رسالة الإمام البنا إلى المؤتمر الإسلامي الأول
بقلم: الإمام حسن البنا
مقدمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد..
فإن أربعمائة مليون من المسلمين في أنحاء المسكونة يرمقون نتيجة المؤتمر بقلوب تخفق بالأمل والإشفاق، وتنتظر منكم المواقف المشرِّفة التي ترفع رأس الإسلام والمسلمين، ومن ورائهم أصحاب المطامع يتربَّصون بالمؤتمر الدوائر، ويحيكون له الدسائس، ولن يتربَّصوا به إلا إحدى الحسنيين، وسيردُّ الله أهل الكيد بغيظهم لم ينالوا خيرًا.
أيها السادة.. أعضاء المؤتمر..
يجب أن تقدِّروا هذا تمام التقدير، ويجب أن تثبتوا للأمانة التي أخذتموها على عاتقكم، وهي النظر في خير المسلمين بحكمة وإخلاص، ويجب أن تتصل قلوبكم بقلوب المؤمنين التي تحوطكم، وبأرواحهم التي ترفرف على مؤتمركم، وبآمالهم التي تحوم حولكم، والله من وراء الجميع محيط، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.
أيها السادة.. أعضاء المؤتمر..
إن الإخلاص أساس النجاح، وإن الله بيده الأمر كله، وإن أسلافكم الكرام لم ينتصروا إلا بقوة إيمانهم، وطهارة أرواحهم، وزكاء نفوسهم، وإخلاص قلوبهم، وعملهم عن عقيدة واقتناع؛ جعلوا كل شيء وقفًا عليهما حتى اختلطت نفوسهم بعقيدتهم، وعقيدتهم بنفوسهم، فكانوا هم الفكرة، وكانت الفكرة إياهم، فإن كنتم كذلك ففكِّروا والله يلهمكم الرشد والسداد، واعملوا والله يؤيدكم بالمقدرة والنجاح، وإن كان فيكم مريضُ القلب معلولُ الغاية مستورُ المطامع مجروحُ الماضي فأخرجوه من بينكم؛ فإنه حاجزٌ للرحمة حائلٌ دون التوفيق، وقد أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن وجود قوم معروفين بسيماهم بين المؤمنين مثبِّطٌ لهممهم؛ فقال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ (التوبة: 47-48).
فابدءوا عملكم أيها السادة الكرام بتصحيح الإخلاص وتحقيق النية في العمل يكن صرحُ عملكم مشيدًا وأثرُه خالدًا إن شاء الله تعالى.
وإن جمعية الإخوان المسلمين تشارككم فيما تقرِّرون، وتقاسمُكم- على البعد- عبءَ ما تحملون، تبعث إليكم بتحيات أعضائها مشفوعةً بالإجلال لأشخاصكم، والتقدير لعملكم، والإعجاب الكبير لفكرتكم، ولولا أعذارٌ قاهرةٌ، وظروفٌ طارئةٌ لكان من أعضائها بينكم من ينادي بكلمتها، ويمثِّل هيئات إدارتها، وإن ثقتها بكفاءتكم تخفِّف عنها ألمَ التخلُّف مع القاعدين، وقد أعذرَ الله للمتخلِّفين إذا نصحوا لله ولرسوله والله غفور رحيم، وهي لذلك تُدلي بنصيحتها مجملةً في المقترحات الآتية بعد تقديرها لما تستطيعه الأمم الإسلامية من وسائل العمل:
مقترحات جمعية الإخوان المسلمين
أولاً: الدفاع عن فلسطين
أمر الدفاع عن فلسطين والمقدسات الإسلامية عامةً أمرٌ يهمُّ المسلمين جميعًا، ولسنا بصدد استعراض أدوار قضية العدوان والدفاع، فذلك شيء ألممتُم به حضراتكم كلَّ الإلمام، ولكن المهم الآن أن تفكروا في الوسيلة العملية لكفِّ المعتدين وشلِّ حركاتهم في حدود السلم والقوانين.
لقد علمنا أن الخطب والاحتجاجات لا تُجدي ولا تُسمَع، وترى الجمعية أن من واجب المؤتمِرِين أن يعالجوا:
1- مسألة شراء الأرض ب فلسطين
إن اليهود يحاربون الفكرة الإسلامية بذهبهم، وإذا تمكَّنوا من شراء أرض فلسطين صارَ لهم حقُّ الملكية؛ فقوي مركزُهم وزاد عددُهم، وبتوالي الأيام تأخذ المسألةُ شكلاً آخر، وقد نظَّم اليهود هذه الحركةَ وجعلوا لها صندوقًا خاصًّا يجمعون فيه الاكتتابات لهذه الغاية.
فحبَّذا لو وُفِّق المؤتمر إلى إيجاد نواة لصندوق مالي إسلامي، أو شركة لشراء أرض فلسطين المستغنَى عنها، وتنظيم رأس المال وطريق جمع الاكتتابات وسهوم هذه الشركة.. إلخ.
والجمعية تكتتب مبدئيًّا في هذه الفكرة بخمسة جنيهات مصرية ترسلها إذا قرر المؤتمر ذلك، على أن تتوالى بعدها الاكتتابات، ولا يُضحك حضراتكم هذا التبرُّع الضئيل؛ فالجمعية تقدِّر الفكرة، وتعلم أنها تحتاج إلى الآلاف من الجنيهات، ولكنها جَرَأت على ذلك إظهارًا لشدة الرغبة في إبراز الفكرة من حيِّز القول إلى حيِّز العمل.
2- تأليف اللجان في كل البلاد الإسلامية للدفاع عن المقدسات
كذلك تقترح الجمعية أن يعالج المؤتمر موضوع تأسيس لجان فرعية لجمعية رئيسية مركزها القدس أو مكة، وغايتها الدفاع عن المقدسات الإسلامية في كل أنحاء الأرض، وتكون هذه اللجان الفرعية كلها مرتبطةً تمامَ الارتباط بالمركز العام.
ثانيًا: لنشر الثقافة الإسلامية
المسلمون الآن فوضى في ثقافتهم، وهذه الفوضى في الثقافة تؤدي إلى فوضى فكرية، وتباين في العقائد والأفكار والمشارب والأخلاق، فإذا دام الحال فسيأتي يوم يتنكَّر فيه المسلم للمسلم من التنافر والتناكر، فلا يفهم أحدهما الآخر، واعتبر ذلك بما تراه بين أبناء المعاهد التي تربي أبناءها تربيةً دينيةً والتي تربي أبناءها تربيةً يسمونها علمانيةً في البلد الواحد.
فليفكر المؤتمرون في الوسائل التي تؤدي إلى توحيد الثقافة الإسلامية وتقريب مسافة الخلف بين أنواعها، وجعلها مؤسسةً على الفكرة الإسلامية، ونصيرةً لها شاملةً للتوفيق بين هذه الفكرة وبين الأفكار الحديثة، وترى جمعية الإخوان أن من الوسائل إلى هذه الغاية:
1-إنشاء جامعة فلسطين: على نحو كلية عليكرة بالهند تجمع بين العلوم العصرية، والعلوم الدينية، وترفرف عليها روح الإسلام وتصطبغ بصبغته، مع احتوائها على الكليات العلمانية فى العلوم والآداب والسياسة والقانون والتجارة والاقتصاد والطب والفلسفة وغير ذلك.
2-إنشاء جامعة أخرى: بمكة على هذا النحو حتى ينجح مشروع جامعة القدس إن شاء الله تعالى.
3-نداء علماء المسلمين: أن يؤلفوا لجانًا فنية لتهذيب الكتب الإسلامية القديمة، وتصنيف كتب جديدة تفى بحالة العصر الجديد مع التفكير فى مناهج التعليم بأنواعه.
4-نداء أغنياء المسلمين للاكتتاب: فى صحيفة عامة يومية إسلامية تصدر فى القاهرة، ويكون لها مثيلات فى الحواضر الإسلامية تحمل فكرة القادة الإسلامية إلى الشعوب، فإن الصحافة الشرقية تقف من الشئون الإسلامية موقفًا لا يرتاح إليه الضمير.
5-العناية بالوعظ والإرشاد: والتفكير فى أنجع الوسائل لتخريج الوعاظ.
وترى الجمعية أن من أهم الوسائل تربية الوعاظ تربية دينية عملية تكون أشبه بتربية الصوفية المحققين فى الجمع بين العلم والعمل، ويكون ذلك بالسعى لدى أولى الأمر فى الأقطار الإسلامية لافتتاح أقسام الوعظ، وتعديل مناهجه تعديلاً صالحًا.
ثالثًا: لربط الشعوب الشرقية
لا سلاح للشرق يرهب غاصبيه إلا الاتحاد والتكاتف، وقد أدركت أمم المطامع ذلك، فهى دائمًا تحول دون هذه الوحدة بمختلف الوسائل إما بتسميتها تعصبًا أو بإفهام البسطاء أنها تنافى الوطنية والقومية، وإما بمغالطة الناس بأنها فكرة عتيقة يجب التبرؤ منها، وكل ذلك غير صحيح فهذه أوروبا تنادى بالوحدة وتنشرها بين أممها، وعصبة الأمم صورة مصغرة لذلك، ولم يقل أحد فى الدنيا: إن التفكك والانقسام أفضل من الوحدة والوئام، ولكنها مطامع وأهواء تلبس الأمر غير حقيقته.
فالوحدة ضرورية لحياة الشرق ضرورة الهواء والماء والغذاء لحياة الشخص، وترى الجمعية أن من الوسائل التى تؤدى إلى ذلك:
1- تقوية رابطة التعارف بين المؤتمرين أنفسهم.
2- تأليف لجان لهذا التعارف فى كل بلد فيه أجناس مختلفة من الشرقيين كالقاهرة وبغداد وغيرهما.
3- دعوة زعماء الشعوب الشرقية إلى طرح المطامع، وتقدير الموقف الدقيق الذى يحيط بهم فى هذه الأيام.
رابعًا: للدفاع عن العقيدة الإسلامية
إن أعداء الإسلام من الملاحدة والمبشرين يجدّون فى تشويه عقائده، وإدخال الشكوك على أبنائه ويبتكرون الوسائل المختلفة لذلك، ومن ورائهم أغنياؤهم يمدونهم بالغى، وفى طغيانهم يعمهون.
ومن واجب المؤتمر التفكير فى أنجع الوسائل لدفع عدوانهم ودرء خطرهم.
وترى الجمعية أن من الوسائل الناجعة فى ذلك:
1- أن ينشر أعضاء المؤتمر فكرة تأليف اللجان التى تتولى تحذير الناس من دسائسهم، والرد عليهم بما يكفهم.
2- أن تشجع الجمعيات الإسلامية التى أرصدت نفسها لهذه الغاية.
3- أن يعنى الوعاظ بدراسة هذه الناحية ويحذروا الناس منها.
مشروعات إسلامية أخرى:
1- مشروع سكة الحديد الحجازية.
2- مشروع مكتب الاستعلامات الإسلامى.
تقترح الجمعية أن يفكر المؤتمر فى إنقاذ سكة الحديد الحجازية من اليد الأجنبية، ويعمل على بدء العمل فى تنميتها حتى ينتفع المسلمون بها فى أقرب فرصة ممكنة.
وتقترح كذلك أن يدرس المؤتمر مشروع مكتب الاستعلامات الأوروبى، ويوقف الناس على مبلغ الفائدة التى تعود على المسلمين من ورائه ثم تجمع الاكتتابات مبدئيًّا له، وتؤلف اللجان التى تقوم بأداء هذه المهمة.
وختامًا فالمؤتمر الإسلامى خطوة واسعة فى طريق الإصلاح المنشود للإسلام والمسلمين ترجو الجمعية أن يكون لها أثرها، وأن يتجدد انعقاد المؤتمر بعد مدة معلومة.
ولتثقوا أيها السادة بأن العالم الإسلامي من ورائكم يجود بالنفس والمال في سبيل إعادة مجد الإسلام، ووصول الأمم الإسلامية إلى حقوقها المنقوصة؛ مصداق قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة: 111- 112).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
- جريدة الإخوان المسلمين في 1931م (انظر: جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (719)، السنة الثالثة، 2ذو القعدة 1367ه- 5 سبتمبر 1948م، ص10-11).
وقد رد سماحة مفتي فلسطين على الإخوان برسالة قال فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم..
ضرات السادة الكرام رئيس وأعضاء جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية المحترمين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
فقد تُلِيَ بيانُكم في مكتب المؤتمر الإسلامي العام؛ فكان موضع التقدير والاعتبار، وستهتم اللجنة التنفيذية بما جاء فيه كل الاهتمام، وبهذه المناسبة فإنا نشكر لكم ما تبذلون من جهود لإعلاء كلمة الإسلام، ونأمل أن يكون منكم ومن فروع جمعيتكم الموقرة في الديار المصرية أكبر مساعد على تنفيذ مقرَّرات المؤتمر ومشروعاته الطيبة.
وفي الختام نرجو الله أن يوفقنا وإياكم لخير الإسلام والمسلمين.
رئيس المؤتمر محمد أمين الحسيني.