الشبهة الثامنة عشرة - الإخوان وحادث المنشية
مقدمة
يستشهد من يزعمون أن الإخوان تؤيد العنف بحادث المنشية الذي دبره عبدالناصر ليوقع بخصومه من الإخوان ويزج بهم في غياهب السجون، وليعذب ويحكم بالمؤبد وغيره ويقتل من يقتل بغيا وعدوانا، وقد دبر وقدر، وقتل كيف قدر، ودبر هذا الكم الكبير من البغي والطغيان، ونجحت مؤامراته الخبيثة ووقع على الإخوان من الظلم والكوارث ما وقع مما يعرفه القاصي والداني، ولكن الغريب في الأمر بعد ذلك، أن هناك من يهجم بذلك على الإخوان أنفسهم ويتهمهم زورا بمحاولة قتل عبد الناصر ويصبح بذلك المجني عليه جانيا، وشاء الله أن تظهر الحقيقة بكل ملابساتها، ويشهد لذلك شهود من أهلها، ومن المحيطين بعبد الناصر أنفسهم، ومنهم رئيس جمهورية مصر الأسبق محمد نجيب. وغيره، هذا وسنذكر طرفا من حديثهم في هذا الأمر الجلل
شهود العصر على اختراع عبدالناصر لحادث المنشية
( 1)جاء في كتاب” كنت رئيساً لمصر" مذكرات لمحمد نجيب. ص 268 وص 269 ما يلى
( وبينما يلقي جمال عبدالناصر خطابا في المنشية في 26 أكتوبر، احتفالا بتوقيع اتفاقية الجلاء، أطلقت عليه عدة رصاصات، وسط 10 آلاف شخص في السرادق واتهم محمود عبداللطيف، كان محمود عبداللطيف يجلس على بعد15 مترا من المنصة مع الضيوف، وقيل أنه أطلق 9 رصاصات، لكن عبد الناصر لم يصب، وأصيب ميرغني حمزة” وزير سوداني” وأحمد بدر المحامي) .
ثم يعقب الكاتب نفسه في نفس الصفحة فيقول: -
" كانت هذه المسرحية المدبرة، محاولة لتحويل عبد الناصر إلي بطل شعبي، ومحاولة لينسئ الناس مواد اتفاقية الجلاء، ثم هي فرصة ليتخلص عبد الناصر من القوة الوحيدة الباقية وهي الإخوان، وظهر للعيان وبدون عناء أنها مسرحية، لأن محمود عبداللطيف المتهم باغتيال عبد الناصر كان معروفا عنه مهارته في إصابة الهدف بالمسدس، كما أنه من الفدائيين المحترفين الذين أرقوا الإنجليز في منطقة القناة عام 1951م، ثم إن المسافة كانت قريبة تسمح له بإصابة الهدف وهو جسد عبد الناصر العملاق، ثم إن الرصاصات كانت تسع وكان من الطبيعي أن يصاب بواحدة منها على الأقل، ؟لو إصابة سطحية، أكثر من ذلك ذهب الاتهام إلي حد القول بشريك آخر يسنده بمسدس أو قنبلة ولو أراد الإخوان أن يقتلوا عبد الناصر ويضمنوا نجاح العملية فلماذا لم يرسلوا خمسة أو عشرة لتنفيذها ؟.
واتضح فيما بعد أن الحائط المواجه لإطلاق النار لم يكن به أي أثر للرصاص مما يثبت أن المسدس كان محشوا برصاص” فشنك”
( 2) جاء في كتاب” أسرار حركة الضباط الأحرار" لحسين محمد أحمد حمودة” أحد الضباط الأحرار"
يقول الكاتب في ص 163:
" وقد وضح تماما أن عبد الناصر هادن الإخوان ليلتقط أنفاسه في أزمة مارس 54 حتى يعد خطة جديدة للفتك بجماعة الإخوان وقد كان فاتخذ من تمثيلية محاولة اغتياله في أكتوبر سنة 1954 مبررا لاعتقال عشرين ألفا من الإخوان وتم تعذيبهم تعذيبا وحشيا في السجن بأسلوب بربري وهمجي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية”. ويقول الكاتب ص 164:
" فحادث المنشية تمثيلية لا شك فيها لتبرير عمليات القمع والتعذيب والمشانق ولو كانت محاولة اغتيال عبد الناصر صحيحة فلماذا لم يقدم الإخوان لمحاكم الجنايات وفجها قضاه متخصصون وظيفتهم إقرار العدل بين الناس ؟ ولماذا الضرب بالسياط حتى تتمزق ا لأجساد ونفخ البطون وألوان التعذيب ؟ كل هذه التصرفات الإجرامية التي أقدم عليها عبد الناصر وأعوانه تؤكد أنه لم يكن هناك جريمة على الإطلاق ولا أدلة قانونية ؟ وإذا كان هناك محاولة اغتيال حقا. فهل يعقل أن يشترك في التدبير لها عشرون ألفا من البسر. وإذا كانت الحكومة قد ألقت القبض على الفاعل فور ارتكابه الجريمة فهل يعقل أن التحقيق معه قد أدي إلى اعترافه على عشرين ألفا حتى يقبض على هذا العدد في بضع ساعات بعد محاولة الاغتيال المزعومة، والمعقول أن كشوف المعتقلين كانت معدة قبل حادث الشروع في اغتيال عبد الناصر يوم 26 / 10 / 1954 م، وإن إطلاق الرصاص الفشنك عليه كان هو ساس ة الصفر لبدء الاعتقالات وهل يعقل أن تكون نتيجة محاولة اغتيال شخص لم يقتل فيها ولم يمس بسوء أن يعدم ستة أفراد ويحكم على ألف إنسان بالأشغال الشاقة المؤبدة ويعتقل 19000 آخرين لعدة سنوات من تاريخ الحادث”.
(3)ويذكر الأستاذ الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامة في جامعة القاهرة -ولم يكن من الإخوان - في (موسوعة التاريخ الإسلام والحضارة الإسلامة) الجزء 9 ص 0 42 إلي 429
في مساء 26 أكتوبر 1954 أقيم لعبد الناصر ورفاقه حفل تكريم في حي المنشية بالإسكندرية بمناسبة توقيع المعاهدة مع بريطانيا، وأقيم الحفل في سرادق ضخم ودعيت للاحتفال طوائف معينة، ثلاث هيئات بارزة مكلفة باحتلال مقاعد السرادق هي:
ا -هيئة التحرير.
2 - مديرية التحرير.
3 - الحرس الوطني.
ونظم استعمال السرادق أدق تنظيم بحيث تجلس كل جماعة من جماعات المدعوين في مكان محدد.. وبالتالي لم يكن هناك أي مقعد يمكن أن يتسلل إليه مغامر ليتعدي على عبد الناصر، فما كان الوصول إلن المقاعد أمرا ميسورا.
أليس الأيسر إطلاق الرصاص عليه وهو يركب عربة مكشوفة بشارع سعد وقد أعلن من قبل عن خط سير الموكب.
وإذا أعمل الإنسان فكره في الحقائق عن هذه الحادثة يجد أن الصحف ذكرت أن المسافة بين الجاني وموقف عبد الناصر الذي يقف على المنصة العالية - وخلف حاجز من البشر قريبة، واستعمال مسدس أداة ضعيفة في هذا الموقف الرهيب.. وهل يعقل أن تنطلق ثمان أو تسع رصاصات من مسدس يمسك به رجل مشهود له بالدقة في إصابة الهدف.. ولا تنجح واحدة من هذه الرصاصات في إصابة الهدف، أو إصابة أي شخص من الذين يحيطون بعبد الناصر أو أي إنسان على الإطلاق.. هذا مستحيل.
بعد الحادث طمأن المشرفون على الحفل الناس ودعوهم إلى الهدوء.. ولو كانت مؤامرة لانفض الحفل مخافة أن يكون هناك مزيد من الرصاص.
وتحدثت الصحف عن الإصابات البالغة.. وهي تدري أن سببها الزجاج المتطاير، والجموع التي تحركت عقب الحادث، ولم تكن هناك إصابات من المسدس على الإطلاق، وثبت أن الحائط المواجه للحادث ليس به أي أثر للرصاص.
وذكرت الصحف أنها ضبطت لدي بعض الإخوان في الإسكندرية أسلحة ومفرقعات.. ورغم ذلك استعملوا مسدسا فقط.
أيعقل أن جماعة لها خبرة في التخطيط والحرب في القناة وفلسطين لو خططوا ودبروا لا يستعملون وسائل أخري مناسبة للموقف ! !
ويقول الدكتور أحمد شلبي:” حادث المنشية نفسه مشكوك فيه وإدراج اسم محمد نجيب في هذه القضية فكرة ساذجة لوضع نهاية لهذا الرجل”.
(4) ويروي الأستاذ، فتحي رضوان ما يؤيد هذا الاتجاه كان عبد الناصر أكبر المتحمسين لإقالة محمد نجيب في أكتوبر 1954 م قال عبد الناصر في هذا الموضوع:” في فبراير كان نجيب أقوي منا، وكان في إقالته ضرر، أما ألان فقد أصبحنا أقوي منه وعلى هذا ففي تأخير إقالته نفس الضرر". (حكومة يوليو ص 92).
(5) ويذكر الأستاذ أحمد شلبى.. عندما أشيع أن محمد نجيب له صلة بالحادث وتدبيره، وتقرر تقديمه للمحاكمة، تدخل بعض زعماء السودان فقنع الثوار بعزل محمد نجيب وتحديد إقامته وإعفائه من المحاكمة.
(6)يروي صلاح الشاهد، أنه كان لمجود سيارته مساء يوم 26 وسمع جزءا من خطاب الرئيس من مذياع بالسيارة ثم سمع الطلقات، فأسرع نحو بيت الرئيس ليكون مع أولاده في هذه الأزمة، ولم يجد صلاح الشاهد بالبيت اضطرابا أو ذعرا وأخذ يداعب أولاد الرئيس الذين كانوا يلعبون، وهذا يوحي لي أن أسرة الرئيس كانت تعلم سلفا بما سيجري، وقد شاهد هذا الاطمئنان قبل أن يتصل بهم عبد الناصر من الإسكندرية.
ثم يعلق الدكتور: أحمد شلبي على هذا الحادث فيقول:
وبناء على هذه الأشياء أعتقد أن الحادث مختلق، وأسطورة مصنوعة لم يستطع مؤلفوها أن يجيدوا حبكها، فجاءت بها هذه الثغرات التي كشفت عن حقيقتها، ولكن ذلك كان بعد إراقة الدماء البريئة، وبعد تعذيب عدد هائل من أصفياء المسلمين، وإذا كان الظلام قد أحاط بهذا الحادث في حينه فنرجو أن تكون أشعة الضوء التي دوناها كافية لإبراز الحقيقة ولإنصاف المظلومين ومعاقبة الآثمين.
واختلاق هذا الحادث يقرره محمد نجيب في مقال له بمجلة الرأي الكويتية وفيه يقول: إن فكرة إطلاق الرصاص على عبد الناصر في الإسكندرية تتحدث عن مؤامرة وهمية من أولها لا أخرها، وكانت مرتبة بواسطة رجل من أجهزة المباحث العامة، وقد كوفئء هذا بمنصب كبير أسند إليه، وقد استطاع هذا الرجل استئجار شاب مصاب بجنون العظمة، وأغراه بأنه لو اعترف بأنه حاول قتل عبد الناصر فسينال مكافأة ضخمة ويسمح له بالهجرة خارج البلاد.. فلما وقع هذا الفخ واعترف، صدر الحكم بإعدامه حتى يموت ويموت معه السر.
بقيت كلمة عن حادث المنشية هي أن هذا الحادث كان ضمن مجموعة من أحداث تغلب بها عبد الناصر على ما كان يعانيه من كراهية الشعب، وكانت هذه المجموعة من الأحداث وسائل استغلت أوسع استغلال لخلق ما يمكن أن يسمي شعبية لعبد الناصر، وسنتحدث فيما بعد عن هذه الأحداث وطريقة استغلالها. لقد كان تدبير حادث المنشية عملا بشعا مملوءا بالظلم والقوة والاستبداد، وبه فصمت العلاقات بين الإخوان والثورة.
(7) واستمع إلى السيد، حسن التهامي أحد الضباط الأحرار يكتب إلى روز اليوسف عدد أول مايو 1978 م عن حادث المنشية: (وقد شد انتباهنا وقتها أن خبيرا أمريكي الجنسية في الدعاية، كان قد حضر إلى مصر، وكان من بين مقترحاته غير العادية، والتي لم ( تتمشى) مع مفهومنا وقت اقتراحها هو اختلاق محاولة إطلاق الرصاص على عبد الناصر ونجاته منها فإن هذا الحادث بمنطق العاطفة والشعور الشعبي
لابد أن يزيد من شعبية عبد الناصر، لتأهيله للحكم الجماهيري إلى القيادة الشعبية من أقرب الطرق.
ثم ها هو أيضا (حسن التهامي) يصرح لجريدة الأنباء الكويتية بتاريخ 16 / 4 / 1989م عندما سئل - ولكنك قلت إن أمريكا هي التي أوعزت لعبد الناصر بالتخلص من الإخوان والشيوعيين للانفراد بالسلطة في مصر- فتخلص من الشيوعيين في أزمة مارس ثم تخلص من الإخوان في أزمة المنشية..
قال - لقد أوفدت أمريكا بول لينبارجر - مسؤول الدعاية السوداء - في أمريكا عام 1954 ليقوم بالتخطيط الإعلامي لتصعيد نجومية عبد الناصر وقد اقترح لينبارجر افتعال محاولة للاعتداء على حياة عبد الناصر تكون سليمة التدبير، وتجذب مشاعر الشعب المصري نحوه لما يراه من مظاهر الشجاعة أثناء ثباته في هذا الموقف ! ! وكان أن وقع بعدها حادث المنشية الذي أدعي فيه عبد الناصر أن الإخوان قاموا بمحاولة اغتياله ليسهل عليه بعد ذلك تصفيتهم.
وعندما سئل - لماذا إذن الخلاف بين عبد الناصر والإخوان أو بين الإخوان والأمريكان إذا كان التنسيق بينهم جميعا كان قائما، أجاب: لأن الإخوان كانوا خطرا حقيقيا على إسرائيل وأراد عبد الناصر أن يتخلص منهم لينفرد بالسلطة في مصر وأرادت أمريكا أن تتخلص منهم لتوقف خطرهم على إسرائيل.
وبعد..
فإننا نحسب أن هذا الكلام قد بلغ من الوضوح مبلغا، ولا يحتاج منا إلى تعليق
وبعد هذه التصريحات المتكررة لحسن التهامي وغيره نذكر له مواجهة بينه وبين سامي شرف نشرتها مجلة أكتوبر تحت عنوان” حادث المنشية كما وضعه خبير أمريكي” السيد الأستاذ رجب البنا رئيس إدارة مجلس إدارة مجلة أكتوبر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
فإني أري أن رواية أحداث التاريخ ينبغي أن يتوافر فيها شرطان على الأقل، وهما المعرفة وصدق الرواية، فإذا فقدا في أي نص لم يكن تسجيلا تاريخيا، إنما تكون قصة لمن يرويها. والموضوع الذي نحن بصدده هو جزء من أحداث التاريخ الماضي لازال الرأي العام يأمل في معرفة حقائقه. لقد نشرت مجلة أكتوبر في العدد رقم 6 4 5 1 بتاريخ 0 1 نوفمبر 996 1 م على لسان سامي شرف حديثا يذكر فيه أن حسن التهامي هو الذي أحضر القميص الواقي لجمال عبدالناصر من أمريكا، وكذلك تعليقا منه على حادث المنشية ويستوجب هذا النص الرد على سامي شرف في المجلة حيث نشره.
فأرجو نشر النص التالي ردا على ما قاله سامي شرف خطأ في حقي.
لقد بعثت المخابرات المركزية الأمريكية على يد مايلز كوبلاند مندوبها في مصر في ذلك الوقت، عدد اثنين صديري (صدرية) واقية ضد رصاص الأسلحة الصغيرة لشخص جمال عبد الناصر رئيس الحكومة، وذلك ضمن برنامج موسع للحفاظ على حياة جمال رئيس الحكومة.
وعندما لبس جمال عبد الناصر الصديري عندما وصله، قال إنه ثقيل الوزن، وعندما سافر إلى الإسكندرية لإلقاء خطابه في المنشية كما تعود كل عام بمناسبة تنازل الملك فاروق عن الحكم ورحيله عن الإسكندرية بعد نجاح الثورة، سافر من مصر إلى الإسكندرية تاركا الصديري في بيته في منشية البكري ولم يأخذه معه.
أما حادث إطلاق الرصاص عليه في المنشية بالطريقة المعروفة لنا جميعا، فقد كان صورة طبق الأصل مما اقترحه خبير الدعاية والإعلام الأمريكي الذي أرسلته المخابرات المركزية إلى مصر لتطوير برامج الإعلام، وبالذات لوضع برنامج إعلامي يرفع من شعبية رئيس الحكومة جمال عبدالناصر في مواجهة شعبية الرئيس محمد نجيب، وذلك كخطوة لارتقاء جمال عبدالناصر منصب رئيس الجمهورية والتمهيد له، وقال أمام مجموعة محترمة من أعلى رجال الحكم في مصر وقتئذ، أن الشعب المصري شعب مؤمن وعاطفي، وأن تدبر حادث أو موقف تطلق فيد النيران من طبنجة في اتجاه شخص عبد الناصر بشرط عدم إصابته، وينجو منه عبد الناصر شكلا، ومن ناحية المظهر ينجو من الموت، يرفع ذلك من شعبية عبد الناصر عند الشعب المصري، أكثر بكثير من جميع وسائل الإعلام، ومهما كانت البرامج. وسبق تنفيذ هذه العملية في دول أخرى تتشابه شعوبها مع شعوب مصر والشرق ونجحت نجاحا تاما. وخرجنا من بيت عبد الناصر من هذا الاجتماع وكان معي بعض زملاء آخرين رافضين لهذه الفكرة، وضعا في الحسبان أن أي خط في تصرف هذا الذي سيكلف بالضرب، قد يتحول إلي موقف صعب لا نضمنه ولا نضمن نتائجه، ولم يكن سامي شرف حاضرا هذا الاجتماع، وبعد ستة شهور بالضبط من تاريخ هذا الاجتماع في بيت عبد الناصر وأمامه، حدث حادث المنشية بالضبط كما وصفه خبير الإعلام والدعاية الأمريكي وكان ذلك بحضور مايلز كوبلاند نفسه ومعه مساعد من المخابرات الأمريكية. السيد الأستاذ / رجب البنا
أرجو نشر هذا النص على لساني كما يلزم بذلك القانون وأصول الصحافة.. علما بأنني بصدد كتابة كتاب شامل عنوانه”أضواء على السياسة في أربعين عاما" سيشمل مثل هذه المواقف ومواقف أخرى أكثر أهمية بكثير من ذلك ومما ينشره بعض الناس من آن لآخر، ويعتبره القارئ جزءا من التاريخ. ولكن الحقيقة التي عشتها وكنت مشاركا في معظمها سأنشرها إن شاء الله لأول مرة مؤيدا معظمها بالمستندات والحقائق التي ستلقي الضوء بلا تردد على حقائق ما كان في المدة السابقة.
وأتمني لكم التوفيق والسداد في الرأي والقرار وتقبلوا تقديري وتحياتي. حمد حسن محمد تهامى
المؤامرات صنعة عبد الناصر
يقول محمود أبو الفتح - السياسي والصحفي المصري -: إن عبد الناصر قد برع في المؤامرات براعة منقطعة النظير، وكان يدبر الحوادث ليصل منها إلى ما يريد، من ذلك تدبيره للمظاهرات التي تطالب بعدم رجوع الحياة النيابية أو الدستور، والمطالبة بحكم رجال الثورة، ومن ذلك أن عبد الناصر دبر بليل المظاهرات للمطالبة بذلك، وأصبح الصباح وانتشرت فرق من ضباط الحرس الوطني الذي شكله عبد الناصر في الطرقات يقودون مظاهرات متفرقة، وعقد ضباط من أنصار جمال اجتماعات رسموا فيها خطط الإخلال بالأمن، وإحداث فتنة يتمكن عن طريقها جمال من إلغاء القرارات الدستورية وفرض نظام دكتاتوري سافر، وألقي ضباط الحرس الوطني أربع قنابل انفجرت في أنحاء القاهرة، فأحدثت دويا هائلا أفزع الناس وأدخل الرعب في النفوس.
والحرس الوطني كان عبارة عن تجمع لأعداد من الشباب يرأسهم ويشرف على تكوينهم أحد أعضاء مجلس القيادة.
وخصصت الحكومة قطارات وسيارات من سيارات الجيش لنقل أعضاء الحرس الوطني من الأقاليم وجمعهم في القاهرة لتنفيذ المؤامرات.
وقد ظلت القاهرة دون حكومة، وقد سيطر الرعب وانتشر أعضاء الحرس الوطني يعتدون على الأهالي ويفجرون القنابل، ونجيب في خطر الاغتيال. وكانت تجمعات أفراد الحرس الوطني قد وصلت إلى مدينة القاهرة، وفي تلك الليالي أي مساء يوم 26 من مارس كانت فرق الحرس الوطني تتلقى التعليمات بالأعمال التي يناط بكل فرقة من هذه الفرق أن تقوم بها.
ولم ينم جمال ورجاله طوال الليل، بل كانوا يتصلون ببعض زعماء العمال ويصدرون إليهم تعليماتهم ويوزعون عليهم المال ببذخ شديد.
ونشط أعضاء هيئة التحرير.
ولم ينم الناس طوال الليل فقد بات كل إنسان يشعر أن حياته في خطر وأنه مهدد بأن يهاجمه في منزله بعض رجال الحرس الفاشتي أعوان عبد الناصر. وتفاصيل ما حدث يوم السبت 27 من مارس أن عمال الأوتوبيس والترام كانوا قد حددوا هذا اليوم للقيام بإضراب، معلنين بذلك احتجاجهم على عدم إجابة الشركة لمطالبهم، فانتهز جمال ذلك اليوم لتنفيذ مؤامرته، وفي الصباح الباكر وزع أنصار جمال منشورات تقول: إن إضراب عمال النقل قد قام احتجاجا على إعادة الدستور، وأن العمال قرروا:
ا - عدم السماح بقيام الأحزاب.
2 - استمرار مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته.
3-تأليف جمعية وطنية استشارية.
4 - عدم الدخول في المعارك الانتخابية.
وانتشرت في البلد سيارات الجيش تمنع سائقي الأجرة”التاكسيات” من العمل وتلزمهم بالإضراب.
ومن الصباح الباكر ذهبت قوات الجيش لمخازن الترام والأوتوبيس ومنعت خروج مركبات الترام وعربات النقل”الأوتوبيس” بعد أن تبين لعبد الناصر أن العمال قد عدلوا عن إضرابهم حتى لا يستغله عبد الناصر في تحقيق أطماعه السياسية.
ومرت سيارات الجيش على المحال التجارية تأمرهم بغلق حوانيتهم وتنذرهم بأن الحكومة غير مسؤولة عما سيقع للحوانيت التي تفتح أبوابها.
وهكذا أقبل الصباح على مدينة القاهرة وقد لفها صمت رهيب لا صوت فيها ولا حركة، والمحال مغلقة والحزن يخيم على المدينة، وأصبحت القاهرة بلدا هجره سكانه وفرد الموت جناحيه عليه.
وبعد فترة أخذت بعض المظاهرات تطوف أرجاء القاهرة. مظاهرات تنتقل بسيارات الجيش اسري وفي كل سيارة عدد من شباب الحرس الوطني وبعض الأهالي. ومرت إحدى السيارات أمام فندق سميراميس فهب الناس إلى النوافذ والشرفات يسمعون ما تردده هذه المظاهرات من هتافات، ولم يصدق الناس ما يسمعون فأعادوا الإنصات فإذا بها نفس الهتافات، هتافات لم يهتف بها من قبل بشر:”تسقط الحرية.. تسقط الديمقراطية.. يسقط البرلمان.. يسقط المتعلمون”.
كانت الهتافات تردد بحماية الضباط ورقابة الحرس الوطني:”يسقط المتعلمون. تسقط الحرية".
ومرت القوات الحربية على جميع محطات بيع البنزين فأغلقتها وعلى دواوين الحكومة ومنعت الموظفين الذين حضروا سيرا على الأقدام من دخولها، وخلت الشوارع إلا من سيارات الجيش التي حملت المرتزقة من أعضاء هيئة التحرير ومنظمات الشباب والحرس الوطني.
واتجهت المظاهرات إلى دار جريدة المصري وأخذت تهتف قائلة:”تسقط المصري”. ثم هتفت:”يسقط أحمد أبو الفتح الخائن.. وأخذت تلقي الحجارة على مبني الدار وهشمت بعض الألواح الزجاجية، ثم تصدئ لها الأهالي ففرت ثم عادت تقذف الناس بالحجارة وأخذت تهتف: بسقوط الدستور.. وسقوط المتعلمين.. وسقوط الحرية. وذهبت قوات أخرى من الجيش إلى محطة مصر وأوقفت القطارات عن السير وأمرت القطارات التي كانت قد بدأت سيرها بالوقوف وأمرت بإغلاق جميع المزلقانات كي تتعطل حركة القطارات.
وأخذت محطة الإذاعة التي يشرف عليها الصاغ صلاح سالم تردد من الصباح الباكر أنباء مختلفة وبيانات كاذبة مضللة تدعي أن النقابات أرسلت احتجاجا على قرارات 5وه 2 من مارس وتطالب فيها باستمرار مجلس الثورة في الحكم وعدم إجراء انتخابات.
وقد أرسلت هذه” النقابات برقيات إلى محطة الإذاعة وإلى جميع دور الصحف وإلي الرئيس نجيب تحتج فيها على البيانات المختلفة التي تنسبها لها محطة الإذاعة، وتؤكد نصرتها للرئيس نجيب وتمسكها بقرارات 5وه 2 من مارس، ولكن محطة الإذاعة لم تعر هذه البرقيات أي اهتما!ا، بل راحت تكرس جهودها في تشجيع ا لإضراب والترويج له، وإذاعة البيانات.الكاذبة المختلفة.
ورغم ذلك استمرت المظاهرات تجوب طوال النهار وجزءا كبيرا من الليل أرجاء القاهرة في سيارات الجيش تهتف بسقوط الحرية وسقوط الدستور وسقوط المتعلمين.. وسقوط.. وسقوط.. وفي الساعة الثانية عشرة من مساء هذا اليوم المشؤوم 28 من مارس أبلغ نجيب بأن حياته باتت يخشى عليها وأن المؤامرة قد أحكمت لاغتياله هذه الليلة، فخرج من داره مسرعا، وذهب إلى قصر الطاهرة حيث في للملك سعود، وفي ساعة متأخرة من الليل استدعي الملك سعود البكباشي جمال عبد الناصر وطلب منه تأمين حياة نجيب فأبدي جمال لطفا وتوددا لنجيب، وقال إنه لا يمكن أن يسمح بالاعتداء على حياته، وأنه لا ينسئ الأيام التي اشتركا فيها في العمل سويا، وهكذا بحديث ناعم وكلام معسولي راح جمال يسأل:”لماذا تتمسك بإعادة الدستور؟”، وقال نجيب:”إن كل البلد تتمسك بالدستور"، فقال جمال:”أبدا.. إن البلد لا تريد الدستور".
ثم واصل حديثه قائلا:”إننا نريد أن نصفي كل أسباب الخلاف معك، ولن يكون ذلك إلا بعد أن يكشف كل واحد منا ورقه للآخر ويفتح قلبه، وأنا أريد أن أعه لم من الذي يحبذ عودة الدستور، وانطلت الحيلة، فقال:”كل رجال البلد الكبار عاوزين الدستور"، فقال جمال:”مثل من ؟” فقال نجيب:”السنهوري، وهو رجل عاقل”. وفي صباح يوم 29 من مارس انتشرت المظاهرات مرة أخري تجوب القاهرة بواسطة سيارات الجيش تواصل هتافاتها المشينة، وكان السنهوري في مجلس الدولة ففوجئ بوصول ضابط شاب عليه في مكتبه يقول له:”إن مظاهرة قادمة صوب مجلس الدولة، وأري أن تخرج إلى المتظاهرين تخطب فيهم لتهدئهم”، فقال الدكتور عبدالرزاق السنهوري:”أنا أخطب في المتظاهرين، ليس من المعقول – وأنت ضابط أن تلجأ إلي أنا لأهدئ المتظاهرين – وبإمكانك باستعمال التليفون أن تستحضر قوة تفرق المظاهرات وتحمي المجلس من أي مظاهرة".
ولكن الضابط جادل السنهوري، وكانت في هذه اللحظة قد وصلت المظاهرة إلى فناء مجلس الدولة، فدفع الضابط السنهوري دفعا وطلب منه أن يخطب في المتظاهرين وحاول السنهوري الإفلات من يد الضابط، فما كان منه إلا أن أخرج مسدسه وأطلق طلقتين في الهواء.
ويبدو أن هذه كانت الإشارة التي اتفق عليها لبدء الهجوم ولتحديد شخصية السنهوري للمتظاهرين الذين كانوا جميعا من الدهماء الذين لا يعرفونه من قبل، إذ هجم المتظاهرون فجأة على الرجل وانهالوا عليه ضربا، وتطاير دم السنهوري وعلق بحائط المبني تسجيلا للجرم الفظيع، ورغم تألم الرجل وتوجعه لم يرحمه المتظاهرون بل بروه ! نزلوا به إلى فناء المجلس.
وبعد هذا الاعتداء الوحشي على أكبر حصن للعدالة في مصر وعلى أكبر شخصية قضائية، وأعلم علماء القانون توجه الصاغ صلاح سالم إلى المجلس، وادعي أنه ذهب ليحمي السنهوري وقال: لولا حضوره لأجهز المتظاهرون عليه، والمفهوم أنه ذهب ليمتع نظره، ويشفي حقده بما أصاب الرجل الذي تجرأ على تحريض محمد نجيب على المطالبة بالدستور.
مؤامرة تفجير القاهرة
ثم يقول أحمد أبو الفتح - وهو من الشاهدين على عصر عبد الناصر وأحد أصدقائه -: وقام عبد الناصر بعد هذه المظاهرات بإلقاء القنابل في القاهرة، وأوحي إلى بعض كتاب صحفه أن يردوا على المطالبين بالحريات بأن البلد بهذا ليست آمنة، فما معني المطالبة بالحريات ؟ وضحكت عند قراءة هذا الرد للسيد المكافح لأنه كان قد شاع وعرف أن جمال عبد الناصر هو الذي دبر أمر تفجير القنابل واعترف لزملائه بذلك، وأنه طلب تفجيرها جميعا في وقت واحد كي يسيطر الرعب على الناس ويطالبون ببقاء حكم حركة الجيش.
وكانت جريدة المصري خلال شهر مارس تنشر تحذيرات للشعب في صفحاتها المختلفة مثل ذلك الذي نشرته يوم 27 مارس، إذ قالت :
من المصري إلى الشعب المصري: إحذر أيها الشعب العظيم ما قد يدبر لك في هذه الأيام من مؤامرة لدفعك إلى القيام بأعمال شغب”.
مؤامرة حرق جريدة المصري
بقي أن أضيف أن الدكتور صليب بطرس - مدير المصري - الذي كان أحد العمد الرئيسة التي ارتكز عليها المصري في نجاحه ووصوله إلى أن يصبح أوسع جرائد مصر انتشارا فوجئ ذات يوم بأحد عمال ورشة الجمع بالجريدة يدخل عليه مكتبه ويخرج من جيبه ورقة بمائة جنيه ثم ينفرط في البكاء.
يقول العامل أن بعض الضباط قابلوه بعد انصرافه من عمله وأركبوه سيارة جيش ثم راودوه أن يحرق مبني المصري وأعطوه هذه الورقة ذات المائة جنيه كمكافأة ابتدائية وأنه خاف أن يرفض فيعتقلوه.
طلب من الدكتور صليب أن يأخذ المائة جنيه وأن يسمح له بإجازة ليختفي عن الأعين، وأخذ منه الورقة وكتب عليها التاريخ ووضعها في خزينه الجريدة، ثم أخرج منها مائة جنيه أخرى وأعطاها للعامل مكافأة له ومنحه إجازة مفتوحة.
وهذه الواقعة حدثت خلال شهر مارس سنة 1954 م.
ثم يقول أحمد أبو الفتح: إن عبد الناصر كان يملك كل مقومات المتآمر، فهو كتوم بصورة نادرة حقود، استطاع أن يتخلص من زملائه: من رشاد مهنا، ومن محمد نجيب ومن زملائه حتى أخلص الناس إليه عبد الحكيم عامر الذي مات مسموما، واستطاع أن يمكر بقادة مصر وأصحاب النفوذ فيها بعد قتل الحريات وإنشاء محاكم القهر - من أمثال محكمة الغدر والجنايات، ومحكمة الثورة، ومحكمة الشعب، والمحاكم العسكرية - كما أنه كان من صفاته انعدام العواطف، وقساوة القلب، وانتهاز الفرص، وما ترك عبد الناصر شيئا إلا وتآمر عليه، حتى جيش مصر الذي كان يهلكه ويشغله في حروب دائمة لا ناقة له فيها ولا جمل، في الكنغو، وفي اليمن، وفي سيناء بغير استعداد، وتآمر على الأغنياء فشردهم وأفقرهم، وبدد أموالهم... إلخ.
هذا هو عبد الناصر الذي تآمر ودبر حادث المنشية ليتخلص من أشرف وأنبل من في مصر وهم الإخوان المسلمون.
- المصدر:الشبهة الثامنة عشرة - الإخوان وحادث المنشية ،الشبكة الدعوية