربات القصور الملكية اليوزباشى عبد الله صادق الذى كان ضابطا فى المطافىء الملكية ... كان معه أنور السادات الذى خرج من السجن بتدبير من السراى إليه ثانية .
وكانت المحاولة الثانية يوم 25 إبريل لنسف سراى النحاس باشا بسيارة حملت كميات كبيرة من المفرقعات ... وقام الضابطان عبد الرؤوف نور الدين ومصطفى كمال صدقي .
هكذا ارتبط أنور السادات بالتنظيم الحديدى رغم أنه لم يكن ضابطا عاملا فى الجيش .
وقد تراجع دور ( الحرس الحديدى ) مع قيام حرب فلسطين ... ولم تتجدد أعمال إرهابية .
وعندما عاد الوفد إلى الحكم بعد الانتخابات التى تمت فى بداية يناير 1950 خشيت السراى من استمرار بقاء ( الحرس الحديدى ) خوفا من افتضاح أمره أمام التحقيقات القانونية , فحدث تجميد له , وانفض بعض الضباط منه , وخاصة عندما سادت البلاد الروح الوطنية المصاحبة للكفاح المسلح فى القناة .
ويشير محمد حسنين هيكل فى كتابه ( خريف الغضب ) الذى يحوى تفصيلات دقيقة عن الحياة الخاصة لأنور السادات منذ نشأته الأولى ... يشيرإلى حقيقة تؤكد انحسار دور ( الحرس الحديدى ) وهى أن أرنست بيفن وزير الخارجية البريطانية فى حزب العمال استدعى السفير المصرى فى لندن وقتها عبد الفتاح عمرو . وطلب منه السفير إلى القاهرة ليبلغ الملك أنه لا يليق بالجالس على عرش البلاد أن تكون لديه فرقة لقتل خصومه وإرهابهم يسخر فيها بعض ضباط حرسه أو جيشه .
وخلال هذه الفترة لم يحدث إلا حادث إرهابى واحد عندما خرج من الحرس الحديدى أحد أعضائه ليقظة ضمير وطنى هو الملازم عبد القادر طه الذى أغتيل بيد زملائه من الضباط أفراد الحرس .
وعندما لم يعد للحرس الحديدى دور فعال ... قررت السراى عودة أنور السادات إلى القوات المسلحة , وتم ذلك يوم 15 يناير 1950 عن طريق محمد حيدر الذى عين فى منصب جديد خلق له هو ( قائد عام القوات المسلحة ) بعد أن رفض الوفد تعيينه وزيرا للحربية امتدادا لما كان حادثا فى وزارات محمود فهمى النقراشي وابراهيم عبد الهادى وحسين سرى ... حيث كان محمد حيدر وزيرا للحربية فيها جميعا .
وكان محمد حيدر بحكم منصبه الجديد هو القوة الفعالة فى القوات المسلحة ... وليس الوزير الوفدى مصطفى نصرت .
وهكذا فصل أنور السادات من الجيش فى عهد الوفد عام 1942 وعاد أيضا فى مصلع عام 1950 دون موافقة مباشرة من الوفد .
عاد أنور السادات فى رتبة اليوزباشى وأنهى فترة شاردة من فترات حياته مارس فيها أعمالا مختلفة , اشار إليها فى كثير من خطبه .
عمل سائقا ومقاولا وإرهابيا وصحفيا ... وكان فى مطلع حياته يهفو لأن يكون نجما سينمائيا . وخلال فترة عمله الجديدة فى الجيش التقى بجمال عبد الناصر الذى ساعده فى امتحانات الترقى ليحصل على أقدميته التى فقدها أثناء فترة طرده من الجيش ... وتعرف على عبد الحكيم عامر ... الذى كان يخدم برئاسة القوات المسلحة فى رفح والعريش .
وعلامة الاستفهام التى تحيط بالأسباب التى أدت إلى ضم أنور السادات إلى الضباط الأحرار تظل قائمة لا يستطيع أحد الإجابة عليها إلا جمال عبد الناصر ... ولكن يبدو أن المعاناة التى ليست ثيابا وطنية قد أغرت جمال عبد الناصر على ضمه وهو الحريص على ضم كل الاتجاهات فى تنظيم جبهوى واحد ... من الاخوان المسملين ... إلى الشيوعيين ...
والغالب أنه لم يكن يعرف الدور الحقيقى لأنور السادات فى محاولة اغتيال النحاس ... فما أظن أنه كان يمكن أن يفصح عنه ومصطفى النحاس رئيس للوزراء ... وجمال عبد الناصر فى ذلك الوقت كان من المقتنعين بدور الوفد فى الحركة الوطنية , عندما كان يتبنى حركة الكفاح المسلح فى القناة ويشجعها ... وفيها عناصر من الضباط كانت على اتصال مع جمال عبد الناصر .
أصبح أنور السادات عضوا فى اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار ... وحده , وليس معه أحد فلم يكن قد جند أحدا للدخول معه فى هذا التنظيم الوطنى الجديد .
ولم يكن دخوله موضع ترحيب من الذين تعرفوا عليه وعملوا معه وخاصة ضباط الطيران ... عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم ...
ولكن التنظيم فى ذلك الوقت وهو ما زال جنينا لا يحتمل المواقف الحادة فى رفض عضوية ضابط , فى وقت كانت الثورة فيه ما زالت حلما بعيدا ... ومضت الأيام ... وعندما تحدد موعد الحركة فجأة نتيجة للظروف الضاغطة التى تسربت إلى جمال عبد الناصر من أن الملك ينوى توجيه ضربة لمن يعرفهم من الضباط الأحرار ... وكان قرار الحركة يوم 19 يوليو على أن تتم خلال ثلاثة أيام ... وأبلغ أنور السادات فى العريش .
وحضر فعلا ليلة الحركة , ولكنه – فيما يبدو – لم يتصور أنها ستكون فى هذه الليلة ذاتها فذهب مع زوجته إلى السينما وعندما عاد وجد ورقة من جمال عبد الناصر تستدعيه للحضور فلبس ملابسه الرسمية وخرج .
وعندما وصل إلى كوبرى القبة , وجد أن الحركة قد احتلت القيادة العامة عندما اقتحمتها قوات البكباشى يوسف صديق ... ومنعه الجنود من الدخول لأنه كان يحمل رتبة ( بكباشى ) وجميع الضباط من هذه الرتبة فما فوق , كانت قد صدرت الأوامر بمنعهم من الدخول ... ولكنه سمع صوت عبد الحكيم عامر فنادى عليه , وسمح له عبد الحكيم عامر بالدخول والانضمام إلى زملائه .
اندمج أنور السادات بعد ذلك فى مجال الثورة ... وأصبحت حركته تحت دائرة الضوء ... طلب منه جمال عبد الناصر أن يلقى البيان الأول للثورة من الاذاعة بصفته ضابطا للاشارة ولأن لغته العربية سليمة ... وسافر إلى الإسكندرية ضمن القوات التى وصلت إليها تمهيدا لخروج الملك .
ولم يكن له دور خلال الأيام الثلاثة التى قضاها فى الإسكندرية مع اللواء محمد نجيب وجمال سالم ويوسف صديق وزكريا محيي الدين ... رغم ما حاول أن يضفيه على نفسه فى بعض كتاباته .
والملاحظ أنه لم يذهب مع اللواء محمد نجيب لوداع الملك على اليخت المحروسة .
وعندما بدأ الضباط يتحملون مسئوليات مختلفة وتولى عدد منهم منصب الوزارء فى 18 يونيو 1953 عند إعلان الجمهورية , كلف أنور السادات بالاشراف على جريدة الجمهورية , وهناك تبين أنه يتطلع إلى حياة مرفهة عبر عنها بقوله للدكتور يوسف ادريس الذى كان قريبا منه خلال هذه الفترة ( لقد نجحت الثورة فى وقت كنت قد انتهيت فيه أنا من الثورة ) .
لم يكن حريصا إلا على حياته الخاصة ... وكان معروفا أنه لا يكتب مقالاته , بل إنها أحيانا تنشر دون أن يقرأها ... وقد عملت معه فترة هناك قبل أن ينتقل إلى المؤتمر الاسلامى بعد أن تبين جمال عبد الناصر - كما يقول محمد حسنين هيكل - فى كتابه خريف الغضب أنه عندما واجه السادات بألفاظ كتبها عن جون فوستر دالاس وأثارت غضب السفير الأمريكى حيث قال فيها ( إننا نريد أن نصفع دالاس على قفاه الخنزيرى ) ... تبين له أن أنور السادات لم يكتب المقال ولم يقرأه .
وكان هذا أمرا شائعا ومعروفا لنا فى دهاليز الصحيفة اليومية التى صدرت معبرة عن الثورة .
وخلال عمله فى المؤتمر الاسلامى توثقت علاقاته ببعض العرب الذين حرصوا على عقد صلات معه ... فكان شاهدا على زواج كمال أدهم ... وأغدقوا عليه كثيرا من الهدايا .
ويصدمنا محمد حسنين هيكل فى كتابه ( خريف الغضب ) عندما يقول ( لكن الحق يقال أنه كان كريما فى تقديم الهدايا قدر كرم الآخرين فى تقديمها له , ولقد قدم أنور السادات فى تلك الفترة أكثر من سيارة كاديلات كهدايا لعبد الحكيم عامر .
لابد وأن هذه الصورة كانت معروفة تماما لدى جمال عبد الناصر وزملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة , والمؤسف أن أحدا لم يتوقف عند المدلول الأخلاقى والسلوكى لقبول مثل هذه الهدايا من رجل يعمل بالسياسة ... ولم يتنبأ أحد بما يمنك أن تحدثه من تخريب فى نفس أنور السادات وغيره وهو الذى أصبح رئيس لمجلس الأمة عام 1958 .
واستمر أنور السادات فى منصبه حتى وفاة جمال عبد الناصر ... وهى أطول مدة قضاها عضو من أعضاء مجلس قيادة الثورة فى منصب واحد .
كان فيما يبدو مريحا لجمال عبد الناصر الذى كان - بالتأكيد - يعرف الكثير من أخطائه ... ولكنه لم يتخذ ضده أى اجراء .. تماما كما كان يعرف قدرات عبد الحكيم عامر القيادية والعسكرية وتركه فى مكانه قائدا عاما للقوات المسلحة بعد أخطائه عام 1956 , وبعد ما تسبب فيه من انفصال سوريا عن مصر عام 1961 , وبعد مأساة مصر الكبرى فيما حدث من القيادة العسكرية عام 1967 .
كما سكت جمال عبد الناصر على أخطاء عبد الحكيم عامر الشخصية , سكت ايضا على أخطاء أنور السادات الشخصية ... بل أنه اختاره نائبا لرئيس الجمهورية .
هذه لمحة موجزة عن حياة أنور السادات الذى وضعته الظروف رئيسا للجمهورية العربية المتحدة ... وسط رجال عملوا مع جمال عبد الناصر ... ثم أصبح بعد مؤامرة مايو رئيسا لجمهورية مصر مع رجال يدينون له بالولاء .
حركة 19 يوليو 71 فى السودان:
كان من أهم الظواهر التى صاحبت اعتقال مجموعة مايو , وصول نيكولاى بودجورنى رئيس جمهوريات الاتحاد السوفيتى بعد تسعة أيام فقط , على رأس وفد يضم بونامارييف سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعى فى ذلك الوقت , واندريه جروميكو وزير الخارجية , والماريشال بافلوفسكى نائب وزير الدفاع .
وصل هذا الوفد الكبير إلى القاهرة يوم 23 مايو 1971 , وكانت هذه هى الزيارة الثانية لبوجورنى فى نفس العام ... زيارته الأولى كانت يوم 12 يناير 1971 احتفالا بانتهاء بناء السد العالى , وزار فيها إلى جانب السد فى أسوان الترسانة البحرية التى ساعد السوفييت فى إنشائها بالإسكندرية .
ورغم كل الحسابات تمت الزيارة من باب المفاجأة , ولا شك أن ما حدث قد أثار نوعا من الشكوك لدى السوفييت ... فالرجال الذين اعتادوا الاتصال بهم فى عهد جمال عبد الناص ... بل وفى عهد أنور السادات قد اختفوا من الساحة السياسة ينتظرون المحاكمة .
علي صبري كان ضمن آخر وفد رأسه جما لعبد الناصر فى زيارة موسكو يوم 29 يونيو 1970 وكان فد عين فريقا فخريا , القوات الجوية ... وشعراوي جمعة أرسله أنور السادات إلى موسكو بعد بيانه يوم 4 فبراير وعدم حدوث صدى إيجابى له للمطالبة بالطائرات الصاروخية ( تى يو 16 ) بعيدة المدى , وفى هذه الزيارة قابل بريجينيف وجريتشكو وبونامارليف , ثم سافر مع أنور السادات مرة ثانية إلى موسكو فى زيارته التى تمت أول مارس 1971 فى الوفد الذى ضم أيضا الفريق محمد فوزي ... وسامي شرف أوفده السادات إلى موسكو لحضور مؤتمر الحزب الشيوعى السوفيتى ضمن وفد يرأسه عبد المحسن أبو النور أوائل شهر إبريل 1971 , وفى هذه الزيارة كان يحمل تكليفا من أنور السادات بمحاولة تهدئة الجو وتصفيته مع القادة السوفييت , ولذا طلب مقابلة بريجينيف وتحدث مع القادة السوفييت عن الرغبة فى عقد معاهدة صداقة , وكذلك مناقشة موضوع إقامة قاعدة بحرية فى مرسى مطروح , وهو ما كان السادات قد فوضه للتحدث فيه ... واستقر الرأى على أن يحضر فى المستقبل مسئول سوفيتى كبير على مصر لمناقشة الموضوعين .
كان هذا المسئول هو نيكولاى بودجورنى الذى حضر فى الشهر التالى مباشرة لزيارة سامي شرف , وبعد أيام من اعتقال هؤلاء المسئولين الذين تعرف عليهم القادة السوفييت خلال زياراتهم المتكررة .
وقال أنور السادات تعليقا على ما أثير حول الزيارة من علامات استفهام خلال خطبته التى ألقاها تكريما للرئيس السوفييتى يوم 26 مايو 1971 .
( إن الاستعمار وأصدقائه – وهم يتابعون زيارتكم الثانية لنا هذا العام قد أثبتوا مرة أخرى عجزهم عن فهم طبيعة العلاقات العربية – السوفيتية ومحتوى هذه العلاقات وأهدافها النبيلة ... ولعلنا نعذرهم فيما يتخبطون فيه ... لأنهم لم يفتحوا بعد عيونهم على القيم الجديدة فى العلاقات الدولية , ولا على الحتمية التاريخية لاستقلال وحريات الشعوب .. ولا على الضرورة الملحة والحيوية للطريق الاشتراكى سبيلا إلى التحويلات العظيمة فى مجالات البناء السياسى والاقتصادى والاجتماعى ) .
وقال أيضا :
( اسمحوا لى أن أدعوكم إلى الوقوف تحية للصداقة العربية – السوفيتية وقيمتها العظيمة , ودورها الخلاق , وازدهارها المستمر ) .
وخلال هذه الزيارة تم التوقيع على معاهدة الصداقة المصرية السوفييتة التى فوجىء الناس بها وربطوا بينها وبين ما حدث قبل أيام من إعلانها .
ولم يكن فى الأفق ما يشير على احتمال حدوث تغيير فى العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى ... وخاصة بعد أن تم التوقيع على هذه المعاهدة ... مع ذلك فقد حضر معمر القذافي فى زيارة خاطفة للقاهرة . لمدة أربع ساعات بعد سفر بودجورنى ... جاء ليطمئن على ما تحمله هذه المعاهدة من معان فى وقت لم تكن فيه علاقة ليبيا مع الاتحاد السوفيتى علاقة طيبة إذ كانت ترفع شعارات معادية للشيوعية .
وكتب محمد حسنين هيكل فى جريدة الأهرام يوم 25 مايو مقالا جاء فيه :
( كيف نستطيع أن نخلق الظروف التى يمكن أن تحول دون تكرارالكابوس المخيف الذى رزح على كاهل مصر الشهور الأخيرة الماضية , حتى استفاق منه شعبها وقلبه يدق بعنف وأنور السادات يهزه برفق ليقول له : لقد سقط سلاطين الظلام , وتبددت أشباح الخوف , ونحن الآن على الطريق , وعلى المسيرة , وأمامنا المعركة , والبناء الاجتماعى والاقتصادى والأمل , والنصر ) .
هكذا صور محمد حسنين هيكل الحالة التى كانت فيها مصر بعد أيام من اعتقالات مايو ... وهى صورة تعبر عن رأيه الشخصى ... وهو رأى لا أظن أنه انفرد به , بل كان يشكل شعورا موجودا لما صاحب اعتقالات مايو من حملات شخصية مضادة على ( مراكز القوى ) وهو التعبير الذى أطلق عليهم , وما وجه إليهم من اتهامات فى صورة شائعات كانت تنطلق بتدبير ولم يكن سهلا إقامة خط فاصل بين الاتهامات التى توجه لمراكز القوى , وبين ما يلحق عهد جمال عبد الناصر نفسه ... بعض الناس كانت تردد بيت الشعر العربى :
إذا كنت تدرى فتلك مصيبة .......... وإذا كنت لا تدرى فالمصيبة أعظم
وفى شهر يونيو زار مصر زيارة طويلة ثمانية أيام الملك فيصل ملك السعودية , جاء ليطلع السادات على نتائج محادثاته مع نيكسون ... وكان فى ذلك الوقت توثيقا للصلات المصرية الأمريكية التى بدأت منذ لقاء أنور السادات مع وزير الصحة الأمريكة الذى حضر فى جنازة جمال عبد الناصر , ثم مقابلة روكفلر , وكمال أدهم الذى قام بدور الوسيط لتحسين العلاقات المصرية الأمريكية من موقعه الهام بصفته مديرا للمخابرات السعودية وثيقة الارتباط بالمخابرات المركزية الأمريكية .
كانت مصر تتعرض لمحاولات جذب من جانب الدولتين العظميين .. الاتحاد السوفيتى من موقعه الذى يساند فيه مصر بكل مطالبها العسكرية والولايات المتحدة التى أنشأت جسورا شخصية بين واشنطن والقاهرة .
وحدث يوم 19 يوليو فى الخرطوم حدث أبرز هذا الصراع على السطح .
فوجىء الناس بأخبار حركة عسكرية قام بها بعض أعضاء مجلس قيادة حركة 25 مايو 1969 التى رأسها عندئذ جعفر محمد نميرى .
سمعت أخبار هذه المعركة أثناء سهرة فى منزل الصديق الشبلى الذى كان وقتها سفيرا للسودان فى الجامعة العربية ... وفوجئت بأن الذى قام بها هو الرائد هاشم العطا , الذى كثيرا ما زارنى فى القاهرة وفى مكتبى بروز اليوسف للتعرف على طبيع تكوين الضباط الأحرارفى مصر , والأسلوب الذى قامت به حركة الجيش عام 1952 والذى التقيت به بعد ذلك فى الخرطوم بعد نجاح حركة 25 مايو 1969 وكنت معجبا بشخصيته الجادة المتزنة .
لم تكن فى ذلك الوقت علاقة بالمسئولين فى السلطة , فقد أصبح جميع الذين أحاطوا بجمال عبد الناصر فى السجون ...
واستشعرت مسئوليتى كمصرى وطنى يرقب حركة عسكرية يقوم بها صديق فى السودان ... ولم تكن علاقتى بالسودان محدودة ... فمنذ ثورة 21 أكتوبر 1964 وعلاقتى بالسودان تزداد وثوقا , وكانت تربطنى صلات شخصية متينة مع كثير من الزعماء السياسيين من مختلف الاتجاهات ... وازدادت هذه الصلة عندما أوفدنى جمال عبد الناصر مندوبا عنه لمقابلة جعفر محمد نميرى وقادة حركة 25 مايو 1969 .
أذكر أنه قال لى مبتسما فى مرارة , أثناء مقابلته لى فى مكتبه قبل السفر إلى الخرطوم مع الصديق أحمد فؤاد :
( تصور ... كانوا بيطلقوا علينا نكت ... أننا نؤيد ثورة السفينة بونتى ( اسم فيلم سينمائى ) والآن تجبرنا الظروف الظروف على تأييد ثورة السودان بطريقة سرية ) .
وأذكر أيضا قوله :
( قل لهم أننى على استعداد لوقف الحرب فى القناة وإرسال ألا قوات لدعم الحركة ) .
جاءت حركة الجيش فى السودان بارقة أمل فى السودان فى الظلام الذى أحاط بمصر بعد هزيمة يونيو 1967 , وكانت العلاقة التى قامت بين القاهرة والخرطوم تمثل جسرا قويا من الصداقة , يعطى لمصر عمقا استراتيجيا ... وعبر جمال عبد الناصر عن ذلك بقوله لجعفر نميري ( ثورة السودان أعطتنى قوة وعزيمة ومنحتنى أملا ) .
وتابعت عن قرب الخلافات التى وقعت فى صفوف قادة حركة مايو , والتى أدت إلى حدوث نزاع وصدام بين جعفر نميري وبين الشهيد عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعى .
وفوجئنا فى القاهرة يوما بوصول طائرة سودانية عليها راكبين ... الصادق وعبد الخالق محجوب ... أرسلهما جعفر نميري إلى مصر دون سابق انذار وأوفد جمال عبد الناصر شعراوي جمعة وسامي شرف وأمين هويدي لمقابلة الزعيمين السودانيين . ثم كلف محمد حسنين هيكل بأن يرعى الصادق المهدي ويقدم له كل التسهيلات الممكنة ... كما كلفنى بأن أرعى الصديق عبد الخالق محجوب وأقدم كل التسهيلات اللازمة .
واستضافت رئاسة الجمهورية عبد الخالق محجوب فى شقة بالزمالك قريبة من منزلى .
والتقى مع جمال عبد الناصر أكثر من مرة ... وقامت بين الاثنين علاقة احترام متبادل .
ونجح جمال عبد الناصر فى إقناع جعفر نميري بأن يعيد عبد الخالق محجوب إلى السودان , لأنه ليس من مصلحة الوحدة الوطنية أن يبقى منفيا بعيدا عن وطنه . وكان عبد الخالق محجوب قد لعب دورا رئيسيا فى تحسين العلاقات بين شعب السودان وشعب مصر ... وكانت المظاهرات التى حشدها الحزب الشيوعي السوداني لاستقبال جمال عبد الناصر فى الخرطوم أثناء عقد مؤتمر القمةالعربى فى أغسطس 1970 علامة بارزة من علامات رفض الهزيمة , والتشبث بعبد الناصر مناضلا .
ولكن الجو بين جعفر نميري وعبد الخالق محجوب لم يعرف الصفاء وصدر أمر جديد باعتقال عبد الخالق محجوب بعد وفاة عبد الناصر ولكنه استطاع أن يهرب من الاعتقال يوم 29 يونيو 1971 إلى مكان أمين لا يمكن أن يتطرق إليه الشك ... لأنه كان منزل مدير الحرس الجمهورى .
كان جعفر نميري قد ابعد أيضا هاشم العطا وبابكر النور وفاروق عثمان حمد الله فى 17 نوفمبر 1970 بدعوى عقد صلات مع عناصر مخربة ... وقد سبق أن ربطت بين هذا التوقيت الذى تم بعد وفاة عبد الناصر وبين عزل نور الدين الأتاسى وتولى حافظ الأسد رئاسة الحكومة فى 15 نوفمبر 1970 .
البيان الأول للحركة الذى سمعته فى منزل أمين الشبلي فى العاشرة والربع مساء جاء فيه : ( قبل 25 مايو 1969 كانت جماهيرأكتوبر تخوض صراعا عاتيا شاملا ومرهقا ضد الحكم الرجعى القائم على تحالف الرأسمالية والاقطاع من خلال رأس المال الأجنبى الضالع فى خدمة الاستعمال القديم والحديث .
( ونحن أفراد القوات المسلحة نعد شعبنا بأنا سنعمل على قيام نظام سياسى ديمقراطى يستهدف المشاركة الفعالة من قبل الجماهير بكل الأشكال ) .
وبمسئولية المصرى الذى يسمع أخبار حركة عسكرية تقوم فى أقرب البلاد إلى وطنه , وعلى رأسها صديق أعتز بصداقته وأحترم شخصيته ... ناقشت الأمر مع أمين الشبلي , ووجدنا أنه من المهم والمفيد أن نحاول القيام بدور مؤثر فى مجرى الأحداث .
ولما كان جميع من أعرفهم من المسئولين قد أصبحوا داخل السجن منذ أكثر من شهرين , ولم تكن لى صلة جديدة مع المسئولين الجدد فى مكتب أنور السادات فقد طلبت رقم التليفون القديم لمكتب جمال عبد الناصر والذى كان يرد على طرفه الآخر سامي شرف .
وتبين أن النمرة لم تتغير ... وأن المجيب يعرفنى ... فأبلغته بما سمعت فى الاذاعة وهو معروف لديه طبعا ... ولكنى أضفت توضيحا للعلاقة الخاصة التى تربطنى بزعيم الحركة حتى ذلك الوقت الرائد هاشم العطا .
وعندما وصلت منزلى بعد منتصف الليل , وجدت أن رئاسة الجمهورية قد اتصلت بى أكثر من مرة ... وعندما طلبت نمرة التليفون التى تركها المتحدث , كان على الطرف الآخر أنور السادات , وبعد كلمات التحية والمجاملة , سألنى أنور السادات عما إذا كنت أعرف هاشم العطا . فأجبت بالايجاب ... وأضفت أنه من أنبل الشخصيات وأكثرها إخلاصا للعلاقة بين شعبى مصر والسودان .
وهنا سأل أنور السادات عما إذا كان ممكنا لى السفر إلى هناك , لأن ضغوطا ومكالمات كثيرة تلح عليه من طرابلس ودمشق معادية لما حدث هناك ... وأنه يريد معرفة الحقيقة .
وأجبت بأنه يمكن لى السفر طبعا ... ووجدت فى ذلك فرصة نادرة لمقابلة الأصدقاء فى الخرطوم لمحاولة تثبيت جسر الصداقة بينهم وبين القاهرة .
وبدأت تنهمر على المكالمات التليفونية من الفريق أول محمد صادق وزير الحربية , وكنا نستذكر دروس القبول لكلية أركان الحرب معا ... يعطينى عن الطائرة العسكرية الخاصة التى سوف تقلنى إلى هناك .
ومن اللواء علي بغدادي قائد القوات الجوية .
ومن اللواء أحمد إسماعيل قائد المخابرات الذى استفسر منى عن السبب فى غياب اسم مصر من البيان الأول للحركة ومحاولته معرفة الأسباب الداعية لذلك .
ومن الدكتور عبد القادر حاتم الذى أبلغنى أن أنور السادات قد وافق على اقتراحه الخاص بأن يسافر معى على السودان الصديق أحمد فؤاد الذى سبق أن سافر إلى الخرطوم يوم 25 مايو 1969 .
لم يعرف النوم طريقه إلى عينى ... فقد وردت إشارة للقوات الجوية تمنع نزول أية طائرة مصرية على غيرها فى مطار الخرطوم ... وهنا طلبت منهم أن يرسلوا إشارة للمسئولين هناك بأنى القادم على الطائرة .
وعندما عرف الأصدقاء فى الخرطوم أنى ذاهب لزيارتهم سمحوا لطائرتنا بالهبوط .
وتحركت إلى مطار ألماظة دون أن يكون هناك أى نوع من أنواع التوجيه سوى المكالمة التليفونية التى تمت حوالى الساعة الثانية بعد منتصف الليل مع أنور السادات . تحركت الطائرة وهبطت فى الأقصر , ثم وصلنا الخرطوم بعد 7 ساعات شاقة , وكان الليل قد هبط هناك .
عندما نزلنا من الطائرة فوجئنا بجنود مسلحين يحيطون بنا , وتقدم أحد الضباط يبلغنا بأن الرائد هاشم العطا سوف يقابلنا فى الصباح . ولكنى ألححت على مقابلته فورا حتى نستفيد من الوقت , ونتعرف على حقيقة الأمر .
وعند منتصف الليل كنا نلتقى مع هاشم العطا فى مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية بمعسكر الشجرة ... ودار بيننا حديث طويل تأكدت فيه من صدق العلاقة بين الحركة السودانية والشعب المصرى .
أشهد أن هاشم العطا قال لنا إنه قادم من مقابلة جعفر نميري وكان يقرن اسمه دائما بكلمة ( الرئيس أوالاخ ) وكان يتحدث عنه باحترام يتسق مع خلقه القويم .
وعندما سألته عما إذا كانت له رسالة أحملها معى للقاهرة , استمهلنى للصباح حتى يتشاور مع زملائه مكررا أن ما تم هو حركة تصحيحية لمسار حركة مايو العسكرية .
وفى الصباح خرجت إلى شوارع الخرطوم ... كل شىء هادىء وبعض المدرعات والعربات المصفحة تقف فى بعض الأماكن بغير ضجيج .. وطالعت مجلة ( القوات المسلحة ) التى صدرت منها ثلاثة أعداد فقط .
توجهت إلى منزل الصديق عبد الخالق محجوب فى أم درمان فلم أجده هناك , وخرجت زوجته تبحث معنا عنه فى منزل الدكتور مصطفى خوجلي ...
... وكنت قد علمت من هاشم العطا أنه قد خرج من المكان الذى اختبأ فيه ... والمدهش أنه كان حتى ذلك الوقت يختبىء فى منزل قائد الحرس الجمهورى .
قابلت هاشم العطا مصادفة وهو يصافح الجنود وأفراد الشعب ... وقال لى أن عملية تسليم السلطة من الطغمة المبادة لم تستغرق أكثر من 45 دقيقة .
كان مجلس قيادة الثورة قد تشكل برئاسة بابكر النور وعضوية هاشم العطا الذى عينه قائدا عاما للقوات المسلحة , وفاروق عثمان حمد الله وزير الداخلية والثلاثة أعضاء سابقون فى مجلس قيادة الثورة ... وكان معهم مقدم محمد أحمد الزين قائد إحدى وحدات المدرعات , ورائد محمد محجوب عثمان شقيق عبد الخالق ولكن مجلس الوزراء لم يكن قد تشكل بعد ... صرح هاشم العطا بأن الوزراة الجديدة ستؤكد سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية , وستشترك فيها كل قوى الثورة , التى ستختار ممثليها فى السلطة حتى تحاسبهم على جهدهم داخل السلطة .
كان مجلس قيادة الثورة ذا صبغة يسارية ... وكان تأخير تشكيل الوزارة باعثا على عدم تجميع كل عناصر الجبهة الوطنية الديمقراطية .
أمضيت صباح اليوم فى جولة بالخرطوم انتهت بلقاء عند الظهر مع هاشم العطا وعدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة ... ولم يكن لهم من طلب إلا الرجاء بارسال الوزراء أو أعضاء مجلس قيادة الثورة السابق المتواجدين بالقاهرة إلى الخرطوم حيث تقرر محاكمتهم محاكمة علنية .
وحملنى هاشم العطا تحياته إلى أنور السادات مع تأكيده بأن أول وافد سودانى توفده الثورة سوف يتجه إلى القاهرة التى يحرص على حسن العلاقة معها من منطلق مبدئى , وأن عدم ورود إشارة لذلك البيان الأول لم يكن عن قصد مطلقا .
وبعد المقالبة عدت إلى الفندق , وبدأنا نستعد لرحلة العودة ... وفيما أنا جالس بعد تناول الغداء فى بهو فندق السودان إذا بالصديق عبد الخالق محجوب يحيط عينى بيديه , ونعيش لحظات نادرة من الشوق المتوهج , بعد شهور لم نلتق فيها منذ حضر إلى القاهرة للتعزية فى وفاة جمال عبد الناصر .
روى لى عبد الخالق محجوب ما سمعه عن قصة الحركة التى نمت لأول مرة فى العصر مخالفة تقاليد الانقلابات التى تتم غالبا مع أول ضوء فى الفجر , أو تحت ستر الظلام .
وأكد لى ثقته بسلامة العلاقة بين شعبى مصر والسودان , وذلك من جهة الذين تحركوا فى اليوم السابق لتغيير وجه السلطة فى السودان .
رافقنى عبد الخالق محجوب من الفندق إلى المطار , وودعنى حتى سلم الطائرة ... تعانقنا طويلا , وكانت عيناه آخر ما رأيت فى السودان حتى اليوم .
وصلنا القاهرة ليلا , وجدنا فى المطار ضابطا من الرئاسة يبلغنا بأن أنور السادات يفضل أن يلتقى بنا غدا صباحا ... وكان ذلك ما توقعت إذ كنت أريد نقل صورة سريعة وكاملة لمشاعر وآراء الأصدقاء فى السودان .
وفى العاشرة صباحا ذهبت لمقابلة أنور السادات فى القناطر الخيرية ... دون أن أكتب تقريرا عما حدث .
ولما تأخر فى الحضور قليلا طلبت ورقة وقلما كتبت عليها فى كلمات موجزة ما طلبه منى الاخوة فى السودان , وحرصت على أن أنبه أنور السادات بأن يشيد بما تم فى السودان ضمانا لحسن لعلاقة وذلك فى خطاب 23 يوليو وكنا يومها 22 يوليو ... ووقعت على المذكرة مع أحمد فؤاد الذى رافقنى طوال الرحلة وكنا معا فى المقابلة .
وجلسنا معا فى الحديقة تحت شجرة عتيقة , وكانت هذه أول مرة أذهب فيها إلى استراحة القناطر الخيرية بعد وفاة جمال عبد الناصر .
وشعرت بفارق كبير .
لم يقرأ أنور السادات الورقة التى قدمتها له وإنما وضعها بجانبه على المائدة .
لم يتحدث فيما ذهبنا إليه ... وإنما فتح موضوع انتخابات نقابة الصحفيين وقال إنه نصح موسى بعد الدخول ... وتحدث ايضا عن الروح السائدة فى الصحافة عموما , والتى لا تتفهم طبيعة دوره .
كان غريبا أن يتشعب بنا الحديث بعيدا عن محور الرحلة ... وكان مثيرا أن تكون الجلسة بعيدة أساس عن تفاصيل ما حدث فى السودان .
قال لنا أنور السادات فى مفاجأة مذهلة أن طائرة الخطوط الجوية البريطانية التى كانت تقل بابكر النور وفاروق عثمان حمد الله قد أجبرت بوساطة معمر القذافي على الهبوط فى طرابلس .
وكدت أقفز من مقعدى وأنا أطالبه بسرعة التدخل للافراج عن الضابطين السودانيين اللذين كان أحدهما وهو بابكر النور قد عين رئيسا لمجلس الثورة , وذلك لمعرفتى بطبيعة السودانيين الذين يرفضون الغدر ... ولكن السادات كان هادئا ولم يشأ أن يفتح بابا عريضا للحديث فيما وقع .
ودهشت عندما وجدت أن بونامارييف قد وصل مع الوفد السوفييتى إلى استراحة القناطر فنهضت معتقدا أن أنور السادات لابد وأن يتحرك لاستقبال ضيوفه ... ولكنه طلب منا الجلوس , بما معناه أنه لا بأس من أن ينتظروا قليلا.
دخل الضيوف السوفييت إلى المبنى الذى اعتدنا أن نلتقى فيه بجمال عبد الناصر ... وتحرك أنور السادات ببطء ليرحب بضيوفه .
وفى الطريق لم نتمالك أنفسنا أحمد فؤاد وأنا من المقارنى بين جمال عبد الناصر وأنور السادات ... وبين الشعور بالدهشة والقلق من أسلوب الحوار , ومن حادث إجبار الطائرة على الهبوط فى ليبيا .
وتوالت الأخبار علينا كالصواعق مع عصر ذلك اليوم , تنبئنا بما حدث فى الخرطوم ... سقوط طائرة عراقية فى السعودية كانت فى طريقها من العراق إلى السودان ... وقيام حركة فى القوات المسلحة السودانية ... واغتيال عدد من الضباط المعتقلين ...وهروب جعفر نميري من القصر الجمهورى ... ثم إعدام أربعة من ضباط الحركة وهم هاشم العطا , ومعاوية عبد الحي , وعبد المعنم محمد أحمد , وعثمان حاج حسين قائد الحرس الجمهورى .
وكان قادة الانقلاب الذى اختفت طائرتهم فى ليبيا قد أرسلوا إلى السودان تحت حراسة مشددة , حيث أعدم فاروق حمد الله يوم 26 يوليو وأعدم بابكر النور يوم 27 يوليو واعدم معه فى نفس اليوم الشفيع أحمد الشيخ رئيس اتحاد نقابات عمال السودان .
وفى وسط هذه الأخبار المؤلمة التى غيرت وجه السودان وأغرقته فى مذبحة دموية رهيبة , فوجئت بصوت أنور السادات يطلبنى فى مكتبى بروز اليوسف , للحضور لمقابلته فى استراحة القناطر .
ذهبت إلى هناك متسائلا عن السبب فى هذه الدعوة المفاجئة .
وفى الساعة الثانية ظهرا قابلت أنور السادات ,وكان يجلس على باخرة نيلية تقف على سطح النيل أما حديقة الاستراحة , وفوجئت به فور مقابلتى له قائلا ( كنت أنوى تعيينك فى اللجنة المركزية لولا تقريرك عن السودان ... مثل صديقك الذى كان هنا الآن ... لطفى الخولى ) .
ودهشت ... فلم أكن قد كتبت له تقريرا , وإنما سجلت له فقط مطالب هاشم العطا وزملائه , وحرصى على أن يشير إليهم مؤيدا فى خطاب 23 يوليو ... وعندما قلت له أننىلم أكتب تقريرا تبين أنه لم يقرأ الورقة التى قدمتها إليه .
ودار بيننا حديث طويل كان يشكل عندى ما يشبه الصدمة لما حواه من اتجاهات معادية تماما لما حدث فى السودان ,ورغبة فى إلقاء العبء فى عدم القتال إلى نقص فى الأسلحة السوفيتية , وتبسيط لما يطلبه منه الأمريكان لحل المشكلة .
ودارت بيننا مناقشة طويلة انتهت فى الرابعة والربع مساء وهو يردد ( انت تعبتنى يا احمد ) ثلاث مرات ... وكانت هذه هى المقابلة لأخيرة مع أنور السادات حتى وافاه القدر .
وكان أنور السادات قد أشار فى خطابه يوم 23 يوليو إلى ما حدث فى السودان قائلا ؛ ( بس أنا يهمنى أقول قدامكم حاجة عايز أسمعها للكل .. عايز أقول أن اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة ولدوله يهمنى وعلى أى واحد وأى قوة بتفكر أنها تعمل أى حاجة فى أى دولة من دول ميثاق طرابلس انها تفكر عشر مرات ) .
كشف التواطؤ الذى قام به أنور السادات مع معمر القذافي عندما أرسل له الفريق أول محمد صادق ليدبر خطة إنزال طائرة الخطوط الجوية البريطانية واعتقال زعماء حركة 19 يوليو عن موقف حريص على ضرب أى حركة يسارية ... وبذلك يمكن القول بأن النظام فى مصر قد تراجع خطوة عن موقفه ليتساوى مع النظام الليبى والسورى فى ذلك الوقت , حيث كان موقعهما أقل تقدمية من موقف النظام المصرى فى عهد جمال عبد الناصر , الذى كان حريصا على استيعاب الحركات اليسارية والتقدمية والتعاون معها دون تناقضات دموية .
ويلاحظ أيضا أن ما حدث فى السودان ما كان يمكن أن يتم لو أن جمال عبد الناصر لم يلحقه القدر .
وانتهزت بعض الصحف المصرية وخاصة الأخبار فرصة ما حدث فى السودان للتشهير باليسار عامة وبالحزب الشيوعي السوداني خاصة , فى إثارة ملحوظة , رغم الأسى الذى عم الوطن العربى حزنا على إعدام مجموعة من خيرة المناضلين والمثقفين العرب , والذين كان آخرهم عبد الخالق محجوب يوم 28 يوليو بعد محاكمة بدأت علنية ثم انقلبت سرية أمام ثباته وشجاعته .
وفى اليوم التالى مباشرة سافر أنور السادات إلى طرابلس .
خلال هذه الفترة حاول بونامارييف وقف الاندفاع الجنوبى نحو الاعدام فى السودان بالتوسط لدى أنور السادات أثناء زيارته القاهرة للمشاركة فى الاحتفال بالعيد التاسع عشر للثورة , ولكنه لم يستجب له .
وكان من أول الأعمال التى قام بها جعفر نميري إبعاد سفير بلغاريا وإخراج مستشار السفارة السوفيتية وذلك بعد سحب سفيرى السودان من موسكو وصوفيا .
وقد شرح الكاتب الصحفى إيريك رولو بعض ما حدث أثناء رحلتنا إلى السودان فى مقالاته التى نشرت بصحيفة الموند الفرنسية تحت عنوان ( انهيار الكميونة فى السودان ) بتاريخ 20 أغسطس 1971 إذ قال :
وحتى يتم وضع وتنفيذ مشروع التدخل فى السودان , أراد الرئيس السادات أن يخدع خصمه ويضلله . فبينما صدرت الأوامر إلى الصحف المصرية بالتزام الحياد الكامل بشأن انقلاب 19 يوليو , أرسل الرئيس السادات , فى 20 يوليو أيضا , اثنين من الشخصيات اليسارية المصرية " فى مهمة استعلامية " إلى الخرطوم , حتى يبعثا الثقة والطمأنينية فى نفس هاشم العطا وإخوانه ... وهكذا سافر إلى الخرطوم أحمد حمروش رئيس تحرير روز اليوسف الأسبوعية . ,أحمد فؤاد رئيس مجلس إدارة بنك مصر , وهما من الأصدقاء المقربين لعبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب الشيوعى السودانى , وهكذا أظهر عبد الخالق محجوب وهاشم العطا علامات الود والصداقة تجاه الجمهورية العربية المتحدة , وأعلنا أنهما يتمنيان أن يستمر التعاون بين البلدين ولكن خارج نطاق اتحاد الجمهوريات العربية , لأنهم لا يؤيدون قيامه , وأكدوا أنهما لا ينويان أبدا إقامة نظام شيوعى فى السودان , ووعدا بالمحافظة على حياة اللواء جعفر نميري وفقا لرغبة الرئيس السادات .
وبينما كان مبعوثا الرئيس المصرى يطيلان الأحاديث الودية مع الزعماء السودانيين , كانت مصر وليبيا تستعدان لإسقاط هاشم العطا . وقد تم تخطيط التدخل على فترتين فوزير الدفاع السودانى , خالد عباس حسن , الذى كان موجودا فى بلجراد , توجه يوم 20 يوليو سرا إلى القاهرة على متن طائرة خاصة . وفى اليوم التالى سافر إلى طرابلس بصحبة الفريق صادق , وفى العاصمة الليبية اكتملت العملية المزدوجة التى كان يجب أن تفتح الطريق أمام الانقلاب المضاد يوم 22 يوليو :
تحويل خط سير الطائرة التابعة لشركة الخطوط البريطانية والتى كانت تقل القائدين الرئيسيين للحكومة السودانية الجديدة , بابكر النور وفاروق عثمان حمد الله .
ليس هذا فقط ... بل يقال إنه نقل ألفين من رجال المظلات السودانيين فى طائرات مصرية . أم الجسر الجوى – إذ أن 15 طائرة كانت قد هبطت بالقرب من الخرطوم على قاعدة تستخدمها القوات الجوية المصرية – فقد استخدم فى ساعة مبكرة من صباح يوم الخميس 22 يوليو , أى قبل الانقلاب المضاد بعدة ساعات وليس صباح الجمعة كما تؤكد السلطات الرسمية , وعلى ظهر هذه الطائرات كان هناك حوالى أربعون ضابطا أغلبهم من المصريين ).
وموقف أنور السادات من حركة 19 يوليو 1971 والتدبير الذى اشترك فيه مع الدول الأقل تقدمية من مصر فى ذلك الوقت ( ليبيا وسوريا ) يظهر اتجاها يحمل فى مضمونه عداء غير مباشر للسوفييت ... عداء لا يمكن أن تغلفه عبارات المجاملات الرقيقة , ولا مواد معاهدة الصداقة التى لم يجف مدادها بعد .
الباب الرابع: الدوران إلى اليمين
الصمت أفضل ستار " مثل هندى "
كانت القضية المحورية هى معاودة القتال مع إسرائيل ... بعد أن توقف إطلاق النار فى فى 8 أغسطس 1970 ولم يتجدد مرة أخرى ... وبقى الجنود فى خنادقهم تضيق منهم الصدور , وهم يتطلعون إلى يوم ينطلقون فيه إلى المعركة , حتى ولو بالصورة التى كانت خلال حرب الاستنزاف ... حيث كانت ترتفع روحهم المعنوية يوما بعد يوم نتيجة لكثافة الغارات الإسرائيلية , وقلة معدل الخسائر فى الجانب المصرى ... كان ذلك يعتبر نوعا من التطعيم للمعركة , والتأهب لتحرير الأرض .
لم يكن مقبولا عند جماهير الشعب أو جنود القوات المسلحة , أن يمتد وقف إطلاق النار بلا حدود ... وخريجوا الجامعات والمعاهد تمضى بهم السنين وهم فى ملابس الجنود .. البعض منهم أمضى سبع سنين .
كان القتال يقترن باسم جمال عبد الناصر ... وبدأ الناس يقرنون العزوف عن القتال باسم أنور السادات .
ولم تكن العودة إلى القتال عملية سهلة , يمكن أن تتم بطريقة أوتوماتيكية , وخاصة بعد مؤامرة مايو والتخلص من القائد العام للقوات المسلحة الذى تركزت فيه رؤية المعركة , وتوثقت علاقته مع الخبراء السوفييت ... والذى كان يستعد استعدادا نهائيا لعمليات التحرير , ولم يكن ينتظر كما ذكرنا إلا توقيع أنور السادات على قرار المعركة بصفته قائدا أعلى للقوات المسلحة .
كان أنور السادات أكثر اهتماما بترتيب البيت من الداخل والعمل على استقرار الأمور . وبدأت مرحلة من مراحل التغيير الشامل , حرص فيها أنور السادات على أن يثبت وجوده باتخاذ قرارات مفاجئة تنسب إليه , وتظهر أن هناك جديدا قد دخل الحياة السياسية فى مصر , بعد وفاة جمال عبد الناصر .
أول قرار أصدرة أنور السادات بعد مؤامرة مايو كان يوم 20 مايو 1971 كما سبق أن ذكرت عندما أعلن أمام مجلس الأمة رغبته فى وضع دستور دائم ... وأعلن فجأة تغيير اسم ( مجلس الأمة ) ليصبح ( مجلس الشعب ) قائلا :
( ومن هنا يجب أن تتأكد سلطة مجلس الشعب اللى هوه مجلس - ما هو اتغير اسمكو ... بقى اسمه مجلس الشعب ) .
هكذا فى بساطة تغير اسم المجلس الذى نص عليه الدستور .
لم يكن الالتزام بالدستور مهما عند أنور السادات فى هذه المرحلة ... كل ما كان يهمه هو تغيير الأمور بما يضمن له الولاء الكامل وتثبيت أقدامه ... ولذا أقدم على مخالفة دستورية أخرى عندما أصدر قرارا بحل كافة تنظيمات الإتحاد الإشتراكى دون استفتاء قانونى كما تنص المادة 29 من القانون . وبدأت عملية انتخاب شاملة فى جميع مستويات الإتحاد الإشتراكى ... ولكنها توقفت عند القمة ... لم تتم انتخابات اللجنة التنفيذية العليا ... وقا أنور السادات فى تبرير ذلك أما المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى فى فبراير 1972 ( إننا سوف نؤجل ذلك إلى ما بعد المعركة , ودور كل واحد فيها هى التى ستحكم الانتخابات من أجل اختيار اللجنة التنفيذية العليا ,وهى اللى تحكم أيضا اختيار الجهاز الطليعى ) .
وغنى عن البيان أن ذلك كان يعتبر قصورا فى التطبيق الديمقراطى داخل الإتحاد الإشتراكى , حيث ركزت كل سلطات القمة فى يد رئيس الجمهورية ... ولعل تجربة أنور السادات السابقة مع اللجنة التنفيذية العليا قبل مايو 1971 هى التى دفعته إلى تأجيل انتخاباتها بصورة مطلقة .
كما أن تأجيل تشكيل الجهاز الطليعى إلى ما بعد المعركة يعنى فى مضمونه إلغاء هذا الجهاز الذى نص عليه الميثاق , والذى كان يعتبر بمثابة العمود الفقرى للاتحاد الاشتراكى , والذى طاردت الصحافة أعضاءه باعتبارهم فى جهاز سرى رغم أن الذين تعاونوا مع أنور السادات خلال هذه المرحلة كان معظمهم أعضاء فى هذا الجهاز الطليعى الذى عرف باسم ( طليعة الاشتراكيين ) ومنهم على سبيل المثال دكتور عزيز صدقى وزير الصناعة ومحمد حسنين هيكل وممدوح سالم وزير الداخلية , وحافزظ بدوى رئيس مجلس الشعب الذى جلس فى مقعد الدكتور لبيب شقير بعد مؤامرة مايو ,وعبد اللطيف بلطية وزير العمل .
ولم يقتصر التغيير على حدود الإتحاد الإشتراكى , ولكنه تجاوز ذلك إلى الاتحادات والنقابات العمالية والمهنية ... بل وصل إلى الاتحادات الرياضية ومجالس إدارات الأندية ... بل وصل الأمر إلى مجلس الشعب يوم 27 يوليو رغم موقفه المساند له أثناء مؤامرة مايو .
كان أنور السادات يريد أن يحدث هزة فى الكيانات التنظيمية القائمة لتسقط منها العناصر الواضحة الاخلاص لجمال عبد الناصر ومن أحاط به ممن أصبحوا خلق قضبان السجون , وليستبدلهم بالعناصر الأكثر استعدادا للتعاون معه .
وشغلت هذه التغييرات ولانتخابات اهتمام الناس , وصرفتهم مؤقتا عن قضية عودة هذا السيل من الانتخابات أن عام 1971 سوف يكون عام الحسم , وفسر ذلك بقوله فى خطاب إلى الأمة يوم 12 يناير 1927 بعد أن أمضى العام دون حسم ودون قتال ( إن هذا القرار يعنى أنه إذا لم يتوصل إلى الحسم فى سنة 1971 ستظل القضية معلقة إلى ما بعد 1973 – 1974 ) . .
لماذا؟ لم يفسرسبب ذلك وإنما قال :
( فى أكتوبر الماضى دعيت المجلس الأعلى للقوات المسلحة , وفى هذا المجلس , وفى هذه الجلسة بالذات تدارسنا كل الموقف . سياسيا وعسكريا , وانتهينا إلى قرار واصدرت تعليماتى للتجهيز للعمل قبل انتهاء 71 ولكن الضباب حجز كل شىء ) .
لم يفهم الناس معنى لهذا الضباب الذى حال دون الانطلاق للقتال .
ولكن أنور السادات يعطى صورة جديدة للموقف فى نفس خطابه , تشير إلى أن الولايات المتخحدة كانت تفكر من وقت مبكر فى انتزاع مصر من إطار الأمة العربية , وأن ما قصده بمبادرته فى فبراير كان يستهدف حلا شاملا للمشكلة .
ولكن أمريكا كانت تنظر إليها على أنها حل جزئى مع مصر لأنها – حسب قوله – ( هى القلعة والأساس ) ... ثم يواصل تفسيره قائلا ( راحوا واخدين المبادرة بتاعتى ولوينها وقلبوها إنها حل جزئى مع مصر ولما تقدمت المفاوضات وتقدم الموقف شوية طمعوا أكتر مبقاش حل جزئى كمان مع مصر ( بقى حل جزئى للحل الجزئى مع مصر ) يعنى إيه ؟ أنا حانبسط قوى وأرضى لما يقولوا لى نفتح لك قناة السويس وخلاص وحتى سموا هذا الحل فتح قناة السويس .
لم يكن مضمون الحسم إذن هو العودة للقتال , وإنما الرغبة فى حسم المشكلة عن طريق المبادرة وبدأت المفاوضات السرية مع أمريكا – حسب ما جاء فى خطابه – ولكنها عندما انتهت إلى لا شىء أعلن أن الضباب قد انسدل فحال دون الحسم ... وعلل ذلك بحرب الهند والباكستان التى انتصرت غيها الهند وقامت دولة بنجلاديش ... هذا وقد أسفر انورالسادات عن طبيعة هذه الاتصالات والخطابات المتبادلة بينه وبين نيكسون فى خطابه فى عيد العمال أول مايو 1972 عندما قال إنها توقفت فى نوفمبر 1971 وبدأت حملة مضادة .
وإذا كان أنور السادات لم يحقق هدفه فى أن يكون عام 1971 هو عام الحسم فى القضية الوطنية ... فإنه حقق ذلك فى القضية الداخلية , فقد استقرت الأوضاع الجديدة وبدأت الأجهزة السياسية والتشريعية والتنفيذية والمهنية والرياضية تمارس عملها بقياداتها الجديدة مع بداية عام 1972 .
وصدر قرار جمهورى يوم 23 سبتمبر يحمل رقم 65 لعام 1971 فى غيبة مجلس الشعب بشأن استثمار المال العربى والمناطق الحرة ... وهو قرار يعيد قضية الاستثمارات الأجنبية إلى السطح , والدعاية التى صاحبت ذلك هى الرغبة فى الانتفاع برؤوس الأموال العربية والمناطق الحرة ) وهو يعفى المستثمرين العرب من الضريبة على الأرباح التجارية والصناعية وملحاقاتها لمدة خمس سنوات , كما يعفى مبانى هذه المنشآت من قانون المساكن , ويسمح بتحويل صافى الربح إلى الخارج .
ولم يقتصر القانون على ذلك بل سمح لرأس المال الأجنبى بنفس المزايا والضمانات شرط الحصول على موافقة مجلس الوزراء واعتماد رئيس الجمهورية .
ولكن ما ورد فى هذا القانون لم يكن كافيا لإغراء العرب أو الأجانب على استثمار أموالهم فى مصر التى كانت مجتمعها ما زال يعيش فى ظل قوانين يوليو , ولم يكن نظام أنور السادات – حتى ذلك الوقت – قد استطاع أن يبدد الشكوك ويكسب الثقة فى أنه قد أصبح قادرا على تغيير بنية المجتمع .
عموما كان صدور هذا القانون مؤشرا لا يريح الاشتراكيين الذين آمنوا بتجربة التطبيق فى مصر ... وفى نفس الوقت لا يغرى الرأسماليين الأجانب بالحضور إلى هذا البلد الذى سبق الدول النامية فى محاولته وتوجهه الاشتراكى .
ولعل أبرز ما تم خلال هذه الفترة كان إقرار الدستور الذى جرى الاستفتاء عليه يوم 11 سبتمبر 1971 وافتتح مجلس الشعب باسمه الجديد فى 11 نوفمبر 1971 .
وقد نص الدستور على تغيير اسم الدولة كما كانت فى عهد جمال عبد الناصر إذ تغيرت من ( الجمهورية العربية المتحدة ) التى قال جمال عبد الناصر يوم 5 أكتوبر 1961 بعد الانفصال إنها ستظل محتفظة باسمها ( رافعة أعلامها مرددة نشيدها مندفعة بكل قواها إلى بناء نفسها لتكون سندا لكل كفاح عربى ولكل حق عربى ولكل أمل عربى ) ...
أصبح اسم الدولة فى الدستور الجديد _ جمهورية مصر العربية ) ... ونص الدستور على أنها ( دولة نظامها ديموقراطى واشتراكى يقوم على تحالف قوى الشعب العاملة والشعب المصرى جزء منالأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة .
تفسير أنور السادات لهذا التغيير يقترن بقيام اتحاد الجمهوريات العربية مع سوريا وليبيا فهو يقول فى خطابه أما المؤتمر القموى للاتحاد الاشتراكى يوم 23 يوليو 1971 ( وقام اتحاد الجمهوريات العربية ليكون أقوى وأقدر على استكمال رسالة الوحدة الشاملة , لذلك كان من الطبيعى أن يعود الشعب المصرى إلى حمل اسم مصر العظيمة ) .
الدستور الجديد يبعث على الاطمئنان من ناحية انتهاج طريق ثورة يوليو , واختيار طريق التحول نحو الإشتراكية وبقاء الإتحاد الإشتراكى تنظيما وحيدا لتحالف قوى الشعب العاملة مع الاحتفاظ بنسبة النصف للعمال والفلاحين .
وقد استبقى هذا الدستور مضمون معظم مواد دستور 1964 غير أنه سحب حق رئيس الجمهورية فى حل الشعب , وأعطى ذلك للشعب فى استفتاء عام كما أنه قيد سلطة مجلس الشعب فى سحب الثقة من رئيس الوزراء الذى يستمد وجوده من رئيس الجمهورية أو من الوزراء .
لم يعد للمجلس حق سحب الثقة , وإذا حدث خلاف بين المجلس والحكومة وانحاز فيه رئيس الجمهورية إلى جانب الحكومة , فإن الفصل عندئذ يكون فى استفتاء تجربة أجهزة الحكومة ( وزارة الداخلية ) والذى سوف يحسب أعضاء المجلس حسابه ألف مرة لأنه يمكن أن ينتهى إلى حل المجلس نفسه والاستفتاء بذلك يصبح وسيلة للقفز فوق السلطة التشريعية وإقرار ما يطلبه رئيس الجمهورية .
وعلى هذاالأساس الذى أقر فيه الدستور الجديد , بدأ عام 1972 والمؤسسات والهيئات والاتحادات بمجالس إدارة جديدة .
ولكن بدايته مع ذلك كانت مقترنة بمظاهر اعتراض واضحة تجسدت فى تحركات ومظاهرات للطلبة احتجاجا على التقاعس عن دخول المعركة ... وكانت التنظيمات القيادية فى الجامعة حتى ذلك الوقت من الذين تخرجوا فى منظمة الشباب , وبلوروا أفكار مواثيق ثورة يوليو فيما عرف باسم ( الناصرية ) .
ولم يكن للنظام عندئذ كلمة دفاع يمكن أن يدافع بها عن نفسه ... فمعركة التحرر الوطنى كانت ضاربة الجذور فى أعماق الشعب الذى بلغ عدد أبنائه العاملين فى الجيش ما يزيد على 800 ألف مقاتل .
ولم تكن كلمة الديموقراطية التى طالما ترددت فى الخطب ذات تأثير عميق وخاصة بعد أن صدر الدستور الجديد مشابها تقريبا للدستور القديم .
لا يستطيع أحد القول حتى هذه المرحلة بأن الانحراف عن طريق ثورة يوليو كان واضحا أو مؤكدا , فكثير من القيادات كانت من المؤمنين بمنهج ومواثيق ثورة يوليو ... وأدرك أنور السادات والقيادات المتعاونة معه أنه رغم التخلص من أقرب أعوان جمال عبد الناصر فإن استقرار السلطة والأوضاع الاقتصادية يتطلب الابقاء على بنية المجتمع كما كانت فى عهد عبد الناصر لمرحلة معينة يمهد فيها للانقضاض بعد تجسيد الأخطاء والانحرافات وضمان السيطرة تماما على السلطة السياسية والادارية .
وكان النقد الذى تعرض له النظام يأتى من جبهتين ... الطلبة والعمال الذين يطالبون بالسير الثابت فى طريق عبد الناص ... وبعض االسياسيين الذين كان لهم رأى خاص فيما يدور بمصر فكانت هذه المذكرة التى كتبت فى إبريل 1972 وقعها عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين من أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين والوزراء السابقون عصام الدين حسونة والمهندس أحمد الشرباصي ودكتور مصطفى خليل والمهندس عبد الخالق الشناوي والمحافظون السابقون صلاح دسوقي وأحمد كمال أبو الفتوح , والتى طالب فيها الموقعون بقاء أنور السادات فى مركزه مع تشكيل جمعية تأسيسية لاقرار أسلوب وقواعد جديدة للحكم , كما تضمنت المذكرة دعوة إلى عدم تجاوز الحدود فى التعامل مع الاتحاد السوفيتى نفيا لشبهة التبعية ... وقد قال لى عبد اللطيف البغدادي إن فكرة تقديم هذه المذكرة قد نبت قبل لقاء القمة المرتقب بين بريجينيف ونيكسون فى مايو 1972 رغبة فى اتخاذ موقف يعيد لجبهة القتال حرارتها , وتحاشيا لعدم حدوث اتفاق بين الدولتين العظميين يعطل تحرير الأرض العربية المحتلة ... وأنه لم يكن هناك أى اتجاه لتغيير علاقة الصداقة الوثيقة مع الاتحاد السوفيتى .
النقد من الجانبين ... والاجراءات تختلف .
السلطة تعتقل بعض الطلبة وتبدأ التحقيق معهم , وتغير قيادات بعض الصحف , وقد سبقت روز اليوسف غيرها فى هذا المجال , فأبعد كاتب هذه السطور من رئاسة تحريرها وأبعد أيضا نائب رئيس التحرير صلاح حافظ , ومدير التحرير فتحى خليل فى يناير 1972 ..كما بادر الدكتور عبد القادر حاتم بإصدار قرار فى فبراير 1972 بإجراء ( مذبحة ) تخلص فيها الاذاعة والتليفزيون من بعض أفضل أصحاب الخبرة المهنية والوعى السياسى مثل سعد لبيب وصلاح زكى وسميرة الكيلانى وطاهر أبو زيد وعبد الوهاب قتاية وابراهيم عبد الجليل وغيرهم ... وكانت هذه هى المرة الثانية التى تتم فيها حالات إبعاد فى ظل وجود الدكتور عبد القادر حاتم فى وزارة الاعلام فقد سبق أن اتخذ مثل هذا الاجراء عام 1964 ضد عبد الرحمن الشرقاوى ونعمان عاشور وعبد الرحمن الخميسى وغيرهم .
أما المذكرة فقد تحدث عنها أنور السادات أمام مجلس الشعب يوم 14 مايو 1972 وأنقل نص حديثه :
( أنا فاهم أن الثورة والانفعال والتشنج يبقى على أمريكا اللى بلا حياء ولا خجل واقفة وبتقول ندى فانتوم وتصنيع لإسرائيل وعليكم يا تسلموا بشروط إسرائيل ويادوبك نفتح لكم قناة السويس وهو قاعدة لكم على الضفة , وتفاوضوها مباشرة يامافيش حاجة وتحطوا راسكم مطرح ما تحطوا رجليكم ... بتقول لنا كده أمريكا علشان التشنج يبقى على أمريكا ... الصديق الوحيد اللى وقف معانا وبنى السد العالى وناخد منه السلاح ويساعدنا سياسيا , ونختلف معاه ونرجع نصطلح , وماشية علاقتنا شريفة الند للند هو ده اللى نتشنج عليه دلوقت ونسيب الأمريكان ) .
هذه العبارات تؤكد المرارة التى شعر بها أنور السادات من رد الفعل الأمريكى على مبادرته التى تقلص تأثيرها إلى حد اقتراح إعادة فتح قناة السويس فقط .
ومع ذلك انبعث فى هذه الفترة بالتحديد نوع من الهجوم داخل صفوف القوات المسلحة ضد الاتحاد السوفييتى يتحمل مسئوليته بالتأكيد الفريق أول محمد صادق القائد العام ... ذلك أن الخلافات بين بعض الضباط المصريين وبعض الخبراء السوفييت هى من طبيعة الأمور , واختلاف المشارب , وتباين النظرة أحيانا إلى بعض القضايا ... ولكنها كانت تعالج دائما من جانب قيادة القوات المسلحة وقيادة الخبراء أيضا , بأسلوب حريص على نسج تعاون سليم بوعى وطنى عميق ... ولكن ما حدث فى هذه الفترة قد تجاوز حدود القوات المسلحة فأصبح حديث المجالس ومثيرا لعلامات التعجب والاستفهام .
وهنا لابد من الاشارة إلى أن الفريق أول محمد أحمد صادق قد سلك سلوكا حرص فيه على اكتساب محبة الضباط عن طريق مساعدتهم وتقديم الخدمات لهم , فتجاوز شعور رجال الجيش نحوه , شعورهم نحو المشير عبد الحكيم عامر الذى كان يغدق على كل من يلجأ إليه ... وساعد على ذلك أنه خلف الفريق أول محمد فوزي الذى تميز بعسكريته الشديدة وانضباطه الذى استطاع بهما أن يعيد بناء القوات المسلحة بعد أن كانت قد تشردت تقريبا بعد هزيمة يونيو 1967 .
ولذا كان تولد هذا الشعور وتناميه فى صفوف القوات المسلحة , أمرا يدعو إلى التساؤل عما يمكن أن يثمره ذلك فى مجال التعاون والاستعداد للمعركة ... كما انه يعطى مؤشرا لموقف أنور السادات , فقد كانت هناك مثل هذه الخلافات تنبعث فى عهد جمال عبد الناصر, ولكنه كان حريصا دائما على مداواتها فى لحظتها وسد أى ثغرات يمكن أن تنجم عنها .
ولذا كانت هذه الفترة من عام 1972 حافلة بالمتناقضات .
الطلبة يتظاهرون ويحتجون على هذا الركود الذى غمر الموقف إلى الحد الذى ذاعت فيه نكتة تقول إن أنور السادات ركب أتوبيسا ولما قال له الكمسارى إنه ذاهب إلى ( التحرير ) نزل مسرعا وقال ( لا أنا ذاهب إلى (العتبة ) .
التحرير ...لم يكن يعنى ميدان التحرير ... وإنما يعنى تحرير الوطن .
والعتبة ... لم تكن تعنى العتبى الخضراء .. وإنما يقصد بها عتبة الأمريكان جريدة الأهرام تفتح باب المناقشة فى سلسلة مقالات تحمل عنوان ( لا حرب ولا سلم ) ... وفيها ظهر تلميح ونقد لموقف الاتحاد السوفيتى باعتباره مستفيدا من هذه الحالة ... حالة الجمود التى سيطرت على الموقف . والمراقب لأجهزة الاعلام تأخذه الدهشة من المفارقات المثيرة ... الخطب الرسمية وكلمات أنور السادات ما زالت تمجد ثورة يوليو , وتتحدث بتقدير عن دور جمال عبد الناصر , وتشيد بالصداقة المصرية السوفيتية .. ولكن مقالات بدأت تظهر فى الصحف تنقد إرهاب من أطلق عليهم اسم مراكز القوى وهى فى مضمونها هجوم على جمال عبد الناصر بطريق غير مباشر , واقترن ذلك بعودة على أمين من الخارج وافساح المجال له للكتابة فى أخبار اليوم ..
وأثار هذه الحالة عددا من الكتاب , فأصدروا بيانا نقدوا فيه الموقف الذى ساد مصر فى هذه الفترة , حيث انحسرت موجة القتال , ولم يظهر بعد فى الأفق ما يدل على اقتران المعركة ,. الأمر الذى يلقى أعباء مادية ونفسية على الجماهير .
وقع هذا البيان توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض ويوسف ادريس وعباس الأسوانى وثروت أباظة وعدد من شباب الأدباء ... ولم تتح فرصة تداوله فى مصر حيث فرضت عليه الرقابة , فوجد طريقه للنشر خارج مصر .
ولا يمكن الادعاء بأن ما ورد فى هذا البيان كان تجاوزا للحدود الطبيعية لدور المثقف المسئول . كما لا يمكن القول بأن فيه تهجما على النظام , وأخيرا يصعب تصنيف الموقعين بأنهم من اليساريين .
وقوبلت عريضة الكتاب التى صدرت منبعثة من مظاهرات الطلبة وتحقيق النيابة معهم ... قوبلت بمثل ما قوبلت به عريضة السياسيين ...الرفض والادانة واتهام توفيق الحكيم أنه مخرف , وأن البيان جسر الأحقاد والانهزامية .
ولكن مجلس نقابة الصحفيين أصدر بيانا مؤيدا لحق الطلبة المشروع فى التعبير عن رأيهم , ومطالبا بالحرية والديموقراطية .
وأصبحت المعركة أيضا فى ساحة نقابة الصحفيين , حيث يروى موسى صبري ( فى كتابه وثائق حرب أكتوبر ) أنه عقد فى مواجهة مجلس النقابة اجتماع فى منزل الفنان رخا حضره موسى صبري ويوسف السباعى وعبد الرحمن الشرقاوى ومحمد صبيح ومصطفى بهجت بدوى وحافظ محمود , وتم فيه الاتفاق على ان يحضر الصحفيون اجتماع الجمعية العامة التالى لنقابة الصحفيين ( وأن تكون معركة حياة أو موت لكشف الاتجاه اليسارى وأهدافه ) حسب نص كلمات موسى صبري .
والواقع أن الاتجاه اليسارى المعبر عن مواثيق ثورة يوليو كان ما زال سائدا ومسيطرا فى صفوف الطلبة والمثقفين والمهنيين ... وأن المعركة لم تكن قد حسمت بعد لصالح طرف دون الآخر .
ومحاولة من أنور السادات فى احتواء غضب الكتاب طلب من الدكتور عبد القادر حاتم أن يلتقى مع توفيق الحكيم – حسب رواية محمد حسنين هيكل فى كتابه خريف الغضب – وتم اللقاء فعلا بين حاتم وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وثروت أباظة .
ويبدو أن حاتم قد أفصح عن أسرار السياسة بأكثر مما يجب فقد قال لهم ( إن المعركة فى الحقيقة لن تكون أكثر من مناوشة محدودة لاستلفات نظر العالم إلى خطورة الموقف المتفجر فى المنطقة ليسرع إلى منع الكارثة بتسوية مقبولة ) .
وصل نص هذه العبارة إلى أنور السادات عبر خطاب كتبه توفيق الحكيم ليفسر موقفه أما رئيس الجمهورية وحمله إليه محمد حسنين هيكل .
فوجىء أنور السادات بما قال حاتم مما كان يتمنى ان يظل سرا من الأسرار ... وبناء على أسلوبه الذى يجيد التمويه فقد قال لهيكل لقد اكتشفت أن حاتم لا يصلح لمنصب رئيس وزراء – وكان فيما يبدو يؤهله لذلك – وطلب مقالبة توفيق الحكيم .
وعندما تمت المقابلة فى القناطر الخيرية , أحسن أنور السادات استقباله وطاف معه فى حلم فنى حول دار الاوبرا الجديدة ... ولم يتعرض لما أصدره الحكيم من بيان , أو يردد ما سبق أن وجهه له من اتهامات .
كانت المقابلة محاولة ناجحة لتصفية أثر كلمات عبد القادر حاتم ... ورغبة فى اجتذاب هؤلاء الكتاب .. وفعلا أصدر توفيق الحكيم بعد ذلك كتابا تهجم فيه على جمال لعبد الناصر تحت اسم ( عودة الوعى ) ... وحصل من السادات على ارفع وسام ( قلادة النيل ) .
كان أنور السادات بارعا فى كبت مشاعره أحيانا ... لا تكاد كلماته تفصح عما يطويه صدره من اتجاهات .
ولكن شيئا ما كان يختمر , وخاصة بعد زيارتين قام بهما أنور السادات إلى موسكو الأولى فى 2 فبراير 1972 والثانية فى إبريل 1972 وكانت زيارته الأخيرة إلى موسكو .. وقد سبق هذه الزيارة مؤتمر قمة الدولتين العظميين بين نيكسون وبريجينيف الذى عقد فى 20 مايو 1972 بموسكو , والذى اعتبر خطوة هامة فى طريق التعايش السلمى بين الدولتين العظميين والذى يقول أنور السادات إنه لم يسترح إلى ما ورد فى بيانه من كلمات عن الاسترخاء العسكرى فى المنطقة , رغم أن البيان قد نص فقط على ( أن التوصل إلى تسوية سيؤدى إلى انفراج الموقف العسكرى فى المنطقة , وأن كوسيجين قد صرح بأن شرط التسوية هو انسحاب إسرائيل ومع ذلك فلم يتضمن البيان المشترك الذى صدر يوم 29 مايو نصا على انسحاب إسرائيل ... وهذا دليل على رفض الجانب الأمريكى الالتزام بهذا الموقف.
لم يعد سرا أن أنور السادات قد بدأ يغير علاقته مع السوفييت ... فقد كان يعلم ويتسامح ... بل ويشجع بالصمت ما كان يقوم به الفريق أول محمد أحمد صادق من هجوم على الخبراء السوفييت والأسلحة السوفيتية داخل صفوف القوات المسلحة ... ولكنه ظل يخفى ذلك علانية , بل ويظهر علاقات صداقة خاصة مع بعض الزعماء السوفييت الذين يزورون مصر , مثلما حدث مع الماريشال جريتشكو الذى حضر إلى مصر فى أعقاب زيارة أنور السادات لموسكو للتأكد من سلامة المساندة السوفيتية للقوات المسلحة المصرية .. وكان ذلك يوم 15 مايو 1974 .
كان الفريق أول محمد صادق قد دعا الماريشال جريتشكو وزير الدفاع السوفيتى إلى حفل عشاء بنادى الضباط بالزمالك , والمواجه تقريبا لمنزله , واضطر للانتظار حتى الحادية عشرة مساء لأن جريتشكو كان ضيفا منذ السابعة مساء فى منزل أنور السادات يحتفى به . وتغنى له إحدى بناته أغنية روسية تعلمتها عندما كانت تحضر معسكرا للشباب فى موسكو.
كان الماريشال جريتشكو قد حضر ومعه قائد الطيران السوفيتى ومعه طائرة جديدة هى سوخوى 17 , قاموا بتجربتها ... ومنحهم أنور السادات نياشين تقديرا لهم .
إلى هذا الحد أجاد أنور السادات أسلوب التمويه ... فى وسائل الاعلام وعلى صعيد العلاقات الشخصية .
وتميز شهر يونيو بعدد من الأحداث الهامة ... بدأت بقرار إبعاد إسماعيل فهمي وتحسين بشير من وزارة الخارجية لموقفهما من السوفييت فى ندوة عقدت بجريدة الأهرام ... وشارك فيها السفير محمد عوض القونى والدكتور أسامة الباز وأحمد بهاء الدين وتحسين بشير وحاتم صادق وعبد الملك عودة ثم حدثت فى منطقة الشرق الأوسط أحداث هامة تستحق الرصد لتأثيرها غير المباشر على مصر فى علاقتها الجديدة والسرية مع الولايات المتحدة , فقد أصدرت العراق قرارا بتأميم البترول العراقى فى هذا الشهر , واعتبر هذا القرار ضربة موجهة للامبريالية مشابهة لتأميم قناة السويس , كما أن الموقف السياسى تغير فى اليمن الديموقراطية إلى الحد الذى جعل الصحف المصرية تعلن فى مانشت يقول ( النجمة الحمراء فوق اليمن الجنوبية ) وهنا قام وليم روجرز وزير خارجية أمريكا بزيارة اليمن الشمالية فى أول يوليو وأعاد العلاقات الديبلوماسية المقطوعة بين البلدين .
وبدأت خطوات السادات تتجه نحو طريق جديد , لم تطرقه ثورة يوليو منذ بدأت علاقتها مع السوفييت , بعد أن كسرت احتكار السلاح وحطمت قيود التبعية للدول الغربية فى معركة الأحلاف العسكرية , واتخذت موقفا صلبا من قضية الاستقلال الوطنى , وتبنت سياسة عدم الانحياز .
خطا أنور السادات خطوة كانت مفاجأة لعامة الناس , ولكنها كانت متوقعة من الذين يعرفون خبايا السياسة المصرية , وإن لم يتوقعوا بالتأكيد أن تتم بهذه السرعة .
قابل أنور السادات السفير السوفيتى يوم 6 يوليو 72 الذى سلمه رسالة من القادة السوفييت , وبعد أن لم يجد فيها ردا على بعض مطالبه – حسب قوله – اتخذ قرارا منفردا لم يستشر فيه أحدا من معاونيه , رفض فيه الرسالة شكلا وموضوعا – حسب ما كتب فى كتاب البحث عن الذات – وقرر الاستغناء عن جميع الخبراء العسكريين على أن يعودوا للاتحاد السوفيتى خلال أسبوع , وأن يحملوا معهم طائرات الميج 25 ومحطة الحرب الاليكترونية إذا رفضوا بيعها لمصر .
لم يبلغ أنور السادات وزير الحربية الفريق أول محمد صادق إلا بعد أن كان قد اتخذ القرار وأبلغه للسفير السوفيتى فعلا , وارسل وفدا على موسكو برئاسة الدكتور عزيز صدقى ليقنع السوفييت بأن يصدروا معا بيانا مشتركا يدل على أن القرار قد اتخذ بالتفاهم , ولكن السوفييت رفضوا ذلك تماما , وشاءوا للأمور أن تمضى بصورتها الطبيعية .
وكان معروفا كما ذكرنا أن السوفييت أنفسهم كانوا حريصين على ألا تبدأ المعركة وهناك خبراء ومقاتلون من عندهم , حتى لا تتصاعد الأمور إلى درجة الصدام مع الولايات المتحدة .
ونفذ السوفييت رغبة أنور السادات قبل الموعد المحدد , وأفحموا بذلك دعاوى هؤلاء الذين كانوا يرددون بلا انقطاع أن الوجود السوفييتى فى مصر قد زاد عن حده , وأنه أصبح نوعا من الاستعمار المقنع .
وقد انعكس هذا القرار الذى آثر أنور السادات أن يطلق عليه تعبير ( وقفة مع الصديق ) , انعكاسا مثيرا للدهشة والريبة معا ... إذ كيف يستقيم هذا القرار مع عبارات المديح والتقدير للسوفييت التى لم تنقطع أبدا فى مجال العلاقات الرسمية , وكيف يمكن أن يكون هذا العمل خطوة فى طريق معركة التحرير .
زادت الشكوك فى نفوس الجماهير , بهذا القرار الذى سبق به أنور السادات كل الخطوات التى قام بها القائد العام الفريق أول محمد صادق فى محاولة الاساءة والتشهير بالخبرة والأسلحة السوفيتية ... وهو فيما يبدو كان قد استشعر الشعبية التى حصل عليها الفريق أول محمد صادق فى صفوف القوات المسلحة , فأراد أن يسبقه فى مجاله فكان توقيت هذا القرار .
المثير أن الاتحاد السوفيتى لم يستبد به الغضب نتيجة لهذا الموقف الذى أساء إلى وجوده بكل تأكيد ... وأعلن أنه ملتزم بتوريد كل ما تم التعاقد عليه من أسلحة ومعدات .. ولعلهم فى ذلك كانوا حريصين على صدق التعامل مع الشعب المصرى وقواته المسلحة .
ويقول أنور السادات فى الجانب المقابل عندما زادت موجات التساؤل عن السر وراء إخراج الخبراء السوفييت أنه فعل ذلك لم يكن من الطبيعى أن يدخل الحرب وفى مصر خبراء عسكريون سوفييت .
ولكن الفترة لم تثمر الهدوء فى المجتمع ... العكس هو الصحيح ... الكل يطلب المعركة ... كلمات النقد تزيد ... السنوات تمر على خريجى الجامعة وهم فى ملابس الجنود يعيشون فى ذاته دليلا على إمكانية حدوث أى تصرف من جانب الجماهير أو الجنود .
وفى هذا المضمار اتخذ أنور السادات خطوة مفاجئة اخرى إذ صدر قرارا فى 28 أكتوبر أعفى فيه الفريق أول محمد صادق بدعوى انه قد ابلغه ضرورة أن تكون القوات المسلحة جاهزة يوم 15 نوفمبر , ثم تبين له – حسب قوله – أثناء اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 24 أكتوبر أن الفريق أول محمد صادق لم يبلغهم بأمر هذا الاستعداد .
تعين الفريق أحمد إسماعيل قائدا عاما للقوات المسلحة واستطاع – حسب قول أنور السادات – أن يجهز القوات تماما فى 30 نوفمبر 1972 ثم سافر فى فبراير 1973 إلى موسكو حيث عقد أكبر صفقة سلاح مع السوفييت منذ وفاة عبد الناصر , وهكذا واصل السوفييت إمداد مصر بالأسلحة .
أسرار التسليح والاستعداد للمعركة ظلت خلف ستار , وفى أرجاء المجتمع يزداد الغليان ... وتلح المطالبة بالعودة للقتال .
ومع بداية 1973 وفى شهر فبراير 1973 بالتحديد أرسل أنور السادات مستشار الأمن القومى حافظ إسماعيل إلى واشنطن لمقابلة نيكسون تحت أضواء الاعلام والدعاية , مع لقاء سرى مع هنري كيسنجر لم يسفر عن شىء حيث كانت المشكلة خامدة وباردة ولا تغرى أحدا بالاقتراب منها ومحاولة حلها .
وفى نفس الشهر الذى كان فيه حافظ إسماعيل يقابل نيكسون كان أنور السادات قد أصدر قرارات مثيرة فى عالم الفكر والثقافة لا يستطيع الكاتب أن يعزلها عن هذه الاتصالات المصرية الأمريكية المتزايدة والمنتقلة من عالم السرية إلى العلنية ... فقد وجهت القرارات ضد الكتاب ورجال الاعلام الذين اشتهروا بأنهم من أبناء ثورة يوليو وأنصارها . صدر يوم 4 فبراير 1973 قرار هيئة التنظيم بالإتحاد الإشتراكى برئاسة حافظ بدوي رئيس مجلس الشعب , وعضوية محمد حامد محمود وأحمد عبد الآخر والدكتور أحمد كمال أبو المجد , ويوسف مكاوي , ويمثل أمانة التنظيم محمد عثمان إسماعيل بإسقاط العضوية العاملة من 64 من المهنيين أعضاء التنظيم السياسى بحيثيات تقول ( من المعروف أن الفصل من العضوية العاملة للاتحاد الاشتراكى يترتب عليه إسقاط عضوية أى تنظيم نقابى , أو مجلس إدارة , أو وحدة اتحاد اشتراكى , أو أى مستوى من مستويات التنظيمات السياسية المساعدة كما يترتب عليه إبعاده عن أى عمل تكون العضوية العاملة شرطا للمارسة مثل الصحفيين , وذلك قانون الصحفيين ولا يجوز تبعا لذلك أن يعتبر صحفيا لأن ممارسة العمل الصحفى تشترط أن يكون عضوا عاملا بالإتحاد الإشتراكى على أن تسرى حالته فى المؤسسة الصحفية التابع لها ويحال إلى المعاش .
وفيما يلى نسجل أسماء هؤلاء الذين أبعدوا قسرا عن الإتحاد الإشتراكى : فيليب جلاب – محمد عودة – حسين عبد الرازق – مصطفى نبيل – كمال سعد – محمود المراغي – يوسف ادريس – عادل حسين – أحمد عبد المعطي حجازي – فريدة النقاش – مكرم محمد أحمد –سمير تادرس – الأمير العطار – صلاح عيسى – صافيناز كاظم – مصطفى الحسيني – محمد العزبي – أمير اسكندر – سعيد حبيب – نبيل زكي – محمد حسن الخياط – فتحي عبد الفتاح – جمال الغيطاني – شوقي مصطفى – أسعد حسني منصور – أحمد فاروق الطويل – زيد الشريف – الإمام الجميعي – محسن توفيق – سامي السلاموني – علي عبد الخالق – صلاح السعدني – عدلي فخري – فؤاد التهامي – محمد رجائى الميرغني – أحمد فؤاد نجم – الدكتور [[علي الراعي - محمود أمين العالم – الفريد فرج – أمل دنقل – إبراهيم فهمي منصور – دكتور لويس عوض – زكي مراد – عبد الله الزغبي – يوسف درويش – حامد رضوان الأزهري - نبيل الهلالي – عادل حسين – عبد المحسن شاشة – عادل كامل فانوس – سعاد حماد – جلال محمد رجب – عبد العظيم الجزار – محمد عبد العزيز علوان – لوقا قلدس النخيلي – رشوان فهمي – دكتور نزيه أحمد أمين – عبد الرازق عبد العال – بديع الشرملي – سمير عبد الباقي .
( يلاحظ استثناء توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وثروت أباظة فقط من الموقعين على بيان الأدباء ) .
قرارهيئة النظام كان صدمة شديدة لكل القوى الوطنية والتقدمية فقد اتخذ اجراءات لم تعرف من قبل تاريخ العمل الصحفى أو المهنى ... فلم يحدث مطلقا أن أزيلت صفة الصحفى عنه نتيجة عزله من الإتحاد الإشتراكى ... ولم يحدث أن استتبع ذلك تسوية حالته وإحالته إلى المعاش :
أقصى ما وصل إليه الأمر كان القرار لذى أشرنا إليه وصدر بناء على تعليمات الدكتور عبد القادر حاتم بتحويل عمل بعض الصحفيين من دار الجمهورية خلال رئاسة لمجلس إدرتها إلى مؤسسات أخرى غير صحفية مع المحافظة على مرتباتهم وعضويتهم فى النقابة ... والقرار الذى صدر أثناء جمع محمد حسين هيكل لرئاسة إدارة الأهرام وأخبار اليوم وابعاد الصحفيين من أخبار اليوم ثم الرجوع عنه بعد توقيعه وقبل نشره .
أغلبية هذه الأسمكاء كما تلاحظ من العاملين فى مجال الصحافة ... وعدد منهم عاش سنوات فى معتقلات 1959 – 1964
فتحت للشيوعيين واليساريين . ولذا أثبتت هذه القرارات أن الإتحاد الإشتراكى قد تحول إلى قبضة أخرى معادية لليسار واليساريين , وأنه قد بدأ حملة التخلص منهم مصاحبة لمحاولة فتح أبوابه للعناصر المعادية ل[[ثورة 23 يوليو ]] .
أصبح الإتحاد الإشتراكى هو وسيلة السلطة التنفيذية لعزل وفصل المغضوب عليهم دون تحقيق أو محاكمة ... ودون اعتقال أيضا .
كان الإتحاد الإشتراكى قد أثخنته الجراح , وهوت قواعده كثرة التغييرات والتعديلات غير القانونية , وأصبح أداة إدارية فى يد السلطة التنفيذية ... الأمر الذى جعل الحديث عن محاولة بعض الديموقراطية فيه نوع من الهراء ... فقد أصبح مريضا بدرجة مستعصية يستحيل معها الشفاء .
وتأكدت حقيقة العدوان على الاعلام والثقافة عندما صدر قرار آخر بنقل 104 من العاملين فى الصحافة والثقافة والاعلام إلى مصلحة الاستعلامات فى نفس التاريخ 4 فبراير 1973 , وهو ما يعنى حرمانهم من العمل أو الكتابة أو التردد على دور الصحف .
ونسجل فيما يلى أسماء الصحفيين الذين طبق عليهم هذا القرار . وبعضهم كان فى منصب رئيس مجلس إدارة (أحمد بهاء الدين – دار الهلال ) وبعضهم كان رئيسا للتحرير ( أحمد حمروش – روز اليوسف – ولطفي الخولي – الطليع ) عبد الرحمن الخميسي – سعد كامل – صلاح حافظ – رجاء النقاش – محمد ثروت أباظة – مصطفى بهيج طه نصار – إبتسام الهواري – أمينة محمد شفيق – ميشيل كامل ميخائيل – خيري عزيز خليل يوسف – الفريد مرقص بشارة – علاء الديب – فاروق القاضي – عايدة العزب موسى – السيد عبد الحميد محمد عزت – فتحي سيد كروم – رعاية النمر – محمود سالم – فاروق أبو زيد – محمد بركات – محمد البيلي – رشدي عبد الله – أحمد مالك – فتحي شريف – علي ماهر عبد العزيز – عفاف الجبيلي – محمود السعدني – محمد عبد الجواد – كمال عامر – علي سلطان – إنس جاد الحق – عادل عامر – أمين المعداوي – صلاح عبد اللطيف – حمدي الشامي – محمد نجيب عبد العليم – سيد الجبرتي – عبد الوهاب مرسي – محمود عبد العزيز حنفي – سعيد الشرقاوي – سعد التائه – فاروق عبد السلام – حلمي التوني – إبراهيم عامر – راجى عنايت – عدلي بوسوم عبد الملك – محمد كمال القلش – عبد السلام زكي مبارك – جلال السيد إبراهيم – محمد أبو الحديد علي – كامل زهيري – حسن الشرقاوي – محمد محمود حمدي – عبده مباشر غالي شكري – ناصر حسين – زكريا نيل .
وبقية الاسماء هم الذين كانوا يعملون فى الاذاعة ولتليفزيون والمسرح والسينما وهيئة النشر .
وصحب هذه الحملة الجائرة أو تبعها إغلاق المجلات الثقافية ( الفكر المعاصر – المسرح والسينما – الفنون الشعبية – المجلة – سلسلة المكتبة الثقافية – سلسلة المسرحيات العالمية ) .
كان الموقف الجديد دليلا على دخول مرحلى صدام مع المثقفين والمفكرين التقدميين ... فى وقت ازدادت فيه المعارضة لصمت النظام وعدم دخوله المعركة .
ويلاحظ خلال هذه الفترة أنه كان هناك نوع من ( الشيزوفرانيا السياسية ) .. فالدكتور عزيز صدقى رئيس الوزراء كان يتجه تماما فى طريق ثورة يوليو يحرص على دعم الصناعة ويتجه إلى التطبيق الاشتراكى , ويواجه الجماهير فى التليفزيون مرة كل أسبوع , يناقش القضايا الحيوية , ويتصارح مع الجماهير فى مشاكلها.
وشعر الناس لأول مرة أن هناك فى الإتحاد الإشتراكى الذى كان يتولى أمانته العامة المهندس الزراعى سيد مرعي المقرب من أنور السادات ... فقد تشكلت أمانته التنظيمية والعامة من عناصر لم تعرف عنها التقديمة ولا الإشتراكية ... وهى التى تهدد بدور رئيسى بارز فى ( مذبحة رجال الأعمال ) التى أشرنا إليها .
ويذكر على سبيل المثال أن سيد مرعي كان يدعو السفير البريطانى لحضور ندوات فى الإتحاد الإشتراكى , بينما كان يذهب الدكتورعزيز صدقى رئيس الوزراء إلى مواقع الصناعة والطبقة العاملة .
وقد استند أنور السادات إلى هذه - السيزوفرانيا السياسية ) إلى حد بعيد فى محاولة بألا يظهر أنه قد استدار لخط عبد الناصر فى جهاز الدولة , بينما حاول أن يخضع الجهاز السياسى لمفاهيمه واتجاهاته الشخصية .
ولم تكن الأمور تمضى فى هدوء ... الخلافات والمنافسة بين دكتور صدقى وسيد مرعي اصبحت حديث المجالس .
وأذكر أن عزيز صدقى كان حريصا على الاندفاع فى عمله واثقا أن إنجازاته سوف تكون هى الحامية له ... وأن سيد مرعي حريصا على التنصل من القرارات التى أصدرتها أمانة التنظيم باخراج وعزل رجال الفكر والاعلام .
واحتدم الموقف إلى الجدل الذى جعل أنور السادات يعين عزيز صدقى وسيد مرعي مساعدين لرئيس الجمهورية ويتولى هو رئاسة الوزراء فى 26 مارس 1973 . ويعتبر خروج الدكتور عزيز صدقى من رئاسة الوزارة دورانا ملحوظا إلى اليمين وبداية لمرحلة جديدة , فقد تم قبل خروجه من الوزارة زيارات هامة إلى موسكو, رغم أن الدكتور عزيز صدقى كان هو رئيس الوفد الذى سافر إلى الاتحاد السوفيتى يوم 13 يوليو 1972 للاتفاق على صيغة مشتركة لاخراج الخبراء السوفييت , ورفض الزعماء السوفييت لذلك .
سافر خلال رئاسته للوزارة كل من حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى , وأحمد إسماعيل وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة .. سافر الاثنان إلى موسكو كل على حدة خلال شهر فبراير 1973 وتم لقاء بين كل منهما وبين بريجينيف .
عبر أنور السادات عن هاتين الزيارتين بقوله ( إننا وضعنا علاقاتنا فى إطارها الصحيح لذى نرضى عنه جميعا ) .
صحيح أن حافظ إسماعيل قد اتجه بعد زيارته لموسكو إلى لندن ثم واشنطن فى رحلته التى أثارت كثيرا من الأقاويل حول الهدف منها باعتبارها أول زيارة يقوم بها مسئول مصرى كبير إلى واشنطن منذ عدوان يونيو 1967 . وفسر السادات ذلك بأنها تمت فى إطار التشاور مع القوى الخمس العظمى فى الأمم المتحدة ... وكان سيد مرعي قد قام أيضا بزيارة لبعض الدول الإشتراكية ودول عدم الانحياز .
ولكن هذا النشاط الدبلوماسى لم يصل إلى قلوب الجماهير .
كان الشعب المصرى قد اعتاد منذ هزيمة يونيو 1967 أن يسمع ويتابع أخبار معاك حرب الاستنزاف التى امتدت ثلاث سنين وشهرين , إلى أن وقف اطلاق النار يوم 8 أغسطس 1970 .
ولكن الأيام تمضى .. وحديث المعركة يخفت ... وهمس الاتصالات مع الأمريكيين يعلو ... والأمل فى تحرير سيناء يكاد يتحول إلى سراب .
والمظاهرات ما زالت رغم اعتقالات الطلبة عنصرا من عناصر التأثير ... وأنور السادات لم يعد عنده فى ميدان السياسة جديد يمكن أن يقدمه وصولا إلى حل سلمى بعد مبادرته فى 4 فبراير التى لم تفتح أمريكا ذراعيها لها .
وهو يهاجم نيكسون فى حديث صحفى أدلى به فى مايو لصحيفة يوغوسلافية قائلا إن مطالبته من الرئيس نيكسون أما الكونجرس بحلول وسط من الجانبين هو أمر ( فيه مغالطة عنيفة – مغالطة شديدة جدا , بيسوى بين المعتدى والمعتدى عليه , بيسوى بين اللى بيحتل الأرض واللى أرضه محتلة ) .
لم يعد لدى أنور السادات ما يمكن أن يقدمه بعد مبادرته وطرده للخبراء السوفييت واقتلاعه المفكرين والمثقفين اليساريين من مواقعهم القيادية فى توجيه الرأى العام ... ولذا بدأ يتحدث عن المعركة واحتمالاتها وخاصة بعد فشل مهمة حافظ إسماعيل فى واشنطن , حيث لم يسمع كلاما مشجعا وإنما سمع فقط مطالب فى صالح إسرائيل .
وهنا نلتقط كلمة قاله السادات فى نفس هذا الحديث الصحفى لم تتردد من قبل فى عالم السياسة المصرية ... ومجرد ذكرها يعطى إيحاء خاصا .
قال أنور السادات ( لو أن حافظ إسماعيل جلس مع جولدا لكان الأمر أقل سخافة مما سمعه فى واشنطن ) .
هذه العبارة التى قيلت فى معرض الاستنكار , تلتقى مع نداء كانت قد توجهت به جولدا مائير لأنور السادات من الولايات المتحدة فى فبريار 1073 , ثم الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لقيام إسرائيل فى مايو 1973 تطلب فيه مفاوضات مباشرة دون أية شروط مسبقة .
لم توجه جولدا مائير النداء إلى جميع الزعماء العرب ,وإنما قصرت الأمر على أنور السادات الذى كان حتى هذه اللحظة يعترض على فكرة المفاوضات المباشرة باعتبارها ( عروضا للدعاية والاستهلاك العالمى ) مقارنا بينها وبين النداء الذى وجهه هتلر إلى تشرشل بعد أن احتل أوروبا كلها خلال الحرب العالمية الثانية .
عاد أنور السادات إذن للحديث عن الحرب , والاستعداد للمعركة بعد أن حصل من الاتحاد السوفيتى خلال رحلى الفريق أحمد إسماعيل وزير الدفاع على صفقة أسلحة اعتبرت أكبر الصفقات التى حصلت عليها مصر .
وكان أنور السادات خلال هذها لمرحلة بين ضغطين ... ضغط من الطلبة والشباب الذين استمر مظاهراتهم والذين التمس لهم العذر فى بعض خطبه بدعوى أن ذلك من تأثير حالة ( اللاسلم واللاحرب ) وإن كان قد هاجم تنظيم الطلبة الذى سمى فى ذلك الوقت ( لجان الدفاع عن الديمقراطية ) والذى كان يتهجم – حسب قول السادات أمام مجلس الشعب فى يناير 1973 – على القيادة السياسية ولجوئها إلى الحلول الاستسلامية والمطالبة بما سموه الحرب الشعبية واقتصاد الحرب الحقيقى .
وضغط آخر غير معلن من داخل القوات المسلحة التى أمضى معظم جنودها الذين وصلوا على عدد يقترب من المليون , عدة سنوات وهم فى الخنادق ينتظرون معركة تحرير الأرض .
لم يكن ممكنا للجنود الذين شاركوا فى حرب الاستنزاف , وطمعوا على المعركة , وحطمت أمامهم أسطورة ( الجندى الإسرائيلى الذى لا يقهر ) وارتفعت معنوياتهم باتفاع قدرتهم القتالية , واستخدامهم أحدث الأسلحة التكنولويجة ... لم يكن ممكنا لهؤلاء الجنود أن يقبلوا فى صمت وهدوء أن يعيشوا حياة الخنادق بلا أمل فى الانطلاق نحو المعركة .
بين هذين الضغطين وقع أنور السادات .
وأمام ضغط التعبير من جانب الشباب تم اعتقال عدد من الطلبة والعمال , وأحيلوا إلى التحقيق ... وتمت ( مذبحة رجال الاعلام ) ... ونشط الحديث عن التحركات الديبلوماسية .
وأمام ضغط الجنود اتجهت القوات المسلحة إلى التدريب فى جدية يستلزمها بقاء الأمل فى صدور المحاربين .
طريق السياسة واليبلوماسية مسدود .
وطريق الحرب والمعركة لم يفتح بعد .
والدوران إلى اليمين اصبح واضحا إلى الحد الذى جعل الصحفية اليوغسلافية دارا يانكوفيتش تصارح به السادات بقولها إن الناس تعتبركم أميل إلى اليمين .
وجاء رد أنور السادات مشيرا إلى تيتو الذى قيلت عنه النكتة الشهيرة إنه كان يخرج يده من العربة كأنه سوف يتجه إلى اليسار ثم يدور بها إلى اليمين .
نفى أنور السادات عن نفسه صفة اليمينى ولكنه قال ( تيتو فى معركة الانفتاح الاقتصادى اللى عملها قالوا عليه يمينى ... إذا كان ده تعريف اليمينى ... إذا كان تيتو يمينى يبقى أنا يمينى ) .
يلاحظ أن هذا الحديث كان قبل حرب أكتوبر , وقبل أن يظهر الانفتاح الاقتصادى فى مصر عند الأفق .
بقى الأمر على ما هو عليه .. حالة ( اللاسلم واللاحرب ) تمتد وتمتد ... والضيق والتوتر يسود المجتمع والتدريب يشغل القوات المسلحة ...والشعب ينتظر .
وفوجىء الصحفيون ورجال الاعلام الذين أبعدوا عن الإتحاد الإشتراكى , أو نقلوا إلى مصلحة الاستعلامات بأن أنور السادات يعلن عودتهم إلى أماكن عملهم فى خطابه يوم 28 سبتمبر 1973 الذكرى الثالثة لوفاة عبد الناصر .
كانت هذه نهاية طيبة لفترة مؤلمة , وتمهيدا لحدث كبير .
وبعد أم مضت ثلاث سنوات وشهران دون قتال منذ 8 أغسطس 1970 .. نفس المدى تماما التى استغرقتها حرب الاستنزاف منذ عدوان يونيو 1967 إلى وقف اطلاق النار .
بعد ثلاث سنوات وشهرين , انطلقت الرصاصة الأولى بعد أن كان قد أفرج عن الطلبة المعتقلين وعاد الصحفيون ورجال الاعلام إلى مواقعهم .
الباب الخامس : حرب أكتوبر
( من الصعب تصور أن ينجح الجيش المصرى فى عبور قناة السويس بهذا الأداء ثم يكتفى بأن يجلس هناك ) شليزنجر وزير الدفاع الأمريكى 7 أكتوبر 1973 .
تحضير المعركة :
لم تكن العودة إلى القتال بعد ثلاث سنوات وشهرين من سكوت المدافع أمرا سهلا على الجنود الذين اعتادوا القتال ثلاث سنوات وشهرين أيضا منذ عدوان يونيو 1967 إلى أن أعلن وقف اطلاق النار فى مبادرة روجرز يوم 8 أغسطس .
خلال حرب الاستنزاف كان الجنود مهيئين لدخول المعركة بين يوم وآخر ... كانوا ينتظرون الحرب الشاملة , إما من جانب العدو الذى قد يختارها ردا على خسائره المتزايدة , وإما من جانب قيادتنا التى كانت تعد خطة تحرير الأرض المحتلة .
ولكن سنوات الصمت ووقف القتال لم تضع عبثا , ولم تعطل كثيرا من استعداد القوات المسلحة لدخول المعركة .
ومنذ عين الفريق أول أحمد إسماعيل قائدا عام للقوات المسلحة فى نوفمبر 1972 وهو يحمل على كتف عبء العودة للمعركة , وفى خلفية ذاكرته قطعا محاولة استرداد كرامته , بعد أن كان قد عزل من منصب رئيس أركان الحرب فى عهد جمال عبد الناصر بعد حادث الزعفرانة فى سبتمبر 1969 ... وفى ذاكرته أيضا الدور الباسل الذى قامت به القوات المسلحة فى مواجهة العدو بعد هزيمة يونيو حيث تمت عدة معارك بارزة عام 1967 مثل معركة رأس العش فى يونيو , ودخول معركة جوية مع العدو يوم 14 يوليو ثم إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات فى أكتوبر , وتصاعد الحرب عام 1968 حيث تحتفل المدفعية بيوم 8 سبتمبر الذى هدمت فيه معظم خط بارليف ثم الوصول إلى حرب الاستنزاف التى بدأت فى مارس 1969 حيث استشهد الفريق عبد المنعم رياض على شاطىء القناة فى نفس الشهر وأمكن تحطيم 80 بالمائة من خط بارليف , وما أن هل عام 1970 حتى كانت القوات المسلحة المصرية قادرة على مواجهة متعادلة نسبيا مع القوات الإسرائيلية , فأرسلت دوريات وصل بعضها إلى كتبة حيث قاتلت خلف خطوط العدو فى سيناء , ورفعت العلم المصرى ثلاثة شهور على تبة فى القنطرة دون أن يستطيع الإسرائيليون انتزاع العلم من موقعه , وهجموا على ميناء إيلات الإسرائيلى يوم 16 نوفمبر 1969 وأغرقوا ثلاث قطع بحرية , وكرروا ذلك فى نوفمبر 1970 وأغرقوا قطعتين بحريتين , أما القوات الجوية فقد وصلت إلى إصابة وتدمير 21 طائرة معادية خلال شهر يوليو , مما كان له أكبر الأثر فى تحرك أمريكا وعرضها ما سمى باسم ( مبادرة روجرز ) .
كان كل ذلك قطعا فى ذهن الفريق أول أحمد إسماعيل وهو يسترجع أيضا تصريحات بعض الزعماء الإسرائيليين أثناء حرب الاستنزاف .
قالت جولدا مائير ( إن كتائب الصواريخ المصرية كعش الغراب كلما دمرنا إحداها بدلها أخرى ) .
وقال أبا إبيان (لقد بدأ الطيران الإسرائيلى يتآكل ) .
وقال حاييم بارليف فى حديث نشرته مجلة ( تايم ) يوم 29 مارس 1970 ( على المرء ألا يضع فى تصوره أن صواريخ سام دفاعية , وإنما أقيمت لاعطاء مصر قوة هجومية ) .
ولابد أن الفريق أول أحمد إسماعيل قد قرأ ما قاله الجنرال ماتيتا هوبيليد الذى كان فى هيئة أركان الحرب الإسرائيلية , وهو عضو فى حزب العمل ومعروف بجفائه للسوفييت والشيوعية كما ذكر الكاتب الفرنسى جاك كوبار فى كتابه ( من حرب الأيام الستة إلى حرب الساعات الست ) ... قال بيليد علنا فى الصحف ها آرتس عام 1971 رأى الجنرال الإسرائيلى بقوله ( من الوجهة العسكرية فشل الجيش الإسرائيلى فى حرب الاستنزاف وبالتالى كانت هذه اول مرة يهزم فيها الجيش الإسرائيلى فى الميدان منذ قيام دولة إسرائيل ) .
وعلل ذلك وقتها بقوله إن إسرائيل لم تنجح فى إسقاط النظام المصرى عن طريق الضرب بالطائرات فى العمق المصرى , لأنها فقدت السيطرة على الأجواء المصرية , ولأن الروس التزموا بتسليح مصر ومساعدتها فى الدفاع عن نفسها .
ولابد أن الفريق أول أحمد إسماعيل كان يتابع الحركة السياسية التى صاحبت حرب الاستنزاف ورفعت أصواتا فى إسرائيل تطلب الانسحاب من الأرض العربية المحتلة ثمنا للسلام ... وغيرت موقف الولايات المتحدة , ودفعتها إلى تقديم مبادرة روجرز فى محاولة لوقف القلق الذى ساد المجتمع الإسرائيلى من خسائر حرب الاستنواف .
ولا شك أن الفريق أحمد إسماعيل كان يدرك معنى خروج افراد الشعب الإسرائيلى ليرقصوا فى الشوارع يوم أن أعلن وقف اطلاق النار .
ولذا كانت حركة الفريق أحمد إسماعيل نحو المعركة تتميز بالجدية والمسئولية والحرص على تحقيق هدف عزيز ... هو تحرير الأرض المحتلة .
وقد حصل الفريق أول أحمد إسماعيل خلال زيارته موسكو فى فبراير 1973 على صفقة سلاح تعد من اكبر الصفقات التى حصلت عليها مصر ... وكان الفريق أول أحمد إسماعيل قد عين قائدا عاما للقوات الاتحادية يوم 10 يناير 1973 .
وأفرغ القائد الجديد طاقته كلها فى تدريب الجنود ورفع مستواهم القتالى ... إذ لم يكن سهلا فى وقت تخرج فيه مظاهرات الطلبة والشباب تطالب بالمعركة , ويبعد الكتاب والصحفيون عن مواقعهم , أن تمضى الأمور فى الجيش دون تأثير بما يحدث فى المجتمع .
كانت حالة ( اللاسلم والاحرب ) مؤثرة فى صفوف القوات المسلحة التى طال شوق أفرادها لأداء مهمتهم الوطنية ... وأمكن التغلب على ذلك بالتدريب الجاد والشاق وبذر الأمل والثقة فى صدور الجنود بأن المعركة قادمة لا ريب فيها .
قطعا لم يدر فى ذهن أحد أن تعود حرب الاستنزاف بصورتها السابقة ... فتلك مرحلة مضت ولا تعود ... ولا يمكن أن يثمر صمت ثلاث سنوات وشهرين معركة مشابهة لما كانت عليه المعرك قبل وقف إطلاق النار .
وحافظ إسماعيل مستشار الرئيس للأمن القومى فى ذلك الوقت :
( لقد كانت الحرب ضرورة للقوات المسلحة ولطاقة الجماهير شعبنا , فلم يكن مقبولا – حتى لو أن تسوية مرضية كانت محققة – أن تبقى مرارة هزيمة 1967 على شفاهنا , وتصبح آخر كلمة فى سجل ( العلاقات ) المصرية الإسرائيلية تصفع وجه الأجيال القادم ) .
كانت كلمات عبد الناصر ( ما أخذ بالقوة لابد وأن يسترد بالقوة ) ما زالت ترن الآذان . ومع ذلك تحرك حافظ إسماعيل إلى أمريكا فى فبراير 1973 فى محاولة للبحث عن حل للمشكلة ... قد يكون سياسيا أو لا يكون .
وقد سلطت الأضواء على زيارة حافظ إسماعيل إلى واشنطن فقد كانت أول زيارة يقوم بها مسئول مصرى كبير إلى الولايات المتحدة لمقابلة نيكسون وكيسنجر .. ويقول محمد حسنين هيكل إنه اعتذر من عدم الذهاب لهذه المقابلة رغم الالحاح عليه لأنه لم يكن يريد أن يكون طرفا مباحثات سرية , وموقفنا التفاوضى ضعيف .
ويقول حافظ إسماعيل إن نيكسون أبلغه أن الوصول إلى تسوية شاملة فورا أمر غير ممكن , وأنه يجب الربط بين متطلبات السيادة المصرية ومتطلبات أمن إسرائيل ... وطلب منه أن يتصل مع الخارجية علنا ومع كيسنجر سرا .
أما وزارة الخارجية الأمريكية فلم تغير موقفها من البحث عن اتفاق جزئى على أساس مبادرة أنور السادات فى فبراير 1971 .
وأخيرا حافظ إسماعيل إن كيسنجر فى لقائه السرى معه خارج نيويورك نفى أن أمريكا قادرة على عمل أى شىء مع إسرائيل , ,انها لا يمكن أن تخلق موقفا يؤدى إلى ( اختلال التوازن لغير مصلحتها ) ... وقال إن قدرة الولايات المتحدة عل إقناع إسرائيل يتوقف على قدر ( التغييرات الملموسة فى المواقف العربية أو المصرية ... وهذا هو المفتاح ) .
والتقى حافظ إسماعيل مرة أخرى مع كيسنجر بعد ثلاثة شهور فى مايو 1973 بباريس , حيث وجد أنه أصبح أكثر اقتراب لوجهة نظر الخارجية الأمريكية التى تطلب تسوية جزئية .
ولعل هذا هو ما أثار وقتها أنور السادات وجعله يهاجم أمريكا حيث تقلصت مبادرته ليس إلى حل جزئى ... بل ألى مجرد فتح قناة السويس كما سبق أن ذكرنا .
وهكذا يقول حافظ إسماعيل كنا قد استنفدنا آخر جهد فى سبيل تسوية سلمية . ويبدو التساؤل مشروعا عن مدى الاتفاق الذى تم بين المسئولين المصريية والأمريكيين فى هذه الاجتماعات العلنية والسرية , وخاصة بعد أن صرح أنور السادات فى إحدى خطبه إلى أن خلاصة حديث كيسنجر وحافظ إسماعيل وهى أننا ( جثة هامدة ) الأمر الذى يوحى بأن كيسنجر طلب من المصريين تحريك الموقف .
ويفسر محمد حسنين هيكل ما تم فى هذه الاجتماعات وخاصة السرية منها بقوله إن مجرد إنشاء هذه القناة السرية كان بداية مشاكل وتعقيدات لا أول لها ولا آخر ... ولكنه يتفق مع حافظ إسماعيل فى نفى أن تكون حرب أكتوبر حربا ملفقة .
تأكد بعد زيارة حافظ إسماعيل لأمريكا أن حدوث أى تسوية سلمية بناء على الواقع القائم فى ذلك الوقت وصمت المدافع ثلاث سنوات وشهرين ... هو أمر يدخل تحت باب الوهم أو السراب .
وكان ذلك واضحا أيضا عند الاتحاد السوفيتى حيث يقول حافظ إسماعيل إن بريجنيف قد ارسل برسالة إلى نيكسون قال له فيها : ( ... إنه يمكن أن تكون هناك تسوية فى مراحل ضمن خطة ( شاملة ) .
... وانه توفر لدى السوفييت انطباع محادثاتهم مع حافظ إسماعيل بأن العرب يمكن أن يتجهوا إلى استخدام الوسائل الممكنة الأخرى لحلها ... أى الحرب .
وقد قام بريجينيف بعد ذلك بزيارة إلى واشنطن فى 16 يونيو 1973 ويروى هنري كيسنجر فى مذكراته فى اليوم الأخير للزيارة وبعد تناول العشاء وعودة كل من بريجنيف ونيكسون إلى مكان إقامته فى استراحة الرئيس الأمريكى فى سان كليمنت ... فوجىء كيسنجر بأن بريجنيف يطلب مقابلة عاجلة مع نيكسون .
واعتبر كيسنجر أن مجرد الطلب يعتبر ( شرخا فظا وغليظا فى قواعد البروتوكول ) ومع ذلك تمت المقابلة فى استراحة نيكسون فى الحادية عشرة إلا الربع مساء وحضرها كيسنجر مع نيكسون من الجانب الأمريكى وبريجنيف وجروميكو ودوبرلفين من الجانب السوفيتى .
وفى هذه المقابلة قدم بريجنيف ( أكثر اقتراحاته أهمية ) فى الرحلة كلها – على حد تعبير كيسنجر – وهو :
( ان تتفق الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى الآن ... وهنا على تسوية شاملة لأزمة الشرق الأوسط تقوم على أساس الانسحاب الإسرائيلى الكامل إلى حدود 4 يونيو 1967 فى مقابل إنهاء حالة الحرب .. أما السلام فيعتمد على ما يتلو من مفاوضات مع الفلسطينيين .. ويمكن ضمان ذلك بوساطة القوى العظمى ) .
ويقول كيسنجر إن بريجنيف أضاف قائلا إننا نستطيع إذا اتفقنا على هذا أن نجعله اتفاق جنتلمان أو اتفاقا رسميا .. معلنا أو سريا لا يعرف به إلا الموجودون فى هذه الحجرة فقط .
ورد نيكسون بمحاولة تسويف الموضوع , ولم يلق حماسا من بريجنيف الذى قال صراحة ( إننا سنواجه صعوبة فى منع الموقف العسكرى بالمنطقة من الاشتعال ) .
ويقول كيسنجر ( لقد كان بريجنيف حادا وعنيفا وهو يقول ذلك .. ويعلق بقوله إنه رغم الاتفاق والتوقيع على نبذ التهديد بالحرب فى اتفاقية منع الحرب النووية , إلا أن بريجنيف ( يهددنا بحرب فى الشرق الأوسط إلا إذا قبلنا شروطه إلا إذا قبلنا شروطه وهى التى تمثل نفس المطالب العربية ) .
ولكن الواضح أن الاتحاد السوفيت كان حريصا على الوصول إلى اتفاق لتسوية سلمية فى اجتماع القمة , بينما كانت أمريكا غير راغبة فى هذا التورط الذى يميل لتحقيق المطالب العربية العادلة .
وهكذا لم يعد هناك من سبيل بعد هذا الاجتماع إلا انتظار المعركة .
مضى عهد المحاولات ... ومضى عهد المعجزات أيضا .
ونعور إلى خنادق الجنود غرب القناة لنكتشف ظروف المعركة المنتظرة التى كان عبور القناة أول مراحلها .
كان هناك مئات الألوف من الجنود المصريين ينتظرون إشارة بدء المعركة , وفى قلوبهم ثقة بعدالة الحرب وإصرار على تحرير الأرض ,.. وعلى الجانب الشرقى من القناة فى سيناء كان هناك عدد محدود من الجنود الإسرائيليين يستندون إلى تحصينات خط بارليف , ويطمئنون إلى أن كل شىء هادىء فى ميدان القناة .
وكانت القيادة الإسرائيلية ما زالت تعانى من ثقة مفرطة بالنفس تصل إلى حد الغرور فى قدرتها على ردع أى تحرك عسكرى عربى , بما يتوفر لها من تفوق تكنولوجى ورصيد من الانتصارات ومناعة فى خط بارليف لا يمكن لقيادة مصرية أن تغامر بالهجوم عليه ... كان الفريق أحمد إسماعيل يدرك نقط القوة عند العدو ... ونقط الضعف أيضا التى تتمثل فى طول خطوط المواصلات عبر سيناء .. وطول مواجهة الدفاع على امتداد القناة ... واحتفاظه بقوات محدودة فى خط بارليف .
ومع ذلك استغرقت دراسة عملية العبور شهور فقد كان مجرد التفكير فى عبور القناة كمانع مائى يحتاج إلى معرفة كل التفاصيل ودقائق الأمور .
وطول القناة يصل إلى 175 كيلو مترا , ويتراوح عرضها بين 180 , 220 مترا , وعمقها بين 16 , 18 مترا ... ويحدها شاطىء شديد الانحدار مغطى بستائر من الأسمنت والحديد تمنع نزول المركبات البرمائية إلى سطح المياه التى تنخفض مترين عن حافة الشاطىء إلا بعد تجهيزات هندسية خاصة .
وقناة السويس تنفرد بهذه الخاصية عن مختلف قنوات وأنهار العالم ... أولا لأنها قناة صناعية , وثانيا لأنها تستخدم فى عبور ناقلات ذات عمق كبير ... وشواطئها ليست للرياضة أو السياحة .
ولا يشترك معها فى هذه الظاهرة سوى قناة بناما .
ولا يقف الأمر عند هذا الحد , فقد حرص العدو على أن يصل السد الترابى لخط بارليف إلى حافة القناة بزاوية ميل 45 درجة ليزيد من صعوبة عبوه وليخفف من تواجد الجنود فيه بعد أن أنهكتهم حرب الاستنزاف خلال الفترة السابقة .
وشكل العدو منطقة دفاعية تمتد شرقا مسافة تتراوح بين 30 , 35 كيلو مترا حتى منطقة المضايق الحصينة , وتناهز مساحة هذه المنطقة 5000 كيلو متر مربع , تحتشد فيها قواته المدرعة ومدفعيته ودفاعه الجوى التى تتعاون جميعا مع القوات الجوية الإسرائيلية .
وخط بارليف يتكون من 32 موقعا حصينا تتكون من عدة طوابق تغوص فى باطن الأرض , وتعلو حتى تصل إلى قمة الساتر الذى يرتفع حوالى 18 مترا .
وجهرت وسائل الدفاع بخزانات وقود تخرج منها مواسير إلى القناة ليتسرب خلالها الوقود لتغطية سطح القناة ثم يتم اشتعاله لتتحول الحياة إلى لهب حارق .
وباختصار كان خط بارليف قد جهز بأحدث الوسائل التكنولوجية مستندا إلى تحصينات دفاعية هائلة ... تنتظر لحظة الانطلاق عمرت الصدور بالثقة والأمل .
وفى مجال التدريب وصلت الأمور إلى حد تعويد الجنود على اقتحام المانع المائى وهم معصوبى الأعين .
وبقى اختيار التوقيت المناسب للهجوم ... بعد أن فشلت كل محاولات التسوية السلمية ... ولم تعد هناك فرصة لمعجزة .
وبعد دراسات وصلت القيادة المصرية إلى اختيار شهر أكتوبر موعدا للهجوم , بعد أن كان المقرر فى الخطة الدفاعية 200 أن يكون موعد الهجوم هو ربيع عام 1971 .
إسرائيل فى هذا الشهر كانت تستعد لانتخابات الكنيست يوم 28 , وفيه ثلاثة أعياد إسرائيلية ... الغفران ( كيبور ) والمظال والتوراة ... وفيه أيضا شهر رمضان حيث لا يتصور العدو احتمال هجوم فيه ... كما أن ليل أكتوبر طويل يصل الظلام فيه إلى حوالى 12 ساعة .
وبقى تحديد اليوم ... فكان السادس من أكتوبر 1973 , حيث تتوقف الحياة فى هذا العيد الذى يأتى يوم سبت ويوافق رمضان حيث القمر ساطع ومضىء من غروب الشمس حت منتصف الليل .
وتم تحديد الساعة الثانية بعد الظهر موعدا لبدء القتال بعد دراسة دقيقة للاحتياجات الفعلية للقوات المسلحة المصرية والسورية معا .
ويبقى التساؤل عما إذا كان ممكنا للقيادة المصرية أن تنهى كل من الترتيبات , وتستعد للمعركة , وتبدأ القتال , محققة مبدأ المفاجأة ,الذى يعتبر من أهم مبادىء الحرب ... وكانت درجة الاستعداد الكاملة قد أعلنت فى القوات المسلحة من الساعة الثامنة أول أكتوبر 1973 وأعلن أنها رفعت إلى هذه الدرجة الأغراض التدريب وتنفيذ مشروع استراتيجى تعبوى .
وتم تحديد الساعة السادسة من صباح يوم 5 أكتوبر موعدا تكون القوات المسلحة المصرية فيه قد استعدت للعمل . ..
آلة الحرب منذ ذلك الوقت بدأت فى الدوران وأصبح من المستحيل إيقافها ... ليس على ضفة القنال فقط , وإنما فى الجولان السورية أيضا .
وكان مجلس رئاسة الجمهوريات العربية قد قرر فى العاشر من يناير 1973 تعيين الفريق أول محمد اسماعيل قائدا عاما للقوات الاتحادية , وتشكلت هيئة عمليات مشتركة .
وبدأ الاستعداد للمعركة والموافقة على الخطط منذ شهر مارس 1973 , حيث وافق الفريق أول أحمد إسماعيل على تخطيط الضربة الجوية المشتركة ضد الأهداف الإسرائيلية يوم 10 مارس , وفى أول إبريل تمت الموافقة على أسلوب القيادة المسيطرة على الجبهتين وطرق تبادل المعلومات بينهما .
وفى صباح الثانى من مايو اجتمعت القيادتان الاستراتيجيتان المصرية والسورية للاتفاق مبدئيا على توقيعات الهجوم , تفاصيل الخطة تطوات المعركة .
وفى يوم الثالث من أكتوبروبعد أن وضعت القوات المسلحة المصرية على أهبة الاستعداد من أول أكتوبر كما ذكرنا , سافر الفريق أول أحمد إسماعيل إلى دمشق حيث التقى مع زميله وزير الدفاع السورى اللواء مصطفى طلاس وتم وضع اللمسات النهائية للعملية الهجومية ( بدر ) .
بدر ... هو الاسم الكودى للعملية العسكرية .
وموعد الهجوم تحدد نهائيا ... الساعة 1405 يوم 6 أكتوبر .
ولم تتم كل هذه التدبيرات بعيدا عن احتمالات معرفة العدو بأخبار الخطة فيجهضها بحرب وقائية هو قادر عليها .
كانت المفاجأة والاحتفاظ بسرية المعركة من الهموم التى تثقل كاهل العامة . واتخذت فى سبيل ذلك عدة إجراءات حاولت بها أن تبعث الخدر فى عقل العدو , وتجعله يواصل نشوة غروره وصلفه وكبريائه , وتصوره بأنه يواجه عدوا يثقله التخلف , والتردد , وعدم القدرة على إعطاء القرار .
ويتبلور التساؤل حول ما إذا كنا قد نجحنا فعلا فى خداع المخابرات الإسرائيلية ( الموساد ) التى اشتهرت بدقة معلوماتها عن الدول العربية .
ويجيب الفريق أول أحمد إسماعيل عن ذلك خلال حديثه مع محمد حسنين هيكل الذى نشر فى الأهرام يوم 18 نوفمبر 1973 فيقول :
( فى كل حرب هناك خطة العمليات وهناك خطة الخداع وأعتقد أننا نجحنا فلقد وضعنا خطة الخداع على المستوى التعبوى والاستراتيجى ووضعت لها جداول وتوقيتات سارت جنبا إلى جنب مع خطة العمليات وتوقيتاتها بجداولها ... ولقد وصلنا فى الكتمان إلى درجة يوم ( ى ) لم يكن معروفا بعد تحديده مبدئيا إلا لاثنين : الرئيس وأنا .
وحتى عندما بدأنا العد التنازلى من يوم ( ى ) بالناقص وكان ذلك قبل شهر من بدء العملية ( ى ) ناقص 30 , ى ناقص 29 , ى ناقص 28 , وهكذا فإن السر ظل محصورا .
وعندما بدأنا الحشد وأنا أعرف أن العدو يستطلع كل يوم فلقد كنت أدفع إلى الميدان بلواء مثلا ... وأعود فى الليل بكتيبة , لكى يشعر العدو أن القوات التى ذهبت كانت فى مهمة تدريبية أدتها وعادت منها .
ولقد أخرت إرسال معدات العبور إلى أقصى حد ممكن , فقد كان مؤكدا أن خروج هذه المعدات من مخازنها كفيل بتنبيه العدو إلى نوايانا , وقد وضعنا لبعض هذه المعدات صناديق خاصة لا يشعر أحد أن اللوارى الضخمة التى تحملها لوارى مهندسين , ثم رتبنا لهذه المعدات حفرا على جانب القناة نزلت إليها فور وصولها ليلا.
كانت الخطة خلال هذا كله بالطبع قد اكتملت إلى آخر التفاصيل , بل إلى تفاصيل التفاصيل , وكان ذلك طول ذلك الوقت بالتنسيق مع سوريا .
وقبل أيام قليلة من يوم ( ى ) كانت تفاصيل الخطة تنزل من قادة الجيش إلى قادة الفرق ثم قادة الألوية ثم قادة الكتائب . .
" بعض الجنود من طلائع الهجوم عرفوا قبلها بثمان وأربعين ساعة وبعضهم عرفوا يومها فى الصباح " ..
- ولقد تتذكر أننا تعمدنا تسريب بعض الأنباء لصرف الأنظار تماما عن نوايانا : أذعنا مثلا أن وزير دفاع روملنيا قادم فى زيارة لى يوم 8 أكتوبر . وطلبنا منكم فى الأهرام مثلا نشر خبر بأننى فتحت الباب لقبول طلبات الضباط والجنود الراغبين فى اداء العمر " ..
هذا ما ذكره الفريق أول أحمد إسماعيل , ولكنه لا يتطرق عمليات الخداع التى اتبعت .
شملت عملية الخداع عدة إجراءات منها على سبيل المثال :
اختار أنور السادات أن يقيم فى برج العرب بعد عودته من مؤتمر عدم الانحياز حيث تمت هناك عدة مقابلات رسمية مع وفود أجنبية وعربية , الأمر الذى يشير إلى أن كل شىء هادىء فى مصر .
أرسل مبعوثون إلى أوربا للبحث عن مكان لائق لرئيس الجمهورية ليقضى فيه فترة استشفاء , وقد حاولوا أن يحيطوا حركتهم بالسرية , وهم على ثقة من أن المخابرات الإسرائيلية تتابع حركتهم وتتسقط أخبارهم .
نشر أخبار سباق للزوارق الشراعية فى أواخر سبتمبر بين قادة القوات البحرية الحاليين والسابقين .
أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة تعليماتها بتسريح دفعة من الجنود الذين أتموا خدمتهم العسكرية فى اليوم الأخير من شهر سبتمبر على أن يعودوا للحياة المدنية فى اليوم الأول من أكتوبر . ومن الطبيعى أن يتسرب هذا الخبر .
الإعلان عن إجراء مناورة كبرى لجميع القوات المسلحة كنهاية لموسم التدريب السنوى , غطت فعلا على إجراءات لبدء المعركة مثل إلغاء إجازات الجنود من أواخر سبتمبر الأمر الذى فسرته القيادة الإسرائيلية على أنه طبيعى لظروف المناورة الكبرى .
خلال المناورات كانت تعيد القوات المسلحة إحدى كتائب لواء مثلا إلى الخلف ليلا , ويبعث ذلك الاطمئنان فى نفوس الإسرائيليين حيث لا يمكن أن يكون هناك استعداد للهجوم وترسل إحدى الكتائب ليلا إلى الخلف .
اهتمام القيادة بمظهر تقوية الدفاعات غرب القناة , ومن يقوى دفاعاته لا يمكن أن يكون على استعداد للهجوم .
إخفاء معدات العبور فى صناديق مغلقة وإبقائها فى الخلف حتى اللحظة الأخيرة , لأن ظهورها كان لابد وأن يشى باقتراب المعركة .
تسريب أخبار للدبلوماسيين الأجانب بأن مصر تتوقع هجوما إسرائيليا ردا على ما قام به الفلسطينيون فى النمسا , الأمر الذى يخلق تبريرا لوجود هذه الاستعدادات والتحركات المصرية .
ويقول الفريق صلاح الدين الحديدي فى كتابه ( حرب أكتوبر فى الميزان العسكرى ) أن القوات المصرية فى سيناء قبل عدوان يونيو 1967 كانت ترفع درجة استعدادها كلما لاحظت نوعا من النشاط عند العدو ) ويقول ( وكم قاسينا وقاست معنا القوات والمعدات من كثرة هذه الحالات التى كانت تنتهى دون رد فعل من العدو , حتى صار رفع درجات الاستعداد إجراء عاديا , أدى فى النهاية إلى عدم عناية العدو به تحسبا بأنه لا لزوم له ) .
ويواصل الفريق الحديدى تفسيره لعدم اهتمام العدو كثيرا بما قامت به القوات المسلحة من استعداد فيقول ( كان استنتاج مخابراتها عن النشاط العسكرى الكبير الذى بدأ منذ حوالى 20 – 9 – 1973 لا يخرج من كونه إجراء لن ينتهى إلى شىء , مثله مثل ما حدث فى شهرى يناير ومايو من نفس العام .
ومع ذلك تبقى عدة تساؤلات عن إمكانية إتمام كل هذه الاستعدادات والتحركات بعيدا عن عيون المخابرات الإسرائيلية أو الأمريكية .
يقينا لا يمكن القول بأن كل ذلك قد تم فى خفاء وبعيدا عن معرفة الحكومة الإسرائيلية , خاصة بعد أن رحلت بعض أسرار الخبراء السوفييت وأجانب آخرين من مصر وسوريا يوم 3 أمتوبر ... كما أن وزارة الطيران المدنى تسرعت فى إصدار أمر بإيقاف حركة الطيران المدنى فى سماء مصر وإيقاف مساعدات الملاحة الجوية المدنية ظهر يوم 5 أكتوبر ... وإن كانت القيادة العامة للقوزات المسلحة قد أصدرت أمرا فوريا باستئناف حركة الطيران المدنى بشكلها المعتاد .
الشواهد تشير إلى أن هناك تحركات فى الجانب المصرى .
واجتمعت الحكومة الإسرائيلية ظهر 3 أكتوبر برئاسة جولدا مائير وبحثت الموقف .
وكان موشى ديان وزير الدفاع قد اتخذ على الجبهة السورية إجراء كان حاسما فى حرب أكتوبر إذ أصدر أمرا سريا بنقل اللواء السابع المدرع من مركز تجمع القوات المدرعة فى بئر سبع إلى الجولان وذلك بعد زيارة تفتيشية قام بها يوم 26 سبتمبر عاد منها وهو يقول ( هناك مئات من الدبابات والمدفعية السورية تقف على مرمى خطوطنا فضلا عن شبكة دفاع جوى كثيفة شبيهة بتلك التى أقامها المصريون عند قناة السويس ) .
واستجابة لشكوك ديان أطلق الأمريكيون من قاعدة فاندنبرج فى كاليفورنيا أحد أقمار التجسس الصناعية من طراز ساموس فوق الشرق الأوسط . وعندما اجتمعت الوزراة لم تكن الحشود المصرية السورية هى النقطة الوحيدة فى جدول الأعمال ... كانتهناك العملية الفدائية التى قامت بها مجموعة أطلقت على نفسها اسم ( نسور الثورة الفلسطينية ) وهاجمت قطارا على الحدود النمسوية يحمل بعض المهاجرين اليهود القادمين من موسكو فى طريقهم إلى تل أبيب , واخذت خمسة يهود وموظف جمارك نمسوى كرهائن , وطالبوا بأن تغلق مركزاستقبال المهاجرين اليهود فى فينا الذى كان يعرف باسم قلعة شونار ... واستجاب برونو كرايسكى رئيس جمهورية النمسا اليهودى إلى ذلك , وأطلق سراح الرهائن .
وقع هذا الحادث فى وقت كانت المعركة فيه محتدمة بين رجال الثورة الفلسطينية والمخابرات الإسرائيلية خارج إسرائيل ... ففى 10 إبريل اغتالت قوات فدائية إسرائيلية تابعة للموساد ثلاثة من الزعماء الفلسطينيين فى منازلهم وهم الشهداء كمال ناصر ويوسف النجار وكمال عدوان , الأمى الذى أدى إلى سقوط الحكومة اللبنان ية وانفجار الاشتباكات بين المقاومة الفلسطينية والجيش اللبنان ى . كان حادث قطار النمسا حلقة فى سلسة عمليات الصراع بين الموساد ورجال الثورة .
وقد نشرت ( الصانداى تايمز ) أن المخابرات الإسرائيلية اضطرت خلال هذا الصراع إلى سحب كثير من عملائها فى البلاد العربية – خصوصا سوريا ومصر , الأمر الذى وصفه ديبلوماسى بريطانى بأنه ( غلطة تقليدية للمخابرات ) .
وعندما عقدت الحكومة الإسرائيلية اجتماعها يوم 3 أكتوبر كانت جولدا مائير عائدة لتوها من ستراسبورج ألقت خطابا أمام المجلس الأوروبى تحدثت فيه فقط عن حادث النمسا ... وقابلت كرايسكى فى طريق العودة محاولة إقناعه بالرجوع عن قراره الذى خضع فيه للتهديد ولكنه لم يستجب لم تتجاوز مناقشات مجلس الوزراء الإسرائيليى فى هذا اليوم مناقشة عملية القطار فى النمسا .
وفى الجانب الأمريكى الذى سبق معلوماته من الجانب الإسرائيلى وعبرالمعلومات التى وصلت له من القمر الصناعى ساموس , قال كيسنجر الذى كان قد أصبح وزيرا للخارجية قبل أسبوعين فقد على جانب كونه مستشارا للأمن القومى .
( لقد سألنا مخابراتنا كما سألنا المخابرات الإسرائيلية ثلات مرات منفصلة خلال الأسبوع الذى سبق نشوب القتال عن تقديرهم للموقف , وما قد يحدث وكان ردهم جميعا أنه لا يوجد أى احتمال قط لنشوب القتال ) .
وقد نشرت مجلة ( يواس نيوز اند ورلد ريبورت ) بعد ذلك أن ثلاثة من كبار الضباط فى وكالة المخابرات الأمريكية المركزية قد أقيلوا من مناصبهم بصورة مفاجئة فى نهاية شهر أكتوبر 1973 .
وكان كيسنجر وقتها يحاول تصوير نفسه فى صورة رجل سلام بعد أن حصل على جائزة نوبل , فأعلن لوزراء الخارجية العرب الذين التقى بهم لأول مرة يوم 25 سبتمبر ( أم أمريكا مستعدة للبدء فى عمل إيجابى لتحقيق تسوية سلمية فى الشرق الأوسط . )
ولم يكد يمضى اجتماع الوزارة الإسرائيلية يوم 3 أكتوبر حتى اجتمعت مجموعة من وزراء الحلقة الداخلية يوم الجمعة 5 أكتوبر برئاسة جولدا مائير ونائبها إيجال آلون ووزير الدفاع موشى ديان وإسرائيل جاليل ووزير التجارة ورئيس الأركان السابق حاييم بارليف , ورئيس الأركان دافيد اليعازار الذى طلب استدعاء الاحتياط ... ولكن الاجتماع لم يستجب له . لم يكن كبار المسئولين الإسرائيليين قد أخذوا كل هذه الاستعدادات المصرية السورية مأخذ الجد , ومنطلقا للخطر .
لم ينته تحليل المعلومات المتوفرة إلى تقدير للموقف بأن العرب يمكن أن يشنوا حربا تحررية ... فقد كانت إسرائيل ما زالت تعيش نشوة النصر وكبرياء الغرور ... وتصريحات المسئولين كانت تقول ( إن العرب ربما – يسيئون التقدير – ويشنون هجوما , ولكنهم لو فعلوا فسوف يهزمون فورا ) ... وتقول أيضا ( إسرائيل ليست مهتمة بالحرب , ولذلك على العرب أن يهتموا بذلك ) .
لابد أنه كان من عوامل اتخاذ القرار الإسرائيليى لعدم دعودة الاحتياط ما حدث فى شهر مايو عندما أعلنت إسرائيل ( التعبئة الجزئية ) فى شهرمايو عقب توتر الموقف فى لبنان , الأمر الذى كلف الخزانة الإسرائيلية خمسة ملايين جنيه استرلينى وهو ما لا تحتمل الميزانية الإسرائيلية تكراره دون مبرر .
وعندما اقترح رئيس الأركان اليعازار توجيه ضربة جوية فجر يوم 6 أكتوبر بعد أن تبين من التقاط الاشارات اللاسلكية أن هناك تدبيرا ما لعملية عسكرية , رفضت جولدا مائير الاقتراح باعتباره اقتراحا عدوانيا قائلة ( من سيبقى لنا من الأصدقاء بعد ذلك ) .
وحتى هذا الاقتراح ما كان ليثمر نتائج عدوان 1967 حيث أن الطيران المصرى لم يكن نائما كالبط فى الممرات , وإنما كان على أهبة الاستعداد للتحليق ... وأى ضربة إجهاض ما كانت لتلغى الهجوم وإنما كانت تربك بعض توقيتاته فقط ... وقد تقدمه عدة ساعات .
وهكذا يمكن تلخيص الموقف فى أن اجراءات الخداع الاستراتيجية والتكتيكية التى اتبعتها القوات المسلحة المصرية , كانت ناجحة تماما فى عدم إثارة شبهات العدو , وإكمال استعداده , وتمزق تفكيره حول ما إذا كان المصريون يستعدون للحرب أو المناورة أو التدريب .
وحكومة إسرائيل استندت فى قرارها إلى العجز العربى السابق وغرور الانتصار الإسرائيلى الساحق , معتمدة فى نفس الوقت على خط بارليف الذى كان يتحمل صد هجوم مفاجىء إلى حين استدعاء الاحتياطى الذى يشكل إلى جانب الجيش الإسرائيلى 11 بالمائة من السكان اليهود والدروز فى إسرائيل ... كما أنها تحاشت فى اللحظة الأخيرة بناء على تقدير جولدا القيام بهجوم وقائى يجهض خطة الغزو حتى لا يتكرر ظهور إسرائيل فى مظهر الدولة المعتدية .
لم يعد هناك من سبيل لوقف الحرب . وكانت آخر عمليات الخداع المصرية هو نزول جنود مصريين يستحمون فى الساعة الواحدة بعد الظهر فى هدوء فى مياه قناة السويس ... وكان كل شىء هادئا فى الميدان .
وفى نفس هذا الوقت كان أنور السادات القائد الأعلى للقوات المسلحة يصل إلى مركز قيادة العمليات ويأخذ مكانه على رأس هيئة القيادة العامة فى القاعة الرئيسية , وعن يمينه الفريق أول أحمد إسماعيل القائد العام وعن يساره الفريق سعد الشاذلي رئيس الأركان ومعهم اللواء محمد عبد الغني الجمسي مدير العمليات .
وفى الساعة الثانية وخمس دقائق بدأت الحرب .
الاقتحام .. ولعبة السياسة :
بدأت الحرب .
تم الاقتحام بانطلاق 200 طائرة مصرية ضد الأهداف الإسرائيلية فى سيناء , وفى نفس الوقت فتح أكثر من 2000 مدفع هاون النيران على طول جبهة قناة السويس لمدة 53 دقيقة مستمرة , تحت ستر هذه النيران الكثيفة , عبرت جماعات الصاعقة واقتناص الدبابات لبث الألغام وشل حركة العدو .
وفى الساعة الثانية والثلث مساء ( 1420 ) بدأت الموجات الأولى لخمس فرق مشاه فى الاقتحام مستخدمة حوالى ألف قارب اقتحام مطاط ... وبعد عدة دقائق كان قد وصل إلى الضفة الشرقية 8000 جندى بدأو فى تسلق الساتر الترابى المرتفع , واقتحام مواقع العدو وهم يتهفون ( الله أكبر ... الله أكبر )
أول علم مصرى ارتفع فوق الضفة الشرقية فى الساعة الثانية والنصف فى نطاق هجوم الجيش الثالث , ثم توالت الأعلام ترتفع واحدا بعد الآخر , لترفع روح جنودنا المعنوية إلى السماء .
وأول حصن من حصون العدو سقط فى الساعة 1446 وتهاوت بعد ذلك قلاع وحصون خط بارليف واحدا بعد الآخر .
وقام المهندسون العسكريون تحت ستر قوات المشاه ونيران المدفعية , بفتح الممرات فى الساتر الترابى باستخدام طلمبات المياه القوية التى أطلق عليها اسم ( مدافع المياه ) وتم ذلك فى زمن قياسى لم يتجاوز الساعة ... وبعد ذلك قامت وحدات أخرى من المهندسين بإنشاء 10 كبارى ثقيلة , 10 كبارى مشاه إلى جانب معابر أخرى .
كان الاقتحام يجرى بجرأة ودقة متناهية , وتبعا للتوقيتات التى تضمنتها خطة العمليات ... وسقط أول ضابط إسرائيلى أسير فى الساعة 1710 .
وفى نفس الوقت كان دفاعنا الجوى قد حطم 13 طائرة اسرائلية .
وقبل غروب شمس 6 أكتوبر , أو آخر ضوء على حسب التعبير العسكرى كانت عشرات من طائرات الهليوكبتر المصرية تعبر قناة وخليج السويس وهى تحمل مجموعات من قوات الصاعقة تم إبرارها على أعماق مختلفة وصلت إلى حوالى 30 إلى 40 كيلو مترا خلف خط بارليف . وفى أقل من ست ساعات ... وبالتحديد فى الساعة 1930 أتمت خمس فرق من المشاه اقتحام قناة السويس بقوة 80 ألف جندى .
ودمر خط بارليف الدفاعى تحت وطأة قواتنا المسلحة خلال ست ساعات فقط .
خلال هذه الساعات الست كانت قد انهارت تماما اسطورة إسرائيل التى لا تقهر .
وأعلن البلاغ المصرى رقم 7 الذى أذيع فى الساعة السابعة وخمس وثلاثين دقيقة مساء 6 أكتوبر هذه الكلمات :
( نجحت قواتنا حاليا فى عبور قناة السويس على طول الجبهة وتم الاستيلاء على معظم الشاطىء الشرقى للقناة , وتواصل قواتنا حاليا قتالها مع العدو بنجاح كما قامت قواتنا البحرية بحماية الجانب الأيسر لقواتنا على شاطىء البحر الأبيض المتوسط وقد قامت بضرب الأهداف الهامة للعدو على الساحل الشمالى لسيناء وأصابتها إصابات مباشرة .)
وكان البلاغ الأول قد أذيع فى الساعة الثانية والربع بعد الظهر ليعلن :
( قام العدو فى الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا فى منطقتى الزعفرانة والسخنة فى خليج السويس بواسطة عدة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربى وتقوم قواتنا حاليا بالتصدى للقوات المغيرة ) .
حرصت القيادة المصرية على أن تظهر القوات المسلحة المصرية فى مظهر المدافع المعتدى عليه , رغم أنها كانت تخوض حربا تحررية عادلة ... والفارق فى صيغة البيان الأول وآخر بيان قبل انسدال الظلام يظهرالجهد العسكرى الخارق الذى قامت به قواتنا المسلحة .
وبعد أن كان الجنرال ديان يقول عن خط بارليف ( أنه أكثر تحصينا وتنظيما من أى خط مشابه وأنه منيع لدرجة تسمح لنا بالاحتفاظ به إلى الابد ) ... قال بعد الانهيار المفاجىء ( أنه كان كقطعة الجبن المليئة بالثغرات ) و كان خط بارليف السند الذى تستند عليه إسرائيل فى دفاعها , وقال عنه الجنرال بارليف ( إن المصريين لا يعرفون أن جحيم سينصب عليهم بمجرد أن يضعوا أقدامهم خارج الضفة الغربية للقناة ) .
ويصف الفريق أول أحمد إسماعيل صورة القيادة العامة المصرية اثناء هذه اللحظات المجيدة فى حديثه الذى قال فيه :
( كنا جميعا فى مقاعدنا ... وكانت الخطة أمامنا والعمليات تجرى أمام عيوننا , تحملها الينا البلاغات من الجبهة : المهمة كذا بدأ تنفيذها , المهمة كذا تم تنفيذها .
( من الساعة الثانية بعد الظهر كان المشهد فى غرفة العمليات مثيرا على أبعد حد : كان العمل دقيقا بأكثر مما يتصور أحد . أثبتت الخطة كفاءتها وكانت المهام تنفذ بجسارة واقتدار , وكانت هناك لحظات تهز المشاعر إلى الأعماق , ولكننا لم نسمح لأنفسنا بأى انفعال .
( ضربة الطيران الأولى – تمهيد المدفعية ونيرانها الكثيفة – موجات العبور الأولى عمليات الاقتحام المبكرة لخط بارليف – بداية إقامة الجسور – الجيش الثانى يفرغ من إقامة جسوره فى الموعد المحدد – الجيش الثالث يتأخر بعض الشىء بسبب طبيعة الأرض فى إتمام جسوره .
الهجمات المضادة للعدو بالدبابات تجىء فى الموعد الذى توقعناه فى الخطة – جسور الجيش الثالث لابد من تركيبها بسرعة لكى تعبر الدبابات قبل أن تبدأ الهجمات المضادة للعدو وأمام الموجات الأولى التى عبرت بالأسلحة المضادة للدبابات لابد أن تجىء دباباتها وراءها بسرعة . أعصابنا يجب أن تظل قوية لأن أى ارتباك فى مركز القيادة .. يحدث خللا فى توازن العمليات كلها – العدو يقاوم على الجسور وأمام الحصون يعبرون ويقتحمون – خسائرنا أقل مما توقعنا – خسائر العدو أكبرمما توقع . لم يعد هناك شك فى أننا حققنا انتصارا كبيرا ) .
نعم تحقق الانتصار بروعة الأداء البطولى للمقاتلين ... وتوفر السلاح الذى قالت عنه مجلة نيوزويك يوم 21 أكتوبر ( إن ثقة إسرائيل فى تفوقها التكنولوجى على العرب قد سقطت ) .
وقال الأوبزرفر يوم 20 أكتوبر ( يبدو الآن أن مصر قد لحقت إسرائيل بل وسبقتها تكنولوجيا ) .
ونشرت مجلة تايم يوم 5 نوفمبر ( أن التكنولوجيا المصرية قد جعلت العصر الذى كانت الدبابات والطائرات تسود فيه ميدان القتال يذهب فى ذمة التاريخ ) .
ويفسر الفريق اول أحمد إسماعيل القائد العام للقوات المسلحة الذى حصل من الاتحاد السوفيتى على أكبر صفقة سلاح متطورة خلال زيارته موسكو فى فبراير 1973 كما سبق أن ذكرنا ... يفسر العلاقة بين الرجل والسلاح ... ويفسر أيضا الظروف التى كانت فيها القوات المسلحة قبل اقتحام قناة السويس وتحطيم خط بارليف خلال هذا الزمن القياسى .
قال الفريق أول أحمد إسماعيل :
كانت المشكلة بالنسبة لقواتنا أن الظروف فرضت عليها أن تعيش ست أو سبع سنوات فى الدفاع ... معظمها فى الدفاع الجامد , والقوات على هذا النحو, أى قوات فى الدنيا , معرضة لما نسميه فى العسكرية " بمرض الخنادق " كان لابد أن نتخلص من تأثير مرض الخنادق وعقده وركزت فى تلك الفترة ( فترة الاستعداد للمعركة ) على مجموعة ضرورات رأيت أننا بغيرها لن نستطيع عمل شىء ... أول الضرورات أن تقتنع القوات بأنه لا مفر من القتال ولا حل بدونه .
وقمت بزيارات للقوات المسلحة فى مواقعها اشرح الظروف للرجال وأقول لهم ان الوضع الذى نحن فيه لابد من تغييره , وإذا لم نغيره نحن فإن العدو قد يفرض علينا التغيير ومعنى ذلك أننا إذا لم نبدأ القتال فإن العدو سوف يبدأ هو القتال لأن حالة اللاسلم واللاحرب غير قابلة للاستمرار إلى ما لا نهاية .
وكانت الثانية بين الضرورات أن يأخذ الرجال ثقة فى سلاحهم . وكنت أريد تغيير المفهوم القديم , بأن الرجل بالسلاح والحقيقة أن السلاح بالرجل .. إذا لم يكن واثقا من نفسه فلن يحميه أى سلاح وإذا كان واثقا فإن كل سلاح فى يده يحميه .
ربما نستطيع أن نفهم التطبيق العملى إذا تذكرنا أن طائرة من طراز ميج 17 تمكنت أثناء القتال من إسقاط طائرة فانتوم , وهذا ما أقصد بأن السلاح بالرجل وليس الرجل بالسلاح .
وثالث هذه الضرورات وهى تتصل بذلك مباشرة : أن يكون التدريب كثيفا فإذا كان السلاح بالرجل فذلك يعنى أول ما يعنى قدرةالرجل على استيعابه والسيطرة الكاملة عليه .
وكانت الرابعة بين الضرورات .. أن نجعل قوات أدركت حتمية القتال , وعرفت قيمة سلاحها وأحسنت التدريب عليه – ترى رأى العين ما سوف تواجهه وتكسر الرهبة ما بينها وبينه , وهكذا بدأنا نختار للتدريب ميادين قريبة الشبه إلى أقصى حد بظروف وطبيعة المهمة التى سوف تقوم بها القوات وأولها عبور القناة و اخترنا مناطق للتدريب فيها مجار مائية , بعمق القناة تقريبا , وعليها سواتر بارتفاع سواتر القناة وفيها تيارات القناة . بل إننا فى بعض المرات أجرينا تدريباتنا على القناة ذاتها فى منطقة فيها تمتد فى فرعين أحدهما إلى ناحيتنا وكانت تحت السيطرة الكاملة لقواتنا .
تحقق الاقتحام الرائع ببسالة الجنود المصريين وبالسلاح السوفييتى.
المعركة تدور ... الانتصارات المصرية تذهل المراقبين .. الموقف فى إسرائيل يفور بالقلق والتوتر وصدمة المفاجأة .
ولكن السياسة والاتصالات الديبلوماسية تدخل بشدة إلى ميدان المعركة بين واشنطن وموسكو والقاهرة وتل أبيب .
عندما أيقظوا هنري كيسنجر من نومه فى الثامنة صباحا ( بتوقيت نيويورك ) يوم 6 أكتوبر , وابلغوه بهجوم المصريين والسوريين , بدأ سلسلة من الاتصالات مع السفير السوفيتى دوبرنين , وكورت فالدهايم أمين عام الأمم المتحدة , ووزير خارجية إسرائيل أبا إبيان , ووزير خارجية مصر محمد حسن الزيات , ونائب وزير الخارجية السورى , وكانوا جميعا فى نيويورك .
أول خاطر لكيسنجر كان دعوة مجلس الأمن لاتخاذ قرار بعودة القوات المتحاربة إلى أماكنها ... وتكلم فى ذلك مع دوبرينين السفير السوفيتى وقال وتبعا لما جاء فى مذكراته – أنه يضع الخط الساخن بين واشنطن وموسكو تحت تصرفه كسبا للوقت ... ولكنه لم يتلق ردا سريعا من الاتحاد السوفيتى نتيجة الاتصالات العربية .
وأعدت الولايات المتحدة مجموعة عمل ميسنجر ونائبيه فى الأمن القومى والخارجية ووزير الدفاع شليزنجر ورئيس هيئة أركان الحرب المشتركة , ورئيس المخابرات المركزية , وعدد محدود من المسئولين ... وعقدت اجتماعها الأول يوم 6 أكتوبر .
وتحرك الاسطول السادس الأمريكى نحو مناطق القتال ... ورغم وصول الأنباء عن الاقتحام المصرى , إلا أن الأمل فى هجوم إسرائيلى مضاد سريع كان يعمر قلب كيسنجر حتى ذلك الوقت , وخاصة بعد أن وصلته رسالة من جولدا مائير تطلب إليه فيها أن يؤجل عرض الموضوع على مجلس الأمن عدة أيام ريثما تتمكن إسرائيل من سحق الهجومين المصرى والسورى ... وطلبت منه فى نفس الرسالة أسلحة تكنولوجية متطورة , وخصوصا الصواريخ المضادة للطائرات ( سايد ويندر ) .
وكان رأى شيلزنجر أن إسرائيل لا تحتاج إلى مزيد من السلاح ... وأن شحن أمريكا لهذه الأسلحة سوف يضعف دورها كوسيط , ويفسد علاقتها مع بعض الدول العربية .
ولكن كيسنجر يقنع نيكسون بإمداد إسرائيل بهذه الأسلحة المتقدمة على طائرات شركة العال ( بوينج 747 ) من قاعدة فرجينيا بعد أن أزالت العلامات الإسرائيلية المميزة للطائرات . وهكذا شحنت فى اليوم التالى مباشرة 7 أكتوبر أسلحة أمريكية وصواريخ متقدمة إلى إسرائيل .
وفى نفس هذا اليوم وبينما الجنود المصريون والسوريون يندفعون فى قتال شديد , ويسجلون تضحيات فريدة .
فى نفس هذا اليوم 7 أكتوبر وصلت إلى كيسنجر رسالة من أنور السادات عبر قناة الاتصال السرية التى نظمتها أجهزة المخابرات بين مصر والولايات المتحدة بعد زيارة حافظ إسماعيل إلى أمريكا ومقابلته لنيكسون وكيسنجر فى شهر فبراير .
كان الاتصال المبكر بالولايات المتحدة مثيرا للدهشة فى وقت فاقت فيه الانتصارات المصرية كل التوقعات .
ورغم أم مجرد إرسال الرسالة يثير علامات استفهام حول الشكل والتوقيت , إلا أن كلمات الرسالة التى ننقلها بالحرف فيما يلى والتى حصل عليها محمد حسنين هيكل خلال صديق أمريكى أحسن استخدام ثغرات فى القانون الأمريكى تتيح للمواطن الأمريكى الحصول على مثل هذه الرسائل ... الرسالة موقعة من حافظ إسماعيل الذى لم ينكر أنه كتبها ... وهى تقول بالحرف الواحد : عزيزى الدكتور هنري كيسنجر " أ " لقد أبلغنا الدكتور الزيات وزير الخارجية المصرية – آنذاك , وكان وقتها فى واشنطن وقابل كيسنجر قبل المعارك وفور نشوب المعارك – بما تم بينكما من محادثات ومناقشات خلال الأيام القليلة الماضية .
"ب" ووفقا لروح الصراحة التى كانت تسود اجتماعاتنا ( حافظ هنا يشير إلى لقاءاته السابقة بكيسنجر ) فإنى أود أن أبدى ملاحظات قلائل بصدد النقاط التى أثيرت خلال مباحثاتكم ( أى مباحثات كيسنجر مع الزيات ) .
1- أن الاشتباكات التى تحدث حاليا فى المنطقة لا يصح أن تثير أى دهشة لدى جميع أولئك الذين تتبعوا الاستفزازات الإسرائيلية المستمرة , ليس على الخطوط العربية أو اللبنان ية فحسب , بل أيضا على الجبهة المصرية , وكثيرا ما لفتنا النظر إلى مثل هذه الاستفزازات التى لم تتوقف قط رغم الادانة الدولية .
2- وعلى ذلك فقد كان على مصر أن تتخذ قرار بمواجهة أى استفزازات إسرائيلية جديدة بالحزم , وبالتالى أن تتخذ الاحتياطات الضرورية , لكى تواجه أى تصرف إسرائيلى من قبيل ذلك الذى جرى فوق سوريا يوم13 سبتمبر 1973 .
3- المصادمات التى حدثت على جبهة القتال كنتيجة للاستفزازات الإسرائيلية كان المقصود منها من جانبنا أن نظهر لإسرائيل أنه لم يكن يساورنا الخوف , أو أنه لاحول لنا ولا قوة . 3- وكنتيجة للاشتباكات , فإن موقفا جديدا نشأ فى المنطقة , ولقد كان طبيعيا ترفع تطورات جديدة فى خلال الأيام القلائل القادمة , فإننا نود توضيح إطار موقفنا .
4- إن هدفنا الأساسى لا يزال – كما كان دائما – تحقيق سلام فى الشرق الأوسط وليس تحقيق تسويات جزئية .
5- أننا لا نعتزم تعميق الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة .
" ج " وإذ أحسب أنكم تلقيتم من مستر روكلفر رد رئيسنا على رسالتكم , ذلك الرد الذى أعيد فيه تأكيد موقفنا و كما توضح منذ أول اتصال بيننا , أرجو أن تسمحوا لى أو أوضحه بجلاء مرة أخرى .
1- إن على إسرائيل أن تنسحب من جميع الأراضى المحتلة .
2- وعندئذ سنكون على استعداد للمساهمة فى مؤتمر سلام بالأمم المتحدة , على اى شكل مقبول , سواء كان ذلك تحت إشراف السكرتير العام , أو ممثلى الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن أو أى هيئة أخرى ممثلة .
3- إننا نوافق على حرية الملاحة فى مضايق تيران ونقبل كضمان تواجدا دوليا لفترة محدودة .
" د " وإنى لأستشعر الثقة من أنكم سوف تقدرون أن هذه العودة لشرح موقفنا مبعثها رغبة حقيقية مخلصة فى تحقيق السلام , وليست منبعثة من استعداد لبدء سلسلة من التنازلات والحق أننا نذكر أن المستر روجرز قد اضر بفرص السلام حين أخطأ تفسير مبادرتنا للسلام فى فبراير 1971 , بطريقة انحرفت بتلك المبادرة عن طريقها وهدفها الحقيقى .
وتفضلوا بقبول أطيب تحياتى " حافظ إسماعيل "
تظهر هذه الرسالة التى وصلت إلى كيسنجر قبل أن تمضى أربع وعشرون ساعى على القتال عدة حقائق تستحق الوقوف عندها :
أولا ... اهتمام السادات بارسال هذه الرسالة يظهر حرصه على عقد صلة مبكرة مع الأمريكيين خلال الحرب .
ثانيا .. تكشف هذه الرسالة أيضا مصدرا من مصادر الاتصال المصرى الأمريكى , وهو دافيد روكلفر الذى حضر إلى مصر فى 6 مارس 1971 ونشرت ( الأهرام ) صورة جمعت بين الرئيس وعقيلته وروكفلر وعقيلته فى اجت