فلسطين.. قضية لن تموت
بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومن والاه..
'تمر قضية فلسطين' اليوم بمرحلة خطيرة في تاريخها الممتدّ والطويل، ويتصوَّر أعداءُ الأمة العربية والإسلامية أن الوقت قد حان لحسْم الصراع الشديد، وتصفية القضية، والحصول على تنازلات جديدة، تُنهي أمل ملايين اللاجئين في العودة إلى وطنهم، وبذلك يقدِّم مَن لا يملك الحقَّ في التنازل هديةً لأعداء الوطن، الذين يستبيحون كل شيء من الدماء والأعراض والأموال، بعد أن استولَوا على الأرض والمقدَّسات.
إن قضية فلسطين ليست ملكًا لشخص ولا منظمة، ولا تملك سلطةٌ- ما مهما ادَّعت- الحقَّ في التفريط في الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
إن قضية فلسطين هي قضية الأمة العربية والإسلامية كلها، وإذا فرَّط البعض لضَعفٍ في الهمة، وخَوَرٍ في العزيمة، وبسبب اليأس المُمِيت، الذي يخيِّم على النفوس المنهزمة في وقت من الأوقات، فإن الأمة سرعان ما تنتفض، والشعب الفلسطيني سرعان ما يفيق، وتنهار مشروعات التسوية والتنازلات على رؤوس أصحابها، كما انهارت من قبل كلُّ مشاريع بيع الشعب الفلسطيني لأعدائه، وتبقَى فلسطين حيَّةً في نفوس الملايين من أبناء الأمة الإسلامية، وقضيةً لن تموت؛ حتى يستردَّ الفلسطينيون حقوقَهم المشروعة، ويستعيدوا أراضيَهم المسلوبة، ويحرِّروا مقدساتِ المسلمين والمسيحيين من الأيدي المغتصبة الآثمة.
لقد اتضح لكل ذي عينَين أن مؤتمر "أنابوليس" القادم- الذي لم يتحدد بعدُ موعدُه، ولا جدولُ أعمالِه، ولا أطرافُه، ولم يتم توجيه الدعوة إليه- لن يُثمِرَ شيئًا لصالح الشعب الفلسطيني، ولن يحقِّق أملاً من آماله، وأن الطرف الفلسطيني فيه سيواجه منفردًا تحالفًا إستراتيجيًّا وثيقًا بين العدو الصهيوني والإدارة الأمريكية، التي تطابقت مواقفها تمامًا مع مواقف الصهاينة، ومن هنا ستكون الضغوط الهائلة على الفلسطينيين ليقدِّموا التنازلات المطلوبة في حق العودة وفي القدس الشريف وفي الأرض الفلسطينية، دون الحصول على أي مقابل، فلماذا الحضور إذن؟! ولمصلحة مَن تكون المشاركة؟!!
لقد كانت الدعوة إلى المؤتمر وليدةَ الرغبة الأمريكية في إعادة ترتيب المنطقة لحرب جديدة استباقية، تشنُّها أمريكا على الأطراف الإسلامية والعربية الممانِعة والمعارِضة لسياستها في فلسطين ولبنان والعراق، وهذه الحرب هي لصالح العدوِّ الصهيوني وبإصرارٍ منه ورغبة في الحفاظ على تفوُّقه الإستراتيجي وضد كل النداءات المستمرة من الحكام العرب حلفاء أمريكا وأصدقائها في المنطقة، فلماذا الانخراط في مخطط صهيو أمريكي، يُسهم في إضعافنا، ويصبُّ في صالح عدونا؟!!
إن المطلوب فلسطينيًّا وعربيًّا اليوم هو وحدة الصف الفلسطيني، ووحدة الصف العربي، والحوار الجادّ المخلص؛ من أجل رسم إستراتيجية جديدة لاستخلاص الحقوق الفلسطينية المشروعة، بعد أن فشلت مسارات التسوية، ووصلت إلى طريق مسدود، وانكشفت الأوهام، وتبدَّدت الآمال في وساطةٍ أمريكيةٍ عادلةٍ منصفةٍ.
إن العرب والمسلمين يملكون أوراقًا كثيرةً، يستطيعون الضغط بها لوقف مسلسل التنازلات أولاً، وإعادة النظر في مسيرة السنوات السابقة ثانيًا، والوصول إلى تصور عملي لدعم مقاومة الشعب الفلسطيني ووحدته الوطنية في مواجهة الصلف الصهيوني، وفي مواجهة الانحياز الأمريكي الأعمى للعدو الصهيوني.
إن الصورة واضحة الآن، فارتفعت أصوات المخلصين من كافة الاتجاهات- حتى هؤلاء الذين بدأوا مسيرة السلام- تحذِّر من الانزلاق إلى المشاركة في مؤتمر "أنابوليس"، وتنادي بعدم الذهاب، وأعلن العدو الصهيوني أن أولويةَ أمنِه، وتحصينَ مكاسبِه التي حقَّقها على حساب الشعب الفلسطيني مقدَّمةٌ على كل شيء، وأنه لا مفاوضات جادَّةً حول الحلِّ النهائي، ولا جدولَ زمنيًّا ملزمٌ لإنهاء المفاوضات، ولا تنازلات حقيقيةً سيتم تقديمها للفلسطينيين، وأعلن الأمريكيون كذلك انحيازهم إلى الشروط الصهيونية، وأنهم لن يُلزموا الأطرافَ إلا بالحضور فقط، وسيتركون الحمَل الفلسطيني فريسةً للذئب الصهيوني دون أي سند عربي أو إسلامي، ودون أي جبهة فلسطينية وطنية عريضة، وفي ظل انقسام فلسطيني تسبَّب فيه الجنرال الأمريكي دايتون الذي لا يزال يصبُّ الزيت على النار؛ ليبقى الانقسام الفلسطيني مستمرًّا، فهل ننساق إلى الفخِّ ونحن مفتوحو الأعين؟!! وهل نستسلم لأعدائنا وكأننا منوَّمون مغناطيسيًّا ليزداد الجرح اتساعًا، وينهار ما تبقى من أمل في وحدةٍ وحوارٍ فلسطينيٍّ جادٍّ لإعادة اللُّحمة الوطنية الفلسطينية؟!!
إننا نعيد النداءَ بعد النداء، إلى كلِّ المخلصين من أبناء فلسطين ، ومن الأمة العربية والإسلامية، والشعوب والحكَّام، وإلى كل مؤسسات الأمة وقواها الحية، التي ما زالت تنبض بالحياة، أن ترفعَ أصواتَها عاليةً، تحذر من المشاركة في هذا المؤتمر المشبوه، وتنادي بمقاطعته فلسطينيًّا وعربيًّا، وألا يتم إضفاء أي شرعية عليه، وأن تندِّد بأي وثيقة تقدم تنازلاتٍ في الحقوق الفلسطينية المشروعة في العودة للوطن وتحرير القدس و المسجد الأقصى ، واستعادة الأرض الفلسطينية، وأن نقف جميعًا في وجه هذه المخطَّطات الرامية للتطبيع مع العدو الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.
إننا نعاهد الله تعالى أن نظلَّ أوفياء لفلسطين، قضية العرب والمسلمين، وأن نضحي بكل غالٍ ونفيس، في سبيل استعادة حقوقنا المسلوبة فيها، وسنظل نعمل من أجل وحدة الصف الفلسطيني، عبر الحوار الجادّ المخلص، وسنظلُّ نجاهد لكي تقوم الأمة بواجبها الشرعي، حكامًا ومحكومين؛ لاستخلاص كافة الحقوق الشرعية للفلسطينيين، وسنقف سدًّا منيعًا في وجه كل محاولات التطبيع مع العدو.
وستبقَى قضيةُ فلسطين حيَّةً في نفوسنا لا تموت، وسيبقَى الحق الفلسطيني شامخًا بتضحيات أبناء فلسطين الأبرار، وستروي شجرةَ الحريةِ لفلسطين دماءُ الشهداء من شعبها المرابط المجاهد، وستنهار كلُّ المؤامرات على فلسطين كما انهارت من قبل.
عن أبي أمامة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرُّهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟! قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".
وصلَّى اللهُ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.