"خديوي آدم".. أسوأ قصة قصيرة في القرن العشرين
توطئة
في صباح يوم الثلاثاء 2 نوفمبر 1954م نشرت الصحف المصرية هذه القصة القصيرة المثيرة، فقالت: "خديوي آدم شاب من الأُقصر عمره 23 عامًا، يعمل عامل بناء، ويتقاضى 25 قرشًا يوميًّا.. كان ذاهبًا إلى منزله بالإسكندرية بعد انتهاء العمل في الساعة الخامسة مساء يوم الحادث، فوجد أشخاصًا كثيرين يتجمعون في ميدان المنشية، وسأل عن سبب هذا الاجتماع، فقيل له إن الرئيس جمال عبدالناصر سيخطب في أهالي الإسكندرية في هذا الاجتماع.
ونظرًا لرغبته في رؤية الرئيس فقد هبط من "الترام"- الذي كان يركبه- ووقف مع الشعب في الميدان، حتى حضر الرئيس جمال عبدالناصر واستمع خديوي لخطبة الصاغ صلاح سالم والأستاذ أحمد حسن الباقوري، ثم بدأ يستمع إلى خطاب الرئيس جمال.
تمثيلية اغتيال ناصر بالجرائد
وأثناء إلقاء الخطاب سمع الرصاص ينطلق تجاه الرئيس، وكان خديوي يقف في نهاية الميدان من الخلف، وأثناء إطلاق الرصاص جرى الجمهور على غير هدى، وكان خديوي من الذين تشتَّتوا فجرى إلى الأمام، وأثناء جريه وقع على الأرض في الزحام فوجد تحته المسدس، وأحس بجسم ساخن يلسعه في يده!!
أطلَّ خديوي على هذا الجسم الساخن فوجده مسدسًا مفتوحًا، فأخفاه في جيبه وذهب إلى منزله، وهناك روى القصة على ابن عمه محمد جبريل الذي يعمل في جراج سيارات، فأشار عليه ابن عمه أن يسلم المسدس إلى ثكنات مصطفى باشا؛ لأنه رجح أن هذا المسدس لا بد وأن يكون قد استُعمل في الجريمة.
لكن خديوي رفض تسليم المسدس إلى ثكنات مصطفى باشا، وأصرَّ على أن يسلمه هو بيده إلى الرئيس جمال عبد الناصر، واعتقد خديوي أن الرئيس سافر إلى القاهرة، وحاول أن ينام في تلك الليلة فلم يستطع النوم!!
ولم يكن مع خديوي أيُّ مبلغ من المال، فخرج من منزله يوم الأربعاء فجرًا، وسار على قضيب السكة الحديد متجهًا إلى القاهرة لمقابلة الرئيس، وفي الطريق أحس خديوي بالجوع!! ولم يكن معه ثمن رغيف عيش، فباع "قفطانه" لشخص في الطريق وقبض ثمنه قروشًا قليلة.. اشترى منها طعامًا.
وظل خديوي ابن الأقصر سائرًا على قدميه منذ فجر الأربعاء حتى وصل الساعة الثانية عشرة ظهر الإثنين إلى شبرا!! أي أنه قطع المسافة سيرًا على الأقدام بين الإسكندرية والقاهرة في حوالي أربعة أيام ونصف اليوم!!
وفي شبرا قابلته نقطة تفتيش فسأل هناك عن مقر القيادة العامة للجيش فأرشدوه إليها، ومرةً أخرى واصل خديوي السير على قدميه من شبرا حتى وصل مقرَّ القيادة العامة بكوبري القبة بعد ساعتين!! وتقدم من الجندي الذي يقف على باب القيادة العامة، وقال له: أريد مقابلة الرئيس جمال عبدالناصر!! وبالطبع رفض الجندي السماح له بالدخول.. فأبرز له خديوي المسدس، وقال له: "أنا لقيت الطبنجة دي على الأرض في ميدان المنشية، وعايز أقابل الرئيس جمال عبدالناصر أسلمها له يدًا بيد".
وأسرع الجندي بإبلاغ أحد ضباط البوليس الحربي، واستمع الضابط مذهولاً إلى قصة خديوي، ولم تكن الساعة قد تجاوزت التاسعة والنصف مساء، عندما اقتربت سيارة يقودها أحد الضباط من مدخل مقر مجلس قيادة الثورة والجزيرة، وكان خديوي آدم يجلس إلى جوار الضابط، وما هي إلا دقائق حتى وجد خديوي آدم نفسَه في حجرة الرئيس جمال عبدالناصر، الذي كان قد انتهى لفوره من اجتماع لمجلس القيادة وتم إبلاغه بقصة خديوي آدم، وكيف عثر على المسدس؟ وكيف جاء من الإسكندرية إلى القاهرة؛ سيرًا على قدميه في رحلة استغرقت أربعة أيام؛ لكي يسلم المسدس للرئيس يدًا بيد؟!
وتأثر جمال عبدالناصر بالقصة بشدة.. وطلب إدخال خديوي آدم.. وبمجرد أن دخل خديوي حتى أسرع يعانق الرئيس جمال عبدالناصر في حرارة وهو يبكي متأثرًا، وقال له جمال عبدالناصر: يعيش أبناء الأقصر!!
وجلس خديوي يروي بلهجة أهل النوبة قصته، وكيف عثر على المسدس، وكيف جاء إلى القاهرة سيرًا على قدميه، وكيف باع قفطانه لكي يأكل.. كل ذلك وجمال عبدالناصر وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة يستمعون إليه في اهتمام، وفي النهاية أمر جمال عبدالناصر بصرف مبلغ مائة جنيه مكافأةً لخديوي آدم!! وغادر خديوي مجلس قيادة الثورة وهو سعيد.
وعلى البوابة سأله بعضهم: ماذا ستفعل بمكافأة المائة جنيه؟! قال: "حا افتح محل وأتجوز!! سألوه: ليه أصريت تدي المسدس للرئيس جمال شخصيًّا!! قال خديوي: أصله بطل.. ومن الصعيد كمان".
آراء النقاد والكتاب فى القصة
1- رأي الدكتور فؤاد زكريا يذكره في صحيفة (الوطن) في 2 مارس 1981:
"قرأت بنفسي في جريدة (الأهرام) بعد حوالي أسبوع من الحادث أن أحد العمال قد وصل من الإسكندرية إلي القاهرة ومعه المسدس الذي ارتُكِبت به الجريمة. وكان قد التقطه أثناء وجوده على مقربة من المتَّهَم في ميدان المنشية؛ ولكي تغطي الصحيفة تلك الفترة الطويلة التي استغرقها وصول المسدس إلى المسئولين ذكرت أن هذا العامل لم يكن يملك أجْر القطار وحضر من الإسكندرية إلى القاهرة سيرًا على الأقدام، وهو يحمل المسدس المستخدم في الحادث فاستغرق ذلك منه أسبوعًا (...)، ويخيَّل إليَّ أن هذه الواقعة وحدها- بما فيها من استغفال لعقول الناس- تكفى وحدها لتشكك في العملية بأكملها".
2- رأي الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم:
"حكاية النوبي الذي حمل المسدس سيرًا على الأقدام من الإسكندرية إلى القاهرة حكايةٌ ساذجةٌ، ننقدها من النقاط التالية:
1- كيف اتُّهم محمود عبد اللطيف قبل العثور على المسدس؟! مع ملاحظة أن المسدس الذي قيل إنه وُجد معه لم يُستعمل ذاكَ المساء.
2- كيف أفلَت المسدس المستعمَل من الذين قبضوا على محمود عبد اللطيف؟!
3- لماذا لم يسلِّم النوبي المسدس لنيابة الإسكندرية؟!
4- لماذا جاء هذا الرجل سيرًا على الأقدام طيلة هذا المسافة التي لا تُقطع عادةً سيرًا على الأقدام؟!
رأي الناقد الأدبي الكبير د. جابر قميحة
"بعد سماع صوت الرصاص انطلقت الجماهير إلى الخارج بعيدًا عن المنصة، وعثور العامل خديوي آدم على المسدس يستحيل تحقيقه إلا إذا كان أقرب إلى المنصة من المتهم، وهذا ما لم يحدث، فقد ذكرت الأهرام الصادرة يوم 27/10 أن المتهم احتل مقعده في الحفل قبل بدئه بعدة ساعات".
"في مثل هذه الأحداث يسيطر الرعب على الجماهير، ويكون هم كل شخص أن ينجوَ بنفسه من الموت، في هذا التزاحم الرهيب لا يكون لقدمه أو حتى يده من الحساسية ما يجعله يتوقف وينحني لالتقاط جسم صلب أو غير صلب وإلا سحقته أقدام الجماهير اللائذة بالفرار".
"ومن مظاهر السقوط التصويري أن تُظهر الصحيفة هذا العامل الصعيدي الفقير البسيط الذي لا يملك مليمًا واحدًا بمظهر خبير السلاح الذي يدرك أن المسدس هو الذي أطلق في الحادث".
"وتقع الصحيفة في التناقض، فنرى هذا العامل الأحمق غبيًّا؛ إذ يقطع المسافة من الإسكندرية إلى القاهرة سيرًا على قدميه؛ لأنه لا يملك مليمًا واحدًا، وأمام هذا السقوط وذلك التناقض علينا أن نذكر ما يأتي:
أ- كانت أجرة السفر من الإسكندرية إلى القاهرة- في ذلك الوقت- بالسيارة أو القطار لا تزيد عن نصف جنيه "أي خمسين قرشًا".
ب- كان للعامل ابن عم يقيم بالإسكندرية إقامةً دائمةً وله عمل يدرُّ عليه مرتبًا ثابتًا يتعيش منه، أمَا كان العامل يستطيع أن يقترض منه جنيهًا أو جنيهين لتكاليف هذه السفرة التي كان وراءها ما وراءها؟!
ج- ثم أما كان هذا العامل- حتى لو حشَى رأسه كلها غباءً- يدرك أن تكاليف الطعام والشراب في الطريق- ودعك من الصحة والعافية- تمثل أضعاف أضعاف ثمن تذكرة السفر من الإسكندرية إلى القاهرة؟!
لم يقدم لنا صورة هذا العامل بعد أن باع قفطانه وبعد هذه المسيرة الشاقة على قدميه خمسة أيام:
- فهو لم يكن ينام في فندق ولا في منزل، بل على الأرصفة أو في الحدائق والحقول في البلاد والقرى التي كان يمر بها.
- وهو طبعًا كان يقضي حاجته بصورة غير آدمية، وتعامله مع الماء كان قطعًا تعاملاً شاذًّا غير منتظم أو مستقيم.
إن إنسانًا قطع قرابة 250 كيلو مترًا سيرًا على قدميه محرومًا من الطعام والشراب إلا القليل الجاف الرديء، محرومًا من الراحة إلا سويعات، محرومًا من آليات النظافة (صابون وماء) مثل هذا الإنسان لن يصل إلى القاهرة إلا خائر القوى، مفكك الأوصال والأعصاب، محطم العافية، في أبشع منظر وأقذر هيئة وليس على جسده إلا سروال قديم وفانلة أو صديري منتفخ الجيب بالمسدس الكبير.
هذا المخلوق "الممسوخ" يلتقي عند مدخل القاهرة من ناحية شبرا برجل بوليس، ويمشي ثلاث ساعات إلى مقر القيادة العسكرية، وفي الطريق رآه قطعًا عشرات من رجال الأمن، ومع ذلك لم يُثِر شبهةَ أحد في وقت كان البريء يؤخذ فيه إلى النار بلا تهمة.
ومع ذلك نرى صورة خديوي آدم في الأهرام كامل الصحة والعافية مشرق الابتسامة منتظم الهندام، وهو يسلم عبد الناصر المسدس مع أنه قابل عبد الناصر ساعة وصوله!!.
وختامًا.. ألا يستدعي العجب أن أحدًا من الصحفيين المهتمين بهذه القضية- وقد ملأوا صفحات الجرائد بحواراتهم ولقاءاتهم مع المتهمين وأهاليهم، وزياراتهم لمنازلهم، وصفهم للسرير الذي ينام عيه الجاني و"مشنة العيش" التي يأكل منها أولاده.. لم يهتم بأن يجري حوارًا مع هذا العامل المغامر، ويسجل معه لحظةً بلحظة أسرار الأيام العصيبة التي قضاها في رحلته الشاقة حتى وصل إلى القاهرة..!!
وألا يستدعي العجب أكثر ألا يُستدعَى هذا الشاهد العجيب ليدلي بشهادته في محكمة الشعب؛ باعتباره من أهم الشهود في القضية، والذي عثر على السلاح المستخدم في الجريمة..!!
وألا يستدعي العجب أكثر وأكثر ألا يذكر عنه شيئًا ولا يأتي له ذكر ولا تُنشر له صورة بعد ذلك مطلقًا، وكأنه أصبح نسيًا منسيًّا..!!
وألا يستدعي العجب أكثر وأكثر وأكثر أن يأتي مسئول أمني كبير في حجم اللواء فؤاد علام- رئيس المباحث العامة الأسبق- في مناظرة علنية، ولا يعلم عن خديوي آدم هذا شيئًا، ولا يدري بقصته هذه من قريب أو بعيد..!!
ألا تستحق القصة بعد ذلك كله أن تفوز بجائزة "أسوأ قصة قصيرة في القرن العشرين".
- المصدر:"خديوي آدم".. أسوأ قصة قصيرة في القرن العشرين ،إخوان أون لاين