إبعاد القضية عن هويتها وأصالتها
فضيلة المرشد العام الأستاذ / مصطفي مشهور
مقدمة
الإعلام اليومي بكافة وسائله وعلى كافة ساحاته – لا يكاد يخلو من أخبار المجازر الإجرامية التي نصبها السفاح الصهيوني شارون للأشقاء الفلسطينيين في الضفة وغزة.
سقوط عشرات الشهداء، وعشرات الجرحى والمعوقين: المزيد من التدمير اليومي للمنازل، التجريف المتواصل للأراضي، الضغوط الحياتية الرهيبة التي يسببها الحصار المحكم بحلقاته المختلفة حول المدن والقرى، وحول القطاع والضفة بكاملها، ولقد أصبح حتى أطفال المسلمين في فلسطين يقتلون وجثثهم تسبح في بركة من الدماء.
الإعلام اليومي، أيضًا لا يكاد يخلو من الأخبار الرسمية التي تجسد الواقع العربي المؤلم، فمازلنا نحلم بتفعيل دور للأمم المتحدة، ومازلنا نأمل في تمرير مشروع قرار في مجلس الأمن، ومازلنا نطمع في حياد أمريكي، ومازلنا نترقب تحولاً أوربيًا عن موقف الممالأة والتأييد للكيان الصهيوني، إلى موقف الدعم والتعاطف مع العرب، ومازلنا ننتظر في لهفة دورًا لموسكو على ساحتنا أو تفعيلاً لدورها كراعٍ مشارك لواشنطن فيما يسمى بعملية السلام، إضافة إلى مناشدة المجتمع الدولي التحرك لتوفير الأمن للأشقاء الفلسطينيين المحاصرين في الضفة وغزة والذين يتعرضون لأقسى أنواع البطش وسفك الدماء والتجويع والترهيب تحت سمع وبصر، المجتمع الدولي، والرأي العام العالمي، والمنظمات الدولية، وبتأييد أمريكي، وبرضًا أوربي، وبقبول روسي.
مسلسل الحقائق والوقائع منذ 1897 على وجه الخصوص وحتى اليوم يضع أمامنا صورتين واضحتي الملامح والأبعاد، بينهما تمام التناقض، أحدهما للكيان الصهيوني الغاصب، والثانية للعرب الرسميين، المغتصبة ديارهم، المسلوبة حقوقهم المنتهكة حرمات شعوبهم، المصادرة حريات وحق الحياة لأمتهم.
منذ 1897 واليهود المستعمرون الغاصبون يعتمدون العمل والفعل، ويسخرون كل ما يملكون وما يملك غيرهم من إمكانات، وفى إطار خطة واضحة المعالم والأبعاد للوصول إلى أهدافهم..
دولة بعد خمسين عامًا، ووطن قومي بعد مائة عام.
على مدى ما يزيد على المائة عام على بداية الخطة اليهودية لغزو وطننا العربي والإسلامي من أجل إقامة دولة على أرضنا ووسط ديارنا ثم وطن قومي على أطلالنا وأشلائنا يمتد فوق أهم وأخطر رقعة منبينها:صار من السهل رصد مجموعة من الحقائق من بينها:
• الالتزام من قبل كافة القيادات الصهيونية بالعمل في إطار الخطة الموضوعة وفى المشاركة في القرار والعمل.
• أن يصاحب العمل القول، مع التقاء اليهود كأفراد مع اليهود كقيادات على الخطة، واستخدام كل السبل والوسائل لتحقيق الغاية.
• وجود عقيدة تفعّل وتحرك، وتدفع وتثير رغم ما اعتراها من تغيير وتبديل وتحريف وتزييف.
• تسخير وسائل الإعلام، والثقافة والتعليم لزرع الفكر والمعتقد، وترسيخ الغاية والهدف، وحشد كل نوازع البغض والحقد والكراهية لأصحاب الأرض الأصليين، ونزع كافة أسباب وعوامل التعاطف معهم، وفى نفس الوقت مضاعفة على المستوى الخارجي لكسب الدعم والتأييد للسياسات والأدوار.
• اعتماد القوة العسكرية والتفوق في السلاح والذراع الطويلة المسلحة، كوسيلة رئيسة للمد والامتداد والترهيب والترويع ودفع العرب لليأس والإحباط، ثم الاستسلام والرضوخ.
على مدى أكثر من مائة عام، وبعد أن حقق اليهود الغاصبين الدولة، وامتدوا اقتصادًا وعلاقات وتطبيقًا واتفاقات ووجودًا إلى أطراف الوطن القومي، لم نلحظ تراجعًا عن الأهداف، ولا اختلافًا بين القيادات الصهيونية حول الغايات، ولا هوة ولا فجوة بين الأفراد والزعامات حول السبل والغايات، ولا تهميشًا من الزعامات، للأفراد، ولا قعودًا أو كللاً في المؤسسات والتنظيمات على مستوى الكيان الغاصب أو خارجه، والأمثلة من خلال الواقع عديدة وعلى سبيل المثال:
في 1989 أعلن شارون عن مشروعه للتعامل مع أراضي 1967 أي الضفة وغزة اللتين تم احتلالهما في مأساة 1967 سجل فيه كل ما يقوم بتنفيذه منذ تولي رئاسة الوزارة في الكيان الصهيوني الغاصب في فبراير 2001 وما نهض به إبان اشتراكه في الوزارات السابقة لقد أكد في مشروعه على:
• التخلص من قيادات الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في الضفة وغزة 1987 بالإبعاد الجماعي أو غير الإبعاد، مع مصادرة المؤسسات الفلسطينية في القدس والضفة وغزة لتجفيف التمويل، ومصادرة مصادر العيش.
• استخدام كل الوسائل والضغوط لحل جميع المنظمات المسلحة في كافة الدول العربية وتجميدها.
• تعزيز وتوسيع الانتشار الاستيطاني في القدس والضفة وغزة، مع فصل القدس، وتوسيع محيطها.
• زرع المستوطنات الصغيرة والكبيرة في الضفة وغزة وإقامة نقاط المراقبة والقواعد العسكرية فيها، لتأكيد الفصل بين التجمعات البشرية الفلسطينية.
• منع إقامة دولة فلسطينية والطريق الأنجع لتحقيق وتأكيد ذلك هو منع وجود أى اتصال أو امتداد فلسطيني جغرافي في الضفة وغزة مما يوجب عزل التجمعات البشرية في جنين ونابلس وبيت لحم، ورام الله، وقطع الاتصال فيما بينها.
• إطلاق حرية العمل والتصرف للجيش والموساد والتنظيمات الأمنية.
• اتفاقية للحكم الذاتي في إطار السكان وشئونهم، ولا علاقة له بالأرض.
شارون في 1973 هو شارون في 1989 وهو شارون نفسه في 2001، شارون الذي أعلن في 5/1989 "أن الضفة وغزة ليست بلادًا غريبة علينا، بل هي بلادنا، ولم تكن هناك دولة فلسطينية فيهما أبدًا، ولسنا محتلين، بل نحن في مناطق إسرائيلية" هو الذي يقول في 2001: إن أراضي وادي عربة غرب نهر الأردن أرض إسرائيلية وستبقى أرضًا إسرائيلية، ولا مفاوضات بشأنها، إنها تمثل القطاع الأمني الشرقي الحيوي لإسرائيل" وهو الذي يعلن في تبجح .
إن ما يجري اليوم ونحن في 2001 هو استمرار لحرب 1947" وهو امتداد لقول بن غوريون ما أن نصبح أقوياء، وما أن نقيم دولتنا حتى نلغي قرار التقسيم، ونمد سلطتنا على كل أرض إسرائيل، إن الحرب لم تنته بعد، إنها باقية مائة عام أخرى".
وهو الذي أعلن في أعقاب إعلان لجنة التحقيق التي يرأسها ميتشيل من أيام قليلة عن تقريرها وقالت فيه إن بناء المستعمرات هو الذي فجر الأوضاع في الضفة وغزة "إنه سيواصل تشجيع بناء المستعمرات، وإنه رصد مليار ونصف مليار شيكل لبناء مستوطنات جديدة وسيواصل تقديم التسهيلات لنشر المستعمرات في الضفة وغزة، بل وأوصى باقتطاع أجزاء من ميزانيات الوزارات في الكيان الصهيوني لدعم بناء المستعمرات.
وأن ما قاله وما فعله شارون بالأمس وما يقوله ويفعله اليوم، هو أيضًا ما قاله ويقوله وما فعله ويفعله شامير، وجولدا مائير وبيجين من قبل وبيريز، وعزرا وايزمان، وكافة قيادات العصابة الصهيونية.
يقول شامير: "ذهبت إلى مؤتمر مدريد، وفى نيتي التفاوض مع العرب لعشرين سنة أو أكثر"، أي أن التفاوض هو من أجل التفاوض وتضييع الوقت واللف والدوران بالعرب في متاهات التفاوض.
وهو الذي كتب: "نحن في حاجة لعشرة ملايين يهودي لملء المناطق الفارغة في الضفة، لقد قامت دولة إسرائيل ليس من أجل الساكنين فيها فقط ولكن من أجل كل اليهود، لقد بنينا مجتمعًا ديمقراطيًا وحيدًا في المنطقة وأن كفاحنا من أجل خلاص إسرائيل مازال مستمرًا، والأعداء كثيرون ونواصل الكفاح من أجل خلاص أرض إسرائيل ومن أجل استكمال تجميع شعب إسرائيل... القدس عاصمة أبدية موحدة مطوية في روح اليهود، إن الصهيونية لم ينته دورها بعد، فما زال ثمة كثير من التحديات، ومن ثم فإن الحاجة ماسة لعشرة ملايين يهودي لملء الفراغ في نابلس والخليل والنقب وغور الأردن.
وضع عربي مهلهل
الصورة التي يعكسها الواقع العربي، هي أكثر من مهلهلة، ممزقة، وإن كان التمزق قد ازداد وتضاعف بعد الخمسينيات، ومع وصول نظم الحكم التي اعتمدت النظريات والأفكار المستوردة، وأكدت على تهميش الشعوب مع حصارها وقهرها، وتنحية الدين عن الدنيا، وطمس الهوية والأصالة تحت شعار العصرنة والتحديث، ومن ثم كانت أكبر جريمة ارتكبت في حق هذه الأمة قد تمثلت في الحيلولة بينها وبين عيشها في ظلال شريعة ربها ومنهجه الرباني الذي كفل لها العزة والإباء، والتقدم والنهوض وتبوؤها موقع القيادة الريادة، وزودها بأكبر طاقة للعمل والإنجاز والعطاء، ورفض الضيم، وردع العدوان والسرعة في الحركة والاستجابة للملهوف والمظلوم أو المهضوم حقه أو المصادرة دياره وأرضه، فدفعها لتيسير الجيوش استجابة لصرخة مسلمة في أقصى الدولة نادت المعتصم فلبى نداءها أو استجابة لصرخة القدس حين نادت صلاح الدين فجيش لها جيوش الجهاد فحررتها وطهرتها من دنس المستعمر الغاصب.
لقد سجلنا بالأمس في مواثيقنا أن تحرير الأرض من النهر إلى البحر هو واجب كل عربي ومسلم، وأن التحرير لا سبيل ولا سلاح له إلا البندقية والمدفع والصاروخ ثم عدنا بعد نزع القضية من إطارها العربي والإسلامي فاعتمدنا التفاوض والحلول السياسية سبيلاً، لتحرير أو إقامة دويلة في الضفة وغزة وأعلنا في تخاذل أن السلام خيار استراتيجي، وأن الحوار سبيل حضاري وأن الغاصبين هم أبناء عمومة، ونحن الحريصون على حقن الدماء، وحشد الإمكانات للتنمية، ورضينا ببدعة المسارات، وبدعة الراعي الأمريكي أو الوصي الأمريكي، واعتمدنا الطريق إلى واشنطن طريقا للحج، حتى صرنا نحصد الحنظل على كل صعيد، بعد أن فقدنا استقلال القرار والإرادة، وبعد أن حدنا عن الطريق الوحيد والمضمون لتحرير كامل الأرض وبعد أن همشنا وحاصرنا الشعوب، حين فصلنا بين الدنيا والدين، وبين القضية والعقيدة الربانية الصحيحة التي لم يعتريها تبديل أو تحريف.
لقد حلت الفرقة والخلاف، وتلاشت القيم والمثل، وصارت أسلحتنا مستوردة مصوبة للداخل، وانتشر الجهل، وتأكد التأخر وهاجرت العقول المتميزة خارج الديار بعد أن ساد فيها حكم الزعيم الأوحد.
لقد دقت الطبول لكامب ديفيد، وقرعت لأوسلو، وانبرت أصوات تربت على النفاق تعلن أن المنادين بالجهاد سبيلاً لتحرير الأرض والديار، إنما يرفعون الشعارات الجوفاء، ولا يبالون بحقن الدماء، بل ينتشون حين تسيل وتسفك الدماء، ولا يعرفون الوجه الحضاري للتفاوض والحوار، ولا يهتمون بأن نفوز ونحظى بتقدير العالم وقواه، بانحيازنا إلى الحوار الحضاري ونبذنا للجهاد.
وتواصلت حملات الهجوم على المنادين بإعادة القضية إلى عروبتها وإلى إسلاميتها حتى استيقظ أهل التفاوض على الحقيقة المرة في كامب ديفيد، وصاروا يعيشون الحقيقة الأشد مرارة وقسوة والحصار الإجرامي مضروب ومتواصل حول الضفة وغزة.
وقصف العزل الأبرياء متواصل لا يتوقف وقرارات قمتين عربيتين بدعم الانتفاضة ودعم القدس، مجمدة دون تنفيذ، فلا يحظى المحاصرون الأبرياء إلا ببيانات الاستنكار والشجب، أو مناشدة المنظمات الدولية التدخل، حتى ارتفع صوت رئيس المجلس الوطني في مؤتمر طهران لنصرة الانتفاضة: لقد كانت أوسلو مهزلة"
طريق الانتصار والتحرير
إن الطريق واضح والانتصار عبره مضمون، والوصول إلى تحرير الأرض كاملة من خلاله مضمون، إلا أن له متطلبات يأتي في مقدمتها، أن نؤكد عروبة وإسلامية القضية بالقول والعمل ونعتمد الجهاد سبيلا للخلاص والتحرير، والعزة والكرامة.
إن العودة بالقضية إلى إسلاميتها يعني تأكيد الوحدة الفلسطينية، وتأكيد اجتماع صفها وكلمتها على المشاركة في القرار، والمشاركة في العمل وأن يكون القرار والعمل نابعين من مفهومهما الإسلامي، الأمر الذي يستدعي تواصل الانتفاضة ونبذ التفاوض والنفس الطويل في التحمل وقطع الطريق على كافة المحاولات الرامية لتشتيت الصف أو بث الفرقة بين أهل الانتفاضة.
كما أن العودة بالقضية يفرض بالطبع على كافة الحكومات العربية والإسلامية أن تعيد النظر في السياسات، والاتجاهات، على الصعيد الداخلي والخارجي وإزالة الجفوة والجفاء بينها وبين الشعوب، كي تتحقق الوحدة في كل قطر على الأصول الصحيحة، ويصبح الطريق ممهدًا للوحدة على المستوى العربي والإسلامي وأسلمة السياسات والتوجهات وسبل ووسائل العيش والحياة، وبرامج التعليم والثقافة والإعلام في تأكيد على تمتع الشعوب بحقوقها، للتأكيد على توثيق العلاقات والصلات بينها وبين حكوماتها وهو ما يدفع الجميع لحشد كافة الإمكانات والطاقات لمواجهة حاسمة لابد آتية مع عدو غاصب متبجح، فلا يكون إلا النصر أو الشهادة، وصدق الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ).